google-site-verification: googledc28cebad391242f.html
60-80 خطبه ها شرح ابن ابی الحدیدخطبه ها شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

خطبه 64 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

64 و من خطبة له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالًا- فَيَكُونَ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً- وَ يَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً- كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ قَلِيلٌ- وَ كُلُّ عَزِيزٍ غَيْرَهُ ذَلِيلٌ وَ كُلُّ قَوِيٍّ غَيْرَهُ ضَعِيفٌ- وَ كُلُّ مَالِكٍ غَيْرَهُ مَمْلُوكٌ وَ كُلُّ عَالِمٍ غَيْرَهُ مُتَعَلِّمٌ- وَ كُلُّ قَادِرٍ غَيْرَهُ يَقْدِرُ وَ يَعْجِزُ- وَ كُلُّ سَمِيعٍ غَيْرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الْأَصْوَاتِ- وَ يُصِمُّهُ كَبِيرُهَا وَ يَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا- وَ كُلُّ بَصِيرٍ غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الْأَلْوَانِ وَ لَطِيفِ الْأَجْسَامِ- وَ كُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرَهُ غَيْرُ بَاطِنٍ وَ كُلُّ بَاطِنٍ غَيْرَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ- لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ- وَ لَا تَخَوُّفٍ مِنْ عَوَاقِبِ زَمَانٍ- وَ لَا اسْتِعَانَةٍ عَلَى نِدٍّ مُثَاوِرٍ وَ لَا شَرِيكٍ مُكَاثِرٍ وَ لَا ضِدٍّ مُنَافِرٍ- وَ لَكِنْ خَلَائِقُ مَرْبُوبُونَ وَ عِبَادٌ دَاخِرُونَ- لَمْ يَحْلُلْ فِي الْأَشْيَاءِ فَيُقَالَ هُوَ فِيهَا كَائِنٌ- وَ لَمْ يَنْأَ عَنْهَا فَيُقَالَ هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ- لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ مَا ابْتَدَأَ- وَ لَا تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ وَ لَا وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَمَّا خَلَقَ- وَ لَا وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فِيمَا قَضَى وَ قَدَّرَ- بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ وَ عِلْمٌ مُحْكَمٌ- وَ أَمْرٌ مُبْرَمٌ الْمَأْمُولُ مَعَ النِّقَمِ- الْمَرْهُوبُ مَعَ النِّعَمِ يصم بفتح الصاد لأن الماضي صممت يا زيد- و الصمم فساد حاسة السمع و يصمه بكسرها- يحدث الصمم عنده و أصممت زيدا- .

و الند المثل و النظير و المثاور المواثب- و الشريك المكاثر المفتخر بالكثرة- و الضد المنافر المحاكم في الحسب- نافرت زيدا فنفرته أي غلبته- و مربوبون مملوكون- و داخرون ذليلون خاضعون- . و لم ينأ لم يبعد و لم يؤده لم يتعبه- و ذرأ خلق و ولجت عليه الشبهة بفتح اللام أي دخلت- و المرهوب المخوف- .

فأما قوله الذي لم يسبق له حال حالا- فيكون أولا قبل أن يكون آخرا- فيمكن تفسيره على وجهين- أحدهما أن معنى كونه أولا أنه لم يزل موجودا- و لا شي‏ء من الأشياء بموجود أصلا- و معنى كونه آخرا أنه باق لا يزال- و كل شي‏ء من الأشياء يعدم عدما محضا- حسب عدمه فيما مضى- و ذاته سبحانه ذات- يجب لها اجتماع استحقاق هذين الاعتبارين- معا في كل حال- فلا حال قط إلا و يصدق على ذاته- أنه يجب كونها مستحقة للأولية و الآخرية- بالاعتبار المذكور استحقاقا ذاتيا ضروريا- و ذلك الاستحقاق ليس على وجه وصف الترتيب- بل مع خلاف غيره من الموجودات الجسمانية- فإن غيره مما يبقى زمانين فصاعدا- إذا نسبناه إلى ما يبقى دون زمان بقائه- لم يكن استحقاقه الأولية و الآخرية- بالنسبة إليه على هذا الوصف- بل إما يكون استحقاقا بالكلية- بأن يكون استحقاقا قريبا- فيكون إنما يصدق عليه أحدهما- لأن الآخر لم يصدق عليه- أو يكونا معا يصدقان عليه مجتمعين غير مرتبين- لكن ليس ذلك لذات الموصوف بالأولية و الآخرية- بل إنما ذلك الاستحقاق لأمر خارج عن ذاته- .

الوجه الثاني أن يريد بهذا الكلام- أنه تعالى لا يجوز أن يكون موردا للصفات المتعاقبة- على ما يذهب إليه قوم من أهل التوحيد- قالوا لأنه واجب لذاته- و الواجب لذاته‏ واجب من جميع جهاته- إذ لو فرضنا جواز اتصافه بأمر جديد ثبوتي أو سلبي- لقلنا إن ذاته لا تكفي في تحققه- و لو قلنا ذلك لقلنا إن حصول ذلك الأمر أو سلبه عنه- يتوقف على حصول أمر خارج عن ذاته- أو على عدم أمر خارج عن ذاته- فتكون ذاته لا محالة متوقفة على حضور ذلك الحصول أو السلب- و المتوقف على المتوقف على الغير متوقف على الغير- و كل متوقف على الغير ممكن- و الواجب لا يكون ممكنا- فيكون معنى الكلام على هذا التفسير- نفي كونه تعالى ذا صفة بكونه أولا و آخرا- بل إنما المرجع بذلك إلى إضافات- لا وجود لها في الأعيان- و لا يكون ذلك من أحوال ذاته- الراجعة إليها كالعالمية و نحوها- لأن تلك أحوال ثابتة- و نحن إنما ننفي عنه بهذه الحجة الأحوال المتعاقبة- .

و أما قوله أو يكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا- فإن للباطل و الظاهر تفسيرا على وجهين- أحدهما أنه ظاهر بمعنى أن أدلة وجوده- و أعلام ثبوته و إلهيته جلية واضحة- و معنى كونه باطنا أنه غير مدرك بالحواس الظاهرة- بل بقوة أخرى باطنة و هي القوة العقلية- . و ثانيهما أنا نعني بالظاهر الغالب- يقال ظهر فلان على بني فلان أي غلبهم- و معنى الباطن العالم يقال بطنت سر فلان أي علمته- و القول في نفيه عنه سبحانه أن يكون ظاهرا قبل كونه باطنا- كالقول فيما تقدم من نفيه عنه سبحانه- كونه أولا قبل كونه آخرا- .

و أما قوله كل مسمى بالوحدة غيره قليل- فلأن الواحد أقل العدد- و معنى كونه واحدا يباين ذلك- لأن معنى كونه واحدا إما نفي الثاني في الإلهية- أو كونه يستحيل عليها الانقسام- و على كلا التفسيرين يسلب عنها مفهوم القلة- . هذا إذا فسرنا كلامه على التفسير الحقيقي- و إن فسرناه على قاعدة البلاغة و صناعة الخطابة- كان ظاهرا لأن الناس يستحقرون القليل لقلته- و يستعظمون الكثير لكثرته- قال الشاعر

تجمعتم من كل أوب و وجهة
على واحد لا زلتم قرن واحد

و أما قوله و كل عزيز غيره ذليل فهو حق- لأن غيره من الملوك و إن كان عزيزا- فهو ذليل في قبضة القضاء و القدر- و هذا هو تفسير قوله و كل قوى غيره ضعيف- و كل مالك غيره مملوك- . و أما قوله و كل عالم غيره متعلم فهو حق- لأنه سبحانه مفيض العلوم على النفوس- فهو المعلم الأول جلت قدرته- . و أما قوله و كل قادر غيره يقدر و يعجز فهو حق- لأنه تعالى قادر لذاته و يستحيل عليه العجز- و غيره قادر لأمر خارج عن ذاته- أما لقدرة كما قاله قوم- أو لبنية و تركيب كما قاله قوم آخرون- و العجز على من عداه غير ممتنع و عليه مستحيل- .

و أما قوله ع- و كل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات- و يصمه كبيرها و يذهب عنه ما بعد منها- فحق لأن كل ذي سمع من الأجسام- يضعف سمعه عن إدراك خفي الأصوات- و يتأثر من شديدها و قويها- لأنه يسمع بآلة جسمانية- و الآلة الجسمانية ذات قوة متناهية- واقفة عند حد محدود- و الباري تعالى بخلاف ذلك- . و اعلم أن أصحابنا اختلفوا- في كونه تعالى مدركا للمسموعات و المبصرات- فقال شيخنا أبو علي و أبو هاشم و أصحابهما- إن كونه مدركا صفة زائدة على كونه عالما- و قالا إنا نصف الباري تعالى- فيما لم يزل بأنه سميع بصير- و لا نصفه بأنه سامع مبصر- و معنى كونه سامعا مبصرا- أنه مدرك للمسموعات و المبصرات- .

