خطبه ۲۳۲شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
أَحْمَدُهُ شُكْراً لِإِنْعَامِهِ- وَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى وَظَائِفِ حُقُوقِهِ- عَزِيزَ الْجُنْدِ عَظِيمَ الْمَجْدِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- دَعَا إِلَى طَاعَتِهِ وَ قَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَلَى‏ دِينِهِ- لَا يَثْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعٌ عَلَى تَكْذِيبِهِ- وَ الْتِمَاسٌ لِإِطْفَاءِ نُورِهِ- فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّ لَهَا حَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ- وَ مَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ- وَ بَادِرُوا الْمَوْتَ وَ غَمَرَاتِهِ وَ امْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ- وَ أَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ فَإِنَّ الْغَايَةَ الْقِيَامَةُ- وَ كَفَى بِذَلِكَ وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ وَ مُعْتَبَراً لِمَنْ جَهِلَ- وَ قَبْلَ بُلُوغِ الْغَايَةِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِيقِ الْأَرْمَاسِ- وَ شِدَّةِ الْإِبْلَاسِ وَ هَوْلِ الْمُطَّلَعِ- وَ رَوْعَاتِ الْفَزَعِ وَ اخْتِلَافِ الْأَضْلَاعِ- وَ اسْتِكَاكِ الْأَسْمَاعِ وَ ظُلْمَةِ اللَّحْدِ- وَ خِيفَةِ الْوَعْدِ وَ غَمِّ الضَّرِيحِ وَ رَدْمِ الصَّفِيحِ- فَاللَّهَ اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ- فَإِنَّ الدُّنْيَا مَاضِيَةٌ بِكُمْ عَلَى سَنَنٍ- وَ أَنْتُمْ وَ السَّاعَةُ فِي قَرَنٍ- وَ كَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا وَ أَزِفَتْ بِأَفْرَاطِهَا- وَ وَقَفَتْ بِكُمْ عَلَى صِرَاطِهَا وَ كَأَنَّهَا قَدْ أَشْرَفَتْ بِزَلَازِلِهَا- وَ أَنَاخَتْ بِكَلَاكِلِهَا وَ انْصَرَمَتِ الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا- وَ أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا- فَكَانَتْ كَيَوْمٍ مَضَى أَوْ شَهْرٍ انْقَضَى- وَ صَارَ جَدِيدُهَا رَثّاً وَ سَمِينُهَا غَثّاً- فِي مَوْقِفٍ ضَنْكِ الْمَقَامِ وَ أُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ عِظَامٍ- وَ نَارٍ شَدِيدٍ كَلَبُهَا عَالٍ لَجَبُهَا- سَاطِعٍ لَهَبُهَا مُتَغَيِّظٍ زَفِيرُهَا- مُتَأَجِّجٍ سَعِيرُهَا بَعِيدٍ خُمُودُهَا- ذَاكٍ وُقُودُهَا مَخُوفٍ وَعِيدُهَا- عَمٍ قَرَارُهَا مُظْلِمَةٍ أَقْطَارُهَا- حَامِيَةٍ قُدُورُهَا فَظِيعَةٍ أُمُورُهَا- وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً- قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ وَ انْقَطَعَ الْعِتَابُ- وَ زُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ وَ اطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ- وَ رَضُوا الْمَثْوَى وَ الْقَرَارَ- الَّذِينَ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا زَاكِيَةً- وَ أَعْيُنُهُمْ بَاكِيَةً- وَ كَانَ لَيْلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ نَهَاراً تَخَشُّعاً وَ اسْتِغْفَارًا- وَ كَانَ نَهَارُهُمْ لَيْلًا تَوَحُّشاً وَ انْقِطَاعاً- فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ مَآباً وَ الْجَزَاءَ ثَوَاباً- وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها- فِي مُلْكٍ دَائِمٍ وَ نَعِيمٍ قَائِمٍ- فَارْعَوْا عِبَادَ اللَّهِ مَا بِرِعَايَتِهِ يَفُوزُ فَائِزُكُمْ- وَ بِإِضَاعَتِهِ يَخْسَرُ مُبْطِلُكُمْ- وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ- فَإِنَّكُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ- وَ مَدِينُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ- وَ كَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِكُمُ الْمَخُوفُ- فَلَا رَجْعَةً تُنَالُونَ وَ لَا عَثْرَةً تُقَالُونَ- اسْتَعْمَلَنَا اللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ بِطَاعَتِهِ وَ طَاعَةِ رَسُولِهِ- وَ عَفَا عَنَّا وَ عَنْكُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ- الْزَمُوا الْأَرْضَ وَ اصْبِرُوا عَلَى الْبَلَاءِ- وَ لَا تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَ سُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ- وَ لَا تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اللَّهُ لَكُمْ- فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ- وَ هُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ- وَ حَقِّ رَسُولِهِ وَ أَهْلِ بَيْتِهِ مَاتَ شَهِيداً- وَ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ- وَ اسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ- وَ قَامَتِ النِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلَاتِهِ لِسَيْفِهِ- فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُدَّةً وَ أَجَلًا

اللغة

أقول:

الوظيفة: ما يقدّر للإنسان في كلّ يوم من طعام أو رزق أو عمل.

 و يثنيه: يصرفه.

و المعقل: الملجأ.

و ذروته: أعلاه.

و مهّدله: أي اتّخذ له مهادا و هو الفراش.

و الأرماس: جمع رمس و هو القبر.

و الإبلاس: الانكسار و الحزن.

و المطّلع: الاطّلاع من إشراف إلى أسفل.

و هوله: خوفه و فزعه.

و الروعة: الفزعة. و استكاك الأسماع: صممها.

و الصفيح: الحجارة العراض.

و ردمها: سدّ القبر بها.

و السنن: الطريقة.

و القرن: الحبل يقرن به البعيران.

و أشراطها: علاماتها.

و أزفت: دنت.

و أفراطها: مقدّماتها.

و منه أفراط الصبح أوائل تباشيره.

و الرثّ: الخلق.

و الغثّ: المهزول.

و الضنك: الضيق.

و الكلب: الشرّ.

و اللجب: الصوت.

و الساطع: المرتفع.

و سعيرها: لهبها.

و تأجّجه: اشتداد حرّه و وقودها بضمّ الواو: ايقادها و هو الحدث.

و ذكاه- مقصورا- : اشتعاله.

و فضاعة الأمر: شدّته و مجاوزته للمقدار.

و الزمر: الجماعات، واحدتها زمرة.

و زحزحوا: بعدوا.

و اطمأنّت: سكنت.

و المثوى: المقام.

و المآب: المرجع.

و المدينون: مجزيّون.

و إصلاته بسيفه. تجرّده به.

المعنى
و اعلم أنّه عليه السّلام أنشأ حمد اللّه على نعمائه. و نصب شكرا على المصدر عن قوله: أحمد. من غير لفظه. إذ المراد بالحمد هنا الشكر بقرينة ذكر الإنعام. ثمّ أردفه بطلب المعونة على ما وظّف عليه من حقوقه: واجباتها و نوافلها كالصلوات و العبادات الّتى ارتضاها منهم شكرا لنعمائه، و إذا اعتبرت كانت نعما تستحقّ الشكر لما يستلزمه المواظبة عليها من السعادة الحقيقيّة الباقية كما سبق بيانه. و قوله عزيز الجند. نصب على الحال و الإضافة غير محضة و العامل أستعينه، و كذلك قوله: عظيم المجد: أى أستعينه على أداء حقوقه حال ما هو بذينك الاعتبارين فإنّه باعتبار ما هو عزيز الجند عظيم المجد يكون مالك الملك قديرا على ما يشاء فكان مبدأ استعانة به على أداء وظايف حقوقه. ثمّ أردفه بشهادته برسالة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذكر أحواله الّتي كانت مبادئ لظهور الدين الحقّ ليقتدى السامعون به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تلك الأحوال.
و هي دعوته إلى الدين و مقاهرته لأعدائه و هم الكفّار على أصنافهم، و نصب جهاداعلى أنّه مصدر سدّ مسدّ الحال، أو نصب المصادر عن قوله: قاهر. من غير لفظه. إذ في قاهر معنى جاهد. و عن دينه متعلّق بجهادا إعمالا للأقرب، و يحتمل التعلّق بقاهر. و قوله: لا يثنيه. أي لا يصرفه عن دعوته و مقاهرته لأعدائه اجتماع الخلق على تكذيبه و التماسهم لإطفاء نوره، و لفظ النور مستعار لما جاء به من الكمالات الهادية إلى سبيل اللّه. ثمّ لمّا نبّههم على تلك الأحوال الّتي مبدؤها تقوى اللّه تعالى أمرهم بالاعتصام بها بقوله: فاعتصموا بتقوى اللّه كما اعتصم نبيّكم بها في إظهار دينه و مواظبته على ذلك، و لا تخافوا من عدوّ مع كثرتكم كما لا يخفّ هو مع وحدته فإنّ للتقوى حبلا وثيقا عروته من تمسّك به و اعتصم لم يضرّه عدوّ، و معقلا منيعا ذروته من لجأ إليه لم يصل إليه سوء. و لفظ الحبل و المعقل مستعاران للتقوى، و قد سبق بيان هذه الاستعارات. ثمّ أكّد ذلك الأمر بالأمر بمبادرة الموت و غمراته و معنى مبادرته مسابقته إلى الاستعداد بالأعمال الصالحة كأنّهم يسابقون الموت و غمراته و ما يلحقهم من العذاب فيه و فيما بعده إلى الاستعداد بالأعمال الصالحة فيحصّلوا بها ملكات صالحة يكون مهادا له قبل حلوله بهم كيلا يقدحهم قدحا، و يجعلونها عدّة لأنفسهم قبل نزوله عليهم يلتقونه بها كيلا يؤثّر في نفوسهم كثير أثر كأنّه يسابقهم إلى أنفسهم لينقطعهم عن ذلك الاستعداد فيكون سببا لوقوع العذاب بهم. و قوله: فإنّ الغاية القيامة. تحذير بذكر الغاية و تذكير بأهوالها الموعودة: أى فإنّ غايتكم القيامة لا بدّ لكم منها.
و لمّا كانت تلك الغاية هي لازم الموت كما قال عليه السّلام: من مات فقد قامت قيامته. كان أمره بالاستعداد للموت أمر بالاستعداد لها، و لذلك أتى بعد الأمر بالاستعداد له بقوله: فإنّ. منبّها على وجوب ذلك الاستعداد بضمير ذكر صغراه، و تقدير الكبرى: و كلّ من كانت غايته القيامة فواجب أن يستعدّ لها. و قوله: و كفى بذلك. أى بذكر الموت و غمراته و القيامة و أحوالها، و خصّص من عقل لكونه‏ المقصود بالخطاب الشرعيّ، و معتبرا: أى محلّا للاعتبار و العلم، و ظاهر كون الموت و نزوله بهذه البنية التامّة الّتي احكم بنيانها و وضعت بالوضع العجيب و الترتيب اللطيف و هدمه لها واعظا بليغا يزجر النفوس عن متابعة هواها و معتبرا تقف منه على أنّ وراء هذا الوجود وجود أعلى و أشرف منه لولاه لما عطّلت هذه البنية المحكمة المتقنة و لكان ذلك بعد إحكامها و إتقانها سفها ينافي الحكمة كما أنّ الإنسان إذا بنى دارا و أحكمها و زيّنها بزينة الألوان المعجبة فلمّا تمّت و حصلت غايتها عمد إليها فهد مها فإنّه يعدّ في العرف سفيها عابثا. أمّا لو كان غرضه من ذلك الوصول إلى غاية يحصل بوجودها وقتا ما ثمّ يستغنى عنها جاز هدمها. فكذلك هذه البنية لمّا كانت الغرض منها استكمال النفوس البشريّة بالكمالات الّتي يستفاد من جهتها و هى العلوم و مكارم الأخلاق ثمّ الانتقال منها إلى عالمها جاز لذلك خرابها و فسادها بعد حصول ذلك الغرض منها. و قوله: قبل بلوغ الغاية ما تعلمون. عطف على قوله: قبل نزوله. و قوله: من ضيق الأرماس. إلى قوله: الصفيح. تفصيل لما يعلمونه من أحوال الموت و أهواله، و ظاهر أنّ القبور ضيّقة بالقياس إلى مواطن الدنيا، و أنّ للنفوس عند مفارقتها غمّا شديدا و حزنا قويّا على ما فارقته و ممّا لاقته من الأهوال التي كانت غافلة عنها، و أنّ لما أشرفت عليه من أحوال الآخرة هولا و فزعا تطير منه الألباب و في المرفوع: و أعوذ بك من هول المطّلع.
و إنّما حسن إضافة روعات إلى الفزع و إن كان الروع هو الفزع باعتبار تعدّدها و هى من حيث هى آحاد مجموع أفراد مهيّة الفزع فجازت إضافتها إليها. و اختلاف الأضلاع كناية عن ضغطة القبر. إذ يحصل بسببها تداخل الأضلاع و اختلافها، و استكاك الأسماع ذهابها بشدّة الأصوات الهايلة و يحتمل أن يريد ذهابها بالموت. و إنّما قال: خيفة الوعد، لأنّ الوعد قد يستعمل في الشرّ و الخير عند ذكرهما قال: و لا تعداني، الخير و الشرّ مقبل. فإذا أسقطوا ذكرهما قالوا في الخير: العدة و الوعد، و في الشرّ الإيعاد و الوعيد. و هاهنا و إن سقط ذكرهما إلّا أنّ قوله: خيفة. تدلّ على وجود الشرّ فكان كالقرينة، و غمّ الضريح: الغمّ الحاصل و الوحشة المتوهّمة فيه. إذ كان للنفوس من الهيئات المتوهّمة كونها مقصورة مضيّقا عليها بعد فسح المنازل الدنيويّة و ساير ما ذكره عليه السّلام من الأهوال، و إنّما عدّد هذه الأهوال لكون الكلام في معرض الوعظ و التخويف و كون هذه الامور مخوفة منفورا عنها طبعا. ثمّ أكّد ذلك التخويف بالتحذير من اللّه و علّل ذلك التحذير بكون الدنيا ماضية على سنن: أى على طريقة واحدة لا يختلف حكمها فكما كان من شأنها أن أهلكت القرون الماضية و فعلت بهم و بآثارهم ما فعلت و صيّرتهم إلى الأحوال الّتى عدّدناها فكذلك فعلها بكم. و قوله: و أنتم و الساعة في قرن. كناية عن قربها القريب منهم حتّى كأنّهم معها في قرن واحد. و قوله: و كأنّها قد جاءت بأشراطها. تشبيه لها في سرعة مجيئها بالّتي جاءت و حضرت. و أكّد ذلك التشبيه بقد المفيدة لتحقيق المجي‏ء.
و علاماتها كظهور الدجّال، و دابّة الأرض، و ظهور المهدىّ و عيسى عليهما السّلام إلى غير ذلك. و كذلك قوله: و أزفت بأفراطها و وقفت بكم على صراطها. إلى قوله: و سمينها غثّا: أى و تحقّق وقوفها بكم على صراطها و هو الصراط المعهود فيها. و قوله: و كأنّها قد أشرفت بزلازلها. أى أشبهت فيما يتوقّع منها من هذه الأحوال في حقّكم حالها في إيقاعها بكم و تحقيقها فيكم، و استعار لفظ الكلاكل لأهوالها الثقيلة. و وصف الإناخة لهجومها بتلك الأهوال عليهم ملاحظا في ذلك تشبّهها بالناقة. و إنّما حسن تعديد الكلاكل لها باعتبار تعدّد أهوالها الثقيلة النازلة بهم. و لمّا كانت الأفعال من قوله: و أناخت.إلى قوله: فصار سمينها غثّا. معطوفا بعضها على بعض دخلت في حكم الشبه: أى و كانت الدنيا قد انصرفت بأهلها و كأنّكم قد أخرجتم من حصنها إلى آخر الأفعال.

و المشبّه الأوّل: هو الدنيا باعتبار حالها الحاضرة و المشبّه به انصرافها بأهلها و زوالهم و وجه الشبه سرعة المضىّ. أى كأنّها من سرعة أحوالها الحاضرة كالّتي وقع انصرافها. و كذلك الوجه في باقى التشبيهات. و استعار لفظ الحضن لها ملاحظة لشبهها بالآم الّتي تحضن ولدها فينتزع من حضنها. و السمين و الغثّ تحتمل أن يريد بهما الحقيقة و يحتمل أن يكنّى به عن ما كثر من لذّاتها و خيراتها و تغيّر ذلك بالموت و زواله. و قوله: في موقف. يتعلّق بصار و الموقف هو موقف القيامة. و ظاهر أنّ كلّ جديد للدنيا يومئذ رثّ. و كلّ سمين كان بها غثّ. و ضيق الموقف إمّا لكثرة الخلق يومئذ و ازدحامهم أو لصعوبة الوقوف به و طولهم مع ما يتوقّع الظالمون لأنفسهم من إنزال المكروه بهم و الامور المشتبهة العظام أهوال الآخرة. و اشتباهها كونها ملبسة يتحيّر في وجه الخلاص منها. و الاعتبار يحكم بكونها عظيمة. و ظاهر كون النار شديدة الشرّ و قد نطق القرآن الكريم بأكثر ممّا وصفها عليه السّلام به ههينا من علوّ أصواتها، و سطوح لهبها، و تغيّظ زفيرها كقوله تعالى إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ«» و قوله سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً«» و لفظ التغيّظ مستعار للنار باعتبار حركتها بشدّة و عنف كالغضبان أو باعتبار استلزام حركتها ظاهر للأذى و الشرّ. و قوله: عم قرارها. أسند العمى إلى قرارها مجازا باعتبار أنّه لا يهتدى فيه لظلمته أو لأنّ عمقها لا يوقف عليه لبعده، و لمّا استعار لفظ الحمى رشّح بذكر القدور، و ظاهر فظاعة تلك الامور و شدّتها.
و كلّ تلك الامور عدّدها في معرض التخويف لكونها مخوفة تنفيرا لما يلزم عنه من ترك التقوى و اتّباع الهوى ثمّ ساق الآية اقتباسا و نسق بعدها أحوال المتقيّن في الآخرة اللازمة عن تقويهم و هى أمنهم من العذاب و انقطاع‏ العقاب عنهم و إبعادهم عن النار و اطمينان الدار الّتي هي الجنّة بهم و رضاهم بها مثوى و قرارا ترغيبا في التقوى بذكر لوازمها. ثمّ أردف ذلك بصفات المتقيّن أيضا عمّا عساه لا يعرفها فقال: هم الّذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية: أى طاهرة من الرياء و الشرك الخفيّ، و أعينهم باكية: أى من خشية اللّه و خوف عقابه و حرمانه، و كان ليلهم في دنياهم نهارا في كونه محلّ حركاتهم في عبادة ربّهم و تخشّعهم له و استغفارهم إيّاه فأشبه النهار الّذي هو محلّ حركات الخلق. و لهذا الشبه استعار لفظ النهار للّيل و كذلك استعار لفظ الليل للنهار، و وجه الاستعارة كون النهار محلا لتوحّشهم من الخلق و انقطاعهم عنه و اعتزالهم إيّاهم كالليل الّذي هو محلّ انقطاع الناس بعضهم عن بعض و افتراقهم، و في نسخه الرضىّ- رحمه اللّه- بخطّه: كأنّ. للتشبيه رفع نهارا في القرينة الاولى، و رفع ليلا في الثانية. و وجه التشبيه هو ما ذكرناه. و كأنّه يقول: فلمّا استعدّوا بتلك الصفات للحصول على الفضائل و الكمالات و استوجبوا رضى اللّه تعالى عنهم جعل اللّه لهم الجنّة مرجعا و مآبا أعدّ فيها من جزاء النعيم ثوابا و كانوا أحقّ بها و أهلها. و هو اقتباس. و قوله: في ملك. إلى قوله: قائم. أى مقيم، تفسير للجزاء. ثمّ أكّد الأمر بالتقوى برعايتها في عبارة اخرى نبّه فيها على بعض لوازمها، و ذلك أنّ فوز الفايزين إنّما يكون بالتقوى و لزوم الأعمال الصالحات، و المبطلون هم الّذين لا حقّ معهم فهم الخارجون عن التقوى الحقّة.
و إنّما يلحقهم الخسران بالخروج عنها. و قوله: بادروا آجالكم بأعمالكم. كقوله: بادروا الموت: أى و سابقوا آجالكم بالأعمال الصالحات إلى الاستعداد بها قبل أن يسبقكم إلى أنفسكم فيقطعكم عن الاستعداد بتحصيل الأزواد ليوم المعاد، و نبّههم بقوله: فإنّكم. إلى قوله: قدّمتم. على ارتهانهم بذنوبهم السالفة و الجزاء عليها في القيامة ليسارعوا إلى فكاكها بالأعمال الصالحة و السلامة من الجزاء عليها، و لفظ المرتهن مستعار للنفوس الآثمة باعتبار تقيّدها بالسيّئة و إطلاقها بالحسنة كتقيّد الرهن المتعارف بما عليه من المال و افتكاكه بأدائه و إطلاق لفظ الجزاء على العقاب مجاز إطلاقا لاسم أحد الضدّين على الآخر. و قوله: و كأن قد نزل. هى المخفّفة من كأنّ للتشبيه، و اسمها ضمير الشأن، و المقصود تشبيه حالهم و شأنهم الحاضر بحال نزول المخوف و هو الموت بهم و تحقّقه في حقّهم الّذي يلزمه و يترتّب عليه عدم نيلهم للرجعة و إقالتهم للعثرة. ثمّ عقّب بالدعاء لنفسه و لهم باستعمال اللّه إيّاهم في طاعته و طاعة رسوله، و ذلك الاستعمال بتوفيقهم لأسباب الطاعة و إعدادهم لها و إفاضة صورة الطاعة على قواهم العقليّة و البدنيّة و جوارحهم الّتي بسببها تكون السعادة القصوى، ثمّ بما يلزم ذلك الاستعمال من العفو عن جرائمهم. و إنّما نسبها إلى فضل رحمته لكونه مبدءا للعفو و المسامحة من جهة ما هو رحيم و ذلك من الاعتبارات الّتي تحدثها عقولنا الضعيفة و تجعلها من صفات كماله كما سبق بيانه في الخطبة الاولى. ثمّ عقّب وعظهم و تحذيرهم و الدعاء لهم بأمرهم أن يلزموا الأرض و يصبروا على ما يلحقهم من بلاء أعدائهم و مخالفيهم في العقيدة كالخوارج و البغاة على الإمام بعده من ولده و الخطاب خاصّ بمن يكون بعده بدلالة سياق الكلام و لزوم الأرض كناية عن الصبر في مواطنهم و قعودهم عن النهوض لجهاد الظالمين في زمن عدم قيام الإمام الحقّ بعده عليه السّلام. و قوله: و لا تحرّكوا بأيديكم و سيوفكم في هوى ألسنتكم. نهى عن الجهاد من غير أمر أحد من الأئمّة من ولده بعده، و ذلك عند عدم قيام من يقوم منهم لطلب الأمر فإنّه لا يجوز إجراء هذه الحركات إلّا بإشارة من إمام الوقت. و هوى ألسنتهم ميلها إلى السبّ و الشتم موافقة لهوى النفوس. و الباء في بأيديكم زائدة. و يحتمل أن يكون مفعول تحرّكوا محذوفا تقديره شيئا: اى و لا تتحرّكوا لهوى ألسنتكم و لا تستعجلوا بما لم يعجّله اللّه لكم من ذلك الجهاد. و قوله: فإنّه من مات منكم. إلى قوله: لسيفه. بيان لحكمهم في زمن عدم قيام الإمام الحقّ بعده لطلب الأمر و تنبيه لهم‏ على ثمرة الصبر، و هو أنّ من مات منهم على معرفة حقّ ربّه و حقّ رسوله و أهل بيته و الاعتراف بكونهم أئمّة الحقّ و الاقتداء بهم لحق بدرجة الشهداء و وقع أجره على اللّه بذلك و استحقّ الثواب منه على ما أتى به من الأعمال و الصبر على المكاره من الأعداء، و قامت نيّته أنّه من أنصار الإمام لو قام لطلب الأمر و أنّه معينه مقام تجرّده بسيفه معه في استحقاق الأجر. وقوله: فإنّ لكلّ شي‏ء مدّة و أجلا. تنبيه على أنّ لكلّ من دولة العدوّ الباطلة و دولة الحقّ العادلة مدّة تنقضى بانقضائها و أجل تنتهى به فإذا حضرت مدّة دولة عدوّ فليس ذلك وقت قيامكم في دفعها فلا تستعجلوا به. هذا هو المتبادر إلى الفهم من هذا الكلام. و الخطبة من فصيح خطبه عليه السّلام و قد أخذ ابن نبانة الخطيب كثيرا من ألفاظها في خطبته كقوله: شديد كلبها عال لجبها ساطعا لهبها متغيّظ زفيرها متأجّج سعيرها. إلى قوله: فظيعة امورها، و كقوله: هول المطّلع، و روعات الفزع. إلى قوله: وردم الصفيح.
فانّه أخذ كلّ هذه الألفاظ و رصّع بها كلامه. و باللّه التوفيق و العصمة.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 202

