خطبه 104 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

104 و من خطبة له ع

حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّداً ص- شَهِيداً وَ بَشِيراً وَ نَذِيراً- خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلًا- وَ أَنْجَبَهَا كَهْلًا- وَ أَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً- وَ أَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً- فَمَا احْلَوْلَتْ لَكُمُ الدُّنْيَا فِي لَذَّتِهَا- وَ لَا تَمَكَّنْتُمْ مِنْ رَضَاعِ أَخْلَافِهَا- إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ صَادَفْتُمُوهَا جَائِلًا خِطَامُهَا- قَلِقاً وَضِينُهَا- قَدْ صَارَ حَرَامُهَا عِنْدَ أَقْوَامٍ- بِمَنْزِلَةِ السِّدْرِ الْمَخْضُودِ- وَ حَلَالُهَا بَعِيداً غَيْرَ مَوْجُودٍ- وَ صَادَفْتُمُوهَا وَ اللَّهِ ظِلًّا مَمْدُوداً- إِلَى أَجْلٍ مَعْدُودٍ- فَالْأَرْضُ لَكُمْ شَاغِرَةٌ- وَ أَيْدِيكُمْ فِيهَا مَبْسُوطَةٌ- وَ أَيْدِي الْقَادَةِ عَنْكُمْ مَكْفُوفَةٌ- وَ سُيُوفُكُمْ عَلَيْهِمْ مُسَلَّطَةٌ- وَ سُيُوفُهُمْ عَنْكُمْ مَقْبُوضَةٌ- أَلَا وَ إِنَّ لِكُلِّ دَمٍ ثَائِراً- وَ لِكُلِّ حَقٍّ طَالِباً- وَ إِنَّ الثَّائِرَ فِي دِمَائِنَا كَالْحَاكِمِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ- وَ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ مَنْ طَلَبَ- وَ لَا يَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ- فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ يَا بَنِي أُمَيَّةَ عَمَّا قَلِيلٍ- لَتَعْرِفُنَّهَا فِي أَيْدِي غَيْرِكُمْ- وَ فِي دَارِ عَدُوِّكُمْ معنى كون النبي ص شهيدا- أنه يشهد على الأمة- بما فعلته من طاعة و عصيان- أنجبها أكرمها- و رجل نجيب أي كريم- بين النجابة و النجبة مثل الهمزة- .

و يقال هو نجبة القوم أي النجيب منهم- و أنجب الرجل أي ولد ولدا نجيبا- و امرأة منجبة و منجاب تلد النجباء- و نسوة مناجيب- . و الشيمة الخلق- و الديمة مطر يدوم- و المستمطرون المستجدون و المستماحون- و احلولت حلت- و قد عداه حميد بن ثور في قوله-

فلما أتى عامان بعد انفصاله
عن الضرع و احلولى دماثا يرودها

 و لم يجئ افعوعل متعديا إلا هذا الحرف- و حرف آخر و هو اعروريت الفرس- و هو الرضاع بفتح الراء- رضع الصبي أمه بكسر الضاد يرضعها رضاعا- مثل سمع يسمع سماعا- و أهل نجد يقولون رضع بالفتح يرضع بالكسر- مثل ضرب يضرب ضربا- و قال الأصمعي أخبرني عيسى بن عمر- أنه سمع العرب تنشد هذا البيت-

و ذموا لنا الدنيا و هم يرضعونها
أفاويق حتى ما يدر لها ثعل‏

 بكسر الضاد و الأخلاف للناقة بمنزلة الأطباء للكلبة- واحدها خلف بالكسر و هو حلمة الضرع- و الخطام زمام الناقة- خطمت البعير زممته- و ناقة مخطومة و نوق مخطمة- . و الوضين للهودج بمنزلة البطان للقتب- و التصدير للرحل و الحزام للسرج- و هو سيور تنسج مضاعفة بعضها على بعض- يشد بها الهودج منه إلى بطن البعير- و الجمع وضن- . و المخضود الذي خضد شوكة أي قطع- . و شاغرة خالية شغر المكان أي خلا- و بلدة شاغرة إذا لم تمتنع من غارة أحد- و الثائر طالب الثأر- لا يبقى على شي‏ء حتى يدرك ثأره- .

يقول ع مخاطبا لمن في عصره من بقايا الصحابة- و لغيرهم من التابعين- الذين لم يدركوا عصر رسول الله ص- إن الله بعث محمدا- و هو أكرم الناس شيمة- و أنداهم يدا و خيرهم طفلا- و أنجبهم كهلا- فصانه الله تعالى في أيام حياته- عن أن يفتح عليه الدنيا- و أكرمه عن ذلك فلم تفتح عليكم البلاد- و لا درت عليكم الأموال- و لا أقبلت الدنيا نحوكم- و ما دالت الدولة لكم إلا بعده- فتمكنتم من أكلها و التمتع بها- كما يتمكن الحالب من احتلاب الناقة فيحلبها- و حلت لذاتها لكم- و استطبتم العيشة- و وجدتموها حلوة خضرة- .

ثم ذكر أنهم صادفوها يعني الدنيا- و قد صعبت على من يليها ولاية حق- كما تستصعب الناقة على راكبها- إذا كانت جائلة الخطام- ليس زمامها بممكن راكبها من نفسه- قلقة الوضين- لا يثبت هودجها تحت الراكب- حرامها سهل التناول على من يريده- كالسدر الذي خضد عنه شوكه- فصار ناعما أملس- و حلالها غير موجود لغلبة الحرام عليه- و كونه صار مغمورا مستهلكا بالنسبة إليه- و هذا إشارة إلى ما كان يقوله دائما- من استبداد الخلفاء قبله دونه بالأمر- و أنه كان الأولى و الأحق- .

فإن قلت إذا كانت الدنيا قلقة الوضين- جائلة الخطام فهي صعبة الركوب- و هذا ضد قوله حرامها بمنزلة السدر المخضود- لأنه من الأمثال المضروبة للسهولة- قلت فحوى كلامه أن الدنيا جمحت به ع- فألقته عن ظهرها بعد أن كان راكبا لها- أو كالراكب لها لاستحقاقه ركوبها- و أنها صارت بعده كالناقة التي خلعت زمامها- أو أجالته فلا يتمكن راكبها من قبضه- و استرخى وضينها لشدة ما كان صدر عنها- من النفار و التقحم- حتى أذرت راكبها- فصارت على حال لا يركبها- إلا من هو موصوف بركوب غير طبيعي- لأنه ركب ما لا ينبغي أن يركب- فالذين ولوا أمرها ولوه‏ على غير الوجه- كما أن راكب هذه الناقة- يركبها على غير الوجه- و لهذا لم يقل- فصار حرامها بمنزلة السدر المخضود- بل قال عند أقوام فخصص- . و هذا الكلام كله محمول عند أصحابنا على التألم- من كون المتقدمين تركوا الأفضل- كما قدمناه في أول الكتاب- . ثم ذكر ع أن الدنيا فانية- و أنها ظل ممدود إلى أجل معدود- ثم ذكر أن الأرض بهؤلاء السكان- فيها صورة خالية من معنى- كما قال الشاعر

ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم
الله يعلم أني لم أقل فندا

إني لأفتح عيني ثم أغمضها
على كثير و لكن لا أرى أحدا

ثم أعاد الشكوى و التألم- فقال أيديكم في الدنيا مبسوطة- و أيدي مستحقي الرئاسة- و مستوجبي الأمر مكفوفة- و سيوفكم مسلطة علي أهل البيت- الذين هم القادة و الرؤساء- و سيوفهم مقبوضة عنكم- و كأنه كان يرمز إلى ما سيقع- من قتل الحسين ع و أهله- و كأنه يشاهد ذلك عيانا- و يخطب عليه- و يتكلم على الخاطر الذي سنح له- و الأمر الذي كان أخبر به- ثم قال إن لكل دم ثائرا يطلب القود- و الثائر بدمائنا ليس إلا الله وحده- الذي لا يعجزه مطلوب- و لا يفوته هارب- .

و معنى قوله ع كالحاكم في حق نفسه- أنه تعالى لا يقصر في طلب دمائنا- كالحاكم الذي يحكم لنفسه- فيكون هو القاضي و هو الخصم- فإنه إذا كان كذلك- يكون مبالغا جدا في استيفاء حقوقه- . ثم أقسم و خاطب بني أمية- و صرح بذكرهم- أنهم ليعرفن الدنيا- عن قليل في أيدي غيرهم و في دورهم- و أن الملك سينتزعه منهم أعداؤهم- و وقع الأمر بموجب إخباره ع‏ فإن الأمر بقي في أيدي بني أمية- قريبا من تسعين سنة- ثم عاد إلى البيت الهاشمي- و انتقم الله تعالى منهم- على أيدي أشد الناس عداوة لهم 

هزيمة مروان بن محمد في موقعة الزاب- ثم مقتله بعد ذلك

سار عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس- في جمع عظيم للقاء مروان بن محمد بن مروان- و هو آخر خلفاء الأمويين- فالتقيا بالزاب من أرض الموصل- و مروان في جموع عظيمة و أعداد كثيرة- فهزم مروان- و استولى عبد الله بن علي على عسكره- و قتل من أصحابه خلقا عظيما- و فر مروان هاربا- حتى أتى الشام و عبد الله يتبعه- فصار إلى مصر- فاتبعه عبد الله بجنوده- فقتله ببوصير الأشمونين من صعيد مصر- و قتل خواصه و بطانته كلها- و قد كان عبد الله قتل من بني أمية- على نهر أبي فطرس من بلاد فلسطين- قريبا من ثمانين رجلا- قتلهم مثلة- و احتذى أخوه داود بن علي بالحجاز فعله- فقتل منهم قريبا من هذه العدة بأنواع المثل- .

و كان مع مروان حين قتل ابناه عبد الله و عبيد الله- و كانا وليي عهده- فهربا في خواصهما إلى أسوان من صعيد مصر- ثم صارا إلى بلاد النوبة- و نالهم جهد شديد و ضر عظيم- فهلك عبد الله بن مروان في جماعة- ممن كان معه قتلا و عطشا و ضرا- و شاهد من بقي منهم أنواع الشدائد و ضروب المكاره- و وقع عبيد الله في عدة- ممن نجا معه في أرض البجه- و قطعوا البحر إلى ساحل جدة- و تنقل فيمن نجا معه- من أهله و مواليه في البلاد مستترين راضين- أن يعيشوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا- فظفر بعبد الله أيام السفاح- فحبس‏ فلم يزل في السجن بقية أيام السفاح- و أيام المنصور و أيام المهدي- و أيام الهادي و بعض أيام الرشيد- و أخرجه الرشيد و هو شيخ ضرير- فسأله عن خبره- فقال يا أمير المؤمنين- حبست غلاما بصيرا- و أخرجت شيخا ضريرا- فقيل إنه هلك في أيام الرشيد- و قيل عاش إلى أن أدرك خلافة الأمين- .

