و من خطبه له علیه السّلام
أَحْمَدُهُ شُکْراً لِإِنْعَامِهِ- وَ أَسْتَعِینُهُ عَلَى وَظَائِفِ حُقُوقِهِ- عَزِیزَ الْجُنْدِ عَظِیمَ الْمَجْدِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- دَعَا إِلَى طَاعَتِهِ وَ قَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَلَى دِینِهِ- لَا یَثْنِیهِ عَنْ ذَلِکَ اجْتِمَاعٌ عَلَى تَکْذِیبِهِ- وَ الْتِمَاسٌ لِإِطْفَاءِ نُورِهِ- فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّ لَهَا حَبْلًا وَثِیقاً عُرْوَتُهُ- وَ مَعْقِلًا مَنِیعاً ذِرْوَتُهُ- وَ بَادِرُوا الْمَوْتَ وَ غَمَرَاتِهِ وَ امْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ- وَ أَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ فَإِنَّ الْغَایَهَ الْقِیَامَهُ- وَ کَفَى بِذَلِکَ وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ وَ مُعْتَبَراً لِمَنْ جَهِلَ- وَ قَبْلَ بُلُوغِ الْغَایَهِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِیقِ الْأَرْمَاسِ- وَ شِدَّهِ الْإِبْلَاسِ وَ هَوْلِ الْمُطَّلَعِ- وَ رَوْعَاتِ الْفَزَعِ وَ اخْتِلَافِ الْأَضْلَاعِ- وَ اسْتِکَاکِ الْأَسْمَاعِ وَ ظُلْمَهِ اللَّحْدِ- وَ خِیفَهِ الْوَعْدِ وَ غَمِّ الضَّرِیحِ وَ رَدْمِ الصَّفِیحِ- فَاللَّهَ اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ- فَإِنَّ الدُّنْیَا مَاضِیَهٌ بِکُمْ عَلَى سَنَنٍ- وَ أَنْتُمْ وَ السَّاعَهُ فِی قَرَنٍ- وَ کَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا وَ أَزِفَتْ بِأَفْرَاطِهَا- وَ وَقَفَتْ بِکُمْ عَلَى صِرَاطِهَا وَ کَأَنَّهَا قَدْ أَشْرَفَتْ بِزَلَازِلِهَا- وَ أَنَاخَتْ بِکَلَاکِلِهَا وَ انْصَرَمَتِ الدُّنْیَا بِأَهْلِهَا- وَ أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا- فَکَانَتْ کَیَوْمٍ مَضَى أَوْ شَهْرٍ انْقَضَى- وَ صَارَ جَدِیدُهَا رَثّاً وَ سَمِینُهَا غَثّاً- فِی مَوْقِفٍ ضَنْکِ الْمَقَامِ وَ أُمُورٍ مُشْتَبِهَهٍ عِظَامٍ- وَ نَارٍ شَدِیدٍ کَلَبُهَا عَالٍ لَجَبُهَا- سَاطِعٍ لَهَبُهَا مُتَغَیِّظٍ زَفِیرُهَا- مُتَأَجِّجٍ سَعِیرُهَا بَعِیدٍ خُمُودُهَا- ذَاکٍ وُقُودُهَا مَخُوفٍ وَعِیدُهَا- عَمٍ قَرَارُهَا مُظْلِمَهٍ أَقْطَارُهَا- حَامِیَهٍ قُدُورُهَا فَظِیعَهٍ أُمُورُهَا- وَ سِیقَ الَّذِینَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّهِ زُمَراً- قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ وَ انْقَطَعَ الْعِتَابُ- وَ زُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ وَ اطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ- وَ رَضُوا الْمَثْوَى وَ الْقَرَارَ- الَّذِینَ کَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِی الدُّنْیَا زَاکِیَهً- وَ أَعْیُنُهُمْ بَاکِیَهً- وَ کَانَ لَیْلُهُمْ فِی دُنْیَاهُمْ نَهَاراً تَخَشُّعاً وَ اسْتِغْفَارًا- وَ کَانَ نَهَارُهُمْ لَیْلًا تَوَحُّشاً وَ انْقِطَاعاً- فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْجَنَّهَ مَآباً وَ الْجَزَاءَ ثَوَاباً- وَ کانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها- فِی مُلْکٍ دَائِمٍ وَ نَعِیمٍ قَائِمٍ- فَارْعَوْا عِبَادَ اللَّهِ مَا بِرِعَایَتِهِ یَفُوزُ فَائِزُکُمْ- وَ بِإِضَاعَتِهِ یَخْسَرُ مُبْطِلُکُمْ- وَ بَادِرُوا آجَالَکُمْ بِأَعْمَالِکُمْ- فَإِنَّکُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ- وَ مَدِینُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ- وَ کَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِکُمُ الْمَخُوفُ- فَلَا رَجْعَهً تُنَالُونَ وَ لَا عَثْرَهً تُقَالُونَ- اسْتَعْمَلَنَا اللَّهُ وَ إِیَّاکُمْ بِطَاعَتِهِ وَ طَاعَهِ رَسُولِهِ- وَ عَفَا عَنَّا وَ عَنْکُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ- الْزَمُوا الْأَرْضَ وَ اصْبِرُوا عَلَى الْبَلَاءِ- وَ لَا تُحَرِّکُوا بِأَیْدِیکُمْ وَ سُیُوفِکُمْ فِی هَوَى أَلْسِنَتِکُمْ- وَ لَا تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ یُعَجِّلْهُ اللَّهُ لَکُمْ- فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْکُمْ عَلَى فِرَاشِهِ- وَ هُوَ عَلَى مَعْرِفَهِ حَقِّ رَبِّهِ- وَ حَقِّ رَسُولِهِ وَ أَهْلِ بَیْتِهِ مَاتَ شَهِیداً- وَ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ- وَ اسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ- وَ قَامَتِ النِّیَّهُ مَقَامَ إِصْلَاتِهِ لِسَیْفِهِ- فَإِنَّ لِکُلِّ شَیْءٍ مُدَّهً وَ أَجَلًا
اللغه
أقول:
الوظیفه: ما یقدّر للإنسان فی کلّ یوم من طعام أو رزق أو عمل.
و یثنیه: یصرفه.
و المعقل: الملجأ.
و ذروته: أعلاه.
و مهّدله: أی اتّخذ له مهادا و هو الفراش.
و الأرماس: جمع رمس و هو القبر.
و الإبلاس: الانکسار و الحزن.
و المطّلع: الاطّلاع من إشراف إلى أسفل.
و هوله: خوفه و فزعه.
و الروعه: الفزعه. و استکاک الأسماع: صممها.
و الصفیح: الحجاره العراض.
و ردمها: سدّ القبر بها.
و السنن: الطریقه.
و القرن: الحبل یقرن به البعیران.
و أشراطها: علاماتها.
و أزفت: دنت.
و أفراطها: مقدّماتها.
و منه أفراط الصبح أوائل تباشیره.
و الرثّ: الخلق.
و الغثّ: المهزول.
و الضنک: الضیق.
و الکلب: الشرّ.
و اللجب: الصوت.
و الساطع: المرتفع.
و سعیرها: لهبها.
و تأجّجه: اشتداد حرّه و وقودها بضمّ الواو: ایقادها و هو الحدث.
و ذکاه- مقصورا- : اشتعاله.
و فضاعه الأمر: شدّته و مجاوزته للمقدار.
و الزمر: الجماعات، واحدتها زمره.
و زحزحوا: بعدوا.
و اطمأنّت: سکنت.
و المثوى: المقام.
و المآب: المرجع.
و المدینون: مجزیّون.
و إصلاته بسیفه. تجرّده به.
