25: و من خطبة له ع
و قد تواترت عليه الأخبار- باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد – و قدم عليه عاملاه على اليمن- و هما عبيد الله بن عباس و سعيد بن نمران- لما غلب عليهما بسر بن أرطاة- فقام ع على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد- و مخالفتهم له في الرأي- فقال مَا هِيَ إِلَّا الْكُوفَةُ أَقْبِضُهَا وَ أَبْسُطُهَا- إِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْتِ تَهُبُّ أَعَاصِيرُكِ فَقَبَّحَكِ اللَّهُ- وَ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ-
لَعَمْرُ أَبِيكَ الْخَيْرِ يَا عَمْرُو إِنَّنِي
عَلَى وَضَرٍ مِنْ ذَا الْإِنَاءِ قَلِيلِ
ثُمَّ قَالَ ع أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الْيَمَنَ- وَ إِنِّي وَ اللَّهِ لَأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ- بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ- وَ بِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي الْحَقِّ وَ طَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي الْبَاطِلِ- وَ بِأَدَائِهِمُ الْأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَ خِيَانَتِكُمْ- وَ بِصَلَاحِهِمْ فِي بِلَادِهِمْ وَ فَسَادِكُمْ- فَلَوِ ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْبٍ- لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلَاقَتِهِ- اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَ مَلُّونِي وَ سَئِمْتُهُمْ وَ سَئِمُونِي- فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ
وَ أَبْدِلْهُمْ بِي شَرّاً مِنِّي- اللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ- أَمَا وَ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُمْ أَلْفَ فَارِسٍ- مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ-
هُنَالِكَ لَوْ دَعَوْتَ أَتَاكَ مِنْهُمْ
فَوَارِسُ مِثْلُ أَرْمِيَةِ الْحَمِيمِ
– ثُمَّ نَزَلَ ع مِنَ الْمِنْبَرِ قال الرضي رحمه الله- أقول الأرمية جمع رمي و هو السحاب- و الحميم هاهنا وقت الصيف- و إنما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر- لأنه أشد جفولا و أسرع خفوقا لأنه لا ماء فيه- و إنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء- و ذلك لا يكون في الأكثر إلا زمان الشتاء- و إنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا- و الإغاثة إذا استغيثوا- و الدليل على ذلك قوله
هنالك لو دعوت أتاك منهم
تواترات عليه الأخبار مثل ترادفت و تواصلت- الناس من يطعن في هذا و يقول- التواتر لا يكون إلا مع فترات بين أوقات الإتيان- و منه قوله سبحانه ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا- ليس المراد أنهم مترادفون بل بين كل نبيين فترة- قالوا و أصل تترى من الواو- و اشتقاقها من الوتر و هو الفرد- و عدوا هذا الموضع مما تغلط فيه الخاصة.
نسب معاوية بن أبي سفيان و ذكر بعض أخباره
و معاوية هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان- صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي- . و أمه هند بنت عتبة بن ربيعة- بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي- و هي أم أخيه عتبة بن أبي سفيان- فأما يزيد بن أبي سفيان و محمد بن أبي سفيان- و عنبسة بن أبي سفيان و حنظلة بن أبي سفيان- و عمرو بن أبي سفيان- فمن أمهات شتى- . و أبو سفيان هو الذي قاد قريشا في حروبها إلى النبي ص- و هو رئيس بني عبد شمس بعد قتل عتبة بن ربيعة ببدر- ذاك صاحب العير و هذا صاحب النفير- و بهما يضرب المثل- فيقال للخامل لا في العير و لا في النفير- . و روى الزبير بن بكار- أن عبد الله بن يزيد بن معاوية- جاء إلى أخيه خالد بن يزيد في أيام عبد الملك- فقال لقد هممت اليوم يا أخي- أن أفتك بالوليد بن عبد الملك- قال بئسما هممت به في ابن أمير المؤمنين- و ولي عهد المسلمين- فما ذاك- قال إن خيلي مرت به فعبث بها و أصغرني- فقال خالد أنا أكفيك- فدخل على عبد الملك و الوليد عنده- فقال يا أمير المؤمنين- إن الوليد مرت به خيل ابن عمه عبد الله- فعبث بها و أصغره- و كان عبد الملك مطرقا فرفع رأسه- و قال إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها- وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ- فقال خالد وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها- فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً- فقال عبد الملك أ في عبد الله تكلمني- و الله لقد دخل أمس علي فما أقام لسانه لحنا-
قال خالد أ فعلى الوليد تعول يا أمير المؤمنين- قال عبد الملك إن كان الوليد يلحن فإن أخاه سليمان لا- فقال خالد و إن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالدا لا- فالتفت الوليد إلى خالد و قال له اسكت ويحك- فو الله ما تعد في العير و لا في النفير- فقال اسمع يا أمير المؤمنين ثم التفت إلى الوليد- فقال له ويحك فمن صاحب العير و النفير- غير جدي أبي سفيان صاحب العير- و جدي عتبة صاحب النفير- و لكن لو قلت غنيمات و حبيلات و الطائف- و رحم الله عثمان- لقلنا صدقت- . و هذا من الكلام المستحسن- و الألفاظ الفصيحة و الجوابات المسكتة- و إنما كان أبو سفيان صاحب العير- لأنه هو الذي قدم بالعير- التي رام رسول الله ص و أصحابه أن يعترضوها- و كانت قادمة من الشام إلى مكة تحمل العطر و البر- فنذر بهم أبو سفيان فضرب وجوه العير إلى البحر- فساحل بها حتى أنقذها منهم- و كانت وقعة بدر العظمى لأجلها- لأن قريشا أتاهم النذير بحالها- و بخروج النبي ص بأصحابه من المدينة في طلبها- لينفروا- و كان رئيس الجيش النافر- لحمايتها عتبة بن ربيعة بن شمس جد معاوية لأمه- . و أما غنيمات و حبيلات إلى آخر الكلام- فإن رسول الله ص- لما طرد الحكم بن أبي العاص إلى الطائف- لأمور نقمها عليه- أقام بالطائف في حبلة ابتاعها و هي الكرمة- و كان يرعى غنيمات اتخذها يشرب من لبنها- فلما ولي أبو بكر شفع إليه عثمان في أن يرده فلم يفعل- فلما ولي عمر شفع إليه أيضا فلم يفعل- فلما ولي هو الأمر رده- و الحكم جد عبد الملك فعيرهم خالد بن يزيد به- . و بنو أمية صنفان الأعياص و العنابس- فالأعياص العاص و أبو العاص-
