خطبه 51 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

51 و من كلام له ع لما غلب أصحاب معاوية أصحابه ع- على شريعة الفرات بصفين و منعوهم من الماء– :

قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ- فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَ تَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ- أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ- فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ- وَ الْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ- أَلَا وَ إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ- وَ عَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ- حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ استطعموكم القتال كلمة مجازية- و معناها طلبوا القتال منكم- كأنه جعل القتال شيئا يستطعم أي يطلب أكله- و في الحديث إذا استطعمكم الإمام فأطعموه- يعني إمام الصلاة أي إذا ارتج فاستفتحكم فافتحوا عليه- و تقول فلان يستطعمني الحديث- أي يستدعيه مني و يطلبه- . و اللممة بالتخفيف جماعة قليلة- . و عمس عليهم الخبر يجوز بالتشديد و يجوز بالتخفيف- و التشديد يعطي الكثرة و يفيدها- و معناه أبهم عليهم الخبر و جعله مظلما- ليل عماس أي مظلم- و قد عمس الليل نفسه‏ بالكسر- إذا أظلم و عمسه غيره- و عمست عليه عمسا- إذا أريته أنك لا تعرف الأمر و أنت به عارف- . و الأغراض جمع غرض و هو الهدف- . و قوله فأقروا على مذلة و تأخير محلة- أي أثبتوا على الذل و تأخر المرتبة و المنزلة- أو فافعلوا كذا و كذا- . و نحو قوله ع فالموت في حياتكم مقهورين- قول أبي نصر بن نباتة- و الحسين الذي رأى الموت في العز حياة- و العيش في الذل قتلا- . و قال التهامي-

و من فاته نيل العلا بعلومه
و أقلامه فليبغها بحسامه‏

فموت الفتى في العز مثل حياته‏
و عيشته في الذل مثل حمامه‏

و الأشعار في الإباء الأنف من احتمال الضيم- و الذل و التحريض على الحرب كثيرة- و نحن نذكر منها هاهنا طرفا- فمن ذلك قول عمرو بن براقة الهمداني-

و كيف ينام الليل من جل ماله
حسام كلون الملح أبيض صارم‏

كذبتم و بيت الله لا تأخذونها
مراغمة ما دام للسيف قائم‏

و من يطلب المال الممنع بالقنا
يعش ماجدا أو تخترمه الخوارم‏

و مثله-

و من يطلب المال الممنع بالقنا
يعش ماجدا أو يؤذ فيما يمارس‏

و قال حرب بن مسعر

عطفت عليه المهر عطفة باسل
كمي و من لا يظلم الناس يظلم‏

فأوجرته لدن الكعوب مثقفا
فخر صريعا لليدين و للفم‏

و قال الحارث بن الأرقم

و ما ضاق صدري يا سليمى بسخطكم
و لكنني في الحادثات صليب‏

تروك لدار الخسف و الضيم منكر
بصير بفعل المكرمات أريب‏

إذا سامني السلطان ذلا أبيته
و لم أعط خسفا ما أقام عسيب‏

و قال العباس بن مرداس السلمي

بأبي فوارس لا يعرى صواهلها
أن يقبلوا الخسف من ملك و إن عظما

لا و السيوف بأيدينا مجردة
لا كان منا غداة الروع منهزما

و قال وهب بن الحارث

لا تحسبني كأقوام عبثت بهم
لن يأنفوا الذل حتى تأنف الحمر

لا تعلقني قذاة لست فاعلها
و احذر شباتي فقدما ينفع الحذر

فقد علمت بأني غير مهتضم
حتى يلوح ببطن الراحة الشعر

و قال المسيب بن علس

أبلغ ضبيعة أن البلاد
فيها لذي قوة مغضب‏

و قد يقعد القوم في دارهم
إذا لم يضاموا و إن أجدبوا

و يرتحل القوم عند الهوان‏
عن دارهم بعد ما أخصبوا

و قد كان سامة في قومه
له مطعم و له مشرب‏

فساموه خسفا فلم يرضه‏
و في الأرض عن ضيمهم مهرب‏

و قال آخر

إن الهوان حمار القوم يعرفه
و الحر ينكره و الرسلة الأجد

و لا يقيم على خسف يراد به‏
إلا الأذلان عير الحي و الوتد

هذا على الخسف مشدود برمته
و ذا يشج فلا يأوي له أحد

فإن أقمتم على ضيم يراد بكم‏
فإن رحلي له وال و معتمد

و في البلاد إذا ما خفت بادرة
مكروهة عن ولاة السوء مفتقد

و قال بعض بني أسد

إني امرؤ من بني خزيمة لا
أطعم خسفا لناعب نعبا

لست بمعط ظلامة أبدا
عجما و لا أتقي بها عربا

دخل مويلك السدوسي إلى البصرة يبيع إبلا- فأخذ عامل الصدقة بعضها- فخرج إلى البادية و قال-

ناق إني أرى المقام على الضيم
عظيما في قبة الإسلام‏

قد أراني و لي من العامل النصف‏
بحد السنان أو بالحسام‏

ترى جماعتها شتاتا
و عزمت ويك على الحياة

و طولها عزما بتاتا

يا من رأى أبويه فيمن
قد رأى كانا فماتا

هل فيهما لك عبرة
أم خلت إن لك انفلاتا

و من الذي طلب التفلت
من منيته ففاتا

كل تصبحه المنية
أو تبيته بياتا

و له

أرى الدنيا لمن هي في يديه
عذابا كلما كثرت لديه‏

تهين المكرمين لها بصغر
و تكرم كل من هانت عليه‏

إذا استغنيت عن شي‏ء فدعه
و خذ ما أنت محتاج إليه‏

و له

أ لم تر ريب الدهر في كل ساعة
له عارض فيه المنية تلمع‏

أيا باني الدنيا لغيرك تبتني‏
و يا جامع الدنيا لغيرك تجمع‏

أرى المرء وثابا على كل فرصة
و للمرء يوما لا محالة مصرع‏

ينازل ما لا يملك الملك غيره‏
متى تنقضي حاجات من ليس يشبع‏

و أي امرئ في غاية ليس نفسه
إلى غاية أخرى سواها تطلع‏

و له

سل الأيام عن أمم تقضت
ستخبرك المعالم و الرسوم‏

و إلا حساما يبهر العين لمحه
كصاعقة في عارض قد تبسما

أباة الضيم و أخبارهم

سيد أهل الإباء- الذي علم الناس الحمية- و الموت تحت ظلال السيوف اختيارا له على الدنية- أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب ع- عرض عليه الأمان و أصحابه فأنف من الذل- و خاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان إن لم يقتله- فاختار الموت على ذلك- . و سمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوي البصري- يقول كان أبيات أبي تمام في محمد بن حميد الطائي- ما قيلت إلا في الحسين ع-

و قد كان فوت الموت سهلا فرده
إليه الحفاظ المر و الخلق الوعر

و نفس تعاف الضيم حتى كأنه‏
هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر

فأثبت في مستنقع الموت رجله
و قال لها من تحت أخمصك الحشر

تردى ثياب الموت حمرا فما أتى‏
لها الليل إلا و هي من سندس خضر

لما فر أصحاب مصعب عنه- و تخلف في نفر يسير من أصحابه كسر جفن سيفه و أنشد-

فإن الألى بالطف من آل هاشم
تأسوا فسنوا للكرام التأسيا

 فعلم أصحابه أنه قد استقتل- . و من كلام الحسين ع يوم الطف المنقول عنه نقله عنه زين العابدين علي ابنه ع ألا و إن الدعي بن الدعي قد خيرنا بين اثنتين- السلةأو الذلة و هيهات منا الذلة- يأبى الله ذلك لنا و رسوله و المؤمنون- و حجور طابت و حجز طهرت- و أنوف حمية و نفوس أبية و هذا نحو قول أبيه ع و قد ذكرناه فيما تقدم- إن امرأ أمكن عدوا من نفسه- يعرق لحمه و يفري جلده- و يهشم عظمه لعظيم عجزه- ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره- فكن أنت ذاك إن شئت- فأما أنا فدون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية- تطير منه فراش الهام- و تطيح السواعد و الأقدام – . و قال العباس بن مرداس السلمي-

مقال امرئ يهدي إليك نصيحة
إذا معشر جادوا بعرضك فابخل‏

و إن بوءوك منزلا غير طائل‏
غليظا فلا تنزل به و تحول‏

و لا تطعمن ما يعلفونك إنهم
أتوك على قرباهم بالمثمل‏

أراك إذا قد صرت للقوم ناضحا
يقال له بالغرب أدبر و أقبل‏

فخذها فليست للعزيز بخطة
و فيها مقام لامرئ متذلل‏

و له أيضا

فحارب فإن مولاك حارد نصره
ففي السيف مولى نصره لا يحارد

و قال مالك بن حريم الهمداني-

و كنت إذا قوم غزوني غزوتهم
فهل أنا في ذا يا ل همدان ظالم‏

متى تجمع القلب الذكي و صارما
و أنفا حميا تجتنبك المظالم‏

و قال رشيد بن رميض العنزي

باتوا نياما و ابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم‏

خدلج الساقين خفاق القدم‏
قد لفها الليل بسواق حطم‏

ليس براعي إبل و لا غنم
و لا بجزار على ظهر و ضم‏
من يلقني يود كما أودت إرم‏

و قال آخر

و لست بمبتاع الحياة بسبة
و لا مرتق من خشية الموت سلما

و لما رأيت الود ليس بنافعي‏
عمدت إلى الأمر الذي كان أحزما

و من أباة الضيم يزيد بن المهلب- كان يزيد بن عبد الملك يشنؤه قبل خلافته- لأسباب ليس هذا موضع ذكرها- فلما أفضت إليه الخلافة- خلعه يزيد بن المهلب- و نزع يده من طاعته- و علم أنه إن ظفر به قتله و ناله من الهوان ما القتل دونه- فدخل البصرة و ملكها عنوة- و حبس عدي بن أرطاة عامل يزيد بن عبد الملك عليها- فسرح إليه يزيد بن عبد الملك جيشا كثيفا- و يشتمل على ثمانين ألفا من أهل الشام و الجزيرة- و بعث مع الجيش أخاه مسلمة بن عبد الملك- و كان أعرف الناس بقيادة الجيوش و تدبيرها- و أيمن الناس نقيبه في الحرب- و ضم إليه ابن أخيه- العباس بن الوليد بن عبد الملك- فسار يزيد بن المهلب من البصرة فقدم واسط- فأقام بها أياما ثم سار عنها فنزل العقر- و اشتملت جريدة جيشه على مائة و عشرين ألفا- و قدم مسلمة بجيوش الشام- فلما تراءى العسكران و شبت الحرب- أمر مسلمة قائدا من قواده أن يحرق الجسور- التي كان عقدها يزيد بن المهلب فأحرقها- فلما رأى أهل العراق الدخان قد علا انهزموا- فقيل ليزيد بن المهلب قد انهزم الناس- قال و مم انهزموا هل كان قتال ينهزم الناس من مثله- فقيل له إن مسلمة أحرق الجسور فلم يثبتوا- فقال قبحهم الله بق دخن عليه فطار- ثم وقف و معه أصحابه- فقال اضربوا وجوه المنهزمين- ففعلوا ذلك حتى كثروا عليه- و استقبله منهم أمثال الجبال- فقال دعوهم قبحهم الله- غنم عدا في نواحيها الذئب- و كان يزيد لا يحدث نفسه بالفرار- و قد كان أتاه يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي بواسط- فقال له

فعش ملكا أو مت كريما فإن تمت
و سيفك مشهور بكفك تعذر

فقال ما شعرت فقال-

إن بني مروان قد باد ملكهم
فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر

 فقال أما هذا فعسى فلما رأى يزيد انهزام أصحابه- نزل عن فرسه و كسر جفن سيفه و استقتل فأتاه آت- فقال إن أخاك حبيبا قد قتل- فزاده ذلك بصيرة في توطينه نفسه على القتل- و قال لا خير في العيش بعد حبيب- و الله لقد كنت أبغض الحياة بعد الهزيمة- و قد ازددت لها بغضا امضوا قدما- فعلم أصحابه أنه مستميت فتسلل عنه من يكره القتال- و بقي معه جماعة خشية فهو يتقدم كلما مر بخيل كشفها- و هو يقصد مسلمة بن عبد الملك لا يريد غيره فلما دنا منه- أدنى مسلمة فرسه ليركب- و حالت خيول أهل الشام بينهما- و عطفت على يزيد بن المهلب- فجالدهم بالسيف مصلتا- حتى قتل و حمل رأسه إلى مسلمة- و قتل معه أخوه محمد بن المهلب- و كان أخوهما المفضل بن المهلب- يقاتل أهل الشام في جهة أخرى- و لا يعلم بقتل أخويه يزيد و محمد- فأتاه أخوه عبد الملك بن المهلب- و قال له ما تصنع و قد قتل يزيد و محمد- و قبلهما قتل حبيب و قد انهزم الناس- . و قد روي أنه لم يأته بالخبر على وجهه- و خاف أن يخبره بذلك فيستقتل و يقتل- فقال له إن الأمير قد انحدر إلى واسط فاقتص أثره- فانحدر المفضل حينئذ- فلما علم بقتل إخوته- حلف ألا يكلم أخاه عبد الملك أبدا- و كانت عين المفضل قد أصيبت من قبل في حرب الخوارج- فقال فضحني عبد الملك فضحه الله- ما عذري إذا رآني الناس- فقالوا شيخ أعور مهزوم ألا صدقني فقتلت ثم قال-

و لا خير في طعن الصناديد بالقنا
و لا في لقاء الناس بعد يزيد

فلما اجتمع من بقي من آل المهلب بالبصرة بعد الكسرة- أخرجوا عدي بن أرطاة أمير البصرة من الحبس- فقتلوه و حملوا عيالهم في السفن البحرية- و لججوا في البحر- فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك بعثا- عليه قائد من قواده فأدركهم في قندابيل- فحاربهم‏ و حاربوه- و تقدم بنو المهلب بأسيافهم- فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم- و هم المفضل بن المهلب و زياد بن المهلب و مروان بن المهلب و عبد الملك بن المهلب و معاوية بن يزيد بن المهلب و المنهال بن أبي عيينة بن المهلب- و عمرو و المغيرة ابنا قبيصة بن المهلب- و حملت رءوسهم إلى مسلمة بن عبد الملك- و في أذن كل واحد منهم رقعة فيها اسمه- و استؤسر الباقون في الوقعة- فحملوا إلى يزيد بن عبد الملك بالشام- و هم أحد عشر رجلا- فلما دخلوا عليه قام كثير بن أبي جمعة فأنشد-

حليم إذا ما نال عاقب مجملا
أشد العقاب أو عفا لم يثرب‏

فعفوا أمير المؤمنين و حسبة
فما تأته من صالح لك يكتب‏

أساءوا فإن تصفح فإنك قادر
و أفضل حلم حسبة حلم مغضب‏

فقال يزيد أطت بك الرحم يا أبا صخر- لو لا أنهم قدحوا في الملك لعفوت عنهم- ثم أمر بقتلهم فقتلوا- و بقي منهم صبي صغير- فقال اقتلوني فلست بصغير- فقال يزيد بن عبد الملك انظروا هل أنبت- فقال أنا أعلم بنفسي- قد احتلمت و وطئت النساء فاقتلوني- فلا خير في العيش بعد أهلي فأمر به فقتل- . قال أبو عبيدة معمر بن المثنى- و أسماء الأسارى الذين قتلوا صبرا و هم أحد عشر مهلبيا- المعارك و عبد الله و المغيرة و المفضل و المنجاب- بنو يزيد بن المهلب- و دريد و الحجاج و غسان و شبيب و الفضل- بنو المفضل بن المهلب لصلبه- و الفضل بن قبيصة بن المهلب- قال و لم يبق بعد هذه الوقعة الثانية لأهل المهلب باقية- إلا أبو عيينة بن المهلب و عمر بن يزيد بن المهلب- و عثمان بن المفضل بن المهلب- فإنهم لحقوا برتبيل ثم أومنوا بعد ذلك- .و قال الرضي الموسوي رحمه الله تعالى-