و قال شيخنا أبو القاسم و أبو الحسين و أصحابهما- أن معنى كونه تعالى مدركا هو أنه عالم بالمدركات- و لا صفة له زائدة على صفته بكونه عالما- و هذا البحث مشروح- في كتبي الكلامية لتقرير الطريقين- و في شرح الغرر و غيرهما- .

و القول في شرح قوله- و كل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان- و لطيف الأجسام- كالقول فيما تقدم في إدراك السمع- . و أما قوله و كل ظاهر غيره غير باطن- و كل باطن غيره غير ظاهر فحق- لأن كل ظاهر غيره على التفسير الأول- فليس بباطن كالشمس و القمر و غيرهما- من الألوان الظاهرة- فإنها ليست إنما تدرك بالقوة العقلية- بل بالحواس الظاهرة- و أما هو سبحانه فإنه أظهر وجودا من الشمس- لكن ذلك الظهور لم يمكن إدراكه- بالقوى الحاسة الظاهرة- بل بأمر آخر- إما خفي في باطن هذا الجسد- أو مفارق ليس في الجسد- و لا في جهة أخرى غير جهة الجسد- .

و أما على التفسير الثاني- فلأن كل ملك ظاهر على رعيته- أو على خصومه و قاهر لهم- ليس بعالم ببواطنهم و ليس مطلعا على سرائرهم- و البارئ تعالى بخلاف ذلك- و إذا فهمت شرح القضية الأولى- فهمت شرح الثانية- و هي قوله و كل باطن غيره غير ظاهر

اختلاف الأقوال في خلق العالم

فأما قوله لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطانه- إلى قوله عباد داخرون- فاعلم أن‏ الناس- اختلفوا في كمية خلقه تعالى للعالم ما هي على أقوال-

القول الأول قول الفلاسفة- قال محمد بن زكريا الرازي عن أرسطاطاليس- إنه زعم أن العالم كان عن البارئ تعالى- لأن جوهره و ذاته جوهر- و ذات مسخرة للمعدوم أن يكون مسخرا موجودا- . قال و زعم ابن قيس أن علة وجود العالم وجود البارئ- . قال و على كلا القولين يكون العالم قديما- أما على قول أرسطو- فلأن جوهر ذات البارئ لما كان قديما لم يزل- وجب أن يكون أثرها و معلولها قديما- و أما على قول ابن قيس فلأن البارئ موجود لم يزل- لأن وجوده من لوازم ذاته- فوجب أن يكون فيضه و أثره أيضا لم يزل هكذا- .

قال ابن زكريا- فأما الذي يقول أصحاب أرسطاطاليس الآن في زماننا- فهو أن العالم لم يجب عن الله سبحانه عن قصد و لا غرض- لأن كل من فعل فعلا- لغرض كان حصول ذلك الغرض له- أولى من لا حصوله- فيكون كاملا لحصول ذلك الغرض- و واجب الوجود لا يجوز أن يكون كاملا- بأمر خارج عن ذاته- لأن الكامل لا من ذاته ناقص من ذاته- . قالوا لكن تمثل نظام العالم في علم واجب الوجود- يقتضي فيض ذلك النظام منه- قالوا و هذا معنى قول الحكماء الأوائل- إن علمه تعالى فعلي لا انفعالي- و إن العلم على قسمين- أحدهما ما يكون المعلوم سببا له- و الثاني ما يكون هو سبب المعلوم- مثال الأول أن نشاهد صورة فنعلمها- و مثال الثاني- أن يتصور الصائغ أو النجار أو البناء كيفية العمل- فيوقعه في الخارج على حسب ما تصوره- .

قالوا و علمه تعالى من القسم الثاني- و هذا هو المعنى المعبر عنه بالعناية- و هو إحاطة علم الأول الحق سبحانه بالكل- و بالواجب أن يكون عليه الكل- حتى يكون على أحسن النظام- و بأن ذلك واجب عن إحاطته- فيكون الموجود وفق المعلوم- من غير انبعاث قصد و طلب عن الأول الحق سبحانه- فعلمه تعالى بكيفية الصواب في ترتيب الكل- هو المنبع لفيضان الوجود في الكل- .