و العيص و أبو العيص و العنابس حرب و أبو حرب- و سفيان و أبو سفيان فبنو مروان و عثمان من الأعياص- و معاوية و ابنة من العنابس- و لكل واحد من الصنفين المذكورين و شيعتهم كلام طويل- و اختلاف شديد في تفضيل بعضهم على بعض- . و كانت هند تذكر في مكة بفجور و عهر- . و قال الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار- كان معاوية يعزى إلى أربعة- إلى مسافر بن أبي عمرو- و إلى عمارة بن الوليد بن المغيرة- و إلى العباس بن عبد المطلب و إلى الصباح- مغن كان لعمارة بن الوليد- قال و قد كان أبو سفيان دميما قصيرا- و كان الصباح عسيفا لأبي سفيان شابا وسيما- فدعته هند إلى نفسها فغشيها- . و قالوا إن عتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضا- و قالوا إنها كرهت أن تدعه في منزلها- فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك- و في هذا المعنى يقول حسان أيام المهاجاة- بين المسلمين و المشركين في حياة رسول الله ص- قبل عام الفتح-
لمن الصبي بجانب البطحا
في الترب ملقى غير ذي مهد
نجلت به بيضاء آنسة
من عبد شمس صلتة الخد
و الذين نزهوا هندا عن هذا القذف رووا غير هذا- فروى أبو عبيدة معمر بن المثنى- أن هندا كانت تحت الفاكه بن المغيرة المخزومي- و كان له بيت ضيافة يغشاه الناس- فيدخلونه من غير إذن فخلا ذلك البيت يوما- فاضطجع فيه الفاكه و هند- ثم قام الفاكه و ترك هندا في البيت لأمر عرض له- ثم عاد إلى البيت فإذا رجل قد خرج من البيت- فأقبل إلى هند فركلها برجله- و قال من الذي كان عندك- فقالت لم يكن عندي أحد و إنما كنت نائمة- فقال الحقي بأهلك فقامت من فورها إلى أهلها- فتكلم الناس في ذلك- فقال لها عتبة أبوها يا بنية- إن الناس قد أكثروا في أمرك- فأخبريني بقصتك على الصحة- فإن كان لك ذنب دسست إلى الفاكه من يقتله- فتنقطع عنك القالة- فحلفت أنها لا تعرف لنفسها جرما و إنه لكاذب عليها- فقال عتبة للفاكه- إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم- فهل لك أن تحاكمني إلى بعض الكهنة- فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم- و خرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف- و أخرج معه هندا و نسوة معها- فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيرت حال هند- و تنكر أمرها و اختطف لونها- فرأى ذلك أبوها فقال لها إني أرى ما بك- و ما ذاك إلا لمكروه عندك- فهلا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا- قالت يا أبت- إن الذي رأيت مني ليس لمكروه عندي- و لكني أعلم أنكم تأتون بشرا يخطئ و يصيب- و لا آمن أن يسمني ميسما يكون علي عارا عند نساء مكة- قال لها فإني سأمتحنه قبل المسألة بأمر- ثم صفر بفرس له فأدلى- ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليله و شده بسير و تركه- حتى إذا وردوا على الكاهن أكرمهم و نحر لهم- فقال عتبة إنا قد جئناك لأمر- و قد خبأت لك خبيئا أختبرك به- فانظر ما هو فقال ثمرة في كمرة- فقال أبين من هذا- قال حبة بر في إحليل مهر- قال صدقت انظر الآن في أمر هؤلاء النسوة- فجعل يدنو من واحدة واحدة منهن- و يقول انهضي حتى صار إلى هند- فضرب على كتفها- و قال انهضي غير رقحاء و لا زانية- و لتلدن ملكا يقال له معاوية- فوثب إليها الفاكه فأخذها بيده و قال- قومي إلى بيتك فجذبت يدها من يده- و قالت إليك عني فو الله لا كان منك- و لا كان إلا من غيرك فتزوجها أبو سفيان بن حرب- . الرقحاء البغي التي تكتسب بالفجور- و الرقاحة التجارة- .
و ولي معاوية اثنتين و أربعين سنة- منها اثنتان و عشرون سنة- ولي فيها إمارة الشام منذ مات أخوه يزيد بن أبي سفيان- بعد خمس سنين من خلافة عمر- إلى أن قتل أمير المؤمنين علي ع في سنة أربعين- و منها عشرون سنة خليفة إلى أن مات في سنة ستين- . و مر به إنسان و هو غلام يلعب مع الغلمان- فقال إني أظن هذا الغلام سيسود قومه- فقالت هند ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه- . و لم يزل معاوية ذا همة عالية- يطلب معالي الأمور و يرشح نفسه للرئاسة- و كان أحد كتاب رسول الله ص- و اختلف في كتابته له كيف كانت- فالذي عليه المحققون من أهل السيرة- أن الوحي كان يكتبه علي ع و زيد بن ثابت و زيد بن أرقم- و أن حنظلة بن الربيع التيمي و معاوية بن أبي سفيان- كانا يكتبان له إلى الملوك و إلى رؤساء القبائل- و يكتبان حوائجه بين يديه- و يكتبان ما يجبى من أموال الصدقات- و ما يقسم في أربابها- . و كان معاوية على أس الدهر مبغضا لعلي ع- شديد الانحراف عنه- و كيف لا يبغضه و قد قتل أخاه حنظلة يوم بدر- و خاله الوليد بن عتبة و شرك عمه في جده و هو عتبة- أو في عمه و هو شيبة على اختلاف الرواية- و قتل من بني عمه عبد شمس- نفرا كثيرا من أعيانهم و أماثلهم- ثم جاءت الطامة الكبرى واقعة عثمان- فنسبها كلها إليه بشبهة إمساكه عنه- و انضواء كثير من قتلته إليه ع- فتأكدت البغضة و ثارت الأحقاد- و تذكرت تلك الترات الأولى- حتى أفضى الأمر إلى ما أفضى إليه- . و قد كان معاوية مع عظم قدر علي ع في النفوس- و اعتراف العرب بشجاعته و أنه البطل الذي لا يقام له- يتهدده و عثمان بعد حي بالحرب و المنابذة- و يراسله من الشام رسائل خشنة- حتى قال له في وجهه ما رواه أبو هلال العسكري- في كتاب الأوائل قال-