ألا لله بادرة الطلاب
و عزم لا يروع بالعتاب‏

و كل مشمر البردين يهوي‏
هوى المصلتات إلى الرقاب‏

أعاتبه على بعد التنائي
فيعذلني على قرب الإياب‏

رأيت العجز يخضع لليالي‏
و يرضى عن نوائبها الغضاب‏

و آمل أن تطاوعني الليالي
و ينشب في المنى ظفري و نابي

و لو لا صولة الأقدار دوني‏
هجمت على العلا من كل باب‏

و قال أيضا

لا يبذ الهموم إلا غلام
يركب الهول و الحسام رديف‏

ما يذل الزمان بالفقر حرا
كيفما كان فالشريف شريف‏

و قال أيضا رحمه الله تعالى-

و لست أضل في طرق المعالي
و نار العز عالية الشعاع‏

و دون المجد رأي مستطيل‏
و باع غير مجبوب الذراع‏

و يعجبني البعاد كان قلبي
يحدث عن عدي بن الرقاع‏

فرد نهي العلاء بلا رقيب‏
و شمر في الأمور بلا نزاع‏

و لا تغررك قعقعة الأعادي
فذاك الصخر خر من اليفاع‏

و نحن أحق بالدنيا و لكن‏
تخيرت القطوف على الوساع‏

و قال حارثة بن بدر الغداني-

أهان و أقصى ثم ينتصحونني
و من ذا الذي يعطي نصيحته قسرا

رأيت أكف المصلتين عليكم‏
ملاء و كفى من عطائكم صفرا

متى تسألوني ما علي و تمنعوا
الذي لي لا أستطيع في ذلكم صبرا

و قال بعض الخوارج-

تعيرني بالحرب عرسي و ما درت
بأني لها في كل ما أمرت ضد

لحا الله قوما يقعدون و عندهم‏
سيوف و لم يعصب بأيديهم قد

و قال الأعشى-

أ بالموت خشتني عباد و إنما
رأيت منايا القوم يسعى دليلها

و ما موتة إن متها غير عاجز
بعار إذا ما غالت النفس غولها

و قال آخر-

فلا أسمعن فيكم بأمر هضيمة
و ضيم و لا تسمع به هامتي بعدي‏

فإن السنان يركب المرء حده‏
من الضيم أو يعدو على الأسد الورد

و مثله

إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته
على طرف الهجران إن كان يعقل‏

و يركب حد السيف من أن تضيمه‏
إذا لم يكن عن شفرة السيف معدل‏

و قال آخر-

كرهوا الموت فاستبيح حماهم
و أقاموا فعل اللئيم الذليل‏

أ من الموت تهربون فإن‏
الموت الذليل غير جميل‏

و قال بشامة بن الغدير-

و إن التي سامكم قومكم
هم جعلوها عليكم عدولا

أ خزي الحياة و كره الممات‏
فكلا أراه طعاما وبيلا

فإن لم يكن غير إحداهما
فسيروا إلى الموت سيرا جميلا

و لا تقعدوا و بكم منة
كفى بالحوادث للمرء غولا

قال يزيد بن المهلب في حرب جرجان لأخيه أبي عيينة- ما أحسن منظر رأيت في هذه الحرب- قال سيف بن أبي سبرة و بيضته- و كان عبد الله بن أبي سبرة حمل على غلام تركي- قد أفرج الناس له و صدوا عنه لبأسه و شجاعته- فتضاربا ضربتين- فقتله ابن أبي سبرة بعد أن ضربه التركي في رأسه- فنشب سيفه في بيضة ابن أبي سبرة- فعاد إلى الصف و سيفه مصبوغ بدم التركي- و سيف التركي ناشب في بيضته كجزء منها يلمع- فقال الناس هذا كوكب الذنب و عجبوا من منظره- . و قال هدبة بن خشرم

و إني إذ ما الموت لم يك دونه
قدى الشبر أحمى الأنف أن أتأخرا

و لكنني أعطي الحفيظة حقها
فأعرف معروفا و أنكر منكرا

و قال آخر

إني أنا المرء لا يغضي على ترة
و لا يقر على ضيم إذا غشما

ألقى المنية خوفا أن يقال فتى
أمسى و قد ثبت الصفان منهزما

و قال آخر-

قوض خيامك و التمس بلدا
تنأى عن الغاشيك بالظلم‏

أو شد شدة بيهس فعسى‏
أن يتقوك بصفحة السلم‏

استنصر سبيع بن الخطيم التيمي من بني تيم- اللات بن ثعلبة زيد الفوارس الضبي فنصره- فقال

نبهت زيدا فلم أفزع إلى وكل
رث السلاح و لا في الحي مغمور

سالت عليه شعاب الحي حين دعا
أنصاره بوجوه كالدنانير

و قال أبو طالب بن عبد المطلب-

كذبتم و بيت الله نخلي محمدا
و لما نطاعن دونه و نناضل‏

و ننصره حتى نصرع حوله‏
و نذهل عن أبنائنا و الحلائل‏

لما برز علي و حمزة و عبيدة ع يوم بدر- إلى عتبة و شيبة و الوليد- قتل علي ع الوليد- و قتل حمزة شيبة على اختلاف في رواية ذلك- هل كان شيبة قرنه أم عتبة- و تجالد عبيدة و عتبة بسيفيهما- فجرح عبيدة عتبة في رأسه- و قطع عتبة ساق عبيدة- فكر علي و حمزة ع على صاحبهما- فاستنقذاه من عتبة- و خبطاه بسيفيهما حتى قتلاه و احتملا صاحبهما- فوضعاه بين يدي رسول الله ص في العريش- و هو يجود بنفسه و إن مخ ساقه ليسيل- فقال يا رسول الله لو كان أبو طالب حيا لعلم- أني أولى منه بقوله-

كذبتم و بيت الله نخلي محمدا
و لما نطاعن دونه و نناضل‏

و ننصره حتى نصرع حوله‏
و نذهل عن أبنائنا و الحلائل‏

فبكى رسول الله صو قال اللهم أنجز لي ما وعدتني- اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض لما قدم جيش الحرة إلى المدينة- و على الجيش مسلم بن عقبة المري أباح المدينة ثلاثا- و استعرض أهلها بالسيف جزرا- كما يجزر القصاب الغنم- حتى ساخت الأقدام في الدم- و قتل أبناء المهاجرين و الأنصار و ذرية أهل بدر- و أخذ البيعة ليزيد بن معاوية- على كل من استبقاه من الصحابة و التابعين- على أنه عبد قن لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية- هكذا كانت صورة المبايعة يوم الحرة- إلا علي بن الحسين بن علي ع- فإنه أعظمه و أجلسه معه على سريره- و أخذ بيعته على أنه أخو أمير المؤمنين- يزيد بن معاوية و ابن عمه- دفعا له عما بايع عليه غيره- و كان ذلك بوصاة من يزيد بن معاوية له- فهرب علي بن عبد الله بن العباس رحمه الله تعالى- إلى أخواله من كندة- فحموه من مسلم بن عقبة- و قالوا لا يبايع ابن أختنا- إلا على ما بايع عليه ابن عمه علي بن الحسين- فأبى مسلم بن عقبة ذلك- و قال إني لم أفعل ما فعلت إلا بوصاة أمير المؤمنين- و لو لا ذلك لقتلته- فإن أهل هذا البيت أجدر بالقتل- أو لأخذت بيعته على ما أخذت عليه بيعة غيره- و سفر السفراء بينه و بينهم- حتى وقع الاتفاق على أن يبايع و يقول- أنا أبايع لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية- و ألتزم طاعته و لا يقول غير ذلك- فقال علي بن عبد الله بن العباس-

أبي العباس رأس بني قصي
و أخوالي الملوك بنو وليعه‏

هم منعوا ذماري يوم جاءت‏
كتائب مسرف و بنو اللكيعه‏

أراد بي التي لا عز فيها
فحالت دونه أيد منيعه‏

مسرف كناية عن مسلم- و أم علي بن عبد الله بن العباس زرعة بنت مشرح- بن معديكرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاوية بن كندة- . قال الحسين بن الحمام-

و لست بمبتاع الحياة بسبة
و لا مرتق من خشية الموت سلما

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل أن أتقدما

فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
و لكن على أقدامنا تقطر الدما

نفلق هاما من رجال أعزة
علينا و هم كانوا أعق و أظلما

أبى لابن سلمى أنه غير خالد
ملاقي المنايا أي صرف تيمما

ابن سلمى يعني نفسه و سلمى أمه- . و قال الطرماح بن حكيم-

و ما منعت دار و لا عز أهلها
من الناس إلا بالقنا و القنابل

و قال آخر-

و إن التي حدثتها في أنوفنا
و أعناقنا من الإباء كما هيا

و قال آخر-

فإن تكن الأيام فينا تبدلت
ببؤسي و نعمى و الحوادث تفعل‏

فما لينت منا قناة صليبة
و لا ذللتنا للتي ليس تجمل‏

و لكن رحلناها نفوسا كريمة
تحمل ما لا يستطاع فتحمل‏

و قال آخر-

إذا جانب أعياك فاعمد لجانب
فإنك لاق في البلاد معولا

و قال أبو النشناش-

إذا المرء لم يسرح سواما و لم يرح
سواما و لم تعطف عليه أقاربه‏

فللموت خير للفتى من قعوده‏
عديما و من مولى تدب عقاربه‏

و لم أر مثل الهم ضاجعه الفتى
و لا كسواد الليل أخفق طالبه‏

فعش معدما أو مت كريما فإنني‏
أرى الموت لا ينجو من الموت هاربه‏

– . وفد يحيى بن عروة بن الزبير على عبد الملك- فجلس يوما على بابه ينتظر إذنه- فجرى ذكر عبد الله بن الزبير- فنال منه حاجب عبد الملك- فلطم يحيى وجهه حتى أدمى أنفه- فدخل على عبد الملك و دمه يجري من أنفه- فقال من ضربك قال يحيى بن عروة- قال أدخله و كان عبد الملك متكئا فجلس فلما دخل- قال ما حملك على ما صنعت بحاجبي- قال يا أمير المؤمنين- إن عمي عبد الله كان أحسن جوارا لعمتك منك لنا- و الله إن كان ليوصي أهل ناحيته ألا يسمعوها قذعا- و لا يذكروكم عندها إلا بخير- و إن كان ليقول لها من سب أهلك فقد سب أهله- فأنا و الله المعم المخول- تفرقت العرب بين عمي و خالي- فكنت كما قال الأول-

يداه أصابت هذه حتف هذه
فلم تجد الأخرى عليها مقدما

 فرجع عبد الملك إلى متكئه- و لم يزل يعرف منه الزيادة في إكرام يحيى بعدها- .
و أم يحيى هذه- ابنة الحكم بن أبي العاص عمة عبد الملك بن مروان- . و قال سعيد بن عمر الحرشي أمير خراسان-

فلست لعامر إن لم تروني
أمام الخيل أطعن بالعوالي‏

و أضرب هامة الجبار منهم‏
بماضي الغرب حودث بالصقال‏

فما أنا في الحروب بمستكين
و لا أخشى مصاولة الرجال‏

أبى لي والدي من كل ذم‏
و خالي حين يذكر خير خال‏

– . قال عبد الله بن الزبير لما خطب حين أتاه نعي مصعب- أما بعد فإنه أتانا من العراق خبر أفرحنا و أحزننا- أتانا خبر قتل المصعب- فأما الذي أحزننا فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه- ثم يرعوي بعدها ذو اللب إلى حسن الصبر و كرم العزاء- . و أما الذي أفرحنا فإن ذلك كان له شهادة- و كان لنا و له خيرة- إنا و الله ما نموت حبجا كما يموت آل أبي العاص- ما نموت إلا قتلا قعصا بالرماح- و موتا تحت ظلال السيوف- فإن يهلك المصعب فإن في آل الزبير لخلفا- . و خطب مرة أخرى فذكره فقال- لوددت و الله أن الأرض قاءتني عنده- حين لفظ غصته و قضى نحبه- شعر-

خذيه فجريه ضباع و أبشري
بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره‏

و قال الشداخ بن يعمر الكناني-

قاتلوا القوم يا خزاع و لا
يدخلكم من قتالهم فشل‏

القوم أمثالكم لهم شعر
في الرأس لا ينشرون إن قتلوا

و قال يحيى بن منصور الحنفي-

و لما نأت عنا العشيرة كلها
أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر

فما أسلمتنا عند يوم كريهة
و لا نحن أغضينا الجفون على وتر

– . قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد- و يحك أ قتلتم ذرية رسول الله ص- فقال عضضت بالجندل- إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا- ثارت علينا عصابة- أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية- تحطم الفرسان يمينا و شمالا- و تلقي أنفسها على الموت- لا تقبل الأمان و لا ترغب في المال- و لا يحول حائل بينها و بين الورود على حياض المنية- أو الاستيلاء على الملك- فلو كففنا عنها رويدا- لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها- فما كنا فاعلين لا أم لك- . السخاء من باب الشجاعة و الشجاعة من باب السخاء- لأن الشجاعة إنفاق العمر و بذله فكانت سخاء- و السخاء إقدام على إتلاف ما هو عديل المهجة- فكان شجاعة- أبو تمام في تفضيل الشجاعة على السخاء-

كم بين قوم إنما نفقاتهم
مال و قوم ينفقون نفوسا

قيل لشيخنا أبي عبد الله البصري رحمه الله تعالى- أ تجد في النصوص ما يدل على تفضيل علي ع- بمعنى كثرة الثواب لا بمعنى كثرة مناقبه- فإن ذاك أمر مفروغ منه فذكر حديث الطائر المشوي- و أن المحبة من الله تعالى إرادة الثواب- فقيل له قد سبقك الشيخ أبو علي رحمه الله تعالى إلى هذا- فهل تجد غير ذلك- قال نعم قول الله تعالى- إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا- كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ- فإذا كان أصل المحبة لمن ثبت- كثبوت البنيان المرصوص- فكل من زاد ثباته زادت المحبة له- و معلوم أن عليا ع ما فر في زحف قط- و فر غيره في غير موطن- . و قال أبو تمام-

السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد و اللعب‏

بيض الصفائح لا سود الصحائف في‏
متونهن جلاء الشك و الريب‏

و العلم في شهب الأرماح لامعة
بين الخميسين لا في السبعة الشهب‏

و قال أبو الطيب المتنبي

حتى رجعت و أقلامي قوائل لي
المجد للسيف ليس المجد للقلم‏

اكتب بنا أبدا بعد الكتاب به
فإنما نحن للأسياف كالخدم‏

أسمعتني و دوائي ما أشرت به‏
فإن غفلت فدائي قلة الفهم‏

من اقتضى بسوى الهندي حاجته
أجاب كل سؤال عن هل بلم‏

قال عطاف بن محمد الألوسي-

أ مكابد الزفرات مؤصدة
تلتذ خوف القطع بالشلل‏

صرف همومك تنتدب همما
فالسكر يعقب نشوة الثمل‏

و لليلة الميلاد مفرحة
تنسي الحوامل أشهر الحبل‏

سر في البلاد تخوضها لججا
فالدر ليس يصاب في الوشل‏

و اجعل لصبوتك الظبا سكنا
و الدور أكوارا على الإبل‏

و العيش و الوطن الممهد في‏
غرب الحسام و غارب الجمل

و اشدد عليك و خذ إليك و دع
ضعة الخمول و فترة الكسل

و ارم العداة بكل صائبة
ما الرمي موقوفا على ثعل‏

لا تحسب النكبات منقصة
قد يستجاد السيف بالفلل‏

و قال عروة بن الورد-

لحا الله صعلوكا إذا جن ليله
مصافي المشاش آلفا كل مجزر

يعد الغنى من نفسه كل ليلة
أصاب قراها من صديق ميسر

ينام عشاء ثم يصبح ناعسا
يحت الحصى من جنبه المتعفر

يعين نساء الحي ما يستعنه
و يمسي طليحا كالبعير المحسر

و لكن صعلوكا صفيحة وجهه‏
كضوء شهاب القابس المتنور

مطلا على أعدائه يزجرونه
بساحتهم زجر المنيح المشهر

و إن قعدوا لا يأمنون اقترابه‏
تشوف أهل الغائب المتنظر

فذلك إن يلق المنية يلقها
حميدا و إن يستغن يوما فأجدر

 و قال آخر-

و لست بمولى سوءة أدعي لها
فإن لسوآت الأمور مواليا

و سيان عندي أن أموت و أن أرى‏
كبعض رجال يوطنون المخازيا

و لن يجد الناس الصديق و لا العدا
أديمي إذا عدوا أديمي واهيا

و إن نجاري بابن غنم مخالف‏
نجار لئام فابغني من ورائيا

و لست بهياب لمن لا يهابني
و لست أرى للمرء ما لا يرى ليا

إذا المرء لم يحببك إلا تكرها
عراض العلوق لم يكن ذاك باقيا

نهار بن توسعة في يزيد بن المهلب-

و ما كنا نؤمل من أمير
كما كنا نؤمل من يزيد

فأخطأ ظننا فيه و قدما
زهدنا في معاشرة الزهيد

إذا لم يعطنا نصفا أمير
مشينا نحوه مشي الأسود

كان هدبة اليشكري- و هو ابن عم شوذب الخارجي اليشكري شجاعا مقداما- و كان ابن عمه بسطام الملقب شوذبا- الخارج في خلافة عمر بن عبد العزيز و يزيد بن عبد الملك- فأرسل إليه يزيد بن عبد الملك جيشا كثيفا فحاربه- فانكشفت الخوارج و ثبت هدبة و أبى الفرار- فقاتل حتى قتل- فقال أيوب بن خولي يرثيه-

فيا هدب للهيجا و يا هدب للندى
و يا هدب للخصم الألد يحاربه‏

و يا هدب كم من ملحم قد أجبته‏
و قد أسلمته للرماح كتائبه‏

تزودت من دنياك درعا و مغفرا
و عضبا حساما لم تخنك مضاربه‏

و أجرد محبوك السراة كأنه‏
إذا انفض وافى الريش حجن مخالبه‏

 كانت وصايا إبراهيم الإمام و كتبه- ترد إلى أبي مسلم بخراسان- إن استطعت ألا تدع بخراسان أحدا- يتكلم بالعربية إلا و قتلته فافعل- و أيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه‏

فاقتله و عليك بمضر- فإنهم العدو القريب الدار فأبد خضراءهم- و لا تدع على الأرض منهم ديارا- . قال المتنبي-

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم‏

و له-

و من عرف الأيام معرفتي بها
و بالناس روى رمحه غير راحم‏

فليس بمرحوم إذا ظفروا به‏
و لا في الردى الجاري عليهم بآثم‏

و قال المتنبي أيضا-

ردي حياض الردى يا نفس و اطرحي
حياض خوف الردى للشاء و النعم‏

إن لم أذرك على الأرماح سائلة
فلا دعيت ابن أم المجد و الكرم‏

و من أباة الضيم- قتيبة بن مسلم الباهلي أمير خراسان و ما وراء النهر- لم يصنع أحد صنيعه في فتح بلاد الترك- و كان الوليد بن عبد الملك- أراد أن ينزع أخاه سليمان بن عبد الملك من العهد بعده- و يجعله في ابنه عبد العزيز بن الوليد- فأجابه إلى ذلك قتيبة بن مسلم و جماعة من الأمراء- فلما مات الوليد قبل إتمام ذلك- و قام سليمان بالأمر بعده- و كان‏ قتيبة أشد الناس في أمر سليمان و خلعه عن العهد- علم أنه سيعزله عن خراسان و يوليها يزيد بن المهلب- لود كان بينه و بين سليمان- فكتب قتيبة إليه كتابا يهنئه بالخلافة- و يذكر بلاءه و طاعته لعبد الملك و للوليد بعده- و أنه على مثل ذلك إن لم يعزله عن خراسان- و كتب إليه كتابا آخر يذكره فيه بفتوحه و آثاره- و نكايته في الترك- و عظم قدره عند ملوكهم- و هيبة العجم و العرب له و عظم صيته فيهم- و يذم آل المهلب و يحلف له بالله- لئن استعمل يزيد بن المهلب خراسان ليخلعنه- و ليملأنها عليه خيلا و رجلا- و كتب كتابا ثالثا فيه خلع سليمان- و بعث بالكتب الثلاثة مع رجل من قومه من باهلة يثق به- و قال له ادفع الكتاب الأول إليه- فإن كان يزيد بن المهلب حاضرا عنده- فقرأ الكتاب ثم دفعه إلى يزيد فادفع إليه هذا الثاني- فإن قرأه و ألقاه إليه أيضا فادفع إليه الثالث- و إن قرأ الكتاب الأول و لم يدفعه إلى يزيد- فاحتبس الكتابين الآخرين معك- .

