229 و من كلام له ع
رَوَى ذِعْلَبٌ الْيَمَامِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ قُتَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِحْيَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمنِيِنَ ع- فَقَالَ وَ قَدْ ذُكِرَ عِنْدَهُ اخْتِلَافُ النَّاسِ- إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمْ مَبَادِئُ طِينِهِمْ- وَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِلْقَةً مِنْ سَبَخِ أَرْضٍ وَ عَذْبِهَا- وَ حَزْنِ تُرْبَةٍ وَ سَهْلِهَا- فَهُمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ يَتَقَارَبُونَ- وَ عَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِهَا يَتَفَاوَتُونَ- فَتَامُّ الرُّوَاءِ نَاقِصُ الْعَقْلِ- وَ مَادُّ الْقَامَةِ قَصِيرُ الْهِمَّةِ- وَ زَاكِي الْعَمَلِ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ- وَ قَرِيبُ الْقَعْرِ بَعِيدُ السَّبْرِ- وَ مَعْرُوفُ الضَّرِيبَةِ مُنْكَرُ الْجَلِيبَةِ- وَ تَائِهُ الْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اللُّبِّ- وَ طَلِيقُ اللِّسَانِ حَدِيدُ الْجَنَانِ ذعلب و أحمد و عبد الله و مالك- رجال من رجال الشيعة و محدثيهم- و هذا الفصل عندي لا يجوز أن يحمل على ظاهره- و ما يتسارع إلى أفهام العامة منه- و ذلك لأن قوله- إنهم كانوا فلقة من سبخ أرض و عذبها- إما أن يريد به أن كل واحد من الناس ركب من طين- و جعل صورة بشرية طينية- برأس و بطن و يدين و رجلين-
ثم نفخت فيه الروح كما فعل بآدم- أو يريد به أن الطين الذي ركبت منه صورة آدم فقط- كان مختلطا من سبخ و عذب- فإن أريد الأول فالواقع خلافه- لأن البشر الذين نشاهدهم- و الذين بلغتنا أخبارهم لم يخلقوا من الطين كما خلق آدم- و إنما خلقوا من نطف آبائهم- و ليس لقائل أن يقول لعل تلك النطف افترقت- لأنها تولدت من أغذية- مختلفة المنبت من العذوبة و الملوحة- و ذلك لأن النطفة لا تتولد من غذاء بعينه- بل من مجموع الأغذية- و تلك الأغذية لا يمكن أن تكون كلها- من أرض سبخة محضة في السبخية- لأن هذا من الاتفاقات التي يعلم عدم وقوعها- كما يعلم أنه لا يجوز أن يتفق- أن يكون أهل بغداد في وقت بعينه- على كثرتهم لا يأكلون ذلك اليوم إلا السكباج خاصة-
و أيضا فإن الأرض السبخة- أو التي الغالب عليها السبخية- لا تنبت الأقوات أصلا- و إن أريد الثاني و هو أن يكون طين آدم ع- مختلطا في جوهره مختلفا في طبائعه- فلم كان زيد الأحمق يتولد من الجزء السبخي- و عمرو العاقل يتولد من الجزء العذبي- و كيف يؤثر اختلاف طين آدم- من ستة آلاف سنة في أقوام يتوالدون الآن- . و الذي أراه أن لكلامه ع تأويلا باطنا- و هو أن يريد به اختلاف النفوس المدبرة للأبدان- و كنى عنها بقوله مبادئ طينهم- و ذلك أنها لما كانت الماسكة للبدن من الانحلال- العاصمة له من تفرق العناصر- صارت كالمبدإ و كالعلة له من حيث إنها- كانت علة في بقاء امتزاجه- و اختلاط عناصره بعضها ببعض- و لذلك إذا فارقت عند الموت افترقت العناصر- و انحلت الأجزاء فرجع اللطيف منها إلى الهواء- و الكثيف إلى الأرض- .
و قوله كانوا فلقة من سبخ أرض و عذبها- و حزن تربة و سهلها- تفسيره أن البارئ جل جلاله لما خلق النفوس- خلقها مختلفة في ماهيتها- فمنها الزكية و منها الخبيثة- و منها العفيفة و منها الفاجرة- و منها القوية و منها الضعيفة- و منها الجريئة المقدمة و منها الفشلة الذليلة- إلى غير ذلك من أخلاق النفوس المختلفة المتضادة- . ثم فسر ع و علل تساوي قوم في الأخلاق- و تفاوت آخرين فيها فقال-إن نفس زيد قد تكون مشابهة- أو قريبة من المشابهة لنفس عمرو- فإذا هما في الأخلاق متساويتان أو متقاربتان- و نفس خالد قد تكون مضادة لنفس بكر- أو قريبة من المضادة- فإذا هما في الأخلاق متباينتان أو قريبتان من المباينة- .