خطبه 230 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
أُوصِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِتَقْوَى اللَّهِ- وَ كَثْرَةِ حَمْدِهِ عَلَى آلَائِهِ إِلَيْكُمْ- وَ نَعْمَائِهِ عَلَيْكُمْ وَ بَلَائِهِ لَدَيْكُمْ- فَكَمْ خَصَّكُمْ بِنِعْمَةٍ وَ تَدَارَكَكُمْ بِرَحْمَةٍ- أَعْوَرْتُمْ لَهُ فَسَتَرَكُمْ وَ تَعَرَّضْتُمْ لِأَخْذِهِ فَأَمْهَلَكُمْ- وَ أُوصِيكُمْ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَ إِقْلَالِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ- وَ كَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ- وَ طَمَعُكُمْ فِيمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ- فَكَفَى وَاعِظاً بِمَوْتَى عَايَنْتُمُوهُمْ- حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ غَيْرَ رَاكِبينَ- وَ أُنْزِلُوا فِيهَا غَيْرَ نَازِلِينَ- فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلدُّنْيَا عُمَّاراً- وَ كَأَنَّ الْآخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً- أَوْحَشُوا مَا كَانُوا يُوطِنُونَ- وَ أَوْطَنُوا مَا كَانُوا يُوحِشُونَ- وَ اشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا- وَ أَضَاعُوا مَا إِلَيْهِ انْتَقَلُوا- لَا عَنْ قَبِيحٍ يَسْتَطِيعُونَ انْتِقَالًا- وَ لَا فِي حَسَنٍ يَسْتَطِيعُونَ ازْدِيَاداً- أَنِسُوا بِالدُّنْيَا فَغَرَّتْهُمْ-وَ وَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ فَسَابِقُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى مَنَازِلِكُمُ- الَّتِي أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا- وَ الَّتِي رَغِبْتُمْ فِيهَا وَ دُعِيتُمْ إِلَيْهَا- وَ اسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ- وَ الْمُجَانَبَةِ لِمَعْصِيَتِهِ- فَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ- مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ- وَ أَسْرَعَ الْأَيَّامَ فِي الشَّهْرِ- وَ أَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ- وَ أَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ

اللغة

أقول:

أعورتم: أبديتم عوراتكم.

و العورة: السوءة و كلّ ما يستحيى منه.

و الفصل يشتمل على الوصيّة بامور:
أوّلها: تقوى اللّه تعالى
فإنّها العمدة الكبرى فيما يوصى به، ثمّ بكثرة حمده تعالى على آلائه إليهم و نعمائه عليهم و بلائه لديهم. و قد علمت معنى بلائه و أنّه يكون بالخير و الشرّ كما قال تعالى وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً«» و أردف ذلك بتقرير تخصيصهم بنعمته تعالى عليهم و تذكيرهم برحمته. و الرحمة كما يراد بها صفة اللّه تعالى كذلك يراد بها آثاره الحسنة الخيريّة كما هو مراده هنا في حقّ عباده. و أتى بلفظ كم للتكثير. ثمّ أردفه بذكر ضروب الرحمة و النعمة فمنها ستره عليهم حيث مجاهرتهم له بالمعصية الّتي ينبغي أن يستحيوا منها و موافقتهم لها بمرأى منه و مسمع. و منها إمهالهم أن يبادرهم بالنقمة و يعاجلهم بالعقوبة حيث تعرّضوا لأخذه بارتكاب مناهيه و مخالفة أوامره.
الثاني: ممّا أوصاهم به ذكر الموت و إقلال الغفلة عنه.
و ذلك لما يستلزم ذكره من الانزجار عن المعاصى، و ذكر المعاد إلى اللّه سبحانه و وعده و وعيده، و الرغبة عن الدنيا و تنقيص لذّاتها كما قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أكثروا من ذكر هادم اللذّات. و إنّما استلزم ذكره ذلك لكونه ممّا يساعد العقل فيه الوهم على‏ ضرورة وقوعه مع مساعدته على ما فيه من المشقّة الشاقّة. ثمّ استفهمهم عن غفلتهم عنه و طمعهم فيه مع كونه لا يغفلهم و لا يمهلهم استفهام توبيخ على ذلك. و لأجل ما فيه من شدّة الاعتبار قال: فكفى واعظا بموتى عاينتموهم. إلى قوله: فصرعتهم. و في هذا القول زيادة موعظة على ذكر الموت و هى شرح أحوال من عاينوه من الموتى. و ذكر منها أحوالا: أحدها: كيفيّة حملهم إلى قبورهم غير راكبين مع كونهم في صورة ركوب منفور عنه. الثانية: إنزالهم إلى القبور على غير عادة النزول المتعارف المقصود فكأنّهم في تلك الحال مع طول مددهم في الدنيا و عمارتهم لها و ركونهم إليها لم يكونوا لها عمّارا و كان الآخرة لم تزل دارا. و وجه التشبيه الأوّل انقطاعهم عنها بالكلّيّة و عدم خيرهم فيها فأشبهوا لذلك من لم يكن فيها. و وجه الثاني كون الآخرة هى مستقرّهم الدائم الثابت الّذي لا معدل عنه فأشبهت في ذلك المنزل الّذي لم يزل له دارا. الثالثة: ايحاشهم ما كانوا يوطنون من منازل الدنيا و مسالكها. الرابعة: ايطانهم ما كانوا يوحشون من القبور الّتي هي أوّل منازل الآخرة. الخامسة: اشتغالهم بما فارقوا. و ذلك أنّ النفوس الراكنة إلى الدنيا العاشقة لها المقبلة على الاشتغال بلذّاتها يتمكّن في جواهرها ذلك العشق لها و تصير محبّتها ملكة و خلقا فيحصل لها بعد المفارقة لما أحبّته من العذاب به و الشقا الأشقى بالنزوع إليه و عدم التمكّن من الحصول عليه أعظم شغل و أقوى شاغل و أصعب بلاء هايل بل تذهل فيه كلّ مرضعة عمّا أرضعت و تضع فيه كلّ ذات حمل حملها و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكنّ عذاب اللّه شديد. السادسة: إضاعتهم ما إليه انتقلوا و هي دار الآخرة. و معنى إضاعتهم لها تركهم الأسباب الموصلة إلى ثوابها و المبعّدة من عقابها. السابعة: كونهم لا يستطيعون الانتقال عمّا حصلوا عليه من الأفعال القبيحة الّتي ألزمتهم العذاب و أكسبت نفوسهم ملكات السوء. و ذلك ظاهر. إذا لانتقال عن ذلك لا يمكن إلّا في دار العمل و هي الدنيا. الثامنة: و كذلك لا من حسن يستطيعون ازديادا: أى من الأعمال الحسنة الموجبة للملكات الخيريّة و الثواب الدائم كما قال تعالى حكاية عنهم حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ«» الآية. التاسعة: أنّهم أنسوا بالدنيا حتّي غرّتهم. العاشرة: كونهم وثقوا بها حتّى صرعتهم. و السبب في الاغترار بها و غرورها هم حصول لذّاتها المحسوسة مع قربهم من المحسوس و هو مستلزم للانس بها المستلزم للغرور بها و الغفلة عمّا وراها و هو مستلزم للوثوق و هو مستلزم لصرعتهم في مهاوى الهلاك حيث لا يقال عثرة و لا ينفع ندامة. و أعلم أنّ ذكر الموت و إن كان يستلزم الاتّعاظ و الانزجار إلّا أنّ شرح الأحوال الّتي تعرض للإنسان في موته أبلغ في ذلك لما أنّ كلّ حال فيها منفور عنها طبعا و إن كانت إنّما تحصل النفرة عنها لكونها حالة تعرض للميّت و المقرون بالمولم و المكروه مكروه و مولم و منفور عنه طبعا.

الثالث: ممّا أمرهم به على طريق الوصيّة أن يسابقوا إلى منازلهم الّتي امروا أن يعمّروها و الّتي رغّبوا فيها و دعوا إليها و هي منازل الجنّة و مراتب الأبرار فيها. و عمارتها بالأعمال الصالحة الموافقة لمقتضى النواميس الإلهيّة و تحصيل الكمالات النفسانيّة عنها. و المعنى ليسابق بعضكم بعضا إلى منازلكم و مراتب درجاتكم من الجنّة و عمارتها بتحصيل الكمالات النفسانيّة و موافقة الشرع الإلهيّة.
و إليه الإشارة بقوله تعالى وَ سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ«» و الترغيب فيها لقوله تعالى وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ«» و نحوه.
الرابعة: ممّا أمرهم به الصبر على طاعة اللّه و على مجانبة المعصية.
و رغّب‏ بكونه سببا يستتمّ به نعمة اللّه عليهم. و لمّا كان استلزامه لها كالثمرة له و كانت ثمرة الصبر حلاوة قدّمها ليحلو الصبر بذكرها.

و قوله: فإن غدا من اليوم قريب.
 تخويف من الساعة و قربها. و لم يرد بغد و لا اليوم حقيقتهما بل أراد بغد القيامة و باليوم مدّة الحياة كقوله فيما سبق: ألا و إنّ اليوم المضمار و غدا السباق.
و هو يجري مجري المثل كقولهم: غد ما غدا، قرب اليوم من غد.

و قوله: ما أسرع الساعات في اليوم. إلى آخره.
 بيان لقرب الغد الّذي كنّى به عن القيامة من اليوم فإنّ الساعات سريعة الإتيان و الانقضاء. و سرعتهما مستلزم لسرعة مجي‏ء اليوم و انقضائه. و سرعتهما مستلزم لسرعة مجي‏ء الشهر و انقضائه المستلزمين لسرعة مجي‏ء السنة و انقضائها المستلزمين لسرعة انقضاء عمر العاملين فيه لكنّ انقضاؤه بالقيامة. فإذن الساعات مستلزمة لسرعة انقضاء العمر و قرب غده من يومه. و أتى في الكلّ بلفظ التعجّب تأكيدا لبيان تلك السرعة. و هو كلام شريف بالغ في الفصاحة و الموعظة. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 193

 

خطبه 228 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام فى التوحيد، و تجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة
مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ وَ لَا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ- وَ لَا إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ- وَ لَا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ تَوَهَّمَهُ- كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ وَ كُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ- فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَابِ آلَةٍ مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ- غَنِيٌّ لَا بِاسْتِفَادَةٍ- لَا تَصْحَبُهُ الْأَوْقَاتُ وَ لَا تَرْفِدُهُ الْأَدَوَاتُ- سَبَقَ الْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ- وَ الْعَدَمَ وُجُودُهُ وَ الِابْتِدَاءَ أَزَلُهُ بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ- وَ بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ- وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ- ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ وَ الْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ- وَ الْجُمُودَ بِالْبَلَلِ وَ الْحَرُورَ بِالصَّرَدِ مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا- مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا- لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ وَ لَا يُحْسَبُ بِعَدٍّ- وَ إِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا- وَ تُشِيرُ الْآلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا مَنَعَتْهَا مُنْذُ الْقِدْمَةَ وَ حَمَتْهَا قَدُ الْأَزَلِيَّةَ- وَ جَنَّبَتْهَا لَوْلَا التَّكْمِلَةَ بِهَا تَجَلَّى‏ صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ- وَ بِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ- وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ السُّكُونُ وَ الْحَرَكَةُ- وَ كَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ- وَ يَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ وَ يَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ- إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ وَ لَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ- وَ لَامْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ- وَ لَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ- وَ لَالْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ- وَ إِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ- وَ لَتَحَوَّلَ دَلِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ- وَ خَرَجَ بِسُلْطَانِ الِامْتِنَاعِ- مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ الَّذِي لَا يَحُولُ وَ لَا يَزُولُ وَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْأُفُولُ- لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً وَ لَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً- جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَبْنَاءِ وَ طَهُرَ عَنْ مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ- لَا تَنَالُهُ الْأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ وَ لَا تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ- وَ لَا تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ وَ لَا تَلْمِسُهُ الْأَيْدِي فَتَمَسَّهُ- وَ لَا يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ وَ لَا يَتَبَدَّلُ فِي الْأَحْوَالِ- وَ لَا تُبْلِيهِ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامُ وَ لَا يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَ الظَّلَامُ وَ لَا يُوصَفُ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ- وَ لَا بِالْجَوَارِحِ وَ الْأَعْضَاءِ وَ لَا بِعَرَضٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ- وَ لَا بِالْغَيْرِيَّةِ وَ الْأَبْعَاضِ- وَ لَا يُقَالُ لَهُ حَدٌّ وَ لَا نِهَايَةٌ وَ لَا انْقِطَاعٌ وَ لَا غَايَةٌ- وَ لَا أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيَهُ- أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ فَيُمِيلَهُ أَوْ يَعْدِلَهُ- لَيْسَ فِي الْأَشْيَاءِ بِوَالِجٍ وَ لَا عَنْهَا بِخَارِجٍ- يُخْبِرُ لَا بِلِسَانٍ وَ لَهَوَاتٍ- وَ يَسْمَعُ لَا بِخُرُوقٍ وَ أَدَوَاتٍ يَقُولُ وَ لَا يَلْفِظُ- وَ يَحْفَظُ وَ لَا يَتَحَفَّظُ وَ يُرِيدُ وَ لَا يُضْمِرُ- يُحِبُّ وَ يَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ- وَ يُبْغِضُ وَ يَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ- يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ- لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ وَ لَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ- وَ إِنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَ مَثَّلَهُ- لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً- وَ لَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً لَا يُقَالُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ- فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ- وَ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ فَصْلٌ- وَ لَا لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ وَ الْمَصْنُوعُ- وَ يَتَكَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَ الْبَدِيعُ- خَلَقَ الْخَلَائِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَيْرِهِ- وَ لَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ- وَ أَنْشَأَ الْأَرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ- وَ أَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ وَ أَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ- وَ رَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعَائِمَ- وَ حَصَّنَهَا مِنَ الْأَوَدِ وَ الِاعْوِجَاجِ- وَ مَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَ الِانْفِرَاجِ- أَرْسَى أَوْتَادَهَا وَ ضَرَبَ أَسْدَادَهَا- وَ اسْتَفَاضَ عُيُونَهَا وَ خَدَّ أَوْدِيَتَهَا- فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ وَ لَا ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَ عَظَمَتِهِ- وَ هُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَ مَعْرِفَتِهِ- وَ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ مِنْهَا بِجَلَالِهِ وَ عِزَّتِهِ- لَا يُعْجِزُهُ شَيْ‏ءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ- وَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ‏ فَيَغْلِبَهُ- وَ لَا يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ- وَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَالٍ فَيَرْزُقَهُ- خَضَعَتِ الْأَشْيَاءُ لَهُ وَ ذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ- لَا تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ- فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَ ضَرِّهِ- وَ لَا كُفْ‏ءَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ- وَ لَا نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ- هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا- حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا- وَ لَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا- بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَ اخْتِرَاعِهَا- وَ كَيْفَ وَ لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَ بَهَائِمِهَا- وَ مَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَ سَائِمِهَا- وَ أَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَ أَجْنَاسِهَا- وَ مُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وَ أَكْيَاسِهَا- عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا- وَ لَا عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا- وَ لَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذَلِكَ وَ تَاهَتْ- وَ عَجَزَتْ قُوَاهَا وَ تَنَاهَتْ- وَ رَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً- عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا- مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لَا شَيْ‏ءَ مَعَهُ- كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا- بِلَا وَقْتٍ وَ لَا مَكَانٍ وَ لَا حِينٍ وَ لَا زَمَانٍ- عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الْآجَالُ وَ الْأَوْقَاتُ- وَ زَالَتِ السِّنُونَ وَ السَّاعَاتُ- فَلَا شَيْ‏ءَ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ- الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الْأُمُورِ- بِلَا قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا- وَ بِغَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا- وَ لَوْ قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا-

لَمْ يَتَكَاءَدْهُ صُنْعُ شَيْ‏ءٍ مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ- وَ لَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا خَلَقَهُ وَ بَرَأَهُ وَ لَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ- وَ لَا لِخَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَ نُقْصَانٍ- وَ لَا لِلِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُكَاثِرٍ- وَ لَا لِلِاحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِرٍ- وَ لَا لِلِازْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ- وَ لَا لِمُكَاثَرَةِ شَرِيكٍ فِي شِرْكِهِ- وَ لَا لِوَحْشَةٍ كَانَتْ مِنْهُ- فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا- ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا- لَا لِسَأَمٍ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَ تَدْبِيرِهَا- وَ لَا لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَيْهِ- وَ لَا لِثِقَلِ شَيْ‏ءٍ مِنْهَا عَلَيْهِ- لَا يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا- وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ- وَ أَمْسَكَهَا بِأَمْرِهِ وَ أَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ- ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا- وَ لَا اسْتِعَانَةٍ بِشَيْ‏ءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا- وَ لَا لِانْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَةٍ إِلَى حَالِ اسْتِئْنَاسٍ- وَ لَا مِنْ حَالِ جَهْلٍ وَ عَمًى إِلَى حَالِ عِلْمٍ وَ الْتِمَاسٍ- وَ لَا مِنْ فَقْرٍ وَ حَاجَةٍ إِلَى غِنًى وَ كَثْرَةٍ- وَ لَا مِنْ ذُلٍّ وَ ضَعَةٍ إِلَى عِزٍّ وَ قُدْرَةٍ

اللغة

أقول:

صمده: أى قصده.

و ترفده: تعينه.

و الوضوح و الوضح: البياض.

و البهمة: السواد.

و الحرور هنا: الحرارة.

و الصرد: البرد.

و الافول: الغيبة.

و الوالج: الداخل.

و خلا: مضى و سبق.

و الأود: الاعوجاج.

و التهافت: التساقط.

و الأسداد: جمع سدّ- و قد يضمّ- و هو كلّ ما حال و حجز بين شيئين.

و خدّ: شقّ.

و مراحها: ما يراح منها في مرابطها و معاطنها.

و سائمها: ما ارسل منها للرعى.

و أسناخها: اصولها.

و المتبلّدة: ذو البلادة و هى ضدّ الذكاء.

و الأكياس: ذوو الذكاء و الفهم.

و تكاءده الأمر: شقّ عليه و صعب.

و آده: أثقله، و المثاور: المواثب.

