108 و من خطبة له ع
كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ- وَ كُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ- غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ- وَ عِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ- وَ قُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ- وَ مَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ- مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ- وَ مَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ- وَ مَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ- وَ مَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ- لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ- بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ- لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ- وَ لَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ- وَ لَا يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ- وَ لَا يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ- وَ لَا يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ- وَ لَا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ- وَ لَا يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ- وَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ- كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلَانِيَةٌ- وَ كُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ- أَنْتَ الْأَبَدُ فَلَا أَمَدَ لَكَ- وَ أَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلَا مَحِيصَ عَنْكَ- وَ أَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلَا مُنْجِيَ مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ- بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ- وَ إِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ- سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ- سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ- وَ مَا أَصْغَرَ عَظِيمَةٍ فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ- وَ مَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ- وَ مَا أَحْقَرَ ذَلِكَ فِيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ- وَ مَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا- وَ مَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الآْخِرَةِ قال كل شيء خاضع لعظمة الله سبحانه- و كل شيء قائم به- و هذه هي صفته الخاصة- أعني كونه غنيا عن كل شيء- و لا شيء من الأشياء يغني عنه أصلا- . ثم قال غنى كل فقير- و عز كل ذليل- و قوة كل ضعيف- و مفزع كل ملهوف- .
جاء في الأثر من اعتز بغير الله ذل- و من تكثر بغير الله قل- و كان يقال ليس فقيرا من استغنى بالله- و قال الحسن وا عجبا للوط نبي الله- قال لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ- أ تراه أراد ركنا أشد و أقوى من الله- . و استدل العلماء على ثبوت الصانع سبحانه- بما دل عليه فحوى قوله ع- و مفزع كل ملهوف- و ذلك أن النفوس ببدائها تفزع- عند الشدائد و الخطوب الطارقة- إلى الالتجاء إلى خالقها و بارئها- أ لا ترى راكبي السفينة عند تلاطم الأمواج- كيف يجأرون إليه سبحانه اضطرارا لا اختيارا- فدل ذلك على أن العلم به مركوز في النفس- قال سبحانه وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ- ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ- . ثم قال ع من تكلم سمع نطقه- و من سكت علم سره- يعني أنه يعلم ما ظهر و ما بطن- . ثم قال و من عاش فعليه رزقه- و من مات فإليه منقلبه- أي هو مدبر الدنيا و الآخرة و الحاكم فيهما- . ثم انتقل عن الغيبة إلى الخطاب- فقال لم ترك العيون
فصل في الكلام على الالتفات
و اعلم أن باب الانتقال من الغيبة إلى الخطاب- و من الخطاب إلى الغيبة باب كبير من أبواب علم البيان- و أكثر ما يقع ذلك إذا اشتدت عناية المتكلم- بذلك المعنى المنتقل إليه كقوله سبحانه- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ- الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ- مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ- فأخبر عن غائب- ثم انتقل إلى خطاب الحاضر فقال- إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ- قالوا لأن منزلة الحمد دون منزلة العبادة- فإنك تحمد نظيرك و لا تعبده- فجعل الحمد للغائب- و جعل العبادة لحاضر يخاطب بالكاف- لأن كاف الخطاب أشد تصريحا به سبحانه- من الأخبار بلفظ الغيبة- قالوا و لما انتهى إلى آخر السورة- قال صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ- فأسند النعمة إلى مخاطب حاضر- و قال في الغضب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ- فأسنده إلى فاعل غير مسمى و لا معين- و هو أحسن من أن يكون قال- لم تغضب عليهم و في النعمة الذين أنعم عليهم- . و من هذا الباب قوله تعالى- وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً- فأخبر بقالوا عن غائبين ثم قال- لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا- فأتى بلفظ الخطاب استعظاما للأمر- كالمنكر على قوم حاضرين عنده- . و من الانتقال عن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى- هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ- حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ- وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ- وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ… الآية- .
و فائدة ذلك أنه صرف الكلام من خطاب الحاضرين- إلى أخبار قوم آخرين بحالهم- كأنه يعدد على أولئك ذنوبهم- و يشرح لهؤلاء بغيهم و عنادهم الحق- و يقبح عندهم ما فعلوه- و يقول أ لا تعجبون من حالهم كيف دعونا- فلما رحمناهم و استجبنا دعاءهم- عادوا إلى بغيهم- و هذه الفائدة لو كانت الآية كلها- على صيغة خطاب الحاضر مفقودة- .
قال ع ما رأتك العيون فتخبر عنك- كما يخبر الإنسان عما شاهده- بل أنت أزلي قديم موجود قبل الواصفين لك- . فإن قلت فأي منافاة بين هذين الأمرين- أ ليس من الممكن أن يكون سبحانه قبل الواصفين له- و مع ذلك يدرك بالأبصار إذا خلق خلقه- ثم يصفونه رأي عين- قلت بل هاهنا منافاة ظاهرة- و ذلك لأنه إذا كان قديما- لم يكن جسما و لا عرضا- و ما ليس بجسم و لا عرض تستحيل رؤيته- فيستحيل أن يخبر عنه على سبيل المشاهدة- . ثم ذكر ع- أنه لم يخلق الخلق لاستيحاشه و تفرده- و لا استعملهم بالعبادة لنفعه- و قد تقدم شرح هذا- . ثم قال لا تطلب أحدا فيسبقك- أي يفوتك و لا يفلتك من أخذته- . فإن قلت أي فائدة في قوله و لا يفلتك من أخذته- لأن عدم الإفلات هو الأخذ- فكأنه قال لا يفلتك من لم يفلتك- قلت المراد أن من أخذت لا يستطيع أن يفلت- كما يستطيع المأخوذون مع ملوك الدنيا- أن يفلتوا بحيلة من الحيل- . فإن قلت- أفلت فعل لازم فما باله عداه- . قلت تقدير الكلام لا يفلت منك- فحذف حرف الجر- كما قالوا استجبتك أي استجبت لك قال-فلم يستجبه عند ذاك مجيب- . و قالوا استغفرت الله الذنوب- أي من الذنوب و قال الشاعر-
أستغفر الله ذنبا لست محصيه
رب العباد إليه الوجه و العمل
قوله ع- و لا يرد أمرك من سخط قضاءك- و لا يستغني عنك من تولى عن أمرك- تحته سر عظيم- و هو قول أصحابنا في جواب قول المجبرة- لو وقع منا ما لا يريده لاقتضى ذلك نقصه- إنه لا نقص في ذلك- لأنه لا يريد الطاعات منا إرادة قهر و إلجاء- و لو أرادها إرادة قهر- لوقعت و غلبت إرادته إرادتنا- و لكنه تعالى أراد منا أن نفعل نحن الطاعة اختيارا- فلا يدل عدم وقوعها منا على نقصه و ضعفه- كما لا يدل بالاتفاق بيننا و بينكم عدم وقوع ما أمر به- على ضعفه و نقصه- .