فقدم الرسول على سليمان- و دخل عليه و عنده يزيد بن المهلب- فدفع إليه الكتاب الأول- فقرأ و ألقاه إلى يزيد- فدفع إليه الكتاب الثاني- فقرأه و ألقاه إلى يزيد أيضا فدفع إليه الكتاب الثالث- فقرأه و تغير لونه و طواه و أمسكه بيده- و أمر بإنزال الرسول و إكرامه- ثم أحضره ليلا و دفع إليه جائزته- و أعطاه عهد قتيبة على خراسان- و كان ذلك مكيدة من سليمان يسكنه ليطمئن ثم يعزله- و بعث مع رسوله رسولا- فلما كان بحلوان بلغه خلع قتيبة سليمان بن عبد الملك- فرجع رسول سليمان إليه- فلما اختلفت العرب على قتيبة حين أبدى صفحته لسليمان- و خلع ربقة الطاعة- بايعوا وكيع بن أبي سود التميمي على أمارة خراسان- و كانت أمراء القبائل قد تنكرت لقتيبة لإذلاله إياهم- و استهانته بهم و استطالته عليهم و كرهوا إمارته- فكانت بيعة وكيع في أول الأمر را- ثم ظهر لقتيبة أمره فأرسل إليه يدعوه- فوجده قد طلا رجله بمغرة و علق في عنقه خرزا- و عنده رجلان يرقيان رجله- فقال للرسول قد ترى ما برجلي- فرجع و أخبر قتيبة فأعاده إليه- فقال قل له ليأتيني محمولا قال لا أستطيع- فقال قتيبة لصاحب شرطته انطلق إلى وكيع فأتني به- فإن أبى فاضرب عنقه و ائتني برأسه و وجه معه خيلا- فقال وكيع لصاحب الشرطة- البث قليلا تلحق الكتائب- و قام فلبس سلاحه- و نادى في الناس فأتوه فخرج فتلقاه رجل- فقال ممن أنت فقال من بني أسد- فقال ما اسمك فقال ضرغام- فقال ابن من قال ابن ليث فتيمن به و أعطاه رايته- و أتاه الناس إرسالا من كل وجه فتقدم بهم و هو يقول-

قرم إذا حمل مكروهة
شد الشراسيف لها و الحزيم‏

 و اجتمع إلى قتيبة أهله و ثقاته- و أكثر العرب ألسنتهم له و قلوبهم عليه- فأمر قتيبة رجلا فنادى أين بنو عامر- و قد كان قتيبة جفاهم في أيام سلطانه- فقال له مجفر بن جزء الكلابي نادهم حيث وضعتهم- فقال قتيبة أنشدكم الله و الرحم- و ذاك لأن باهلة و عامرا من قيس عيلان- فقال مجفر أنت قطعتها- قال فلكم العتبى- فقال مجفر لا أقالنا الله إذا- فقال قتيبة

يا نفس صبرا على ما كان من ألم
إذ لم أجد لفضول العيش أقرانا

ثم دعا ببرذون له مدرب ليركبه- فجعل يمنعه الركوب حتى أعيا- فلما رأى ذلك‏ عاد إلى سريره فجلس- و قال دعوه فإن هذا أمر يراد- و جاء حيان النبطي و هو يومئذ أمير الموالي- و عدتهم سبعة آلاف و كان واجدا على قتيبة- فقال له عبد الله بن مسلم أخو قتيبة احمل يا حيان- فقال لم يأن بعد فقال له ناولني قوسك- فقال حيان ليس هذا بيوم قوس- ثم قال حيان لابنه إذ رأيتني قد حولت قلنسوتي- و مضيت نحو عسكر وكيع فمل بمن معك من العجم إلي- فلما حول حيان قلنسوته و مضى نحو عسكر وكيع- مالت الموالي معه بأسرها- فبعث قتيبة أخاه صالح بن مسلم إلى الناس- فرماه رجل من بني ضبة فأصاب رأسه- فحمل إلى قتيبة و رأسه مائل فوضعه على مصلاه- و جلس عند رأسه ساعة و تهايج الناس- و أقبل عبد الرحمن بن مسلم أخو قتيبة نحوهم- فرماه الغوغاء و أهل السوق فقتلوه- و أشير على قتيبة بالانصراف- فقال الموت أهون من الفرار- و أحرق وكيع موضعا كانت فيه إبل قتيبة و دوابه- و زحف بمن معه حتى دنا منه- فقاتل دونه رجل من أهله قتالا شديدا- فقال له قتيبة أنج بنفسك- فإن مثلك يضن به عن القتل- قال بئسما جزيتك به أيها الأمير إذا- و قد أطعمتني الجردق و ألبستني النمرق- و تقدم الناس حتى بلغوا فسطاط قتيبة- فأشار عليه نصحاؤه بالهرب- فقال إذا لست لمسلم بن عمرو- ثم خرج إليهم بسيفه يجالدهم- فجرح جراحات كثيرة- حتى ارتث و سقط فأكبوا عليه فاحتزوا رأسه- و قتل معه من إخوته عبد الرحمن و عبد الله و صالح- و الحصين و عبد الكريم و مسلم- و قتل معه جماعة من أهله- و عدة من قتل معه من أهله و إخوته أحد عشر رجلا- و صعد وكيع بن أبي سود المنبر و أنشد-

من ينك العير ينك نياكا

إن قتيبة أراد قتلي و أنا قتال الأقران ثم أنشد-

قد جربوني ثم جربوني
من غلوتين و من المئين‏

حتى إذا شبت و شيبوني‏
خلوا عناني ثم سيبوني‏

حذار مني و تنكبوني
فإنني رام لمن يرميني‏

 ثم قال أنا أبو مطرف يكررها مرارا ثم قال-

أنا ابن خندف تنميني قبائلها
للصالحات و عمي قيس عيلانا

ثم أخذ بلحيته- و قال إني لأقتلن ثم لأقتلن و لأصلبن ثم لأصلبن- إن مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى أسعاركم- و الله لئن لم يصر القفيز بأربعة دراهم لأصلبنه- صلوا على نبيكم- . ثم نزل و طلب رأس قتيبة و خاتمه- فقيل له إن الأزد أخذته فخرج مشهرا- و قال و الله الذي لا إله إلا هو لا أبرح حتى أوتي بالرأس- أو يذهب رأسي معه- فقال له الحصين بن المنذر يا أبا مطرف فإنك تؤتى به- ثم ذهب إلى الأزد فأخذ الرأس و أتاه به- فسيره إلى سليمان بن عبد الملك- فأدخل عليه و معه رءوس إخوته و أهله- و عنده الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي- فقال أ ساءك هذا يا هذيل- قال لو ساءني لساء ناسا كثيرا- فقال سليمان ما أردت هذا كله- و إنما قال سليمان ذلك للهذيل- لأن قيس عيلان تجمع كلابا و باهلة- قالوا ما ولي خراسان أحد كقتيبة بن مسلم- و لو كانت باهلة في الدناءة و الضعة- و اللؤم إلى أقصى غاية- لكان لها بقتيبة الفخر على قبائل العرب- .

قال رؤساء خراسان من العجم لما قتل قتيبة- يا معشر العرب قتلتم قتيبة- و الله لو كان منا ثم مات لجعلناه في تابوت- فكنا نستفتح به إذا غزونا- . و قال الأصبهبذ يا معشر العرب- قتلتم قتيبة و يزيد بن المهلب لقد جئتم شيئا إدا- فقيل له أيهما كان أعظم عندكم و أهيب- قال لو كان قتيبة بأقصى حجرة في المغرب- مكبلا بالحديد و القيود- و يزيد معنا في بلدنا وال علينا- لكان قتيبة أهيب في صدورنا و أعظم- . و قال عبد الرحمن بن جماعة الباهلي يرثي قتيبة-

كأن أبا حفص قتيبة لم يسر
بجيش إلى جيش و لم يعل منبرا

و لم تخفق الرايات و الجيش حوله‏
صفوفا و لم يشهد له الناس عسكرا

دعته المنايا فاستجاب لربه
و راح إلى الجنات عفا مطهرا

فما رزئ الإسلام بعد محمد
بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا

عبهر أم ولد له- .

و في الحديث الصحيح أن من خير الناس رجلا ممسكا بعنان فرسه في سبيل الله- كلما سمع هيعة طار إليها – . كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد- و اعلم أن عليك عيونا من الله ترعاك و تراك- فإذا لقيت العدو- فاحرص على الموت توهب لك الحياة- و لا تغسل الشهداء من دمائهم- فإن دم الشهيد يكون له نورا يوم القيامة- .عمر لا تزالون أصحاء ما نزعتم و نزوتم- يزيد ما نزعتم في القوس و نزوتم على الخيل- بعض الخوارج

و من يخش أظفار المنايا فإننا
لبسنا لهن السابغات من الصبر

و إن كريه الموت عذب مذاقه‏
إذا ما مزجناه بطيب من الذكر

حفص منصور بن عمار في قصصه على الغزو و الجهاد- فطرحت في المجلس صرة فيها شي‏ء- ففتحت فإذا فيها ضفيرتا امرأة و قد كتبت- رأيتك يا ابن عمار تحض على الجهاد- و و الله إني لا أملك لنفسي مالا- و لا أملك سوى ضفيرتي هاتين- و قد ألقيتهما إليك- فتالله إلا جعلتهما قيد فرس غاز في سبيل الله- فلعل الله أن يرحمني بذلك- . فارتج المجلس بالبكاء و الضجيج- . لبعض شعراء العجم-

وا سوءتا لامرئ شبيبته
في عنفوان و ماؤه خضل‏

راض بنزر المعاش مضطهد
على تراث الآباء يتكل‏

لا حفظ الله ذاك من رجل
و لا رعاه ما أطت الإبل‏

كلا و ربي حتى تكون فتى‏
قد نهكته الأسفار و الرحل‏

مشمرا يطلب الرئاسة أو
يضرب يوما بهلكه المثل‏

حتى متى تتبع الرجال و لا
تتبع يوما لأمك الهبل‏

عبد الله بن ثعلبة الأزدي

فلئن عمرت لأشفين
النفس من تلك المساعي‏

و لأعلمن البطن أن‏
الزاد ليس بمستطاع‏

أما النهار فقد أرى
قومي بمرقبة يفاع‏

في قرة هلك و شوك‏
مثل أنياب الأفاعي‏

ترد السباع معي فتحسبني
السباع من السباع‏

مجير الجراد أبو حنبل حارثة بن مر الطائي- أجار جرادا نزل به و منع من صيده- حتى طار من أرضه فسمي مجير الجراد- . و قال هلال بن معاوية الطائي-

و بالجبلين لنا معقل
صعدنا إليه بصم الصعاد

ملكناه في أوليات الزمان‏
من قبل نوح و من قبل عاد

و منا ابن مر أبو حنبل
أجار من الناس رجل الجراد

و زيد لنا و لنا حاتم‏
غياث الورى في السنين الشداد

و قال يحيى بن منصور الحنفي-

و لما نأت عنا العشيرة كلها
أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر

فما أسلمتنا عند يوم كريهة
و لا نحن أغضينا الجفون على وتر

و قال آخر-

أرق لأرحام أراها قريبة
لحار بن كعب لا لجرم و راسب‏

و و إنا نرى أقدامنا في نعالهم‏
و آنفنا بين اللحى و الحواجب‏

و أقدامنا يوم الوغى و إباءنا
إذا ما أبينا لا ندر لعاصب‏

حاصرت الترك مدينة برذعة من أعمال آذربيجان- في أيام هشام بن عبد الملك حصارا شديدا- و استضعفتها و كادت تملكها- و توجه إليها لمعاونتها سعيد الحرشي- من قبل هشام بن عبد الملك في جيوش كثيفة- و علم الترك بقربه منهم فخافوا- و أرسل سعيد واحدا من أصحابه إلى أهل برذعة سرا- يعرفهم وصوله و يأمرهم بالصبر خوفا ألا يدركهم- فسار الرجل و لقيه قوم من الترك- فأخذوه و سألوه عن حاله فكتمهم فعذبوه- فأخبرهم و صدقهم- فقالوا إن فعلت ما نأمرك به أطلقناك و إلا قتلناك- فقال ما تريدون- قالوا أنت عارف بأصحابك ببرذعة و هم يعرفونك- فإذا وصلت تحت السور فنادهم إنه ليس خلفي مدد- و لا من يكشف ما بكم و إنما بعثت جاسوسا- فأجابهم إلى ذلك فلما صار تحت سورها- وقف حيث يسمع أهلها كلامه و قال لهم أ تعرفونني- قالوا نعم أنت فلان بن فلان- قال فإن سعيدا الحرشي قد وصل إلى مكان كذا- في مائة ألف سيف- و هو يأمركم بالصبر و حفظ البلد- و هو مصبحكم أو ممسيكم- فرفع أهل برذعة أصواتهم بالتكبير- و قتلت الترك ذلك الرجل و رحلوا عنها و وصل سعيد- فوجد أبوابها مفتوحة و أهلها سالمين- . و قال الراجز-

من كان ينوي أهله فلا رجع
فر من الموت و في الموت وقع‏

أشرف معاوية يوما فرأى عسكر علي ع بصفين فهاله- فقال من طلب عظيما خاطر بعظيمته- . و قال الكلحبة

إذا المرء لم يغش المكارة أوشكت
حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا

و من شعر الحماسة-

أقول لها و قد طارت شعاعا
من الأبطال ويحك لا تراعي‏

فإنك لو سألت بقاء يوم‏
على الأجل الذي لك لم تطاعي

فصبرا في مجال الموت صبرا
فما نيل الخلود بمستطاع‏

و لا ثوب البقاء بثوب عز
فيطوى عن أخي الخنع اليراع‏

سبيل الموت غاية كل حي
فداعيه لأهل الأرض داع‏

و من لا يعتبط يسأم و يهرم‏
و تسلمه المنون إلى انقطاع‏

و ما للمرء خير في حياة
إذا ما عد من سقط المتاع‏

و منه أيضا-

و في الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان‏

و منه أيضا-

و لم ندر إن جضنا عن الموت جيضة
كم العمر باق و المدى متطاول‏

و منه أيضا-

و لا يكشف الغماء إلا ابن حرة
يرى غمرات الموت ثم يزورها

و منه أيضا-

فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم
لشي‏ء و لا أني من الموت أفرق‏