و القول باختلاف النفوس في ماهياتها- هو مذهب أفلاطون- و قد اتبعه عليه جماعة من أعيان الحكماء- و قال به كثير من مثبتي النفوس من متكلمي الإسلام- . و أما أرسطو و أتباعه- فإنهم لا يذهبون إلى اختلاف النفوس في ماهيتها- و القول الأول عندي أمثل- . ثم بين ع اختلاف آحاد الناس- فقال منهم من هو تام الرواء لكنه ناقص العقل- و الرواء بالهمز و المد المنظر الجميل- و من أمثال العرب ترى الفتيان كالنخل- و ما يدريك ما الدخل- . و قال الشاعر
عقله عقل طائر
و هو في خلقة الجمل
و قال أبو الطيب
و ما الحسن في وجه الفتى شرف له
إذا لم يكن في فعله و الخلائق
و قال الآخر
و ما ينفع الفتيان حسن وجوههم
إذا كانت الأخلاق غير حسان
فلا يغررنك المرء راق رواؤه
فما كل مصقول الغرار يماني
و من شعر الحماسة
لقومي أرعى للعلا من عصابة
من الناس يا حار بن عمرو تسودها
و أنتم سماء يعجب الناس رزها
بآبدة تنحي شديد وئيدها
تقطع أطناب البيوت بحاصب
و أكذب شيء برقها و رعودها
فويل أمها خيلا بهاء و شارة
إذا لاقت الأعداء لو لا صدودها
و منه أيضا
و كاثر بسعد إن سعدا كثيرة
و لا ترج من سعد وفاء و لا نصرا
يروعك من سعد بن زيد جسومها
و تزهد فيها حين تقتلها خبرا
قوله ع و ماد القامة قصير الهمة- قريب من المعنى الأول- إلا أنه خالف بين الألفاظ- فجعل الناقص بإزاء التام و القصير بإزاء الماد- و يمكن أن يجعل المعنيان مختلفين- و ذلك لأنه قد يكون الإنسان تام العقل- إلا أن همته قصيرة- و قد رأينا كثيرا من الناس كذلك- فإذن هذا قسم آخر من الاختلاف غير الأول- . قوله ع و زاكي العمل قبيح المنظر- يريد بزكاء أعماله حسنها و طهارتها- فيكون قد أوقع الحسن بإزاء القبيح- و هذا القسم موجود فاش بين الناس- .
قوله و قريب القعر بعيد السبر- أي قد يكون الإنسان قصير القامة- و هو مع ذلك داهية باقعة- و المراد بقرب قعره تقارب ما بين طرفيه- فليست بطنه بمديدةو لا مستطيلة- و إذا سبرته و اختبرت ما عنده وجدته لبيبا فطنا- لا يوقف على أسراره و لا يدرك باطنه- و من هذا المعنى قول الشاعر-
ترى الرجل النحيف فتزدريه
و في أثوابه أسد مزير
و يعجبك الطرير فتبتليه
فيخلف ظنك الرجل الطرير
و قيل لبعض الحكماء- ما بال القصار من الناس أدهى و أحذق- قال لقرب قلوبهم من أدمغتهم- . و من شعر الحماسة
إلا يكن عظمي طويلا فإنني
له بالخصال الصالحات وصول
و لا خير في حسن الجسوم و طولها
إذا لم تزن حسن الجسوم عقول
و من شعر الحماسة أيضا- و هو تمام البيتين المقدم ذكرهما-
فما عظم الرجال لهم بفخر
و لكن فخرهم كرم و خير
ضعاف الطير أطولها جسوما
و لم تطل البزاة و لا الصقور
بغاث الطير أكثرها فراخا
و أم الصقر مقلات نزور
لقد عظم البعير بغير لب
فلم يستغن بالعظم البعير
قوله ع و معروف الضريبة منكر الجليبة- الجليبة هي الخلق الذييتكلفه الإنسان و يستجلبه- مثل أن يكون جبانا بالطبع فيتكلف الشجاعة- أو شحيحا بالطبع فيتكلف الجود- و هذا القسم أيضا عام في الناس- . ثم لما فرغ من الأخلاق المتضادة- ذكر بعدها ذوي الأخلاق و الطباع المتناسبة المتلائمة- فقال و تائه القلب متفرق اللب- و هذان الوصفان متناسبان لا متضادان- . ثم قال و طليق اللسان حديد الجنان- و هذان الوصفان أيضا متناسبان- و هما متضادان للوصفين قبلهما- فالأولان ذم و الآخران مدح
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 13