المعنى
و اعلم أنّه علیه السّلام أنشأ حمد اللّه على نعمائه. و نصب شکرا على المصدر عن قوله: أحمد. من غیر لفظه. إذ المراد بالحمد هنا الشکر بقرینه ذکر الإنعام. ثمّ أردفه بطلب المعونه على ما وظّف علیه من حقوقه: واجباتها و نوافلها کالصلوات و العبادات الّتى ارتضاها منهم شکرا لنعمائه، و إذا اعتبرت کانت نعما تستحقّ الشکر لما یستلزمه المواظبه علیها من السعاده الحقیقیّه الباقیه کما سبق بیانه. و قوله عزیز الجند. نصب على الحال و الإضافه غیر محضه و العامل أستعینه، و کذلک قوله: عظیم المجد: أى أستعینه على أداء حقوقه حال ما هو بذینک الاعتبارین فإنّه باعتبار ما هو عزیز الجند عظیم المجد یکون مالک الملک قدیرا على ما یشاء فکان مبدأ استعانه به على أداء وظایف حقوقه. ثمّ أردفه بشهادته برساله نبیّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و ذکر أحواله الّتی کانت مبادئ لظهور الدین الحقّ لیقتدى السامعون به صلّى اللّه علیه و آله و سلّم فی تلک الأحوال.
و هی دعوته إلى الدین و مقاهرته لأعدائه و هم الکفّار على أصنافهم، و نصب جهاداعلى أنّه مصدر سدّ مسدّ الحال، أو نصب المصادر عن قوله: قاهر. من غیر لفظه. إذ فی قاهر معنى جاهد. و عن دینه متعلّق بجهادا إعمالا للأقرب، و یحتمل التعلّق بقاهر. و قوله: لا یثنیه. أی لا یصرفه عن دعوته و مقاهرته لأعدائه اجتماع الخلق على تکذیبه و التماسهم لإطفاء نوره، و لفظ النور مستعار لما جاء به من الکمالات الهادیه إلى سبیل اللّه. ثمّ لمّا نبّههم على تلک الأحوال الّتی مبدؤها تقوى اللّه تعالى أمرهم بالاعتصام بها بقوله: فاعتصموا بتقوى اللّه کما اعتصم نبیّکم بها فی إظهار دینه و مواظبته على ذلک، و لا تخافوا من عدوّ مع کثرتکم کما لا یخفّ هو مع وحدته فإنّ للتقوى حبلا وثیقا عروته من تمسّک به و اعتصم لم یضرّه عدوّ، و معقلا منیعا ذروته من لجأ إلیه لم یصل إلیه سوء. و لفظ الحبل و المعقل مستعاران للتقوى، و قد سبق بیان هذه الاستعارات. ثمّ أکّد ذلک الأمر بالأمر بمبادره الموت و غمراته و معنى مبادرته مسابقته إلى الاستعداد بالأعمال الصالحه کأنّهم یسابقون الموت و غمراته و ما یلحقهم من العذاب فیه و فیما بعده إلى الاستعداد بالأعمال الصالحه فیحصّلوا بها ملکات صالحه یکون مهادا له قبل حلوله بهم کیلا یقدحهم قدحا، و یجعلونها عدّه لأنفسهم قبل نزوله علیهم یلتقونه بها کیلا یؤثّر فی نفوسهم کثیر أثر کأنّه یسابقهم إلى أنفسهم لینقطعهم عن ذلک الاستعداد فیکون سببا لوقوع العذاب بهم. و قوله: فإنّ الغایه القیامه. تحذیر بذکر الغایه و تذکیر بأهوالها الموعوده: أى فإنّ غایتکم القیامه لا بدّ لکم منها.