قدم معاوية المدينة قدمة أيام عثمان في أواخر خلافته- فجلس عثمان يوما للناس فاعتذر من أمور نقمت عليه- فقال إن رسول الله ص قبل توبة الكافر- و إني رددت الحكم عمي لأنه تاب فقبلت توبته- و لو كان بينه و بين أبي بكر و عمر من الرحم- ما بيني و بينه لآوياه- فأما ما نقمتم علي أني أعطيت من مال الله- فإن الأمر إلي- أحكم في هذا المال بما أراه صلاحا للأمة- و إلا فلما ذا كنت خليفة- فقطع عليه الكلام معاوية- و قال للمسلمين الحاضرين عنده أيها المهاجرون- قد علمتم أنه ليس منكم رجل- إلا و قد كان قبل الإسلام مغمورا في قومه- تقطع الأمور من دونه حتى بعث الله رسوله فسبقتم إليه- و أبطأ عنه أهل الشرف و الرئاسة- فسدتم بالسبق لا بغيره- حتى إنه ليقال اليوم رهط فلان و آل فلان- و لم يكونوا قبل شيئا مذكورا- و سيدوم لكم هذا الأمر ما استقمتم- فإن تركتم شيخنا هذا يموت على فراشه- و إلا خرج منكم و لا ينفعكم سبقكم و هجرتكم- . فقال له علي ع ما أنت و هذا يا ابن اللخناء- فقال معاوية مهلا يا أبا الحسن عن ذكر أمي- فما كانت بأخس نسائكم- و لقد صافحها رسول الله ص يوم أسلمت- و لم يصافح امرأة غيرها- أما لو قالها غيرك- فنهض علي ع ليخرج مغضبا- فقال عثمان اجلس فقال له لا أجلس- فقال عزمت عليك لتجلسن فأبى و ولى- فأخذ عثمان طرف ردائه فترك الرداء في يده و خرج- فأتبعه عثمان بصره فقال- و الله لا تصل إليك و لا إلى أحد من ولدك- . قال أسامة بن زيد كنت حاضرا هذا المجلس- فعجبت في نفسي من تألي عثمان- فذكرته لسعد بن أبي وقاص فقال لا تعجب- فإني سمعت رسول الله ص يقول لا ينالها علي و لا ولده- . قال أسامة فإني في الغد لفي المسجد- و علي و طلحة و الزبير و جماعة من المهاجرين جلوس- إذ جاء معاوية فتآمروا بينهم ألا يوسعوا له- فجاء حتى جلس بين أيديهم-
فقال أ تدرون لما ذا جئت قالوا لا- قال إني أقسم بالله إن لم تتركوا شيخكم يموت على فراشه- لا أعطيكم إلا هذا السيف ثم قام فخرج- . فقال علي ع لقد كنت أحسب أن عند هذا شيئا- فقال له طلحة و أي شيء يكون عنده أعظم مما قال- قاتله الله لقد رمى الغرض فأصاب- و الله ما سمعت يا أبا الحسن كلمة هي أملأ لصدرك منها- . و معاوية مطعون في دينه عند شيوخنا رحمهم الله- يرمى بالزندقة- و قد ذكرنا في نقض السفيانية- على شيخنا أبي عثمان الجاحظ- ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلامية عنه- من الإلحاد و التعرض لرسول الله ص- و ما تظاهر به من الجبر و الإرجاء- و لو لم يكن شيء من ذلك- لكان في محاربته الإمام ما يكفي في فساد حاله- لا سيما على قواعد أصحابنا- و كونهم بالكبيرة الواحدة يقطعون على المصير إلى النار- و الخلود فيها إن لم تكفرها التوبة
بسر بن أرطاة و نسبه
و أما بسر بن أرطاة فهو بسر بن أرطاة- و قيل ابن أبي أرطاة بن عويمر بن عمران- بن الحليس بن سيار بن نزار بن معيص بن عامر- بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة- . بعثه معاوية إلى اليمن في جيش كثيف- و أمره أن يقتل كل من كان في طاعة علي ع- فقتل خلقا كثيرا- و قتل فيمن قتل ابني عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب- و كانا غلامين صغيرين فقالت أمهما ترثيهما-
يا من أحس بنيي اللذين هما
كالدرتين تشظى عنهما الصدف
في أبيات مشهورة
عبيد الله بن العباس و بعض أخباره
و كان عبيد الله عامل علي ع على اليمن- و هو عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب- بن هاشم بن عبد مناف بن قصي- أمه و أم إخوته عبد الله و قثم و معبد و عبد الرحمن- لبابة بنت الحارث بن حزن- من بني عامر بن صعصعة- و مات عبيد الله بالمدينة و كان جوادا- و أعقب و من أولاده- قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس- ولاه أبو جعفر المنصور المدينة و كان جوادا ممدوحا- و له يقول ابن المولى-
أعفيت من كور و من رحلة
يا ناق إن أدنيتني من قثم
في وجهه نور و في باعه
طول و في العرنين منه شمم
و يقال ما رئي قبور إخوة أكثر تباعدا- من قبور بني العباس رحمه الله تعالى- قبر عبد الله بالطائف و قبر عبيد الله بالمدينة- و قبر قثم بسمرقند و قبر عبد الرحمن بالشام- و قبر معبد بإفريقية ثم نعود إلى شرح الخطبة- الأعاصير جمع إعصار و هي الريح المستديرة على نفسها- قال الله تعالى فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ- . و الوضر بقية الدسم في الإناء- و قد اطلع اليمن أي غشيها و غزاها و أغار عليها- . و قوله سيدالون منكم أي يغلبونكم- و تكون لهم الدولة عليكم- و ماث زيد الملح في الماء أذابه- . و بنو فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة- حي مشهور بالشجاعة- منهم علقمة بن فراس و هو جذل الطعان- و منهم ربيعة بن مكدم بن حرثان- بن جذيمة بن علقمة بن فراس الشجاع المشهور- حامى الظعن حيا و ميتا- و لم يحم الحريم و هو ميت أحد غيره- عرض له فرسان من بني سليم و معه ظعائن من أهله يحميهم وحده- فطاعنهم فرماه نبيشة بن حبيب بسهم أصاب قلبه- فنصب رمحه في الأرض و اعتمد عليه- و هو ثابت في سرجه لم يزل و لم يمل- و أشار إلى الظعائن بالرواح فسرن حتى بلغن بيوت الحي- و بنو سليم قيام إزاءه لا يقدمون عليه و يظنونه حيا- حتى قال قائل منهم إني لا أراه إلا ميتا- و لو كان حيا لتحرك- إنه و الله لماثل راتب على هيئة واحدة- لا يرفع يده و لا يحرك رأسه- فلم يقدم أحد منهم على الدنو منه- حتى رموا فرسه بسهم فشب من تحته- فوقع و هو ميت و فاتتهم الظعائن- . و قال الشاعر-
لا يبعدن ربيعة بن مكدم
و سقى الغوادي قبره بذنوب
نفرت قلوصي من حجارة حرة
بنيت على طلق اليدين و هوب
لا تنفري يا ناق منه فإنه
شريب خمر مسعر لحروب
لو لا السفار و بعد خرق مهمة
لتركتها تجثو على العرقوب
نعم الفتى أدى نبيشة بزه
يوم اللقاء نبيشة بن حبيب
و قوله ع ما هي إلا الكوفة- أي ما ملكتي إلا الكوفة- أقبضها و أبسطها أي أتصرف فيها- كما يتصرف الإنسان في ثوبه يقبضه و يبسطه كما يريد- . ثم قال على طريق صرف الخطاب- فإن لم تكوني إلا أنت- خرج من الغيبة إلى خطاب الحاضر- كقوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ- الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ- إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ- يقول إن لم يكن لي من الدنيا ملك- إلا ملك الكوفة ذات الفتن- و الآراء المختلفة فأبعدها الله- .