شهد يوم الزاب مع مروان- في إحدى الروايتين- إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك المخلوع- الذي خطب له بالخلافة بعد أخيه- يزيد بن الوليد بن عبد الملك- فقتل فيمن قتل- و في الرواية الثانية- أن إبراهيم قتله مروان الحمار قبل ذلك- . لما انهزم مروان يوم الزاب مضى نحو الموصل- فمنعه أهلها من الدخول- فأتى حران و كانت داره و مقامه- و كان أهل حران حين أزيل- لعن أمير المؤمنين عن المنابر- في أيام الجمع امتنعوا من إزالته- و قالوا لا صلاة إلا بلعن أبي تراب- فاتبعه عبد الله بن علي بجنوده- فلما شارفه خرج مروان- عن حران هاربا بين يديه و عبر الفرات- و نزل عبد الله بن علي على حران- فهدم قصر مروان بها- و كان قد أنفق على بنائه عشرة آلاف ألف درهم- و احتوى على خزائن مروان و أمواله- فسار مروان بأهله و عترته من بني أمية و خواصه- حتى نزل بنهر أبي فطرس- و سار عبد الله بن علي حتى نزل دمشق- فحاصرها و عليها من قبل مروان- الوليد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان- في خمسين ألف مقاتل- فألقى الله تعالى بينهم العصبية في فضل نزار على اليمن- و فضل اليمن على نزار- فقتل الوليد- و قيل بل قتل في حرب عبد الله بن علي- و ملك عبد الله دمشق- فأتى يزيد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان- و عبد الجبار بن يزيد بن عبد الملك بن مروان- فحملهما مأسورين إلى أبي العباس السفاح- فقتلهما و صلبهما بالحيرة- و قتل عبد الله بن علي بدمشق خلقا كثيرا- من أصحاب مروان و موالي بني أمية و أتباعهم- و نزل عبد الله على نهر أبي فطرس- فقتل من بني أمية هناك بضعا و ثمانين رجلا- و ذلك في ذي القعدة من سنة ثنتين و ثلاثين و مائة شعر عبد الله بن عمرو العبلي في رثاء قومهو في قتلى نهر أبي فطرس و قتلى الزاب- يقول أبو عدي عبد الله بن عمرو العبلي- و كان أموي الرأي-

تقول أمامة لما رأت
نشوزي عن المضجع الأملس‏

و قلة نومي على مضجعي‏
لدى هجعة الأعين النعس‏

أبي ما عراك فقلت الهموم
عرين أباك فلا تبلسي‏

عرين أباك فحبسنه‏
من الذل في شر ما محبس‏

لفقد الأحبة إذ نالها
سهام من الحدث المبئس‏

رمتها المنون بلا نكل‏
و لا طائشات و لا نكس‏

بأسهمها المتلفات النفوس
متى ما تصب مهجة تخلس‏

فصر عنهم بنواحي البلاد
فملقى بأرض و لم يرمس‏

نقى أصيب و أثوابه
من العيب و العار لم تدنس‏

و آخر قد رس في حفرة
و آخر طار فلم يحسس‏

أفاض المدامع قتلى كدى
و قتلى بكثوة لم ترمس‏

و قتلى بوج و باللابتين‏
من يثرب خير ما أنفس‏

و بالزابيين نفوس ثوت
و قتلى بنهر أبي فطرس‏

أولئك قومي أناخت بهم‏
نوائب من زمن متعس‏

إذا ركبوا زينوا الموكبين
و إن جلسوا زينة المجلس‏

و إن عن ذكرهم لم ينم‏
أبوك و أوحش في المأنس‏

فذاك الذي غالني فاعلمي
و لا تسألي بامرئ متعس‏

هم أضرعوني لريب الزمان‏
و هم ألصقوا الخد بالمعطس‏

أنفة بن مسلمة بن عبد الملك

و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني- قال نظر عبد الله بن علي في الحرب- إلى فتى عليه أبهة الشرف- و هو يحارب مستقتلا- فناداه يا فتى لك الأمان و لو كنت مروان بن محمد- قال إلا أكنه فلست بدونه- فقال و لك الأمان و لو كنت من كنت فأطرق- ثم أنشد

لذل الحياة و كره الممات
و كلا أراه طعاما وبيلا

و إن لم يكن غير إحداهما
فسيرا إلى الموت سيرا جميلا

ثم قاتل حتى قتل- فإذا هو ابن مسلمة بن عبد الملكمما قيل من الشعر في التحريض على قتل بني أمية و روى أبو الفرج أيضا- عن محمد بن خلف وكيع- قال دخل سديف مولى آل أبي لهب- على أبي العباس بالحيرة- و أبو العباس جالس على سريره- و بنو هاشم دونه على الكراسي- و بنو أمية حوله على وسائد قد ثنيت لهم- و كانوا في أيام دولتهم يجلسونهم- و الخليفة منهم على الأسرة- و يجلس بنو هاشم على الكراسي- فدخل الحاجب فقال يا أمير المؤمنين- بالباب رجل حجازي أسود- راكب على نجيب متلثم- يستأذن و لا يخبر باسمه- و يحلف لا يحسر اللثام عن وجهه- حتى يرى أمير المؤمنين- فقال هذا سديف مولانا أدخله فدخل- فلما نظر إلى أبي العباس- و بنو أمية حوله حسر اللثام عن وجهه- ثم أنشد

أصبح الملك ثابت الأساس
بالبهاليل من بني العباس‏

بالصدور المقدمين قديما
و البحور القماقم الرؤاس‏

يا إمام المطهرين من الذم
و يا رأس منتهى كل رأس‏

أنت مهدي هاشم و فتاها
كم أناس رجوك بعد أناس‏

لا تقيلن عبد شمس عثارا
و اقطعن كل رقلة و غراس‏

أنزلوها بحيث أنزلها الله
بدار الهوان و الإنعاس‏

خوفها أظهر التودد منها
و بها منكم كحز المواسي‏

أقصهم أيها الخليفة و احسم
عنك بالسيف شأفة الأرجاس‏

و اذكرن مصرع الحسين و زيد
و قتيلا بجانب المهراس‏

و القتيل الذي بحران أمسى
ثاويا بين غربة و تناس‏
فلقد ساءني و ساء سوائي‏
قربهم من نمارق و كراسي‏

نعم كلب الهراش مولاك شبل
لو نجا من حبائل الإفلاس‏

 قال فتغير لون أبي العباس- و أخذه زمع و رعدة- فالتفت بعض ولد سليمان بن عبد الملك- إلى آخر فيهم كان إلى جانبه- فقال قتلنا و الله العبد- فأقبل أبو العباس عليهم- فقال يا بني الزواني- لا أرى قتلاكم من أهلي قد سلفوا- و أنتم أحياء تتلذذون في الدنيا- خذوهم فأخذتهم الخراسانية بالكافر كوبات فأهمدوا- إلا ما كان من عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز- فإنه استجار بداود بن علي- و قال إن أبي لم يكن كآبائهم-

و قد علمت صنيعته إليكم- فأجاره و استوهبه من السفاح- و قال له قد علمت صنيع أبيه إلينا- فوهبه له و قال لا يريني وجهه- و ليكن بحيث نأمنه- و كتب إلى عماله في الآفاق بقتل بني أمية- . فأما أبو العباس المبرد- فإنه روى في الكامل هذا الشعر على غير هذا الوجه- و لم ينسبه إلى سديف- بل إلى شبل مولى بني هاشم- . قال أبو العباس- دخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي- و قد أجلس ثمانين من بني أمية على سمط الطعام- فأنشده

أصبح الملك ثابت الأساس
بالبهاليل من بني العباس‏

طلبوا وتر هاشم و شفوها
بعد ميل من الزمان و يأس‏

لا تقيلن عبد شمس عثارا
و اقطعن كل رقلة و أواسي‏

ذلها أظهر التودد منها
و بها منكم كحز المواسي‏

و لقد غاظني و غاظ سوائي
قربها من نمارق و كراسي‏

أنزلوها بحيث أنزلها الله‏
بدار الهوان و الإنعاس‏

و اذكرا مصرع الحسين و زيد
و قتلا بجانب المهراس‏

و القتيل الذي بحران أضحى‏
ثاويا بين غربة و تناس‏

نعم شبل الهراش مولاك شبل
لو نجا من حبائل الإفلاس‏

فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد- و بسطت البسط عليهم- و جلس عليها و دعا بالطعام- و إنه ليسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا- و قال لشبل- لو لا أنك خلطت شعرك بالمسألة لأغنمتك أموالهم- و لعقدت لك على جميع موالي بني هاشم- . قال أبو العباس الرقلة النخلة الطويلة- و الأواسي جمع آسية و هي أصل البناء كالأساس- و قتيل المهراس حمزة ع- و المهراس ماء بأحد- و قتيل حران إبراهيم الإمام- . قال أبو العباس- فأما سديف فإنه لم يقم هذا المقام- و إنما قام مقاما آخر- دخل على أبي العباس السفاح- و عنده سليمان بن هشام بن عبد الملك- و قد أعطاه يده فقبلها و أدناه- فأقبل على السفاح- و قال له

لا يغرنك ما ترى من رجال
إن تحت الضلوع داء دويا

فضع السيف و ارفع السوط حتى‏
لا ترى فوق ظهرها أمويا

فقال سليمان ما لي و لك أيها الشيخ- قتلتني قتلك الله- فقام أبو العباس- فدخل و إذا المنديل قد ألقي في عنق سليمان- ثم جر فقتل- . فأما سليمان بن يزيد بن عبد الملك بن مروان- فقتل بالبلقاء- و حمل رأسه إلى عبد الله بن علي

أخبار متفرقة في انتقال الملك من بني أمية إلى بني العباس

و ذكر صاحب مروج الذهب- أنه أرسل عبد الله أخاه صالح بن علي- و معه عامر بن إسماعيل- أحد الشيعة الخراسانية إلى مصر- فلحقوا مروان ببوصير- فقتلوه و قتلوا كل من كان معه من أهله و بطانته- و هجموا على الكنيسة التي فيها بناته و نساؤه- فوجدوا خادما- بيده سيف مشهور يسابقهم على الدخول- فأخذوه و سألوه عن أمره- فقال إن‏ أمير المؤمنين أمرني- إن هو قتل أن أقتل بناته و نساءه كلهن- قبل أن تصلوا إليهن- فأرادوا قتله- فقال لا تقتلوني- فإنكم إن قتلتموني- فقدتم ميراث رسول الله ص فقالوا و ما هو- فأخرجهم من القرية إلى كثبان من الرمل- فقال اكشفوا هاهنا- فإذا البردة و القضيب و قعب مخضب- قد دفنها مروان ضنا بها- أن تصير إلى بني هاشم- فوجه به عامر بن إسماعيل إلى صالح بن علي- فوجه به صالح إلى أخيه عبد الله- فوجه به عبد الله إلى أبي العباس- و تداوله خلفاء بني العباس من بعد- .

و أدخل بنات مروان و حرمه و نساؤه- على صالح بن علي- فتكلمت ابنة مروان الكبرى- فقالت يا عم أمير المؤمنين- حفظ الله لك من أمرك ما تحب حفظه- و أسعدك في أحوالك كلها- و عمك بخواص نعمه- و شملك بالعافية في الدنيا و الآخرة- نحن بناتك و بنات أخيك و ابن عمك- فليسعنا من عدلكم ما وسعنا من جوركم- قال إذا لا نستبقي منكم أحدا- لأنكم قد قتلتم إبراهيم الإمام- و زيد بن علي و يحيى بن زيد- و مسلم بن عقيل- و قتلتم خير أهل الأرض- حسينا و إخوته و بنيه و أهل بيته- و سقتم نساءه سبايا- كما يساق ذراري الروم- على الأقتاب إلى الشام- فقال يا عم أمير المؤمنين فليسعنا عفوكم إذا- قال أما هذا فنعم- و إن أحببت زوجتك من ابني الفضل بن صالح- قالت يا عم أمير المؤمنين- و أي ساعة عرس ترى- بل تلحقنا بحران- فحملهن إلى حران- .

كان عبد الرحمن بن حبيب بن مسلمة الفهري- عامل إفريقية لمروان- فلما حدثت الحادثة هرب عبد الله و العاص- ابنا الوليد بن يزيد بن عبد الملك إليه- فاعتصما به فخاف‏ على نفسه منهما- و رأى ميل الناس إليهما فقتلهما- و كان عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك- يريد أن يقصده و يلتجئ إليه- فلما علم ما جرى لابني الوليد بن يزيد- خاف منه فقطع المجاز بين إفريقية و الأندلس- و ركب البحر حتى حصل بالأندلس- فالأمراء الذين ولوها كانوا من ولده- .