و لمّا کانت تلک الغایه هی لازم الموت کما قال علیه السّلام: من مات فقد قامت قیامته. کان أمره بالاستعداد للموت أمر بالاستعداد لها، و لذلک أتى بعد الأمر بالاستعداد له بقوله: فإنّ. منبّها على وجوب ذلک الاستعداد بضمیر ذکر صغراه، و تقدیر الکبرى: و کلّ من کانت غایته القیامه فواجب أن یستعدّ لها. و قوله: و کفى بذلک. أى بذکر الموت و غمراته و القیامه و أحوالها، و خصّص من عقل لکونه المقصود بالخطاب الشرعیّ، و معتبرا: أى محلّا للاعتبار و العلم، و ظاهر کون الموت و نزوله بهذه البنیه التامّه الّتی احکم بنیانها و وضعت بالوضع العجیب و الترتیب اللطیف و هدمه لها واعظا بلیغا یزجر النفوس عن متابعه هواها و معتبرا تقف منه على أنّ وراء هذا الوجود وجود أعلى و أشرف منه لولاه لما عطّلت هذه البنیه المحکمه المتقنه و لکان ذلک بعد إحکامها و إتقانها سفها ینافی الحکمه کما أنّ الإنسان إذا بنى دارا و أحکمها و زیّنها بزینه الألوان المعجبه فلمّا تمّت و حصلت غایتها عمد إلیها فهد مها فإنّه یعدّ فی العرف سفیها عابثا. أمّا لو کان غرضه من ذلک الوصول إلى غایه یحصل بوجودها وقتا ما ثمّ یستغنى عنها جاز هدمها. فکذلک هذه البنیه لمّا کانت الغرض منها استکمال النفوس البشریّه بالکمالات الّتی یستفاد من جهتها و هى العلوم و مکارم الأخلاق ثمّ الانتقال منها إلى عالمها جاز لذلک خرابها و فسادها بعد حصول ذلک الغرض منها. و قوله: قبل بلوغ الغایه ما تعلمون. عطف على قوله: قبل نزوله. و قوله: من ضیق الأرماس. إلى قوله: الصفیح. تفصیل لما یعلمونه من أحوال الموت و أهواله، و ظاهر أنّ القبور ضیّقه بالقیاس إلى مواطن الدنیا، و أنّ للنفوس عند مفارقتها غمّا شدیدا و حزنا قویّا على ما فارقته و ممّا لاقته من الأهوال التی کانت غافله عنها، و أنّ لما أشرفت علیه من أحوال الآخره هولا و فزعا تطیر منه الألباب و فی المرفوع: و أعوذ بک من هول المطّلع.
و إنّما حسن إضافه روعات إلى الفزع و إن کان الروع هو الفزع باعتبار تعدّدها و هى من حیث هى آحاد مجموع أفراد مهیّه الفزع فجازت إضافتها إلیها. و اختلاف الأضلاع کنایه عن ضغطه القبر. إذ یحصل بسببها تداخل الأضلاع و اختلافها، و استکاک الأسماع ذهابها بشدّه الأصوات الهایله و یحتمل أن یرید ذهابها بالموت. و إنّما قال: خیفه الوعد، لأنّ الوعد قد یستعمل فی الشرّ و الخیر عند ذکرهما قال: و لا تعدانی، الخیر و الشرّ مقبل. فإذا أسقطوا ذکرهما قالوا فی الخیر: العده و الوعد، و فی الشرّ الإیعاد و الوعید. و هاهنا و إن سقط ذکرهما إلّا أنّ قوله: خیفه. تدلّ على وجود الشرّ فکان کالقرینه، و غمّ الضریح: الغمّ الحاصل و الوحشه المتوهّمه فیه. إذ کان للنفوس من الهیئات المتوهّمه کونها مقصوره مضیّقا علیها بعد فسح المنازل الدنیویّه و سایر ما ذکره علیه السّلام من الأهوال، و إنّما عدّد هذه الأهوال لکون الکلام فی معرض الوعظ و التخویف و کون هذه الامور مخوفه منفورا عنها طبعا. ثمّ أکّد ذلک التخویف بالتحذیر من اللّه و علّل ذلک التحذیر بکون الدنیا ماضیه على سنن: أى على طریقه واحده لا یختلف حکمها فکما کان من شأنها أن أهلکت القرون الماضیه و فعلت بهم و بآثارهم ما فعلت و صیّرتهم إلى الأحوال الّتى عدّدناها فکذلک فعلها بکم. و قوله: و أنتم و الساعه فی قرن. کنایه عن قربها القریب منهم حتّى کأنّهم معها فی قرن واحد. و قوله: و کأنّها قد جاءت بأشراطها. تشبیه لها فی سرعه مجیئها بالّتی جاءت و حضرت. و أکّد ذلک التشبیه بقد المفیده لتحقیق المجیء.