ثم قال ع كل سر عندك علانية- أي لا يختلف الحال عليه في الإحاطة بالجهر و السر- لأنه عالم لذاته و نسبة ذاته إلى كل الأمور واحدة- . ثم قال أنت الأبد فلا أمد لك- هذا كلام علوي شريف- لا يفهمه إلا الراسخون في العلم و فيه سمة منقول النبي ص لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله- و في مناجاة الحكماء لمحة منه أيضا- و هو قولهم أنت الأزل السرمد- و أنت الأبد الذي لا ينفد- بل قولهم أنت الأبد الذي لا ينفد هو قوله أنت الأبد فلا أمد لك بعينه- و نحن نشرحه هاهنا على موضوع هذا الكتاب- فإنه كتاب أدب لا كتاب نظر- فنقول إن له في العربية محملين- أحدهما أن المراد به أنت ذو الأبد- كما قالوا رجل خال أي ذو خال و الخال الخيلاء- و رجل داء أي به داء و رجلمال أي ذو مال- و المحمل الثاني- أنه لما كان الأزل و الأبد لا ينفكان- عن وجوده سبحانه جعله ع- كأنه أحدهما بعينه- كقولهم أنت الطلاق- لما أراد المبالغة في البينونة- جعلها كأنها الطلاق نفسه- و مثله قول الشاعر-
فإن المندى رحلة فركوب
و قال أبو الفتح في الدمشقيات- استدل أبو علي على صرف منى للموضع المخصوص- بأنه مصدر منى يمني- قال فقلت له أ تستدل بهذا على أنه مذكر- لأن المصدر إلى التذكير فقال نعم- فقلت فما تنكر ألا يكون فيه دلالة عليه- لأنه لا ينكر أن يكون مذكر سمي به البقعة المؤنثة- فلا ينصرف كامرأة سميتها بحجر و جبل و شبع و معي- فقال إنما ذهبت إلى ذلك- لأنه جعل كأنه المصدر بعينه- لكثرة ما يعاني فيه ذلك فقلت الآن نعم- . و من هذا الباب قوله-فإنما هي إقبال و إدبار- . و قولهو هن من الإخلاف قبلك و المطل- . و قوله فلا منجى منك إلا إليك- قد أخذه الفرزدق فقال لمعاوية-
إليك فررت منك و من زياد
و لم أحسب دمي لكما حلالا
ثم استعظم و استهول خلقه الذي يراه- و ملكوته الذي يشاهده- و استصغر و استحقرذلك- بالإضافة إلى قدرته تعالى- و إلى ما غاب عنا من سلطانه- ثم تعجب من سبوغ نعمه تعالى في الدنيا- و استصغر ذلك بالنسبة إلى نعم الآخرة- و هذا حق لأنه لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي: مِنْهَا مِنْ مَلَائِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ- وَ رَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ- هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ- وَ أَخْوَفُهُمْ لَكَ وَ أَقْرَبُهُمْ مِنْكَ- لَمْ يَسْكُنُوا الْأَصْلَابَ- وَ لَمْ يُضَمَّنُوا الْأَرْحَامَ- وَ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ- وَ لَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ الْمَنُونِ- وَ إِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِمْ مِنْكَ- وَ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ وَ اسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ- وَ كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ وَ قِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ- لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ- لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ وَ لَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ- وَ لَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ- وَ لَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ- سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَ مَعْبُوداً- بِحُسْنِ بَلَائِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً- وَ جَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً- مَشْرَباً وَ مَطْعَماً وَ أَزْوَاجاً- وَ خَدَماً وَ قُصُوراً- وَ أَنْهَاراً وَ زُرُوعاً وَ ثِمَاراً- ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا- فَلَا الدَّاعِيَ أَجَابُوا- وَ لَا فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا- وَ لَا إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا- أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا- وَ اصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا- وَ مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ- وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ- فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ- وَ يَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ- قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ- وَ أَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ- وَ وَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ- فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا- وَ لِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا- حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا- وَ حَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا- لَا يَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهِ بِزَاجِرٍ- وَ لَا يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ- وَ هُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ- حَيْثُ لَا إِقَالَةَ لَهُمْ وَ لَا رَجْعَةَ- كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ- وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ- وَ قَدِمُوا مِنَ الآْخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ- فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ- اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ- وَ حَسْرَةُ الْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ- وَ تَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ- ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً- فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ- وَ إِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ- وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ- وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ- يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ- وَ فِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ- وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا- وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا- قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا- وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا- تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يُنَعَّمُونَ فِيهَا- وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا- فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ وَ الْعِبْءُ عَلَى ظَهْرِهِ- وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا- فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً- عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ- وَ يَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمْرِهِ- وَ يَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا- وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ- فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ- حَتَّى خَالَطَ سَمْعَهُ- فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ- وَ لَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ- يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ- يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ- وَ لَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ- ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ- فَقَبَضَ بَصَرَهُ كَمَا قَبَضَ سَمْعَهُ- وَ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ- فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ- قَدْ أُوحِشُوا مِنْ جَانِبِهِ- وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ- لَا يُسْعِدُ بَاكِياً وَ لَا يُجِيبُ دَاعِياً- ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الْأَرْضِ- فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ- وَ انْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ- حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ- وَ الْأَمْرُ مَقَادِيرَهُ- وَ أُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ- وَ جَاءَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا يُرِيدُهُ- مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ- أَمَادَ السَّمَاءَ وَ فَطَرَهَا- وَ أَرَجَّ الْأَرْضَ وَ أَرْجَفَهَا- وَ قَلَعَ جِبَالَهَا وَ نَسَفَهَا- وَ دَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ- وَ مَخُوفِ سَطْوَتِهِ- وَ أَخْرَجَ مَنْ فِيهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلَاقِهِمْ- وَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ- ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْمَسْأَلَتِهِمْ- عَنْ خَفَايَا الْأَعْمَالِ وَ خَبَايَا الْأَفْعَالِ- وَ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ- أَنْعَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَ انْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ- فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ- وَ خَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ- حَيْثُ لَا يَظْعَنُ النُّزَّالُ- وَ لَا تَتَغَيَّرُ بِهِمُ الْحَالُ- وَ لَا تَنُوبُهُمُ الْأَفْزَاعُ- وَ لَا تَنَالُهُمُ الْأَسْقَامُ وَ لَا تَعْرِضُ لَهُمُ الْأَخْطَارُ- وَ لَا تُشْخِصُهُمُ الْأَسْفَارُ- وَ أَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ- فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ وَ غَلَّ الْأَيْدِيَ إِلَى الْأَعْنَاقِ- وَ قَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالْأَقْدَامِ- وَ أَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ- وَ مُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ- فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ- وَ بَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ- فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَ لَجَبٌ- وَ لَهَبٌ سَاطِعٌ وَ قَصِيفٌ هَائِلٌ- لَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا- وَ لَا يُفَادَى أَسِيرُهَا- وَ لَا تُفْصَمُ كُبُولُهَا- لَا مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى- وَ لَا أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى هذا موضع المثل في كل شجرة نار- و استمجد المرخ و العفار- الخطب الوعظية الحسان كثيرة- و لكن هذا حديثيأكل الأحاديث-
محاسن أصناف المغنين جمة
و ما قصبات السبق إلا لمعبد
من أراد أن يتعلم الفصاحة و البلاغة- و يعرف فضل الكلام بعضه على بعض- فليتأمل هذه الخطبة- فإن نسبتها إلى كل فصيح من الكلام- عدا كلام الله و رسوله- نسبة الكواكب المنيرة الفلكية- إلى الحجارة المظلمة الأرضية- ثم لينظر الناظر إلى ما عليها من البهاء- و الجلالة و الرواء و الديباجة- و ما تحدثه من الروعة و الرهبة و المخافة و الخشية- حتى لو تليت على زنديق ملحد مصمم- على اعتقاد نفي البعث و النشور- لهدت قواه و أرعبت قلبه- و أضعفت على نفسه و زلزلت اعتقاده- فجزى الله قائلها عن الإسلام- أفضل ما جزى به وليا من أوليائه- فما أبلغ نصرته له- تارة بيده و سيفه- و تارة بلسانه و نطقه- و تارة بقلبه و فكره- إن قيل جهاد و حرب فهو سيد المجاهدين و المحاربين- و إن قيل وعظ و تذكير فهو أبلغ الواعظين و المذكرين- و إن قيل فقه و تفسير فهو رئيس الفقهاء و المفسرين- و إن قيل عدل و توحيد فهو إمام أهل العدل و الموحدين-
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
ثم نعود إلى الشرح- فنقول قوله ع أسكنتهم سماواتك- لا يقتضي أن جميع الملائكة في السماوات- فإنه قد ثبت أن الكرام الكاتبين في الأرض- و إنما لم يقتض ذلك- لأن قوله من ملائكة ليس من صيغ العموم- فإنه نكرة في سياق الإثبات- و قد قيل أيضا- إن ملائكة الأرض تعرج إلى السماء و مسكنها بها- و يتناوبون على أهل الأرض- . قوله هم أعلم خلقك بك- ليس يعني به أنهم يعلمون- من ماهيته تعالى ما لا يعلمه البشر- أما على قول المتكلمين- فلأن ذاته تعالى معلومة للبشر- و العلم لا يقبل الأشد و الأضعف- و أما على قول الحكماء- فلأن ذاته تعالى غير معلومة للبشر و لا للملائكة- و يستحيل أن تكون معلومة لأحد منهم- فلم يبق وجه يحمل عليه قوله ع- هم أعلم خلقك بك- إلا أنهم يعلمون- من تفاصيل مخلوقاته و تدبيراته ما لا يعلمه غيرهم- كما يقال وزير الملك أعلم بالملك من الرعية- ليس المراد أنه أعلم بذاته و ماهيته- بل بأفعاله و تدبيره و مراده و غرضه- .