و لا أن نفسي يزدهيها وعيدكم‏
و لا أنني بالمشي في القيد أخرق‏

و منه أيضا-

سأغسل عني العار بالسيف جالبا
على قضاء الله ما كان جالبا

و أذهل عن داري و أجعل هدمها
لعرصي من باقي المذمة حاجبا

و يصغر في عيني تلادي إذا انثنت
يميني بإدراك الذي كنت طالبا

فإن تهدموا بالغر داري فإنها
تراث كريم لا يبالي العواقبا

أخي عزمات لا يطيع على الذي
يهم به من مفظع الأمر عاتبا

إذا هم ألقى بين عينيه عزمه‏
و نكب عن ذكر العواقب جانبا

فيا لرزام رشحوا بي مقدما
إلى الموت خواضا إليه السباسبا

إذا هم لم تردع عزيمة همه‏
و لم يأت ما يأتي من الأمر هائبا

و لم يستشر في أمره غير نفسه
و لم يرض إلا قائم السيف صاحبا

– . و منه أيضا-

هما خطتا إما إسار و منة
و إما دم و القتل بالحر أجدر

و منه أيضا-

و أنا لقوم لا نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر و سلول‏

يقصر حب الموت آجالنا لنا
و تكرهه آجالهم فتطول‏

و ما مات منا سيد حتف أنفه
و لا طل منا حيث كان قتيل‏

تسيل على حد الظبات نفوسنا
و ليست على غير السيوف تسيل‏

و منه أيضا-

لا يركنن أحد إلى الإحجام
يوم الوغى متخوفا لحمام‏

فلقد أراني للرماح دريئة
من عن يميني تارة و أمامي‏

حتى خضبت بما تحدر من دمي
أكناف سرجي أو عنان لجامي‏

ثم انصرفت و قد أصبت و لم أصب‏
جذع البصيرة قارح الأقدام‏

و منه أيضا-

و إني لدى الحرب الضروس موكل
بإقدام نفس لا أريد بقاءها

متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة
لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

كتب عبد الحميد بن يحيى- عن مروان بن محمد إلى أبي مسلم كتابا- حمل على جمل لعظمه و كثرته- و قيل إنه لم يكن في الطول إلى هذه الغاية- و قد حمل على جمل تعظيما لأمره- و قال لمروان بن محمد إن قرأه خاليا نخب قلبه- و إن قرأه في ملإ من‏
أصحابه ثبطهم و خذلهم- فلما وصل إلى أبي مسلم أحرقه بالنار و لم يقرأه- و كتب على بياض كان على رأسه و أعاده إلى مروان-

محا السيف أسطار البلاغة و انتحت
إليك ليوث الغاب من كل جانب‏

فإن تقدموا نعمل سيوفا شحيذة
يهون عليها العتب من كل عاتب‏

و يقال إن أول الكتاب كان- لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا- و كتب أبو مسلم إلى نصر بن سيار- و هو أول كتاب صدر عن أبي مسلم إلى نصر- و ذلك حين لبس السواد- و أعلن بالدعوة في شهر رمضان من سنة تسع و عشرين و مائة- أما بعد فإن الله جل ثناؤه ذكر أقواما فقال- وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ- لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى‏ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ- فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً- اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ- وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ- فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ- فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا- . فلما ورد الكتاب إلى نصر تعاظمه أمره- و كسر له إحدى عينيه- و قال إن لهذا الكتاب لأخوات- و كتب إلى مروان يستصرخه- و إلى يزيد بن هبيرة يستنجده- فقعدا عنه حتى أفضى ذلك إلى خروج الأمر عن بني عبد شمس- . الرضي الموسوي رحمه الله تعالى-

سأمضي للتي لا عيب فيها
و إن لم أستفد إلا عناء

و أطلب غاية إن طوحت بي
أصابت بي الحمام أو العلاء

نماني من أباة الضيم آب‏
أفاض علي تلك الكبرياء

و منا كل أغلب مستميت
إذا أنت لددته بالذل قاء

إذا ما ضيم نمر صفحتيه‏
و قام على براثنه إباء

و نأبى أن ينال النصف منا
و أن نعطي مقارعنا السواء

و لو كان العداء يسوغ فينا
لما سمنا الورى إلا العداء

و له

سيقطعك المهند ما تمنى
و يعطيك المثقف ما تشاء

و ما ينجي من الغمرات إلا
طعان أو ضراب أو رماء

و من أهل الإباء الذين كرهوا الدنية- و اختاروا عليها المنية عبد الله بن الزبير- تفرق عنه لما حاربه الحجاج بمكة- و حصره في الحرم عامة أصحابه- و خرج كثير منهم إلى الحجاج في الأمان- حتى حمزة و خبيب ابناه- فدخل عبد الله على أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق- و كانت قد كف بصرها و هي عجوز كبيرة- فقال لها خذلني الناس حتى ولدي و أهلي- و لم يبق معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من ساعة- و القوم يعطونني من الدنيا ما سألت فما رأيك- فقالت أنت يا بني أعلم بنفسك- إن كنت تعلم أنك على حق و إليه تدعو فامض له- فقد قتل أكثر أصحابك- فلا تمكن من رقبتك يتلاعب بها غلمان بني أمية- و إن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت- أهلكت‏
نفسك و أهلكت من قتل معك- و إن كنت قاتلت على الحق- فما وهن أصحابك إلا ضعفت- فليس هذا فعل الأحرار و لا أهل الدين- و كم خلودك في الدنيا القتل أحسن- . فدنا عبد الله منها فقبل رأسها- و قال هذا و الله رأيي- و الله ما ركنت إلى الدنيا و لا أحببت الحياة فيها- و ما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله تعالى عز و جل- أن تستحل محارمه- و لكنني أحببت أن أعلم رأيك- فقد زدتني بصيرة- فانظري يا أماه أني مقتول يومي هذا- فلا يشتد جزعك و سلمي لأمر الله- فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر و لا عملا بفاحشة- و لم يجر في حكم الله- و لم يظلم مسلما و لا معاهدا- و لا بلغني ظلم عن عامل من عمالي فرضيت به بل أنكرته- و لم يكن شي‏ء عندي آثر من رضا الله- .

اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي أنت أعلم بي- و لكني أقوله تعزية لأمي لتسلو عني- فقالت إني لأرجو من الله- أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني- فاخرج لأنظر إلى ما ذا يصير أمرك- فقال جزاك الله خيرا يا أمي- فلا تدعي الدعاء لي حيا و ميتا- قالت لا أدعه أبدا- فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق- ثم قالت اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل- و ذلك النحيب في الظلماء- و ذلك الصوم في هواجر مكة و المدينة و بره بأبيه و بي- اللهم إني قد أسلمت لأمرك- و رضيت بما قضيت فيه- فأثبني عليه ثواب الصابرين- .

و قد روي في قصة عبد الله مع أمه أسماء رواية أخرى- أنه لما دخل عليها و عليه الدرع و المغفر- و هي عمياء لا تبصر وقف فسلم- ثم دنا فتناول يدها فقبلها- قالت هذا وداع فلا تبعد- فقال نعم إنما جئت مودعا- إني لأرى هذا اليوم آخر أيامي من الدنيا- و اعلمي يا أمي أني إذا قتلت- فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي- فقالت صدقت يا بني أقم على بصيرتك- و لا تمكن ابن أبي عقيل منك- ادن مني لأودعك فدنا منها فقبلته‏ و عانقته- فوجدت مس الدرع- فقالت ما هذا صنع من يريد ما تريد- فقال إنما لبسته لأشد منك- قالت إنه لا يشد مني- ثم انصرف عنها و هو يقول-

إني إذا أعرف يومي أصبر
إذ بعضهم يعرف ثم ينكر

و أقام أهل الشام على كل باب من أبواب الحرم- رجالا و قائدا- فكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة- و لأهل دمشق باب بني شيبة- و لأهل الأردن باب الصفا- و لأهل فلسطين باب جمع- و لأهل قنسرين باب بني سهم- و خرج ابن الزبير فمرة يحمل هاهنا و مرة يحمل هاهنا- و كأنه أسد لا يقدم عليه الرجال- و أرسلت إليه زوجته أ أخرج فأقاتل معك- فقال لا و أنشد-

كتب القتل و القتال علينا
و على المحصنات جر الذيول‏

فلما كان الليل قام يصلي إلى قريب السحر- ثم أغفى محتبيا بحمائل سيفه- ثم قام فتوضأ و صلى و قرأ- ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ- ثم قال بعد انقضاء صلاته- من كان عني سائلا فإني في الرعيل الأول ثم أنشد-

و لست بمبتاع الحياة بسبة
و لا مرتق من خشية الموت سلما

ثم حمل حتى بلغ الحجون فرمي بآجرة- فأصابت وجهه فدمي- فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه أنشد-

و لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
و لكن على أقدامنا تقطر الدما

ثم حمل على أهل الشام فغاص فيهم- و اعتوروه بأسيافهم حتى سقط- و جاء الحجاج‏ فوقف عليه و هو ميت- و معه طارق بن عمرو- فقال ما ولدت النساء أذكر من هذا- و بعث برأسه إلى المدينة فنصب بها ثم حمل إلى عبد الملك- . أبو الطيب المتنبي-

أطاعن خيلا من فوارسها الدهر
وحيدا و ما قولي كذا و معي الصبر

و أشجع مني كل يوم سلامتي‏
و ما ثبتت إلا و في نفسها أمر

تمرست بالآفات حتى تركتها
تقول أ مات الموت أم ذعر الذعر

و أقدمت إقدام الأبي كأن لي‏
سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر

ذر النفس تأخذ حظها قبل بينها
فمفترق جاران دارهما العمر

و لا تحسبن المجد زقا و قينة
فما المجد إلا السيف و الفتكة البكر

و تضريب هامات الملوك و أن ترى
لك الهبوات السود و العسكر المجر

و تركك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر

و قال ابن حيوس-

و لست كمن أخنى عليه زمانه
فظل على أحداثه يتعتب‏

تلذ له الشكوى و إن لم يفد بها
صلاحا كما يلتذ بالحك أجرب‏

و لكنني أحمي ذماري بعزمة
تنوب مناب السيف و السيف مقضب‏

و ليس الفتى من لم تسم جسمه الظبا
و يحطم فيه من قنا الخط أكعب‏

و له أيضا-

أخفق المترف الجنوح إلى الخفض
و فاز المخاطر المقدام‏

و إذا ما السيوف لم تشهد الحرب‏
فسيان صارم و كهام‏

و ممن تقبل مذاهب الأسلاف في إباء الضيم و كراهية الذل- و اختار القتل على ذلك و أن يموت كريما- أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب- أمه أم ولد- و كان السبب في خروجه و خلعه طاعة بني مروان- أنه كان يخاصم عبد الله بن حسن بن حسن بن علي- بن أبي طالب ع في صدقات علي ع- هذا يخاصم عن بني حسين و هذا عن بني حسن- فتنازعا يوما- عند خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم- أمير المدينة- فأغلظ كل واحد منهما لصاحبه- فسر خالد بن عبد الملك بذلك و أعجبه سبابهما- و قال لهما حين سكنا اغدوا علي- فلست بابن عبد الملك إن لم أفصل بينكما غدا- فباتت المدينة تغلي كالمرجل- فمن قائل يقول قال زيد كذا- و قائل يقول قال عبد الله كذا- فلما كان الغد جلس خالد في المسجد و جمع الناس- فمن بين شامت و مغموم- و دعا بهما و هو يحب أن يتشاتما- فذهب عبد الله يتكلم- فقال زيد لا تعجل يا أبا محمد- أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا- ثم أقبل على خالد فقال له- أجمعت ذرية رسول الله ص لأمر- ما كان يجمعهم عليه أبو بكر و لا عمر- فقال خالد أ ما لهذا السفيه أحد يكلمه- . فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم- فقال يا ابن أبي تراب و يا ابن‏ حسين السفيه- أ ما ترى عليك لوال حقا و لا طاعة- فقال زيد اسكت أيها القحطاني فإنا لا نجيب مثلك- فقال الأنصاري و لم ترغب عني- فو الله إني لخير منك و أبي خير من أبيك- و أمي خير من أمك فتضاحك زيد- و قال يا معشر قريش- هذا الدين قد ذهب أ فذهبت الأحساب- فتكلم عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب- فقال كذبت أيها القحطاني- و الله لهو خير منك نفسا و أبا و أما و محتدا- و تناوله بكلام كثير و أخذ كفا من الحصى فضرب به الأرض- و قال إنه و الله ما لنا على هذا من صبر و قام- .

فقام زيد أيضا و شخص من فوره إلى هشام بن عبد الملك- فجعل هشام لا يأذن له و زيد يرفع إليه القصص- و كلما رفع إليه قصة كتب هشام في أسفلها- ارجع إلى أرضك- فيقول زيد و الله لا أرجع إلى ابن الحارث أبدا- ثم أذن له بعد حبس طويل و هشام في علية له فرقي زيد إليها- و قد أمر هشام خادما له أن يتبعه حيث لا يراه زيد- و يسمع ما يقول- فصعد زيد و كان بادنا فوقف في بعض الدرجة- فسمعه الخادم و هو يقول- ما أحب الحياة إلا من ذل- فأخبر الخادم هشاما بذلك- فلما قعد زيد بين يدي هشام و حدثه حلف له على شي‏ء- فقال هشام لا أصدقك- فقال زيد إن الله لا يرفع أحدا عن أن يرضى بالله- و لم يضع أحدا عن أن يرضى بذلك منه- قال له هشام إنه بلغني أنك تذكر الخلافة و تتمناها- و لست هناك لأنك ابن أمة- فقال زيد إن لك جوابا قال تكلم- قال إنه ليس أحد أولى بالله- و لا أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه- و هو إسماعيل بن إبراهيم و هو ابن أمة- قد اختاره الله لنبوته و أخرج منه خير البشر- فقال هشام فما يصنع أخوك البقرة- فغضب زيد حتى كاد يخرج من إهابه- ثم قال سماه رسول الله ص الباقر- و تسميه أنت البقرة لشد ما اختلفتما- لتخالفنه في الآخرة كما خالفته في الدنيا- فيرد الجنة و ترد النار- .

فقال هشام خذوا بيد هذا الأحمق المائق فأخرجوه- فأخذ الغلمان بيده فأقاموه- فقال هشام احملوا هذا الخائن الأهوج إلى عامله- فقال زيد و الله لئن حملتني إليه- لا أجتمع أنا و أنت حيين و ليموتن الأعجل منا- فأخرج زيد و أشخص إلى المدينة- و معه نفر يسيرونه حتى طردوه عن حدود الشام- فلما فارقوه عدل إلى العراق و دخل الكوفة- و بايع لنفسه فأعطاه البيعة أكثر أهلها- و العامل عليها و على العراق يومئذ يوسف بن عمر الثقفي- فكان بينهما من الحرب ما هو مذكور في كتب التواريخ- و خذل أهل الكوفة زيدا- و تخلف معه ممن تابعه نفر يسير- و أبلى بنفسه بلاء حسنا و جهادا عظيما- حتى أتاه سهم غرب- فأصاب جانب جبهته اليسرى- فثبت في دماغه فحين نزع منه مات ع- . عنف محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ع زيدا لما خرج- و حذره القتل- و قال له إن أهل العراق خذلوا أباك عليا و حسنا و حسينا ع- و إنك مقتول و إنهم خاذلوك- فلم يثن ذلك عزمه و تمثل-

بكرت تخوفني الحتوف كأنني
أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل‏

فأجبتها إن المنية منهل‏
لا بد أن أسقى بذاك المنهل‏

إن المنية لو تمثل مثلت
مثلي إذا نزلوا بضيق المنزل‏

فاقني حياءك لا أبا لك و اعلمي‏
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل‏

العلوي البصري صاحب الزنج يقول-

و إذا تنازعني أقول لها قري
موت الملوك على صعود المنبر

ما قد قضى سيكون فاصطبري له‏
و لك الأمان من الذي لم يقدر

و قال أيضا-

إني و قومي في أنساب قومهم
كمسجد الخيف في بحبوحة الخيف‏

ما علق السيف منا بابن عاشرة
إلا و عزمته أمضى من السيف‏

بعض الطالبيين-

و إنا لتصبح أسيافنا
إذا ما انتضين ليوم سفوك‏

منابرهن بطون الأكف‏
و أغمادهن رءوس الملوك‏

بعض الخوارج يصف أصحابه-

و هم الأسود لدى العرين بسالة
و من الخشوع كأنهم أحبار

يمضون قد كسروا الجفون إلى الدعا
متبسمين و فيهم استبشار

فكأنما أعداؤهم أحبابهم
فرحا إذا خطر القنا الخطار

يردون حومات الحمام و إنها
تالله عند نفوسهم لصغار

و لقد مضوا و أنا الحبيب إليهم
و هم لدي أحبة أبرار

قدر يخلفني و يمضيهم به‏
يا لهف كيف يفوتني المقدار

و في الحديث المرفوع خلقان يحبهما الله الشجاعة و السخاء – . كان بشر بن المعتمر من قدماء شيوخنا رحمه الله تعالى- يقول بتفضيل علي ع- و يقول كان أشجعهم و أسخاهم- و منه سرى القول بالتفضيل- إلى أصحابنا البغداديين قاطبة- و في كثير من البصريين- . دخل النضر بن راشد العبدي على امرأته- في حرب الترك بخراسان- في ولاية الجنيد بن عبد الرحمن المري- في خلافة هشام بن عبد الملك و الناس يقتتلون- فقال لها كيف تكونين- إذا أتيت بي في لبد قتيلا مضرجا بالدماء- فشقت جيبها و دعت بالويل- فقال حسبك- لو أعولت علي كل أنثى لعصيتها شوقا إلى الجنة- ثم خرج فقاتل حتى قتل- و حمل إلى امرأته في لبد و دمه يقطر من خلاله- . قال أبو الطيب المتنبي-

إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم‏

فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم‏

يرى الجبناء إن الجبن حزم
و تلك خديعة الطبع اللئيم‏

و كل شجاعة في المرء تغني‏
و لا مثل الشجاعة في الحكيم‏

و قال-

إذا لم تجد ما يبتر العمر قاعدا
فقم و اطلب الشي‏ء الذي يبتر العمرا

و قال

أهم بشي‏ء و الليالي كأنها
تطاردني عن كونه و أطارد

وحيدا من الخلان في كل بلدة
إذا عظم المطلوب قل المساعد

قيل لأبي مسلم في أيام صباه- نراك تنظر إلى السماء كثيرا كأنك تسترق السمع- أو تنتظر نزول الوحي- قال لا و لكن لي همة عالية- و نفس تتطلع إلى معالي الأمور- مع عيش كعيش الهمج و الرعاع- و حال متناهية في الاتضاع- قيل فما الذي يشفي علتك و يروي غلتك- قال الملك قيل فاطلب الملك- قال إن الملك لا يطلب هكذا- قيل فما تصنع و أنت تذوب حسرا و تموت كمدا- قال سأجعل بعض عقلي جهلا- و أطلب به ما لا يطلب إلا بالجهل- و أحرس بالباقي ما لا يحرس إلا بالعقل- فأعيش بين تدبير ضدين- فإن الخمول أخو العدم- و الشهرة أخت الكون- . قال ابن حيوس-

أمواتهم بالذكر كالأحياء
و لحيهم فضل على الأحياء

نزلوا على حكم المروءة و امتطوا
بالبأس ظهر العزة القعساء

و العز لا يبقى لغير معود
أن يكشف الغماء بالغماء

لا تحسب الضراء ضراء إذا
أفضت بصاحبها إلى السراء

 و قال-

و هي الرئاسة لا تبوح بسرها
إلا لأروع لا يباح ذماره‏

يحمي حماه قلبه و لسانه‏
و تذود عنه يمينه و يساره‏

لا العذل ناهيه و لا الحرص الذي
أمر النفوس بشحها أماره‏

فليعلم الساعي ليبلغ ذا المدى‏
أن الطريق كثيرة أخطاره‏

كان ثابت قطنة في خيل عبد الله بن بسطام- في فتح شكند من بلاد الترك في أيام هشام بن عبد الملك- فاشتدت شوكة الترك- و انحاز كثير من المسلمين و استؤسر منهم خلق- فقال ثابت- و الله لا ينظر إلي بنو أمية غدا مشدودا في الحديد- أطلب الفداء- اللهم إني كنت ضيف ابن بسطام البارحة- فاجعلني ضيفك الليلة- ثم حمل و حمل معه جماعة فكسرتهم الترك- فرجع أصحابه و ثبت هو- فرمي برذونه فشب و ضربه فأقدم- فصرع ثابت و ارتث- فقال اللهم إنك استجبت دعوتي و أنا الآن ضيفك- فاجعل قراي الجنة فنزل تركي فأجهز عليه- . قال يزيد بن المهلب لابنه خالد- و قد أمره على جيش في حرب جرجان- يا بني إن غلبت على الحياة فلا تغلبن علي الموت- و إياك أن أراك غدا عندي مهزوما- .

عن النبي ص الخير في السيف و الخير مع السيف- و الخير بالسيف – كما يقال المنية و لا الدنية- و النار و لا العار- و السيف و لا الحيف- . قال سيف بن ذي يزن حين أعانه بوهرز الديلمي و من معه- لأنوشروان- أيها الملك أين تقع ثلاثة آلاف من خمسين ألفا- فقال يا أعرابي كثير الحطب يكفيه قليل النار- . لما حبس مروان بن محمد إبراهيم الإمام- خرج أبو العباس السفاح و أخوه أبو جعفر- و عبد الوهاب و محمد ابنا إبراهيم الإمام- و عيسى و صالح و إسماعيل و عبد الله و عبد الصمد- أبناء علي بن عبد الله بن العباس- و عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس- و يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس- من الحميمة من أرض السراة يطلبون الكوفة- و قد كان داود بن علي بن عبد الله بن العباس- و ابنه موسى بن داود بالعراق- فخرجا يطلبان الشام- فتلقاهما أبو العباس و أهل بيته بدومة الجندل- فسألهم داود عن‏خروجهم- فأخبروه أنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها- و يدعوا إلى البيعة لأبي العباس- فقال يا أبا العباس يظهر أمرك الآن بالكوفة- و مروان بن محمد شيخ بني أمية بحران- مطل على العراق في جيوش أهل الشام و الجزيرة- و يزيد بن عمر بن هبيرة- شيخ العرب بالعراق في فرسان العرب- فقال يا عم من أحب الحياة ذل- ثم تمثل بقول الأعشى-

فما ميتة إن متها غير عاجز
بعار إذا ما غالت النفس غولها

فقال داود لابنه موسى- صدق ابن عمك ارجع بنا معه- فإما أن نهلك أو نموت كراما- . و كان عيسى بن موسى يقول بعد ذلك- إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة- إن ثلاثة عشر رجلا خرجوا من ديارهم و أهليهم- يطلبون ما طلبنا لعظيمة هممهم- كبيرة نفوسهم شديدة قلوبهم- . أبو الطيب المتنبي

و إذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام‏

و له

إلى أي حين أنت في زي محرم
و حتى متى في شقوة و إلى كم

و إلا تمت تحت السيوف مكرما
تمت و تقاسى الذل غير مكرم‏

فثب واثقا بالله وثبة ماجد
يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم‏

و قال آخر-

إن تقتلوني فآجال الرجال كما
حدثت قتل و ما بالقتل من عار

و إن سلمت لوقت بعده فعسى‏
و كل شي‏ء إلى حد و مقدار

خطب الحجاج فشكا سوء ضاعة أهل العراق- فقام إليه جامع المحاربي فقال أيها الأمير- دع ما يباعدهم منك إلى ما يقربهم إليك- و التمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك- فلو أحبوك لأطاعوك- إنهم ما شنئوك بنسبك و لا لبأوك- و لكن لإيقاعك بعد وعيدك و وعيدك بعد وعدك- . فقال الحجاج- ما أراني أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف- فقال جامع أيها الأمير- إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار- فقال الحجاج الخيار يومئذ لله- فقال أجل و لكنك لا تدري لمن يجعله الله- فقال يا هناه إيها فإنك من محارب- فقال جامع-

و للحرب سمينا فكنا محاربا
إذا ما القنا أمسى من الطعن أحمرا

و من الشعر الجيد في تحسين الإباء و الحمية- و التحريض على النهوض و الحرب- و طلب الملك و الرئاسة- قصيدة عمارة اليمني شاعر المصريين- في فخر الدين تورانشاه بن أيوب- التي يغريه فيها بالنهوض إلى اليمن- و الاستيلاء على ملكها- و صادفت هذه القصيدة محلا قابلا- و ملك تورانشاه اليمن- بما هزت هذه القصيدة من عطفه- و حركت من عزمه و أولها-

العلم مذ كان محتاج إلى العلم
و شفرة السيف تستغني عن القلم‏

و خير خيلك إن غامرت في شرف‏
عزم يفرق بين الساق و القدم‏

إن المعالي عروس غير واصلة
ما لم تخلق رادءيها بنضح دم‏

ترى مسامع فخر الدين تسمع ما
أملاه خاطر أفكاري على قلمي‏

فإن أصبت فلي حظ المصيب و إن
أخطأت قصدك فاعذرني و لا تلم‏

كم تترك البيض في الأجفان ظامئة
إلى الموارد في الأعناق و القمم‏

و مقلة المجد نحو العزم شاخصة
فاترك قعودك عن إدراكها و قم‏

فعمك الملك المنصور سومها
من الفرات إلى مصر بلا سأم‏

و اخلق لنفسك أمرا لا تضاف به
إلى سواك و أور النار في العلم‏

و انه المشيرين إن لجت نصيحتهم‏
أو لا فأنعم على العميان بالصمم‏

و اعزم و صمم فقد طالت و قد سمجت
قضية لفظتها ألسن الأمم‏

فرب أمر يهاب الناس غايته‏
و الأمر أهون فيه من يد لفم‏

فكيف إن نهضت فيما هممت به
أسد تسير من الخطى في أجم‏

لا يدرك المجد إلا كل مقتحم‏
في موج ملتطم أو فوج مضطرم‏

لا ينقض الخطوة الأولى بثانية
و لا يفكر في العقبى من الندم‏

كأنما السيف أفتاه بقتلهم‏
في فتح مكة حل القتل في الحرم‏

و لم يراعوا لعثمان و لا عمر
و لا الحسين ذمام الأشهر الحرم‏

فما تروم سوى فتح صوارمه‏
يضحكن في كل يوم عابس البهم‏

حتى كأن لسان السيف في يده
يروي الشريعة عن عاد و عن إرم‏

هذا ابن تومرت قد كانت بدايته
فيما يقول الورى لحما على وضم‏

و قد ترقى إلى أن صار طالعة
من الكواكب بالأنفاس و الكظم‏

و كان أول هذا الدين من رجل
سعى إلى أن دعوه سيد الأمم‏

 كذب- لم يظهر الدين الحنيف المقدس على الأديان بسعي البشر- بل بالتأييد الإلهي و السر الرباني- صلوات الله و سلامه على القائم به و المتحمل له-

و البدر يبدو هلالا ثم يكشف بالأنوار
ما سترته شملة الظلم‏

و الغيث فهو كما قد قيل أوله‏
قطر و بدء خراب السد بالعرم‏

تنمو قوى الشي‏ء بالتدريج إن رزقت
لطفا و يقوى شرار النار بالضرم‏

حاسب ضميرك عن رأي أتاك و قل‏
نصيحة وردت من غير متهم‏

أقسمت ما أنت ممن جل همته
ما راق من نعم أو رق من نعم‏

و إنما أنت مرجو لواحدة
بنى بها الدهر مجدا غير منهدم‏

كأنني بالليالي و هي هاتفة
قد صم سمع رجال دونها و عمي‏

و بالعلى كلما لاقتك قائلة
أهلا بمنشر آمالي من الرمم‏

و من أباة الضيم الذين اختاروا القتل على الأسر- و الموت على الدنية مصعب بن الزبير- كان أمير العراقين من قبل عبد الله بن الزبير- و كان قد كسر جيوش عبد الملك مرارا و أعياه أمره- فخرج إليه من الشام بنفسه فليم في ذلك- و قيل له إنك تغرر بنفسك و خلافتك- فقال إنه لا يقوم لحرب مصعب غيري- هذا أمر يحتاج إلى أن يقوم به شجاع ذو رأي- و ربما بعثت شجاعا و لا رأي له- أو ذا رأي و لا شجاعة عنده- و أنا بصير بالحرب شجاع بالسيف- فلما أجمع على الخروج إلى حرب مصعب- جاءته‏امرأته عاتكة بنت يزيد بن معاوية- فالتزمته و بكت لفراقه و بكى جواريها حولها- فقال عبد الملك قاتل الله ابن أبي جمعة- كأنه شاهد هذه الصورة حيث يقول-

إذا هم بالأعداء لم يثن عزمه
حصان عليها نظم در يزينها

نهته فلما لم تر النهي عاقه‏
بكت فبكى مما عراها قطينها

فسار عبد الملك حتى إذا كان بمسكن من أرض العراق- و قد دنا منه عسكر مصعب- تقاعد بمصعب أصحابه و قواده و خذلوه- فقال لابنه عيسى الحق بمكة فانج بنفسك- و أخبر عمك عبد الله بما صنع أهل العراق بي- و دعني فإني مقتول- فقال لا تتحدث نساء قريش أني فررت عنك- و لكن أقاتل دونك حتى نقتل- فالفرار عار و لا عار في القتل- ثم قاتل دونه حتى قتل- و خف من يحامي عن مصعب من أهل العراق و أيقن بالقتل- فأنفذ عبد الملك إليه أخاه محمد بن مروان- فأعطاه الأمان و ولاية العراقين أبدا ما دام حيا- و ألفي ألف درهم صلة فأبى- و قال إن مثلي لا ينصرف عن هذا المكان إلا غالبا أو مقتولا- فشد عليه أهل الشام و رموه بالنبل فأثخنوه- و طعنه زائدة بن قيس بن قدامة السعدي- و نادى يا لثارات المختار فوقع إلى الأرض- فنزل إليه عبد الملك بن زياد بن ظبيان- فاحتز رأسه و حمله إلى عبد الملك- . لما حمل رأس مصعب إلى عبد الملك بكى- و قال لقد كان أحب الناس إلي و أشدهم مودة لي- و لكن الملك عقيم- . كتب مصعب إلى سكينة بنت الحسين ع- و كانت زوجته لما شخص إلى حرب عبد الملك- و هي بالكوفة بعد ليال من فراقها-

و كان عزيزا إن أبيت و بيننا
حجاب فقد أصبحت مني على عشر

و أبكاهما و الله للعين فاعلمي
إذا ازددت مثليها فصرت على شهر

و أنكى لقلبي منهما اليوم أنني‏
أخاف بألا نلتقي آخر الدهر

ثم أرسل إليها و أشخصها- فشهدت معه حرب عبد الملك فدخل عليها يوم قتل- و قد نزع ثيابه ثم لبس غلالة و توشح بثوب واحد- و هو محتضن سيفه فعلمت أنه غير راجع- فصاحت وا حزناه عليك يا مصعب- فالتفت إليها و قال إن كل هذا في قلبك- قالت و ما أخفي أكثر- قال لو كنت أعلم هذا لكان لي و لك شأن- ثم خرج فلم يرجع- . فقال عبد الملك يوما لجلسائه من أشجع الناس- فقالوا قطري شبيب فلان و فلان- قال عبد الملك- بل رجل جمع بين سكينة بنت الحسين و عائشة بنت طلحة- و أمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز- و قلابة ابنة زبان بن أنيف الكلبي سيد العرب- و ولي العراقين خمس سنين- فأصاب كذا و كذا ألف درهم- و أعطي الأمان على ذلك كله و على ولايته و ماله فأبى- و مشى بسيفه إلى الموت حتى قتل ذاك مصعب بن الزبير- لا من قطع الجسور مرة هاهنا و مرة هاهنا- . سئل سالم بن عبد الله بن عمر أي ابني الزبير أشجع- فقال كلاهما جاءه الموت و هو ينظر إليه- . لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك أنشد-

لقد أردى الفوارس يوم حسي
غلاما غير مناع المتاع‏

و لا فرح بخير إن أتاه‏
و لا هلع من الحدثان لاع‏

و لا وقافة و الخيل تردي
و لا خال كأنبوب اليراع‏

كان ابن ظبيان يقول ما ندمت على شي‏ء ندمي- على ألا أكون لما حملت إلى عبد الملك رأس مصعب- فسجد قتلته في سجدته- فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد- . قال رجل لعبد الله بن ظبيان- بما ذا تحتج عند الله عز و جل غدا و قد قتلت مصعبا- قال إن تركت أحتج كنت أخطب من صعصعة بن صوحان- . كان مصعب لما خرج إلى حرب عبد الملك- سأل عن الحسين بن علي ع و كيف كان قتله- فجعل عروة بن المغيرة يحدث عن ذلك- فقال متمثلا بقول سليمان بن قتة-

و إن الألى بالطف من آل هاشم
تأسوا فسنوا للكرام التأسيا

 قال عروة فعلمت أن مصعبا لا يفر- . لما كان يوم السبخة و عسكر الحجاج بإزاء شبيب- قال له الناس أيها الأمير- لو تنحيت عن هذه السبخة فإنها منتنة الريح- قال ما تنحونني و الله إليه أنتن- و هل ترك مصعب لكريم مفرا- ثم أنشد قول الكلحبة-

إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت
حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا

و روى أبو الفرج في كتاب الأغاني- خطبة عبد الله بن الزبير في قتل مصعب برواية- هي أتم مما ذكرناه نحن فيما تقدم- قال لما أتي خبر المصعب إلى مكة- أضرب عبد الله بن الزبير عن ذكره أياما- حتى تحدث به جميع أهل مكة في الطريق- ثم صعد المنبر فجلس عليه مليا لا يتكلم- فنظر الناس إليه و إن الكآبة على وجهه لبادية- و إن‏ جبينه ليرشح عرفا- فقال واحد لآخر ما له لا يتكلم- أ تراه يهاب النطق فو الله إنه لخطيب فما تراه يهاب- قال أراه يريد أن يذكر قتل المصعب سيد العرب- فهو يقطع بذلك- فابتدأ فقال الحمد لله الذي له الخلق و الأمر- ملك الدنيا و الآخرة يعز من يشاء و يذل من يشاء- إلا أنه لا يذل من كان الحق معه و إن كان مفردا ضعيفا- و لا يعز من كان الباطل معه و إن كان ذا عدد و كثرة- ثم قال أتانا خبر من العراق بلد الغدر و الشقاق- فساءنا و سرنا أتانا أن مصعبا قتل رحمه الله- فأما الذي أحزننا من ذلك- فإن لفراق الحميم لذعة و لوعة- يجدها حميمه عند المصيبة- ثم يرعوي ذو الرأي و الدين إلى جميل الصبر- و أما الذي سرنا منه فإن قتله كان له شهادة- و إن الله جاعل لنا و له في ذلك الخيرة- ألا إن أهل العراق باعوه بأقل الأثمان و أخسرها- و أسلموه إسلام النعم المخطمة فقتل- و إن قتل لقد قتل أبوه و عمه و أخوه- و كانوا الخيار الصالحين- و إنا و الله ما نموت حتف آنافنا- ما نموت إلا قتلا قتلا و قعصا قعصا- بين قصد الرماح و تحت ظلال السيوف- ليس كما تموت بنو مروان- و الله ما قتل منهم رجل في جاهلية و لا إسلام- و إنما الدنيا عارية من الملك القهار- الذي لا يزول سلطانه و لا يبيد ملكه- فإن تقبل الدنيا علي لا آخذها أخذ اللئيم البطر- و إن تدبر عني لا أبكي عليها بكاء الخرف المهتر ثم نزل- .و قال الطرماح بن حكيم و كان يرى رأي الخوارج-

و إني لمقتاد جوادي فقاذف
به و بنفسي اليوم إحدى المتالف‏

لأكسب مالا أو أءوب إلى غنى‏
من الله يكفيني عداة الخلائف‏

فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن
على شرجع يعلى بخضر المطارف‏

و لكن قبري بطن نسر مقيله‏
بجو السماء في نسور عواكف‏

و أمسي شهيدا ثاويا في عصابة
يصابون في فج من الأرض خائف‏

فوارس أشتات يؤلف بينهم‏
هدى الله نزالون عند المواقف‏

قال ابن شبرمة مررت يوما في بعض شوارع الكوفة- فإذا بنعش حوله رجال- و عليه مطرف خز أخضر- فسألت عنه فقيل الطرماح- فعلمت أن الله تعالى لم يستجب له- . و قال محمد بن هانئ-

و لم أجد الإنسان إلا ابن سعيه
فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا

و بالهمة العلياء ترقي إلى العلا
فمن كان أعلى همه كان أظهرا

و لم يتأخر من أراد تقدما
و لم يتقدم من أراد تأخرا

الرضي الموسوي رحمه الله تعالى-

و من أخرته نفسه مات عاجزا
و من قدمته نفسه مات سيدا

و له رحمه الله-

ما مقامي على الهوان و عندي
مقول صارم و أنف حمي‏

و إباء محلق بي عن الضيم‏
كما زاغ طائر وحشي‏

 أبو الطيب المتنبي-

تقولين ما في الناس مثلك عاشق
جدي مثل من أحببته تجدي مثلي‏

محب كنى بالبيض عن مرهفاته‏
و بالحسن في أجسامهن عن الصقل‏

و بالسمر عن سمر القنا غير أنني
جناها أحبائي و أطرافها رسلي‏

عدمت فؤادا لم يبت فيه فضلة
لغير ثنايا الغر و الحدق النجل‏

تريدين إدراك المعالي رخيصة
و لا بد دون الشهد من أبر النحل‏

 ابن الهبارية الهمم العلية و المهج الأبية- تقرب المنية منك أو الأمنية- . أبو تمام

فتى النكبات من يأوي إذا ما
قطفن به إلى خلق و ساع‏

يثير عجاجة في كل فج‏
يهيم بها عدي بن الرقاع‏

يخوض مع السباع الماء حتى
لتحسبه السباع من السباع‏

فلب العزم إن حاولت يوما
بأن تستطيع غير المستطاع‏

فلم تركب كناجية المهاري‏
و لم تركب همومك كالزماع‏

و له أيضا-

إن خيرا مما رأيت من الصفح
عن النائبات و الإغماض‏

غربة تقتدي بغربة قيس‏
بن زهير و الحارث بن مضاض‏

غرضي نكبتين ما فتلا رأيا
فخافا عليه نكث انتقاض‏

من أبن البيوت أصبح في ثوب‏
من العيش ليس بالفضفاض‏

صلتان أعداؤه حيث حلوا
في حديث من ذكره مستفاض‏

و الفتى من تعرقته الليالي‏
و الفيافي كالحية النضناض‏

كل يوم له بصرف الليالي
فتكة مثل فتكة البراض‏

و له أيضا-

إن تريني ترى حساما صقيلا
مشرفيا من السيوف الحداد

ثاني الليل ثالث البيد و السير
نديم النجوم ترب السهاد

– أخذ هذا اللفظ أبو عبادة البحتري فقال-

يا نديمي بالسواجير من شمس
بن عمرو و بحتر بن عتود

اطلبا ثالثا سواي فإني
رابع العيس و الدجى و البيد

لست بالعاجز الضعيف و لا القائل‏
يوما إن الغنى بالجدود

و إذا استصعبت مقادة أمر
سهلته أيدي المهاري القود

و قال الرضي رحمه الله تعالى-

و لم أر كالرجاء اليوم شيئا
تذل له الجماجم و الرقاب‏

و بعض العدم مأثرة و فخر
و بعض المال منقصة و عاب‏

بناني و العنان إذا نبت بي
ربا أرض و رجلي و الركاب‏

و قد عرفت توقلي الليالي‏
كما عرفت توقلي العقاب‏

لأمنع جانبا و أفيد عزا
و عز الموت ما عز الجناب‏

إذا هول دعاك فلا تهبه‏
فلم يبق الذين أبوا و هابوا

كليب عافصته يد و أودى
عتيبة يوم أقعصه ذؤاب‏

سواء من أقل الترب منا
و من وارى معالمه التراب

و إن مزايل العيش اعتباطا
مساو للذين بقوا و شابوا

و أولنا العناء إذا طلعنا
إلى الدنيا و آخرنا الذهاب‏

إلى كم ذا التردد في الأماني
و كم يلوي بناظري السراب‏

و لا نقع يثار و لا قتام‏
و لا طعن يشب و لا ضراب‏

و لا خيل معقدة النواصي
يموج على شكائمها اللعاب‏

عليها كل ملتهب الحواشي‏
يصيب من العدو و لا يصاب‏

سأخطبها بحد السيف فعلا
إذا لم يغن قول أو خطاب‏

و آخذها و إن رغمت أنوف‏
مغالبة و إن ذلت رقاب‏

قعد سليمان بن عبد الملك يعرض و يفرض- فأقبل فتى من بني عبس وسيم فأعجبه- فقال ما اسمك قال سليمان- قال ابن من قال ابن عبد الملك فأعرض عنه- و جعل يفرض لمن دونه- فعلم الفتى أنه كره موافقة اسمه و اسم أبيه- فقال يا أمير المؤمنين لا عدمت اسمك- و لا شقي اسم يوافق اسمك- فافرض فإنما أنا سيف بيدك- إن ضربت به قطعت و إن أمرتني أطعت- و سهم في كنانتك أشتد إن أرسلت و أنفذ حيث وجهت- فقال له سليمان و هو يروزه و يختبره- ما قولك يا فتى لو لقيت عدوا- قال أقول حسبي الله و نعم الوكيل- قال سليمان- أ كنت مكتفيا بهذا لو لقيت عدوك دون ضرب شديد- قال الفتى إنما سألتني يا أمير المؤمنين- ما أنت قائل فأخبرتك- و لو سألتني ما أنت فاعل لأنبأتك- أنه لو كان ذلك لضربت بالسيف حتى يتعقف- و لطعنت بالرمح حتى يتقصف- و لعلمت إن ألمت فإنهم يألمون- و لرجوت من الله ما لا يرجون- فأعجب سليمان به و ألحقه في العطاء بالأشراف و تمثل-

إذا ما اتقى الله الفتى ثم لم يكن
على أهله كلا فقد كمل الفتى‏

السر تحت قوله ثم لم يكن على أهله كلا- يقال في المثل لا تكن كلا على أهلك فتهلك- . عدي بن زيد

فهل من خالد إما هلكنا
و هل بالموت يا للناس عار

الرضي الموسوي رحمه الله تعالى-

إذا لم يكن إلا الحمام فإنني
سأكرم نفسي عن مقال اللوائم‏

و ألبسها حمراء تضفو ذيولها
من الدم بعدا عن لباس الملاوم‏

فمن قبل ما اختار ابن الأشعث عيشه
على شرف عال رفيع الدعائم‏

فطار ذميما قد تقلد عارها
بشر جناح يوم دير الجماجم‏

و جاءهم يجرى البريد برأسه
و لم يغن إيغال به في الهزائم‏

و قد حاص من خوف الردى كل حيصة
فلم ينج و الأفدار ضربة لازم‏

و هذا يزيد بن المهلب نافرت
به الذل أعراق الجدود الأكارم‏

فقال و قد عن الفرار أو الردى‏
لحا الله أخزى ذكرة في المواسم‏

و ما غمرات الموت إلا انغماسة
و لا ذي المنايا غير تهويم نائم‏

رأى أن هذا السيف أهون محملا
من العار يبقى وسمه في المخاطم‏

و ما قلد البيض المباتير عنقه‏
سوى الخوف من تقليدها بالأداهم‏

فعاف الدنايا و امتطى الموت شامخا
بمارن عز لا يذل لخاطم

و قد حلقت خوف الهوان بمصعب‏
قوادم آباء كرام المقادم‏

على حين أعطوه الأمان فعافه
و خير فاختار الردى غير نادم‏

و في خدره غراء من آل طلحة
علاقة قلب للنديم المخالم‏

تحبب أيام الحياة و إنها
لأعذب من طعم الخلود لطاعم‏

ففارقها و الملك لما رآهما
يجران إذلال النفوس الكرائم‏

و لما ألاح الحوفزان من الردى
حذاه المخازي رمح قيس بن عاصم‏

و غادرها شنعاء إن ذكرت له‏
من العار طأطأ رأس خزيان واجم‏

كذاك مني بعد الفرار أمية
بشقشقة لوثاء من آل دارم‏

و سل لها سل الحسام ابن معمر
فكر على أعقاب ناب بصارم‏

يردد ذكري كل نجد و غائر
و ألجم خوفي كل باع و ظالم‏

و هددني الأعداء في المهد لم يحن‏
نهوضي و لم تقطع عقود تمائمي

و عندي يوم لو يزيد و مسلم
بدا لهما لاستصغرا يوم واقم‏

على العز مت لا ميتة مستكينة
تزيل عن الدنيا بشم المراغم‏

و خاطر على الجلى خطار ابن حرة
و إن زاحم الأمر العظيم فزاحم‏

و من أباة الضيم- و مؤثري الموت على الحياة الذليلة محمد و إبراهيم- ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع- لما أحاطت عساكر عيسى بن موسى بمحمد و هو بالمدينة- قيل له أنج بنفسك- فإن لك خيلا مضمرة و نجائب سابقة- فاقعد عليها و التحق بمكة أو باليمن- قال إني إذا لعبد- و خرج إلى الحرب يباشرها بنفسه و بمواليه- فلما أمسى تلك الليلة و أيقن بالقتل- أشير عليه بالاستتار- فقال إذن يستعرض عيسى أهل المدينة بالسيف- فيكون لهم يوم كيوم الحرة- لا و الله لا أحفظ نفسي بهلاك أهل المدينة- بل أجعل دمي دون دمائهم- فبذل له عيسى الأمان على نفسه و أهله و أمواله- فأبى و نهد إلى الناس بسيفه- لا يقاربه أحد إلا قتله لا و الله ما يبقي شيئا- و إن أشبه خلق الله به فيما ذكر هو حمزة بن عبد المطلب- و رمي بالسهام و دهمته الخيل- فوقف إلى ناحية جدار- و تحاماه الناس فوجد الموت- فتحامل على سيفه فكسره- فالزيدية تزعم أنه كان سيف رسول الله ص ذا الفقار- .

و روى أبو الفرج الأصفهاني- في كتاب مقال الطالبيين- أن محمدا ع قال لأخته ذلك اليوم- إني في هذا اليوم على قتال هؤلاء- فإن زالت الشمس و أمطرت السماء فإني مقتول- و إن زالت الشمس و لم تمطر السماء و هبت الريح- فإني أظفر بالقوم فأججي التنانير- و هيئي هذه الكتب- يعني كتب البيعة الواردة عليه من الآفاق- فإن زالت الشمس- و مطرت السماء فاطرحي هذه الكتب في التنانير- فإن قدرتم على بدني‏ فخذوه- و إن لم تقدروا على رأسي فخذوا سائر بدني- فأتوا به ظلة بني بلية- على مقدار أربعة أذرع أو خمسة منها- فاحفروا لي حفيرة و ادفنوني فيها- فمطرت السماء وقت الزوال و قتل محمد ع- و كان عندهم مشهورا أن آية قتل النفس الزكية- أن يسيل دم بالمدينة حتى يدخل بيت عاتكة- فكانوا يعجبون كيف يسيل الدم حتى يدخل ذلك البيت- فأمطرت السماء ذلك اليوم- و سال الدم بالمطر حتى دخل بيت عاتكة و أخذ جسده- فحفر له حفيرة في الموضع الذي حده لهم- فوقعوا على صخرة فأخرجوها- فإذا فيها مكتوب- هذا قبر الحسن بن علي بن أبي طالب ع- فقالت زينب أخت محمد ع- رحم الله أخي كان أعلم حيث أوصى أن يدفن في هذا الموضع- .

و روى أبو الفرج قال قدم على المنصور قادم- فقال هرب محمد فقال له كذبت- إنا أهل البيت لا نفر- . و أما إبراهيم ع- فروى أبو الفرج عن المفضل بن محمد الضبي- قال كان إبراهيم بن عبد الله بن الحسن متواريا- عندي بالبصرة- و كنت أخرج و أتركه- فقال لي إذا خرجت ضاق صدري- فأخرج إلي شيئا من كتبك أتفرج به- فأخرجت إليه كتبا من الشعر- فاختار منها القصائد السبعين- التي صدرت بها كتاب لمفضليات –  ثم أتممت عليها باقي الكتاب- . فلما خرج خرجت معه- فلما صار بالمربد مربد سليمان بن علي- وقف عليهم و أمنهم و استسقى ماء فأتي به فشرب- فأخرج إليه صبيان من صبيانهم فضمهم إليه- و قال هؤلاء و الله منا و نحن منهم لحمنا و دمنا- و لكن آباءهم انتزوا على أمرنا- و ابتزوا حقوقنا و سفكوا دماءنا ثم تمثل-

مهلا بني عمنا ظلامتنا
إن بنا سورة من الغلق‏

لمثلكم نحمل السيوف و لا
تغمز أحسابنا من الرقق‏

إني لأنمي إذا انتميت إلى
عز عزيز و معشر صدق‏

بيض سباط كان أعينهم‏
تكحل يوم الهياج بالعلق‏

فقلت له ما أجود هذه الأبيات و أفحلها فلمن هي- فقال هذه يقولها ضرار بن الخطاب الفهري- يوم عبر الخندق على رسول الله ص- و تمثل بها علي بن أبي طالب يوم صفين- و الحسين يوم الطف و زيد بن علي يوم السبخة- و يحيى بن زيد يوم الجوزجان- فتطيرت له من تمثله بأبيات لم يتمثل بها أحد إلا قتل- ثم سرنا إلى باخمرى فلما قرب منها أتاه نعي أخيه محمد- فتغير لونه و جرض بريقه ثم أجهش باكيا- و قال اللهم إن كنت تعلم أن محمدا خرج يطلب مرضاتك- و يؤثر أن تكون كلمتك العليا و أمرك المتبع المطاع- فاغفر له و ارحمه و ارض عنه- و اجعل ما نقلته إليه من الآخرة خيرا- مما نقلته عنه من الدنيا- ثم انفجر باكيا ثم تمثل-

أبا المنازل يا خير الفوارس من
يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا

الله يعلم إني لو خشيتهم‏
أو آنس القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوك و لم أسلم أخي لهم
حتى نعيش جميعا أو نموت معا

قال المفضل فجعلت أعزيه و أعاتبه على ما ظهر من جزعه- فقال إني و الله في هذا كما قال دريد بن الصمة-

يقول ألا تبكي أخاك و قد أرى
مكان البكا لكن بنيت على الصبر

لمقتل عبد الله و الهالك الذي‏
على الشرف الأعلى قتيل أبي بكر

و عبد يغوث تحجل الطير حوله
و جل مصابا جثو قبر على قبر

فأما ترينا لا تزال دماؤنا
لدى واتر يسعى بها آخر الدهر

فإنا للحم السيف غير نكيرة
و نلحمه طورا و ليس بذي نكر

يغار علينا واترين فيشتفى‏
بنا إن أصبنا أو نغير على وتر

بذاك قسمنا الدهر شطرين بيننا
فما ينقضي إلا و نحن على شطر

قال المفضل ثم ظهرت لنا جيوش أبي جعفر مثل الجراد- فتمثل إبراهيم ع قوله-

إن يقتلوني لا تصب أرماحهم
ثأري و يسعى القوم سعيا جاهدا

نبئت أن بني جذيمة أجمعت‏
أمرا تدبره لتقتل خالدا

أرمي الطريق و إن رصدت بضيقه
و أنازل البطل الكمي الحاردا

فقلت له من يقول هذا الشعر يا ابن رسول الله- فقال يقوله خالد بن جعفر بن كلاب يوم شعب جبلة- و هذا اليوم الذي لقيت فيه قيس تميما- قال و أقبلت عساكر أبي جعفر فطعن رجلا و طعنه آخر- فقلت له أ تباشر القتال بنفسك- و إنما العسكر منوط بك- فقال إليك يا أخا بني ضبة- فإني لكما قال عويف القوافي-