و اعلم أنّ مدار هذه الخطبة على التوحيد المطلق و التنزيه المحقّق،و قد أشار إلى توحيده تعالى و تنزيهه باعتبارات من الصفات الإضافيّة و السلبيّة:
فالأوّل: قوله: ما وحّده من كيّفه.
دلّت هذه الكلمة بالمطابقة على سلب التوحيد له تعالى عمّن وصفه بكيفيّة، و بالالتزام على أنّه لا يجوز تكيّفه لمنافاة ذلك التوحيد الواجب له تعالى. و لنشر إلى معنى الكيفيّة ليتبيّن أنّه لا يجوز وصفه بها. فنقول: أمّا رسمها فقيل: إنّها هيئة قارّة في المحلّ لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة إلى أمر خارج عنه و لا قسمة في ذاته و لا نسبة واقعة في أجزائه.
و بهذه القيود يفارق سائر الأعراض، و أقسامها أربعة: فإنّها إمّا أن تكون مختصّة بالكمّ من جهة ما هو كمّ كالمثلثيّة و المربعيّة و غيرها من الأشكال للسطوح. و كالاستقامة و الانحناء للخطوط و كالفرديّة و الزوجيّة للأعداد، و إمّا أن لا تكون مختصّة به و هي إمّا أن تكون محسوسة كالألوان و الطعوم و الحرارة و البرودة، و هذا ينقسم إلى راسخة كصفرة الذهب و حلاوة العسل، و تسمّى كيفيّات انفعالية إمّا لانفعال الحواسّ عنها و إمّا لانفعالات حصلت في الموضوعات عنها، أو غير راسخة إمّا سريعة الزوال كحمرة الخجل و تسمّى انفعالات لكثرة انفعالات موضوعاتها بسببها بسرعة، و هذا قسم ثاني، و إمّا أن لا يكون محسوسة، و هي إمّا لاستعدادات ما لكمالات كالاستعداد للمقاومة و الدفع، و إمّا لانفعال و يسمّى قوّة طبيعيّة كالمصحاحيّة و الصلابة، أو لنقائص مثل الاستعداد بسرعة الإدغان و الانفعال، و يسمّى ضعفا و لا قوّة طبيعيّة كالممراضيّة، و إمّا أن لا يكون استعداد لكمالات أو نقايص بل يكون في أنفسها كمالات أو نقايص، و هي مع ذلك غير محسوسة بذواتها فما كان منها ثابتا يسمّى ملكة كالعلم و العفّة و الشجاعة، و ما كان سريع الزوال يسمّى حالا كغضب الحليم و مرض الصحاح. فهذه أقسام الكيف. إذا عرفت ذلك فنقول: إنّما قلنا: إنّه يلزم من وصفه بالكيفيّة عدم توحيده لما نبّه في الخطبة الاولى من‏ قوله عليه السّلام في وصف اللّه سبحانه: فقد قرنه و من قرنه فقد ثنّاه. و كما سبق تقريره فينتج أنّ من وصف اللّه سبحانه فقد ثنّاه. و حينئذ تبيّن أنّ من كيّفه لم يوحّده لأنّ توحيده و تثنيته ممّا لا يجتمعان.

الثاني: و لا حقيقته أصاب من مثّله
أى جعل له مثلا، و ذلك أنّ كلّ ماله مثل فليس بواجب الوجود لذاته لأنّ المثليّة إمّا أن يتحقّق من كلّ وجه فلا تعدّد إذن لأنّ التعدّد يقتضى المغايرة بأمر ما و ذلك ينافي الاتّحاد و المثليّة من كلّ وجه هذا خلف، و إمّا أن يتحقّق من بعض الوجوه و حينئذ ما به التماثل إمّا الحقيقة أو جزؤها أو أمر خارج عنها فإن كان الأوّل كان ما به الامتياز عرضيّا للحقيقة لازما أو زائلا لكن ذلك باطل لأنّ المقتضى لذلك العرضيّة إمّا المهيّة فيلزم أن يكون مشتركا بين المثلين لأنّ مقتضى المهيّة الواحدة لا يختلف فما به الامتياز لأحد المثلين عن الآخر حاصل للآخر هذا خلف. أو غيرها فتكون ذات واجب الوجوده مفتقرة في تحصيل ما تميّزها من غيرها إلى غير خارجى هذا محال، و إن كان ما به التماثل و الاتّحاد جزء من المثلين لزم كون كلّ منهما مركّبا فكلّ منهما ممكن هذا خلف. و بقي أن يكون التماثل بأمر خارج عن حقيقتهما مع اختلاف الحقيقتين لكن ذلك باطل أمّا أوّلا فلامتناع وصف واجب الوجود بأمر خارج عن حقيقته لاستلزام إثبات الصفة له تثنيته و تركّبه على ما مرّ، و أمّا ثانيا فلأنّ ذلك الأمر الخارجى المشترك إن كان كمالا لذات واجب الوجود فواجب الوجود لذاته مستفيد للكمال من غيره هذا خلف، و إن لم يكن كمالا كان إثباته له نقصا لأنّ الزيادة على الكمال نقص. فثبت أنّ كلّ ماله مثل فليس بواجب الوجود لذاته فالطالب لمعرفته إذا أصاب ما له مثل فقد أصاب ما ليس بواجب الوجود لذاته فلم يصب صانع العالم، و مقصود الكلمة نفى المثل له تعالى في مقام التوجّه إليه و النظر لطلب معرفته.
الثالث: و لا إيّاه عنى من شبّهه
و معنى هذه القرينة كالّتي قبله.
الرابع: و لا صمده من أشار إليه و توهّمه،
و ذلك لأنّ الإشارة إليه إمّا حسيّة أو عقليّة. و الاولى مستلزمة للوضع و الهيئة و الشكل و التحيّز كما علم في غير هذا الموضع، و ذلك على واجب الوجود محال، و أمّا الثانية فقد علمت أنّ النفس الإنسانيّة ما دامت في عالم الغربة إذا توجّهت لاقتناص أمر معقول من عالم الغيب فلا بدّ أن تستتبع القوّة الخياليّة و الوهميّة للاستعانة بهما على استثبات المعنى المعقول و ضبطه فإذن يستحيل أن يشير العقل الإنسانيّ إلى شي‏ء من المعاني الإلهيّة إلّا بمشاركة من الوهم و الخيال و استثباته حدّا و كيفيّة يكون عليها لكن قد علمت تنزيهه تعالى عن الكيفيّات و الصفات و الحدود و الهيئة فكان المشير إليه و المدّعى لإصابة حقيقته قاصدا في تلك الإشارة إلى ذى كيفيّة و حال ليس هو واجب الوجود فلم يكن قاصدا لواجب الوجود، و قد بيّنا فيما سلف امتناع الإشارة إليه.
الخامس: قوله: كلّ معروف بنفسه مصنوع.
صغرى ضمير من الشكل الأوّل استغنى معها عن ذكر الدعوى لدلالتها عليها، و هى أنّه تعالى ليس معلوما بنفسه: أى ليس معلوم الحقيقة بالكنه. و تقدير الكبرى: و لا شي‏ء ممّا هو مصنوع بإله للعالم واجب الوجود لذاته دائما. ينتج أنّه لا شي‏ء من المعلوم بنفسه بواجب الوجود و إله العالم دائما، و ينعكس لا شي‏ء من واجب الوجود معلوم بنفسه. أو من الشكل الثاني، و يكون تقدير الكبرى: و لا شي‏ء ممّا هو واجب الوجود بمصنوع. و ينتج النتيجة المذكورة، و ينعكس. و يحتمل أن تكون المقدّمة المذكورة هى الكبرى من الشكل الأوّل و لا حاجة إلى العكس المذكورة. و يحتمل أن يبيّن المطلوب المذكور بقياس استثنائى متّصل، و تكون المقدّمة المذكورة تنبيها على ملازمة المتّصلة و بيانا لها و تقديرها: لو كان تعالى معلوما بنفسه لكان مصنوعا لأنّ كلّ معلوم بنفسه مصنوع لكن التالى باطل فالمقّدم كذلك فأمّا بيان أنّ كلّ معلوم بنفسه مصنوع فهو أنّ كلّ معلوم بحقيقته فإنّما يعلم من جهة أجزائه، و كلّ ذى جزء فهو مركّب فكلّ مركّب فمحتاج إلى مركّب يركّبه و صانع يصنعه فإذن كلّ معلوم الحقيقة فهو مصنوع، و أمّا بطلان التالى فلأنّه تعالى لوكان مصنوعا لكان ممكنا مفتقرا إلى الغير فلا يكون واجب الوجود لذاته هذا خلف.
السادس: و كلّ قائم في سواه معلول
كالمقدّمة الّتي قبلها في أنّها يحتمل أن تكون صغرى قياس ضمير من الشكل الأوّل أو الثاني دلّ به على أنّه تعالى ليس بقائم في سواه: أى ليس لعرض فيحتاج إلى محلّ يقوم. تقديره أنّ كلّ قائم سواه فهو معلول، و لا شي‏ء من المعلول بواجب الوجود أولا شي‏ء من واجب الوجود بمعلول فينتج أنّه لا شي‏ء من القائم في سواه بواجب الوجود، و ينعكس كنفسها لا شي‏ء من واجب الوجود بقائم في سواه. و يحتمل أن يكون كبرى القياس و لا حاجة إلى عكس النتيجة، و يحتمل أن يكون ذكرها تنبيها على ملازمة قياس استثنائىّ: أى لو كان قائما في سواه لكان معلولا و لكن التالى باطل فالمقدّم كذلك، و بيان الملازمة أنّ القائم بغيره مفتقر إلى محلّ و كلّ مفتقر إلى غيره ممكن و كلّ ممكن معلول في وجوده و عدمه، و أمّا بطلان التالى فلأنّه لو كان معلولا لما كان واجب الوجود.
السابع: فاعل لا باضطراب آلة.
أمّا أنّه فاعل فلأنّه موجد العالم، و أمّا أنّه منزّه في فاعليّته عن اضطراب الآلة فلتنزّهه عن الآلة الّتي هى من عوارض الأجسام.
و قد سبق بيانه.
الثامن: مقدّر لا بحول فكرة،
و معنى كونه مقدّرا كونه معطيا لكلّ موجود المقدار الّذي تستحقّه من الكمال من الوجود و لواحق الوجود كالأجل و الرزق و نحوهما على وفق القضاء الإلهى، و كون ذلك لا بحول فكرة لأنّ الفكر من لواحق النفوس البشريّة بآلة بدنيّة، و قد تنزّه قدسه تعالى عن ذلك.
التاسع: كونه غنيّا لا باستفادة
و كونه غنيّا يعود إلى عدم حاجته في شي‏ء ما إلى شي‏ء ما. إذ لو حصل له شي‏ء باستفادة من خارج كسائر الأغنياء لزم كونه ناقصا بذاته مفتقرا إلى ذلك المستفاد موقوفا على حصول سببه فكان ممكنا هذا خلف و هو تنزيه له عن الغنى المشهور المتعارف.
العاشر: كونه لا تصحبه الأوقات،
و ذلك أنّ الصحبة الحقيقيّة تستدعى‏ المعيّة و المقارنة اللذين هما من لواحق الزمان الّذي هو من لواحق الحركة الّتي هى من لواحق الجسم المتأخّر وجوده عن وجوده بعض الملائكة المتأخّر وجوده عن وجود الصانع الأوّل- جلّت عظمته- فكان وجود الزمان و الوقت متأخّرا عن وجوده تعالى بمراتب من الوجود فلم تصدق صحبة الأوقات لوجوده و لا كونها ظرفا له و إلّا لكان مفتقرا إلى وجود الزمان فكان يمتنع استغناؤه عنه لكنّه سابق عليه فوجب استغناؤه عنه. نعم قد يحكم الوهم بصحبة الزمان للمجرّدات و معيّته لها حيث تقسمها إلى الزمانيّات. إذ كان لا تعقل المجرّدات إلّا كذلك.
الحادى عشر: كونه لا ترفده الأدوات
و ظاهر أنّ المفتقر إلى المعونة بأداة و غيرها ممكن لذاته فلا يكون واجب الوجود لأنّه تعالى خالق الأدوات فكان سابقا عليها في تأثيره فكان غنيّا عنها فيمتنع عليه الحاجة إلى الاستعانة بها.
الثاني عشر: سبق الأوقات كونه
أى وجوده. و قد مرّ بيانه.
الثالث عشر: و العدم وجوده
أى و سبق وجوده العدم، و بيانه أنّه تعالى مخالف لسائر الموجودات الممكنة فإنّها محدثة فيكون عدمها سابقا على وجودها.
ثمّ إن لم تكن كذلك، وجودها و عدمها بالسبة إلى ذواتها على سواء كما بيّن في مظانّه و لها من ذواتها أنّها لا تستحقّ وجودا و عدما لذواتها و ذلك عدم سابق على وجودها. فعلى كلّ تقدير فوجودها يكون مسبوقا بعدم. بخلاف الموجود الأوّل- جلّت عظمته- فإنّه لمّا كان واجب الوجود لذاته كان لما هو هو موجودا فكان لحوق العدم له محالا فكان وجوده سابقا على العدم المعتبر لغيره من الممكنات، و لأنّ عدم العالم قبل وجوده كان مستندا إلى عدم الداعى إلى إيجاده المستند إلى وجوده فكان وجوده تعالى سابقا على عدم العالم. ثمّ تبيّن.
الرابع عشر. و الابتداء أزله،
و ذلك أنّ الأزل عبارة عن عدم الأوّليّة و الابتداء و ذلك أمر يلحق واجب الوجود لما هو هو بحسب الاعتبار العقلىّ و هو ينافي لحوق الابتداء و الأوّليّة لوجوده تعالى فاستحال أن يكون له مبدء لامتناع اجتماع النقيضين بل سبق في الأزليّة ابتداء ما كان له ابتداء وجود من الممكنات‏ إذ هو مبدأها و مصدرها.
الخامس عشر: بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له
و ذلك أنّه تعالى لمّا خلق المشاعر و أوجدها و هو المراد بتشعيره لها امتنع أن يكون له مشعر و حاسّة و إلّا لكان وجودها له إمّا من غيره و هو محال: أمّا أوّلا فلأنّه مشعّر المشاعر و أمّا ثانيا فلأنّه يكون محتاجا في كماله إلى غيره فهو ناقص بذاته هذا محال، و إمّا منه و هو أيضا محال لأنّها إن كانت من الكمالات الوهميّة كان موجدا لها من حيث هو فاقد كمالا فكان ناقصا بذاته هذا محال، و إن لم يكن كمالا كان إثباتها له نقصا لأنّ الزيادة على الكمال نقصان فكان إيجاده لها مستلزما لنقصانه و هو محال.
السادس عشر: و بمضادّته بين الامور عرف أنّ لا ضدّ له
لأنّه لمّا كان خالق الأضداد فلو كان له ضدّ لكان خالقا لنفسه و لضدّه و ذلك محال، و لأنّك لمّا علمت أنّ المضادّة من باب المضاف و علمت أنّ المضاف ينقسم إلى حقيقىّ و غير حقيقىّ فالحقيقىّ هو الّذي لا تعقل مهيّته إلّا بالقياس إلى غيره، و غير الحقيقىّ هو الّذي له في ذاته مهيّة غير الإضافة تعرض لها الإضافة و كيف ما كان لا بدّ من وجود الغير حتّى يوجد المضاف من حيث هو مضاف فيكون وجود أحد المضافين متعلّقا بوجود الآخر فلو كان لواجب الوجود ضدّ لكان متعلّق الوجود بالغير فلم يكن واجب الوجود لذاته هذا خلف، و لأنّ الضدّين هما الأمران الثبوتيان اللذان يتعاقبان على محلّ واحد، و يمتنع اجتماعهما فيه فلو كان بينه و بين غيره مضادّة لكان محتاجا إلى محلّ يعاقب ضدّه عليه، و قد ثبت أنّه تعالى غنىّ من كلّ شي‏ء.
السابع عشر: و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له،
و برهانه أمّا أوّلا فلأنّه تعالى خلق المقترنات و مبدء المقارنة بينها فلو كان تعالى مقارنا لغيره لكان خالقا لنفسه و لقرينه و ذلك محال، و لأنّ المقارنة من باب المضاف و يمتنع أن يلحقه. على ما تقدّم.
الثامن عشر: كونه تعالى مضادّا بين الامور.
المضادّة تأكيد لقوله: ولمضادّته للأشياء. فمنها النور و الظلمة، و في كونهما ضدّين خلاف بين العلماء مبنىّ على كون الظلمة أمرا وجوديّا أو عدميّا و الأقرب أنّها أمر وجوديّ مضادّ للنور، و قال بعضهم: إنّها عبارة عن عدم الضوء عمّا من شأنه أن يضي‏ء و ليست على هذا القول عدما صرفا فجاز أن يطلق عليها أنّها ضدّ مجازا، و منها البياض و السواد و الجمود و البلل: أى اليبوسة و الرطوبة و الحرارة و البرودة. و مضادّته بينها خلقه لها على ما هى عليه من الطبايع المتضادّة.
التاسع عشر: كونه مؤلّفا بين متعادياتها
في أمزجة المركّبات من العناصر الأربعة فإنّه جمع بينها فيها على وجه الامتزاج حتّى حصل بينها كيفيّة متوسّطه على ما مرّ بيانه في الخطبة الاولى.
العشرون:كونه مقارنا بين متبايناتها.
الحادى و العشرون: كونه مقرّبا بين متباعداتها،
و مرّ نظير هاتين الفقرتين في الخطبة الاولى.
الثاني و العشرون: كونه مفرّقا بين متدانياتها
أى بالموت و الفناء لهذه المركّبات في هذا العالم. و أشار إلى استناد فسادها إليه أيضا إذ هو مسبّب الأسباب.
و قد طاوعته عليه السّلام المطابقة في هذه القرائن فالتأليف بإزاء المعاداة، و المقارنة بإزاء المباينة، و القرب بإزاء البعد، و التفريق بإزاء التدانى.
الثالث و العشرون: كونه تعالى لا يشمله حدّ،
و المراد: إمّا الحدّ الاصطلاحى و ظاهر كونه تعالى لا حدّ له، إذ لا أجزاء له فلا تشمل و تحاط حقيقة بحدّ، و إمّا الحدّ اللغوىّ و هى النهاية الّتي تحيط بالجسم مثلا فيقف عندها و ينتهى بها و ذلك من لواحق الكمّ المتّصل و المنفصل و هما من الأعراض و لا شي‏ء من واجب الوجود سبحانه بعرض أو محلّ له فامتنع أن يوصف بالنهاية. و أمّا وصفه باللانهاية فعلى سبيل سلب النهاية عنه مطلقا بسلب معروضها كالمقدار مثلا لا على سبيل العدول بمعنى أنّه معروض النهاية و اللانهاية لكن ليست النهاية حاصلة له.