قوله و أخوفهم لك- لأن قوتي الشهوة و الغضب مرفوعتان عنهم- و هما منبع الشر- و بهما يقع الطمع و الإقدام على المعاصي- و أيضا فإن منهم من يشاهد الجنة و النار عيانا- فيكون أخوف لأنه ليس الخبر كالعيان- . قوله و أقربهم منك- لا يريد القرب المكاني- لأنه تعالى منزه عن المكان و الجهة- بل المراد كثرة الثواب و زيادة التعظيم و التبجيل- و هذا يدل على صحة مذهب أصحابنا- في أن الملائكة أفضل من الأنبياء- . ثم نبه على مزية لهم- تقتضي أفضلية جنسهم على جنس البشر- بمعنى الأشرفية لا بمعنى زيادة الثواب- و هو قوله لم يسكنوا الأصلاب- و لم يضمنوا الأرحام- و لم يخلقوا من ماء مهين- و لم يتشعبهم ريب المنون- و هذه خصائص أربع- فالأولى أنهم لم يسكنوا الأصلاب- و البشر سكنوا الأصلاب- و لا شبهة أن ما ارتفع- عن مخالطة الصورة اللحمية و الدموية- أشرف مما خالطها و مازجها- .
و الثانية أنهم لم يضمنوا الأرحام- و لا شبهة أن من لم يخرج- من ذلك الموضع المستقذر أشرف ممن خرج منه- و كان أحمد بن سهل بن هاشم- بن الوليد بن كامكاو بن يزدجرد بن شهريار- يفخر على أبناء الملوك- بأنه لم يخرج من بضع امرأة- لأن أمه ماتت و هي حامل به- فشق بطنها عنه و أخرج- قال أبو الريحان البيروني- في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية عن هذا الرجل- أنه كان يتيه على الناس و إذا شتم أحدا قال ابن البضع- قال أبو الريحان و أول من اتفق له ذلك الملك المعروف بأغسطس ملك الروم و هو أول من سمي فيهم قيصر- لأن تفسير قيصر بلغتهم شق عنه و أيامه تاريخ- كما أن أيام الإسكندر تاريخ لعظمه و جلالته عندهم- . و الثالثة أنهم لم يخلقوا من ماء مهين- و قد نص القرآن العزيز على أنه مهين- و كفى ذلك في تحقيره و ضعته- فهم لا محالة أشرف ممن خلق منه- لا سيما و قد ذهب كثير من العلماء إلى نجاسته- .
و الرابعة أنهم لا يتشعبهم المنية- و لا ريب أن من لا تتطرق إليه الأسقام و الأمراض- و لا يموت- أشرف ممن هو في كل ساعة و لحظة بعرض سقام- و بصدد موت و حمام- . و اعلم أن مسألة تفضيل الملائكة على الأنبياء- لها صورتان- إحداهما أن أفضل بمعنى كونهم أكثر ثوابا- و الأخرى كونهم أفضل بمعنى أشرف- كما تقول إن الفلك أفضل من الأرض- أي إن الجوهر الذي منه جسمية الفلك- أشرف من الجوهر الذي منه جسمية الأرض- . و هذه المزايا الأربع دالة- على تفضيل الملائكة بهذا الاعتبار الثاني- . قوله ع يتشعبهم ريب المنون- أي يتقسمهم و الشعب التفريق- و منه قيل للمنية شعوب- لأنها تفرق الجماعات- و ريب المنون حوادث الدهر- و أصل الريب ما راب الإنسان أي جاءه بما يكره- و المنون الدهر نفسه و المنون أيضا المنية- لأنها تمن المدة أي تقطعها و المن القطع- و منه قوله تعالى لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ- . و قال لبيدغبس كواسب لا يمن طعامهاثم ذكر أنهم كثرة عبادتهم و إخلاصهم- لو عاينوا كنه ما خفي عليهم من البارئ تعالى- لحقروا أعمالهم- و زروا على أنفسهم أي عابوها- تقول زريت على فلان أي عبته- و أزريت بفلان أي قصرت به- .
فإن قلت- ما هذا الكنه الذي خفي عن الملائكة- حتى قال لو عاينوه لحقروا عبادتهم- و لعلموا أنهم قد قصروا فيها- قلت إن علوم الملائكة بالبارئ تعالى- نظرية كعلوم البشر- و العلوم النظرية دون العلوم الضرورية في الجلاء و الوضوح- فأمير المؤمنين ع يقول- لو كانت علومهم بك و بصفاتك إثباتية- و السلبية و الإضافية ضرورية- عوض علومهم هذه المتحققة الآن- التي هي نظرية- و لا نكشف لهم ما ليس الآن- على حد ذلك الكشف و الوضوح- و لا شبهة أن العبادة و الخدمة على قدر المعرفة بالمعبود- فكلما كان العابد به أعرف- كانت عبادته له أعظم- و لا شبهة أن العظيم عند الأعظم حقير- . فإن قلت فما معنى قوله- و استجماع أهوائهم فيك- و هل للملائكة هوى- و هل تستعمل الأهواء إلا في الباطل- قلت الهوى الحب و ميل النفس- و قد يكون في باطل و حق- و إنما يحمل على أحدهما بالقرينة- و الأهواء تستعمل فيهما- و معنى استجماع أهوائهم فيه- أن دواعيهم إلى طاعته و خدمته لا تنازعها الصوارف- و كانت مجتمعة مائلة إلى شق واحد- . فإن قلت الباء في قوله- بحسن بلائك بما ذا تتعلق- قلت الباء هاهنا للتعليل بمعنى اللام- كقوله تعالى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ- أي لأنهم- فتكون متعلقة بما في سبحانك من معنى الفعل- أي أسبحك لحسن بلائك- و يجوز أن تتعلق بمعبود أي يعبد لذلك- . ثم قال خلقت دارا يعني الجنة- و المأدبة و المأدبة بفتح الدال و ضمها- الطعام الذي يدعى الإنسان إليه- أدب زيد القوم يأدبهم بالكسر- أي دعاهم إلى طعامه- و الآدب الداعي إلى طعامه قال طرفة-
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا ترى الآدب فينا ينتقر
