192 و من كلام له ع كان يوصي به أصحابه
تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلَاةِ وَ حَافِظُوا عَلَيْهَا- وَ اسْتَكْثِرُوا مِنْهَا وَ تَقَرَّبُوا بِهَا- فَإِنَّهَا كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً- أَ لَا تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِينَ سُئِلُوا- ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ- قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ- وَ إِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ الْوَرَقِ- وَ تُطْلِقُهَا إِطْلَاقَ الرِّبَقِ- وَ شَبَّهَهَا رَسُولُ اللَّهِ ص بِالْحَمَّةِ تَكُونُ عَلَى بَابِ الرَّجُلِ- فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ وَ اللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ- فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ الدَّرَنِ- وَ قَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- الَّذِينَ لَا تَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِينَةُ مَتَاعٍ وَ لَا قُرَّةُ عَيْنٍ- مِنْ وَلَدٍ وَ لَا مَالٍ- يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ- رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ- وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ- وَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص نَصِباً بِالصَّلَاةِ- بَعْدَ التَّبْشِيرِ لَهُ بِالْجَنَّةِ- لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها- فَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ وَ يُصْبِرُ نَفْسَهُ-ثُمَّ إِنَّ الزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّلَاةِ قُرْبَاناً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ- فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا- فَإِنَّهَا تُجْعَلُ لَهُ كَفَّارَةً وَ مِنَ النَّارِ حِجَازاً وَ وِقَايَةً- فَلَا يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ وَ لَا يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهَفَهُ- فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا غَيْرَ طَيِّبِ النَّفْسِ بِهَا- يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ- مَغْبُونُ الْأَجْرِ ضَالُّ الْعَمَلِ- طَوِيلُ النَّدَمِ ثُمَّ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ- فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا- إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ الْمَبْنِيَّةِ- وَ الْأَرَضِينَ الْمَدْحُوَّةِ وَ الْجِبَالِ ذَاتِ الطُّولِ الْمَنْصُوبَةِ- فَلَا أَطْوَلَ وَ لَا أَعْرَضَ وَ لَا أَعْلَى وَ لَا أَعْظَمَ مِنْهَا- وَ لَوِ امْتَنَعَ شَيْءٌ بِطُولٍ أَوْ عَرْضٍ- أَوْ قُوَّةٍ أَوْ عِزٍّ لَامْتَنَعْنَ- وَ لَكِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ- وَ عَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُنَّ وَ هُوَ الْإِنْسَانُ- إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا- إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ- مَا الْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ فِي لَيْلِهِمْ وَ نَهَارِهِمْ- لَطُفَ بِهِ خُبْراً وَ أَحَاطَ بِهِ عِلْماً أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُهُ- وَ جَوَارِحُكُمْ جُنُودُهُ وَ ضَمَائِرُكُمْ عُيُونُهُ وَ خَلَوَاتُكُمْ عِيَانُهُ هذه الآية يستدل بها الأصوليون من أصحابنا- على أن الكفار يعاقبون في الآخرة- على ترك الواجبات الشرعية- و على فعل القبائح لأنها في الكفار وردت- أ لا ترى إلى قوله- فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ- فليس يجوز أن يعني بالمجرمين- هاهنا الفاسقين من أهل القبلة لأنه قال- قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ-وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ- وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ- وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ- .
قالوا و ليس لقائل أن يقول- معنى قوله لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ- لم نكن من القائلين بوجوب الصلاة- لأنه قد أغنى عن هذا التعليل قوله- وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ- لأن أحد الأمرين هو الآخر- و حمل الكلام على ما يفيد فائدة جديدة- أولى من حمله على التكرار و الإعادة- فقد ثبت بهذا التقرير- صحة احتجاج أمير المؤمنين ع على تأكيد أمر الصلاة- و أنها من العبادات المهمة في نظر الشارع- . قوله ع و إنها لتحت الذنوب- الحت نثر الورق من الغصن و انحات أي تناثر- و قد جاء هذا اللفظ في الخبر النبوي بعينه- . و الربق جمع ربقة و هي الحبل- أي تطلق الصلاة الذنوب كما تطلق الحبال المعقدة- أي تحل ما انعقد على المكلف من ذنوبه- و هذا من باب الاستعارة- . و يروى تعهدوا أمر الصلاة بالتضعيف و هو لغة- يقال تعاهدت ضيعتي و تعهدتها و هو القيام عليها- و أصله من تجديد العهد بالشيء- و المراد المحافظة عليه- و قوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً- أي واجبا- و قيل موقوتا أي منجما كل وقت لصلاة معينة- و تؤدى هذه الصلاة في نجومها- .
