147 و من خطبة له ع
فَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّداً ص بِالْحَقِّ- لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ إِلَى عِبَادَتِهِ- وَ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَتِهِ- بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَ أَحْكَمَهُ- لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ- وَ لِيُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ- وَ لِيُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْكَرُوهُ- فَتَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ- مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ- وَ خَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ- وَ كَيْفَ مَحَقَ مَنْ مَحَقَ بِالْمَثُلَاتِ- وَ احْتَصَدَ مَنِ احْتَصَدَ بِالنَّقِمَاتِ الأوثان جمع وثن و هو الصنم- و يجمع أيضا على وثن مثل أسد و آساد و أسد- و سمي وثنا لانتصابه و بقائه على حال واحدة- من قولك وثن فلان بالمكان فهو واثن- و هو الثابت الدائم- . قوله فتجلى سبحانه لهم- أي ظهر من غير أن يرى بالبصر- بل بما نبههم عليه في القرآن من قصص الأولين- و ما حل بهم من النقمة عند مخالفة الرسل- . و المثلات بضم الثاء العقوبات- .
فإن قلت ظاهر هذا الكلام- أن الرسول ع بعث إلى الناس ليقروا بالصانع و يثبتوه- و هذا خلاف قول المعتزلة- لأن فائدة الرسالة عندهم- هي إلطافالمكلفين بالأحكام الشرعية المقربة- إلى الواجبات العقلية- و المبعدة من المقبحات العقلية- و لا مدخل للرسول في معرفة البارئ سبحانه- لأن العقل يوجبها و إن لم يبعث الرسل- . قلت إن كثيرا من شيوخنا أوجبوا بعثة الرسل- إذا كان في حثهم المكلفين على ما في العقول فائدة- و هو مذهب شيخنا أبي علي رحمه الله- فلا يمتنع أن يكون إرسال محمد ص إلى العرب و غيرهم- لأن الله تعالى علم أنهم مع تنبيهه إياهم- على ما هو واجب في عقولهم من المعرفة- أقرب إلى حصول المعرفة- فحينئذ يكون بعثه لطفا و يستقيم كلام أمير المؤمنين:
وَ إِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ- لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ- وَ لَا أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ- وَ لَا أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ- وَ لَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ- إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ- وَ لَا أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ- وَ لَا فِي الْبِلَادِ شَيْءٌ أَنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ- وَ لَا أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْكَرِ- فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ وَ تَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ- فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَ أَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ- وَ صَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ لَا يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ- فَالْكِتَابُ وَ أَهْلُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَ لَيْسَا فِيهِمْ- وَ مَعَهُمْ وَ لَيْسَا مَعَهُمْ- لِأَنَّ الضَّلَالَةَ لَا تُوَافِقُ الْهُدَى وَ إِنِ اجْتَمَعَا- فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ- وَ افْتَرَقُوا عَنِ الْجَمَاعَةِ كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ- وَ لَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ- فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلَّا اسْمُهُ- وَ لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا خَطَّهُ وَ زَبْرَهُ- وَ مِنْ قَبْلُ مَا مَثَلُوا بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَةٍ- وَ سَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللَّهِ فِرْيَةً وَ جَعَلُوا فِي الْحَسَنَةِ عُقُوبَةَ السَّيِّئَةِ- وَ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَ تَغَيُّبِ آجَالِهِمْ- حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْعُودُ الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ- وَ تُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ وَ تَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ وَ النِّقْمَةُ أخبر ع أنه سيأتي على الناس زمان- من صفته كذا و كذا- و قد رأيناه و رآه من كان قبلنا أيضا- قال شعبة إمام المحدثين تسعة أعشار الحديث كذب- .