و في هذا الكلام دلالة على أن الجنة الآن مخلوقة- و هو مذهب أكثر أصحابنا- . و معنى قوله و زروعا أي و غروسا من الشجر- يقال زرعت الشجر كما يقال زرعت البر و الشعير- و يجوز أن يقال الزروع جمع زرع و هو الإنبات- يقال زرعه الله أي أنبته و منه قوله تعالى- أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ- أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ- و لو قال قائل- إن في الجنة زروعا من البر و القطنية لم يبعد- . قوله ثم أرسلت داعيا يعني الأنبياء- و أقبلوا على جيفة يعني الدنيا- و من كلام الحسن رضي الله عنه- إنما يتهارشون على جيفة- . و إلى قوله و من عشق شيئا أعشى بصره- نظر الشاعر فقال-
و عين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا
و قيل لحكيم ما بال الناس لا يرون عيب أنفسهم- كما يرون عيب غيرهم- قال إن الإنسان عاشق لنفسه- و العاشق لا يرى عيوب المعشوق- . قد خرقت الشهوات عقله- أي أفسدته كما تخرق الثوب فيفسد- . و إلى قوله- فهو عبد لها و لمن في يديه شيء منها- نظر ابن دريد فقال-
عبيد ذي المال و إن لم يطمعوا
من ماله في نغبة تشفي الصدى
و هم لمن أملق أعداء و إن
شاركهم فيما أفاد و حوى
و إلى قوله حيثما زالت زال إليها- و حيثما أقبلت أقبل عليها- نظر الشاعر فقال-
ما الناس إلا مع الدنيا و صاحبها
فكيفما انقلبت يوما به انقلبوا
يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت
يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا
و الغرة الاغترار و الغفلة و الغار الغافل- و قد اغتررت بالرجل و اغتره زيد أي أتاه على غرة منه- و يجوز أن يعني بقوله- المأخوذين على الغرة الحداثة و الشبيبة- يقول كان ذلك في غرارتي و غرتي- أي في حداثتي و صباي- . قوله سكرة الموت و حسرة الفوت- أي الحسرة على ما فاتهم من الدنيا و لذتها- و الحسرة على ما فاتهم- من التوبة و الندم و استدراك فارط المعاصي- . و الولوج الدخول ولج يلج- . قوله و بقاء من لبه- أي لبه باق لم يعدم- و يروى و نقاء بالنون و النقاء النظافة أي لبه غير مغمور- . أغمض في مطالبها- أي تساهل في دينه في اكتسابه إياها- أي كان يفنى نفسه بتأويلات ضعيفة- في استحلال تلك المطالب و المكاسب- فذاك هو الإغماض قال تعالى- وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ- و يمكن أن يحمل على وجه آخر- و هو أنه قد كان يحتال بحيل غامضة دقيقة- في تلك المطالب حتى حصلها و اكتسبها- . قوله ع- و أخذها من مصرحاتها و مشتبهاتها- أي من وجوه مباحة و ذوات شبهة- و هذا يؤكد المحمل الأول في أغمض- . و التبعات الآثام- الواحدة تبعة و مثلها التباعة قال-
لم يحذروا من ربهم
سوء العواقب و التباعة
و المهنأ المصدر- من هنئ الطعام و هنؤ بالكسر و الضم- مثل فقه و فقه- فإن كسرت قلت يهنأ- و إن ضممت قلت يهنؤ- و المصدر هناءة و مهنأ أي صار هنيئا- و هنأني الطعام يهنؤني و يهنئني- و لا نظير له في المهموز- هنأ و هناء و هنئت الطعام أي تهنأت به- و منه قوله تعالى فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً- . و العبء الحمل و الجمع أعباء- . و غلق الرهن أي استحقه المرتهن- و ذلك إذا لم يفتكك في الوقت المشروط- قال زهير
و فارقتك برهن لا فكاك له
يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
فإن قلت فما معنى قوله ع- قد غلقت رهونه بها في هذا الموضع- قلت لما كان قد شارف الرحيل- و أشفى على الفراق- و صارت تلك الأموال التي جمعها مستحقة لغيره- و لم يبق له فيها تصرف- أشبهت الرهن الذي غلق على صاحبه- فخرج عن كونه مستحقا له- و صار مستحقا لغيره و هو المرتهن- . و أصحر انكشف- و أصله الخروج إلى الصحراء و البروز من المكمن- . رجع كلامهم ما يتراجعونه بينهم من الكلام- ازداد الموت التياطا به أي التصاقا- قد أوحشوا أي جعلوا مستوحشين- و المستوحش المهموم الفزع- و يروى أوحشوا من جانبه- أي خلوا منه و أقفروا- تقول قد أوحش المنزل من أهله أي أقفر- . و خلا إلى مخط في الأرض أي إلى خط- سماه مخطا أو خطا لدقته يعني اللحد-و يروى إلى محط بالحاء المهملة و هو المنزل- و حط القوم أي نزلوا- .
و ألحق آخر الخلق بأوله- أي تساوى الكل في شمول الموت و الفناء لهم- فالتحق الآخر بالأول- . أماد السماء حركها- و يروى أمار و الموران الحركة- و فطرها شقها و أرج الأرض زلزلها- تقول رجت الأرض و أرجها الله- و يجوز رجها و قد روي رج الأرض بغير همزة و هو الأصح- و عليه ورد القرآن- إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا- . أرجفها جعلها راجفة أي مرتعدة متزلزلة- رجفت الأرض ترجف و الرجفان الاضطراب الشديد- و سمي البحر رجافا لاضطرابه قال الشاعر-
حتى تغيب الشمس في الرجاف
و نسفها قلعها من أصولها- و دك بعضها بعضا صدمه و دقه- حتى يكسره و يسويه بالأرض و منه قوله سبحانه- وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ- فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً- . ميزهم أي فصل بينهم- فجعلهم فريقين سعداء و أشقياء- و منه قوله تعالى وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ- أي انفصلوا من أهل الطاعة- . يظعن يرحل تنوبهم الأفزاع تعاودهم- و تعرض لهم الأخطار جمع خطر- و هو ما يشرف به على الهلكة- .