الرابع و العشرون: كونه لا يحسب بعد
أى لا يلحقه الحساب و العدّ فيدخل في جملة المحسوبات المعدودة، و ذلك أنّ العدّ من لواحق الكمّ المنفصل الّذي هو العدد كما هو معلوم في مظانّه و الكمّ عرض، و قد ثبت أنّه تعالى ليس بعرض و لا محلّ له، و استحال أن يكون معدودا. و قوله: و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها. فالأدوات إشارة إلى الآلات البدنيّة و القوى الجسمانيّة، و قد ثبت أنّها لا يتعلّق إدراكها إلّا بما كان جسما أو جسمانيّا على ما علم في موضعه فمعنى قوله: و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها. أى إنّما تدرك الأجسام و الجسمانيّات ما هو مثلها من الأجسام و الجسمانيّات، و مثل الشي‏ء هو هو في النوع أو الجنس، و يحتمل أن يدخل في ذلك النوع الفكر لامتناع انفكاكه عن الوهم و الخيال حين توجّهه إلى المعقولات لما بيّناه من حاجته إليهما في التصوير و الشبح فكان لا يتعلّق إلّا بمماثل ممكن، و لا يحيط إلّا بما هو في صورة جسم أو جسمانيّ، و كذلك قوله: و يشير الأشياء إلى نظائرها. و قوله: منعتها منذ القدميّة و حمتها قد الأزليّة و جنّبتها لو لا التكملة. الضمائر المتّصلة بالافعال الثلاثة تعود إلى الآلات و الأدوات و هى مفعولات اولى. و القدميّة و الأزليّة التكملة مفعولات ثانية، و منذ و قد و لولا محلّها الرفع بالفاعليّة، و معنى الكلمة الاولى أنّ إطلاق لفظة- منذ- على الآلات و الأدوات في مثل قولنا: هذه الآلات وجدت منذ كذا يمنع كونها قديمة.
إذ كان وضعها لابتداء الزمان و كانت لإطلاقها عليها متعيّنة الابتداء و لا شي‏ء من القديم بمتعيّن الابتداء فينتج أنّه لا شي‏ء من هذه الأدوات و الآلات بقديم، و كذلك إطلاق لفظة- قد- عليها يحميها و يمنعها من كونها أزليّة إذ كانت- قد- تفيد تقريب الماضى من الحال فإطلاقها عليها كما في قولك: قد وجدت هذه الآلة وقت كذا. يحكم بقربها من الحال و عدم أزليّتها و لا شي‏ء من الأزلىّ بقريب من الحال فلا شي‏ء من هذه الآلات بأزلىّ. و كذلك إطلاق لفظ- لولا- على‏ هذه الآلات تجنّبها التكملة. إذ كان وضع لولا دالّا على امتناع الشي‏ء لوجود غيره فإطلاقها عليها في مثل قولك عند نظرك إلى بعض الآلات المستحسنة و الخلقة العجيبة و الأذهان المتوقّدة: ما أحسنها و أكملها لولا أنّ فيها كذا. فيدلّ بها على امتناع كمالها لوجود نقصان فيها فهى مانعة لها من الكمال المطلق، و إنّما أشار إلى حدوثها و نقصانها ليؤكّد كونها غير متعلّقة بتحديده سبحانه، و أنّها في أبعد بعيد من تقديره و الإشارة إليه. إذ كان القديم الكامل في ذاته التامّ في صفاته أبعد الأشياء عن مناسبته المحدث الناقص في ذاته فكيف يمكن أن يدركه أو يليق أن يطمع في ذلك، و قال بعض الشارحين: المراد بالأدوات و الآلات أهلها. و قد روى برفع القدميّة و الأزليّة و التكملة على الفاعليّة. و الضمائر المتّصلة بالأفعال مفعولات اولى، و منذ و قد و لولا مفعولات ثانية، و يكون المعنى أنّ قدمه تعالى و أزليّته و كماله منعت الأدوات و الآلات من إطلاق منذ و قد و لو لا عليه سبحانه لدلالتها على الحدوث و الابتداء المنافيين لقدمه و أزليّته و كماله. و الرواية الاولى أولى لوجودها في نسخة الرضيّ- رضى اللّه عنه- بخطّه. و قوله: بها تجلّى صانعها للعقول. أى بوجود هذه الآلات ظهور وجوده تعالى للعقول. إذ كان وجودها مستلزما لوجود صانعها بالضرورة، و إحكامها و إتقانها شاهد بعلمه و حكمته شهادة تضطرّ إلى الحكم بها العقول، و كذلك تخصيصها بما تخصّصت به من الكمالات شاهد بإرادته و كمال عنايته فيكون ما شهد به وجودها من وجود صانعها أجلى و أوضح من أن يقع فيه شكّ أو يلحقه شبهة، و يتفاوت ذلك الظهور و التجلّى بحسب تفاوت صقال النفوس و جلائها فمنها من يراه بعد، و منها من يراه مع، و منها من يراه قبل، و منها من يراه لا شي‏ء معه و اولئك عليهم صلوات من ربّهم و رحمة و اولئك هم المهتدون. و قوله: و بها امتنع عن نظر العيون. أى بإيجادها و خلقها بحيث تدرك بحاسّة البصر علم أنّه تعالى يمتنع أن‏ يكون مرئيّا مثلها، و بيانه أنّ تلك الآلات إنّما كانت متعلّقة حسّ البصر باعتبار أنّها ذات وضع و جهة و لون و غيره من شرائط الرؤية، و لمّا كانت هذه الامور ممتنعة في حقّه تعالى لا جرم امتنع أن يكون محلّا لنظر العيون، و قال بعض الشارحين في بيان ذلك: إنّه لمّا كان بالمشاعر و الحواسّ الّتي هى الآلات المشار إليها أكملت عقولنا، و بعقولنا استخرجنا الدليل على أنّه لا يصحّ رؤيته فإذن بخلق هذه الأدوات و الآلات لنا عرفناه عقلا و عرفناه أنّه يستحيل أن يعرف بغير العقل.
الخامس و العشرون: كونه تعالى منزّها أن يجرى عليه السكون و الحركة،
و قد أشار عليه السّلام إلى بيان امتناعهما عليه من أوجه: أحدها: قوله: و كيف يجرى عليه. إلى قوله: أحدثه، و هو استفهام على سبيل الاستنكار لجريان ما أجراه عليه و عود ما أبداه و أنشأه إليه و حدوث ما أحدثه فيه. و بيان بطلان ذلك أنّ الحركة و السكون من آثاره سبحانه في الأجسام و كلّ ما كان من آثاره يستحيل أن يجرى عليه و يكون من صفاته: أمّا المقدّمة الاولى فظاهرة، و أمّا الثانية فلأنّ المؤثّر واجب التقدّم بالوجود على الأثر فذلك الأثر إمّا أن يكون معتبرا في صفات الكمال فيلزم أن يكون تعالى باعتبار ما هو موجد له و مؤثّر فيه ناقصا بذاته مستكملا بذلك الأثر، و النقص عليه تعالى محال، و إن لم يكن معتبرا في صفات كماله فله الكمال المطلق بدون ذلك الأثر فكان إثباته صفة له نقصا في حقّه لأنّ الزيادة على الكمال المطلق نقصان و هو عليه تعالى محال. الثاني: لو كان كذلك للزم التغيّر في ذاته تعالى و لحوق الإمكان له، و دلّ على ذلك بقوله: إذن لتفاوتت ذاته: أى تغيّرت بطريان الحركة عليها تارة و السكون اخرى لأنّ الحركة و السكون من الحوادث المتغيّرة فيكون تعالى بقوله: لتعاقبهما محلّا للحوادث في التغيّرات فكان متغيّرا لكن التغيّر مستلزم للإمكان فالواجب لذاته ممكن لذاته هذا خلف. الثالث: لو كان كذلك للزم حقيقته التجزية و التركيب لكنّ التالى باطل‏ و المقدّم كذلك. أمّا الملازمة فلأنّ الحركة و السكون من عوارض الجسم الخاصّة به فلو يوصف تعالى بها لكان جسما و كلّ جسم فهو مركّب قابل للتجزئة، و أمّا بطلان التالى فلأنّ كلّ مركّب مفتقر إلى أجزائه و ممكن فالواجب ممكن.
هذا خلف. الرابع: أنّه لو كان كذلك للزم أن يبطل من الأزل معناه: أمّا على طريق المتكلّمين فظاهر لأنّ الحركة و السكون من خواصّ الأجسام الحادثة فكان الموصوف بهما حادثا فلو كان تعالى موصوفا بهما لبطل من الأزل معناه و لم يكن أزليّا.
و أمّا على رأى الحكماء فلأنّه تعالى لكونه واجب الوجود لذاته يستحقّ الأزليّة، و لكون الممكن ممكنا لذاته فهو إنّما يستحقّ الأزليّة لالذاته بل لأزليّة علّته و تمامها أزلا حتّى لو توقّفت علّته على أمر ما في مؤثريّتها لزم حدوث الممكن و لم يكن له من ذاته إلّا كونه لا يستحقّ لذاته وجودا و لا عدما و هو معنى الحدوث الذاتىّ عندهم. فعلى هذا لو كان تعالى قابلا للحركة و السكون لكان جسما ممكنا لذاته فكان مستحقّا للحدوث الذاتىّ بذاته فلم يكن مستحقّا للأزليّة بذاته فيبطل من الأزليّة معناه و هو استحقاقه الأزليّة بذاته لكن التالى باطل لما مرّ. الخامس: أنّه لو كان كذلك للزم أن يكون له وراء إذ وجد له أمام، و وجه الملازمة أنّه لو جرت عليه الحركة لكان له أمام يتحرّك إليه و حينئذ يلزم أن يكون له وراء إذ له أمام لأنّهما إضافيّتان لا تنفكّ إحداهما عن الاخرى لكن ذلك محال لأنّ كلّ ذى وجهين فهو منقسم و كلّ منقسم فهو ممكن على ما مرّ. السادس: لو كان كذلك لالتمس التمام إذ لزمه النقصان، و بيان الملازمة أنّ جريان الحركة عليه مستلزم لتوجّهه بها إلى غاية إمّا جلب منفعة أو دفع مضرّة. إذ من لوازم حركات العقلاء ذلك، و على التقديرين فهما كمال مطلوب له لنقصان لازم لذاته لكنّ النقصان بالذات و الاستكمال بالغير مستلزم الإمكان‏ فالواجب ممكن. هذا خلف. السابع: لو كان كذلك لقامت آية المصنوع فيه، و بيان الملازمة أنّه حينئذ يكون قادرا على الحركة و السكون فقدرته عليهما ليست من خلقه و إلّا لافتقر إيجاده لها إلى قدرة اخرى سابقة عليها و لزم التسلسل و كان قادرا قبل أن كان قادرا و هما محالان فهى إذن من غيره فهو إذن مفتقر في كماله إلى غيره فهو مصنوع و فيه آيات الصنع و علامات التأثير فليس هو بواجب الوجود. هذا خلف. الثامن: لو كان كذلك لتحوّل دليلا بعد أن كان مدلولا عليه، و ذلك أن يكون مصنوعا على ما مرّ و كلّ مصنوع فيستدلّ به على صانعه كما هو المشهور في الاستدلال بوجود العالم و حدوثه على وجود صانعه، و لأنّه يكون جسما فيكون مصنوعا فكان دليلا على الصانع لكنّه هو الصانع الأوّل للكلّ و هو المدلول عليه فاستحال أن يكون دليلا من جهة آثار الصنع فيه فاستحال أن يكون قابلا للحركة و السكون فاستحال أن يجريا عليه. فانظر إلى هذه النفس الملكيّة له عليه السّلام كيف يفيض عنها هذه الأسرار الإلهيّة فيضا من غير تقدّم مزاولة الصنائع العقليّة و ممارسة البحث في هذه الدقائق الإلهيّة. و أمّا قوله: و خرج بسلطان الامتناع.
إلى قوله: غيره. فقد يسبق إلى الوهم عطفه على الأدلّة المذكورة، و ظاهر أنّه ليس كذلك، بل هو عطف على قوله: امتنع. أى بها امتنع عن نظر العيون و خرج ذلك الامتناع: أى امتناع أن يكون مثلها في كونها مرئيّة للعيون و محلّا للنظر إليها عن أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره من المرئيّات، و هى الأجسام و الجسمانيّات، و ظاهر أنّه تعالى لمّا امتنع عن نظر العيون إذ لم يكن جسما و لا قائما به فخرج بسلطان استحقاق ذلك الامتناع عن أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره من الأجسام و الجسمانيّات و عن قبول ذلك. و قال بعض الشارحين: إنّه عطف على قوله: تجلّى: أى بها تجلّى للعقول و خرج بسلطان الامتناع كونه مثلا لها: أى يكون واجب الوجود ممتنع العدم عن أن يكون ممكنا فيقبل أثر غيره كما يقبل الممكنات.
السادس و العشرون: كونه تعالى لا يحول
أى لا ينتقل و يتغيّر من حال‏ إلى حال لما علمت من استلزام التغيّر للإمكان الممتنع عليه.
السابع و العشرون : و كذلك لا يزول.
الثامن و العشرون: و كذلك لا يجوز عليه الافول
و الغيبة بعد الظهور لما يستلزم من التغيّر أيضا.
التاسع و العشرون: كونه لم يلد فيكون مولودا و لم يولد فيكون محدودا.
فالجملة الاولى تشتمل على دعوى و الإشارة إلى البرهان، و هو في صورة قياس استثنائىّ تقديره: لو كان له ولد لكان مولودا و حينئذ يكون الجملة الثانية و هى قوله: و لم يولد. في قوّة استثناء نقيض التالى، و قوله: فيكون محدودا في قوّة قياس استثنائىّ يدلّ على بطلان التالى، و تقديره: لأنّه لو كان مولودا لكان محدودا. و اعلم أنّه يحتمل أن يريد بقوله: مولودا. ما هو المتعارف فيكون قد سلك في ذلك مسلك المعتاد الظاهر في بادى النظر بحسب الاستقراء أنّ كلّ ماله ولد فإنّه يكون مولودا و إن لم يجب ذلك في العقل، و قد علمت أنّ الاستقراء ممّا يستعمل في الخطابة و يحتجّ به فيكون مقنعا. إذ كانت غايتها الاقناع، و يحتمل أن يريد به ما هو أعمّ من المفهوم المتعارف أعنى التولّد عن آخر مثله من نوعه فإنّ ذلك غير واجب كما في اصول أنواع الحيوان الحادثة، و حينئذ يكون بيان الملازمة الاولى على الاحتمال الأوّل ظاهر، و أمّا على تقدير الثاني فنقول في بيانها: إنّ مفهوم الولد هو الّذي يتولّد و ينفصل عن آخر مثله من نوعه لكن أشخاص النوع الواحد لا يتعيّن في الوجود مشخّصا إلّا بواسطة المادّة و علاقتها على ما علم ذلك في مظانّه من الحكمة، و كلّ ما كان ماديّا و له علاقة بالمادّة كان متولّدا عن غيره و هو مادّته و صورته و أسباب وجوده و تركيبه، و أمّا بيان الملازمة الثانية في برهان بطلان التالى فلأنّه لمّا لزم من كونه ذا ولد أن يكون مشاركا في النوع لغيره ثبت أنّه متولّد من مادّة و صورة و مركّب عنهما و عن جزئين بأحدهما يشارك نوعه و بالآخر ينفصل. فهو إذن منته إلى حدود و هي أجزاؤه الّتي يقف عندها و ينتهى في التحليل إليها. فثبت أنّه تعالى لو كان مولودا لكان محدودا لأنّه لو كان مولودا لكان محاطا و محدودا بالمحلّ المتولّد منه لكن كلّ محدود على الاعتبارين مركّب و كلّ مركّب ممكن. هذا خلف. فإذن ليس هو بمحدود فليس هو بمولود فليس هو بذى ولد، و إن شئت أن تجعل المقدّمتين في قوّة قياس حملىّ مركّب من شرطيّتين متّصلتين و الشركة بينهما في جزء تامّ، و تقديره: لو كان تعالى ذا ولد لكان مولودا و لو كان مولودا لكان محدودا، و النتيجة لو كان ذا ولد لكان محدودا. ثمّ يستنتج من استثناء نقيض تالى هذه النتيجة عن المطلوب.
و بيان الملازمتين و نقيض تالى النتيجة ما سبق.
الثلاثون: كونه جلّ عن اتّخاذ الأبناء
أى علا و تقدّس عن ذلك، و هو تأكيد لما سبق. و بيانه أنّه يستلزم لحوق مرتبته بمراتب الأجسام الّتي هى في معرض الزوال و قبول التغيّر و الاضمحلال.
الحادى و الثلاثون: كونه طهر عن ملامسة النساء
و ذلك لما يستلزمه الملامسة من الجسميّة و التركيب الّذي تنزّه قدسه عنه، و طهارته تعود إلى تقدّسه عن الموادّ و علائقها من الملامسة و المماسّة و غيرها.
الثاني و الثلاثون: كونه لا تناله الأوهام فيقدّره
أى لو نالته الأوهام لقدّرته لكنّ التالى باطل فالمقدّم كذلك. بيان الملازمة: أنّك علمت أنّ الوهم إنّما يدرك المعاني المتعلّقة بالمادّة و لا ترتفع إدراكه عن المعاني المتعلّقة بالمحسوسات، و شأنه فيما يدركه أن يستعمل المتخيّلة في تقديره بمقدار مخصوص و كميّة معيّنة و هيئة معيّنة و يحكم بأنّها مبلغه و نهايته. فلو أدركته الأوهام لقدّرته بمقدار معيّن و في محلّ معيّن. فأمّا بطلان التالى فلأنّ المقدار محدود و مركّب و محتاج إلى المادّة و التعلّق بالغير، و قد سبق بيان امتناعه.
الثالث و الثلاثون: و لا يتوهّمه الفطن فتصوّره.
و فطن العقول: سرعة حركتها في تحصيل الوسط في المطالب، و إنّما قال: لا يتوهّمه الفطن لأنّ القوّة العقليّة عند توجّهها في تحصيل المطالب العقليّة المجرّدة لا بدّ لها من استتباع الوهم و المتخيّلة و الاستعانة بها في استثباتها بالشبح و التصوير بصورة يحطّها إلى‏ الخيال على ما علم ذلك في موضعه. و لذلك ما كانت رؤيتها لجبرئيل في صورة دحية الكلبىّ. و كذلك المعاني المدركة للنفوس في النوم من الحوادث فإنّها لا يتمكّن من استثباتها عند اقتناصها من عالم التجريد و بقائها إلى حال اليقظة في صورة خياليّة مشاهدة كما علمت ذلك في صدر الكتاب. فظهر إذن معنى قوله: لا يتوهّمه الفطن فتصوّره: أى لو أدركته لكان ذلك بمشاركة الوهم فكان يلزم أن يصوّره بصورة خياليّة لكنّه تعالى منزّه عن الصورة فكان منزّها عن إدراكها.
الرابع و الثلاثون: لا تدركه الحواسّ فتحسّه.
و أراد لو أدركته الحواسّ لصدق عليه أنّها تحسّه و لزم كونه محسوسا، و بيان ذلك أنّ الإدراك و إن كان أعمّ من الإحساس لكن بإضافته إلى الحواسّ صار مساويا و ملازما له.
فإن قلت: إنّه لا معنى للإحساس إلّا إدراك الحواسّ فيكون كأنّه قال: لا تحسّه الحواسّ فتحسّه. و ذلك تكرار غير مفيد.
قلت: ليس مقصوده أنّه يلزم من معنى الإدراك معنى الإحساس بل مراده أنّ الّذي يصدق عليه أنّه إدراك الحواسّ هو المسمّى بالإحساس فيكون التقدير أنّ الحواس لو أدركته لصدق أنّها أحسّته أى لصدق هذا الاسم و لزم من صدقه عليها أن يصدق عليه كونه محسوسا، و إنّما ألزم ذلك كون الإحساس أشهر و أبين في الاستحالة عليه تعالى من الادراك فجعله كالأوسط في نفى إدراكها عنه لشنعته، و أمّا بيان أنّه تعالى ليس بمحسوس فلأنّه تعالى ليس بجسم و لا جسمانىّ و كلّ محسوس فإمّا جسم أو جسمانىّ فينتج أنّه تعالى ليس بمحسوس.
الخامس و الثلاثون: كونه تعالى لا تلمسه الأيدى فتمسّه
أى لو صدق عليها أنّها تلمسه لصدق أنّها تمسّه و هو ظاهر. إذ كان المسّ أعم من اللمس، و كلاهما ممتنعان عليه لاستلرامهما الجسميّة الممتنعة عليه تعالى.
السادس و الثلاثون: كونه لا يتغيّر بحال
أى أبدا و البتّة و على وجه من الوجوه.
السابع و الثلاثون و لا يتبدّل في الأحوال
أى لا ينتقل من حال إلى حال.و قد سبق بيان ذلك.
الثامن و الثلاثون: كونه لا تبليه الليالى و الأيّام
أمّا أوّلا فلأنّه تعالى ليس بزمانىّ يدخل تحت تصريف الزمان حتّى تبليه، و أمّا ثانيا فلأنّ لحوق الإبلاء له تغيّر في ذاته. و قد علمت امتناع التغيّر عليه، و أمّا ثالثا فلأنّ البالى من الامور الماديّة. و كلّ ذى مادّة فهو مركّب على ما مرّ.
التاسع و الثلاثون: كونه لا يغيّره الضياء و الظلام،
و ذلك لامتناع التغيّر عليه.
الأربعون: كونه لا يوصف بشي‏ء من الأجزاء
لأنّ كلّ ذى جزء مفتقر إلى جزء الّذي هو غيره فكان مفتقرا إلى غيره فكان ممكنا في ذاته. هذا خلف.
الحادى و الأربعون: و لا بالجوارح و الأعضاء
لما يلزم من الجسميّة و التركيب و التجزية.
الثاني و الأربعون: و لا بعرض من الأعراض
أقول: الأعراض تنحصر في تسعة أجناس كما هو معلوم في مظانّه، و ذلك أنّ كلّ الموجودات سوى اللّه تعالى مقسوم بعشرة أقسام واحد منها جوهر و التسعة الباقية أعراض، و يظهر بتقسيم هكذا: كلّ ما عداه سبحانه فوجوده زايد على مهيّته بالبراهين القاطعة فمهيّته إمّا أن تكون بحيث إذا وجدت كان وجودها لا في موضوع. و هذا المعنىّ بالجوهر، أو يكون وجودها في موضوع و هو المعنىّ بالعرض. و نعني بالموضوع المحلّ الّذي لا يتقوّم بما يحلّ فيه بل يبقى حقيقته كما كانت قبل حلوله كالجسم الّذي يحلّه السواد. ثمّ العرض ينقسم إلى أقسامه التسعة و هى الكم و الكيف و المضاف و أين و متى و الوضع و الملك و أن يفعل و أن ينفعل. و تسمّى هذه الأقسام مع القسم العاشر و هو الجوهر المقولات العشر و الأجناس العالية، و لنرسم كلّ واحد منها ليظهر أنّه تعالى منزّه عن الوصف بشي‏ء منها. فنقول، أمّا الجوهر فقد عرفت رسمه، و أمّا الكمّ فرسم بأنّه العرض الّذي يقبل لذاته المساواة و اللامساواة و التجزّى. و يقبل الجوهر بسببه هذه الصفات، و أمّا الكيف فقد عرفته و عرفت‏ أقسامه، و أمّا الإضافة فهى حالة للجوهر تعرض بسبب كون غيره في مقابلته و لا يعقل وجودها إلّا بالقياس إلى ذلك الغير كالابّوة و البنوّة و قد عرفتها و عرفت أيضا أقسامها من قبل، و امّا الأين فهي حالة و هيئة تعرض للجسم بسبب نسبته إلى المكان و كونه فيه و ليس مجرّد النسبة إليه، و أمّا متى فهى حالة تعرض للشي‏ء بسبب نسبته إلى زمانه و كونه فيه أو في طرفه و هو الآن، و أمّا الوضع فهو هيئة يعرض للجسم بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض نسبة يختلف الأجزاء لأجلها بالقياس إلى سائر الجهات كالقيام و القعود، و أمّا الملك فقد عرفت بأنّه نسبة إلى ملاصق ينقل بانتقال ما هو منسوب إليه كالتسلّخ و التقمّص، و أمّا أن يفعل فهو كون الشي‏ء بحيث يؤثّر في غيره ما دام مؤثّرا فيه كالتقطيع حالة التأثير، و أمّا أن ينفعل و هو كون الشي‏ء متأثّرا عن غيره ما دام متأثّرا كالقطيع.
إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا البرهان الجملىّ على امتناع اتّصافه تعالى بهذه الأعراض و استحالة كونه موضوعا لها فما سبق بيانه عليه السّلام بقوله: فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه و من قرنه فقد ثنّاه، و كذلك ما بيّناه من استلزام وصفه بشي‏ء حصول التغيّر في ذاته و امتناع التغيّر عليه، و أمّا التفصيلىّ فأمّا امتناع وصفه بالكمّ فلأنّه لو صدق عليه الكمّ لصدق عليه قبول المساواة و المقارنة و التجزّى و كلّما قبل التجزية كان متكثّرا و قابلا للكثرة و قد ثبت أنّه تعالى واحد من كلّ وجه فيمتنع عليه الكمّ، و أمّا امتناع وصفه بالكيف فقد علمته في أوّل الخطبة، و كذلك امتناع وصفه بالمضاف، و أمّا وصفه بالأين فلأنّه يستلزم أن يكون متحيّزا محويّا لكن كونه كذلك محال فكونه في المكان محال، و أمّا وصفه بمتى فقد عرفته أنّه تعالى ليس بزمانىّ فاستحال أن يوصف بالنسبة إلى زمان يكون له، و أمّا وصفه بالوضع فلأنّ الوضع من خواصّ المحيّزات فإنّ الجسم المتناهي يحيط به سطح لا محالة أو سطوح ينتهى عندها فيكتنف حدّا و حدودا و نهايات و يكون له شكل و هيئة لكنّه تعالى ليس بمتحيّز فاستحال أن يكون ذا وضع، و أمّا الملك فلأنّه أيضا من خواصّ الأجسام المحاط بها إذ ما ليس بجسم و لا يحاط به بشي‏ء ينتقل بانتقاله و قد تنزّه تعالى عن الجسميّة و أن يحيط به شي‏ء، و أمّا أن يفعل فلأنّ الفعل لا يصدق عليه إلّا بطريق الإبداع و محض الاختراع و الإبداع هو أن يكون للشي‏ء وجود من غيره متعلّق به فقط دون توسّط مادّة أو آلة أو زمان و الفعل أعمّ من الإبداع إذ المفهوم من الفعل هو أن يوجد بسبب وجوده شي‏ء آخر سواء كان ذلك لسبب حركة من الفاعل أو آلة أو مادّة أو زمان أو قصد اختيارىّ فيقال للنجّار: إنّه فاعل و للسرير إنّه فعل، و يقال: لا بتوسط شي‏ء من ذلك بل بطبع و تولّد كالشمس فإنّها فاعلة للنور و النور فعلها فالفعل إذن ينقسم إلى ما يكون بقصد و اختيار و إلى ما لا يكون كذلك بل يصدر عنه لأنّه ذات تفيض عنها ذلك الشي‏ء. ثمّ إن كان عالما بفيضان الشي‏ء عنه سميّت تلك الإفاضة جودا و الفاعل بذلك الاعتبار جوادا و إن لم يكن عالما به تسمّى تلك الإفاضة طبعا و تولّدا كفيضان النور عن الشمس فالفاعل إمّا أن يفعل بالقصد و الغرض أو بالجود المحض أو بالطبع المحض، و البارى تعالى لا يجوز أن يفعل لغرض لأنّ الغرض و القصد إن كان أولى به لذاته كانت ذاته مستكملة بتلك الأوليّة ناقصة بعدمها هذا محال، و إن لم تكن أولى به كان ترجيحا من غير مرجّح. ثمّ لا يجوز أن يكون أولى بالنظر إلى العبد لأنّ تلك الأوليّة و عدمها إن كانا بالنسبة إليه على سواء فلا ترجيح أولا على سواء فيعود حديث النقصان و الكمال فكان تعالى منزّها عن الفعل بهذا الوجه بل إنّما يصدر منه على وجه الإبداع بجوده المحض. و في هذه المسألة بحث طويل ليس هذا موضعه، و أمّا وصفه بأن ينفعل فلأنّ الانفعال يستلزم التغيّر في ذاته المستلزم للإمكان و قد تنزّه قدسه عنه.
الثالث و الأربعون: و لا بالغيريّة و الأبعاض
أى ليس له أبعاض يغاير بعضها بعضا لأنّ ذلك مستلزم للتجزئة و التركيب الممتنعين عليه و امتناع اللازم يستلزم امتناع الملزوم.
الرابع و الأربعون: و لا يقال له حدّ و لا نهاية
لأنّ الحدود و النهايات من عوارض الأجسام ذوات الأوضاع و لواحقها. على ما سبق.