و شبه ما كان يحدث من أهلها- من الاختلاف و الشقاق بالأعاصير- لإثارتها التراب و إفسادها الأرض- ثم ذكر علة إدالة أهل الشام من أهل العراق- و هي اجتماع كلمتهم و طاعتهم لصاحبهم- و أداؤهم الأمانة و إصلاحهم بلادهم أهل العراق و خطب الحجاج فيهم
و قال أبو عثمان الجاحظ- العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء و طاعة أهل الشام- أن أهل العراق أهل نظر و ذوو فطن ثاقبة- و مع الفطنة و النظر يكون التنقيب و البحث- و مع التنقيب و البحث يكون الطعن و القدح- و الترجيح بين الرجال و التمييز بين الرؤساء- و إظهار عيوب الأمراء- و أهل الشام ذوو بلادة و تقليد و جمود على رأي واحد- لا يرون النظر و لا يسألون عن مغيب الأحوال- . و ما زال العراق موصوفا أهله بقلة الطاعة- و بالشقاق على أولي الرئاسة- . و من كلام الحجاج يا أهل العراق- يا أهل الشقاق و النفاق و مساوئ الأخلاق- أما و الله لألحونكم لحو العصا- و لأعصبنكم عصب السلم- و لأضربنكم ضرب غرائب الإبل- إني أسمع لكم تكبيرا ليس بالتكبير- الذي يراد به الترغيب و لكنه تكبير الترهيب- ألا إنها عجاجة تحتها قصف- يا بني اللكيعة و عبيد العصا و أبناء الإماء- إنما مثلي و مثلكم كما قال ابن براقة-
و كنت إذا قوم غزوني غزوتهم
فهل أنا في ذا يال همدان ظالم
متى تجمع القلب الذكي و صارما
و أنفا حميا تجتنبك المظالم
– . و الله لا تقرع عصا عصا إلا جعلتها كأمس الذاهب- . و كانت هذه الخطبة عقيب سماعه تكبيرا منكرا- في شوارع الكوفة- فأشفق من الفتنة- . و مما خطب به في ذم أهل العراق بعد وقعة دير الجماجم- . يا أهل العراق يا أهل الشقاق و النفاق- إن الشيطان استبطنكم فخالط اللحم و الدم- و العصب و المسامع و الأطراف و الأعضاء و الشغاف- ثم أفضى إلى الأمخاخ و الأصماخ- ثم ارتفع فعشش ثم باض ففرخ- فحشاكم نفاقا و شقاقا و ملأكم غدرا و خلافا- اتخذتموه دليلا تتبعونه- و قائدا تطيعونه و مؤامرا تستشيرونه- فكيف تنفعكم تجربة أو تعظكم واقعة- أو يحجزكم إسلام أو يعصمكم ميثاق- أ لستم أصحابي بالأهواز- حيث رمتم المكر و سعيتم بالغدر- و ظننتم أن الله يخذل دينه و خلافته- و أنا أرميكم بطرفي و أنتم تتسللون لواذا- و تنهزمون سراعا ثم يوم الزاوية- و ما يوم الزاوية بها كان فشلكم و كسلكم- و تخاذلكم و تنازعكم- و براءة الله منكم و نكول وليكم عنكم- إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها- النوازع إلى أعطانها- لا يسأل المرء عن أخيه و لا يلوي الأب على بنيه- لما عضكم السلاح و قصمتكم الرماح- ثم يوم دير الجماجم و ما يوم دير الجماجم-
بها كانت المعارك و الملاحم- بضرب يزيل الهام عن مقيله- و يذهل الخليل عن خليله- . يا أهل العراق يا أهل الشقاق و النفاق- الكفرات بعد الفجرات و الغدرات بعد الخترات- و النزوة بعد النزوات- إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم و خنتم- و إن أمنتم أرجفتم و إن خفتم نافقتم- لا تذكرون حسنة و لا تشكرون نعمة- . هل استخفكم ناكث أو استغواكم غاو- أو استفزكم عاص أو استنصركم ظالم- أو استعضدكم خالع إلا اتبعتموه و آويتموه- و نصرتموه و زكيتموه- . يا أهل العراق هل شغب شاغب- أو نعب ناعب أو زفر كاذب- إلا كنتم أشياعه و أتباعه و حماته و أنصاره- . يا أهل العراق أ لم تزجركم المواعظ- أ لم تنبهكم الوقائع أ لم تردعكم الحوادث- . ثم التفت إلى أهل الشام و هم حول المنبر فقال- يا أهل الشام إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه- ينفي عنها القذر و يباعد عنها الحجر- و يكنها من المطر و يحميها من الضباب- و يحرسها من الذئاب- . يا أهل الشام- أنتم الجنة و الرداء و أنتم العدة و الحذاء- . ثم نزل- .
و من خطبة له في هذا المعنى و قد أراد الحج- يا أهل الكوفة- إني أريد الحج و قد استخلفت عليكم ابني محمدا- و أوصيته بخلاف وصية رسول الله ص في الأنصار- فإنه أمر أن يقبل من محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم- و إني قد أوصيته ألا يقبل من محسنكم- و لا يتجاوز عن مسيئكم- ألا و إنكم ستقولون بعدي لا أحسن الله له الصحابة- ألا و إني معجل لكم الجواب لا أحسن الله لكم الخلافة- . و من خطبة له في هذا المعنى- يا أهل الكوفة إن الفتنة تلقح بالنجوى- و تنتج بالشكوى و تحصد بالسيف- أما و الله إن أبغضتموني لا تضروني- و إن أحببتموني لا تنفعوني- و ما أنا بالمستوحش لعداوتكم- و لا المستريح إلى مودتكم- زعمتم أني ساحر و قد قال الله تعالى- وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ و قد أفلحت- و زعمتم أني أعلم الاسم الأكبر- فلم تقاتلون من يعلم ما لا تعلمون- . ثم التفت إلى أهل الشام فقال- لأزواجكم أطيب من المسك- و لأبناؤكم آنس بالقلب من الولد- و ما أنتم إلا كما قال أخو ذبيان-
إذا حاولت في أسد فجورا
فإني لست منك و لست مني
هم درعي التي استلأمت فيها
إلى يوم النسار و هم مجني
ثم قال بل أنتم يا أهل الشام كما قال الله سبحانه- وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ- إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ- وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ- . و خطب مرة بعد موت أخيه و ابنه قال- بلغني أنكم تقولون يموت الحجاج- و مات الحجاج فمه و ما كان ما ذا- و الله ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت- و ما رضي الله البقاء إلا لأهون المخلوقين عليه إبليس- قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ- ثم قال يا أهل العراق- أتيتكم و أنا ذو لمة وافرة أرفل فيها- فما زال بي شقاقكم و عصيانكم حتى حص شعري- ثم كشف رأسه و هو أصلع و قال-
من يك ذا لمة يكشفها
فإنني غير ضائري زعري
لا يمنع المرء أن يسود و أن
يضرب بالسيف قلة الشعر
– . فأما قوله ع- اللهم أبدلني بهم خيرا منهم و أبدلهم بي شرا مني- و لا خير فيهم و لا شر فيه ع- فإن أفعل هاهنا بمنزلته في قوله تعالى- أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ- و بمنزلته في قوله- قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ- .
و يحتمل أن يكون الذي تمناه ع- من إبداله بهم خيرا منهم قوما صالحين- ينصرونه و يوفقون لطاعته- . و يحتمل أن يريد بذلك ما بعد الموت- من مرافقة النبي ص- . و قال القطب الراوندي- بنو فراس بن غنم هم الروم- و ليس بجيد و الصحيح ما ذكرناه- . و البيت المتمثل به أخيرا لأبي جندب الهذلي- و أول الأبيات
ألا يا أم زنباع أقيمي
صدور العيس نحو بني تميم
و هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ع- بعد فراغه من صفين و انقضاء أمر الحكمين و الخوارج- و هي من أواخر خطبه ع- . تم الجزء الأول من شرح نهج البلاغة بحمد الله و منه- و الحمد لله وحده العزيز- و صلى الله على محمد و آله الطيبين الطاهرين
الجزء الثاني
تتمة الخطب و الأوامر
تتمة خطبة 25
بسم الله الرحمن الرحيم
بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى الحجاز و اليمن