و قال الدارقطني ما الحديث الصحيح في الحديث- إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود- و أما غلبة الباطل على الحق حتى يخفى الحق عنده فظاهرة- . و أبور أفسد من بار الشيء أي هلك- و السلعة المتاع و نبذ الكتاب ألقاه- و لا يؤويهما لا يضمهما إليه و ينزلهما عنده- . و الزبر مصدر زبرت أزبر بالضم أي كتبت- و جاء يزبر بالكسر و الزبر بالكسر الكتاب و جمعه زبور- مثل قدر و قدور و قرأ بعضهم وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً أي كتبا- و الزبور بفتح الزاي الكتاب المزبور فعول بمعنى مفعول- و قال الأصمعي سمعت أعرابيا يقول أنا أعرف بزبرتي- أي خطي و كتابتي- . و مثلوا بالصالحين بالتخفيف نكلوا بهم- مثلت بفلان أمثل بالضم مثلا بالفتح و سكون الثاء- و الاسم المثلة بالضم- و من روى مثلوا بالتشديد أراد جدعوهم بعد قتلهم- . و على في قوله و سموا صدقهم على الله فرية- ليست متعلقة بصدقهم بل بفرية-أي و سموا صدقهم فرية على الله- فإن امتنع أن يتعلق حرف الجر به لتقدمه عليه و هو مصدر- فليكن متعلقا بفعل مقدر دل عليه هذا المصدر الظاهر- و روي و جعلوا في الحسنة العقوبة السيئة- و الرواية الأولى بالإضافة أكثر و أحسن- . و الموعود هاهنا الموت- و القارعة المصيبة تقرع أي تلقى بشدة و قوة: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ مَنِ اسْتَنْصَحَ اللَّهَ وُفِّقَ- وَ مَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِيلًا هُدِيَ لِلَّتِي هِيَ أَقُومُ- فَإِنَّ جَارَ اللَّهِ آمِنٌ وَ عَدُوَّهُ خَائِفٌ- وَ إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللَّهِ أَنْ يَتَعَظَّمَ- فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لَهُ- وَ سَلَامَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ- فَلَا تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الْأَجْرَبِ- وَ الْبَارِئِ مِنْ ذِي السَّقَمِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ- حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ- وَ لَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ- وَ لَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَهُ- فَالْتَمِسُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ- فَإِنَّهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ وَ مَوْتُ الْجَهْلِ- هُمُ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ- وَ صَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ وَ ظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ- لَا يُخَالِفُونَ الدِّينَ وَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ- فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ وَ صَامِتٌ نَاطِقٌ مناستنصح الله- من أطاع أوامره و علم أنه يهديه إلى مصالحه- و يرده عن مفاسده و يرشده إلى ما فيه نجاته- و يصرفه عما فيه عطبه- .و التي هي أقوم- يعني الحالة و الخلة التي اتباعها أقوم- و هذا من الألفاظ القرآنية قال سبحانه- إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ- و المراد بتلك الحالة المعرفة بالله و توحيده و وعد له- .
ثم نهى ع عن التكبر و التعظم و قال- إن رفعة القوم الذين يعرفون عظمة الله أن يتواضعوا له- و ما هاهنا بمعنى أي شيء- و من روى بالنصب جعلها زائدة- و قد ورد في ذم التعظم و التكبر ما يطول استقصاؤه- و هو مذموم على العباد- فكيف بمن يتعظم على الخالق سبحانه- و إنه لمن الهالكين- وقال رسول الله ص لما افتخر أنا سيد ولد آدم- ثم قال و لا فخر- فجهر بلفظة الافتخار ثم أسقط استطالة الكبر- و إنما جهر بما جهر به- لأنه أقامه مقام شكر النعمة و التحدث بها- وفي الحديث المرفوع عنه ص أن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية و فخرها بالآباء- الناس بنو آدم و آدم من تراب- مؤمن تقي و فاجر شقي- لينتهين أقوام يفخرون برجال- إنما هم فحم من فحم جهنم- أو ليكونن أهون على الله من جعلان تدفع النتن بأنفها- .
قوله و اعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد- حتى تعرفوا الذي تركه- فيه تنبيه على أنه يجب البراءة من أهل الضلال- و هو قول أصحابنا جميعهم- فإنهم بين مكفر لمن خالف أصول التوحيد و العدل- و هم الأكثرون- أو مفسق و هم الأقلون- و ليس أحد منهم معذورا عند أصحابنا و إن ضل بعد النظر- كما لا نعذر اليهود و النصارى إذا ضلوا بعد النظر- . ثم قال ع فالتمسوا ذلك عند أهله- هذا كناية عنه ع و كثيرا ما يسلك هذا المسلك- و يعرض هذا التعريض- و هو الصادق الأمين العارف بأسرار الإلهية- .
ثم ذكر أن هؤلاء الذين أمر باتباعهم- ينبئ حكمهم عن علمهم- و ذلك لأن الامتحان يظهر خبيئة الإنسان- . ثم قال و صمتهم عن نطقهم- صمت العارف أبلغ من نطق غيره- و لا يخفى فضل الفاضل و إن كان صامتا- . ثم ذكر أنهم لا يخالفون الدين لأنهم قوامه و أربابه- و لا يختلفون فيه- لأن الحق في التوحيد و العدل واحد- فالدين بينهم شاهد صادق يأخذون بحكمه- كما يؤخذ بحكم الشاهد الصادق- . و صامت ناطق- لأنه لا ينطق بنفسه بل لا بد له من مترجم- فهو صامت في الصورة و هو في المعنى أنطق الناطقين- لأن الأوامر و النواهي و الآداب كلها مبنية عليه- و متفرعة عليه
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 9