الخامس و الأربعون: و كذلك و لا انقطاع و لا غاية
أى لا انقطاع لوجوده و لا غاية له، و ذلك لأنّ الانقطاع عند الغايات من لواحق الامور الزمانيّة المحدثة الكاينة الفاسدة، و قد بيّنا امتناع كونه تعالى زمانيّا و كونه ماديّا، و لأنّه تعالى واجب الوجود فيستحيل أن يلحقه العدم أو يتناهى وجوده و ينقطع عند غاية.
السادس و الأربعون. و لا أنّ الأشياء تحويه فتقلّه أو تهويه
روي ما بعد الفاء منصوبا و عليه نسخه الرضى- رحمه اللّه- و ذلك بإضمار أن عقيبها في جواب النفى، و روي مرفوعا على العطف. و المعنى أنّه ليس بذى مكان يحويه فيرتفع بارتفاعه و ينخفض بانخفاضه لما أنّ ذلك من لواحق الجسميّة، و كذلك أو أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدله.
السابع و الأربعون: ليس في الأشياء بوالج و لا عنها بخارج
لأنّ الدخول و الخروج من لواحق الأجسام أيضا فما ليس بجسم و لا جسمانىّ فهما مسلوبان عنه سلبا مطلقا لا السلب المقابل للملكة.
الثامن و الأربعون: كونه يخبر بلا لسان و لهوات
لأنّ اللسان و اللهوات من لواحق الأجسام الحيوانيّة المنزّه قدسه عنها، و السلب هاهنا كالّذي قبله. و الأخبار هو النوع الأكثر من الكلام و لذلك خصّه هنا بالذكر، و زعمت الأشعريّة أنّ الخبر هو أصل الكلام كلّه و إليه يرجع أنواعه كالأمر و النهى و الاستفهام و التمنّى و الترجىّ و غيرها. ثمّ اختلف المتكلّمون في حقيقة الكلام فاتّفقت المعتزلة على أنّه المركّب من الحرف و الصوت، و جمهور الأشعريّة على أنّ وراء الكلام اللسانىّ معنى قائم بالنفس يعبّر عنه بالكلام النفسانىّ و لفظ الكلام حقيقة فيه و في اللسانىّ مجاز، و منهم من جعله حقيقة في اللسانىّ مجاز في النفسانىّ، و منهم من جعله مشتركا فيهما فكون اللّه تعالى متكلّما يعود إلى خلقه الكلام في جسم الشي‏ء عند المعتزلة، و عند الأشعريّة أنّه معنى قائم بذاته و

هذه الأصوات و الحروف المسموعة دلالات عليه. و سيفسّر عليه السّلام معنى‏

شرح‏نهج‏البلاغة(ابن‏ميثم)، ج 4 ، صفحه‏ى 170
كلامه تعالى.
التاسع و الأربعون: يسمع بلا خروق و أدوات
أى ليس سمعه بأداة هى الاذن و الصماخات كما يسمع الإنسان لتنزّهه تعالى عن الآلات الجسمانيّة، و قد كان هذا البرهان كافيا في منع إطلاق السميع عليه تعالى لكن لمّا ورد الإذن الشرعىّ بإطلاقه عليه و لم يمكن حمله على ظاهره و حقيقته وجب صرفه إلى مجازه و هو العلم بالمسموعات إطلاقا لاسم السبب على المسبّب. إذ كان السمع من أسباب العلم فإذن كونه تعالى سميعا يعود إلى علمه بالمسموعات.
الخمسون: يقول و لا يلفظ
و إطلاق لفظ القول عليه كإطلاق الكلام.
و أمّا التلفّظ فلمّا كان عبارة عن إخراج الحرف من آلة النطق و هى اللسان و الشفه لا جرم لم يصدق في حقّه لعدم الآلة هنالك و كان الشارع لم يأذن في إطلاقه عليه تعالى لما أنّ دلالته على الآلة المذكورة أقوى من الكلام و القول.
الحادى و الخمسون: كونه يحفظ و لا يتحفّظ.
و حفظه يعود إلى علمه بالأشياء، و لمّا كان المعروف من العادة أنّ الحفظ يكون بسبب التحفّظ و كان ذلك في حقّه تعالى محالا لاستلزامه الآلات الجسمانيّة لا جرم احترز عنه. و قال بعض الشارحين: إنّما يريد بالحفظ أنّه يحفظ عباده و يحرسهم و لا يتحفّظ منهم: أى لا يحتاج إلى حراسة نفسه منهم. و هذا بعيد الإرادة هنا.
الثاني و الخمسون: يريد و لا يضمر
فإرادته تعالى تعود إلى اعتبار كونه تعالى عالما بما في الفعل من الحكمة و المصلحة الّذي هو مبدء فعله، و لا فرق في حقّه تعالى بين الإرادة و الداعى، و لمّا كان المتعارف من الإرادة أنّها ميل القلب نحو ما يتصوّر كونه نافعا و لذيذا و ذلك الميل من المضمرات المستكنّة في القلب لا جرم كان إطلاق الإرادة في حقّه يستلزم تصوّر الإضمار و لمّا تنزّه سبحانه عن الإضمار لا جرم احترز عنه في إطلاق المريد عليه تعالى فكان ذلك الاحتراز كالقرينة الصارفة للّفظ عن حقيقته إلى مجازه و هو الاعتبار المذكور.
الثالث و الخمسون: كونه يحبّ و يرضى من غير رقّة
فالمحبّة منه تعالى‏

شرح‏نهج‏البلاغة(ابن‏ميثم)، ج 4 ، صفحه‏ى 171
إرادة هى مبدء فعل ما فمحبّته للعبد إرادته لثوابه و تكميله و ما هو خير له، و أمّا من العبد فهى إرادة تقوى و تضعف بحسب تصوّر المنفعة و اللذّة و اعتقاد كمالها و نقصانها، و محبّته للّه هى إرادة طاعته، و أمّا الرضا فقريب من المحبّة و يشبه أن يكون أعمّ منها لأنّ كلّ محبّ راض عمّا أحبّه و لا ينعكس. فرضاه تعالى عن العبد يعود إلى علمه تعالى بموافقته لأمره و طاعته له، و المفهوم منه في حقّ العبد هو سكون نفسه بالنسبة إلى موافقة و ملايمة عند تصوّر كونه موافقا و ملايما، و لمّا كان الرضا و المحبّة من الإنسان لغيره يستلزم الرقّة القلبيّة له و الانفعال النفسانىّ عن تصوّر المعنى الّذي لأجله حصلت المحبّة و الميل إليه و الداعى إلى الرضا عنه و كان البارى سبحانه منزّها عن الرقّة و الانفعال لتنزّهه عن قوابلها لا جرم احترز بقوله: من غير رقّة.
الرابع و الخمسون: و يبغض و يغضب من غير مشقّة
فالبغض منه تعالى للعبد يضادّ محبّته له و يعود إلى كراهته لثوابه، و كراهته يعود إلى علمه بعدم استحقاقه للثواب و أنّه لا مصلحة في ثوابه و يلزمها إرادة إهانته و تعذيبه، و البغض من العبد هو كراهته للغير و ميل نفسه عنه لتصوّر كونه مضرّا و مولما و يلزم ذلك النفرة الطبعيّة منه و ثوران القوّة الغضبيّة عليه و إرادة إهانته. و أمّا الغضب فيعود من اللّه تعالى إلى علمه بمخالفة أوامره و عدم طاعته له، و المفهوم منه في حقّ العبد ثوران النفس و حركة قوّتها الغضبيّة عن تصوّر المؤذى و الضارّ لإرادة مقاومته و رفعه. و لمّا كان البغض و الغضب يستلزمان ثوران دم القلب و كان ذى النفس يستلزم مشقّة و كلفة لا جرم احترز عنها في إطلاق لفظ البغض و الغضب عليه فقال: من غير مشقّة. و اعلم أنّ إطلاق لفظ المحبّة و الرضا على ما ذكرناه من الاعتبارات في حقّه مجاز. إذ كانت حقيقة الرضا هى سكون النفس الإنسانيّة و المحبّة ميلها إلى النافع فإطلاقهما على العلم إطلاق لاسم اللازم على الملزوم، و كذلك إطلاق لفظى البغض و الغضب في حقّه تعالى على علمه المخصوص.
الخامس و الخمسون: يقول لما أراد كونه كن فيكون
فإرادته لكونه هو

شرح‏نهج‏البلاغة(ابن‏ميثم)، ج 4 ، صفحه‏ى 172
عمله بما في وجوده من الحكمة، و قوله: كن. إشارة إلى حكم قدرته الأزليّة عليه بالايجاد و وجوب الصدور عن تمام مؤثريّته، و قوله: فيكون. إشارة إلى وجوده. و دلّ على اللزوم و عدم التأخّر و التراخى بالفاء المقتضية للتعقيب بلا مهلة.
السادس و الخمسون: لا بصوت يقرع
أى ليس بذى حاسّة للسمع فيقرعها الصوت، و ذلك أنّ الصوت كيفيّة يحدث في الهواء عن قلع أو قرع وقوعه لما يصل إليه من الصماخ أو جسم آخر هو وقع عليه بشدّة و عنف، و ذلك حال تعرض الأجسام فلو كان له تعالى آلة سمع لكان جسما لكن التالى باطل فالمقدّم كذلك.
السابع و الخمسون: و لا بنداء يسمع
أى لمّا بيّن في القرينة الاولى أنّه لا سمع له يقرع بصوت بيّن في الثانية أنّه لا يخرج منه الصوت لأنّ النداء صوت مخصوص و الصوت مستلزم المصوّت و هو جسم لما مرّ من استلزام الصوت القرع أو القلع المستلزمين الجسميّة. و قوله: و إنّما كلامه تعالى. إلى قوله: كاينا. فاعلم أنّ هذا الكلام ممّا استفادت المعتزلة منه كون كلامه تعالى محدثا، و فيه تصريح بغير ما ذهبوا إليه. فمعنى قوله: فعل منه أنشأه: أى أوجده في لسان النبىّ. فأمّا قوله: و مثله. فأراد صوّره في لسان النبىّ و سوّى مثاله في ذهنه. و قال بعض الشارحين: مثله لجبرئيل في اللوح المحفوظ حتّى بلّغه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ساير الرسل عليهم السّلام و دلّ بقوله: لم يكن من قبل ذلك كائنا. على أنّه محدث مسبوق الوجود بالعدم، و أشار بقوله: و لو كان. إلى قوله: ثانيا، إلى برهان حدوثه و هو قياس استثنائىّ و تقريره: لو كان كلامه تعالى قديما لكان كلامه إلها ثانيا لكن التالى باطل فالمقدّم كذلك. فأمّا بيان الملازمة فلأنّه لو كان قديما لكان إمّا واجب الوجود و إمّا ممكن الوجود. و التالى باطل لأنّه لو كان ممكنا مع أنّه موجود في الأزل لكان وجوده مفتقرا إلى مؤثّر فذلك المؤثّر إن كان غير ذاته فهو محال لوجهين:

شرح‏نهج‏البلاغة(ابن‏ميثم)، ج 4 ، صفحه‏ى 173
أحدهما: أنّه يلزم افتقاره تعالى في تحصيل صفته إلى غيره فهو محال. الثاني: انّه يلزم أن يكون في الأزل مع اللّه غيره يكون مستندا إليه في حصول تلك الصفة فيكون إلها ثانيا بل هو أولى بالإلهيّة هذا محال. و إن كان المؤثّر في كلامه ذاته فهو محال أيضا لأنّ المؤثّر واجب التقدّم بالوجود على الأثر فالكلام إمّا أن يكون من صفات كماله أولا يكون فإن كان الأوّل فتأثيره فيه إن كان- و كلّ كمال له حاصلا له بالفعل- فقد كان وصف الكلام حاصلا له قبل أن كان حاصلا هذا خلف. و إن كان تأثيره في حال ما هو خال عن صفة الكلام فقد كان خاليا عن صفة كماله فكان ناقصا بذاته و هذا محال، و أمّا إن لم يكن الكلام من صفات كماله كان إثباته له في الأزل إثباتا لصفة زائدة على الكمال و الزيادة على الكمال نقصان. فتعيّن أنّه لو كان قديما لكان واجب الوجود لذاته فكان إلها ثانيا، و أمّا بطلان التالى فلمّا بيّنا من كونه تعالى واحدا. فثبت بهذا الدليل الواضح أنّه لا يجوز أن يكون كلامه قديما.
الثامن و الخمسون: لا يقال. إلى قوله: لم يكن.
إشارة إلى أنّه ليس بمحدث لأنّ كون الشي‏ء بعد أن لم يكن هو معنى حدوثه. و قوله: فتجرى عليه الصفات المحدثات. فالفاء في جواب النفى لتقدير الشرط: أى لو صدق عليه أنّه محدث للحقته الصفات المحدثة و إلّا لكانت صفاته قديمة فكان الموصوف بها قديما. هذا خلف. و التقدير لكن لحوق الصفات المحدثه له باطل فكونه محدثا باطل، و أشار إلى بطلان التالى بقوله: و لا يكون بينها و بينه فصل. إلى قوله: و البديع. و التقدير أنّه لو لحقته الصفات المحدثات و جرت عليه على تقدير كونه محدثا لكانت ذاته مساوية لها في الحدوث المستلزم للإمكان المستلزم للحاجة إلى الصانع فلم يكن بينها و بينه فصل في ذلك، و لاله عليها فضل لاشتراكه معها في الحاجة. و قوله: فيستوى. إلى قوله: المبتدع. إشارة إلى ما يلزم تلك المساواة من المحال. إذ كان استواء الصانع و مصنوعه‏

شرح‏نهج‏البلاغة(ابن‏ميثم)، ج 4 ، صفحه‏ى 174
ظاهر الفساد. و أصل البديع من الفعل ما لم يسبق فاعله إلى مثله، و سمّى الفعل الحسن بديعا لمشابهته ما لم يسبق إليه في كونه محلّ التعجب منه، و المبدع هو فاعل البديع، و المصدر الإبداع. و قد عرفت معناه فيما قبل. و في نسخه الرضى المبدع بفتح الدال، و هو البديع بالمعنى الّذي ذكرناه، و يكون مراده بالبديع الصانع و هو فعيل بمعنى فاعل كقوله تعالى بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ«» و إذا ثبت أنّه لا يجرى عليه الامور المحدثة و لواحق الحدوث من سبق العدم و التغيّر و الإمكان و الحاجة إلى المؤثّر و غير ذلك و إلّا يلزم المحال المذكور أوّلا. و النسخة الاولى بخط الرضىّ- رضى اللّه عنه- .
التاسع و الخمسون: كونه تعالى خلق الخلق. إلى قوله: غيره،
و قد سبق بيانه في الخطبة الاولى، و هو تنزيه له عن صفات الصانعين من البشر فإنّ صنايعهم تحذو حذو أمثلة سبقت من غيرهم أو حصلت في أذهانهم.
الستّون: كونه لم يستعن على خلق ما خلق بأحد من خلقه
و إلّا لكان ناقصا بذاته مفتقرا إلى ما كان هو مفتقرا إليه و هو محال.
الحادى و الستّون: كونه أنشأ الأرض فأمسكها
أى أوجدها فقامت في حيّزها بمساك قدرته، و لمّا كان شأن من تمسك شيئا و يحفظه من ساير الفاعلين لا يخلو عن كلفة و مشقّة في حفظه و اشتغال بحفظه عن غيره من الأفعال نزّه حفظه تعالى لها عمّا يلزم حفظ غيره لما يحفظه من تلك الكلفة و الاشتغال بحفظها.
الثاني و الستّون: كونه أرساها
أى أثبتها في حيّزها على غير قرار اعتمدت عليه فأمسكها، و كذلك رفعه لها بغير دعائم، بل بحسب قدرته التامّة.
الثالث و الستّون: كونه حصّنها من الأود و الاعوجاج
أى من الميل إلى أحد جوانب العالم عن المركز الحقيقىّ و ذلك ممّا ثبت في موضعه من الحكمة.
الرابع و الستّون: كونه منعها عن التهافت و الانفراج
أى جعلها كرة واحدة ثابتة في حيّزها، و منعها أن يتساقط قطعا أو ينفرج بعضها عن بعض.

شرح‏نهج‏البلاغة(ابن‏ميثم)، ج 4 ، صفحه‏ى 175
الخامس و الستّون: كونه أرسى أوتادها
أى أنبتها فيها. و أوتادها: جبالها.
و قد بيّنا في الخطبة الاولى معنى كونها أوتادا لها.
السادس و الستّون. كونه ضرب أسدادها
و أراد بأسدادها ما أحاط بها من الجبال أو الّتي يحجز بين بقاعها و بلادها.
السابع و الستّون: كونه استفاض عيونها.
و استفاض بمعنى أفاض كما قال تعالى وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً«» و قد سبقت الإشارة إلى ذلك.
الثامن و الستّون: كونه خدّ أوديتها
أى شقّها و بيّن جبالها و تلالها. و قوله: فلم يهن ما بناه و لا ضعف ما قوّاه. بعد تعديد ما عدّد من الآثار العظيمة إشارة إلى كمال هذه المخلوقات و قوّتها ليبيّن عظمة اللّه سبحانه بالقياس إليها.
التاسع و الستّون: كونه هو الظاهر عليها سلطانه و عظمته
فأشار بقوله: هو. إلى هويّته الّتي هى محض الوجود الحقّ الواجب، و لمّا لم يكن تعريف تلك الهويّة إلّا بالاعتبارات الخارجة عنها أشار إلى تعريفها بكونه ظاهرا عليها: أى غالبا قاهرا لها، و لمّا كان الظهور يحتمل الظهور الحسّيّ لا جرم قيّده بسلطانه و عظمته. إذ كان ظهوره عليها ليس ظهورا مكانيّا حسّيا بل بمجرّد ملكه و استيلاء قدرته و عظمة سلطانه.
السبعون: قوله: و هو الباطن لها
أى الداخل في بواطنها بعلمه، و لمّا كان البطون يحتمل الحسّىّ قيّده بعلمه تنزيها له عن سوء الأفهام و أحكام الأوهام. و الضمائر في قوله: عليها و لها يعود إلى الأرض و ما فيها ممّا بناه و سوّاه.
الحادى و السبعون: كونه عاليا على كلّ شي‏ء
أى من الأرض و ساير مخلوقاته بها بجلاله و عزّته: فجلاله و عزّته بالنسبه إليها هو اعتبار كونه تعالى منزّها عن كلّ مالها من الصفات المحدثة و الكمالات المستفادة من الغير المستلزمة للنقصان الذاتىّ، و لمّا كانت هذه الاعتبارات الّتي تنزّه عنها في حضيض النقصان‏

شرح‏نهج‏البلاغة(ابن‏ميثم)، ج 4 ، صفحه‏ى 176
كان هو باعتبار تنزيهه عنها في أوج الكمال الأعلى فكان عاليا عليها بذلك الاعتبار و لأنّه تعالى خالقها و موجدها فعلوّه عليها بجلال سلطان، و عزّته عن خضوع الحاجة و ذلّتها.
الثاني و السبعون: كونه لا يعجزه شي‏ء منها طلبه. إلى قوله: فيسبقه،
و ذلك لكونه تعالى واجب الوجود تامّ العلم و القدرة لا نقصان فيه باعتبار، و كون كلّ ما عداه مفتقرا في وجوده و جميع أحوال وجوده إليه فلا جرم لم يتصوّر أن يعجزه شي‏ء طلبه أو يمتنع عليه شي‏ء بقوّة فيغلبه، أو يفوته سريع بحركته فيسبقه لما يستلزمه ذلك العجز عن الحاجة و الإمكان الممتنعين عليه.
الثالث و السبعون: و كذلك كونه لا يحتاج إلى ذى المال فيرزقه
لما يستلزمه الحاجة من الإمكان. و كلّ ذلك نفى الأحوال البشريّة عنه.
الرابع و السبعون: قوله: خضعت له الأشياء. إلى قوله. لعظمته
فخضوعها و ذلّها يعود إلى دخولها في ذلّ الإمكان تحت سلطانه و انقيادها في اسر الحاجة إلى كمال قدرته، و بذلك الاعتبار لم يستطع الهرب من سلطانه للزوم الحاجة لذواتها إليه و استناد كمالاتها إلى وجوده. فهو النافع لها بإفاضة كمالاتها و الضارّ لها بمنع ذلك. فإن قلت: إنّ النفع لا يهرب منه و لا يمتنع فكيف ذكره هنا.
قلت: المراد منه سلب قدرته عليها على تقدير امتناعها منه، و هذا كما تقول لمن عجز عنك: إنّ فلانا لا يقدر على نفع و لا ضرّ، و لأنّ النفع جاز أن يمتنع منه لأنفة و استغناء بالغير، و لا شي‏ء من الموجودات يمتنع من سلطانه و نفعه باستغناء عنه و أنفة و نحوها.
الخامس و السبعون: كونه لا كف‏ء له يكافيه
أى ليس له مثل فيقابله و يفعل بإزاء فعله، و قد علمت تنزيهه تعالى عن المثل، و كذلك لا نظير له فيساويه.
السادس و السبعون: هو المفنى لها. إلى قوله: كمفقودها
عرّف هويّته باعتبار كونه معدما للأشياء بعد وجودها، و قد ورد في القرآن الكريم إشارات‏