ألمت سعاد و إلمامها
أحاديث نفس و أحلامها

محجبة من بني مالك‏
تطاول في المجد أعلامها

و إن لنا أصل جرثومة
ترد الحوادث أيامها

ترد الكتيبة مفلولة
بها أفنها و بها ذامها

و التحمت الحرب و اشتدت- فقال يا مفضل احكني بشي‏ء- فذكرت أبياتا لعويف القوافي- لما كان ذكره هو من شعره فأنشدته-

ألا أيها الناهي فزارة بعد ما
أجدت لسير إما أنت ظالم‏

أبى كل حر أن يبيت بوتره‏
و تمنع منه النوم إذ أنت نائم‏

أقول لفتيان كرام تروحوا
على الجرد في أفواههن الشكائم‏

قفوا وقفة من يحي لا يخز بعدها
و من يخترم لا تتبعه اللوائم‏

و هل أنت إن باعدت نفسك عنهم
لتسلم فيما بعد ذلك سالم‏

فقال أعد و تبينت من وجهه أنه يستقتل فانتهبت- و قلت أو غير ذلك- فقال لا بل أعد الأبيات فأعدتها- فتمطى في ركابيه فقطعهما- و حمل فغاب عني و أتاه سهم عائر فقتله- و كان آخر عهدي به ع- قلت في هذا الخبر ما يحتاج إلى تفسير أما قوله- إن بنا سورة من الغلق‏- . فالغلق الضجر و ضيق الصدر و الحدة- يقال احتد فلان فنشب في حدته و غلق- و السورة الوثوب- يقال إن لغضبه لسورة و إنه لسوار أي وثاب معربد و سورة الشراب وثوبه في الرأس- و كذلك سورة السم و سورة السلطان سطوته و اعتداؤه- . و أما قوله لمثلكم نحمل السيوف- فمعناه أن غيركم ليس بكف‏ء لنا- لنحمل له السيوف و إنما نحملها لكم لأنكم أكفاؤنا- فنحن نحاربكم على الملك و الرئاسة- و إن كانت أحسابنا واحدة- و هي شريفة لا مغمز فيها- .و الرقق بفتح الراء الضعف و منه قول الشاعر-

لم تلق في عظمها وهنا و لا رققا

و قوله-

تكحل يوم الهياج بالعلق‏

فالعلق الدم- يريد أن عيونهم حمر لشدة الغيظ و الغضب- فكأنها كحلت بالدم- . و قوله لكن بنيت على الصبر- أي خلقت و بنيت بنية تقتضي الصبر- و الشرف لأعلى العالي- و بنو أبي بكر بن كلاب من قيس عيلان- ثم أحد بني عامر بن صعصعة- . و أما قوله- إن يقتلوني لا تصب أرماحهم‏- . فمعناه أنهم إن قتلوني- ثم حاولوا أن يصيبوا رجلا آخر مثلي- يصلح أن يكون لي نظيرا- و أن يجعل دمه بواء لدمي- و سعوا في ذلك سعيا جاهدا- فإنهم لم يجدوا و لم يقدروا عليه- . و قوله أرمي الطريق… البيت- يقول أسلك الطريق الضيق- و لو جعل علي فيه الرصد لقتلي- . و الحارد المنفرد في شجاعته الذي لا مثل له غلبة معاوية على الماء بصفين ثم غلبة علي عليه بعد ذلك فأما حديث الماء- و غلب أصحاب معاوية على شريعة الفرات بصفين- فنحن نذكره من كتاب صفين لنصر بن مزاحم- .

قال نصر كان أبو الأعور السلمي على مقدمة معاوية- و كان قد ناوش مقدمةعلي ع- و عليها الأشتر النخعي مناوشة ليست بالعظيمة- و قد ذكرنا ذلك فيما سبق من هذا الكتاب- و انصرف أبو الأعور عن الحرب راجعا فسبق إلى الماء- فغلب عليه في الموضع المعروف بقناصرين- إلى جانب صفين و ساق الأشتر يتبعه- فوجده غالبا على الماء- و كان في أربعة آلاف من مستبصري أهل العراق- فصدموا أبا الأعور و أزالوه عن الماء- فأقبل معاوية في جميع الفيلق بقضه و قضيضه- فلما رآهم الأشتر انحاز إلى علي ع- و غلب معاوية و أهل الشام على الماء- و حالوا بين أهل العراق و بينه- و أقبل علي ع في جموعه- فطلب موضعا لعسكره- و أمر الناس أن يضعوا أثقالهم- و هم أكثر من مائة ألف فارس فلما نزلوا- تسرع فوارس من فوارس علي ع على خيولهم إلى جهة معاوية- يتطاعنون و يرمون بالسهام و معاوية بعد لم ينزل- فناوشهم أهل الشام القتال فاقتتلوا هويا- . قال نصر فحدثني عمر بن سعد- عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباته- فكتب معاوية إلى علي ع عافانا الله و إياك-

ما أحسن العدل و الإنصاف من عمل
و أقبح الطيش ثم النفش في الرجل‏

 و كتب بعده-

اربط حمارك لا تنزع سويته
إذا يرد و قيد العير مكروب‏

ليست ترى السيد زيدا في نفوسهم‏
كما يراه بنو كوز و مرهوب‏

إن تسألوا الحق نعط الحق سائله
و الدرع محقبة و السيف مقروب‏

أو تأنفون فإنا معشر أنف‏
لا نطعم الضيم إن السم مشروب‏

فأمر علي ع أن يوزع الناس عن القتال- حتى أخذ أهل الشام مصافهم- ثم قال أيها الناس إن هذا موقف- من نطف فيه نطف يوم القيامة- و من فلج فيه فلج يوم القيامة ثم قال لما رأى نزول معاوية بصفين‏

لقد أتانا كاشرا عن نابه
يهمط الناس على اعتزابه‏
فليأتينا الدهر بما أتى به‏

قال نصر و كتب علي ع إلى معاوية جواب كتابه أما بعد-

فإن للحرب عراما شررا
إن عليها قائدا عشنزرا

ينصف من أحجر أو تنمرا
على نواحيها مزجا زمجرا
إذا ونين ساعة تغشمرا

و كتب بعده-

أ لم تر قومي إن دعاهم أخوهم
أجابوا و إن يغضب على القوم يغضبوا

هم حفظوا غيبي كما كنت حافظا
لقومي أخرى مثلها إن يغيبوا

بنو الحرب لم تقعد بهم أمهاتهم
و آباؤهم آباء صدق فأنجبوا

قال قد تراجع الناس كل من الفريقين إلى معسكرهم- و ذهب شباب من الناس إلى أن يستقوا- فمنعهم أهل الشام- . قلت في هذه الألفاظ ما ينبغي أن يشرح- .

قوله فاقتتلوا هويا بفتح الهاء- أي قطعة من الزمان و ذهب هوي من الليل أي فريق منه- . و النفش كثرة الكلام و الدعاوي و أصله من نفش الصوف- . و السوية كساء محشو بثمام و نحوه كالبرذعة- و كرب القيد إذا ضيقه على المقيد- و قيد مكروب أي ضيق- يقول لا تنزع برذعة حمارك عنه و اربطه و قيده- و إلا أعيد إليك و قيده ضيق- و هذا مثل ضربه لعلي ع- يأمره فيه بأن يردع جيشه عن التسرع و العجلة في الحرب- . و زيد المذكور في الشعر- هو زيد بن حصين بن ضرار بن عمرو بن مالك- بن زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر- بن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة- بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان- و هو المعروف بزيد الخيل و كان فارسهم- و بنو السيد من ضبة أيضا- و هم بنو السيد بن مالك بن بكر بن سعد- بن ضبة بن أد بن طابخة… إلى آخر النسب- و بنو السيد بنو عم زيد الفوارس – لأنه من بني ذهل بن مالك- و هؤلاء بنو السيد بن مالك و بينهم عداوة النسب- يقول إن بني السيد لا يرون زيدا في نفوسهم- كما تراه أهله الأدنون منه نسبا- و هم بنو كوز و بنو مرهوب- فأما بنو كوز- فإنهم بنو كوز بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك- و أما بنو مرهوب – فإنهم بنو مرهوب بن عبيد بن هاجر- بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك- يقول نحن لا نعظم زيدا- و لا نعتقد فيه من الفضيلة- ما يعتقده أهله و بنو عمه الأدنون- و المثل لعلي ع- أي نحن لا نرى في علي- ما يراه أهل العراق من تعظيمه و تبجيله- . و قوله-

و الدرع محقبة و السيف مقروب‏

 أي و الدرع بحالها في حقابها و هو ما يشد به في غلافها- و السيف بحاله أي في قرابه‏و هو جفنه- يقال حقبت الدرع و قربت السيف كلاهما ثلاثيان- يقول إن سألتم الحق- أعطيناكموه من غير حاجة إلى الحرب- بل نجيبكم إليه و الدروع بحالها لم تلبس- و السيوف في أجفانها لم تشهر- . و أما إثبات النون في تأنفون- فإن الأصوب حذفها لعطف الكلمة على المجزوم قبلها- و لكنه استأنف و لم يعطف- كأنه قال أ و كنتم تأنفون- يقول و إن أنفتم و أبيتم إلا الحرب- فإنا نأنف مثلكم أيضا- لا نطعم الضيم و لا نقبله- ثم قال إن السم مشروب- أي إن السم قد نشربه و لا نشرب الضيم- أي نختار الموت على الضيم و الذلة و يروى-

و إن أنفتم فإنا معشر أنف
لا نطعم الضيم إن الضيم مرهوب‏

 و الشعر لعبد الله بن عنمة الضبي- من بني السيد و من جملته-

و قد أروح أمام الحي يقدمني
صافي الأديم كميت اللون منسوب‏

محنب مثل شاة الربل محتفز
بالقصريين على أولاه مصبوب‏

يبذ ملجمه هاد له تلع
كأنه من جذوع العين مشذوب‏

فذاك ذخري إذا ما خيلهم ركضت‏
إلى المثوب أو مقاء سرحوب‏

فأما قوله ع- هذا موقف من نطف فيه نطف يوم القيامة- أي من تلطخ‏ فيه بعيب من فرار أو نكول عن العدو- يقال نطف فلان بالكسر إذا تدنس بعيب- و نطف أيضا إذا فسد- يقول من فسدت حاله اليوم في هذا الجهاد- فسدت حاله غدا عند الله- . قوله من فلج فيه بفتح اللام- أي من ظهر و فاز- و كذلك يكون غدا عند الله- يقال فلج زيد على خصمه بالفتح يفلج بضم اللام- أي ظهرت حجته عليه- و في المثل من يأت الحكم وحده يفلج- . قوله يهمط الناس أي يقهرهم و يخبطهم- و أصله الأخذ بغير تقدير- .

و قوله على اعتزابه- أي على بعده عن الإمارة و الولاية على الناس- و العرام بالضم الشراسة و الهوج- و العشنزر الشديد القوي- . و أحجر ظلم الناس حتى ألجأهم- إلى أن دخلوا حجرهم أو بيوتهم- و تنمر أي تنكر حتى صار كالنمر- يقول هذا القائد الشديد القوي- ينصف من يظلم الناس و يتنكر لهم أي ينصف منه- فحذف حرف الجر كقوله وَ اخْتارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ أي من قومه- و المزج بكسر الميم السريع النفوذ- و أصله الرمح القصير كالمزراق- . و رجل زمجر أي مانع حوزته و الميم زائدة- و من رواها زمخرا بالخاء- عنى به المرتفع العالي الشأن- و جعل الميم زائدة أيضا- من زخر الوادي أي علا و ارتفع- . و غشمر السيل أقبل- و الغشمرة إثبات الأمر بغير تثبيت- يقول إذا أبطأن ساقهن سوقا عنيفا- . و الأبيات البائية لربيعة بن مقروم الطائي- .

قال نصر حدثنا عمر بن سعد- عن يوسف بن يزيد- عن عبد الله بن عوف بن‏الأحمر- قال لما قدمنا على معاوية و أهل الشام بصفين- وجدناهم قد نزلوا منزلا- اختاروه مستويا بساطا واسعا- و أخذوا الشريعة فهي في أيديهم- و قد صف عليها أبو الأعور الخيل و الرجالة- و قدم الرامية و معهم أصحاب الرماح و الدرق- و على رءوسهم البيض و قد أجمعوا أن يمنعونا الماء- ففزعنا إلى أمير المؤمنين ع فأخبرناه بذلك- فدعا صعصعة بن صوحان- فقال ائت معاوية و قل له- إنا سرنا إليك مسيرنا هذا- و أنا كره لقتالكم قبل الإعذار إليكم- و إنك قدمت خيلك- فقاتلتنا قبل أن نقاتلك و بدأتنا بالحرب- و نحن ممن رأينا الكف حتى ندعوك و نحتج عليك- و هذه أخرى قد فعلتموها- قد حلتم بين الناس و بين الماء- فخل بينهم و بينه حتى ننظر فيما بيننا و بينكم- و فيما قدمنا له و قدمتم له- و إن كان أحب إليك أن ندع ما جئنا له- و ندع الناس يقتتلون- حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا – . فلما مضى صعصعة برسالته إلى معاوية- قال معاوية لأصحابه ما ترون- فقال الوليد بن عقبة أمنعهم الماء كما منعوه ابن عفان- حصروه أربعين يوما يمنعونه برد الماء و لين الطعام- أقتلهم عطشا قتلهم الله- .

و قال عمرو بن العاص خل بين القوم و بين الماء- فإنهم لن يعطشوا و أنت ريان- و لكن لغير الماء فانظر فيما بينك و بينهم- . فأعاد الوليد مقالته- . و قال عبد الله بن سعيد بن أبي سرح- و كان أخا عثمان من الرضاعة- أمنعهم الماء إلى الليل- فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا- و كان رجوعهم هزيمتهم- أمنعهم الماء منعهم‏ الله يوم القيامة- فقال صعصعة بن صوحان- إنما يمنعه الله يوم القيامة الفجرة الكفرة- شربة الخمر ضربك و ضرب هذا الفاسق- يعني الوليد بن عقبة- . فتواثبوا إليه يشتمونه و يتهددونه- فقال معاوية كفوا عن الرجل فإنما هو رسول- . قال عبد الله بن عوف بن أحمر- إن صعصعة لما رجع إلينا حدثنا بما قال معاوية- و ما كان منه و ما رده عليه- قلنا و ما الذي رده عليك معاوية- قال لما أردت الانصراف من عنده- قلت ما ترد علي قال سيأتيكم رأيي- قال فو الله ما راعنا إلا تسوية الرجال و الصفوف و الخيل- فأرسل إلى أبي الأعور امنعهم الماء- فازدلفنا و الله إليهم فارتمينا و أطعنا بالرماح- و اضطربنا بالسيوف- فطال ذلك بيننا و بينهم حتى صار الماء في أيدينا- فقلنا لا و الله لا نسقيهم- فأرسل إلينا علي ع أن خذوا من الماء حاجتكم- و ارجعوا إلى معسكركم و خلوا بينهم و بين الماء- فإن الله قد نصركم عليهم بظلمهم و بغيهم – .

و روى نصر بن محمد بن عبد الله قال- قام ذلك اليوم رجل من أهل الشام من السكون- يعرف بالشليل بن عمر إلى معاوية فقال-

اسمع اليوم ما يقول الشليل
إن قولي قول له تأويل‏

امنع الماء من صحاب علي‏
أن يذوقوه فالذليل ذليل‏

و اقتل القوم مثل ما قتل الشيخ
صدى فالقصاص أمر جميل‏

إننا و الذي تساق له البدن‏
هدايا كأنهن الفيول‏

لو علي و صحبه وردوا الماء
لما ذقتموه حتى تقولوا

قد رضينا بأمركم و علينا
بعد ذاك الرضا جلاد ثقيل‏

فامنع القوم ماءكم ليس للقوم‏
بقاء و إن يكن فقليل‏

فقال معاوية أما أنت فندري ما تقول و هو الرأي- و لكن عمرا لا يدري- فقال عمرو خل بينهم و بين الماء- فإن عليا لم يكن ليظمأ و أنت ريان- و في يده أعنة الخيل- و هو ينظر إلى الفرات حتى يشرب أو يموت- و أنت تعلم أنه الشجاع المطرق- و معه أهل العراق و أهل الحجاز- و قد سمعته أنا مرارا و هو يقول لو استمكنت من أربعين رجلا يعني في الأمر الأول- .