فأما خبر بسر بن أرطاة العامري- من بني عامر بن لؤي بن غالب- و بعث معاوية له ليغير على أعمال أمير المؤمنين ع- و ما عمله من سفك الدماء و أخذ الأموال- فقد ذكر أرباب السير أن الذي هاج معاوية- على تسريح بسر بن أرطاة و يقال ابن أبي أرطاة- إلى الحجاز و اليمن- أن قوما بصنعاء كانوا من شيعة عثمان يعظمون قتله- لم يكن لهم نظام و لا رأس- فبايعوا لعلي ع على ما في أنفسهم- و عامل علي ع على صنعاء يومئذ عبيد الله بن عباس- و عامله على الجند سعيد بن نمران- . فلما اختلف الناس على علي ع بالعراق- و قتل محمد بن أبي بكر بمصر- و كثرت غارات أهل الشام- تكلموا و دعوا إلى الطلب بدم عثمان- فبلغ ذلك عبيد الله بن عباس- فأرسل إلى ناس من وجوههم- فقال ما هذا الذي بلغني عنكم- قالوا إنا لم نزل ننكر قتل عثمان- و نرى مجاهدة من سعى عليه- فحبسهم فكتبوا إلى من بالجند من أصحابهم- فثاروا بسعيد بن نمران فأخرجوه من الجند- و أظهروا أمرهم و خرج إليهم من كان بصنعاء- و انضم إليهم كل من كان على رأيهم- و لحق بهم قوم لم يكونوا على رأيهم- إرادة أن يمنعوا الصدقة- و التقى عبيد الله بن عباس و سعيد بن نمران- و معهما شيعة علي ع- فقال ابن عباس لابن نمران- و الله لقد اجتمع هؤلاء و إنهم لنا لمقاربون- و إن قاتلناهم لا نعلم على من تكون الدائرة- فهلم لنكتب إلى أمير المؤمنين ع بخبرهم و قدحهم- و بمنزلهم الذي هم به- . فكتبا إلى أمير المؤمنين ع- أما بعد فإنا نخبر أمير المؤمنين- أن شيعة عثمان وثبوا بنا- و أظهروا أن معاوية قد شيد أمره- و اتسق له أكثر الناس و أنا سرنا إليهم- بشيعة أمير المؤمنين- و من كان على طاعته- و أن ذلك أحمشهم و ألبهم- فعبئوا لنا و تداعوا علينا من كل أوب- و نصرهم علينا من لم يكن له رأي فيهم- إرادة أن يمنع حق الله المفروض عليه- و ليس يمنعنا من مناجزتهم- إلا انتظار أمر أمير المؤمنين أدام الله عزه و أيده- و قضى له بالأقدار الصالحة في جميع أموره و السلام- . فلما وصل كتابهما- ساء عليا ع و أغضبه- و كتب إليهما من علي أمير المؤمنين- إلى عبيد الله بن العباس و سعيد بن نمران- سلام الله عليكما- فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو- أما بعد فإنه أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة- و تعظمان من شأنها صغيرا و تكثران من عددها قليلا- و قد علمت أن نخب أفئدتكما و صغر أنفسكما- و شتات رأيكما و سوء تدبيركما- هو الذي أفسد عليكما من لم يكن عليكما فاسدا- و جزأ عليكما من كان عن لقائكما جبانا- فإذا قدم رسولي عليكما فامضيا إلى القوم- حتى تقرءا عليهم كتابي إليهم- و تدعواهم إلى حظهم و تقوى ربهم- فإن أجابوا حمدنا الله و قبلناهم- و إن حاربوا استعنا بالله عليهم- و نابذناهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين قالوا و قال علي ع ليزيد بن قيس الأرحبي- أ لا ترى إلى ما صنع قومك-
فقال إن ظني يا أمير المؤمنين بقومي- لحسن في طاعتك- فإن شئت خرجت إليهم فكفيتهم- و إن شئت كتبت إليهم فتنظر ما يجيبونك- فكتب علي ع إليهم- من عبد الله علي أمير المؤمنين- إلى من شاق و غدر من أهل الجند و صنعاء- أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو- الذي لا يعقب له حكم و لا يرد له قضاء- و لا يرد بأسه عن القوم المجرمين- و قد بلغني تجرؤكم و شقاقكم و إعراضكم عن دينكم- بعد الطاعة و إعطاء البيعة- فسألت أهل الدين الخالص- و الورع الصادق و اللب الراجح- عن بدء محرككم و ما نويتم به و ما أحمشكم له- فحدثت عن ذلك بما لم أر لكم في شيء منه عذرا مبينا- و لا مقالا جميلا و لا حجة ظاهرة- فإذا أتاكم رسولي فتفرقوا و انصرفوا إلى رحالكم- أعف عنكم و أصفح عن جاهلكم- و أحفظ قاصيكم و أعمل فيكم بحكم الكتاب- فإن لم تفعلوا- فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان عظيم الأركان- يقصد لمن طغى و عصى- فتطحنوا كطحن الرحى- فمن أحسن فلنفسه وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها- وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ- . و وجه الكتاب مع رجل من همدان- فقدم عليهم بالكتاب فلم يجيبوه إلى خير- فقال لهم إني تركت أمير المؤمنين- يريد أن يوجه إليكم يزيد بن قيس الأرحبي- في جيش كثيف- فلم يمنعه إلا انتظار جوابكم- فقالوا نحن سامعون مطيعون- إن عزل عنا هذين الرجلين عبيد الله و سعيدا- . فرجع الهمداني من عندهم إلى علي ع فأخبره خبر القوم- . قالوا و كتبت تلك العصابة- حين جاءها كتاب علي ع إلى معاوية يخبرونه- و كتبوا في كتابهم-
معاوي إلا تسرع السير نحونا
نبايع عليا أو يزيد اليمانيا
فلما قدم كتابهم دعا بسر بن أبي أرطاة- و كان قاسي القلب فظا سفاكا للدماء- لا رأفة عنده و لا رحمة- فأمره أن يأخذ طريق الحجاز و المدينة و مكة حتى- ينتهي إلى اليمن- و قال له لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي- إلا بسطت عليهم لسانك- حتى يروا أنهم لا نجاء لهم و أنك محيط بهم- ثم اكفف عنهم و ادعهم إلى البيعة لي- فمن أبى فاقتله و اقتل شيعة علي حيث كانوا- . و روى إبراهيم بن هلال الثقفي- في كتاب الغارات عن يزيد بن جابر الأزدي- قال سمعت عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري- يحدث في خلافة عبد الملك- قال لما دخلت سنة أربعين تحدث الناس بالشام- أن عليا ع يستنفر الناس بالعراق فلا ينفرون معه- و تذاكروا أن قد اختلفت أهواؤهم- و وقعت الفرقة بينهم- قال فقمت في نفر من أهل الشام إلى الوليد بن عقبة- فقلنا له إن الناس لا يشكون في اختلاف الناس- على علي ع بالعراق- فادخل إلى صاحبك فمره فليسر بنا إليهم- قبل أن يجتمعوا بعد تفرقهم- أو يصلح لصاحبهم ما قد فسد عليه من أمره- فقال بلى لقد قاولته في ذلك و راجعته و عاتبته- حتى لقد برم بي و استثقل طلعتي- و ايم الله على ذلك ما أدع أن أبلغه ما مشيتم إلي فيه- . فدخل عليه فخبره بمجيئنا إليه و مقالتنا له- فأذن لنا فدخلنا عليه- فقال ما هذا الخبر الذي جاءني به عنكم الوليد- فقلنا هذا خبر في الناس سائر- فشمر للحرب و ناهض الأعداء- و اهتبل الفرصة و اغتنم الغرة- فإنك لا تدري متى تقدر على عدوك- على مثل حالهم التي هم عليها- و أن تسير إلى عدوك أعز لك من أن يسيروا إليك-
و اعلم و الله أنه لو لا تفرق الناس عن صاحبك- لقد نهض إليك- فقال لنا ما أستغني عن رأيكم و مشورتكم- و متى أحتج إلى ذلك منكم أدعكم- إن هؤلاء الذين تذكرون تفرقهم على صاحبهم- و اختلاف أهوائهم- لم يبلغ ذلك عندي بهم- أن أكون أطمع في استئصالهم و اجتياحهم- و أن أسير إليهم مخاطرا بجندي- لا أدري علي تكون الدائرة أم لي- فإياكم و استبطائي- فإني آخذ بهم في وجه هو أرفق بكم- و أبلغ في هلكتهم- قد شننت عليهم الغارات من كل جانب- فخيلي مرة بالجزيرة و مرة بالحجاز- و قد فتح الله فيما بين ذلك مصر- فأعز بفتحها ولينا و أذل به عدونا- فأشراف أهل العراق لما يرون من حسن صنيع الله لنا- يأتوننا على قلائصهم في كل الأيام- و هذا مما يزيدكم الله به و ينقصهم- و يقويكم و يضعفهم و يعزكم و يذلهم- فاصبروا و لا تعجلوا- فإني لو رأيت فرصتي لاهتبلتها- . فخرجنا من عنده و نحن نعرف الفصل فيما ذكر- فجلسنا ناحية- و بعث معاوية عند خروجنا من عنده إلى بسر بن أبي أرطاة- فبعثه في ثلاثة آلاف و قال- سر حتى تمر بالمدينة فاطرد الناس- و أخف من مررت به- و انهب أموال كل من أصبت له مالا- ممن لم يكن دخل في طاعتنا- فإذا دخلت المدينة فأرهم أنك تريد أنفسهم- و أخبرهم أنه لا براءة لهم عندك و لا عذر- حتى إذا ظنوا أنك موقع بهم فاكفف عنهم- ثم سر حتى تدخل مكة و لا تعرض فيها لأحد- و أرهب الناس عنك فيما بين المدينة و مكة- و اجعلها شردا حتى تأتي صنعاء و الجند- فإن لنا بهما شيعة و قد جاءني كتابهم- .