ثم زال أمرهم و دولتهم على أيدي بني هاشم أيضا- و هم بنو حمود الحسنيون- من ولد إدريس بن الحسن ع- . لما قتل عامر بن إسماعيل مروان ببوصير- و احتوى على عسكره- دخل إلى الكنيسة التي كان فيها- فقعد على فراشه- و أكل من طعامه- فقالت له ابنة مروان الكبرى- و تعرف بأم مروان- يا عامر إن دهرا أنزل مروان عن فرشه- حتى أقعدك عليها- تأكل من طعامه ليلة قتله- محتويا على أمره- حاكما في ملكه و حرمه و أهله- لقادر أن يغير ذلك- فأنهي هذا الكلام إلى أبي العباس السفاح- فاستهجن ما فعله عامر بن إسماعيل- و كتب إليه- أ ما كان لك في أدب الله ما يزجرك- أن تقعد في مثل تلك الساعة على مهاد مروان- و تأكل من طعامه- أما و الله لو لا أن أمير المؤمنين- أنزل ما فعلته على غير اعتقاد منك- لذلك و لا نهم على طعام- لمسك من غضبه و أليم أدبه- ما يكون لك زاجرا و لغيرك واعظا- فإذا أتاك كتاب أمير المؤمنين- فتقرب إلى الله بصدقة تطفئ بها غضبه- و صلاة تظهر فيها الخشوع و الاستكانة له- و صم ثلاثة أيام- و تب إلى الله من جميع ما يسخطه و يغضبه- و مر جميع أصحابك أن يصوموا مثل صيامك- . و لما أتي أبو العباس برأس مروان- سجد فأطال- ثم رفع رأسه- و قال الحمد لله الذي‏ لم يبق ثأرنا قبلك و قبل رهطك- الحمد لله الذي أظفرنا بك- و أظهرنا عليك- ما أبالي متى طرقني الموت- و قد قتلت بالحسين ع ألفا من بني أمية- و أحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي- كما أحرقوا شلوه- و تمثل

لو يشربون دمي لم يرو شاربهم
و لا دماؤهم جمعا ترويني‏

 ثم حول وجهه إلى القبلة- فسجد ثانية ثم جلس فتمثل-

أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت
قواطع في أيماننا تقطر الدما

إذا خالطت هام الرجال تركتها
كبيض نعام في الثرى قد تحطما

 ثم قال أما مروان فقتلناه بأخي إبراهيم- و قتلنا سائر بني أمية بحسين- و من قتل معه و بعده من بني عمنا أبي طالب- . و روى المسعودي في كتاب مروج الذهب- عن الهيثم بن عدي- قال حدثني عمرو بن هانئ الطائي- قال خرجت مع عبد الله بن علي- لنبش قبور بني أمية في أيام أبي العباس السفاح- فانتهينا إلى قبر هشام بن عبد الملك- فاستخرجناه صحيحا- ما فقدنا منه إلا عرنين أنفه- فضربه عبد الله بن علي ثمانين سوطا ثم أحرقه- و استخرجنا سليمان بن عبد الملك من أرض دابق- فلم نجد منه شيئا إلا صلبه- و رأسه و أضلاعه فأحرقناه- و فعلنا مثل ذلك بغيرهما من بني أمية- و كانت قبورهم بقنسرين- ثم انتهينا إلى دمشق- فاستخرجنا الوليد بن عبد الملك- فما وجدنا في قبره قليلا و لا كثيرا- و احتفرنا عن عبد الملك فما وجدنا إلا شئون رأسه- ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية- فلم نجد منه إلا عظما واحدا- و وجدنا من موضع نحره إلى قدمه خطا واحدا أسود- كأنما خط بالرماد في طول لحده- و تتبعنا قبورهم في جميع البلدان- أحرقنا ما وجدنا فيها منهم- .

قلت قرأت هذا الخبر- على النقيب أبي جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي بن عبد الله- في سنة خمس و ستمائة- و قلت له أما إحراق هشام بإحراق زيد فمفهوم- فما معنى جلده ثمانين سوطا- فقال رحمه الله تعالى- أظن عبد الله بن علي ذهب في ذلك إلى حد القذف- لأنه يقال إنه قال لزيد يا ابن الزانية- لما سب أخاه محمدا الباقر ع- فسبه زيد- و قال له سماه رسول الله ص الباقر- و تسميه أنت البقرة- لشد ما اختلفتما و لتخالفنه في الآخرة- كما خالفته في الدنيا فيرد الجنة و ترد النار- .

و هذا استنباط لطيف- . قال مروان لكاتبه عبد الحميد بن يحيى- حين أيقن بزوال ملكه- قد احتجت إلى أن تصير مع عدوي و تظهر الغدر بي- فإن إعجابهم ببلاغتك- و حاجتهم إلى كتابتك- تدعوهم إلى اصطناعك و تقريبك- فإن استطعت أن تسعى لتنفعني في حياتي- و إلا فلن تعجز عن حفظ حرمي بعد وفاتي- فقال عبد الحميد- إن الذي أشرت به هو أنفع الأمرين لي- و أقبحهما بي- و ما عندي إلا الصبر معك- حتى يفتح الله لك أو أقتل بين يديك- ثم أنشد

أسر وفاء ثم أظهر غدرة
فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره‏

فثبت على حاله- و لم يصر إلى بني هاشم حتى قتل مروان- ثم قتل هو بعده صبرا- .و قال إسماعيل بن عبد الله القسري- دعاني مروان- و قد انتهت به الهزيمة إلى حران- فقال يا أبا هاشم و ما كان يكنيني قبلها- قد ترى ما جاء من الأمر- و أنت الموثوق به و لا عطر بعد عروس ما الرأي عندك- فقلت يا أمير المؤمنين علام أجمعت- قال ارتحل بموالي و من تبعني حتى آتي الدرب- و أميل إلى بعض مدن الروم- فأنزلها و أكاتب ملك الروم و أستوثق منه- فقد فعل ذلك جماعة من ملوك الأعاجم- و ليس هذا عارا على الملوك- فلا يزال يأتيني من الأصحاب الخائف- و الهارب و الطامع فيكثر من معي- و لا أزال على ذلك حتى يكشف الله أمري-

و ينصرني على عدوي- فلما رأيت ما أجمع عليه من ذلك- و كان الرأي- و رأيت آثاره في قومه من نزار و عصبيته- على قومي من قحطان غششته- فقلت أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا الرأي- أن تحكم أهل الشرك في بناتك و حرمك- و هم الروم لا وفاء لهم- و لا يدرى ما تأتي به الأيام- و إن حدث عليك حدث من أرض النصرانية- و لا يحدثن الله عليك إلا خيرا ضاع من بعدك- و لكن اقطع الفرات- و استنفر الشام جندا جندا- فإنك في كنف و عدة- و لك في كل جند صنائع و أصحاب- إلى أن تأتي مصر- فهي أكثر أرض الله مالا و خيلا و رجالا- و الشام أمامك و إفريقية خلفك-

فإن رأيت ما تحب انصرفت إلى الشام- و إن كانت الأخرى مضيت إلى إفريقية- فقال صدقت و أستخير الله- فقطع الفرات و الله ما قطعه معه من قيس إلا رجلان- ابن حديد السلمي و كان أخاه من الرضاعة- و الكوثر بن الأسود الغنوي- و غدر به سائر النزارية مع تعصبه لهم- فلما اجتاز ببلاد قنسرين و خناصرة- أوقعوا بساقته و وثب به أهل حمص- و صار إلى دمشق- فوثب به الحارث بن عبد الرحمن الحرشي ثم العقيلي- ثم أتى الأردن- فوثب به هاشم بن عمرو التميمي- ثم مر بفلسطين- فوثب به أهلها- و علم مروان أن إسماعيل بن عبد الله- قد غشه في الرأي- و لم يمحضه النصيحة- و أنه فرط في مشورته إياه-إذ شاور رجلا من قحطان موتورا شانئا له- و إن الرأي كان أول الذي هم به- من قطع الدرب و النزول- ببعض مدن الروم و مكاتبته ملكها- و لله أمر هو بالغه- .

لما نزل مروان بالزاب- جرد من رجاله- ممن اختاره من أهل الشام و الجزيرة و غيرها- مائة ألف فارس- على مائة ألف قارح- ثم نظر إليهم- و قال إنها لعدة و لا تنفع العدة- إذا انقضت المدة- . لما أشرف عبد الله بن علي يوم الزاب في المسودة و في أوائلهم البنود السود- تحملها الرجال على الجمال البخت- و قد جعل لها بدلا من القنا خشب الصفصاف و الغرب- قال مروان لمن قرب منه- أ ما ترون رماحهم كأنها النخل غلظا- أ ما ترون أعلامهم فوق هذه الإبل- كأنها قطع الغمام السود- فبينما هو ينظرها و يعجب- إذ طارت قطعة عظيمة من الغربان السود- فنزلت على أول عسكر عبد الله بن علي- و اتصل سوادها بسواد تلك الرايات و البنود- و مروان ينظر فازداد تعجبه- و قال أ ما ترون إلى السواد- قد اتصل بالسواد- حتى صار الكل كالسحب السود المتكاثفة- ثم أقبل على رجل إلى جنبه-

فقال أ لا تعرفني من صاحب جيشهم- فقال عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب- قال ويحك أ من ولد العباس هو قال نعم- قال و الله لوددت أن علي بن أبي طالب ع مكانه- في هذا الصف- قال يا أمير المؤمنين أ تقول هذا لعلي مع شجاعته التي ملأ الدنيا ذكرها- قال ويحك- إن عليا مع شجاعته صاحب دين- و إن الدين غير الملك- و إنا نروي عن قديمنا أنه لا شي‏ء لعلي- و لا لولده في هذا- ثم قال من هو من ولد العباس-فإني لا أثبت شخصه- قال هو الرجل الذي كان يخاصم بين يديك- عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر- فقال أذكرني صورته و حليته- قال هو الرجل الأقنى الحديد العضل- المعروق الوجه الخفيف اللحية- الفصيح اللسان- الذي قلت لما سمعت كلامه يومئذ- يرزق الله البيان من يشاء- فقال و إنه لهو قال نعم- فقال إنا لله و إنا إليه راجعون- أ تعلم لم صيرت الأمر بعدي لولدي عبد الله- و ابني محمد أكبر سنا منه- قال لا قال إن آباءنا أخبرونا- أن الأمر صائر بعدي إلى رجل- اسمه عبد الله فوليته دونه- .

ثم بعث مروان- بعد أن حدث صاحبه بهذا الحديث- إلى عبد الله بن علي سرا- فقال يا ابن عم إن هذا الأمر صائر إليك- فاتق الله و احفظني في حرمي- فبعث إليه عبد الله- أن الحق لنا في دمك- و أن الحق علينا في حرمك- . قلت إن مروان ظن- أن الخلافة تكون لعبد الله بن علي- لأن اسمه عبد الله- و لم يعلم أنها تكون لآخر اسمه عبد الله- و هو أبو العباس السفاح- . كان العلاء بن رافع سبط ذي الكلاع الحميري- مؤنسا لسليمان بن هشام بن عبد الملك- لا يكاد يفارقه- و كان أمر المسودة بخراسان- قد ظهر و دنوا من العراق- و اشتد إرجاف الناس- و نطق العدو بما أحب في بني أمية و أوليائهم- . قال العلاء فإني لمع سليمان- و هو يشرب تجاه رصافة أبيه- و ذلك في آخر أيام يزيد الناقص- و عنده الحكم الوادي- و هو يغنيه بشعر العرجي-

إن الحبيب تروحت أجماله
أصلا فدمعك دائم إسباله‏

فاقن الحياء فقد بكيت بعولة
لو كان ينفع باكيا إعواله‏

يا حبذا تلك الحمول و حبذا
شخص هناك و حبذا أمثاله‏

فأجاد ما شاء- و شرب سليمان بن هشام بالرطل- و شربنا معه حتى توسدنا أيدينا- فلم أنتبه إلا بتحريك سليمان إياي- فقمت مسرعا- و قلت ما شأن الأمير- فقال على رسلك- رأيت كأني في مسجد دمشق- و كأن رجلا على يده حجر- و على رأسه تاج أرى بصيص ما فيه من الجوهر- و هو رافع صوته بهذا الشعر-

أ بني أمية قد دنا تشتيتكم
و ذهاب ملككم و ليس براجع‏

و ينال صفوته عدو ظالم‏
كأسا لكم بسمام موت ناقع‏

فقلت أعيذ الأمير بالله وساوس الشيطان الرجيم- هذا من أضغاث الأحلام- و مما يقتضيه و يجلبه الفكر- و سماع الأراجيف- فقال الأمر كما قلت لك- ثم وجم ساعة- و قال يا حميري- بعيد ما يأتي به الزمان قريب- قال العلاء- فو الله ما اجتمعنا على شراب بعد ذلك اليوم- . سئل بعض شيوخ بني أمية عقيب زوال الملك عنهم- ما كان سبب زوال ملككم- فقال جار عمالنا على رعيتنا- فتمنوا الراحة منا- و تحومل على أهل خراجنا فجلوا عنا- و خربت ضياعنا فخلت بيوت أموالنا- و وثقنا بوزرائنا- فآثروا مرافقهم على منافعنا- و أمضوا أمورا دوننا أخفوا علمها عنا- و تأخر عطاء جندنا- فزالت طاعتهم لنا و استدعاهم عدونا- فظافروه على حربنا- و طلبنا أعداءنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا- و كان استتار الأخبار عنا- من أوكد أسباب زوال ملكنا- .