شرح‏نهج‏البلاغة(ابن‏ميثم)، ج 4 ، صفحه‏ى 177
إلى ذلك كقوله تعالى يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ«» و معلوم أنّ الإعادة إنّما تكون بعد العدم، و قوله إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ«» و أمثالها. و قد أجمعت الأنبياء على ذلك، و علم التصريح من دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بانّه سيكون، و هو الّذي عليه جمهور المتكلّمين و الخلاف في جواز خراب العالم مع الحكماء فإنّهم اتّفقوا على أنّ الأجرام العلويّة و العقول و النفوس الملكيّة، و كذلك هيولى العالم العنصرىّ و أجرام العناصر، و ما ثبت قدمه امتنع عدمه لا لذاته بل لدوام علّة وجوده، و ما عدا ذلك فهو حادث و ليس كلّه ممّا يعاد بالاتّفاق، بل الخلاف في المعاد الإنساني البدنى فأنكره بعضهم. و الإسلاميّون منهم قالوا: ليس للعقل في الحكم بوجوده أولا وجوده محال، بل إنّما يعلم بالسمع. هذا مع اتّفاقهم على القول بامتناع إعادة المعدوم. فإن أمكن الجمع بين القول بجواز المعاد الجسمانىّ مع القول بامتناع إعادة المعدوم فليكن على ما ذهب إليه أبو الحسين البصرىّ من المعتزلة و هو قوله: إنّ الأجزاء يتشذّب و يتفرّق بحيث يخرج عن حدّ الانتفاع بها و لا تدخل في العدم الصرف. لكن في ذلك نظر لأنّ بدن زيد مثلا ليس عبارة عن تلك الأجزاء المتشذّبة و المتفرّقة فقط فإنّ القول بذلك مكابرة للعقل بل عنها مع سائر الأعراض و التأليفات المخصوصة و الأوضاع فإذا شذب البدن و تفرّق فلا بدّ أن يعدم تلك الأعراض و تفنى و حينئذ يلزم فناء البدن من حيث هو ذلك البدن فعند الإعادة إن اعيد بعينه وجب إعادة تلك الأعراض بعينها فلزمت إعادة المعدوم، و إن لم يعد بعينه عاد غيره فيكون الثواب و العقاب على غيره و ذلك مكذّب للقرآن الكريم في قوله قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا«» اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ الإنسان المثاب و المعاقب إنّما هو النفس الناطقة و هذا البدن كالآلة فإذا عدم لم يلزم عوده بعينه بل جاز عود مثله. لكن هذا إنّما يستقيم على مذهب الحكماء القائلين بالنفس الناطقة، و أمّا على رأى أبى الحسين البصرىّ‏

شرح‏نهج‏البلاغة(ابن‏ميثم)، ج 4 ، صفحه‏ى 178
فلا، و مذهب أكثر المحقّقين من علماء الإسلام يؤول إلى هذا القول.
و قوله: و ليس فناء الدنيا. إلى قوله: اختراعها.
و قوله: و ليس فناء الدنيا. إلى قوله: اختراعها. رفع لما يعرض لبعض الأذهان من التعجّب بفناء هذا العالم بعد ابتداعه و خلقه بالتنبيه على حال إنشائه و اختراعه: أى ليس صيرورة ما خلق إلى العدم بقدرته بعد الوجود بأعجب من صيرورته إلى الوجود بعد العدم عنها. إذ كانت كلّها ممكنة قابلة للوجود و العدم لذواتها، بل صيرورتها إلى الوجود المشتمل على أعاجيب الخلقة و أسرار الحكمة الّتي لا يهتدي لها و لا يقدر على شي‏ء منها أعجب و أغرب من عدمها الّذي لا كلفة فيه.
و قوله: و كيف لو اجتمع. إلى قوله: إفنائها.
و قوله: و كيف لو اجتمع. إلى قوله: إفنائها. تأكيد لنفى كون عدمها بعد وجودها أعجب من إيجادها بالتنبيه على عظم مخلوقاته تعالى و مكوّناته و ما اشتملت عليه من أسرار الحكمة المنسوبة إلى قدرته.
و المعنى و كيف يكون عدمها أعجب و في إيجاده أضعف حيوان و أصغره ممّا خلق كالبعوضة من العجائب و الغرائب و الإعجاز ما يعجز عن تكوينه و إحداثه قدرة كلّ من تنسب إليه القدرة، و تقصر عن معرفة الطريق إلى إيجادها ألباب الألبّاء، و يتحيّر في كيفيّة خلقها حكمة الحكماء، و يقف دون علم ذلك و يتناهى عقول العقلاء، و ترجع خاسئة حسيرة مقهورة معترفة بالعجز عن الاطّلاع على كنه صنعه في إنشائها مقرّة بالضعف عن إفنائها. فإن قلت: كيف تقرّ العقول بالضعف عن إفناء البعوضة مع إمكان ذلك و سهولته.
قلت: إنّ العبد إذا نظر إلى نفسه بالنسبة إلى قدرة الصانع الأوّل- جلّت عظمته- وجد نفسه عاجزة عن كلّ شي‏ء إلّا بإذن إلهىّ، و أنّه ليس له إلّا الإعداد لحدوث ما ينسب إليه من الآثار. فأمّا نفس وجود الأثر فمن واهب العقل- عزّ سلطانه- فالعبد العاقل لما قلناه يعترف بالضعف عن إيجاد البعوضة و إعدامها، و ما هو أيسر من ذلك عند مقايسة نفسه إلى موجده و واهب كماله كما عرفت ذلك في‏

شرح‏نهج‏البلاغة(ابن‏ميثم)، ج 4 ، صفحه‏ى 179
موضعه، و أيضا فإنّ اللّه سبحانه كما خلق للعبد قدرة على الفعل و الترك و الإيذاء و الإضرار بغيره كذلك خلق للبعوضة قدرة على الامتناع و الهرب من ضرره بالطيران و غيره بل أن تؤذيه و لا يتمكّن من دفعها عن نفسه فكيف يستسهل العاقل إفناها من غير معونة صانعها له عليه.
و قوله: و إنّه سبحانه يعود. إلى قوله: الامور.
و قوله: و إنّه سبحانه يعود. إلى قوله: الامور. إشارة إلى كونه تعالى باقيا أبدا فيبقى بعد فناء الأشياء وحده لا شي‏ء معه منها كما كان قبل وجوده كذلك بريئا عن لحوق الوقت و المكان و الحيّز و الزمان.
و قوله: يعود بعد.
و قوله: يعود بعد. إشعار بتغيّر من حالة سبقت إلى حالة لحقت، و هما يعودان إلى ما يعتبره أذهاننا له من حالة تقدّمه على وجودها و حالة تأخّره عنها بعد عدمها، و هما اعتباران ذهنيّان يلحقانه بالقياس إلى مخلوقاته.
و قوله: عدمت عند ذلك. إلى قوله: الساعات.
و قوله: عدمت عند ذلك. إلى قوله: الساعات. ظاهر لأنّ كلّ ذلك أجزاء للزمان الّذي هو من لواحق الحركة الّتي هى من لواحق الجسم فيلزم من عدم الأجسام عدم عوارضه.
و قوله: فلا شي‏ء. إلى قوله: الامور.
و قوله: فلا شي‏ء. إلى قوله: الامور. أى لا شي‏ء يبقى بعد فناء العالم إلّا هو، و ذكر الواحد لبقائه كذلك، و القهّار باعتبار كونه قاهرا لها بالعدم و الفناء، و كونه إليه مصير جميع الامور فمعنى مصيرها إليه أخذه لها بعد هبته لوجودها.
و قوله: بلا قدرة. إلى قوله: فناؤها.
و قوله: بلا قدرة. إلى قوله: فناؤها. إشارة إلى أنّه لا قدرة لشي‏ء منها على إيجاده نفسه، و لا على الامتناع من لحوق الفناء له.
و قوله: و لو قدرت. إلى قوله: بقائها.
و قوله: و لو قدرت. إلى قوله: بقائها. استدلال بقياس شرطىّ متّصل على عدم قدرة شي‏ء منها على الامتناع من‏ الفناء، و إنّما خصّ الحكم بالاستدلال دون الأوّل لكون الأوّل ضروريّا. و بيان الملازمة أنّ الفناء مهروب منه لكلّ موجود فإمكان الامتناع منه مستلزم للداعى إلى الامتناع المستلزم للامتناع منه المستلزم للبقاء، و أمّا بطلان التالى فلمّا ثبت أنّه تعالى يفنيها فلزم أن لا يكون لها قدرة على الامتناع.
و قوله: لم يتكاءده. إلى قوله: خلفه.
و قوله: لم يتكاءده. إلى قوله: خلفه. ظاهر لأنّ المشقّة في الفعل و ثقله إنّما يعرض لذى القدرة الضعيفة من الحيوان لنقصانها. و قدرته تعالى بريّة عن أنحاء النقصان لاستلزامه الإمكان و الحاجة إلى الغير.
و قوله: و لم يكوّنها. إلى آخره.
و قوله: و لم يكوّنها. إلى آخره. إشارة إلى تعديد وجوه الأعراض المتعارفة للفاعلين في إيجاد ما يوجدونه و إعدامه. و نفى تلك الأعراض عن فعله في إيجاده ما أوجده و إعدامه ما أعدمه من الأشياء: أمّا الأعراض المتعلّقة بالإيجاد فهو إمّا جلب منفعة كتشديد السلطان و جمع الأموال و القينات و تكثير الجند و العدّة و الازدياد في الملك بأخذ الحصون و القلاع و مكابرة الشريك في الملك كما يكابر الإنسان غيره ممّن يشاركه في الأموال و الأولاد أو رفع مضرّة كالتخوّف من العدم و الزوال فخلقها ليتحصّن بها من ذلك أو خوف النقصان فخلقها ليستكمل بها أو خوف الضعف عن مثل تكاثره فخلقها ليستعين بهما عليه أو خوف ضدّ يقاومه فأوجدها ليختزل منه و يدفع مضرّته أو لوحشة كانت له قبل إيجادها فأوجد ليدفع ضرر استيحاشه بالانس بها، و كذلك الأغراض المتعلّقة بعدمها: إمّا إلى دفع المضرّة كرفع السأم اللاحق له من تصريفها و تدبيرها و الثقل في شي‏ء منها عليه و الملال من طول بقائها فيدعوه ذلك إلى إفنائها، أو جلب المنفعة كالراحة الواصلة إليه. فإنّ جلب المنفعة و دفع المضرّة من لواحق الإمكان الّذي تنزّه قدسه عنه.
و قوله: لكنّه سبحانه. إلى قوله: لقدرته.
و قوله: لكنّه سبحانه. إلى قوله: لقدرته. فتدبيرها بلطفه إشارة إلى إيجاده لها على وجه الحكمه و النظام الأتمّ‏ الأكمل الّذي ليس في الإمكان أن يكون جملتها على أتمّ منه و لا ألطف، و إمساكه لها بأمره قيامها في الوجود بحكم سلطانه، و إتقانها بقدرته إحكامها على وفق منفعتها و إن كان عن قدرته فعلى وفق علمه بوجوه الحكمة. كلّ ذلك بمحض الجود من غير غرض من الأغراض المذكورة تعود إليه.
و قوله: ثمّ يعيدها بعد الفناء.
و قوله: ثمّ يعيدها بعد الفناء. تصريح بإعادة الأشياء بعد فنائها. و فناؤها إمّا عدمها كما هو مذهب من جوّز إعادة المعدوم، أو تشذّبها و تفرّقها و خروجها عن حدّ الانتفاع بها كما هو مذهب أبي الحسين البصرىّ من المعتزلة.
و قوله: من غير حاجة. إلى آخره.
و قوله: من غير حاجة. إلى آخره. ذكر وجوه الأغراض الصالحة في الإعادة، و الإشارة إلى نفيها عنه تعالى، و هو أيضا كالحاجة إليها و الاستعانة ببعضها على بعض، أو لانصراف من حال وحشة إلى حال استيناس، أو انصراف من حال جهل و عمى فيه إلى حال علم و بصيرة، و كذلك من فقر و حاجة إلى غنى و كثرة و من ذلّ وضعة إلى عزّ و قدرة. و قد عرفت أنّ كلّ هذه الأغراض من باب دفع المضرّة المنزّه قدسه تعالى عنها، و قد بيّنا فيما سلف البرهان الإجمالىّ على تنزيهه تعالى في أفعاله من الأغراض بل إيجاده لما يوجد لمحض الجود الإلهىّ الّذي لا بخل فيه و لا منع من جهته. فهو الجواد المطلق و الملك المطلق الّذي يفيد ما ينبغي لا لغرض و يوجد ما يوجد لا لفائدة تعود إليه و لا غرض. و هو مذهب جمهور أهل السنّة و الفلاسفة، و الخلاف فيه مع المعتزلة.
فإن قلت: ظاهر كلامه عليه السّلام مشعر بأنّ الدنيا كما تفنى تعاد، و الّذي وردت به الشريعة، و فيه الخلاف بين جمهور المتكلّمين و الحكماء هو إعادة الأبدان البشريّة.
قلت: الضمير في قوله: تعيدها. سواء كان راجعا إلى الدنيا أو إلى الامور في قوله: مصير جميع الامور. فإنّه مهمل كما يرجع إلى الكلّ جاز أن يرجع إلى البعض و هى الأبدان البشريّة. قال بعضهم: إنّ للسالكين في هذا الكلام تأويلا عقليّا و إن جزموا بكون مراده عليه السّلام هو ما ذكرناه من الظاهر فإنّهم قالوا يحتمل أن يشار بقوله: و إنّه يعود سبحانه. إلى قوله: الامور. إلى حال العارف إذا حقّ له الوصول التامّ حتّى غاب عن نفسه فلحظ جناب الحقّ سبحانه بعد حذف كلّ قيد دنياوىّ أو اخروىّ عن درجة الاعتبار فإنّه صحّ كما يفنى هو عن كلّ شي‏ء كذلك يفنى عنه كلّ شي‏ء حتّى نفسه فلا يبقى بعد فنائها عنه إلّا وجه اللّه ذو الجلال و الإكرام فكما كانت الأشياء عند اعتبار ذواتها غير مستحقّة للوجود و لواحقه كذلك يكون عند حذفها عن درجة الاعتبار و ملاحظة جلال الواحد القهّار ليس إلّا هو.
و قوله: ثمّ يعيدها بعد الفناء.
و قوله: ثمّ يعيدها بعد الفناء. فدلّ عودها إلى اعتبار أذهان العارفين لها عند عوجهم من الجناب المقدّس إلى الجنبة السافلة و اشتغالهم بمصالح أبدانهم. و الكلّ منسوب إلى تصريف قدرته تعالى بحسب استعداد الأذهان لقبولها و حذفها. و قد علمت من بيانها لهذه الخطبة صدق كلام السيّد الرضى- رضى اللّه عنه- في مدحها حيث قال: و تجمع هذه الخطبة من اصول العلم ما لا تجمعه غيرها. فإنّها بالغة في علم التوحيد كاملة في علم التنزيه و التقديس لجلال الواحد الحقّ- جلّت عظمته- و باللّه التوفيق و العصمة.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 146

 

 

 

 

خطبه 227 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
القسم الأول
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الشَّوَاهِدُ- وَ لَا تَحْوِيهِ الْمَشَاهِدُ- وَ لَا تَرَاهُ النَّوَاظِرُ- وَ لَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ- الدَّالِّ عَلَى قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ- وَ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وُجُودِهِ- وَ بِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَهَ لَهُ- الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِهِ- وَ ارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ- وَ قَامَ بِالْقِسْطِ فِي خَلْقِهِ- وَ عَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِهِ- مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ- وَ بِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَلَى قُدْرَتِهِ- وَ بِمَا اضْطَرَّهَا إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ- وَاحِدٌ لَا بِعَدَدٍ وَ دَائِمٌ لَا بِأَمَدٍ وَ قَائِمٌ لَا بِعَمَدٍ- تَتَلَقَّاهُ الْأَذْهَانُ لَا بِمُشَاعَرَةٍ- وَ تَشْهَدُ لَهُ الْمَرَائِي لَا بِمُحَاضَرَةٍ- لَمْ تُحِطْ بِهِ الْأَوْهَامُ بَلْ تَجَلَّى لَهَا بِهَا- وَ بِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا وَ إِلَيْهَا حَاكَمَهَا- لَيْسَ بِذِي كِبَرٍ امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَايَاتُ فَكَبَّرَتْهُ تَجْسِيماً- وَ لَا بِذِي عِظَمٍ تَنَاهَتْ بِهِ الْغَايَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِيداً- بَلْ كَبُرَ شَأْناً وَ عَظُمَ سُلْطَاناً وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الصَّفِيُّ- وَ أَمِينُهُ الرَّضِيُّ ص أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ وَ ظُهُورِ الْفَلَجِ وَ إِيضَاحِ الْمَنْهَجِ- فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ صَادِعاً بِهَا- وَ حَمَلَ عَلَى الْمَحَجَّةِ دَالًّا عَلَيْهَا- وَ أَقَامَ أَعْلَامَ الِاهْتِدَاءِ وَ مَنَارَ الضِّيَاءِ- وَ جَعَلَ أَمْرَاسَ الْإِسْلَامِ مَتِينَةً- وَ عُرَى الْإِيمَانِ وَثِيقَةً

اللغة
أقول:

المشاهد: المحاضر و المجالس.

و المرائى: جمع مرآة بفتح الميم و هى المنظر يقال: فلان حسن في مرآة العين و في رأى العين: أى في المنظر.

و الفلج: الظفر و أصله بسكون اللام.

و الأمراس: جمع مرس بفتح الراء و هى جمع مرسة و هى الحبل.

المعنى
و قد حمد اللّه تعالى باعتبارات من التنزيه:
الأوّل: كونه لا تدركه الشواهد
و أراد الحواسّ، و سمّاها شواهد لكونها تشهد ما تدركه و تحضر معه، و قد علمت تنزيهه عن إدراك الحواسّ غير مرّة.
الثاني: و لا تحويه المشاهد
و قد علمت تنزيهه تعالى عن الأمكنة و الأحياز.
الثالث: و لا تراه النواظر
أى نواظر الأبصار، و إنّما خصّص البصر بالذكر بعد ذكر الشواهد لظهور تنزيهه تعالى عن ساير الحواسّ و وقوع الشبهة و قوّتها في أذهان كثير من الخلق في جواز إدراكه تعالى بهذه الحاسّة حتّى أنّ مذهب كثير من العوامّ أن تنزيهه تعالى عن ذلك ضلال بل كفر تعالى اللّه عمّا يقول العادلون.
الرابع: و لا تحجبه السواتر
و قد علمت أنّ السواتر الجسمانيّة إنّما تعرض للأجسام و عوارضها، و علمت تنزيهه تعالى عن ذلك.
الخامس: كونه دالّا على قدمه بحدوث خلقه
و اعلم أنّه عليه السّلام جعل حدوث خلقه هنا دالّا على الأمرين: أحدهما: قدمه تعالى. و الثاني: وجوده. و قد سبق تقرير ذلك في قوله عليه السّلام: الحمد للّه الدالّ على وجوده بخلقه و بحدوث خلقه على أزليّته. غير أنّه جعل هناك الدليل على الوجود هو نفس الخلق و جعله هنا هو الحدوث، و لمّا كان مجرّد الوجود للممكنات و خلقها يدلّ على وجود صانع لها فأولى أن يدلّ حدوثها عليه. و قدمه و أزليّته واحد.
السادس
و كذلك مرّ تقرير قوله: و باشتباههم على أن لا شبيه له. في الفصل المذكور.