القول الثاني- قول حكاه أبو القاسم البلخي عن قدماء الفلاسفة- و إليه كان يذهب محمد بن زكريا الرازي من المتأخرين- . و هو أن علة خلق البارئ للعالم- تنبيه النفس على أن ما تراه من الهيولى- و تريده غير ممكن لترفض محبتها إياها و عشقها لها- و تعود إلى عالمها الأول غير مشتاقة إلى هذا العالم- .

و اعلم أن هذا القول هو القول المحكي عن الحرنانية- أصحاب القدماء الخمسة- و حقيقة مذهبهم إثبات قدماء خمسة- اثنان منهم حيان فاعلان و هما البارئ تعالى و النفس- و مرادهم بالنفس ذات هي مبدأ لسائر النفوس- التي في العالم كالأرواح البشرية- و القوى النباتية و النفوس الفلكية- و يسمون هذه الذات النفس الكلية- و واحد من الخمسة منفعل غير حي و هو الهيولى- و اثنان لا حيان و لا فاعلان و لا منفعلان- و هما الدهر و القضاء- قالوا و البارئ تعالى هو مبدأ العلوم و المنفعلات- و هو قائم العلم و الحكمة- كما أن النفس مبدأ الأرواح و النفوس- فالعلوم و المنفعلات تفيض من البارئ سبحانه- فيض النور عن قرص الشمس- و النفوس و الأرواح تفيض عن النفس الكلية- فيض النور عن القرص- إلا أن النفوس جاهلة- لا تعرف الأشياء إلا على أحد وجهين- إما أن يفيض فيض البارئ تعالى عليها تعقلا و إدراكا- و إما أن تمارس غيرها و تمازجه- فتعرف ما تعرف باعتبار الممارسة و المخالطة- معرفة ناقصة- و كان البارئ تعالى في الأزل عالما- بأن النفس تميل إلى التعلق بالهيولى و تعشقها- و تطلب اللذة الجسمانية- و تكره مفارقة الأجسام و تنسى نفسها- و لما كان البارئ سبحانه قائم العلم و الحكمة- اقتضت حكمته تركب الهيولى- لما تعلقت النفس بها ضروبا مختلفة من التراكيب- فجعل منها أفلاكا و عناصر و حيوانات و نباتات- فأفاض على النفوس تعقلا و شعورا- جعله سببا لتذكرها عالمها الأول- و معرفتها أنها ما دامت في هذا العالم- مخالطة للهيولى- لم تنفك عن الآلام- فيصير ذلك مقتضيا شوقها إلى عالمها الأول- الذي لها فيه اللذات الخالية عن الآلام- و رفضها هذا العالم الذي هو سبب أذاها و مضرتها- .

القول الثالث قول المجوس– إن الغرض من خلق العالم- أن يتحصن الخالق جل اسمه من العدو- و أن يجعل العالم شبكة له ليوقع العدو فيه- و يجعله في ربط و وثاق- و العدو عندهم هو الشيطان- و بعضهم يعتقد قدمه و بعضهم حدوثه- . قال قوم منهم إن البارئ تعالى استوحش- ففكر فكرة رديئة فتولد منها الشيطان- . و قال آخرون بل شك شكا رديئا- فتولد الشيطان من شكه- . و قال آخرون بل تولد من عفونة رديئة قديمة- و زعموا أن الشيطان حارب البارئ سبحانه- و كان في الظلم لم يزل بمعزل عن سلطان البارئ سبحانه- فلم يزل يزحف حتى رأى النور فوثب وثبة عظيمة- فصار في سلطان الله تعالى في النور- و أدخل معه الآفات و البلايا و السرور- فبنى الله سبحانه هذه الأفلاك- و الأرض و العناصر شبكة له- و هو فيها محبوس- لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه الأول- و صار في الظلمة- فهو أبدا يضطرب و يرمي الآفات على خلق الله سبحانه- فمن أحياه الله رماه الشيطان بالموت- و من أصحه رماه الشيطان بالسقم- و من سره رماه بالحزن و الكآبة- فلا يزال كذلك و كل يوم ينتقص سلطانه و قوته- لأن الله تعالى يحتال له كل يوم- و يضعفه إلى أن تذهب قوته كلها-و تجمد و تصير جمادا لا حراك به- فيضعه الله تعالى حينئذ في الجو- و الجو عندهم هو الظلمة و لا منتهى له- فيصير في الجو جمادا جامدا هوائيا- و يجمع الله تعالى أهل الأديان- فيعذبهم بقدر ما يطهرهم- و يصفيهم من طاعة الشيطان و يغسلهم من الأدناس- ثم يدخلهم الجنة- و هي جنة لا أكل فيها و لا شرب و لا تمتع- و لكنها موضع لذة و سرور- .