و علاماتها کظهور الدجّال، و دابّه الأرض، و ظهور المهدىّ و عیسى علیهما السّلام إلى غیر ذلک. و کذلک قوله: و أزفت بأفراطها و وقفت بکم على صراطها. إلى قوله: و سمینها غثّا: أى و تحقّق وقوفها بکم على صراطها و هو الصراط المعهود فیها. و قوله: و کأنّها قد أشرفت بزلازلها. أى أشبهت فیما یتوقّع منها من هذه الأحوال فی حقّکم حالها فی إیقاعها بکم و تحقیقها فیکم، و استعار لفظ الکلاکل لأهوالها الثقیله. و وصف الإناخه لهجومها بتلک الأهوال علیهم ملاحظا فی ذلک تشبّهها بالناقه. و إنّما حسن تعدید الکلاکل لها باعتبار تعدّد أهوالها الثقیله النازله بهم. و لمّا کانت الأفعال من قوله: و أناخت.إلى قوله: فصار سمینها غثّا. معطوفا بعضها على بعض دخلت فی حکم الشبه: أى و کانت الدنیا قد انصرفت بأهلها و کأنّکم قد أخرجتم من حصنها إلى آخر الأفعال.
و المشبّه الأوّل: هو الدنیا باعتبار حالها الحاضره و المشبّه به انصرافها بأهلها و زوالهم و وجه الشبه سرعه المضىّ. أى کأنّها من سرعه أحوالها الحاضره کالّتی وقع انصرافها. و کذلک الوجه فی باقى التشبیهات. و استعار لفظ الحضن لها ملاحظه لشبهها بالآم الّتی تحضن ولدها فینتزع من حضنها. و السمین و الغثّ تحتمل أن یرید بهما الحقیقه و یحتمل أن یکنّى به عن ما کثر من لذّاتها و خیراتها و تغیّر ذلک بالموت و زواله. و قوله: فی موقف. یتعلّق بصار و الموقف هو موقف القیامه. و ظاهر أنّ کلّ جدید للدنیا یومئذ رثّ. و کلّ سمین کان بها غثّ. و ضیق الموقف إمّا لکثره الخلق یومئذ و ازدحامهم أو لصعوبه الوقوف به و طولهم مع ما یتوقّع الظالمون لأنفسهم من إنزال المکروه بهم و الامور المشتبهه العظام أهوال الآخره. و اشتباهها کونها ملبسه یتحیّر فی وجه الخلاص منها. و الاعتبار یحکم بکونها عظیمه. و ظاهر کون النار شدیده الشرّ و قد نطق القرآن الکریم بأکثر ممّا وصفها علیه السّلام به ههینا من علوّ أصواتها، و سطوح لهبها، و تغیّظ زفیرها کقوله تعالى إِذا أُلْقُوا فِیها سَمِعُوا لَها شَهِیقاً وَ هِیَ تَفُورُ تَکادُ تَمَیَّزُ مِنَ الْغَیْظِ«» و قوله سَمِعُوا لَها تَغَیُّظاً وَ زَفِیراً«» و لفظ التغیّظ مستعار للنار باعتبار حرکتها بشدّه و عنف کالغضبان أو باعتبار استلزام حرکتها ظاهر للأذى و الشرّ. و قوله: عم قرارها. أسند العمى إلى قرارها مجازا باعتبار أنّه لا یهتدى فیه لظلمته أو لأنّ عمقها لا یوقف علیه لبعده، و لمّا استعار لفظ الحمى رشّح بذکر القدور، و ظاهر فظاعه تلک الامور و شدّتها.