و روى نصر- قال لما غلب أهل الشام على الفرات فرحوا بالغلبة- و قال معاوية يا أهل الشام هذا و الله أول الظفر- لا سقاني الله و لا أبا سفيان- أن شربوا منه أبدا حتى يقتلوا بأجمعهم عليه- و تباشر أهل الشام- فقام إلى معاوية رجل من أهل الشام همداني- ناسك يتأله و يكثر العبادة- يعرف بمعري بن أقبل- و كان صديقا لعمرو بن العاص و أخا له- فقال يا معاوية سبحان الله- لأن سبقتم القوم إلى الفرات فغلبتموهم عليه- تمنعوهم الماء- أما و الله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه- أ ليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات- فينزلوا على فرضة أخرى و يجازوكم بما صنعتم- أ ما تعلمون أن فيهم العبد و الأمة و الأجير و الضعيف- و من لا ذنب له- هذا و الله أول الجور- لقد شجعت الجبان و نصرت المرتاب- و حملت من لا يريد قتالك على كتفيك- فأغلظ له معاوية- و قال لعمرو اكفني صديقك- فأتاه عمرو فأغلظ له- فقال الهمداني في ذلك شعرا-

لعمر أبي معاوية بن حرب
و عمرو ما لدائمها دواء

سوى طعن يحار العقل فيه
و ضرب حين تختلط الدماء

و لست بتابع دين ابن هند
طوال الدهر ما أرسى حراء

لقد ذهب العتاب فلا عتاب
و قد ذهب الولاء فلا ولاء

و قولي في حوادث كل خطب‏
على عمرو و صاحبه العفاء

ألا لله درك يا ابن هند
لقد برح الخفاء فلا خفاء

أ تحمون الفرات على رجال‏
و في أيديهم الأسل الظماء

و في الأعناق أسياف حداد
كأن القوم عندهم نساء

أ ترجو أن يجاوركم علي‏
بلا ماء و للأحزاب ماء

دعاهم دعوة فأجاب قوم
كجرب الإبل خالطها الهناء

قال ثم سار الهمداني في سواد الليل حتى لحق بعلي ع- . قال و مكث أصحاب علي ع بغير ماء- و اغتم علي ع بما فيه أهل العراق- . قال نصر و حدثنا محمد بن عبد الله عن الجرجاني- قال لما اغتم علي بما فيه أهل العراق من العطش- خرج ليلا قبل رايات مذحج- فإذا رجل ينشد شعرا-

أ يمنعنا القوم ماء الفرات
و فينا الرماح و فينا الحجف‏

و فينا الشوازب مثل الوشيج‏
و فينا السيوف و فينا الزغف‏

و فينا علي له سورة
إذا خوفوه الردى لم يخف‏

و نحن الذين غداة الزبير
و طلحة خضنا غمار التلف‏

فما بالنا أمس أسد العرين
و ما بالنا اليوم شاء النجف‏

فما للعراق و ما للحجاز
سوى الشام خصم فصكوا الهدف‏

و ثوروا عليهم كبزل الجمال
دوين الذميل و فوق القطف‏

فإما تفوزوا بماء الفرات‏
و منا و منهم عليه جيف‏

و إما تموتوا على طاعة
تحل الجنان و تحبو الشرف‏

و إلا فأنتم عبيد العصا
و عبد العصا مستذل نطف‏

قال فحرك ذلك عليا ع ثم مضى إلى رايات كندة- فإذا إنسان ينشد إلى جانب منزل الأشعث و هو يقول-

لئن لم يجل الأشعث اليوم كربة
من الموت فيها للنفوس تعنت‏

فنشرب من ماء الفرات بسيفه‏
فهبنا أناسا قبل ذاك فموتوا

فإن أنت لم تجمع لنا اليوم أمرنا
و تنض التي فيها عليك المذلة

فمن ذا الذي تثني الخناصر باسمه
سواك و من هذا إليه التلفت‏

و هل من بقاء بعد يوم و ليلة
نظل خفوتا و العدو يصوت‏

هلموا إلى ماء الفرات و دونه
صدور العوالي و الصفيح المشتت‏

و أنت امرؤ من عصبة يمنية
و كل امرئ من سنخه حين ينبت‏

قال فلما سمع الأشعث قول الرجل قام فأتى عليا ع- فقال يا أمير المؤمنين- أ يمنعنا القوم ماء الفرات و أنت فينا- و السيوف في أيدينا- خل عنا و عن القوم- فو الله لا نرجع حتى نرده أو نموت- و مر الأشتر فليعل بخيله و يقف حيث تأمره- فقال علي ع ذلك إليكم- . فرجع الأشعث فنادى في الناس- من كان يريد الماء أو الموت فميعاده موضع كذا- فإني ناهض- فأتاه اثنا عشر ألفا من كندة و أفناء قحطان- واضعي سيوفهم على عواتقهم- فشد عليه سلاحه و نهض بهم- حتى كاد يخالط أهل الشام و جعل يلقي رمحه-

و يقول لأصحابه بأبي و أمي أنتم- تقدموا إليهم قاب رمحي هذا- فلم يزل ذلك دأبه حتى خالط القوم و حسر عن رأسه و نادى أنا الأشعث بن قيس خلوا عن الماء- فنادى أبو الأعور- أما و الله حتى لا تأخذنا و إياكم السيوف- فقال الأشعث‏ قد و الله أظنها دنت منا و منكم- و كان الأشتر قد تعالى بخيله حيث أمره علي- فبعث إليه الأشعث أقحم الخيل- فأقحمها حتى وضعت سنابكها في الفرات- و أخذت أهل الشام السيوف فولوا مدبرين- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن جابر عن أبي جعفر و زيد بن الحسن- قال فنادى الأشعث عمرو بن العاص- فقال ويحك يا ابن العاص خل بيننا و بين الماء- فو الله لئن لم تفعل لتأخذنا و إياكم السيوف- فقال عمرو و الله لا نخلي عنه حتى تأخذنا السيوف و إياكم- فيعلم ربنا أينا أصبر اليوم- فترجل الأشعث و الأشتر- و ذوو البصائر من أصحاب علي ع- و ترجل معهما اثنا عشر ألفا- فحملوا على عمرو و أبي الأعور و من معهما من أهل الشام- فأزالوهم عن الماء- حتى غمست خيل علي ع سنابكها في الماء- .

قال نصر فروى عمر بن سعد أن عليا ع قال ذلك اليوم هذا يوم نصرتم فيه بالحمية – . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر- قال سمعت تميما الناجي يقول سمعت الأشعث يقول- حال عمرو بن العاص بيننا و بين الفرات- فقلت له ويحك يا عمرو- أما و الله إن كنت لأظن لك رأيا- فإذا أنت لا عقل لك أ ترانا نخليك و الماء- تربت يداك أ ما علمت أنا معشر عرب- ثكلتك أمك و هبلتك لقد رمت أمرا عظيما- فقال لي عمرو أما و الله لتعلمن اليوم- أنا سنفي بالعهد و نحكم العقد- و نلقاكم‏ بصبر و جد- فنادى به الأشتر يا ابن العاص- أما و الله لقد نزلنا هذه الفرضة- و إنا لنريد القتال على البصائر و الدين- و ما قتالنا سائر اليوم إلا حمية- . ثم كبر الأشتر و كبرنا معه و حملنا- فما ثار الغبار حتى انهزم أهل الشام- . قالوا فلقي عمرو بن العاص بعد انقضاء صفين الأشعث- فقال له يا أخا كندة- أما و الله لقد أبصرت صواب قولك يوم الماء- و لكن كنت مقهورا على ذلك الرأي- فكابرتك بالتهدد و الوعيد و الحرب خدعة- .

قال نصر- و لقد كان من رأي عمرو التخلية بين أهل العراق و الماء- و رجع معاوية بأخرة إلى قوله بعد اختلاط القوم في الحرب- فإن عمرا فيما روينا أرسل إلى معاوية- أن خل بين القوم و بين الماء- أ ترى القوم يموتون عطشا و هم ينظرون إلى الماء- فأرسل معاوية إلى يزيد بن أسد القسري- أن خل بين القوم و بين الماء يا أبا عبد الله- فقال يزيد و كان شديد العثمانية- كلا و الله لنقتلنهم عطشا كما قتلوا أمير المؤمنين- .

قال فحدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال خطب علي ع يوم الماء فقال أما بعد فإن القوم قد بدءوكم بالظلم و فاتحوكم بالبغي- و استقبلوكم بالعدوان- و قد استطعموكم القتال حيث منعوكم الماء- فأقروا على مذلة و تأخير مهلة – … الفصل إلى آخره- . قال نصر و كان قد بلغ أهل الشام- أن عليا ع جعل للناس إن فتح الشام- أن يقسم بينهم التبر و الذهب و هما الأحمران- و أن يعطي كلا منهم خمسمائة كما أعطاهم بالبصرة- فنادى ذلك اليوم منادي أهل الشام- يا أهل العراق لما ذا نزلتم بعجاج‏ من الأرض- نحن أزد شنوءة لا أزد عمان يا أهل العراق-

لا خمس إلا جندل الأحرين
و الخمس قد تجشمك الأمرين‏

قال نصر فحدثني عمرو بن شمر- عن إسماعيل السدي عن بكر بن تغلب- قال حدثني من سمع الأشعث يوم الفرات- و قد كان له غناء عظيم من أهل العراق- و قتل رجالا من أهل الشام بيده- و هو يقول و الله إن كنت لكارها قتال أهل الصلاة- و لكن معي من هو أقدم مني في الإسلام- و أعلم بالكتاب و السنة فهو الذي يسخي بنفسه- .قال نصر و حمل ظبيان بن عمارة التميمي على أهل الشام- و هو يقول

هل لك يا ظبيان من بقاء
في ساكني الأرض بغير ماء

لا و إله الأرض و السماء
فاضرب وجوه الغدر الأعداء

بالسيف عند حمس الهيجاء
حتى يجيبوك إلى السواء

 قال فضربهم و الله حتى خلوا له الماء- . قال نصر و دعا الأشتر بالحارث بن همام النخعي- ثم الصهباني فأعطاه لواءه- و قال له يا حارث لو لا أني أعلم أنك تصبر عند الموت لأخذت لوائي منك- و لم أحبك بكرامتي- فقال و الله يا مالك لأسرنك أو لأموتن فاتبعني- ثم تقدم باللواء و ارتجز فقال-

يا أخا الخيرات يا خير النخع
و صاحب النصر إذا عم الفزع‏

و كاشف الخطب إذا الأمر وقع‏
ما أنت في الحرب العوان بالجذع‏

قد جزع القوم و عموا بالجزع
و جرعوا الغيظ و غصوا بالجرع‏

إن تسقنا الماء فليست بالبدع‏
أو نعطش اليوم فجند مقتطع‏

ما شئت خذ منها و ما شئت فدع‏

فقال الأشتر ادن مني يا حارث- فدنا منه فقبل رأسه- فقال لا يتبع رأسه اليوم إلا خير- ثم صاح الأشتر في أصحابه فدتكم نفسي- شدوا شدة المحرج الراجي للفرج- فإذا نالتكم الرماح فالتووا فيها- فإذا عضتكم السيوف فليعض الرجل على نواجذه- فإنه أشد لشئون الرأس- ثم استقبلوا القوم بهامكم- .

قال و كان الأشتر يومئذ على فرس له محذوف أدهم- كأنه حلك الغراب- و قتل بيده من أهل الشام من فرسانهم و صناديدهم سبعة- صالح بن فيروز العكي- و مالك بن أدهم السلماني- و رياح بن عتيك الغساني- و الأجلح بن منصور الكندي- و كان فارس أهل الشام- و إبراهيم بن وضاح الجمحي- و زامل بن عبيد الحزامي- و محمد بن روضة الجمحي- . قال نصر- فأول قتيل قتله الأشتر بيده ذلك اليوم صالح بن فيروز- ارتجز على الأشتر و قال له-

يا صاحب الطرف الحصان الأدهم
أقدم إذا شئت علينا أقدم‏

أنا ابن ذي العز و ذي التكرم‏
سيد عك كل عك فاعلم‏

قال و كان صالح مشهورا بالشدة و البأس- فارتجز عليه الأشتر فقال له-

أنا ابن خير مذحج مركبا
و خيرها نفسا و أما و أبا

آليت لا أرجع حتى أضربا
بسيفي المصقول ضربا معجبا

ثم شد عليه فقتله- فخرج إليه مالك بن أدهم السلماني- و هو من مشهوريهم أيضا- فحمل على الأشتر بالرمح- فلما رهقه التوى الأشتر على فرسه و مار السنان فأخطأه- ثم استوى على فرسه- و شد على الشامي فقتله طعنا بالرمح- ثم قتل بعده رياح بن عقيل و إبراهيم بن وضاح- ثم برز إليه زامل بن عقيل و كان فارسا- فطعن الأشتر في موضع الجوشن فصرعه عن فرسه- و لم يصب مقتلا و شد عليه الأشتر بالسيف راجلا- فكشف قوائم فرسه و ارتجز عليه فقال-

لا بد من قتلي أو من قتلكا
قتلت منكم أربعا من قبلكا
كلهم كانوا حماة مثلكا

ثم ضربه بالسيف و هما راجلان فقتله- ثم خرج إليه محمد بن روضة- فقال و هو يضرب في أهل العراق ضربا منكرا-

يا ساكني الكوفة يا أهل الفتن
يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن‏

أورث قلبي قتله طول الحزن‏
أضربكم و لا أرى أبا حسن‏

فشد عليه الأشتر فقتله و قال-

لا يبعد الله سوى عثمانا
و أنزل الله بكم هوانا
و لا يسلى عنكم الأحزانا

ثم برز إليه الأجلح بن منصور الكندي- و كان من شجعان العرب و فرسانها- و هو على فرس له اسمه لاحق فلما استقبله الأشتر- كره لقاءه و استحيا أن يرجع عنه فتضاربا بسيفيهما- فسبقه الأشتر بالضربة فقتله- فقالت أخته ترثيه-

ألا فابكي أخا ثقة
فقد و الله أبكينا

لقتل الماجد القمقام‏
لا مثل له فينا

أتانا اليوم مقتله
فقد جزت نواصينا

كريم ماجد الجدين‏
يشفي من أعادينا

شفانا الله من أهل
العراق فقد أبادونا

أ ما يخشون ربهم‏
و لم يرعوا له دينا

قال و بلغ شعرها عليا ع-فقال أما إنهن ليس بملكهن ما رأيتم من الجزع- أما إنهم قد أضروا بنسائهم- فتركوهن أيامى حزانى بائسات- قاتل الله معاوية- اللهم حمله آثامهم و أوزارا و أثقالا مع أثقاله- اللهم لا تعف عنه – . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن جابر عن الشعبي عن الحارث بن أدهم- و عن صعصعة- قال أقبل الأشتر يوم الماء- فضرب بسيفه جمهور أهل الشام حتى كشفهم عن الماء- و هو يقول

لا تذكروا ما قد مضى وفاة
و الله ربي الباعث الأمواتا

من بعد ما صاروا كذا رفاتا
لأوردن خيلي الفراتا
شعث النواصي أو يقال ماتا

قال و كان لواء الأشعث بن قيس مع معاوية بن الحارث- فقال له الأشعث لله أبوك- ليست النخع بخير من كندة- قدم لواءك فإن الحظ لمن سبق- فتقدم لواء الأشعث- و حملت الرجال بعضها على بعض- و حمل في ذلك اليوم أبو الأعور السلمي- و حمل الأشتر عليه فلم ينتصف أحدهما من صاحبه- و حمل شرحبيل بن السمط على الأشعث فكانا كذلك- و حمل حوشب ذو ظليم على الأشعث أيضا- و انفصلا و لم ينل أحدهما من صاحبه أمرا- فما زالوا كذلك حتى انكشف أهل الشام عن الماء- و ملك أهل العراق المشرعة- . قال نصر فحدثنا محمد بن عبد الله عن الجرجاني- قال قال عمرو بن العاص لمعاوية لما ملك أهل العراق الماء- ما ظنك يا معاوية بالقوم- إن منعوك اليوم الماء كما منعتهم‏ أمس- أ تراك تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه- ما أغنى عنك أن تكشف لهم السوأة- فقال معاوية دع عنك ما مضى فما ظنك بعلي- قال ظني أنه لا يستحل منك ما استحللت منه- و أن الذي جاء له غير الماء- قال فقال له معاوية قولا أغضبه- فقال عمرو

أمرتك أمرا فسخفته
و خالفني ابن أبي سرحة

و أغمضت في الرأي إغماضة
و لم تر في الحرب كالفسحة

فكيف رأيت كباش العراق
أ لم ينطحوا جمعنا نطحة

فإن ينطحونا غدا مثلها
نكن كالزبيري أو طلحة

أظن لها اليوم ما بعدها
و ميعاد ما بيننا صبحه‏

و إن أخروها لما بعدها
فقد قدموا الخبط و النفحة

و قد شرب القوم ماء الفرات
و قلدك الأشتر الفضحة

قال نصر فقال أصحاب علي ع له- امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك فقال لا- خلوا بينهم و بينه لا أفعل ما فعله الجاهلون- سنعرض عليهم كتاب الله و ندعوهم إلى الهدى- فإن أجابوا و إلا ففي حد السيف ما يغني إن شاء الله – . قال فو الله ما أمسى الناس- حتى رأوا سقاتهم و سقاة أهل الشام و رواياهم و روايا أهل الشام- يزدحمون على الماء- ما يؤذي إنسان إنسانا

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 3   

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.