فخرج بسر في ذلك البعث- حتى أتى دير مروان فعرضهم فسقط منهم أربعمائة- فمضى في ألفين و ستمائة- فقال الوليد بن عقبة- أشرنا على معاوية برأينا أن يسير إلى الكوفة- فبعث الجيش إلى المدينة- فمثلنا و مثله كما قال الأول- أريها السها و تريني القمر- . فبلغ ذلك معاوية فغضب و قال- و الله لقد هممت بمساءة هذا الأحمق- الذي لا يحسن التدبير و لا يدري سياسة الأمور ثم كف عنه- قلت الوليد كان لشدة بغضه عليا ع القديم التالد- لا يرى الأناة في حربه- و لا يستصلح الغارات على أطراف بلاده- و لا يشفي غيظه و لا يبرد حزازات قلبه- إلا باستئصاله نفسه بالجيوش- و تسييرها إلى دار ملكه و سرير خلافته و هي الكوفة- و أن يكون معاوية بنفسه هو الذي يسير بالجيوش إليه- ليكون ذلك أبلغ في هلاك علي ع- و اجتثاث أصل سلطانه- و معاوية كان يرى غير هذا الرأي- و يعلم أن السير بالجيش للقاء علي ع خطر عظيم- فاقتضت المصلحة عنده- و ما يغلب على ظنه من حسن التدبير- أن يثبت بمركزه بالشام في جمهور جيشه- و يسرب الغارات على أعمال علي ع و بلاده- فتجوس خلال الديار و تضعفها- فإذا أضعفتها أضعفت بيضة ملك علي ع- لأن ضعف الأطراف يوجب ضعف البيضة- و إذا أضعفت البيضة كان على بلوغ إرادته- و المسير حينئذ إن استصوب المسير أقدر- . و لا يلام الوليد على ما في نفسه- فإن عليا ع قتل أباه عقبة بن أبي معيط صبرا يوم بدر- و سمي الفاسق بعد ذلك في القرآن- لنزاع وقع بينه و بينه- ثم جلده الحد في خلافة عثمان- و عزله عن الكوفة و كان عاملها- و ببعض هذا عند العرب أرباب الدين و التقى- تستحل المحارم و تستباح الدماء- و لا تبقى مراقبة في شفاء الغيظ- لدين و لا لعقاب و لا لثواب- فكيف الوليد المشتمل على الفسوق و الفجور- مجاهرا بذلك- و كان من المؤلفة قلوبهم مطعونا في نسبه- مرميا بالإلحاد و الزندقة- .
قال إبراهيم بن هلال- روى عوانة عن الكلبي و لوط بن يحيى- أن بسرا لما أسقط من أسقط من جيشه سار بمن تخلف معه- و كانوا إذا وردوا ماء أخذوا إبل أهل ذلك الماء- فركبوها و قادوا خيولهم- حتى يردوا الماء الآخر- فيردون تلك الإبل و يركبون إبل هؤلاء- فلم يزل يصنع ذلك حتى قرب إلى المدينة- . قال و قد روي أن قضاعة استقبلتهم- ينحرون لهم الجزر حتى دخلوا المدينة- قال فدخلوها و عامل علي ع عليها أبو أيوب الأنصاري- صاحب منزل رسول الله ص فخرج عنها هاربا- و دخل بسر المدينة- فخطب الناس و شتمهم و تهددهم يومئذ و توعدهم- و قال شاهت الوجوه- إن الله تعالى يقول- وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً- يَأْتِيها رِزْقُها الآية- و قد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم و جعلكم أهله- كان بلدكم مهاجر النبي ص و منزله- و فيه قبره و منازل الخلفاء من بعده- فلم تشكروا نعمة ربكم و لم ترعوا حق نبيكم- و قتل خليفة الله بين أظهركم- فكنتم بين قاتل و خاذل و متربص و شامت- إن كانت للمؤمنين قلتم أ لم نكن معكم- و إن كان للكافرين نصيب- قلتم أ لم نستحوذ عليكم و نمنعكم من المؤمنين- ثم شتم الأنصار فقال- يا معشر اليهود و أبناء العبيد- بني زريق و بني النجار و بني سلمة و بني عبد الأشهل- أما و الله لأوقعن بكم وقعة- تشفي غليل صدور المؤمنين و آل عثمان- أما و الله لأدعنكم أحاديث كالأمم السالفة- . فتهددهم حتى خاف الناس أن يوقع بهم- ففزعوا إلى حويطب بن عبد العزى- و يقال إنه زوج أمه فصعد إليه المنبر فناشده- و قال عترتك و أنصار رسول الله و ليسوا بقتلة عثمان- فلم يزل به حتى سكن- و دعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه- و نزل فأحرق دورا كثيرة- منها دار زرارة بن حرون أحد بني عمرو بن عوف- و دار رفاعة بن رافع الزرقي و دار أبي أيوب الأنصاري- و تفقد جابر بن عبد الله- فقال ما لي لا أرى جابرا يا بني سلمة- لا أمان لكم عندي أو تأتوني بجابر- فعاذ جابر بأم سلمة رضي الله عنها- فأرسلت إلى بسر بن أرطاة- فقال لا أؤمنه حتى يبايع- فقالت له أم سلمة اذهب فبايع- و قالت لابنها عمر اذهب فبايع فذهبا فبايعاه- .
قال إبراهيم و روى الوليد بن كثير عن وهب بن كيسان- قال سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول- لما خفت بسرا و تواريت عنه- قال لقومي لا أمان لكم عندي حتى يحضر جابر فأتوني- و قالوا ننشدك الله لما انطلقت معنا فبايعت- فحقنت دمك و دماء قومك- فإنك إن لم تفعل قتلت مقاتلينا و سبيت ذرارينا- فاستنظرتهم الليل- فلما أمسيت دخلت على أم سلمة فأخبرتها الخبر- فقالت يا بني انطلق فبايع- احقن دمك و دماء قومك- فإني قد أمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع- و إني لأعلم أنها بيعة ضلالة- .
قال إبراهيم فأقام بسر بالمدينة أياما- ثم قال لهم إني قد عفوت عنكم- و إن لم تكونوا لذلك بأهل- ما قوم قتل إمامهم بين ظهرانيهم- بأهل أن يكف عنهم العذاب- و لئن نالكم العفو مني في الدنيا- إني لأرجو ألا تنالكم رحمة الله عز و جل في الآخرة- و قد استخلفت عليكم أبا هريرة فإياكم و خلافه- ثم خرج إلى مكة- . قال إبراهيم روى الوليد بن هشام قال- أقبل بسر فدخل المدينة فصعد منبر الرسول ص- ثم قال يا أهل المدينة- خضبتم لحاكم و قتلتم عثمان مخضوبا- و الله لا أدع في المسجد مخضوبا إلا قتلته- ثم قال لأصحابه خذوا بأبواب المسجد- و هو يريد أن يستعرضهم- فقام إليه عبد الله بن الزبير و أبو قيس- أحد بني عامر بن لؤي فطلبا إليه حتى كف عنهم- و خرج إلى مكة- فلما قرب منها هرب قثم بن العباس- و كان عامل علي ع- و دخلها بسر فشتم أهل مكة و أنبهم- ثم خرج عنها و استعمل عليها شيبة بن عثمان- .
