103 و من خطبة له ع- :
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّداً ص- وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً- وَ لَا يَدَّعِي نُبُوَّةً وَ لَا وَحْياً- فَقَاتَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ- يَسُوقُهُمْ إِلَى مَنْجَاتِهِمْ- وَ يُبَادِرُ بِهِمُ السَّاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ- يَحْسِرُ الْحَسِيرُ وَ يَقِفُ الْكَسِيرُ- فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ غَايَتَهُ- إِلَّا هَالِكاً لَا خَيْرَ فِيهِ- حَتَّى أَرَاهُمْ مَنْجَاتَهُمْ- وَ بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ- فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ- وَ اسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا- حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَا فِيرِهَا- وَ اسْتَوْسَقَتْ فِي قِيَادِهَا- مَا ضَعُفْتُ وَ لَا جَبُنْتُ- وَ لَا خُنْتُ وَ لَا وَهَنْتُ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَأَبْقُرَنَّ الْبَاطِلَ- حَتَّى أُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ قال الرضي رحمه الله تعالى- و قد تقدم مختار هذه الخطبة- إلا أنني وجدتها في هذه الرواية- على خلاف ما سبق من زيادة و نقصان- فأوجبت الحال إثباتها ثانية لقائل أن يقول- أ لم يكن في العرب نبي قبل محمد- و هو خالد بن سنان العبسي- و أيضا فقد كان فيها هود و صالح و شعيب- .
و نجيب هذا القائل- بأن مراده ع أنه لم يكن في زمان محمد ص- و ما قاربه من ادعى النبوة- فأما هود و صالح و شعيب- فكانوا في دهر قديم جدا- و أما خالد بن سنان فلم يقرأ كتابا- و لا يدعي شريعة- و إنما كانت نبوة مشابهة لنبوة جماعة- من أنبياء بني إسرائيل- الذين لم يكن لهم كتب و لا شرائع- و إنما ينهون عن الشرك و يأمرون بالتوحيد- . و منجاتهم نجاتهم- نجوت من كذا نجاء ممدود و نجا مقصور- و منجاة على مفعله و منه قولهم الصدق منجاة- . قوله ع و يبادر بهم الساعة- كأنه كان يخاف أن تسبقه القيامة- فهو يبادرها بهدايتهم و إرشادهم قبل أن تقوم- و هم على ضلالهم- .
و الحسير المعيا حسر البعير بالفتح- يحسر بالكسر حسورا- و استحسر مثله و حسرته أنا- يتعدى و لا يتعدى- حسرا فهو حسير- و يجوز أحسرته بالهمزة- و الجمع حسرى مثل قتيل و قتلى- و منه حسر البصر أي كل يحسر- قال تعالى يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ- و هذا الكلام من باب الاستعارة و المجاز- يقول ع كان النبي ص لحرصه على الإسلام- و إشفاقه على المسلمين و رأفته بهم- يلاحظ حال من تزلزل اعتقاده- أو عرضت له شبهة أو حدث عنده ريب- و لا يزال يوضح له و يرشده- حتى يزيل ما خامر سره من وساوس الشيطان- و يلحقه بالمخلصين من المؤمنين- و لم يكن ليقصر في مراعاة أحد- من المكلفين في هذا المعنى إلا من كان يعلم- أنه لا خير فيه أصلا- لعناده و إصراره على الباطل- و مكابرته للحق- . و معنى قوله حتى يلحقه غايته- حتى يوصله إلى الغاية التي هي الغرض بالتكليف- يعني اعتقاد الحق و سكون النفس إلى الإسلام- و هو أيضا معنى قوله- و بوأهم محلتهم- .
و معنى قوله- فاستدارت رحاهم انتظم أمرهم- لأن الرحى إنما تدور- إذا تكاملت أدواتها و آلاتها كلها- و هو أيضا معنى قوله- و استقامت قناتهم- و كل هذا من باب الاستعارة- . ثم أقسم أنه ع كان من ساقتها- الساقة جمع سائق- كقادة جمع قائد و حاكة جمع حائك- و هذا الضمير المؤنث يرجع إلى غير مذكور لفظا- و المراد الجاهلية- كأنه جعلها مثل كتيبة مصادمة لكتيبة الإسلام- و جعل نفسه من الحاملين عليها بسيفه- حتى فرت و أدبرت- و أتبعها يسوقها سوقا- و هي مولية بين يديه- .
حتى أدبرت بحذافيرها- أي كلها عن آخرها- . ثم أتى بضمير آخر إلى غير مذكور لفظا- و هو قوله و استوسقت في قيادها- يعني الملة الإسلامية أو الدعوة- أو ما يجري هذا المجرى- و استوسقت اجتمعت- يقول لما ولت تلك الدعوة الجاهلية- استوسقت هذه في قيادها- كما تستوسق الإبل المقودة إلى أعطانها- و يجوز أن يعود هذا الضمير الثاني- إلى المذكور الأول و هو الجاهلية- أي ولت بحذافيرها و اجتمعت كلها تحت ذل المقادة- . ثم أقسم أنه ما ضعف يومئذ- و لا وهن و لا جبن و لا خان- و ليبقرن الباطل الآن- حتى يخرج الحق من خاصرته- كأنه جعل الباطل كالشيء المشتمل على الحق غالبا عليه- و محيطا به- فإذا بقر ظهر الحق الكامن فيه- و قد تقدم منا شرح ذلك
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 7