كان سعيد بن عمر بن جعدة بن هبيرة المخزومي- أحد وزراء مروان و سماره- فلما ظهرأمر أبي العباس السفاح- انحاز إلى بني هاشم- و مت إليهم بأم هانئ بنت أبي طالب- و كانت تحت هبيرة بن أبي وهب- فأتت منه بجعدة- فصار من خواص السفاح و بطانته- فجلس السفاح يوما- و أمر بإحضار رأس مروان و هو بالحيرة يومئذ- ثم قال للحاضرين أيكم يعرف هذا- فقال سعيد أنا أعرفه- هذا رأس أبي عبد الملك مروان بن محمد بن مروان- خليفتنا بالأمس رحمه الله تعالى- قال سعيد- فحدقت إلي الشيعة و رمتني بأبصارها- فقال لي أبو العباس- في أي سنة كان مولده- قلت سنة ست و سبعين- فقام و قد تغير لونه غضبا علي- و تفرق الناس من المجلس و تحدثوا به- فقلت زلة و الله لا تستقال و لا ينساها القوم أبدا- فأتيت منزلي- فلم أزل باقي يومي أعهد و أوصي- فلما كان الليل اغتسلت و تهيأت للصلاة- و كان أبو العباس إذا هم بأمر بعث فيه ليلا- فلم أزل ساهرا حتى أصبحت و ركبت بغلتي- و أفكرت فيمن أقصد في أمري- فلم أجد أحدا أولى من سليمان بن مجالد مولى بني زهرة- و كانت له من أبي العباس منزلة عظيمة- و كان من شيعة القوم فأتيته- فقلت له أ ذكرني أمير المؤمنين البارحة- قال نعم جرى ذكرك- فقال هو ابن أختنا وفي لصاحبه- و نحن لو أوليناه خيرا لكان لنا أشكر- فشكرت لسليمان بن مجالد ما أخبرني به- و جزيته خيرا و انصرفت- فلم أزل من أبي العباس على ما كنت عليه- لا أرى منه إلا خيرا- .

و إنما ذلك المجلس إلى عبد الله بن علي- و إلى أبي جعفر المنصور- فأما عبد الله بن علي فكتب إلى أبي العباس يغريه بي- و يعاتبه على الإمساك عني- و يقول له إنه ليس مثل هذا مما يحتمل- و كتب إليه أبو جعفر يعذر لي- و ضرب الدهر ضربه- فأتى ذات يوم عند أبي العباس فنهض و نهضت- فقال لي على رسلك يا ابن هبيرة- فجلست فرفع الستر- و دخل و ثبت في مجلسه قليلا- ثم خرج في ثوبي وشي و رداء و جبة- فما رأيت و الله أحسن منه و لا مما عليه قط- فقال لي يا ابن هبيرة- إني ذاكر لك أمرا- فلا يخرجن من رأسك إلى أحد من الناس- قلت نعم- قال قد علمت ما جعلنا من هذا الأمر- و ولاية العهد لمن قتل مروان- و إنما قتله عمي عبد الله- بجيشه و أصحابه و نفسه و تدبيره- و أنا شديد الفكر في أمر أخي أبي جعفر- في فضله و علمه و سنه و إيثاره لهذا الأمر- كيف أخرجه عنه- فقلت أصلح الله أمير المؤمنين- إني أحدثك حديثا تعتبر به- و تستغني بسماعه عن مشاورتي-

قال هاته- فقلت كنا مع مسلمة بن عبد الملك عام الخليج بالقسطنطينية- إذ ورد علينا كتاب عمر بن عبد العزيز- ينعى سليمان و مصير الأمر إليه فدخلت إليه- فرمى الكتاب إلي فقرأته و استرجعت- و اندفع يبكي و أطال- فقلت أصلح الله الأمير و أطال بقاءه- إن البكاء على الأمر الفائت عجز- و الموت منهل لا بد من ورده- فقال ويحك إني لست أبكي على أخي- لكني أبكي لخروج الأمر- عن ولد أبي إلى ولد عمي- فقال أبو العباس حسبك فقد فهمت عنك- ثم قال إذا شئت فانهض- فلما نهضت لم أمض بعيدا- حتى قال لي يا ابن هبيرة فالتفت إليه- فقال أما إنك قد كافأت أحدهما- و أخذت بثأرك من الآخر- قال سعيد فو الله ما أدري من أي الأمرين أعجب- من فطنته أم من ذكره- . لما ساير عبد الله بن علي- في آخر أيام بني أمية- عبد الله بن حسن بن حسن- و معهما داود بن علي- فقال داود لعبد الله بن الحسن- لم لا تأمر ابنيك بالظهور- فقال عبد الله بن حسن- لم يأن لهما بعد- فالتفت إليه عبد الله بن علي- فقال أظنك ترى أن ابنيك قاتلا مروان- فقال عبد الله بن حسن- إنه ذلك قال هيهات ثم تمثل-

سيكفيك الجعالة مستميت
خفيف الحاذ من فتيان جرم‏

أنا و الله أقتل مروان- و أسلبه ملكه- لا أنت و لا ولداك- . و قد روى أبو الفرج الأصفهاني- في كتاب الأغاني رواية أخرى- في سبب قتل السفاح- لمن كان أمنه من بني أمية- قال حدث الزبير بن بكار عن عمه- أن السفاح أنشد يوما قصيدة مدح بها- و عنده قوم من بني أمية- كان آمنهم على أنفسهم- فأقبل على بعضهم- فقال أين هذا مما مدحتم به- فقال هيهات- لا يقول و الله أحد فيكم مثل قول ابن قيس الرقيات فينا-

ما نقموا من بني أمية إلا
أنهم يحلمون إن غضبوا

و أنهم معدن الملوك فما
تصلح إلا عليهم العرب‏

 فقال له يا ماص كذا من أمه- و إن الخلافة لفي نفسك بعد- خذوهم فأخذوا و قتلوا- . و روى أبو الفرج أيضا- أن أبا العباس دعا بالغداء حين قتلوا- و أمر ببساط فبسط عليهم- و جلس فوقه يأكل و هم يضطربون تحته- فلما فرغ قال- ما أعلم أني أكلت أكلة قط كانت أطيب- و لا أهنأ في نفسي من هذه- فلما فرغ من الأكل- قال جروهم بأرجلهم- و ألقوهم في الطريق- ليلعنهم الناس أمواتا- كما لعنوهم أحياء- .

قال فلقد رأينا الكلاب تجرهم بأرجلهم- و عليهم سراويلات الوشي حتى أنتنوا- ثم حفرت لهم بئر فألقوا فيها- . قال أبو الفرج و روى عمر بن شبة- قال حدثني محمد بن معن الغفاري- عن معبد الأنباري عن أبيه- قال لما أقبل داود بن علي من مكة- أقبل معه بنو حسن جميعا- و فيهم عبد الله بن حسن بن حسن- و أخوه حسن بن الحسن- و معهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان- و هو أخو عبد الله بن الحسن لأمه- فعمل داود مجلسا ببعض الطريق- جلس فيه هو و الهاشميون كلهم- و جلس الأمويون تحتهم- فجاء ابن هرمة فأنشده قصيدة يقول فيها-

فلا عفا الله عن مروان مظلمة
و لا أمية بئس المجلس النادي‏

كانوا كعاد فأمسى الله أهلكهم‏
بمثل ما أهلك الغاوين من عاد

فلن يكذبني من هاشم أحد
فيما أقول و لو أكثرت تعدادي‏

قال فنبذ داود نحو عبد الرحمن- بن عنبسة بن سعيد بن العاص- ضحكة كالكشرة- فلما قاموا قال عبد الله بن الحسن- لأخيه الحسن بن الحسن- أ ما رأيت ضحك داود إلى ابن عنبسة- الحمد لله الذي صرفها عن أخي- يعني العثماني- قال فما هو إلا أن قدم المدينة- حتى قتل ابن عنبسة- . قال أبو الفرج و حدثني محمد بن معن- قال حدثني محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان- قال استحلف أخي عبد الله بن الحسن داود بن علي- و قد حج معه سنة اثنتين و ثلاثين و مائة- بطلاق امرأته مليكة بنت داود بن الحسن- ألا يقتل أخويه محمدا و القاسم- ابني عبد الله بن عمرو بن عثمان- قال فكنت أختلف إليه آمنا- و هو يقتل بني أمية- و كان يكره أن يراني أهل خراسان- و لا يستطيع إلي سبيلا ليمينه- فاستدناني يوما فدنوت منه- فقال ما أكثر الغفلة- و أقل الحزمة- فأخبرت بها أخي عبد الله بن الحسن- فقال يا ابن أم- تغيب عن الرجل و أقل عنه- فتغيب حتى مات- . قلت إلا أن ذلك الدين الذي لم يقضه داود- قضاه أبو جعفر المنصور- . و روى أبو الفرج في الكتاب المذكور- أن سديفا أنشد أبا العباس- و عنده رجال من بني أمية فقال-

يا ابن عم النبي أنت ضياء
استبنا بك اليقين الجليا

 فلما بلغ قوله-

جرد السيف و ارفع العفو حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويا

قطن البغض في القديم و أضحى‏
ثابتا في قلوبهم مطويا

و هي طويلة فقال أبو العباس- يا سديف خلق الإنسان من عجل- ثم أنشد أبو العباس متمثلا-

أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا
فلن تبيد و للآباء أبناء

ثم أمر بمن عنده فقتلوا- . و روى أبو الفرج أيضا- عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي- عن أبيه عن عمومته- أنهم حضروا سليمان بن علي بالبصرة- و قد حضر جماعة من بني أمية عنده- عليهم الثياب الموشاة المرتفعة- قال أحد الرواة المذكورين- فكأني أنظر إلى أحدهم- و قد أسود شيب في عارضيه من الغالية- فأمر بهم فقتلوا و جروا بأرجلهم- فألقوا على الطريق- و إن عليهم لسراويلات الوشي- و الكلاب تجرهم بأرجلهم- . و روى أبو الفرج أيضا عن طارق بن المبارك- عن أبيه قال- جاءني رسول عمرو بن معاوية- بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان- قال يقول لك عمرو- قد جاءت هذه الدولة- و أنا حديث السن كثير العيال منتشر الأموال- فما أكون في قبيلة إلا شهر أمري و عرفت- و قد عزمت على أن أخرج من الاستتار- و أفدي حرمي بنفسي- و أنا صائر إلى باب الأمير سليمان بن علي- فصر إلي- فوافيته فإذا عليه طيلسان أبيض مطبق- و سراويل وشي مسدول- فقلت يا سبحان الله ما تصنع الحداثة بأهلها- أ بهذا اللباس تلقى هؤلاء القوم-

لما تريد لقاءهم فيه- فقال لا و الله- و لكن ليس عندي ثوب إلا أشهر مما ترى- فأعطيته طيلساني و أخذت طيلسانه- و لويت سراويله إلى ركبتيه- فدخل إلي سليمان- ثم خرج مسرورا- فقلت له حدثني ما جرى بينك و بين الأمير- قال دخلت عليه و لم يرني قط- فقلت أصلح الله الأمير- لفظتني البلاد إليك و دلني فضلك‏عليك- إما قتلتني غانما- و إما أمنتني سالما- فقال و من أنت حتى أعرفك فانتسبت له-

فقال مرحبا بك اقعد فتكلم سالما آمنا- ثم أقبل علي فقال حاجتك يا ابن أخي- فقلت إن الحرم اللواتي أنت أقرب الناس إليهن معنا- و أولى الناس بهن بعدنا- قد خفن لخوفنا و من خاف خيف عليه- فو الله ما أجابني إلا بدموعه على خديه- ثم قال يا ابن أخي يحقن الله دمك- و يحفظك في حرمك- و يوفر عليك مالك- فو الله لو أمكنني ذلك في جميع قومك لفعلت- فكن متواريا كظاهر و آمنا كخائف- و لتأتني رقاعك- قال فو الله لقد كنت أكتب إليه- كما يكتب الرجل إلى أبيه و عمه- قال فلما فرغ من الحديث- رددت عليه طيلسانه- فقال مهلا فإن ثيابنا إذا فارقتنا لم ترجع إلينا- . و روى أبو الفرج الأصفهاني- قال أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري- عن عمر بن شبة قال- قال سديف لأبي العباس يحضه على بني أمية- و يذكر من قتل مروان و بنو أمية من أهله-

كيف بالعفو عنهم و قديما
قتلوكم و هتكوا الحرمات‏

أين زيد و أين يحيى بن زيد
يا لها من مصيبة وترات‏

و الإمام الذي أصيب بحران
إمام الهدى و رأس الثقات‏

قتلوا آل أحمد لا عفا الذنب‏
لمروان غافر السيئات‏

 قال أبو الفرج- و أخبرني علي بن سليمان الأخفش- قال أنشدني محمد بن يزيد المبرد- لرجل من شيعة بني العباس يحضهم على بني أمية-

إياكم أن تلينوا لاعتذارهم
فليس ذلك إلا الخوف و الطمع‏

لو أنهم أمنوا أبدوا عداوتهم‏
لكنهم قمعوا بالذل فانقمعوا

أ ليس في ألف شهر قد مضت لهم
سقيتم جرعا من بعدها جرع‏

حتى إذا ما انقضت أيام مدتهم‏
متوا إليكم بالأرحام التي قطعوا

هيهات لا بد أن يسقوا بكأسهم
ريا و أن يحصدوا الزرع الذي زرعوا

إنا و إخواننا الأنصار شيعتكم‏
إذا تفرقت الأهواء و الشيع‏

 قال أبو الفرج- و روى ابن المعتز في قصة سديف مثل ما ذكرناه من قبل- إلا أنه قال فيها- فلما أنشده ذلك- التفت إليه أبو الغمر سليمان بن هشام- فقال يا ماص بظر أمه- أ تجبهنا بمثل هذا و نحن سروات الناس- فغضب أبو العباس- و كان سليمان بن هشام صديقه قديما و حديثا- يقضي حوائجه في أيامهم و يبره- فلم يلتفت إلى ذلك و صاح بالخراسانية- خذوهم فقتلوهم جميعا إلا سليمان بن هشام- فأقبل عليه أبو العباس- فقال يا أبا الغمر ما أرى لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا- قال لا و الله قال فاقتلوه- و كان إلى جنبه فقتل و صلبوا في بستانه- حتى تأذى جلساؤه بريحهم- فكلموه في ذلك- فقال و الله إن ريحهم عندي لألذ و أطيب- من ريح المسك و العنبر- غيظا عليهم و حنقا- . قال أبو الفرج- و كان أبو سعيد مولى فائد من مواليهم- يعد في موالي عثمان بن عفان- و اسم أبي سعيد إبراهيم- و هو من شعرائهم الذين رثوهم- و بكوا على دولتهم و أيامهم- فمن شعره بعد زوال أمرهم-

بكيت و ما ذا يرد البكاء
و قل البكاء لقتلى كداء

أصيبوا معا فتولوا معا
كذلك كانوا معا في رخاء

بكت لهم الأرض من بعدهم
و ناحت عليهم نجوم السماء

و كانوا ضياء فلما انقضى‏
الزمان بقومي تولى الضياء

و من شعره فيهم-

أثر الدهر في رجالي فقلوا
بعد جمع فراح عظمي مهيضا

ما تذكرتهم فتملك عيني‏
فيض دمع و حق لي أن تفيضا

و من شعره فيهم-

أولئك قومي بعد عز و ثروة-
تداعوا فإلا تذرف العين أكمد

كأنهم لأناس للموت غيرهم‏
و إن كان فيهم منصفا غير معتد

و قال أبو الفرج ركب المأمون بدمشق يتصيد- حتى بلغ جبل الثلج- فوقف في بعض الطريق على بركة عظيمة- في جوانبها أربع سروات- لم ير أحسن منها فنزل هناك- و جعل ينظر إلى آثار بني أمية- و يعجب منها و يذكرهم- ثم دعا بطبق عليه طعام فأكل- و أمر علوية فغنى-

أولئك قومي بعد عز و منعة
تفانوا فإلا تذرف العين أكمد

 و كان علوية من موالي بني أمية- فغضب المأمون- و قال يا ابن الفاعلة- أ لم يكن لك وقت- تبكي فيه على قومك إلا هذا الوقت- قال كيف لا أبكي عليهم- و مولاكم زرياب- كان في أيام دولتهم يركب معهم في مائة غلام- و أنا مولاهم معكم أموت جوعا- فقام المأمون‏ فركب و انصرف الناس- و غضب على علوية عشرين يوما- و كلم فيه فرضي عنه- و وصله بعشرين ألف درهم- . لما ضرب عبد الله بن علي أعناق بني أمية- قال له قائل من أصحابه- هذا و الله جهد البلاء- فقال عبد الله كلا- ما هذا و شرطة حجام إلا سواء- إنما جهد البلاء فقر مدقع بعد غنى موسع- . خطب سليمان بن علي لما قتل بني أمية بالبصرة-

فقال وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ- أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ- قضاء فصل و قول مبرم- فالحمد لله الذي صدق عبده- و أنجز وعده و بعدا للقوم الظالمين- الذين اتخذوا الكعبة غرضا- و الدين هزوا و الفي‏ء إرثا و القرآن عضين- لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون- و كأين ترى لهم من بئر معطلة و قصر مشيد- ذلك بما قدمت أيديهم- و ما ربك بظلام للعبيد- أمهلهم حتى اضطهدوا العترة- و نبذوا السنة- و استفتحوا و خاب كل جبار عنيد- ثم أخذهم فهل تحس منهم من أحد- أو تسمع لهم ركزا- . ضرب الوليد بن عبد الملك- علي بن عبد الله بن العباس بالسياط- و شهره بين الناس يدار به على بعير- و وجهه مما يلي ذنب البعير- و صائح يصيح أمامه- هذا علي بن عبد الله الكذاب- فقال له قائل و هو على تلك الحال- ما الذي نسبوك إليه من الكذب يا أبا محمد- قال بلغهم قولي إن هذا الأمر سيكون في ولدي- و الله ليكونن فيهم-حتى يملكه عبيدهم الصغار العيون- العراض الوجوه- الذين كان وجوههم المجان المطرقة- . و روي أن علي بن عبد الله دخل على هشام- و معه ابنا ابنه الخليفتان أبو العباس و أبو جعفر- فكلمه فيما أراد- ثم ولى فقال هشام- إن هذا الشيخ قد خرف و أهتر- يقول إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده- فسمع علي بن عبد الله كلامه- فالتفت إليه- و قال إي و الله ليكونن ذلك- و ليملكن هذان- .

و قد روى أبو العباس المبرد- في كتاب الكامل هذا الحديث- فقال دخل علي بن عبد الله بن العباس- على سليمان بن عبد الملك- فيما رواه محمد بن شجاع البلخي- و معه ابنا ابنه الخليفتان بعد- أبو العباس و أبو جعفر- فأوسع له على سريره و بره و سأله عن حاجته- فقال ثلاثون ألف درهم علي دين- فأمر بقضائها- قال و استوص بابني هذين خيرا ففعل- فشكره علي بن عبد الله- و قال وصلتك رحم- فلما ولى قال سليمان لأصحابه- إن هذا الشيخ قد اختل و أسن و خلط- و صار يقول إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده- فسمع ذلك علي بن عبد الله- فالتفت إليه- و قال إي و الله ليكونن ذلك و ليملكن هذان- .

قال أبو العباس المبرد- و في هذه الرواية غلط- لأن الخليفة في ذلك الوقت لم يكن سليمان- و إنما ينبغي أن يكون دخل على هشام- لأن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس- كان يحاول التزويج في بني الحارث بن كعب- و لم يكن سليمان بن عبد الملك يأذن له- فلما قام عمر بن عبد العزيز جاء- فقال إني أردت أن أتزوج ابنة خالي- من بني الحارث‏ بن كعب- فتأذن لي فقال عمر بن عبد العزيز- تزوج يرحمك الله من أحببت- فتزوجها فأولدها أبا العباس السفاح- و عمر بن عبد العزيز بعد سليمان- و أبو العباس ينبغي ألا يكون تهيأ لمثله- أن يدخل على خليفة حتى يترعرع- و لا يتم مثل هذا إلا في أيام هشام بن عبد الملك- .

قال أبو العباس المبرد و قد جاءت الرواية- أن أمير المؤمنين عليا ع لما ولد- لعبد الله بن العباس مولود- فقده وقت صلاة الظهر- فقال ما بال ابن العباس لم يحضر- قالوا ولد له ولد ذكر يا أمير المؤمنين- قال فامضوا بنا إليه فأتاه- فقال له شكرت الواهب- و بورك لك في الموهوب- ما سميته فقال يا أمير المؤمنين- أ و يجوز لي أن أسميه حتى تسميه- فقال أخرجه إلي فأخرجه- فأخذه فحنكه و دعا له ثم رده إليه- و قال خذ إليك أبا الأملاك- قد سميته عليا و كنيته أبا الحسن- قال فلما قدم معاوية خليفة- قال لعبد الله بن العباس- لا أجمع لك بين الاسم و الكنية- قد كنيته أبا محمد فجرت عليه- .

قلت- سألت النقيب أبا جعفر يحيى- بن محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى- فقلت له من أي طريق عرف بنو أمية- أن الأمر سينتقل عنهم- و أنه سيليه بنو هاشم- و أول من يلي منهم يكون اسمه عبد الله- و لم منعوهم عن مناكحة بني الحارث بن كعب- لعلمهم أن أول من يلي الأمر من بني هاشم- تكون أمه حارثية- و بأي طريق عرف بنو هاشم- أن الأمر سيصير إليهم- و يملكه عبيد أولادهم- حتى عرفوا صاحب الأمر بعينه- كما قد جاء في هذا الخبر-

فقال أصل هذا كله محمد بن الحنفية- ثم ابنه عبد الله المكنى أبا هاشم- . قلت له- أ فكان محمد بن الحنفية مخصوصا من أمير المؤمنين ع- بعلم يستأثر به على أخويه حسن و حسين ع- قال لا و لكنهما كتما و أذاع- ثم قال قد صحت الرواية عندنا عن أسلافنا- و عن غيرهم من أرباب الحديث- أن عليا ع لما قبض- أتى محمد ابنه أخويه حسنا و حسينا ع- فقال لهما أعطياني ميراثي من أبي- فقالا له قد علمت- أن أباك لم يترك صفراء و لا بيضاء- فقال قد علمت ذلك- و ليس ميراث المال أطلب- إنما أطلب ميراث العلم- .

قال أبو جعفر رحمه الله تعالى فروى أبان بن عثمان عمن يروي له ذلك عن جعفر بن محمد ع قال فدفعا إليه صحيفة لو أطلعاه على أكثر منها لهلك- فيها ذكر دولة بني العباس- . قال أبو جعفر- و قد روى أبو الحسن علي بن محمد النوفلي- قال حدثني عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس- قال لما أردنا الهرب من مروان بن محمد- لما قبض على إبراهيم الإمام- جعلنا نسخة الصحيفة- التي دفعها أبو هاشم بن محمد بن الحنفية- إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس- و هي التي كان آباؤنا يسمونها صحيفة الدولة- في صندوق من نحاس صغير- ثم دفناه تحت زيتونات بالشراة- لم يكن بالشراة من الزيتون غيرهن- فلما أفضى السلطان إلينا و ملكنا الأمر- أرسلنا إلى ذلك الموضع فبحث و حفر- فلم يوجد فيه شي‏ء- فأمرنا بحفر جريب من الأرض في ذلك الموضع- حتى بلغ الحفر الماء و لم نجد شيئا- . قال أبو جعفر- و قد كان محمد بن الحنفية صرح بالأمر- لعبد الله بن العباس و عرفه تفصيله- و لم يكن أمير المؤمنين ع قد فصل- لعبد الله بن العباس الأمر- و إنما أخبره به‏ مجملا- كقوله في هذا الخبر- خذ إليك أبا الأملاك- و نحو ذلك مما كان يعرض له به- و لكن الذي كشف القناع- و أبرز المستور عليه هو محمد بن الحنفية- .

و كذلك أيضا ما وصل إلى بني أمية من علم هذا الأمر- فإنه وصل من جهة محمد بن الحنفية- و أطلعهم على السر الذي علمه- و لكن لم يكشف لهم كشفه لبني العباس- فإن كشفه الأمر لبني العباس كان أكمل- . قال أبو جعفر فأما أبو هاشم- فإنه قد كان أفضى بالأمر- إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس- و أطلعه عليه و أوضحه له- فلما حضرته الوفاة عقيب انصرافه- من عند الوليد بن عبد الملك مر بالشراة- و هو مريض و محمد بن علي بها- فدفع إليه كتبه و جعله وصيه- و أمر الشيعة بالاختلاف إليه- . قال أبو جعفر- و حضر وفاة أبي هاشم ثلاثة نفر من بني هاشم- محمد بن علي هذا- و معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب- و عبد الله بن الحارث بن نوفل- بن الحارث بن عبد المطلب- فلما مات خرج محمد بن معاوية- بن عبد الله بن جعفر من عنده- و كل واحد منهما يدعي وصايته- فأما عبد الله بن الحارث فلم يقل شيئا- . قال أبو جعفر رحمه الله تعالى- و صدق محمد بن علي- أنه إليه أوصى أبو هاشم- و إليه دفع كتاب الدولة- و كذب معاوية بن عبد الله بن جعفر- لكنه قرأ الكتاب- فوجد لهم فيه ذكرا يسيرا- فادعى الوصية بذلك- فمات و خرج ابنه عبد الله بن معاوية- يدعي وصاية أبيه- و يدعي لأبيه وصاية أبي هاشم- و يظهر الإنكار على بني أمية- و كان له في ذلك شيعة يقولون بإمامته سرا حتى قتل- . دخلت إحدى نساء بني أمية على سليمان بن علي- و هو يقتل بني أمية بالبصرة-فقالت أيها الأمير- إن العدل ليمل من الإكثار منه و الإسراف فيه- فكيف لا تمل أنت من الجور و قطيعة الرحم- فأطرق ثم قال لها-

سننتم علينا القتل لا تنكرونه
فذوقوا كما ذقنا على سالف الدهر

ثم قال يا أمة الله

و أول راض سنة من يسيرها

 أ لم تحاربوا عليا و تدفعوا حقه- أ لم تسموا حسنا و تنقضوا شرطه- أ لم تقتلوا حسينا و تسيروا رأسه- أ لم تقتلوا زيدا و تصلبوا جسده- أ لم تقتلوا يحيى و تمثلوا به- أ لم تلعنوا عليا على منابركم- أ لم تضربوا أبانا علي بن عبد الله بسياطكم- أ لم تخنقوا الإمام بجراب النورة في حبسكم- ثم قال أ لك حاجة- قالت قبض عمالك أموالي- فأمر برد أموالها عليها- . لما سار مروان إلى الزاب- حفر خندقا- فسار إليه أبو عون عبد الله بن يزيد الأزدي- و كان قحطبة بن شبيب قد وجهه- و أمد أبو سلمة الخلال بأمداد كثيرة- فكان بإزاء مروان- ثم إن أبا العباس السفاح قال لأهله- و هو بالكوفة حينئذ- من يسير إلى مروان من أهل بيتي- و له ولاية العهد إن قتله- فقال عبد الله عمه أنا- قال سر على بركة الله- فسار فقدم على أبي عون- فتحول له أبو عون عن سرادقه- و خلاه له بما فيه- ثم سأل عبد الله عن مخاضة في الزاب- فدل عليها- فأمر قائدا من قواده فعبرها في خمسة آلاف- فانتهى إلى عسكر مروان فقاتلهم- حتى أمسوا و تحاجزوا- و رجع القائد بأصحابه- فعبر المخاضة إلى عسكر عبد الله بن علي- و أصبح مروان فعقد جسرا- و عبر بالجيش كله إلى‏ عبد الله بن علي- فكان ابنه عبد الله بن مروان في مقدمته- و على الميمنة الوليد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان- و على الميسرة عبد العزيز بن عمر- بن عبد العزيز بن مروان- و عبأ عبد الله بن علي جيشه- و تراءى الجمعان-

فقال مروان لعبد العزيز بن عمر- انظر فإن زالت الشمس اليوم و لم يقاتلونا- كنا نحن الذين ندفعها إلى عيسى ابن مريم- و إن قاتلونا قبل الزوال- فإنا لله و إنا إليه راجعون- ثم أرسل إلى عبد الله بن علي- يسأله الكف عن القتال نهار ذلك اليوم- فقال عبد الله كذب ابن زربي- إنما يريد المدافعة إلى الزوال- لا و الله لا تزول الشمس- حتى أوطئه الخيل إن شاء الله- ثم حرك أصحابه للقتال- فنادى مروان في أهل الشام- لا تبدءوهم بالحرب- فلم يسمع الوليد بن معاوية منه- و حمل على ميسرة عبد الله بن علي- فغضب مروان و شتمه- فلم يسمع له و اضطرمت الحرب- فأمر عبد الله الرماة أن ينزلوا- و نادى الأرض الأرض- فنزل الناس و رمت الرماة- و أشرعت الرماح و جثوا على الركب- فاشتد القتال فقال مروان لقضاعة انزلوا- قالوا حتى تنزل كندة-

فقال لكندة انزلوا- فقالوا حتى تنزل السكاسك- فقال لبني سليم انزلوا- فقالوا حتى تنزل عامر- فقال لتميم احملوا- فقالوا حتى تحمل بنو أسد- فقال لهوازن احملوا- قالوا حتى تحمل غطفان- فقال لصاحب شرطته احمل ويلك- قال ما كنت لأجعل نفسي غرضا- قال أما و الله لأسوأنك- قال وددت أن أمير المؤمنين يقدر على ذلك- فانهزم عسكر مروان- و انهزم مروان معهم و قطع الجسر- فكان من هلك غرقا- أكثر ممن هلك تحت السيف- و احتوى عبد الله بن علي على عسكر مروان بما فيه- و كتب إلى أبي العباس يخبره الواقعة- .

كان مروان سديد الرأي ميمون النقيبة حازما- فلما ظهرت المسودة- و لقيهم كان‏ ما يدبر أمرا إلا كان فيه خلل- و لقد وقف يوم الزاب- و أمر بالأموال فأخرجت- و قال للناس اصبروا و قاتلوا- و هذه الأموال لكم- فجعل ناس يصيبون من ذلك المال- و يشتغلون به عن الحرب- فقال لابنه عبد الله- سر في أصحابك- فامنع من يتعرض لأخذ المال- فمال عبد الله برايته و معه أصحابه- فتنادي الناس الهزيمة الهزيمة- فانهزموا و ركب أصحاب عبد الله بن علي أكتافهم- . لما قتل مروان ببوصير- قال الحسن بن قحطبة- أخرجوا إلى إحدى بنات مروان- فأخرجوها إليه و هي ترعد- قال لا بأس عليك- قالت و أي بأس أعظم من إخراجك إياي حاسرة- و لم أر رجلا قبلك قط فأجلسها- و وضع رأس مروان في حجرها- فصرخت و اضطربت فقيل له- ما أردت بهذا- قال فعلت بهم فعلهم بزيد بن علي لما قتلوه- جعلوا رأسه في حجر زينب بنت علي بن الحسين ع- .

دخلت زوجة مروان بن محمد- و هي عجوز كبيرة- على الخيزران في خلافة المهدي- و عندها زينب بنت سليمان بن علي- فقالت لها زينب- الحمد لله الذي أزال نعمتك و صيرك عبرة- أ تذكرين يا عدوة الله- حين أتاك نساؤنا يسألنك- أن تكلمي صاحبك في أمر إبراهيم بن محمد- فلقيتهن ذلك اللقاء- و أخرجتهن ذلك الإخراج فضحكت- و قالت أي بنت عمي- و أي شي‏ء أعجبك من حسن صنيع الله بي عقيب ذلك- حتى أردت أن تتأسى بي فيه ثم ولت خارجة- . بويع أبو العباس السفاح بالخلافة يوم الجمعة- لثلاث عشرة ليلة خلون من شهر ربيع‏ الأول- سنة اثنتين و ثلاثين و مائة- فصعد المنبر بالكوفة فخطب- فقال الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه- و كرمه و شرفه و عظمه- و اختاره لنا و أيده بنا- و جعلنا أهله و كهفه- و حصنه و القوام به- و الذابين عنه و الناصرين له- و خصنا برحم رسول الله ص- و أنبتنا من شجرته- و اشتقنا من نبعته- و أنزل بذلك كتابا يتلى-

فقال سبحانه- قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً- إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏- فلما قبض رسول الله ص- قام بالأمر أصحابه وَ أَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ- فعدلوا و خرجوا خماصا- ثم وثب بنو حرب و بنو مروان فابتزوها و تداولوها- و استأثروا بها و ظلموا أهلها- فأملى الله لهم حينا- فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا- و رد علينا حقنا- فأنا السفاح المبيح و الثائر المبير- .

و كان موعوكا فاشتدت عليه الوعكة- فجلس على المنبر و لم يستطع الكلام- فقام عمه داود بن علي و كان بين يديه- فقال يا أهل العراق- إنا و الله ما خرجنا لنحفر نهرا- و لا لنكنز لجينا و لا عقيانا- و إنما أخرجتنا الأنفة من ابتزاز الظالمين حقنا- و لقد كانت أموركم تتصل بنا- فترمضنا و نحن على فرشنا- لكم ذمة الله و ذمة رسوله و ذمة العباس- أن نحكم فيكم بما أنزل الله- و نعمل فيكم بكتاب الله- و نسير فيكم بسنة رسول الله ص- و اعلموا أن هذا الأمر ليس بخارج عنا- حتى نسلمه إلى عيسى ابن مريم- .

يا أهل الكوفة- إنه لم يخطب على منبركم- هذا خليفة حق إلا علي بن أبي طالب- و أمير المؤمنين هذا- فأحمد الله الذي رد إليكم أموركم- ثم نزل- . و قد روي حديث خطبة داود بن علي برواية أخرى- و هي الأشهر- قالوا لما صعد أبو العباس منبر الكوفة- حصر فلم يتكلم- فقام داود بن علي- و كان تحت منبره حتى قام بين يديه تحته بمرقاة- فاستقبل الناس و قال- أيها الناس- إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله- و لأثر الفعال أجدى عليكم من تشقيق المقال- و حسبكم كتاب الله تمثلا فيكم- و ابن عم رسول الله ص خليفة عليكم- أقسم بالله قسما برا- ما قام هذا المقام أحد- بعد رسول الله ص أحق به- من علي بن أبي طالب و أمير المؤمنين هذا- فليهمس هامسكم و لينطق ناطقكم ثم نزل- . و من خطب داود التي خطب بها بعد قتل مروان- شكرا شكرا- أ ظن عدو الله أن لن يظفر به- أرخي له في زمامه- حتى عثر في فضل خطامه- فالآن عاد الحق إلى نصابه- و طلعت الشمس من مطلعها- و أخذ القوس باريها- و صار الأمر إلى النزعة- و رجع الحق إلى مستقره- أهل بيت نبيكم أهل الرأفة و الرحمة- .

و خطب عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس- لما قتل مروان- فقال الحمد لله الذي لا يفوته من طلب- و لا يعجزه من هرب- خدعت و الله الأشقر نفسه- إذ ظن أن الله ممهله- و يأبى الله إلا أن يتم نوره- و لو كره الكافرون- فحتى متى و إلى متى-أما و الله لقد كرهتهم العيدان- التي افترعوها- و أمسكت السماء درها- و الأرض ريعها- و قحل الضرع و جفز الفنيق- و أسمل جلباب الدين- و أبطلت الحدود و أهدرت الدماء- و كان ربك بالمرصاد- فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها- و لا يخاف عقباها- و ملكنا الله أمركم- عباد الله لينظر كيف تعملون- فالشكر الشكر- فإنه من دواعي المزيد- أعاذنا الله و إياكم من مضلات الأهواء- و بغتات الفتن فإنما نحن به و له- . لما أمعن داود بن علي- في قتل بني أمية بالحجاز- قال له عبد الله بن الحسن ع يا ابن عمي- إذا أفرطت في قتل أكفائك- فمن تباهي بسلطانك- و ما يكفيك منهم أن يروك غاديا و رائحا- فيما يسرك و يسوءهم- كان داود بن علي يمثل ببني أمية- يسمل العيون و يبقر البطون- و يجدع الأنوف و يصطلم الآذان- كان عبد الله بن علي بنهر أبي فطرس- يصلبهم منكسين- و يسقيهم النورة و الصبر- و الرماد و الخل- و يقطع الأيدي و الأرجل- و كان سليمان بن علي بالبصرة يضرب الأعناق- .

خطب السفاح في الجمعة الثانية بالكوفة فقال-يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود- و الله لا أعدكم شيئا و لا أتوعدكم- إلا وفيت بالوعد و الوعيد- و لأعملن اللين حتى لا تنفع إلا الشدة- و لأغمدن السيف إلا في إقامة حد- أو بلوغ حق- و لأعطينكم حتى أرى العطية ضياعا- إن أهل بيت اللعنة و الشجرة الملعونة في القرآن- كانوا لكم أعداء لا يرجعون معكم- من حالة إلا إلى ما هو أشد منها- و لا يلي عليكم منهم وال- إلا تمنيتم من كان قبله- و إن كان لا خير في جميعهم- منعوكم الصلاة في أوقاتها- و طالبوكم بأدائها في غير وقتها- و أخذوا المدبر بالمقبل- و الجار بالجار- و سلطوا شراركم على خياركم- فقد محق الله جورهم- و أزهق باطلهم بأهل بيت نبيكم- فما نؤخر لكم عطاء- و لا نضيع لأحد منكم حقا- و لا نجهزكم في بعث- و لا نخاطر بكم في قتال- و لا نبذلكم دون أنفسنا- و الله على ما نقول وكيل بالوفاء و الاجتهاد- و عليكم بالسمع و الطاعة- .

ثم نزل- . كان يقال- لو ذهبت دولة بني أمية- على يد غير مروان بن محمد- لقيل لو كان لها مروان لما ذهبت- . كان يقال- إن دولة بني أمية آخرها خليفة أمه أمة- فلذلك كانوا لا يعهدون إلى بني الإماء منهم- و لو عهدوا إلى ابن أمة- لكان مسلمة بن عبد الملك أولاهم بها- و كان انقراض أمرهم على يد مروان و أمه أمة- كانت لمصعب بن الزبير- وهبها من إبراهيم بن الأشتر- فأصابها محمد بن مروان يوم قتل ابن الأشتر- فأخذها من ثقله- فقيل إنها كانت حاملا بمروان- فولدته على فراش محمد بن مروان- و لذلك كان أهل خراسان ينادونه في الحرب يا ابن الأشتر- . قيل أيضا- إنها كانت حاملا به من مصعب بن الزبير- و إنه لم تطل مدتها عند إبراهيم بن الأشتر- حتى قتل فوضعت حملها- على فراش محمد بن مروان- و لذلك كانت المسودة تصيح به في الحرب- يا ابن مصعب- ثم يقولون يا ابن الأشتر- فيقول ما أبالي أي الفحلين غلب علي- لما بويع أبو العباس- جاءه ابن عياش المنتوف- فقبل يده و بايعه- و قال الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة- و ابن أمة النخع- ابن عم رسول الله ص- و ابن عبد المطلب- . لما صعد السفاح منبر الكوفة يوم بيعته- و خطب الناس- قام إليه السيد الحميري فأنشده-

دونكموها يا بني هاشم
فجددوا من آيها الطامسا

دونكموها لا علا كعب من‏
أمسى عليكم ملكها نافسا

دونكموها فالبسوا تاجها
لا تعدموا منكم له لابسا

خلافة الله و سلطانه‏
و عنصر كان لكم دارسا

قد ساسها من قبلكم ساسة
لم يتركوا رطبا و لا يابسا

لو خير المنبر فرسانه‏
ما اختار إلا منكم فارسا

و الملك لو شوور في سائس
لما ارتضى غيركم سائسا

لم يبق عبد الله بالشام من‏
آل أبي العاص امرأ عاطسا

فلست من أن تملكوها إلى
هبوط عيسى منكم آيسا

قال داود بن علي- لإسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص- بعد قتله من قتل من بني‏ أمية- هل علمت ما فعلت بأصحابك- قال نعم كانوا يدا فقطعتها- و عضدا ففتت فيها- و مرة فنقضتها و جناحا فحصصتها- قال إني لخليق أن ألحقك فيهم- قال إني إذا لسعيد- . لما استوثق الأمر لأبي العباس السفاح- وفد إليه عشرة من أمراء الشام- فحلفوا له بالله و بطلاق نسائهم- و بأيمان البيعة بأنهم لا يعلمون- إلى أن قتل مروان- أن لرسول الله ص أهلا و لا قرابة إلا بني أمية- . و روى أبو الحسن المدائني- قال حدثني رجل- قال كنت بالشام- فجعلت لا أسمع أحدا يسمي أحدا أو يناديه- يا علي أو يا حسن أو يا حسين- و إنما أسمع معاوية و الوليد و يزيد- حتى مررت برجل فاستسقيته ماء- فجعل ينادي يا علي يا حسن يا حسين-

فقلت يا هذا- إن أهل الشام لا يسمون بهذه الأسماء- قال صدقت- إنهم يسمون أبناءهم بأسماء الخلفاء- فإذا لعن أحدهم ولده أو شتمه- فقد لعن اسم بعد الخلفاء- و أنا سميت أولادي بأسماء أعداء الله- فإذا شتمت أحدهم أو لعنته- فإنما ألعن أعداء الله- . كانت أم إبراهيم بن موسى- بن عيسى بن موسى بن محمد- بن علي بن عبد الله بن العباس- أموية من ولد عثمان بن عفان- .

قال إبراهيم- فدخلت على جدي عيسى بن موسى مع أبي موسى- فقال لي جدي أ تحب بني أمية- فقال له موسى أبي نعم إنهم أخواله- فقال و الله لو رأيت جدك-علي بن عبد الله بن العباس- يضرب بالسياط ما أحببتهم- و لو رأيت إبراهيم بن محمد- يكره على إدخال رأسه في جراب النورة- لما أحببتهم- و سأحدثك حديثا إن شاء الله أن ينفعك به نفعك- لما وجه سليمان بن عبد الملك- ابنه أيوب بن سليمان إلى الطائف- وجه معه جماعة- فكنت أنا و محمد بن علي بن عبد الله جدي معهم- و أنا حينئذ حديث السن- و كان مع أيوب مؤدب له يؤدبه- فدخلنا عليه يوما أنا و جدي- و ذلك المؤدب يضربه- فلما رآنا الغلام أقبل على مؤدبه- فضربه فنظر بعضنا إلى بعض- و قلنا ما له قاتله الله- حين رآنا كره أن نشمت به- ثم التفت أيوب إلينا- فقال أ لا أخبركم يا بني هاشم بأعقلكم و أعقلنا- أعقلنا من نشأ منا يبغضكم- و أعقلكم من نشأ منكم يبغضنا- و علامة ذلك أنكم لم تسموا بمروان- و لا الوليد و لا عبد الملك- و لم نسم نحن بعلي و لا بحسن و لا بحسين- .

لما انتهى عامر بن إسماعيل- و كان صالح بن علي قد أنفذه لطلب مروان- إلى بوصير مصر- هرب مروان بين يديه- في نفر يسير من أهله و أصحابه- و لم يكن قد تخلف معه كثير عدد- فانتهوا في غبش الصبح- إلى قنطرة هناك على نهر عميق- ليس للخيل عبور إلا على تلك القنطرة- و عامر بن إسماعيل من ورائهم- فصادف مروان على تلك القنطرة بغالا- قد استقبلته تعبر القنطرة- و عليها زقاق عسل- فحبسته عن العبور- حتى أدركه عامر بن إسماعيل و رهقه- فلوى مروان دابته إليهم- و حارب فقتل- فلما بلغ صالح بن علي ذلك- قال إن لله جنودا من عسل- . لما نقف رأس مروان و نفض مخه- قطع لسانه و ألقى مع لحم عنقه- فجاء كلب فأخذ اللسان فقال قائل-إن من عبر الدنيا- أن رأينا لسان مروان في فم كلب- .

خطب أبو مسلم بالمدينة- في السنة التي حج فيها في خلافة السفاح- فقال الحمد لله الذي حمد نفسه- و اختار الإسلام دينا لعباده- ثم أوحى إلى محمد رسول الله ص من ذلك ما أوحى- و اختاره من خلقه نفسه من أنفسهم- و بيته من بيوتهم- ثم أنزل عليه في كتابه الناطق الذي حفظه بعلمه- و أشهد ملائكته على حقه- قوله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ- وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً- ثم جعل الحق بعد محمد ع في أهل بيته فصبر من صبر منهم بعد وفاة رسول الله ص على اللأواء و الشدة- و أغضى على الاستبداد و الأثرة- ثم إن قوما من أهل بيت الرسول ص- جاهدوا على ملة نبيه و سنته- بعد عصر من الزمان- من عمل بطاعة الشيطان و عداوة الرحمن- بين ظهراني قوم آثروا العاجل على الآجل- و الفاني على الباقي- إن رتق جور فتقوه- أو فتق حق رتقوه- أهل خمور و ماخور و طنابير و مزامير- إن ذكروا لم يذكروا- أو قدموا إلى الحق أدبروا- و جعلوا الصدقات في الشبهات- و المغانم في المحارم- و الفي‏ء في الغي- هكذا كان زمانهم- و به كان يعمل سلطانهم-

و زعموا أن غير آل محمد أولى بالأمر منهم- فلم و بم أيها الناس- أ لكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة- الشركاء في النسب- و الورثة في السلب- مع ضربهم على الدين جاهلكم- و إطعامهم في الجدب جائعكم- و الله ما اخترتم- من حيث اختار الله لنفسه ساعة قط و ما زلتم بعد نبيه تختارون تيميا مرة- و عدويا مرة و أمويا مرة- و أسديا مرة و سفيانيا مرة و مروانيا مرة-حتى جاءكم من لا تعرفون اسمه و لا بيته- يضربكم بسيفه- فأعطيتموها عنوة و أنتم صاغرون- ألا إن آل محمد أئمة الهدى- و منار سبيل التقى- القادة الذادة السادة- بنو عم رسول الله- و منزل جبريل بالتنزيل- كم قصم الله بهم من جبار طاغ- و فاسق باغ شيد الله بهم الهدى- و جلا بهم العمى لم يسمع بمثل العباس- و كيف لا تخضع له الأمم لواجب حق الحرمة- أبو رسول الله بعد أبيه- و إحدى يديه و جلده بين عينيه- أمينه يوم العقبة و ناصره بمكة- و رسوله إلى أهلها- و حاميه يوم حنين- عند ملتقى الفئتين- لا يخالف له رسما و لا يعصي له حكما- الشافع يوم نيق العقاب- إلى رسول الله في الأحزاب- ها إن في هذا أيها الناس لعبرة لأولي الأبصار- .

قلت الأسدي عبد الله بن الزبير- و من لا يعرفون اسمه و لا بيته- يعني نفسه لأنه لم يكن معلوم النسب- و قد اختلف فيه هل هو مولى أم عربي- . و يوم العقبة يوم مبايعة الأنصار السبعين لرسول الله ص بمكة- و يوم نيق العقاب يوم فتح مكة- شفع العباس ذلك اليوم في أبي سفيان- و في أهل مكة فعفا النبي ص عنهم- . اجتمع عند المنصور أيام خلافته جماعة من ولد أبيه- منهم عيسى بن موسى و العباس بن محمد و غيرهما- فتذاكروا خلفاء بني أمية- و السبب الذي به سلبوا عزهم- فقال المنصور- كان عبد الملك جبارا لا يبالي ما صنع- و كان الوليد لحانا مجنونا- و كان سليمان همته بطنه و فرجه- و كان عمر أعور بين عميان- و كان هشام رجل القوم- و لم يزل بنو أمية ضابطين- لما مهد لهم من السلطان- يحوطونه و يصونونه و يحفظونه- و يحرسون ما وهب الله لهم منه- مع تسنمهم معالي الأمور و رفضهم أدانيها- حتى أفضى أمرهم إلى أحداث مترفين من أبنائهم- فغمطوا النعمة- و لم يشكروا العافية و أساءوا الرعاية- فابتدأت النقمة منهم-باستدراج الله إياهم آمنين مكره- مطرحين صيانة الخلافة- مستخفين بحق الرئاسة- ضعيفين عن رسوم السياسة- فسلبهم الله العزة و ألبسهم الذلة- و أزال عنهم النعمة- .

سأل المنصور ليلة عن عبد الله بن مروان بن محمد- فقال له الربيع إنه في سجن أمير المؤمنين حيا- فقال المنصور- قد كان بلغني كلام خاطبه به ملك النوبة- لما قدم دياره- و أنا أحب أن أسمعه من فيه- فليؤمر بإحضاره فأحضر- فلما دخل خاطب المنصور بالخلافة- فأمره المنصور بالجلوس- فجلس و للقيد في رجليه خشخشة- قال أحب أن تسمعني كلاما- قاله لك ملك النوبة- حيث غشيت بلاده- قال نعم قدمت إلى بلد النوبة- فأقمت أياما فاتصل خبرنا بالملك- فأرسل إلينا فرشا و بسطا و طعاما كثيرا- و أفرد لنا منازل واسعة- ثم جاءني و معه خمسون من أصحابه- بأيديهم الحراب- فقمت إليه فاستقبلته- و تنحيت له عن صدر المجلس- فلم يجلس فيه و قعد على الأرض- فقلت له ما منعك من القعود على الفرش-

قال إني ملك- و حق الملك أن يتواضع لله و لعظمته- إذا رأى نعمه متجددة عنده- و لما رأيت تجدد نعمة الله عندي بقصدكم بلادي- و استجارتكم بي بعد عزكم و ملككم- قابلت هذه النعمة بما ترى من الخضوع و التواضع- ثم سكت و سكت- فلبثنا ما شاء الله لا يتكلم و لا أتكلم- و أصحابه قيام بالحراب على رأسه- ثم قال لي لما ذا شربتم الخمر- و هي محرمة عليكم في كتابكم- فقلت اجترأ على ذلك عبيدنا بجهلهم- قال فلم وطئتم الزروع بدوابكم- و الفساد محرم عليكم في كتابكم و دينكم- قلت فعل ذلك أتباعنا و عمالنا جهلا منهم- قال فلم لبستم الحرير و الديباج و الذهب- و هو محرم عليكم في كتابكم و دينكم- قلت استعنا في أعمالنا بقوم- من‏أبناء العجم كتاب دخلوا في ديننا- فلبسوا ذلك اتباعا لسنة سلفهم على كره منا- فأطرق مليا إلى الأرض يقلب يده- و ينكت الأرض- ثم قال عبيدنا و أتباعنا و عمالنا و كتابنا- ما الأمر كما ذكرت- و لكنكم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم- و ركبتم ما عنه نهيتم- و ظلمتم فيما ملكتم- فسلبكم الله العز و ألبسكم الذل- و إن له سبحانه فيكم لنقمة لم تبلغ غايتها بعد- و أنا خائف أن يحل بكم العذاب- و أنتم بأرضي فينالني معكم- و الضيافة ثلاث فاطلبوا ما احتجتم إليه- و ارتحلوا عن أرضي- .

فأخذنا منه ما تزودنا به و ارتحلنا عن بلده- فعجب المنصور لذلك و أمر بإعادته إلى الحبس- . و قد جاءنا في بعض الروايات- أن السفاح لما أراد- أن يقتل القوم الذين انضموا إليه- من بني أمية جلس يوما على سرير بهاشمية الكوفة- و جاء بنو أمية و غيرهم من بني هاشم- و القواد و الكتاب- فأجلسهم في دار تتصل بداره- و بينه و بينهم ستر مسدول- ثم أخرج إليهم أبا الجهم بن عطية- و بيده كتاب ملصق- فنادى بحيث يسمعون- أين رسول الحسين بن علي بن أبي طالب ع- فلم يتكلم أحد- فدخل ثم خرج ثانية- فنادى أين رسول زيد بن علي بن الحسين- فلم يجبه أحد- فدخل ثم خرج ثالثة- فنادى أين رسول يحيى بن زيد بن علي- فلم يرد أحد عليه- فدخل ثم خرج رابعة- فنادى أين رسول إبراهيم بن محمد الإمام- و القوم ينظر بعضهم إلى بعض- و قد أيقنوا بالشر ثم دخل و خرج- فقال لهم إن أمير المؤمنين يقول لكم- هؤلاء أهلي و لحمي- فما ذا صنعتم بهم- ردوهم إلي أو فأقيدوني من أنفسكم- فلم ينطقوا بحرف- و خرجت الخراسانية بالأعمدة فشدخوهم عن آخرهم- .

قلت و هذا المعنى مأخوذ من قول الفضل بن عبد الرحمن- بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- لما قتل زيد بن علي ع- في سنة اثنتين و عشرين و مائة- في خلافة هشام بن عبد الملك- و ذلك أن هشاما كتب إلى عامله بالبصرة- و هو القاسم بن محمد الثقفي- أن يشخص كل من بالعراق من بني هاشم- إلى المدينة خوفا من خروجهم- و كتب إلى عامل المدينة أن يحبس قوما منهم- و أن يعرضهم في كل أسبوع مرة- و يقيم لهم الكفلاء- على ألا يخرجوا منها- فقال الفضل بن عبد الرحمن من قصيدة له طويلة-

كلما حدثوا بأرض نقيقا
ضمنونا السجون أو سيرونا

أشخصونا إلى المدينة أسرى‏
لا كفاهم ربي الذي يحذرونا

خلفوا أحمد المطهر فينا
بالذي لا يحب و استضعفونا

قتلونا بغير ذنب إليهم‏
قاتل الله أمة قتلونا

ما رعوا حقنا و لا حفظوا فينا
وصاة الإله بالأقربينا

جعلونا أدنى عدو إليهم‏
فهم في دمائنا يسبحونا

أنكروا حقنا و جاروا علينا
و على غير إحنة أبغضونا

غير أن النبي منا و أنا
لم نزل في صلاتهم راغبينا

إن دعونا إلى الهدى لم يجيبونا
و كانوا عن الهدى ناكبينا

أو أمرنا بالعرف لم يسمعوا منا
و ردوا نصيحة الناصحينا

و لقدما ما رد نصح ذوي الرأي
فلم يتبعهم الجاهلونا

فعسى الله أن يديل أناسا
من أناس فيصبحوا ظاهرينا

فتقر العيون من قوم سوء
قد أخافوا و قتلوا المؤمنينا

ليت شعري هل توجفن بي الخيل
عليها الكمأة مستلئمينا

من بني هاشم و من كل حي‏
ينصرون الإسلام مستنصرينا

في أناس آباؤهم نصروا الدين
و كانوا لربهم ناصرينا

تحكم المرهفات في الهام منهم‏
بأكف المعاشر الثائرينا

أين قتلى منا بغيتم عليهم
ثم قتلتموهم ظالمينا

ارجعوا هاشما و ردوا أبا اليقظان‏
و ابن البديل في آخرينا

و ارجعوا ذا الشهادتين و قتلى
أنتم في قتالهم فاجرونا

ثم ردوا حجرا و أصحاب حجر
يوم أنتم في قتلهم معتدونا

ثم ردوا أبا عمير و ردوا
لي رشيدا و ميثما و الذينا

قتلوا بالطفوف يوم حسين‏
من بني هاشم و ردوا حسينا

أين عمرو و أين بشر و قتلى
معهم بالعراء ما يدفنونا

ارجعوا عامرا و ردوا زهيرا
ثم عثمان فارجعوا عازمينا

و ارجعوا الحر و ابن قين و قوما
قتلوا حين جاوزوا صفينا

و ارجعوا هانئا و ردوا إلينا
مسلما و الرواع في آخرينا

ثم ردوا زيدا إلينا و ردوا
كل من قد قتلتم أجمعينا

لن تردوهم إلينا و لسنا
منكم غير ذلكم قابلينا

أَلَا إِنَّ أَبْصَرَ الْأَبْصَارِ مَا نَفَذَ فِي الْخَيْرِ طَرْفُهُ- أَلَا إِنَّ أَسْمَعَ الْأَسْمَاعِ مَا وَعَى التَّذْكِيرَ وَ قَبِلَهُ- أَيُّهَا النَّاسُ- اسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْبَاحٍ وَاعِظٍ مُتَّعِظٍ- وَ امْتَاحُوا مِنْ صَفِيِّ عَيْنٍ قَدْ رُوِّقَتْ مِنَ الْكَدَرِ- عِبَادَ اللَّهِ لَا تَرْكَنُوا إِلَى جَهَالَتِكُمْ- وَ لَا تَنْقَادُوا إِلَى أَهْوَائِكُمْ فَإِنَّ النَّازِلَ بِهَذَا الْمَنْزِلِ نَازِلٌ بِشَفَا جُرُفٍ هَارٍ- يَنْقُلُ الرَّدَى عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ- لِرَأْيٍ يُحْدِثُهُ بَعْدَ رَأْيٍ- يُرِيدُ أَنْ يُلْصِقَ مَا لَا يَلْتَصِقُ- وَ يُقَرِّبَ مَا لَا يَتَقَارَبُ- فَاللَّهَ اللَّهَ أَنْ تَشْكُوا إِلَى مَنْ لَا يُشْكِي شَجْوَكُمْ- وَ لَا يَنْقُضُ بِرَأْيِهِ مَا قَدْ أَبْرَمَ لَكُمْ- إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ إِلَّا مَا حُمِّلَ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ- الْإِبْلَاغُ فِي الْمَوْعِظَةِ- وَ الِاجْتِهَادُ فِي النَّصِيحَةِ- وَ الْإِحْيَاءُ لِلسُّنَّةِ- وَ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا- وَ إِصْدَارُ السُّهْمَانِ عَلَى أَهْلِهَا- فَبَادِرُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ تَصْوِيحِ نَبْتِهِ- وَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُشْغَلُوا بِأَنْفُسِكُمْ- عَنْ مُسْتَثَارِ الْعِلْمِ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ- وَ انْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تَنَاهَوْا عَنْهُ- فَإِنَّمَا أُمِرْتُمْ بِالنَّهْيِ بَعْدَ التَّنَاهِي هار الجرف يهور هورا و هئورا فهو هائر- و قالوا هار خفضوه في موضع الرفع كقاض- و أرادوا هائر و هو مقلوب من الثلاثي إلى الرباعي- كما قلبوا شائك السلاح إلى شاكي السلاح- و هورته فتهور و انهار أي انهدم- .و أشكيت زيدا أزلت شكايته- و الشجو الهم و الحزن- . و صوح النبت أي جف أعلاه- قال

و لكن البلاد إذا اقشعرت
و صوح نبتها رعي الهشيم‏

 يقول ع- أشد العيون إدراكا ما نفذ طرفها في الخير- و أشد الأسماع إدراكا ما حفظ الموعظة و قبلها- . ثم أمر الناس أن يستصبحوا- أي يسرجوا مصابيحهم من شعلة سراج- متعظ في نفسه واعظ لغيره- و روي بالإضافة من شعلة مصباح واعظ- بإضافة مصباح إلى واعظ- و إنما جعله متعظا واعظا- لأن من لم يتعظ في نفسه فبعيد أن يتعظ به غيره- و ذلك لأن القبول لا يحصل منه- و الأنفس تكون نافرة عنه- و يكون داخلا في حيز قوله تعالى- أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ- وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ- و في قول الشاعر-

لا تنه عن خلق و تأتي مثله‏

و عني بهذا المصباح نفسه ع- . ثم أمرهم أن يمتاحوا من عين صافية- قد انتفى عنها الكدر- كما يروق الشراب بالراووق- فيزول عنه كدرة- و الامتياح نزول البئر و مل‏ء الدلاء منها- و يكني بهذا أيضا عن نفسه ع- .ثم نهاهم عن الانقياد لأهوائهم و الميل إلى جهالتهم- و قال إن من يكون كذلك- فإنه على جانب جرف متهدم- و لفظة هار من الألفاظ القرآنية- . ثم قال و من يكون كذلك- فهو أيضا ينقل الهلاك على ظهره من موضع إلى موضع- ليحدث رأيا فاسدا بعد رأي فاسد- أي هو ساع في ضلال- يروم أن يحتج لما لا سبيل إلى إثباته- و ينصر مذهبا لا انتصار له- .

ثم نهاهم و حذرهم أن يشكوا- إلى من لا يزيل شكايتهم- و من لا رأي له في الدين و لا بصيرة- لينقض ما قد أبرمه الشيطان- في صدورهم لإغوائهم- و يروى إلى من لا يشكي شجوكم- و من ينقض برأيه ما قد أبرم لكم- و هذه الرواية أليق- أي لا تشكوا إلى من لا يدفع عنكم ما تشكون منه- و إنما ينقض برأيه الفاسد- ما قد أبرمه الحق و الشرع لكم- . ثم ذكر أنه ليس على الإمام إلا ما قد أوضحه- من الأمور الخمسة- . ثم أمرهم بمبادرة أخذ العلم من أهله- يعني نفسه ع قبل أن يموت- فيذهب العلم- و تصويح النبت كناية عن ذلك- . ثم قال- و قبل أن تشغلوا بالفتن و ما يحدث عليكم- من خطوب الدنيا عن استثارة العلم- من معدنه و استنباطه من قرارته- . ثم أمرهم بالنهي عن المنكر- و أن يتناهوا عنه قبل أن ينهوا عنه- و قال إنما النهي بعد التناهي- .

و في هذا الموضع إشكال- و ذلك أن لقائل أن يقول- النهي عن المنكر واجب على العدل و الفاسق- فكيف قال إنما أمرتم بالنهي بعد التناهي- و قد روي أن الحسن البصري- قال للشعبي هلا نهيت عن كذا- فقال يا أبا سعيد إني أكره أن أقول ما لا أفعل- قال الحسن غفر الله لك و أينا يقول ما يفعل- ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه- فلم يأمر أحد بمعروف و لم ينه عن منكر- . و الجواب أنه ع لم يرد- أن وجود النهي عن المنكر مشروط- بانتهاء ذلك الناهي عن المنكر- و إنما أراد أني لم آمركم بالنهي عن المنكر- إلا بعد أن أمرتكم بالانتهاء عن المنكر- فالترتيب إنما هو في أمره ع لهم- بالحالتين المذكورتين لا في نهيهم و تناهيهم- . فإن قلت- فلما ذا قدم أمرهم بالانتهاء على أمرهم بالنهي- قلت لأن إصلاح المرء نفسه أهم- من الاعتناء بإصلاحه لغيره

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي‏ الحديد) ج 7 

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.