204 و من خطبة له ع
وَ كَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ- وَ بَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ- أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ- الْمُتَرَاكِمِ الْمُتَقَاصِفِ يَبَساً جَامِداً- ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً- فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِهِ- وَ قَامَتْ عَلَى حَدِّهِ يَحْمِلُهَا الْأَخْضَرُ الْمُثْعَنْجِرُ- وَ الْقَمْقَامُ الْمُسَخَّرُ- قَدْ ذَلَّ لِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِهَيْبَتِهِ- وَ وَقَفَ الْجَارِي مِنْهُ لِخَشْيَتِهِ- وَ جَبَلَ جَلَامِيدَهَا وَ نُشُوزَ مُتُونِهَا وَ أَطْوَادَهَا- فَأَرْسَاهَا فِي مَرَاسِيهَا- وَ أَلْزَمَهَا قَرَارَتَهَا- فَمَضَتْ رُءُوسُهَا فِي الْهَوَاءِ- وَ رَسَتْ أُصُولُهَا فِي الْمَاءِ- فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا- وَ أَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي مُتُونِ أَقْطَارِهَا وَ مَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا- فَأَشْهَقَ قِلَالَهَا وَ أَطَالَ أَنْشَازَهَا- وَ جَعَلَهَا لِلْأَرْضِ عِمَاداً وَ أَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً- فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا مِنْ أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا- فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِيَاهِهَا- وَ أَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَكْنَافِهَا- فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً- وَ بَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً- فَوْقَ بَحْرٍ لُجِّيٍّ رَاكِدٍ لَا يَجْرِي وَ قَائِمٍ لَا يَسْرِي- تُكَرْكِرُهُ الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ- وَ تَمْخُضُهُ الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ- إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى
أراد أن يقول و كان من اقتداره- فقال و كان من اقتدار جبروته تعظيما و تفخيما- كما يقال للملك أمرت الحضرة الشريفة بكذا- و البحر الزاخر الذي قد امتد جدا و ارتفع- و المتراكم المجتمع بعضه على بعض- و المتقاصف الشديد الصوت- قصف الرعد و غيره قصيفا- . و اليبس بالتحريك- المكان يكون رطبا ثم ييبس- و منه قوله تعالى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً- و اليبس بالسكون اليابس خلقة حطب يبس- هكذا يقوله أهل اللغة و فيه كلام- لأن الحطب ليس يابسا خلقة بل كان رطبا من قبل- فالأصوب أن يقال- لا تكون هذه اللفظة محركة إلا في المكان خاصة- و فطر خلق و المضارع يفطر بالضم فطرا- .
و الأطباق جمع طبق- و هو أجزاء مجتمعة من جراد أو غيم أو ناس- أو غير ذلك من حيوان أو جماد- يقول خلق منه أجساما مجتمعة مرتتقة- ثم فتقها سبع سموات- و روي ثم فطر منه طباقا- أي أجساما منفصلة في الحقيقة- متصلة في الصورة بعضها فوق بعض- و هي من ألفاظ القرآن المجيد- و الضمير في منه يرجع إلى ماء البحر في أظهر النظر- و قد يمكن أن يرجع إلى اليبس- .
و اعلم أنه قد تكرر في كلام أمير المؤمنين- ما يماثل هذا القول و يناسبه- و هو مذهبكثير من الحكماء الذين قالوا بحدوث السماء- منهم ثاليس الملطي قالوا أصل الأجسام الماء- و خلقت الأرض من زبده و السماء من بخاره- و قد جاء القرآن العزيز بنحو هذا قال سبحانه- الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ- وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ- . قال شيخنا أبو علي و أبو القاسم رحمهما الله في تفسيريهما- هذه الآية دالة على أن الماء و العرش- كانا قبل خلق السموات و الأرض- قالا و كان الماء على الهواء- قالا و هذا يدل أيضا علي أن الملائكة- كانوا موجودين قبل خلق السموات و الأرض- لأن الحكيم سبحانه لا يجوز أن يقدم خلق الجماد- على خلق المكلفين لأنه يكون عبثا- .