قال إبراهيم و قد روى عوانة عن الكلبي- أن بسرا لما خرج من المدينة إلى مكة- قتل في طريقه رجالا و أخذ أموالا- و بلغ أهل مكة خبره فتنحى عنها عامة أهلها- و تراضى الناس بشيبة بن عثمان أميرا- لما خرج قثم بن العباس عنها- و خرج إلى بسر قوم من قريش فتلقوه فشتمهم- ثم قال أما و الله لو تركت و رأيي فيكم- لتركتكم و ما فيكم روح تمشي على الأرض- فقالوا ننشدك الله في أهلك و عترتك- فسكت ثم دخل و طاف بالبيت و صلى ركعتين ثم خطبهم- فقال الحمد لله الذي أعز دعوتنا و جمع ألفتنا- و أذل عدونا بالقتل و التشريد- هذا ابن أبي طالب بناحية العراق في ضنك و ضيق- قد ابتلاه الله بخطيئته و أسلمه بجريرته- فتفرق عنه أصحابه ناقمين عليه- و ولي الأمر معاوية الطالب بدم عثمان- فبايعوا و لا تجعلوا على أنفسكم سبيلا فبايعوا- . و تفقد سعيد بن العاص فطلبه فلم يجده- و أقام أياما ثم خطبهم فقال- يا أهل مكة إني قد صفحت عنكم فإياكم و الخلاف- فو الله إن فعلتم لأقصدن منكم إلى التي تبير الأصل- و تحرب المال و تخرب الديار- . ثم خرج إلى الطائف- فكتب إليه المغيرة بن شعبة حين خرج من مكة إليها- أما بعد فقد بلغني مسيرك إلى الحجاز- و نزولك مكة و شدتك على المريب- و عفوك عن المسيء و إكرامك لأولي النهى- فحمدت رأيك في ذلك فدم على صالح ما كنت عليه- فإن الله عز و جل لن يزيد بالخير أهله إلا خيرا- جعلنا الله و إياك من الآمرين بالمعروف- و القاصدين إلى الحق و الذاكرين الله كثيرا- قال و وجه رجلا من قريش إلى تبالة- و بها قوم من شيعة علي ع و أمره بقتلهم- فأخذهم و كلم فيهم- و قيل له هؤلاء قومك فكف عنهم- حتى نأتيك بكتاب من بسر بأمانهم- فحبسهم و خرج منيع الباهلي من عندهم إلى بسر- و هو بالطائف يستشفع إليه فيهم- فتحمل عليه بقوم من الطائف فكلموه فيهم- و سألوه الكتاب بإطلاقهم فوعدهم- و مطلهم بالكتاب حتى ظن أنه قد قتلهم- القرشي المبعوث لقتلهم- و أن كتابه لا يصل إليهم حتى يقتلوا- ثم كتب لهم فأتى منيع منزله- و كان قد نزل على امرأة بالطائف و رحله عندها- فلم يجدها في منزلها فوطئ على ناقته بردائه- و ركب فسار يوم الجمعة و ليلة السبت- لم ينزل عن راحلته قط- فأتاهم ضحوة و قد أخرج القوم ليقتلوا- و استبطئ كتاب بسر فيهم- فقدم رجل منهم فضربه رجل من أهل الشام- فانقطع سيفه فقال الشاميون بعضهم لبعض- شمسوا سيوفكم حتى تلين فهزوها- و تبصر منيع الباهلي بريق السيوف فألمع بثوبه-
فقال القوم هذا راكب عنده خير فكفوا- و قام به بعيره فنزل عنه- و جاء على رجليه يشتد فدفع الكتاب إليهم فأطلقوا- و كان الرجل المقدم- الذي ضرب بالسيف فانكسر السيف أخاه- . قال إبراهيم و روى علي بن مجاهد عن ابن إسحاق- أن أهل مكة لما بلغهم ما صنع بسر خافوه و هربوا- فخرج ابنا عبيد الله بن العباس و هما سليمان و داود- و أمهما جويرية ابنة خالد بن قرظ الكنانية- و تكنى أم حكيم- و هم حلفاء بني زهرة- و هما غلامان مع أهل مكة- فأضلوهما عند بئر ميمون بن الحضرمي- و ميمون هذا هو أخو العلاء بن الحضرمي- و هجم عليهما بسر فأخذهما و ذبحهما- فقالت أمهما
ها من أحس بابني اللذين هما
كالدرتين تشظى عنهما الصدف
ها من أحس بابني اللذين هما
سمعي و قلبي فقلبي اليوم مختطف
ها من أحس بابني اللذين هما
مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
نبئت بسرا و ما صدقت ما زعموا
من قولهم و من الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودجي ابني مرهفة
مشحوذة و كذاك الإثم يقترف
من دل والهة حرى مسلبة
على صبيين ضلا إذ مضى السلف
و قد روي أن اسمهما قثم و عبد الرحمن- و روي أنهما ضلا في أخوالهما من بني كنانة- و روي أن بسرا إنما قتلهما باليمن- و أنهما ذبحا على درج صنعاء- . و روى عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن أبيه- أن بسرا لما دخل الطائف و قد كلمه المغيرة- قال له لقد صدقتني و نصحتني- فبات بها و خرج منها- و شيعه المغيرة ساعة ثم ودعه و انصرف عنه- فخرج حتى مر ببني كنانة- و فيهم ابنا عبيد الله بن العباس و أمهما- فلما انتهى بسر إليهم طلبهما- فدخل رجل من بني كنانة و كان أبوهما أوصاه بهما- فأخذ السيف من بيته و خرج- فقال له بسر ثكلتك أمك- و الله ما كنا أردنا قتلك فلم عرضت نفسك للقتل- قال أقتل دون جاري أعذر لي عند الله و الناس- ثم شد على أصحاب بسر بالسيف حاسرا و هو يرتجز-
آليت لا يمنع حافات الدار
و لا يموت مصلتا دون الجار
إلا فتى أروع غير غدار
فضارب بسيفه حتى قتل ثم قدم الغلامان فقتلا- فخرج نسوة من بني كنانة فقالت امرأة منهن- هذه الرجال يقتلها فما بال الولدان- و الله ما كانوا يقتلون في جاهلية و لا إسلام- و الله إن سلطانا لا يشتد إلا بقتل الضرع الضعيف- و الشيخ الكبير- و رفع الرحمة و قطع الأرحام لسلطان سوء- فقال بسر و الله لهممت أن أضع فيكن السيف- قالت و الله إنه لأحب إلي إن فعلت- . قال إبراهيم و خرج بسر من الطائف- فأتى نجران فقتل عبد الله بن عبد المدان و ابنه مالكا- و كان عبد الله هذا صهرا لعبيد الله بن العباس- ثم جمعهم و قام فيهم و قال