و قوله كتابا أي فرضا واجبا- كقوله تعالى كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أوجب- . و الحمة الحفيرة فيها الحميم و هو الماء الحار- و هذا الخبر من الأحاديث الصحاح-قال ص أ يسر أحدكم أن تكون على بابه حمة- يغتسل منها كل يوم خمسمرات- فلا يبقى عليه من درنه شيء قالوا نعم- قال فإنها الصلوات الخمس- و الدرن الوسخ- . و التجارة في الآية إما أن يراد بها- لا يشغلهم نوع من هذه الصناعة عن ذكر الله- ثم أفرد البيع بالذكر- و خصه و عطفه على التجارة العامة- لأنه أدخل في الإلهاء- لأن الربح في البيع بالكسب معلوم- و الربح في الشراء مظنون- و إما أن يريد بالتجارة الشراء خاصة- إطلاقا لاسم الجنس الأعم على النوع الأخص- كما تقول رزق فلان تجارة رابحة- إذا اتجه له شراء صالح- فأما إقام الصلاة- فإن التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال- فإن أصله إقوام مصدر أقام كقولك أعرض إعراضا- فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض- فأسقطت التاء- . قوله ع و كان رسول الله ص نصبا بالصلاة أي تعبا- قال تعالى ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى- .
وروي أنه ع قام حتى تورمت قدماه- مع التبشير له بالجنةوروي أنه قيل له في ذلك فقال- أ فلا أكون عبدا شكورا- . و يصبر نفسه من الصبر- و يروى و يصبر عليها نفسه أي يحبس- قال سبحانه وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ- و قال عنترة يذكر حربا كان فيها-
فصبرت عارفة لذلك حرة
ترسو إذا نفس الجبان تطلع
فصل في ذكر الآثار الواردة في الصلاة و فضلها
و اعلم أن الصلاة قد جاء في فضلها الكثير- الذي يعجزنا حصره- و لو لم يكنإلا ما ورد في الكتاب العزيز- من تكرار ذكرها و تأكيد الوصاة بها و المحافظة عليها- لكان بعضه كافيا- .
وقال النبي ص الصلاة عمود الدين- فمن تركها فقد هدم الدين
وقال أيضا ع علم الإيمان الصلاة- فمن فرغ لها قلبه و قام بحدودها فهو المؤمن
وقالت أم سلمة كان رسول الله ص يحدثنا و نحدثه- فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا و لم نعرفه
وقيل للحسن رحمه الله- ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها- قال لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره
وقال عمر إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام- ما أكمل الله له صلاة قيل له و كيف ذلك- قال لا يتم خشوعها و تواضعها و إقباله على ربه فيها- .
و قال بعض الصالحين- إن العبد ليسجد السجدة عنده أنه متقرب بها إلى الله- و لو قسم ذنبه في تلك السجدة على أهل مدينة لهلكوا- قيل و كيف ذلك قال يكون ساجدا و قلبه عند غير الله- إنما هو مصغ إلى هوى أو دنيا- . صلى أعرابي في المسجد صلاة خفيفة- و عمر بن الخطاب يراه- فلما قضاها قال اللهم زوجني الحور العين- فقال عمر يا هذا لقد أسأت النقد و أعظمت الخطبة- .
وقال علي ع لا يزال الشيطان ذعرا من المؤمن ما حافظ على الخمس- فإذا ضيعهن تجرأ عليه و أوقعه في العظائموروي عن النبي ص أنه قال الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما- ما اجتنبت الكبائروجاء في الخبر أن رسول الله ص كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة- . و قال هشام بن عروة- كان أبي يطيل المكتوبة و يقول هي رأس المال- .
قال يونس بن عبيد- ما استخف أحد بالنوافل إلا استخف بالفرائض- . يقال إن محمد بن المنكدر جزأ الليل عليه- و على أمه و أخته أثلاثا فماتت أخته- فجزأه عليه و على أمه نصفين- فماتت أمه فقام الليل كله- . كان مسلم بن يسار لا يسمع الحديث إذا قام يصلي و لا يفهمه- و كان إذا دخل بيته سكت أهله- فلا يسمع لهم كلام حتى يقوم إلى الصلاة- فيتحدثون و يلغطون فهو لا يشعر بهم- . و وقع حريق إلى جنبه و هو في الصلاة- فلم يشعر به حتى حرق- . كان خلف بن أيوب لا يطرد الذباب- إذا وقع على وجهه و هو في الصلاة في بلاد كثيرة الذبان- فقيل له كيف تصبر- فقال بلغني أن الشطار يصبرون تحت السياط- ليقال فلان صبور- أ فلا أصبر و أنا بين يدي ربي على أذى ذباب يقع علي- .