و قال علي بن عيسى الرماني من مشايخنا- أنه غير ممتنع أن يخلق الجماد قبل الحيوان- إذا علم أن في إخبار المكلفين بذلك لطفا لهم- و لا يصح أن يخبرهم إلا و هو صادق فيما أخبر به- و إنما يكون صادقا إذا كان المخبر خبره على ما أخبر عنه- و في ذلك حسن تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان- و كلام أمير المؤمنين ع يدل على أنه كان يذهب- إلى أن الأرض موضوعة على ماء البحر- و أن البحر حامل لها بقدرة الله تعالى- و هو معنى قوله يحملها الأخضر المثعنجر و القمقام المسخر- و أن البحر الحامل لها قد كان جاريا فوقف تحتها- و أنه تعالى خلق الجبال في الأرض- فجعل أصولها راسخة في ماء البحر- الحامل للأرض و أعاليها شامخة في الهواء- و أنه سبحانه جعل هذه الجبال عمادا للأرض- و أوتادا تمنعها من الحركة و الاضطراب- و لولاها لماجت و اضطربت- و أن هذا البحر الحامل للأرض- تصعد فيه الرياح الشديدة فتحركه حركة عنيفة- و تموج السحب التي تغترف الماء منه لتمطر الأرض به- و هذا كله مطابق لما في الكتاب العزيز- و السنة النبوية و النظر الحكمي- أ لا ترى إلى قوله تعالى- أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ-كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما- و هذا هو صريح قوله ع- ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها- و إلى قوله تعالى- وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ- و إلى ما ورد في الخبر- من أن الأرض مدحوة على الماء- و أن الرياح تسوق السحب إلى الماء نازلة- ثم تسوقها عنه صاعدة بعد امتلائها ثم تمطر- .
و أما النظر الحكمي فمطابق لكلامه إذا تأمله المتأمل- و حمله على المحمل العقلي- و ذلك لأن الأرض هي آخر طبقات العناصر- و قبلها عنصر الماء و هو محيط بالأرض كلها- إلا ما برز منها و هو مقدار الربع من كرة الأرض- على ما ذكره علماء هذا الفن و برهنوا عليه- فهذا تفسير قوله ع يحملها الأخضر المثعنجر- .
و أما قوله و وقف الجاري منه لخشيته- فلا يدل دلالة قاطعة على أنه كان جاريا و وقف- و لكن ذلك كلام خرج مخرج التعظيم و التبجيل- و معناه أن الماء طبعه الجريان و السيلان- فهو جار بالقوة و إن لم يكن جاريا بالفعل- و إنما وقف و لم يجر بالفعل بقدرة الله تعالى- المانعة له من السيلان- و ليس قوله و رست أصولها في الماء- مما ينافي النظر العقلي- لأنه لم يقل و رست أصولها في ماء البحر- و لكنه قال في الماء- و لا شبهة في أن أصول الجبال راسية في الماء- المتخلخل بين أجزاء الأرض- فإن الأرض كلها يتخلخل الماء بين أجزائها- على طريق استحالة البخار من الصورة الهوائية- إلى الصورة المائية- .
و ليس ذكره للجبال- و كونها مانعة للأرض من الحركة- بمناف أيضا للنظر الحكمي- لأن الجبال في الحقيقة قد تمنع من الزلزلة- إذا وجدت أسبابها الفاعلة- فيكون ثقلها مانعا من الهدة و الرجفة- .
ليس قوله تكركره الرياح- منافيا للنظر الحكمي أيضا- لأن كرة الهواء محيطة بكرة- و قد تعصف الرياح في كرة الهواء- للأسباب المذكورة في موضعها من هذا العلم- فيتموج كثير من الكرة المائية لعصف الرياح- . و ليس قوله ع و تمخضه الغمام الذوارف- صريحا في أن السحب تنزل في البحر فتغترف منه- كما قد يعتقد في المشهور العامي نحو قول الشاعر-كالبحر تمطره السحاب و ما لها فضل عليه لأنها من مائه- .