يا أهل نجران- يا معشر النصارى و إخوان القرود- أما و الله إن بلغني عنكم ما أكره لأعودن عليكم- بالتي تقطع النسل و تهلك الحرث و تخرب الديار- . و تهددهم طويلا ثم سار حتى بلغ أرحب- فقتل أبا كرب و كان يتشيع- و يقال إنه سيد من كان بالبادية من همدان فقدمه فقتله- . و أتى صنعاء و قد خرج عنها عبيد الله بن العباس- و سعيد بن نمران- و قد استخلف عبيد الله عليها عمرو بن أراكة الثقفي- فمنع بسرا من دخولها و قاتله- فقتله بسر و دخل صنعاء فقتل منها قوما- و أتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلا رجل واحد- و رجع إلى قومه فقال لهم أنعى قتلانا شيوخا و شبانا- . قال إبراهيم و هذه الأبيات المشهورة- لعبد الله بن أراكة الثقفي يرثي بها ابنه عمرا-
لعمري لقد أردى ابن أرطاة فارسا
بصنعاء كالليث الهزبر أبي الأجر
تعز فإن كان البكا رد هالكا
على أحد فاجهد بكاك على عمرو
و لا تبك ميتا بعد ميت أجنه
علي و عباس و آل أبي بكر
قال و روى نمير بن وعلة عن أبي وداك قال- كنت عند علي ع لما قدم عليه سعيد بن نمران الكوفة- فعتب عليه و على عبيد الله ألا يكونا قاتلا بسرا-
فقال سعيد قد و الله قاتلت- و لكن ابن عباس خذلني و أبى أن يقاتل- و لقد خلوت به حين دنا منا بسر فقلت- إن ابن عمك لا يرضى مني و منك بدون الجد في قتالهم- قال لا و الله ما لنا بهم طاقة و لا يدان- فقمت في الناس فحمدت الله ثم قلت يا أهل اليمن- من كان في طاعتنا و على بيعة أمير المؤمنين ع فإلي إلي- فأجابني منهم عصابة فاستقدمت بهم- فقاتلت قتالا ضعيفا و تفرق الناس عني و انصرفت-
قال ثم خرج بسر من صنعاء فأتى أهل جيشان- و هم شيعة لعلي ع فقاتلهم و قاتلوه- فهزمهم و قتلهم قتلا ذريعا- ثم رجع إلى صنعاء فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس- لأن ابني عبيد الله بن العباس كانا مستترين- في بيت امرأة من أبنائهم تعرف بابنة بزرج- . و قال الكلبي و أبو مخنف- فندب علي ع أصحابه لبعث سرية في إثر بسر- فتثاقلوا و أجابه جارية بن قدامة السعدي- فبعثه في ألفين فشخص إلى البصرة- ثم أخذ طريق الحجاز حتى قدم اليمن- و سأل عن بسر فقيل أخذ في بلاد بني تميم- فقال أخذ في ديار قوم يمنعون أنفسهم- و بلغ بسرا مسير جارية فانحدر إلى اليمامة- و أغذ جارية بن قدامة السير- ما يلتفت إلى مدينة مر بها و لا أهل حصن- و لا يعرج على شيء إلا أن يرمل بعض أصحابه من الزاد- فيأمر أصحابه بمواساته- أو يسقط بعير رجل أو تحفى دابته- فيأمر أصحابه بأن يعقبوه- حتى انتهوا إلى أرض اليمن- فهربت شيعة عثمان حتى لحقوا بالجبال- و اتبعهم شيعة علي ع و تداعت عليهم من كل جانب- و أصابوا منهم و صمد نحو بسر- و بسر بين يديه يفر من جهة إلى جهة أخرى- حتى أخرجه من أعمال علي ع كلها- . فلما فعل به ذلك أقام جارية بحرس نحوا من شهر- حتى استراح و أراح أصحابه- و وثب الناس ببسر في طريقه- لما انصرف من بين يدي جارية- لسوء سيرته و فظاظته و ظلمه و غشمه- و أصاب بنو تميم ثقلا من ثقله في بلاده- و صحبه إلى معاوية ليبايعه على الطاعة ابن مجاعة-رئيس اليمامة- فلما وصل بسر إلى معاوية قال يا أمير المؤمنين- هذا ابن مجاعة قد أتيتك به فاقتله- فقال معاوية تركته لم تقتله- ثم جئتني به فقلت اقتله- لا لعمري لا أقتله ثم بايعه و وصله و أعاده إلى قومه- . و قال بسر أحمد الله يا أمير المؤمنين- أني سرت في هذا الجيش أقتل عدوك- ذاهبا جائيا لم ينكب رجل منهم نكبة- فقال معاوية الله قد فعل ذلك لا أنت- . و كان الذي قتل بسر في وجهه ذلك ثلاثين ألفا- و حرق قوما بالنار- فقال يزيد بن مفرغ-
تعلق من أسماء ما قد تعلقا
و مثل الذي لاقى من الشوق أرقا
سقى هزم الأرعاد منبعج الكلى
منازلها من مسرقان فسرقا
إلى الشرف الأعلى إلى رامهرمز
إلى قريات الشيخ من نهر أربقا
إلى دشت بارين إلى الشط كله
إلى مجمع السلان من بطن دورقا
إلى حيث يرفا من دجيل سفينه
إلى مجمع النهرين حيث تفرقا
إلى حيث سار المرء بسر بجيشه
فقتل بسر ما استطاع و حرقا
و روى أبو الحسن المدائني قال- اجتمع عبيد الله بن العباس و بسر بن أرطاة يوما- عند معاوية بعد صلح الحسن ع- فقال له ابن عباس- أنت أمرت اللعين السيئ الفدم أن يقتل ابني- فقال ما أمرته بذلك و لوددت أنه لم يكن قتلهما- فغضب بسر و نزع سيفه فألقاه- و قال لمعاوية اقبض سيفك- قلدتنيه و أمرتني أن أخبط به الناس ففعلت- حتى إذا بلغت ما أردت قلت لم أهو و لم آمر- فقال خذ سيفك إليك- فلعمريإنك ضعيف مائق- حين تلقي السيف بين يدي رجل من بني عبد مناف- قد قتلت أمس ابنيه- .
فقال له عبيد الله- أ تحسبني يا معاوية قاتلا بسرا بأحد ابني- هو أحقر و ألأم من ذلك- و لكني و الله لا أرى لي مقنعا و لا أدرك ثأرا- إلا أن أصيب بهما يزيد و عبد الله- . فتبسم معاوية و قال و ما ذنب معاوية و ابني معاوية- و الله ما علمت و لا أمرت و لا رضيت و لا هويت- و احتملها منه لشرفه و سؤدده- .
قال و دعا علي ع على بسر فقال- اللهم إن بسرا باع دينه بالدنيا و انتهك محارمك- و كانت طاعة مخلوق فاجر آثر عنده مما عندك- اللهم فلا تمته حتى تسلبه عقله- و لا توجب له رحمتك و لا ساعة من نهار- اللهم العن بسرا و عمرا و معاوية- و ليحل عليهم غضبك و لتنزل بهم نقمتك- و ليصبهم بأسك و رجزك الذي لا ترده عن القوم المجرمين فلم يلبث بسر بعد ذلك إلا يسيرا- حتى وسوس و ذهب عقله- فكان يهذي بالسيف- و يقول أعطوني سيفا أقتل به- لا يزال يردد ذلك حتى اتخذ له سيف من خشب- و كانوا يدنون منه المرفقة- فلا يزال يضربها حتى يغشى عليه- فلبث كذلك إلى أن مات- . قلت كان مسلم بن عقبة ليزيد- و ما عمل بالمدينة في وقعة الحرة- كما كان بسر لمعاوية و ما عمل في الحجاز و اليمن- و من أشبه أباه فما ظلم-
نبني كما كانت أوائلنا
تبني و نفعل مثل ما فعلوا
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد)، ج 1 -2