و کلّ تلک الامور عدّدها فی معرض التخویف لکونها مخوفه تنفیرا لما یلزم عنه من ترک التقوى و اتّباع الهوى ثمّ ساق الآیه اقتباسا و نسق بعدها أحوال المتقیّن فی الآخره اللازمه عن تقویهم و هى أمنهم من العذاب و انقطاع العقاب عنهم و إبعادهم عن النار و اطمینان الدار الّتی هی الجنّه بهم و رضاهم بها مثوى و قرارا ترغیبا فی التقوى بذکر لوازمها. ثمّ أردف ذلک بصفات المتقیّن أیضا عمّا عساه لا یعرفها فقال: هم الّذین کانت أعمالهم فی الدنیا زاکیه: أى طاهره من الریاء و الشرک الخفیّ، و أعینهم باکیه: أى من خشیه اللّه و خوف عقابه و حرمانه، و کان لیلهم فی دنیاهم نهارا فی کونه محلّ حرکاتهم فی عباده ربّهم و تخشّعهم له و استغفارهم إیّاه فأشبه النهار الّذی هو محلّ حرکات الخلق. و لهذا الشبه استعار لفظ النهار للّیل و کذلک استعار لفظ اللیل للنهار، و وجه الاستعاره کون النهار محلا لتوحّشهم من الخلق و انقطاعهم عنه و اعتزالهم إیّاهم کاللیل الّذی هو محلّ انقطاع الناس بعضهم عن بعض و افتراقهم، و فی نسخه الرضىّ- رحمه اللّه- بخطّه: کأنّ. للتشبیه رفع نهارا فی القرینه الاولى، و رفع لیلا فی الثانیه. و وجه التشبیه هو ما ذکرناه. و کأنّه یقول: فلمّا استعدّوا بتلک الصفات للحصول على الفضائل و الکمالات و استوجبوا رضى اللّه تعالى عنهم جعل اللّه لهم الجنّه مرجعا و مآبا أعدّ فیها من جزاء النعیم ثوابا و کانوا أحقّ بها و أهلها. و هو اقتباس. و قوله: فی ملک. إلى قوله: قائم. أى مقیم، تفسیر للجزاء. ثمّ أکّد الأمر بالتقوى برعایتها فی عباره اخرى نبّه فیها على بعض لوازمها، و ذلک أنّ فوز الفایزین إنّما یکون بالتقوى و لزوم الأعمال الصالحات، و المبطلون هم الّذین لا حقّ معهم فهم الخارجون عن التقوى الحقّه.
و إنّما یلحقهم الخسران بالخروج عنها. و قوله: بادروا آجالکم بأعمالکم. کقوله: بادروا الموت: أى و سابقوا آجالکم بالأعمال الصالحات إلى الاستعداد بها قبل أن یسبقکم إلى أنفسکم فیقطعکم عن الاستعداد بتحصیل الأزواد لیوم المعاد، و نبّههم بقوله: فإنّکم. إلى قوله: قدّمتم. على ارتهانهم بذنوبهم السالفه و الجزاء علیها فی القیامه لیسارعوا إلى فکاکها بالأعمال الصالحه و السلامه من الجزاء علیها، و لفظ المرتهن مستعار للنفوس الآثمه باعتبار تقیّدها بالسیّئه و إطلاقها بالحسنه کتقیّد الرهن المتعارف بما علیه من المال و افتکاکه بأدائه و إطلاق لفظ الجزاء على العقاب مجاز إطلاقا لاسم أحد الضدّین على الآخر. و قوله: و کأن قد نزل. هى المخفّفه من کأنّ للتشبیه، و اسمها ضمیر الشأن، و المقصود تشبیه حالهم و شأنهم الحاضر بحال نزول المخوف و هو الموت بهم و تحقّقه فی حقّهم الّذی یلزمه و یترتّب علیه عدم نیلهم للرجعه و إقالتهم للعثره. ثمّ عقّب بالدعاء