بل يجوز أن تكون الغمام الذراف تمخضه- و تحركه بما ترسل عليه من الأمطار السائلة منها- فقد ثبت أن كلام أمير المؤمنين ع موجه- إن شئت فسرته بما يقوله أهل الظاهر- و إن شئت فسرته بما يعتقده الحكماء- . فإن قلت فكيف قال الله تعالى- أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ- كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما- و هل كان الذين كفروا راءين لذلك- حتى يقول لهم أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا- . قلت هذا في قوله- اعلموا أن السموات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما- كما يقول الإنسان لصاحبه- أ لم تعلم أن الأمير صرف حاجبه الليلة عن بابه- أي اعلم ذلك إن كنت غير عالم- و الرؤية هنا بمعنى العلم- .
و اعلم أنه قد ذهب قوم من قدماء الحكماء- و يقال أنه مذهب سقراط- إلى تفسير القيامة و جهنم- بما يبتني على وضع الأرض على الماء- فقالوا الأرض موضوعة على الماء- و الماء على الهواء و الهواء على النار- و النار في حشو الأفلاك- و لما كان العنصران الخفيفان و هما الهواء و النار- يقتضيان صعود ما يحيطان به- و العنصران الثقيلان اللذان في وسطهما و هماالماء و الأرض- يقتضيان النزول و الهبوط- وقعت الممانعة و المدافعة- فلزم من ذلك وقوف الماء و الأرض في الوسط- .
قالوا- ثم إن النار لا تزال يتزايد تأثيرها في إسخان الماء- و ينضاف إلى ذلك حر الشمس و الكواكب- إلى أن تبلغ البحار و العنصر المائي غايتهما- في الغليان و الفوران- فيتصاعد بخار عظيم إلى الأفلاك شديد السخونة- و ينضاف إلى ذلك حر فلك الأثير الملاصق للأفلاك- فتذوب الأفلاك كما يذوب الرصاص- و تتهافت و تتساقط و تصير كالمهل الشديد الحرارة- و نفوس البشر على قسمين- أحدهما ما تجوهر و صار مجردا بطريق العلوم و المعارف- و قطع العلائق الجسمانية حيث كان مدبرا للبدن- و الآخر ما بقي على جسمانيته- بطريق خلوه من العلوم و المعارف- و انغماسه في اللذات و الشهوات الجسمانية- فأما الأول فإنه يلتحق بالنفس الكلية المجردة- و يخلص من دائرة هذا العالم بالكلية- و أما الثاني فإنه تنصب عليه تلك الأجسام الفلكية الذائبة- فيحترق بالكلية و يتعذب و يلقي آلاما شديدة- .
قالوا هذا هو باطن ما وردت به الرواية- من العذاب عليها- و خراب العالم و الأفلاك و انهدامها- . ثم نعود إلى شرح الألفاظ- قوله ع فاستمسكت أي وقفت و ثبتت- . و الهاء في حده تعود إلى أمره- أي قامت على حد ما أمرت به- أي لم تتجاوزه و لا تعدته- . و الأخضر البحر- و يسمى أيضا خضارة معرفة غير مصروف- و العرب تسميه بذلك- إما لأنه يصف لون السماء فيرى أخضر- أو لأنه يرى أسود لصفائه فيطلقون عليه لفظالأخضر- كما سموا الأخضر أسود نحو قوله مُدْهامَّتانِ- و نحو تسميتهم قرى العراق سوادا- لخضرتها و كثرة شجرها- و نحو قولهم للديزج من الدواب أخضر- . المثعنجر السائل- ثعجرت الدم و غيره فاثعنجر أي صببته فانصب- و تصغير المثعنجر مثيعج و مثيعيج- . و القمقام بالفتح من أسماء البحر- و يقال لمن وقع في أمر عظيم- وقع في قمقام من الأمر تشبيها بالبحر- . قوله ع و جبل جلاميدها- أي و خلق صخورها جمع جلمود- .