السابع: الّذي صدق في ميعاده،
و صدقه تعالى يعود إلى مطابقة ما نطقت به كتبه على ألسنه رسله الصادقين عليهم السّلام للواقع في الوجود ممّا وعد به أمّا في الدنيا كما وعد به رسوله و المؤمنين بالنصر أو الاستخلاف في الأرض كقوله تعالى وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها«» الآية و قوله وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ«» و أمّا في الآخرة كما وعد عباده الصالحين بما أعدّ لهم في الجنّة من الثواب الجزيل، و الخلف في الوعد كذب و هو على اللّه سبحانه محال، و هو كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ«».
الثامن: و ارتفع عن ظلم عباده
و هو تنزيه له عن حال ملوك الأرض الّذين من شأنهم ظلم رعيّتهم إذا رأوا أنّ ذلك أولى بهم، و أنّ فيه منفعة ولدّة أو في تركه ضرر و تألّم، و كلّ ذلك من توابع الأمزجة و عوارض البشريّة المحتاج إلى تحصيل الكمال الحقيقى أو الوهمىّ. و جناب الحقّ تعالى منزّه عن ذلك.
التاسع: و قام بالقسط في خلقه
فقيامه بالقسط و هو العدل فيهم و إجراؤه لأحكامه في مخلوقاته على وفق الحكمة و النظام الأكمل و هو أمر ظاهر و كذلك عدله عليهم في حكمه.
العاشر: كونه يستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته.
و الاستشهاد الاستدلال، و كرّره هنا تأكيدا باختلاف العبارة.
الحادى عشر: و بما و سمها به من العجز عن قدرته.
العجز عبارة عن عدم القدرة عمّا من شأنه أن يقدر. إذ لا يقال مثلا للجدار: إنّه عاجز، و قد علمت أنّ كلّ موجود سواه فهو موصوف و موسوم بعدم القدرة على ما يختصّ به قدرته تعالى من الموجودات بل بعدم القدرة على شي‏ء أصلا. إذ كلّ موجود فهو منته في سلسلة الحاجة إليه و هو تعالى مبدء وجوده. و ساير ما يعدّ سببا له فإنّما هو واسطة معدّة كما علم تحقيقه في موضع آخر فإذن لا قدرة في الحقيقة إلّا له و منه. و وجه الاستدلال أنّه لو كان موسوما بالعجز عن شي‏ء لما كان مبدء له لكنّه مبدءلكلّ موجود فهو ثابت القدرة تامّها.
الثاني عشر: و بما اضطرّها إليه من الفناء دوامه.
و اضطراره لها إلى الفناء حكم قدرته القاهرة على ما استعدّ منها للعدم بإفاضة صورة العدم عليه حين استعداده لذلك على وفق قضائه تعالى بذلك، و هو المشار إليه بقوله تعالى وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ«» و وجه الاستدلال أنّه تعالى لو كان مضطرّا إلى الفناء كساير الأشياء لكان جايز الفناء فكان ممكنا لكن التالى باطل فهو واجب الوجود دائما.
الثالث عشر، كونه تعالى واحدا لا بعدد
أى أنّه ليس واحدا بمعنى أنّه مبدء لكثرة يكون عادّا لها و مكيالا، و قد سبق بيان ذلك، و بيان إطلاق وجه الوحدة عليه، و بأىّ معنى هو غير مرّة. فلا معنى لإعادته.
الرابع عشر: كونه دائما لا بأمد
و قد سبق أيضا بيان أنّ كونه دائما بمعنى أنّ وجوده مساوق لوجود الزمان. إذ كان تعالى هو موجد الزمان بعد مراتب من خلقه، و مساوقة الزمان لا يقتضى الكون في الزمان، و لمّا كان الأمد هو الغاية من الزمان و منتهى المدّة المضروبة لذى الزمان من زمانه، و ثبت أنّه تعالى ليس بذى زمان يعرض له الأمد ثبت أنّه دائم لا أمد له.
الخامس عشر: كونه قائما لا بعمد
أى بعمد ثابت الوجود من غير استناد إلى سبب يعتمد عليه و يقيمه في الوجود كساير الموجودات الممكنة، و ذلك هو معنى كونه واجب الوجود، و قد أشرنا إلى برهان ذلك في قوله: الحمد للّه الدالّ على وجوده بخلقه. و كثير من قرائن هذا الفصل موجود هناك.
السادس عشر: كونه تتلقّاه الأذهان لا بمشاعرة،
و تلقّى الأذهان له يعود إلى استقبالها و تقبّلها لما يمكنها أن يتصوّره به من صفاته السلبيّة و الإضافيّة، و كون ذلك لا بمشاعرة: أى ليس تلقّيها لتلك التصوّرات من طريق المشاعرة و هى الحواسّ، و لا على وجه شعورها بما يشعر به منها، بل تتلقّاها على وجه أعلى‏ و أشرف بتعقّل صرف برىّ عن علايق الموادّ مجرّد عن إدراك الحواسّ و توابع إدراكاتها من الوضع و الأين و المقدار و الكون و غير ذلك.
السابع عشر: كونه و تشهد له المرائى لا بمحاضرة.
إشارة إلى كون المرائى و النواظر طرقا للعقول إلى الشهادة بوجوده تعالى في آثار قدرته و لطايف صنعته و ما يدرك بحسّ البصر منها، و لوضوح العلم به تعالى و شهادة العقول بوجوده في المدركات بهذه الآلة صار كأنّه تعالى مشاهد مرئىّ فيها و إن لم تكن هذه الآلة محاضرة له و لا يتعلّق إدراكها به، و يحتمل أن يريد بالمرائى المرئيّات الّتي هى مجال أبصار الناظرين و مواقعها. و ذلك أنّ وجودها و ما اشتملت عليه من الحكمة شاهد بوجود الصانع سبحانه من غير حضور و محاضرة حسيّة كما عليه الصنّاع في صنايعهم من محاضرتها و مباشرتها.
الثامن عشر: كونه تعالى لم تحط به الأوهام.
لمّا كان تعالى غير مركّب لم يمكن الإحاطة به بعقل أو وهم البتّة، و الأوهام أولى بذلك. إذ كانت إنّما يتعلّق بالمعانى الجزئيّة المتعلّقة بالمحسوسات و الموادّ الجسمانيّة فيترتّب في تنزيهه تعالى عن إحاطة الأوهام به قياس هكذا: لا شي‏ء من مسمّى واجب الوجود بمدرك بمادّة و وضع. و كلّ مدرك للوهم فهو متعلّق بذى مادّة و وضع. ينتج لا شي‏ء ممّا هو واجب الوجود بمدرك للأوهام أصلا فضلا أن يحيط به و يطّلع على حقيقته.و قد مرّ ذلك مرارا.
التاسع عشر: كونه تعالى تجلّى لها
و لمّا ثبت أنّها لا تدرك إلّا ما كان معنى جزئيّا في محسوس فمعنى تجلّيه لها هو ظهوره لها في صورة وجود ساير مدركاتها من جهة من هو صانعها و موجدها. إذ كانت الأوهام عند اعتبارها لأحوال أنفسها من وجوداتها و عوارض وجوداتها و التغيّرات اللاحقة لها مشاهدة لحاجتها إلى موجد و مقيم و مغيّر و مساعدة للعقول على ذلك، و أنّ إدراكها لذلك في أنفسها على وجه جزئىّ مخالف لإدراك العقول، و كانت مشاهدة له بحسب ما طبعت عليه و بقدر إمكانها و هو متجلّى لها كذلك. و الباء في- بها- للسببيّة. إذ وجودها هو السبب المادىّ في تجلّيه لها، و يحتمل أن يكون بمعنى في: أى تجلّى لها في وجودها. و بل هنا للإضراب عمّا امتنع منها من الإحاطة به، و الإثبات لما أمكن و وجب في تجلّيه لها.
العشرون: و بها امتنع منها
أى لمّا خلقت قاصرة عن إدراك المعاني الكليّة و عن التعلّق بالمجرّدات كانت بذلك مبدء الامتناعه عن إدراكها له و إن كان لذلك الامتناع أسباب اخر اوليها: كونه بريئا عن أنحاء التراكيب، و يحتمل أن يريد بقوله: بها: أى أنّها لمّا خلقت على ذلك القصور و كان هو تعالى ممتنع الإدراك بالكنه اعترفت عند توجّهها إليه و طلبتها لمعرفته بالعجز عن إدراكه و أنّه ممتنع عنها فيها: أى باعترافها امتنع منها.
الحادى و العشرون: كونه إليها حاكمها
أى جعلها حكما بينها و بينه عند رجوعها من توجّهها في طلبه منجذبة خلف العقول حسرة معترفة بأنّه لا تنال بجود الاعتساف كنه معرفته، و لا يخطر ببال اولى الرويّات خاطر من تقدير جلاله مقرّة بحاجتها و استغنائه و نقصانها و كماله و مخلوقيّتها و خالقيّته. إلى غير ذلك بما لها من صفات المصنوعيّة، و له من صفات الصانعيّة موافقة للعقول في تلك الأحكام.
و استناد المحاكمة إليها مجاز لمناسبته ما ذكرناه، و قال بعض الشارحين: أراد بالأوهام هاهنا العقول، و ظاهر أنّها لا تحيط به لكونه غير مركّب محدود. و تجلّيه لها هو كشف ما يمكن أن يصل إليه العقول من صفاته الإضافيّة و السلبيّة. و قوله: و بها امتنع منها. أى بالعقول و نظرها علم أنّها لا تدركه. و قوله: إليها حاكمها: أى جعل العقول المدّعية أنّها أحاطت به و أدركته كالخصوم له سبحانه. ثمّ حاكمها إلى العقول السليمة الصحيحة. فحكمت له العقول السليمة على المدّعية لما ليست أهلا له. و ما ذكره هذا الفاضل محتمل إلّا أنّ إطلاق لفظ الأوهام على العقول إن صحّ فمجاز بغير قرينة و عدول عن الحقيقة من غير ضرورة، و قال غيره: أراد لم تحط به أهل الأوهام. فحذف المضاف‏ و عند تأمّل ما بيّناه يلوح أنّه هو مراده عليه السّلام أو قريب منه، و هذه الألفاظ اليسيرة من لطائف إشاراته عليه السّلام و إطلاقه على أسرار الحكمة.
الثاني و العشرون: كونه تعالى ليس بذى كبر. إلى قوله: تجسيما.
الكبير يقال لعظيم الحجم و المقدار، و يقال لعالى السنّ من الحيوان، و يقال لعظيم القدر و رفيعه. و مراده نفى الكبر عنه بالمعنى الأوّل. إذ من لوازم ذلك كون الكبر ممتدّا في الجهات الثلاث طولا و عرضا و عمقا فيحصل الكبير الجسمىّ، و قد تقدّس تعالى عن ذلك، و تقدّسه عن الكبر بالمعنى الثاني ظاهر. و تجسيما مصدر في موضع الحال: أى فكبّرته مجسّما له أو مجسّمة، و إنّما أسند الامتداد به إلى النهايات لأنّها غاية الطبيعة بالامتداد يقف عندها و ينتهى بها فكانت من الأسباب الغائية فلذلك أسند إليها، و كذلك إسناد التكبير إليها. إذ كان التكبير من لوازم الامتداد إليها.
الثالث و العشرون: و لا بذى عظم، إلى قوله: تجسيدا،
و العظيم يقال على الكبير بالمعنى الأوّل و الثالث دون الثاني، و مراده سلب العظيم عنه بالمعنى الأوّل لما مرّ، و إسناد التناهى إلى الغايات ظاهر. إذ كانت سببا لوقوفه و بها انقطع و إليها يبلغ، و كذلك إسناد التعظيم إليها كإسناد التكبير و إن أسند التناهى إليه بها جاز.
الرابع و العشرون:كونه كبر شأنا.
الخامس و العشرون: كونه عظم سلطانا.
لمّا سلب الكبر و العظم عنه بالمعنيين الأوّلين أشار إلى أنّ إطلاقهما عليه بالمعنى الثالث. و نصب شأنا و سلطانا على التميز. فهو الكبير شأنا إذ لا شأن أعلى من شأنه، و العظيم سلطانا إذ لا سلطان أرفع من سلطانه، و هو مبدء شأن كلّ ذى شأن، و منتهى سلطان كلّ ذى سلطان لا إله إلّا هو الكبير المتعال ذو الكبرياء و العظمة و الجلال. ثمّ أردف تمجيده تعالى بما هو أهله بالكلمة المتمّمة لكلمة الإخلاص و الشهادة الّتي هى مبدء لكمال القوّة العلميّة من النفوس البشريّة بعد كمال قوّتها النظريّة بالشهادة الاولى.

و ظاهر كونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صفيّا للّه و أمينا على وحيه و مرتضى لذلك. ثمّ أردف ذلك بالإشارة إلى كونه رسولا، و إلى وجوه ما ارسل به و هو وجوب الحجج، و أراد بها إمّا المعجزات أو ما هو أعمّ من ذلك و هو ما يكون حجّة للّه على خلقه في تكليفهم أن يقولوا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتّبع آياتك. و يدخل في ذلك دلائل الأحكام و طرق الدين التفصيليّة. و كونه ارسل بوجوبها: أى وجوب قبولها على الخلق و وجوب العمل على وفقها، و ظهور الفلج و هو الظهور على سائر الأديان و الظفر بأهلها و بالعادلين باللّه و الجاحدين له، و إيضاح المنهج و هى طريق اللّه و شريعته. و ظاهر كونه موضحا لها و مبيّنا، و إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ«» فالهدى هو إيضاح المنهج، و قوله: ليظهره على الدين كلّه إشارة إلى بعض غايات بعثته و هى المراد بظهور الفلج، و روى بضمّ الفاء و اللام و هو بضمّ الفاء و سكون اللام للفوز، و يجوز ضمّ اللام للشاعر و الخطيب.
و قوله: فبلّغ الرسالة. إلى آخره.
و قوله: فبلّغ الرسالة. إلى آخره. إشارة إلى أدائه الأمانة فيما حمّل من الوحى، و صدعه بالرسالة إظهارها و المجاهرة بها، و قد علمت أن أصل الصدع الشقّ فكأنّه شقّ بالمجاهرة بها عصا المشركين و فرّق ما اجتمع من شرّهم، و حمله على المحجّة- و هى طريق اللّه الواضحة و شريعته- دعوته إليها و جذبه للخلق إلى سلوكها بالحكمة و الموعظة الحسنة و المجادلة بالّتي هى أحسن. ثمّ بالسيف لمن لم تنفعه المجادلة. و أراد بأعلام الاهتداء أدلّته و هى المعجزات و قوانين الدين الكلّيّة، و كذلك منار الضياء و إقامته له إظهارها و إلقاؤها إلى الخلق، و لفظ المحجّة و الأعلام و المنار مستعارة كما سبق غير مرّة. و صادعا و دالّا نصب على الحال. و استعار لفظ الأمراس و العرى لما يتمسّك به من الدين و الإيمان، و رشّح بذكر المتانة و الوثاقة، و أشار بجعله كذلك إلى تثبيت قواعد الإسلام و غرسها في قلوب الخلق واضحة جليّة بحيث تكون عصمة للتمسّك بها في طلب النجاة من مخاوف الدارين، و سببا لا ينقطع دون الغاية القصوى. و باللّه‏ التوفيق.

القسم الثاني منها: فى صفة عجيب خلق أصناف من الحيوانات:
وَ لَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَ جَسِيمِ النِّعْمَةِ- لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ وَ خَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ- وَ لَكِنِ الْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ وَ الْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ- أَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ- وَ أَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ وَ فَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ- وَ سَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَ الْبَشَرَ- انْظُرُوا إِلَى النَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا وَ لَطَافَةِ هَيْئَتِهَا- لَا تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ وَ لَا بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ- كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا وَ صُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا- تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا وَ تُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا- تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا وَ فِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا- مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا- لَا يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ وَ لَا يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ- وَ لَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ وَ الْحَجَرِ الْجَامِسِ- وَ لَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا- فِي عُلْوِهَا وَ سُفْلِهَا- وَ مَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا- وَ مَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَ أُذُنِهَا- لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً وَ لَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً- فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا- وَ بَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا- لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ- وَ لَمْ‏ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ- وَ لَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ- مَا دَلَّتْكَ الدَّلَالَةُ إِلَّا عَلَى أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ- هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ- لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْ‏ءٍ- وَ غَامِضِ اخْتِلَافِ كُلِّ حَيٍّ- وَ مَا الْجَلِيلُ وَ اللَّطِيفُ وَ الثَّقِيلُ وَ الْخَفِيفُ- وَ الْقَوِيُّ وَ الضَّعِيفُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا سَوَاءٌ- وَ كَذَلِكَ السَّمَاءُ وَ الْهَوَاءُ وَ الرِّيَاحُ وَ الْمَاءُ- فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَ الْقَمَرِ وَ النَّبَاتِ وَ الشَّجَرِ- وَ الْمَاءِ وَ الْحَجَرِ وَ اخْتِلَافِ هَذَا اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ- وَ تَفَجُّرِ هَذِهِ الْبِحَارِ وَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْجِبَالِ- وَ طُولِ هَذِهِ الْقِلَالِ وَ تَفَرُّقِ هَذِهِ اللُّغَاتِ- وَ الْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ- فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ وَ جَحَدَ الْمُدَبِّرَ- زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ- وَ لَا لِاخْتِلَافِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ- وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى حُجَّةٍ فِيمَا ادَّعَوْا- وَ لَا تَحْقِيقٍ لِمَا- أَوْعَوْا وَ هَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَانٍ أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَانٍ وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ- إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ- وَ أَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ- وَ جَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ وَ فَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ- وَ جَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ وَ نَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ- وَ مِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ- يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهِمْ- وَ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا وَ لَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ- حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا وَ تَقْضِيَ مِنْهُ شَهَوَاتِهَا- وَ خَلْقُهَا كُلُّهُ لَا يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً- فَتَبَارَكَ اللَّهُ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ يُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَ وَجْهاً- وَ يُلْقِي إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ إِلَيْهِ سِلْماً وَ ضَعْفاً- وَ يُعْطِي لَهُ الْقِيَادَ رَهْبَةً وَ خَوْفاً- فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لِأَمْرِهِ- أَحْصَى عَدَدَ الرِّيشِ مِنْهَا وَ النَّفَسِ- وَ أَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى وَ الْيَبَسِ- وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهَا وَ أَحْصَى أَجْنَاسَهَا- فَهَذَا غُرَابٌ وَ هَذَا عُقَابٌ- وَ هَذَا حَمَامٌ وَ هَذَا نَعَامٌ- دَعَا كُلَّ طَائِرٍ بِاسْمِهِ وَ كَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ- وَ أَنْشَأَ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا- وَ عَدَّدَ قِسَمَهَا فَبَلَّ الْأَرْضَ بَعْدَ جُفُوفِهَا- وَ أَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا

اللغة
أقول:

الدخل: العيب.

و البشرة: ظاهر الجلد.

و الجامس: الجامد.

و الشراسيف: أطراف الأضلاع المشرفة على البطن.

و الضرب في الأرض: السياحة فيها.

و الحدقة: سواد العين.

و القمر: بياضها و ضياؤها، يقال: حدقة قمراء: مضيئة.

و أجلبوا: جمعوا. و النزوات: الوثبات.

و التعفير: التمريغ في العفر و هو التراب.

المعنى
و قوله: و لو فكّروا. إلى قوله: مدخولة. وضع حرف لو ليدلّ على امتناع الشي‏ء لامتناع غيره لكن الأغلب عليه أن يستعمل للدلالة على امتناع اللازم لامتناع ملزومه، و ذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك اللازم مساويا لملزومه إمّا حقيقة أو وضعا.
و الثاني: أن يكون الملزوم علّة لذلك ليلزم من رفع الملزوم رفع اللازم و يمكن الاستدلال به فأمّا إذا لم يكونا كذلك جاز أن يدلّ به على امتناع الملزوم‏ لامتناع لازمه كما في قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا«» و قد استعمله عليه السّلام هنا بالوجه الثاني من الوجهين الأوّلين، و استدلّ على أنّ الخلق لم يرجعوا إلى طريق اللّه عن غيّهم و جهالاتهم و لم يخافوا من وعيده بعذاب الحريق في الآخرة لأنّهم لم يفكّروا فيما عظم من قدرته في خلق مخلوقاته و عجائب مصنوعاته و ما جسم من نعمته على عباده، و يحتمل أن يريد بالقدرة المقدور مجازا إطلاقا لاسم المتعلّق على المتعلّق، و كان ذلك من باب الاستدلال بعدم العلّة على عدم المعلول. إذ كان الفكر في ذلك سببا عظيما في الجذب لهم إلى اتّباع شريعته و سلوك سبيله إليها، و إليه الإشارة بقوله تعالى أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ«» و قوله أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها«» الآية و نحوه. و قوله: و لكنّ القلوب. إلى قوله: مدخولة. بيان لعدم العلّة المذكورة منهم و هو الفكر، و أشار إلى عدمها بوجود ما ينافي وجود شرطها. إذ كان كون القلوب عليلة و كون الأبصار معيبة ينافيان صحّتها و سلامتها الّذين هما شرطان في وجود الفكر الصحيح، و مع وجود المنافى لصحّة قلوبهم و سلامة أبصار بصائرهم لا يحصل الصحّة الّتي هى شرط الفكر فلا يحصل الفكر فلا يحصل معلوله و هو الرجوع إلى اللّه، و علل القلوب و ما يلحق إبصار البصائر من العيوب يعود إلى الجهل و أغشية الهيئات البدنيّة و الأخلاق الرديئة المكتسبة من جواذب الشهوات إلى خسايس اللذّات المغطّية لأنوار البصائر الحاجبة عن إدراك واضح الطريق الحقّ. و قوله: ألا ينظرون. إلى قوله: البشر. تنبيه لهم على بعض مخلوقاته تعالى و مقدوراته الّتي أشار إلى عظمة القدرة فيها. و أحسن بهذه الترتيب و التدريج الحسن فإنّك علمت من آداب الخطيب إذا أراد القول في أمر نبّه عليه أوّلا على سبيل الإجمال بقول كلّىّ ليستعدّ السامعون‏ بذلك لما يريد قوله و بيانه. ثمّ يشرع في تفصيله، و لمّا أراد عليه السّلام أن ينبّه على عظمة اللّه بتفصيل بعض مخلوقاته كالنمل و الجراد و نحوه أشار أوّلا إلى عظيم القدرة، و وبّج السامعين على إغفالهم الفكر فيها ليعلم أنّه يريد أن ينبّه على تفصيل أمر. ثمّ تلاه بالتنبيه على لطيف الصنع في صغير ما خلق و كيف أحكم خلقه و أتقن تركيبه على صغره و فلق له البصر و سوّى له العظم و لم يعيّن إلى أن استعدّت بذلك لتعظيم اللّه القلوب و أقبلت بإفهامها النفوس فتلاه بذكر النملة، و ذلك قوله: انظروا إلى النملة. إلى قوله: تعبا. و هيئتها: كيفيّتها الّتي عليها صورتها و صورة أعضائها، و ظاهر أنّ الإنسان لا يدركها بلحظ البصر إلى أن يعيد إليها بعناية، و لا يكاد عند مراجعة فكره و استدراك أوّله و باديه يعلم حقيقتها و كيفيّة خلقتها و تشريح أعضائها، بل بإمعان فيه و تدقيق لا بدّ أن ينظر في ذلك. و الباء في قوله: بمستدرك يتعلّق بتنال.
و لا ينبغي أن يفهم من قوله: و لا ينال بمستدرك الفكر: أى في صورتها الظاهرة الّتي يدركها البصر فربّما يسبق ذلك إلى بعض الأفهام لمكان العطف بل ما ذكرناه من شرح حقيقتها فإنّه ليس حظّ الفكر أن يدرك صورتها المحسوسة بالبصر بل أن يبحث عن عجائب صنعتها ليستدلّ بذلك على حكمة صانعها- جلّت عظمته- و محلّ قوله: لا تكاد تنال يحتمل أن يكون نصبا على الحال و العامل انظروا، و يحتمل أن يكون مستأنفا، و كيف في محلّ الجرّ بدل من النملة، و يحتمل أن يكون كلاما مستانفا و فيه معنى التعجّب. و كيف صبّت: أى القيت على رزقها و بعثت عليه بهداية و إلهام، و قيل: ذلك على العكس: أى صبّ عليها رزقها، و لفظ الصبّ مستعار لحركتها في طلبه ملاحظا لشبهها بالماء المصبوب.
فإن قلت: كيف جعل دبيبها على الأرض محلّ التعجّب و الفكر مع سهولته و وجوده لسائر الحيوان.