و تشخصهم الأسفار تخرجهم من منزل إلى منزل- شخص الرجل و أشخصه غيره- و غل الأيدي جعلها في الأغلال- جمع غل بالضم و هو القيد- و القطران الهناء قطرت البعير أي طليته بالقطران قال-كما قطر المهنوءة الرجل الطالي- و بعير مقطور و هذا من الألفاظ القرآنية- قال تعالى سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ- وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ- و المعنى أن النار إلى القطران سريعة جدا- . و مقطعات النيران أي ثياب من النيران- قد قطعت و فصلت لهم- و قيل المقطعات قصار الثياب- و الكلب الشدة- و الجلب و اللجب الصوت- و القصيف الصوت الشديد- . لا يقصم كبولها لا يكسر قيودها الواحد كبل- .
ثم ذكر أن عذابهم سرمدي- و أنه لا نهاية له نعوذ بالله من عذاب ساعة واحدة- فكيف من العذاب الأبديموازنة بين كلام الإمام علي و خطب ابن نباتةو نحن نذكر في هذا الموضع فصولا- من خطب الخطيب الفاضل عبد الرحيم بن نباتة رحمه الله- و هو الفائز بقصبات السبق من الخطباء- و للناس غرام عظيم بخطبه و كلامه- ليتأمل الناظر كلام أمير المؤمنين ع في خطبه و مواعظه- و كلام هذا الخطيب المتأخر-الذي قد وقع الإجماع على خطابته و حسنها- و أن مواعظه هي الغاية التي ليس بعدها غاية- فمن ذلك قوله- أيها الناس تجهزوا- فقد ضرب فيكم بوق الرحيل- و ابرزوا فقد قربت لكم نوق التحويل- و دعوا التمسك بخدع الأباطيل- و الركون إلى التسويف و التعليل- فقد سمعتم ما كرر الله عليكم من قصص أبناء القرى- و ما وعظكم به من مصارع من سلف من الورى- مما لا يعترض لذوي البصائر فيه شك و لا مرا- و أنتم معرضون عنه إعراضكم عما يختلق و يفترى- حتى كان ما تعلمون منه أضغاث أحلام الكرى- و أيدي المنايا قد فصمت من أعماركم أوثق العرى- و هجمت بكم على هول مطلع كريه القرى- فالقهقرى رحمكم الله عن حبائل العطب القهقرى- و اقطعوا مفاوز الهلكات بمواصلة السرى- و قفوا على أحداث المنزلين من شناخيب الذرى- المنجلين بوازع أم حبوكرى- المشغولين بما عليهم من الموت جرى- و اكشفوا عن الوجوه المنعمة أطباق الثرى- تجدوا ما بقي منها عبرة لمن يرى- فرحم الله امرأ رحم نفسه فبكاها- و جعل منها إليها مشتكاها- قبل أن تعلق به خطاطيف المنون- و تصدق فيه أراجيف الظنون- و تشرق عليه بمائها مقل العيون- و يلحق بمن دثر من القرون- قبل أن يبدوا على المناكب محمولا- و يغدو إلى محل المصائب منقولا- و يكون عن الواجب مسئولا- و بالقدوم على الطالب الغالب مشغولا- هناك يرفع الحجاب و يوضع الكتاب- و تقطع الأسباب و تذهب الأحساب- و يمنع الإعتاب- و يجمع من حق عليه العقاب- و من وجب له الثواب- فيضرب بينهم بسور له باب- باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب- . فلينظر المنصف هذا الكلام- و ما عليه من أثر التوليد- أولا بالنسبة إلى ذلك الكلام العربي المحض- ثم لينظر فيما عليه من الكسل و الرخاوة- و الفتور و البلادة- حتى كأن ذلك الكلام لعامر بن الطفيل- مستلئما شكته راكبا جواده- و هذا الكلام للدلال المديني المخنث- آخذا زمارته متأبطا دفه- . و المح ما في بوق الرحيل- من السفسفة و اللفظ العامي الغث- و اعلم أنهم كلهم عابوا على أبي الطيب قوله-
فإن كان بعض الناس سيفا لدولة
ففي الناس بوقات لها و طبول
و قالوا لا تدخل لفظة بوق في كلام يفلح أبدا- . و المح ما على قوله- القهقرى القهقرى متكررة من الهجنة- و أهجن منها أم حبوكرى- و أين هذا اللفظ الحوشي- الذي تفوح منه روائح الشيح و القيصوم- و كأنه من أعرابي قح قد قدم من نجد- لا يفهم محاورة أهل الحضر- و لا أهل الحضر يفهمون حواره- من هذه الخطبة اللينة الألفاظ التي تكاد- أن تتثنى من لينها و تتساقط من ضعفها- ثم المح هذه الفقر و السجعات- التي أولها القرى ثم المر- ثم يفترى ثم الكرى- إلى قوله عبرة لمن يرى- هل ترى تحت هذا الكلام معنى لطيفا- أو مقصدا رشيقا- أو هل تجد اللفظ نفسه لفظا جزلا فصيحا- أو عذبا معسولا- و إنما هي ألفاظ قد ضم بعضها إلى بعض- و الطائل تحتها قليل جدا- و تأمل لفظة مرا فإنها ممدودة في اللغة- فإن كان قصرها فقد ركب ضرورة مستهجنة- و إن أراد جمع مرية فقد خرجعن الصناعة- لأنه يكون قد عطف الجمع المفرد- فيصير مثل قول القائل- ما أخذت منه دينارا و لا دراهم- في أنه ليس بالمستحسن في فن البيان- .