القول الرابع قول المانوية- و هو أن النور لا نهاية له من جهة فوق- و أما من جهة تحت فله نهاية- و الظلمة لا نهاية لها من جهة أسفل- و أما من جهة فوق فلها نهاية- و كان النور و الظلمة هكذا قبل خلق العالم- و بينهما فرجة- و أن بعض أجزاء النور اقتحم تلك الفرجة- لينظر إلى الظلمة فأسرته الظلمة- فأقبل عالم كثير من النور- فحارب الظلمة ليستخلص المأسورين من تلك الأجزاء- و طالت الحرب- و اختلط كثير من أجزاء النور بكثير من أجزاء الظلمة- فاقتضت حكمة نور الأنوار- و هو البارئ سبحانه عندهم- أن عمل الأرض من لحوم القتلى و الجبال من عظامهم- و البحار من صديدهم و دمائهم و السماء من جلودهم- و خلق الشمس و القمر و سيرهما- لاستقصاء ما في هذا العالم من أجزاء النور- المختلطة بأجزاء الظلمة- و جعل حول هذا العالم خندقا خارج الفلك الأعلى- يطرح فيه الظلام المستقصى- فهو لا يزال يزيد و يتضاعف و يكثر في هذا الخندق- و هو ظلام صرف قد استقصى نوره- و أما النور المستخلص- فيلحق بعد الاستقصاء بعالم الأنوار من فوق- فلا تزال الأفلاك متحركة- و العالم مستمرا إلى أن يتم استقصاء النور الممتزج- و حينئذ يبقى من النور الممتزج شي‏ء يسير- فينعقد بالظلمة لا تقدر النيران على استقصائه- فعند ذلك تسقط الأجسام العالية و هي الأفلاك- على الأجسام السافلة و هي الأرضون- و تثور نار و تضطرم في تلك الأسافل-و هي المسماة بجهنم- و يكون الاضطرام مقدار ألف و أربعمائة سنة- فتحلل بتلك النار تلك الأجزاء المنعقدة من النور- الممتزجة بأجزاء الظلمة- التي عجز الشمس و القمر عن استقصائها- فيرتفع إلى عالم الأنوار و يبطل العالم حينئذ- و يعود النور كله إلى حالة الأولى قبل الامتزاج- فكذلك الظلمة- .

القول الخامس قول متكلمي الإسلام- و هو على وجوه- أولها قول جمهور أصحابنا- إن الله تعالى إنما خلق العالم- للإحسان إليهم و الإنعام على الحيوان- لأن خلقه حيا نعمة عليه- لأن حقيقة النعمة موجودة فيه- و ذلك أن النعمة هي المنفعة المفعولة للإحسان- و وجود الجسم حيا منفعة مفعولة للإحسان- أما بيان كون ذلك منفعة- فلأن المنفعة هي اللذة و السرور و دفع المضار المخوفة- و ما أدى إلى ذلك و صححه- أ لا ترى أن من أشرف على أن يهوى من جبل- فمنعه بعض الناس من ذلك- فإنه يكون منعما عليه- و من سر غيره بأمر و أوصل إليه لذة- يكون قد أنعم عليه- و من دفع إلى غيره مالا يكون قد أنعم عليه- لأنه قد مكنه بدفعه إليه من الانتفاع و صححه له- و لا ريب أن وجودنا أحياء يصحح لنا اللذات- و يمكننا منها- لأنا لو لم نكن أحياء لم يصح ذلك فينا- قالوا و إنما قلنا إن هذه المنفعة مفعولة للإحسان- لأنها إما أن تكون مفعولة لا لغرض أو لغرض- و الأول باطل لأن ما يفعل لا لغرض عبث- و البارئ سبحانه لا يصح أن تكون أفعاله عبثا- لأنه حكيم- .