لنفسه و لهم باستعمال اللّه إیّاهم فی طاعته و طاعه رسوله، و ذلک الاستعمال بتوفیقهم لأسباب الطاعه و إعدادهم لها و إفاضه صوره الطاعه على قواهم العقلیّه و البدنیّه و جوارحهم الّتی بسببها تکون السعاده القصوى، ثمّ بما یلزم ذلک الاستعمال من العفو عن جرائمهم. و إنّما نسبها إلى فضل رحمته لکونه مبدءا للعفو و المسامحه من جهه ما هو رحیم و ذلک من الاعتبارات الّتی تحدثها عقولنا الضعیفه و تجعلها من صفات کماله کما سبق بیانه فی الخطبه الاولى. ثمّ عقّب وعظهم و تحذیرهم و الدعاء لهم بأمرهم أن یلزموا الأرض و یصبروا على ما یلحقهم من بلاء أعدائهم و مخالفیهم فی العقیده کالخوارج و البغاه على الإمام بعده من ولده و الخطاب خاصّ بمن یکون بعده بدلاله سیاق الکلام و لزوم الأرض کنایه عن الصبر فی مواطنهم و قعودهم عن النهوض لجهاد الظالمین فی زمن عدم قیام الإمام الحقّ بعده علیه السّلام. و قوله: و لا تحرّکوا بأیدیکم و سیوفکم فی هوى ألسنتکم. نهى عن الجهاد من غیر أمر أحد من الأئمّه من ولده بعده، و ذلک عند عدم قیام من یقوم منهم لطلب الأمر فإنّه لا یجوز إجراء هذه الحرکات إلّا بإشاره من إمام الوقت. و هوى ألسنتهم میلها إلى السبّ و الشتم موافقه لهوى النفوس. و الباء فی بأیدیکم زائده. و یحتمل أن یکون مفعول تحرّکوا محذوفا تقدیره شیئا: اى و لا تتحرّکوا لهوى ألسنتکم و لا تستعجلوا بما لم یعجّله اللّه لکم من ذلک الجهاد. و قوله: فإنّه من مات منکم. إلى قوله: لسیفه. بیان لحکمهم فی زمن عدم قیام الإمام الحقّ بعده لطلب الأمر و تنبیه لهم على ثمره الصبر، و هو أنّ من مات منهم على معرفه حقّ ربّه و حقّ رسوله و أهل بیته و الاعتراف بکونهم أئمّه الحقّ و الاقتداء بهم لحق بدرجه الشهداء و وقع أجره على اللّه بذلک و استحقّ الثواب منه على ما أتى به من الأعمال و الصبر على المکاره من الأعداء، و قامت نیّته أنّه من أنصار الإمام لو قام لطلب الأمر و أنّه معینه مقام تجرّده بسیفه معه فی استحقاق الأجر. وقوله: فإنّ لکلّ شیء مدّه و أجلا. تنبیه على أنّ لکلّ من دوله العدوّ الباطله و دوله الحقّ العادله مدّه تنقضى بانقضائها و أجل تنتهى به فإذا حضرت مدّه دوله عدوّ فلیس ذلک وقت قیامکم فی دفعها فلا تستعجلوا به. هذا هو المتبادر إلى الفهم من هذا الکلام. و الخطبه من فصیح خطبه علیه السّلام و قد أخذ ابن نبانه الخطیب کثیرا من ألفاظها فی خطبته کقوله: شدید کلبها عال لجبها ساطعا لهبها متغیّظ زفیرها متأجّج سعیرها. إلى قوله: فظیعه امورها، و کقوله: هول المطّلع، و روعات الفزع. إلى قوله: وردم الصفیح.
فانّه أخذ کلّ هذه الألفاظ و رصّع بها کلامه. و باللّه التوفیق و العصمه.
شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۴ ، صفحهى ۲۰۲
بازدیدها: ۵