و من ذلك قوله- أيها الناس حصحص الحق- فما من الحق مناص و أشخص الخلق- فما لأحد من الخلق خلاص- و أنتم على ما يباعدكم من الله حراص- و لكم على موارد الهلكة اغتصاص- و فيكم عن مقاصد البركة انتكاص- كأن ليس أمامكم جزاء و لا قصاص- و لجوارح الموت في وحش نفوسكم اقتناص- ليس بها عليها تأب و لا اعتياص- .
فليتأمل أهل المعرفة بعلم الفصاحة و البيان- هذا الكلام بعين الإنصاف- يعلموا أن سطرا واحدا من كلام نهج البلاغة- يساوى ألف سطر منه- بل يزيد و يربي على ذلك- فإن هذا الكلام ملزق عليه آثار كلفة و هجنة ظاهرة- يعرفها العامي فضلا عن العالم- . و من هذه الخطبة- فاهجروا رحمكم الله وثير المراقد- و ادخروا طيب المكتسب- تخلصوا من انتقاد الناقد- و اغتنموا فسحة المهل قبل انسداد المقاصد- و اقتحموا سبل الآخرة- على قلة المرافق و المساعد- . فهل يجد متصفح الكلام لهذا الفصل عذوبة- أو معنى يمدح الكلام لأجله- و هل هو إلا ألفاظ مضموم بعضها إلى بعض- ليس لها حاصل- كما قيل في شعر ذي الرمة-بعر ظباء و نقط عروس- و من ذلك قوله- فيا له من واقع في كرب الحشارج- مصارع لسكرات الموت معالج- حتى درج على تلك المدارج- و قدم بصحيفته على ذي المعارج- .و غير خاف ما في هذا الكلام من التكلف- .
و من ذلك قوله- فكأنكم بمنادي الرحيل قد نادى في أهل الإقامة- فاقتحموا بالصغار محجة القيامة- يتلو الأوائل منهم الأواخر- و يتبع الأكابر منهم الأصاغر- و يلتحق الغوامر من ديارهم بالغوامر- حتى تبتلع جميعهم الحفر و المقابر- . فإن هذا الكلام ركيك جدا- لو قاله خطيب من خطباء قرى السواد- لم يستحسن منه بل ترك و استرذل- . و لعل عائبا يعيب علينا- فيقول شرعتم في المقايسة و الموازنة- بين كلام أمير المؤمنين ع و بين كلام ابن نباتة- و هل هذا إلا بمنزلة قول من يقول- السيف أمضى من العصا- و في هذه غضاضة على السيف- فنقول إنه قد اشتملت كتب المتكلمين- على المقايسة بين كلام الله تعالى و بين كلام البشر- ليبينوا فضل القرآن و زيادة فصاحته- على فصاحة كلام العرب- نحو مقايستهم بين قوله تعالى وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ- و بين قول القائل القتل أنفى للقتل- و نحو مقايستهم بين قوله تعالى- خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ- وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ- و بين قول الشاعر-
فإن عرضوا بالشر فاصفح تكرما
و إن كتموا عنك الحديث فلا تسل
و نحو إيرادهم كلام مسيلمة- و أحمد بن سليمان المعري- و عبد الله بن المقفع فصلا فصلا- و الموازنة و المقايسة بين ذلك و بين القرآن المجيد- و إيضاح أنه لا يبلغ ذلك إلى درجة القرآن العزيز- و لا يقاربها- فليس بمستنكر منا- أن نذكر كلام ابن نباتة- في معرض إيرادنا كلام أمير المؤمنين ع- لتظهر فضيلة كلامه ع- بالنسبة إلى هذا الخطيب الفاضل- الذي قد اتفق الناس على أنه أوحد عصره في فنه- .
و اعلم أنا لا ننكر فضل ابن نباتة و حسن أكثر خطبه- و لكن قوما من أهل العصبية و العناد- يزعمون أن كلامه يساوى كلام أمير المؤمنين ع- و يماثله و قد ناظر بعضهم في ذلك- فأحببت أن أبين للناس في هذا الكتاب- أنه لا نسبة لكلامه إلى كلام أمير المؤمنين ع- و أنه بمنزلة شعر الأبله و ابن المعلم- بالإضافة إلى زهير و النابغة- .
و اعلم أن معرفة الفصيح و الأفصح- و الرشيق و الأرشق و الحلو و الأحلى- و العالي و الأعلى من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق- و لا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه- و هو بمنزلة جاريتين- إحداهما بيضاء مشربة حمرة دقيقة الشفتين- نقية الثغر كحلاء العينين- أسيلة الخد دقيقة الأنف معتدلة القامة- و الأخرى دونها في هذه الصفات و المحاسن- لكنها أحلى في العيون و القلوب منها- و أليق و أصلح- و لا يدرى لأي سبب كان ذلك- و لكنه بالذوق و المشاهدة يعرف- و لا يمكن تعليله و هكذا الكلام- نعم يبقى الفرق بين الموضعين- أن حسن الوجوه و ملاحتها- و تفضيل بعضها على بعض يدركه- كل من له عين صحيحة- و أما الكلام فلا يعرفه إلا أهل الذوق- و ليس كل من اشتغل بالنحو و اللغة أو بالفقه- كان من أهل الذوق- و ممن يصلح لانتقاد الكلام-
و إنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان- و راضوا أنفسهم بالرسائل- و الخطب و الكتابة و الشعر- و صارت لهم بذلك دربة و ملكة تامة- فإلى أولئك ينبغي أن ترجع في معرفة الكلام- و فضل بعضه على بعض- إن كنت عادما لذلك من نفسكمِنْهَا فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ ص- قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَ صَغَّرَهَا- وَ أَهْوَنَ بِهَا وَ هَوَّنَهَا- وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً- وَ بَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً- فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ- وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ- وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ- لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً- أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً- بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً- وَ نَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِراً- وَ دَعَا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً- وَ خَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً فعل مشدد للتكثير- قتلت أكثر من قتلت- فيقتضي قوله ع- قد حقر الدنيا زيادة تحقير النبي ص لها- و ذلك أبلغ في الثناء عليه و تقريظه- . قوله و صغرها أي و صغرها عند غيره- ليكون قوله و أهون بها و هونها مطابقا له- أي أهون هو بها و هونها عند غيره- . و زواها قبضها-قال ع زويت لي الأرض- فرأيت مشارقها و مغاربها- . و قوله اختيارا- أي قبض الدنيا عنه باختيار و رضا من النبي ص بذلك- و علم بما فيه من رفعة قدره و منزلته في الآخرة- .
و الرياش و الريش بمعنى و هو اللباس الفاخر- كالحرم و الحرام و اللبس و اللباس- و قرئ و رياشا و لباس التقوى ذلك خير- و يقال الريش و الرياش المال و الخصب و المعاش- و ارتاش فلان حسنت حاله- و معذرا أي مبالغا أعذر فلان في الأمر أي بالغ فيه: نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ- وَ مَحَطُّ الرِّسَالَةِ- وَ مُخْتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ- وَ مَعَادِنُ الْعِلْمِ وَ يَنَابِيعُ الْحُكْمِ- نَاصِرُنَا وَ مُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ- وَ عَدُوُّنَا وَ مُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ هذا الكلام غير ملتصق بالأول كل الالتصاق- و هو من النمط الذي ذكرناه مرارا- لأن الرضي رحمه الله يقتضب فصولا من خطبة طويلة- فيوردها إيرادا واحدا- و بعضها منقطع عن البعض- . قوله ع نحن شجرة النبوة- كأنه جعل النبوة كثمرة أخرجتها شجرة بني هاشم- و محط الرسالة منزلها- و مختلف الملائكة موضع اختلافها في صعودها و نزولها- و إلى هذا المعنى نظر بعض الطالبيين- فقال يفتخر على بني عم له ليسوا بفاطميين-
هل كان يقتعد البراق أبوكم
أم كان جبريل عليه ينزل
أم هل يقول له الإله مشافها
بالوحي قم يا أيها المزمل
و قال آخر يمدح قوما فاطميين-
و يطرقه الوحي وهنا و أنتم
ضجيعان بين يدي جبرئيلا
يعني حسنا ع و حسينا ع- . و اعلم أنه إن أراد بقوله نحن مختلف الملائكة- جماعة من جملتها رسول الله ص- فلا ريب في صحة القضية و صدقها- و إن أراد بها نفسه و ابنيه فهي أيضا صحيحة- و لكن مدلوله مستنبط-فقد جاء في الأخبار الصحيحة أنه قال يا جبريل إنه مني و أنا منه- فقال جبريل و أنا منكما وروى أبو أيوب الأنصاري مرفوعا لقد صلت الملائكة علي و على علي سبع سنين- لم تصل على ثالث لنا
– و ذلك قبل أن يظهر أمر الإسلام- و يتسامع الناس به- .
وفي خطبة الحسن بن علي ع لما قبض أبوه لقد فارقكم في هذه الليلة رجل- لم يسبقه الأولون و لا يدركه الآخرون- كان يبعثه رسول الله ص للحرب- و جبريل عن يمينه و ميكائيل عن يسارهوجاء في الحديث أنه سمع يوم أحد صوت من الهواء من جهة السماء- يقول لا سيف إلا ذو الفقار- و لا فتى إلا علي- و أن رسول الله ص قال هذا صوت جبريل- .
فأما قوله- و معادن العلم و ينابيع الحكم- يعني الحكمة أو الحكم الشرعي- فإنه و إن عنى بها نفسه و ذريته- فإن الأمر فيها ظاهر جدا-قال رسول الله ص أنا مدينة العلم و علي بابها- فمن أراد المدينة فليأت البابوقال أقضاكم علي- و القضاء أمر يستلزم علوما كثيرة- . وجاء في الخبر أنه بعثه إلى اليمن قاضيا- فقال يا رسول الله- إنهم كهول و ذوو أسنانو أنا فتى- و ربما لم أصب فيما أحكم به بينهم- فقال له اذهب فإن الله سيثبت قلبك و يهدي لسانك- .
و جاء في تفسير قوله تعالى- وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ- سألت الله أن يجعلها أذنك ففعل- و جاء في تفسير قوله تعالى- أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ- عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ- أنها أنزلت في علي ع و ما خص به من العلم- و جاء في تفسير قوله تعالى- أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ- وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ- أن الشاهد علي ع- . وروى المحدثون أنه قال لفاطمة- زوجتك أقدمهم سلما- و أعظمهم حلما و أعلمهم علماوروى المحدثون أيضا عنه ع أنه قال من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه- و موسى في علمه- و عيسى في ورعه- فلينظر إلى علي بن أبي طالب- . و بالجملة فحاله في العلم حال رفيعة جدا- لم يلحقه أحد فيها و لا قاربه- و حق له أن يصف نفسه- بأنه معادن العلم و ينابيع الحكم- فلا أحد أحق بها منه بعد رسول الله ص- . فإن قلت كيف قال- عدونا و مبغضنا ينتظر السطوة- و نحن نشاهد أعداءه و مبغضيه لا ينتظرونها- قلت لما كانت منتظرة لهم- و معلوما بيقين حلولها بهم- صاروا كالمنتظرين لها- و أيضا فإنهم ينتظرون الموت لا محالة- الذي كل إنسان ينتظره- و لما كان الموت مقدمة العقاب و طريقا إليه- جعل انتظاره انتظار ما يكون بعده
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 7