قال ابن مسعود الصلاة مكيال فمن وفى وفي له- و من طفف ف وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ قال رجل لرسول الله ص- يا رسول الله ادع لي أن يرزقني الله مرافقتك في الجنة- فقال أعني على إجابة الدعوة بكثرة السجود- . قوله ع قربانا لأهل الإسلام- القربان اسم لما يتقرب به من نسيكة أو صدقة- . و روي و من النار حجازا بالزاي أي مانعا- و اللهف الحسرة- ينهى ععن إخراج الزكاة مع التسخط لإخراجها- و التلهف و التحسر على دفعها إلى أربابها و يقول- إن من يفعل ذلك يرجو بها نيل الثواب ضال مضيع لماله- غير ظافر بما رجاه من المثوبة
ذكر الآثار الواردة في فضل الزكاة و التصدق
و قد جاء في فضل الزكاة الواجبة- و فضل صدقة التطوع الكثير جدا- و لو لم يكن إلا أن الله تعالى قرنها بالصلاة- في أكثر المواضع التي ذكر فيها الصلاة لكفى- . وروى بريدة الأسلمي أن رسول الله ص قال ما حبس قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر- . و جاء في الذين يكنزون الذهب و الفضة- و لا ينفقونهما في سبيل الله ما جاء في الذكر الحكيم- و هو قوله تعالى- يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ الآية- قال المفسرون إنفاقها في سبيل الله إخراج الزكاة منها- .
و روى الأحنف قال قدمت المدينة- فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش- إذ جاء رجل خشن الجسد خشن الثياب- فقام عليهم فقال بشر الكانزين- برضف يحمى عليها في نار جهنم- فتوضع على حلمة ثدي الرجل حتى تخرج من نغض كتفه- ثم توضع على نغض كتفه حتى تخرج من حلمة ثديه- فسألت عنه فقيل هذا أبو ذر الغفاري و كان يذكره و يرفعه- .ابن عباس يرفعه من كان عنده ما يزكي فلم يزك- و كان عنده ما يحج فلم يحج سأل الرجعةيعني قوله رَبِّ ارْجِعُونِ- .
أبو هريرة سئل رسول الله ص أي الصدقة أفضل- فقال أن تعطي و أنت صحيح شحيح- تأمل البقاء و تخشى الفقر و لا تمهل- حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا و لفلان كذا- . و قيل للشبلي ما يجب في مائتي درهم- قال أما من جهة الشرع فخمسه- و أما من جهة الإخلاص فالكل- .أمر رسول الله ص بعض نسائه- أن تقسم شاة على الفقراء- فقالت يا رسول الله لم يبق منها غير عنقها- فقال ع كلها بقي غير عنقها- أخذ شاعر هذا المعنى فقال-
يبكي على الذاهب من ماله
و إنما يبقى الذي يذهب
السائب كان الرجل من السلف يضع الصدقة- و يمثل قائما بين يدي السائل الفقير و يسأله قبولها- حتى يصير هو في صورة السائل- . و كان بعضهم يبسط كفه و يجعلها تحت يد الفقير- لتكون يد الفقير العليا- .
وعن النبي ص ما أحسن عبد الصدقة- إلا أحسن الله إليه في مخلفيهوعنه ص الصدقة تسد سبعين بابا من الشروعنه ص أذهبوا مذمة السائل- و لو بمثل رأس الطائر من الطعام-.كان النبي ص لا يكل خصلتين إلى غيره- لا يوضئه أحد و لا يعطي السائل إلا بيده- . بعض الصالحين- الصلاة تبلغك نصف الطريق- و الصوم يبلغك باب الملك- و الصدقة تدخلك عليه بغير إذن- . الشعبي- من لم ير نفسه أحوج إلى ثواب الصدقة- من الفقير إلى صدقته- فقد أبطل صدقته و ضرب بها وجهه- .
كان الحسن بن صالح إذا جاءه سائل- فإن كان عنده ذهب أو فضة أو طعام أعطاه- فإن لم يكن أعطاه زيتا أو سمنا أو نحوهما مما ينتفع به- فإن لم يكن أعطاه كحلا- أو خرج بإبرة و خاط بها ثوب السائل- أو بخرقة يرقع بها ما تخرق من ثوبه- . و وقف مرة على بابه سائل ليلا- و لم يكن عنده ما يدفعه إليه- فخرج إليه بقصبة في رأسها شعلة و قال- خذ هذه و تبلغ بها إلى أبواب ناس لعلهم يعطونك- .
قوله ع ثم أداء الأمانة- هي العقد الذي يلزم الوفاء به- و أصح ما قيل في تفسير الآية أن الأمانة ثقيلة المحمل- لأن حاملها معرض لخطر عظيم- فهي بالغة من الثقل و صعوبة المحمل- ما لو أنها عرضت على السماوات و الأرض و الجبال- لامتنعت من حملها- . فأما الإنسان فإنه حملها و ألزم القيام بها- و ليس المراد بقولنا إنها عرضت على السماوات و الأرض- أي لو عرضت عليها و هي جمادات- بل المراد تعظيم شأن الأمانة- كما تقول هذا الكلام لا يحمله الجبال- و قولهامتلأ الحوض و قال قطني- . و قوله تعالى قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ- و مذهب العرب في هذا الباب- و توسعها و مجازاتها مشهور شائع
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 10