و أما الثاني فإما أن يكون ذلك الغرض- عائدا عليه سبحانه بنفع أو دفع ضرر- أو يعود على غيره- و الأول باطل لأنه غني لذاته- يستحيل عليه المنافع و المضار- و لا يجوز أن يفعله لمضرة يوصلها إلى غيره- لأن القصد إلى الإضرار بالحيوان- من غير استحقاق و لا منفعة- يوصل إليها بالمضرة قبيح تعالى الله عنه- فثبت أنه سبحانه إنما خلق الحيوان‏ لنفعه- و أما غير الحيوان فلو لم يفعله لينفع به الحيوان- لكان خلقه عبثا و البارئ تعالى لا يجوز عليه العبث- فإذا جميع ما في العالم إنما خلقه لينفع به الحيوان- .

فهذا هو الكلام في علة خلق العالم عندهم- و أما الكلام في وجه حسن تكليف الإنسان- فذاك مقام آخر لسنا الآن في بيانه- و لا الحاجة داعية إليه- . و ثانيها قول قوم من أصحابنا البغداديين- إنه خلق الخلق ليظهر به لأرباب العقول صفاته الحميدة- و قدرته على كل ممكن و علمه بكل معلوم- و ما يستحقه من الثناء و الحمد- قالوا و قد ورد الخبر أنه تعالى قال: كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن أعرف – و هذا القول ليس بعيدا- . و ثالثها للمجبرة إنه خلق الخلق لا لغرض أصلا- و لا يقال لم كان كل شي‏ء لعلة و لا علة لفعله- و مذهب الأشعري و أصحابه أن إرادته القديمة- تعلقت بإيجاد العالم- في الحال التي وجد فيها لذاتها- و لا لغرض و لا لداع- و ما كان يجوز ألا يوجد العالم حيث وجد- لأن الإرادة القديمة- لا يجوز أن تتقلب و تتغير حقيقتها- و كذلك القول عندهم في أجزاء العالم- المجددة من الحركات و السكنات- و الأجسام و سائر الأعراض- . و رابعها قول بعض المتكلمين- إن البارئ تعالى إنما فعل العالم- لأنه ملتذ بأن يفعل- و أجاز أرباب هذا القول عليه اللذة و السرور و الابتهاج- قالوا و البارئ سبحانه- و إن كان قبل أن يخلق العالم ملتذا- بكونه قادرا على خلق العالم- إلا أن لذة الفعل أقوى من لذة القدرة على الفعل- كان يلتذ بأنه قادر على أن يكتب خطا مستحسنا- أو يبنى بيتا محكما- فإنه إذا أخرج تلك الصناعة من القوة إلى الفعل- كانت لذته أتم و أعظم- قالوا و لم يثبت بالدليل العقلي- استحالة اللذة عليه- و قد ورد في الآثار النبوية أن الله تعالى يسر- و اتفقت الفلاسفة على أنه ملتذ بذاته و كماله- .

و عندي في هذا القول نظر- و لي في اللذة و الألم رسالة مفردة- و أما قوله لم يحلل في الأشياء- فيقال لا هو فيها كائن و لا منها مباين- فينبغي أن يحمل على أنه أراد أنه لم ينأ عن الأشياء- نأيا مكانيا- فيقال هو بائن بالمكان- هكذا ينبغي أن يكون مراده- لأنه لا يجوز إطلاق القول بأنه ليس ببائن عن الأشياء- و كيف و المجرد بالضرورة بائن عن ذي الوضع- و لكنها بينونة بالذات لا بالجهة- و المسلمون كلهم متفقون- على أنه تعالى يستحيل أن يحل في شي‏ء- إلا من اعتزى إلى الإسلام من الحلولية- كالذين قالوا بحلوله في علي و ولده- و كالذين قالوا بحلوله في أشخاص- يعتقدون فيها إظهاره كالحلاجية و غيرهم- و الدليل على استحالة حلوله سبحانه في الأجسام- أنه لو صح أن يحل فيها لم يعقل منفردا بنفسه أبدا- كما أن السواد لا يعقل كونه غير حال في الجسم- لأنه لو يعقل غير حال في الجسم لم يكن سوادا- و لا يجوز أن يكون الله تعالى حالا أبدا- و لا أن يلاقي الجسم- إذ ذلك يستلزم قدم الأجسام- و قد ثبت أنها حادثة- . فأما قوله لم يؤده خلق ما ابتدأ- إلى قوله عما خلق فهو حق- لأنه تعالى قادر لذاته- و القادر لذاته لا يتعب و لا يعجز- لأنه ليس بجسم- و لا قادر بقدرة يقف مقدورها عند حد و غاية- بل إنما يقدر على شي‏ء لأنه تعالى ذات مخصوصة- يجب لها أن تقدر على الممكنات- فيكون كل ممكن- داخلا تحت هذه القضية الكلية- و الذات التي تكون هكذا لا تعجز- و لا تقف مقدوراتها عند حد و غاية أصلا- و يستحيل عليها التعب- لأنها ليست ذات أعضاء و أجزاء- . و أما قوله و لا ولجت عليه شبهة- إلى قوله و أمر مبرم فحق- لأنه تعالى عالم لذاته- أي إنما علم ما علمه- لا بمعنى أن يتعلق بمعلوم دون معلوم- بل إنما علم أي شي‏ء أشرت إليه- لأنه ذات مخصوصة- و نسبة تلك الذات إلى غير ذلك الشي‏ء المشار إليه-كنسبتها إلى المشار إليه- فكانت عالمة بكل معلوم- و استحال دخول الشبهة عليها فيما يقضيه و يقدره- . و أما قوله المأمول مع النقم المرهوب مع النعم- فمعنى لطيف و إليه وقعت الإشارة بقوله تعالى- أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً- وَ هُمْ نائِمُونَ- أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى- وَ هُمْ يَلْعَبُونَ- و قوله سبحانه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ- و قوله تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً- إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً- و قوله سبحانه فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً- وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً- و إليه نظر الشاعر في قوله-

من عاش لاقى ما يسوء
من الأمور و ما يسر

و لرب حتف فوقه‏
ذهب و ياقوت و در

و قال البحتري

يسرك الشي‏ء قد يسوء و كم
نوه يوما بخامل لقبه‏

لا ييئس المرء أن ينجيه‏
ما يحسب الناس أنه عطبه‏

و قال آخر

رب غم يدب تحت سرور
و سرور يأتي من المحذور

 و قال سعيد بن حميد-

كم نعمة مطوية
لك بين أثناء النوائب‏

و مسرة قد أقبلت
من حيث تنتظر المصائب‏

 و قال آخر

أنتظر الروح و أسبابه
أيأس ما كنت من الروح‏

و قال آخر

ربما تجزع النفوس من الأمر
له فرجة كحل العقال‏

و قال آخر

العسر أكرمه ليسر بعده
و لأجل عين ألف عين تكرم‏

و المرء يكره يومه و لعله‏
يأتيه فيه سعادة لا تعلم‏

و قال الحلاج

و لربما هاج الكبير
من الأمور لك الصغير

و لرب أمر قد تضيق‏
به الصدور و لا يصير

 و قال آخر

يا راقد الليل مسرورا بأوله
إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

 و قال آخر

كم مرة حفت بك المكاره
خار لك الله و أنت كاره‏

و من شعري الذي أناجي به البارئ سبحانه في خلواتي- و هو فن أطويه و أكتمه عن الناس- و إنما ذكرت بعضه في هذا الموضع- لأن المعنى ساق إليه- و الحديث ذو شجون-

يا من جفاني فوجدي بعده عدم
هبني أسأت فأين العفو و الكرم‏

أنا المرابط دون الناس فاجف و صل
و اقبل و عاقب و حاسب لست انهزم‏

إن المحب إذا صحت محبته‏
فما لوقع المواضي عنده ألم‏

و حق فضلك ما استيأست من نعم
تسري إلي و إن حلت بي النقم‏

و لا أمنت نكالا منك أرهبه‏
و إن ترادفت الآلاء و النعم‏

حاشاك تعرض عمن في حشاشته
نار لحبك طول الدهر تضطرم‏

أ لم تقل إن من يدنو إلي قدر الذراع‏
أدنو له باعا و أبتسم‏

و الله و الله لو عاقبتني حقبا
بالنار تأكلني حطما و تلتهم‏

ما حلت عن حبك الباقي فليس على‏
حال بمنصرم و الدهر ينصرم‏

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 5 

نمایش بیشتر

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.

دکمه بازگشت به بالا
-+=