و النشوز جمع نشز- و هو المرتفع من الأرض و يجوز فتح الشين- . و متونها جوانبها و أطوادها جبالها- و يروى و أطوادها بالجر عطفا على متونها- . فأرساها في مراسيها أثبتها في مواضعها- رسا الشيء يرسو ثبت- و رست أقدامهم في الحرب ثبتت- و رست السفينة ترسو رسوا و رسوا- أي وقفت في البحر- و قوله تعالى بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها- بالضم من أجريت و أرسيت- و من قرأ بالفتح فهو من رست هي و جرت هي- . و ألزمها قرارتها أمسكها حيث استقرت- . قوله فأنهد جبالها أي أعلاها- نهد ثدي الجارية ينهد بالضم- إذا أشرف و كعب فهي ناهد و ناهدة- .
و سهولها ما تطامن منها عن الجبال- . و أساخ قواعدها- أي غيب قواعد الجبال في جوانب أقطار الأرض- ساخت قوائمالفرس في الأرض تسوخ و تسيخ- أي دخلت فيها و غابت مثل ثاخت- و أسختها أنا مثل أثختها و الأنصاب الأجسام المنصوبة- الواحد نصب بضم النون و الصاد- و منه سميت الأصنام نصبا في قوله تعالى- وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ- لأنها نصبت فعبدت من دون الله- قال الأعشى-و ذا المنصوب لا تنسكنه لعاقبة و الله ربك فاعبدا- .
أي و أساخ قواعد الجبال في متون أقطار الأرض- و في المواضع الصالحة لأن تكون فيها الأنصاب المماثلة- و هي الجبال أنفسها- – . قوله فأشهق قلالها- جمع قلة و هي ما علا من رأس الجبل- أشهقها جعلها شاهقة أي عالية- . و أرزها أثبتها فيها رزت الجرادة ترز رزا- و هو أن تدخل ذنبها في الأرض فتلقى بيضها- و أرزها الله أثبت ذلك منها في الأرض- و يجوز أرزت لازما غير متعد- مثل رزت و ارتز السهم في القرطاس ثبت فيه- و روي و آرزها بالمد من قولهم شجرة آرزة- أي ثابتة في الأرض- أرزت بالفتح تأرز بالكسر أي ثبتت- و آرزها بالمد غيرها أي أثبتها- . و تميد تتحرك و تسيخ تنزل و تهوي- .
فإن قلت ما الفرق بين الثلاثة تميد بأهلها- أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها- . قلت لأنها لو تحركت لكانت- إما أن تتحرك على مركزها أو لا على مركزها-و الأول هو المراد بقوله تميد بأهلها- و الثاني تنقسم إلى أن تنزل إلى تحت أو لا تنزل إلى تحت- فالنزول إلى تحت هو المراد بقوله أو تسيخ بحملها- و القسم الثاني هو المراد بقوله أو تزول عن مواضعها- . فإن قلت ما المراد ب على في قوله- فسكنت على حركتها- . قلت هي لهيئة الحال- كما تقول عفوت عنه على سوء أدبه- و دخلت إليه على شربه أي سكنت- على أن من شأنها الحركة لأنها محمولة على سائل متموج- . قوله موجان مياهها بناء فعلان- لما فيه اضطراب و حركة كالغليان و النزوان و الخفقان و نحو ذلك- . و أجمدها أي أجعلها جامدة- و أكنافها جوانبها و المهاد الفراش- .
فوق بحر لجي كثير الماء منسوب إلى اللجة- و هي معظم البحر- . قوله يكركره الرياح- الكركرة تصريف الريح السحاب إذا جمعته بعد تفريق- و أصله يكرر من التكرير فأعادوا الكاف- كركرت الفارس عني أي دفعته و رددته- . و الرياح العواصف الشديدة الهبوب- و تمخضه يجوز فتح الخاء و ضمها و كسرها- و الفتح أفصح لمكان حرف الحلق- من مخضت اللبن إذا حركته لتأخذ زبده- . و الغمام جمع و الواحدة غمامة- و لذلك قال الذوارف- لأن فواعل أكثر ما يكون لجمع المؤنث- ذرفت عينه أي دمعت أي السحب المواطر- و المضارع من ذرفت عينه تذرف بالكسر ذرفا و ذرفا- و المذارف المدامع
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج11