130 و من كلام له ع لأبي ذر رحمه الله- لما أخرج إلى الربذة
يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ غَضِبْتَ لِلَّهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ- إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ وَ خِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ- فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ- وَ اهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ- فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ- وَ أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ- وَ سَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَداً وَ الْأَكْثَرُ حَسَداً- وَ لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً- ثُمَّ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً- لَا يُؤْنِسَنَّكَ إِلَّا الْحَقُّ- وَ لَا يُوحِشَنَّكَ إِلَّا الْبَاطِلُ- فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لَأَحَبُّوكَ- وَ لَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأَمَّنُوكَ
أخبار أبي ذر الغفاري حين خروجه إلى الربذة
واقعة أبي ذر رحمه الله و إخراجه إلى الربذة- أحد الأحداث التي نقمت على عثمان- و قد روى هذا الكلام- أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري- في كتاب السقيفة عن عبد الرزاق عن أبيه- عن عكرمة عن ابن عباس قال- لما أخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان- فنودي في الناس ألا يكلم أحد أبا ذر و لا يشيعه- و أمر مروان بن الحكم أن يخرج به فخرج به- و تحاماه الناس إلا عليبن أبي طالب ع و عقيلا أخاه- و حسنا و حسينا ع و عمارا- فإنهم خرجوا معه يشيعونه- فجعل الحسن ع يكلم أبا ذر- فقال له مروان إيها يا حسن- أ لا تعلم أن أمير المؤمنين- قد نهى عن كلام هذا الرجل- فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك- فحمل علي ع على مروان- فضرب بالسوط بين أذني راحلته- و قال تنح لحاك الله إلى النار- .
فرجع مروان مغضبا إلى عثمان فأخبره الخبر- فتلظى على علي ع و وقف أبو ذر فودعه القوم- و معه ذكوان مولى أم هانئ بنت أبي طالب- . قال ذكوان فحفظت كلام القوم و كان حافظا- فقال علي ع يا أبا ذر إنك غضبت لله- إن القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك- فامتحنوك بالقلى و نفوك إلى الفلا- و الله لو كانت السماوات و الأرض على عبد رتقا- ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا- يا أبا ذر لا يؤنسنك إلا الحق- و لا يوحشنك إلا الباطل- ثم قال لأصحابه ودعوا عمكم- و قال لعقيل ودع أخاك- . فتكلم عقيل- فقال ما عسى أن نقول يا أبا ذر- و أنت تعلم أنا نحبك و أنت تحبنا- فاتق الله فإن التقوى نجاة- و اصبر فإن الصبر كرم- و اعلم أن استثقالك الصبر من الجزع- و استبطاءك العافية من اليأس- فدع اليأس و الجزع- .
ثم تكلم الحسن فقال يا عماه- لو لا أنه لا ينبغي للمودع أن يسكت- و للمشيع أن ينصرف لقصر الكلام و إن طال الأسف- و قد أتى القوم إليك ما ترى- فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها- و شدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها- و اصبر حتى تلقى نبيك ص و هو عنك راض- . ثم تكلم الحسين ع فقال يا عماه- إن الله تعالى قادر أن يغير ما قد ترى-و الله كل يوم هو في شأن- و قد منعك القوم دنياهم و منعتهم دينك- فما أغناك عما منعوك- و أحوجهم إلى ما منعتهم- فاسأل الله الصبر و النصر- و استعذ به من الجشع و الجزع- فإن الصبر من الدين و الكرم- و إن الجشع لا يقدم رزقا- و الجزع لا يؤخر أجلا- .
ثم تكلم عمار رحمه الله مغضبا- فقال لا آنس الله من أوحشك- و لا آمن من أخافك- أما و الله لو أردت دنياهم لأمنوك- و لو رضيت أعمالهم لأحبوك- و ما منع الناس أن يقولوا بقولك إلا الرضا بالدنيا- و الجزع من الموت- مالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه- و الملك لمن غلب فوهبوا لهم دينهم- و منحهم القوم دنياهم- فحسروا الدنيا و الآخرة- إلا ذلك هو الخسران المبين- . فبكى أبو ذر رحمه الله و كان شيخا كبيرا- و قال رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة- إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله ص- ما لي بالمدينة سكن و لا شجن غيركم- إني ثقلت على عثمان بالحجاز- كما ثقلت على معاوية بالشام- و كره أن أجاور أخاه و ابن خاله بالمصرين- فأفسد الناس عليهما- فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر و لا دافع إلا الله- و الله ما أريد إلا الله صاحبا- و ما أخشى مع الله وحشة- .
و رجع القوم إلى المدينة فجاء علي ع إلى عثمان- فقال له ما حملك على رد رسولي و تصغير أمري- فقال علي ع أما رسولك- فأراد أن يرد وجهي فرددته و أما أمرك فلم أصغره- . قال أ ما بلغك نهيي عن كلام أبي ذر- قال أ و كلما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه- قال عثمان أقد مروان من نفسك قال مم ذا- قال من شتمه و جذب راحلته- قال أما راحلته فراحلتي بها- و أما شتمه إياي- فو الله لا يشتمني شتمه إلا شتمتك مثلها- لا أكذب عليك- .
فغضب عثمان و قال لم لا يشتمك كأنك خير منه- قال علي إي و الله و منك ثم قام فخرج- . فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين- و الأنصار و إلى بني أمية- يشكو إليهم عليا ع فقال القوم- أنت الوالي عليه و إصلاحه أجمل- قال وددت ذاك فأتوا عليا ع- فقالوا لو اعتذرت إلى مروان و أتيته- فقال كلا أما مروان فلا آتيه و لا أعتذر منه- و لكن إن أحب عثمان أتيته- . فرجعوا إلى عثمان فأخبروه- فأرسل عثمان إليه- فأتاه و معه بنو هاشم-فتكلم علي ع- فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال أما ما وجدت علي فيه من كلام أبي ذر و وداعه- فو الله ما أردت مساءتك و لا الخلاف عليك- و لكن أردت به قضاء حقه- و أما مروان فإنه اعترض- يريد ردي عن قضاء حق الله عز و جل- فرددته رد مثلي مثله- و أما ما كان مني إليك فإنك أغضبتني- فأخرج الغضب مني ما لم أرده- .
فتكلم عثمان فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال أما ما كان منك إلي فقد وهبته لك- و أما ما كان منك إلى مروان فقد عفا الله عنك- و أما ما حلفت عليه فأنت البر الصادق- فأدن يدك فأخذ يده فضمها إلى صدره- . فلما نهض قالت قريش و بنو أمية لمروان- أ أنت رجل جبهك علي و ضرب راحلتك- و قد تفانت وائل في ضرع ناقة- و ذبيان و عبس في لطمة فرس و الأوس و الخزرج في نسعة- أ فتحمل لعلي ع ما أتاه إليك- فقال مروان و الله لو أردت ذلك لما قدرت عليه- .
و اعلم أن الذي عليه أكثر أرباب السيرة- و علماء الأخبار و النقل- أن عثمان نفىأبا ذر أولا إلى الشام- ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية- ثم نفاه من المدينة إلى الربذة- لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام- . أصل هذه الواقعة- أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم و غيره- بيوت الأموال- و اختص زيد بن ثابت بشيء منها- جعل أبو ذر يقول بين الناس و في الطرقات و الشوارع- بشر الكافرين بعذاب أليم- و يرفع بذلك صوته و يتلو قوله تعالى- وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ- وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ- فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ- فرفع ذلك إلى عثمان مرارا و هو ساكت- .
ثم إنه أرسل إليه مولى من مواليه- أن انته عما بلغني عنك- فقال أبو ذر أ و ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى- و عيب من ترك أمر الله تعالى- فو الله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي و خير لي- من أن أسخط الله برضا عثمان- . فأغضب عثمان ذلك و أحفظه فتصابر و تماسك- إلى أن قال عثمان يوما و الناس حوله- أ يجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئا قرضا- فإذا أيسر قضى فقال كعب الأحبار لا بأس بذلك- فقال أبو ذر يا ابن اليهوديين أ تعلمنا ديننا- فقال عثمان قد كثر أذاك لي و تولعك بأصحابي- الحق بالشام فأخرجه إليها- .
فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها- فبعث إليه معاوية يوما ثلاثمائة دينار- فقال أبو ذر لرسوله- إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا أقبلها- و إن كانت صلة فلا حاجة لي فيها و ردها عليه- . ثم بنى معاوية الخضراء بدمشق- فقال أبو ذر يا معاوية- إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة- و إن كانت من مالك فهي الإسراف- و كان أبو ذر يقول بالشام- و الله لقد حدثت أعمال ما أعرفها- و الله ما هي في كتاب الله و لا سنة نبيه ص-و الله إني لأرى حقا يطفأ و باطلا يحيا- و صادقا مكذبا و أثرة بغير تقى و صالحا مستأثرا عليه- .
قال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية- إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام- فتدارك أهله إن كان لك فيه حاجة- . و روى شيخنا أبو عثمان الجاحظ- في كتاب السفيانية عن جلام بن جندل الغفاري- قال كنت غلاما لمعاوية على قنسرين و العواصم- في خلافة عثمان فجئت إليه يوما أسأله عن حال عملي- إذ سمعت صارخا على باب داره يقول- أتتكم القطار تحمل النار- اللهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له- اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له- فازبأر معاوية و تغير لونه و قال- يا جلام أ تعرف الصارخ- فقلت اللهم لا- قال من عذيري من جندب بن جنادة- يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت-
ثم قال أدخلوه علي- فجيء بأبي ذر بين قوم يقودونه- حتى وقف بين يديه- فقال له معاوية يا عدو الله و عدو رسوله- تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع- أما أني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد- من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك- و لكني أستأذن فيك- قال جلام و كنت أحب أن أرى أبا ذر- لأنه رجل من قومي- فالتفت إليه فإذا رجل أسمر ضرب من الرجال- خفيف العارضين في ظهره جنأ- فأقبل على معاوية- و قال ما أنا بعدو لله و لا لرسوله- بل أنت و أبوك عدوان لله و لرسوله- أظهرتما الإسلام و أبطنتما الكفر- و لقد لعنك رسول الله ص- و دعا عليك مرات ألا تشبع-سمعت رسول الله ص يقول إذا ولي الأمة الأعين الواسع البلعوم- الذي يأكل و لا يشبع- فلتأخذ الأمة حذرها منه- فقال معاوية ما أنا ذاكالرجل- قال أبو ذر بل أنت ذلك الرجل- أخبرني بذلك رسول الله ص- وسمعته يقول و قد مررت به اللهم العنه و لا تشبعه إلا بالترابوسمعته ص يقول است معاوية في النار- فضحك معاوية و أمر بحبسه- و كتب إلى عثمان فيه- .
فكتب عثمان إلى معاوية- أن احمل جندبا إلي- على أغلظ مركب و أوعره- فوجه به مع من سار به الليل و النهار- و حمله على شارف ليس عليها إلا قتب- حتى قدم به المدينة و قد سقط لحم فخذيه من الجهد- . فلما قدم بعث إليه عثمان الحق بأي أرض شئت- قال بمكة قال لا- قال بيت المقدس قال لا- قال بأحد المصرين قال لا- و لكني مسيرك إلى ربذة فسيره إليها- فلم يزل بها حتى مات- . و في رواية الواقدي- أن أبا ذر لما دخل على عثمان قال له-
لا أنعم الله بقين عينا
نعم و لا لقاه يوما زينا
تحية السخط إذا التقينا
فقال أبو ذر ما عرفت اسمي قينا قط- و في رواية أخرى لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب- فقال أبو ذر أنا جندب- و سماني رسول الله ص عبد الله- فاخترت اسم رسول الله ص الذي سماني به على اسمي- فقال له عثمان أنت الذي تزعم أنا نقول يد الله مغلولة- و إن الله فقير و نحن أغنياء- فقال أبو ذر لو كنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال الله على عباده- و لكني أشهد أنيسمعت رسول الله ص يقول إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا- جعلوا مال الله دولا- و عباده خولا و دينه دخلا- .
فقال عثمان لمن حضر أ سمعتموها من رسول الله قالوا لا- قال عثمان ويلك يا أبا ذر- أ تكذب على رسول الله- فقال أبو ذر لمن حضر- أ ما تدرون أني صدقت- قالوا لا و اللهما ندري- فقال عثمان ادعوا لي عليا- فلما جاء قال عثمان لأبي ذر- اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص فأعاده- فقال عثمان لعلي ع- أ سمعت هذا من رسول الله ص قال لا- و قد صدق أبو ذر- فقال كيف عرفت صدقه- قال لأني
سمعت رسول الله ص يقول ما أظلت الخضراء و لا أقلت الغبراء- من ذي لهجة أصدق من أبي ذر- فقال من حضر- أما هذا فسمعناه كلنا من رسول الله- فقال أبو ذر أحدثكم- أني سمعت هذا من رسول الله ص فتتهمونني- ما كنت أظن أني أعيش- حتى أسمع هذا من أصحاب محمد ص- .
و روى الواقدي في خبر آخر بإسناده- عن صهبان مولى الأسلميين- قال رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان- فقال له أنت الذي فعلت و فعلت- فقال أبو ذر نصحتك فاستغششتني- و نصحت صاحبك فاستغشني- قال عثمان كذبت و لكنك تريد الفتنة و تحبها- قد انغلت الشام علينا- فقال له أبو ذر اتبع سنة صاحبيك- لا يكن لأحد عليك كلام- فقال عثمان ما لك و ذلك لا أم لك- قال أبو ذر و الله ما وجدت لي عذرا- إلا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- فغضب عثمان- و قال أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب- إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله- فإنه قد فرق جماعة المسلمين- أو أنفيه من أرض الإسلام- فتكلم علي ع و كان حاضرا- فقال أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون- وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ- وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ- فأجابه عثمان بجواب غليظ- و أجابه علي ع بمثله- و لم نذكر الجوابين تذمما منهما- .
قال الواقدي- ثم إن عثمان حظر على الناس- أن يقاعدوا أبا ذر أو يكلموه- فمكثكذلك أياما- ثم أتى به فوقف بين يديه- فقال أبو ذر ويحك يا عثمان- أ ما رأيت رسول الله ص- و رأيت أبا بكر و عمر هل هديك كهديهم- أما إنك لتبطش بي بطش جبار- فقال عثمان اخرج عنا من بلادنا- فقال أبو ذر ما أبغض إلي جوارك- فإلى أين أخرج قال حيث شئت- قال أخرج إلى الشام أرض الجهاد- قال إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها- أ فأردك إليها قال أ فأخرج إلى العراق- قال لا إنك إن تخرج إليها تقدم على قوم- أولي شبه و طعن على الأئمة و الولاة- قال أ فأخرج إلى مصر- قال لا قال فإلى أين أخرج- قال إلى البادية- قال أبو ذر أصير بعد الهجرة أعرابيا قال نعم- قال أبو ذر فأخرج إلى بادية نجد- قال عثمان بل إلى الشرق الأبعد أقصى فأقصى- امض على وجهك هذا- فلا تعدون الربذة فخرج إليها- .
وروى الواقدي أيضا عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي قال- كنت أحب لقاء أبي ذر- لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة- فجئته فقلت له أ لا تخبرني- أخرجت من المدينة طائعا أم أخرجت كرها- فقال كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم- فأخرجت إلى المدينة- فقلت دار هجرتي و أصحابي- فأخرجت من المدينة إلى ما ترى- ثم قال بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد- علي عهد رسول الله ص- إذ مر بي ع فضربني برجله- و قال لا أراك نائما في المسجد- فقلت بأبي أنت و أمي- غلبتني عيني فنمت فيه- قال فكيف تصنع إذا أخرجوك منه- قلت إذا ألحق بالشام- فإنها أرض مقدسة و أرض الجهاد- قال فكيف تصنع إذا أخرجت منها- قلت أرجع إلى المسجد- قال فكيف تصنعإذا أخرجوك منه- قلت آخذ سيفي فأضربهم به- فقال أ لا أدلك على خير من ذلك- انسق معهم حيث ساقوك و تسمع و تطيع- فسمعت و أطعت و أنا أسمع و أطيع- و الله ليلقين الله عثمان و هو آثم في جنبي- .
و اعلم أن أصحابنا رحمهم الله قد رووا أخبارا كثيرة- معناها أنه أخرج إلى الربذة باختياره- . و حكى قاضي القضاة رحمه الله في المغني- عن شيخنا أبي علي رحمه الله- أن الناس اختلفوا في أمر أبي ذر- و أن الرواية وردت بأنه قيل له- أ عثمان أنزلك الربذة- فقال لا بل أنا اخترت لنفسي ذلك- . و روى أبو علي أيضا: أن معاوية كتب يشكوه و هو بالشام- فكتب إليه عثمان أن صر إلى المدينة- فلما صار إليها- قال له ما أخرجك إلى الشام- قالإني سمعت رسول الله ص يقول إذا بلغت عمارة المدينة- موضع كذا فاخرج منها- فلذلك خرجت- فقال أي البلاد أحب إليك بعد الشام- قال الربذة فقال صر إليها- .
و روى الشيخ أبو علي أيضا عن زيد بن وهب- قال قلت لأبي ذر و هو بالربذة- ما أنزلك هذا المنزل- قال أخبرك أني كنت بالشام- فذكرت قوله تعالى- وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ- وَ لا يُنْفِقُونَها- فقال لي معاوية هذه نزلت في أهل الكتاب- فقلت فيهم و فينا- فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك- فكتب إلى أن أقدم فقدمت عليه- فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني- فشكوت ذلك إلى عثمان- فخيرني و قال انزل حيث شئت فنزلت الربذة- . و نحن نقول هذه الأخبار و إن كانت قد رويت- لكنها ليست في الاشتهارو الكثرة كتلك الأخبار- و الوجه أن يقال في الاعتذار عن عثمان و حسن الظن بفعله- أنه خاف الفتنة و اختلاف كلمة المسلمين- فغلب على ظنه- أن إخراج أبي ذر إلى الربذة أحسم للشغب- و أقطع لأطماع من يشرئب إلى شق العصا- فأخرجه مراعاة للمصلحة- و مثل ذلك يجوز للإمام- هكذا يقول أصحابنا المعتزلة- و هو الأليق بمكارم الأخلاق- فقد قال الشاعر-
إذا ما أتت من صاحب لك زلة
فكن أنت محتالا لزلته عذرا
و إنما يتأول أصابنا لمن يحتمل حاله التأويل كعثمان- فأما من لم يحتمل حاله التأويل- و إن كانت له صحبة سالفة- كمعاوية و أضرابه فإنهم لا يتأولون لهم- إذا كانت أفعالهم و أحوالهم لا وجه لتأويلها- و لا تقبل العلاج و الإصلاح
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 8