قلت: لم يجعل محلّ التعجّب هو دبيبها من حيث هو دبيب فقط بل مع الاعتبارات الاخر المذكورة فإنّك إذا اعتبرتها من حيث هى في غاية اللطافة ثمّ‏ اعتبرت قوائمها و حركات مفاصلها و خفضها و رفعها و بعد ذلك من استثبات الحسّ له و نسبتها إلى جرمها و إلى أجزاء المسافة الّتي تقطعها بل جزء من حركتها، و كذلك انصبابها على رزقها بهداية تامّة إليه و نقلها إلى جحرها و غير ذلك من الاعتبارات المذكورة فإنّك إذا اعتبرت ذلك منها وجدت لنفسك منه تعجّبا و تفكّرا في لطف جزئيّات صنعتها و حكمة خالقها و مدبّرها. و قوله: تجمع في حرّها لبردها: أى في الصيف للشتاء، و في ورودها لصدرها: أى في أيّام ورودها و تمكّنها من الحركة لأيّام صدورها و رجوعها عن الحركة للعجز فإنّها تعجز في أيّام الشتاء عن ملاقاة البرد فتطلب بطن الأرض لكمون الحرارة فيه. و من العجايب الّتي حكاها أهل التجارب من أفعال النمل و إلهاماتها ما حكاه أبو- عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب «الحيوان» بفصيح عباراته. قال: إنّ النملة تدّخر في الصيف للشتاء فتقدم في أيّام المهملة و لا تضيّع أوقات إمكان الحزم، و تبلغ من تفقّدها و صحّة تميزها و النظر في عواقب امورها أنّها تخاف على الحبوب الّتي ادّخرتها للشتاء أن تعفّن و تسوس في بطن الأرض، فتخرجها إلى ظهرها لتنشرها و تعيد إليها جفافها و يضربها النسيم فينفى عنها العفن و الفساد. قال: و ربّما تختار في الأكثر أن يكون ذلك العمل ليلا ليكون أخفى، و في القمر لأنّها فيه أبصر. فإن كان مكانها نديّا و خافت أن تنبت الحبّة نقرت موضع الطمير من وسطها لعلمها أنّها من ذلك الموضع تنبت، و ربّما فلقت الحبّة بنصفين.
فأمّا إن كان الحبّ من الكزبرة فإنّها تفلقه أرباعا لأنّ أنصاف حبّ الكزبرة ينبت من بين جمع الحبّ. فهى بهذا الاعتبار مجاوزة لفطنة جميع الحيوان. قال: و نقل إلىّ بعض من أثق به أنّه احتفر بيت النمل فوجد الحبوب الّتي جمعتها كلّ نوع وحدة. قال: و وجدنا في بعضها أنّ بعض الحبوب فوق بعض و بينها فواصل حائله من التبن و نحوه. ثمّ إنّ لها مع لطافة شخصها و خفّة حجمها في الشمّ و الاسترواح ما ليس لسائر الحيوان، و ذلك أنّه ربّما سقط من يد الإنسان جرادة أو عضو منها مثلا في موضع ليس بقربه ذرّد و لا عهد لذلك المنزل به فلا يلبث أن يقبل ذرّة قاصدة إلى تلك الجرادة فتروم حملها فإذا أعجزتها بعد أن تبلى عذرا مضت إلى جحرها راجعة فلا يلبث الإنسان أن يجدها و قد أقبلت و خلفها كالخيط الأسود من أخواتها حتّى يتعاونّ عليها ليحملنها فأعجب من صدق شمّها لما يشمّه الإنسان الجائع. ثمّ انظر إلى بعد همّتها في ذلك و جرأتها على محاولة نقل شي‏ء في وزن جسمها مائة مرّة و أضعافها، و ليس من الحيوان ما يحمل أضعاف وزنه مرارا كثيرة كالنملة. قال: و الّذي ينبّه على إعلامها لأخواتها و إشعارها بمثل ما أشرنا إليه قصّة سليمان عليه السّلام مع النمل حيث حكى القرآن الكريم عنها قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها«» فإنّ القول المشار إليه منها و إن لم يحمل على حقيقته فهو محمول على مجازه، و هو إشعارها لأخواتها بالحال المخوّفة للنمل من سليمان و جنوده.
قال: و من عجيب ما يحكى عن النمل ما حكى عن بعض من يعمل الاصطرلاب أنّه أخرج طوقا من صفر من الكير بحرارته فرمى به على الأرض ليبرد فاشتمل على نملة فكانت كلّما طلبت جانبا منه لتخرج منعتها الحرارة فكانت مقتضى هروبها من الجوانب أن استقرّت ثم ماتت فوجدها قد استقرّت في موضع رجل البركار من نقطة المركز و ما ذاك إلّا للطف حسّها و قوّة و همها أنّ ذلك الموضع هو أبعد الأمكنة عن الخطّ المحيط. قال: و من عجائبها إلهامها أنّها لا تعرض لجعل و لا جرادة و لا خنفساء و لا نحوها ما لم يكن بها خبل أو عقر أو قطع يد أو رجل فإذا وجدت شيئا من ذلك و ثبت عليها حتّى لو أنّ حيّة بها ضربة أو خدش ثمّ كانت من ثعابين مصر لو ثبت عليها الذرورة حتّى تأكلها، و لا تكاد الحيّة تسلم من الذرّ إذا كان بها أدنى عقر. و كلّ ذلك من الإلهامات الّتي إذا فكّر اللبيب فيها كاد أن يحكم بكونها أعلم بقوانين معاشها و تدبير أحوال وجودها من كثير من الناس فإنّ الإنسان قد تهمل ذلك التدبير فلا يضبطه، و يستمرّ فيه على قانون واحد.

و قوله: مكفولة و مرزوقة. نصب على الحال.
و قوله: رزقها و وفقها: أى موافق و مطابق لقوّتها و على قدر كفايتها.
و يروى مكفول برزقها مرزوقة لوفقها. ثمّ ذكر نسبة ذلك إلى ربّها. فأشار إلى أنّه لا يغفلها: أى لا يتركها من لطفه و عنايته فإنّه باعتبار ما هو منّان على خلقه لا يجوز في حكمته إهمال بعضها من رزق يقوم به في الوجود، و كذلك لا يحرمها باعتبار كونه ديّانا: أى مجازيا، و وجه ذكر المجازاة هنا أنّها حيث دخلت في الوجود طائعة لأمره و قامت فيه منقادة لتسخيره وجب في الحكمة الإلهيّة جزاؤها و مقابلتها بما يقوم بوجودها فلا يكون محرومة من مادّة بقائها على وفق تدبيره، و لو كانت في الصفاء اليابس و الحجر الجامس، بل يفتح لها أبواب معاشها في كلّ مكان. ثمّ نبّه على محال اخرى للفكر في النملة: فمنها مجارى أكلها ما تأكله و تلك المجارى كالحلق و الأمعاء، و منها علوها و سفلها و علوها بسكون اللام نقيض سفلها و هو رأسها و ما يليه إلى الجزء المتوسّط منها و سفلها هو ما جاوز الجزء من طرفها الآخر، و منها ما اشتمل عليه جوفها من شراسيف بطنها أو ما يقوم مقامه فأطلق عليه أنّه شراسيف بالمجاز، و منها ما في رأسها من عينها و اذنها و هى محلّ القوّة السامعة منها فإنّ كلّ ذلك على غاية صغره و لطافته محلّ العجب و محلّ النظر اللطيف المستلزم للشهادة بحكمة الصانع و لطف تدبيره الّذي يقضى الإنسان من تأمّله عجبا، و القضاء هاهنا بمعنى الأداء: أى لأدّيت عجبا، و يحتمل أن يكون بمعنى الموت: أى لقضيت نحبك من شدّة تعجّبك، و يكون عجبا نصب على المفعول له. ثمّ لمّا نبّه على محال الفكر و وجوه الحكمة فيها أردف ذلك بتنزيه صانعها و تعظيمه تعالى، و قرن ذلك التعظيم و التنزيه بنسبته إلى بعض صنعه بها، و هو إقامته لها على قوائمها و بناها على دعائمها، و أراد بدعائمها ما يقوم به بدنها من الامور الّتي مقام العظام و العصب و الأوتار و نحوها ليحصل التنبيه على عظمته من لطف تلك القوائم و اعتبار ضعف تلك الدعائم مع ما ركّب فيها من لطائف الصنعة و أودعها من عجايب الحكمة من غير أن يشركه في فطر تلك الفطرة فاطر أو يعينه على لطيف خلقها قادر فسبحانه ما أعظم شأنه و أبهر برهانه. و قوله: و لو ضربت. إلى قوله: النخلة. أى لو سارت نفسك في طرق فكرها و مذاهب نظرها، و هى الأدلّة و أجزاء الأدلّة من المقدّمات و أجزائها المستنبطة من عالم الخلق و الأمر لتصل إلى غايات فكرك في الموجودات لم يمكن أن يدلّك دليل إلّا على أنّ خالق النملة على غاية صغرها و خالق النخلة على عظمها و طولها واحد و هو المدبّر الحكيم. و قوله: لدقيق تفصيل كلّ شي‏ء. إلى قوله: حىّ. إشارة إلى أوسط الحجّة على ما ادّعاه من اشتراك النملة و النخلة في الاستناد إلى صانع واحد مدبّر حكيم، و معنى ما ذكر أنّ لكلّ شي‏ء من الموجودات الممكنة تفصيل لطيف دقيق و اختلاف شكل و هيئة و لون و مقدار و وجوه من الحكمة تدلّ على صانع حكيم خصّصه بها دون غيره، و تقرير الحجّة أنّ وجود النملة و النخلة اشتمل كلّ منهما على دقيق تفصيل الخلقة و غامض اختلاف شكل و هيئة و كلّ ما اشتمل على ذلك فله صانع مدبّر حكيم خصّصه بذلك فينتج أنّهما يشتركان في الحاجة إلى صانع مدبّر حكيم خصّ كلّا منهما بما يشتمل عليه، و هذه الحجّة هى المسمّاة في عرف المتكلّمين بالاستدلال بإمكان الصفات كما بيّناه قبل في قوله: الحمد للّه الدالّ على وجوده بخلقه. و قوله: و ما الجليل و اللطيف. إلى قوله: سواء. مؤكّد لما سبق من الدعوى، و كاسر لما عساه يعرض لبعض الأوهام من استبعاد نسبة الخلقة العظيمة و الخلقة اللطيفة الحقيرة كالنملة إلى صانع واحد. فأشار إلى أنّ كلّ المخلوقات و إن تباينت أوصافها و تضادّت صورها و أشكالها فإنّه لا تفاوت بالنظر إلى قدرته و كمالها بين أن يفيض عنه صورة النخلة أو صورة الذرّة، و ليس بعضها بالنسبة إليه أولى و أقرب من بعض، و لا هو أقوى بعضها من بعض و إلّا لكان ناقصا في ذاته، و كان بما هو أولى به مستفيدا كما لا يفوته بعدمه عنه، و قد ثبت تنزيه جنابه المقدّس عن ذلك في مظانّه من الكتب الحكميّة و الكلاميّة بل إن كان فيهما تفاوت و اختلاف فمن جانب القابل و اختلاف استعدادات الموادّ بالشدّة و الضعف و الأقدم و الأحدث على ما أشرنا إليه غير مرّة، و اللطيف كما يراد به صغر الخلقة كذلك قد يراد به دقيق الصفة، و قد يراد به الشفّاف كالهواء، و الأوّل هو مراده و لذلك جعله مقابلا للجليل. و قوله: و كذلك السماء. إلى قوله: و الماء. فالمشبّه به هو الامور المضادّة السابقة و المشبّه هو السماء و الهواء و الرياح و الماء، و وجه الشبه هو حاجتها في خلقها و تركيبها و أحوالها المختلفة و المتّفقة إلى صانع حكيم، و أشار إلى الامور الاولى المتضادّة أوّلا و نسبها إلى قدرته تعالى باعتبار كلّيّتها و من جهة تضادّها لأنّها أدلّ على كمال قدرته، و أشار إلى الثانية و هى السماء و ما عدّده معها لا لاعتبار تضادّها بل باعتبار ما اشتمل عليه كلّ منها من الحكمة و المنفعة و كونها موادّ الأجسام المركّبات، و الهواء أعمّ من الرياح لتخصيص مسمّى الرياح بالحركة دون الهواء. و قوله: فانظروا. إلى قوله: المختلفات. أمر باعتبار حال ما عدّد من المخلوقات و ما اختصّ به كلّ منها من الصفات و الأشكال و المقادير و الأضواء و الألوان و المنافع إلى غير ذلك ممّا يدلّ على حاجة كلّ منها إلى مخصّص حكيم يخصّصه بما هو أليق به و أوفق للحاجة اللازمة له و أنسب إلى استعداده بعد اشتراك جميعها في الجسميّة، و هو أمر بتقرير الحجّة الّتي ذكرناها في كلّ واحد من الامور المذكورة، و لمّا كان حال أكثر هذه الامور المذكورة مفتقرا إلى تقديم النظر البصرىّ لغاية التفكّر و الاعتبار فيها أمر به، و أمّا وجوه الاعتبارات فأكثر من أن يحصر فإنّك إذا اعتبرت حال الشمس و القمر في عظم أجرامهما و الضياء الصادر عنهما و حركاتهما و تنقّلهما في منازلهما، و ما تستلزمه تلك الحركات من التأثيرات و الإعدادات لوجود المركّبات العنصريّة من المعدن و النبات و الحيوان ثمّ اعتبرت ما ينفصل به أحدهما عن الآخر من الجرم و زمان السير و كون القمر مستفيدا للنور من الشمس و غير ذلك ممّا لا يعلم تفصيله إلّا اللّه سبحانه، و كذلك إذا نظرت إلى النبات و الشجر و جواهرهما و أشكالهما و اختلاف أجزائهما في الألوان و المقادير و الثمار و ما يستلزمه من المنفعة لوجود الحيوان و المضرّة لبعضها إلى غير ذلك ممّا علمته فيما سلف، و كذلك الماء في كونه على غاية من الرقّة و اللطافة و كون الحجر بعكس الوصفين مع أنّ أكثر المياه إنّما تنبع من الأحجار ثمّ نظرت إلى المنافع الموجودة فيهما و المضارّ العارضة عنهما، و كذلك النظر إلى هذا الليل و النهار و اختلافهما في هذا العالم و تعاقبهما، و ما يستلزمانه من المنفعة المختصّة بكلّ منهما ممّا امتنّ اللّه تعالى على عباده بها حيث قال هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ«» و قال يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ«» الآية و قال قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ. إلى قوله مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ«» إلى غير ذلك من الآيات و قال أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ«» و قال وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً إلى قوله أَلْفافاً«» و كذلك إذا اعتبرت تفجير هذه البحار و ما تستلزمه من المنفعة كما قال تعالى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ«» و قال يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ«» و كذلك إذا اعتبرت كثرة الجبال و قلالها و عروضها و أطوالها و ما اشتملت عليه من معادن الجواهر و غيرها، و كذلك تفرّق اللغات و اختلاف الألسنة وجدت ذلك النكر و الاختلاف شاهدا بوجود صانع حكيم. و تقريرها كما علمت أن تقول: إنّ هذه الأجسام كلّها مشتركة في الجسميّة و اختصاص كلّ منها بما يميّز به من الصفات المتعدّدة ليس للجسميّة و لوازمها و إلّا وجب لكلّ منها ما وجب للآخر ضرورة اشتراكها في علّة الاختصاص فلا مميّز له. هذا خلف، و لا لشي‏ء من عوارض الجسميّة لأنّ الكلام في اختصاص كلّ منها بذلك العارض كالكلام في الأوّل و يلزم التسلسل فيبقى أن يكون لأمر خارج عنها هو الفاعل الحكيم المخصّص لكلّ منها بحدّ من الحكمة و المصلحة، و قد مرّ تقرير هذه الحجّة مرارا. ثمّ لمّا نبّه على وجود الصانع سبحانه أردف ذلك بالدعاء على من جحده، أو الإخبار عن لحوق الويل له. قال سيبويه: الويل مشترك بين الدعاء و الخبر، و نقل عن عطاء بن يسار أنّ الويل واد في جهنّم لو ارسلت فيه الجبال لماعت من حرّه. و رفعها بالابتداء، و الخبر لمن أنكر. و المدبّر: هو العالم بعاقبة الأمر و ما يشتمل عليه من المصلحة و يعود إلى القضاء، و القدر هو الموجد على وفق ذلك العلم كما سبق بيانه، و تأخير الدعاء على الجاحدين بعد إيضاح الحجّة عليهم هو الترتيب الطبيعى، و الإشارة بالجاحدين إلى صنف من العرب أنكروا الخالق و البعث، و قالوا: بالدهر المفنى. كما حكيناه عنهم في الخطبة الاولى، و هم الّذين أخبر القرآن المجيد عنهم بقوله وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا«». و قوله: زعموا. إلى قوله: صانع. إشارة إلى شبهتهم و هى من باب التمثيل فالأصل فيها هو النبات، و الفرع أنفسهم، و الحكم هو ما تو من كونهم بلا صانع كما أنّ النبات بلا زارع، و لعلّ الجامع في اعتبارهم هو اختلاف الحياة و الموت عليهم كما أشار إليه القرآن الكريم حكاية عنهم نَمُوتُ وَ نَحْيا أو نحوه من الامور المشتركة و إن كانوا لا يلتفتون لفتا إلى هذا الجامع. إذ مراعاة هذه الامور و تحقيق أجزاء التمثيل من صناعة هم عنها بمعزل، و قد علمت أنّ التمثيل بعد تمام أجزائه إنّما يفيد ظنّا يختلف بالشدّة و الضعف، و علمت وجوه‏

الفساد فيه. و قوله: و لم يلجئوا. إلى قوله: جان. إنكار و منع لما ادّعوه و أنّهم لم يأتوا فيه بحجّة و لا تحقيق برهان، ويحتمل أن يكون قوله: و هل يكون. إلى قوله: جان. تنبيها على وجود نقيض الحكم المدّعى، و هو كون خلقهم و خلقة النبات شاهدة بوجود صانع لها، و ذلك التنبيه بالإشارة إلى أوسط قياس من الشكل الأوّل، و كبراه في صورة الاستفهام.
و تقرير القياس: أنّهم صنعة و لا شي‏ء ممّا هو صنعة بلا صانع ينتج فلا شي‏ء منها بلا صانع و هو نقيض المدّعى، و لمّا كانت الكبرى ضروريّة اقتصر على التنبيه عليها بامتناع وجود البناء من غير بان و الجناية من غير جان فإنّ ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجّح محال بالبديهة و ممتنع في فطن الصبيان و البهائم. إذ كان الحمار عند صوت الخشبة يعد و خوفا من الضرب، و ذلك لما تقرّر في فطرته أنّ حصول صوت الخشبة بدونها محال. ثمّ لو سلّم لهم ثبوت الحكم في الأصل و هو كون النبات بلا زارع فلم كان عدم الزارع يدلّ على أنّ النبات لا فاعل له. و إنّما يلزم ذلك أن لو كان الفاعل إنّما هو الزارع و ذلك من الأوهام الظاهرة كذبها بأدنى تأمّل إذا استعقب بالبذر. إذ كان الزارع ليس إلّا إعدادا ما للأرض و البذر: و أمّا وجود الزرع و النبات فمستند إلى مدبّر حكيم متعال عن الحسّ و المحسوس لا تدركه الأبصار و لا تكتنفه الأوهام و الأفكار سبحانه و تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا. و قوله: إن شئت قلت في الجرادة. إلى قوله: مستدقّة. تنبيه آخر على وجود الصانع الحكيم- جلّت عظمته- في وجود بعض جزئيّات مخلوقاته و صغيرها و هى الجرادة: أى و إن شئت قلت فيها ما قلت في النملة و غيرها قولا بيّنا كاشفا عن وجوه الحكمة فيها بحيث يشهد ذلك بوجود صانع حكيم لها فنبّه على بعض دقايق الحكمة في خلقها و هى خلق العينين الحمراوين مع كون حدقتها قمراوين، و استعار لفظ السراج للحدقتين باعتبار الحمرة النارية و الإضاءة.
ثمّ خلق السمع الخفيّ: أى عن أعين الناظرين، و قيل: أراد بالخفيّ اللطيف السامع لخفىّ الأصوات فوصفه بالخفاء مجازا إطلاقا لاسم المقبول على قابله. ثمّ فتح الفم السوىّ. السوىّ: فعيل بمعنى مفعول: أى المسوىّ. و التسوية: التعديل بحسب‏ المنفعة الخاصّة بها. ثمّ خلق الحسّ القوىّ، و أراد بحسّها قوّتها الوهميّة و بقوّته [بقوّة خ‏] حذقها فيما الهمت إيّاه من وجوه معاشها و تصرّفها. يقال: لفلان حسّ حاذق إذا كان ذكيّا فطنا درّاكا. ثمّ خلق النابين، و استعار لفظ المنجلين ليديها، و وجه المشابهة تعوّجهما و خشونتهما، و قرن بذكر النابين و المنجلين ذكر غايتهما و هما القرض و القبض، و من لطيف حكمته تعالى في الرجلين أن جعل نصفهما الّذين تقع عليها اعتمادها و جلوسها شوكا كالمنشار ليكون لها معينا على الفحص و وقاية لذنبها عند جلوسها و عمدة لها عند الطيران. و قوله: يرهبها الزرّاع. إلى قوله: شهواتها. أى أنّها إذا توجّهت بعساكرها من أبناء نوعها إلى بقعة و هجمت على زرعها و أشجارها أمحته و لم يستطع أحد دفعها حتّى لو أنّ ملكا من الملكوت أجلب عليها بخيله و رجله ليحمى بلاده منها لم يتمكّن من ذلك، و في ذلك تنبيه على عظمة الخالق سبحانه و تدبير حكمته. إذ كان يبعث أضعف خلقه على أقوى خلقه و يهيّى‏ء الضعيف من أسباب الغلبة ما لا يستطاع دفعه معها حتّى ترد ما تريد وروده و تقضى منه شهواته فيحلّ باختيار منه و ترحل باختيار، و من عجايب الخواصّ المودعة في الجراد أنّها تلتمس لبيضها الموضع الصلد و الصخور الملس ثقه بأنّها إذا ضربت فيها بأذنابها انفرجت لها، و معلوم أنّ ذلك ليس بقوّة إذ ليس في ذنب الجرادة من القوّة أن يخرق الحجر الّذي يعجز عنه المعول بمجرّد قوّته لولا خاصيّة لها هناك.
ثمّ إذا ضربت في تلك البقاع و ألقت بيضها و أنضمّت عليها تلك الأخاديد الّتي أحدثتها و صارت لها كالأفاحيص صارت خاضنة لها و مربّية و حافظة و واقية حتّى إذا جاء وقت دبيب الروح خرجت من البيض صهيا إلى البياض. ثمّ تصفرّ و تتلوّن فيه خطوط إلى السواد. ثمّ يصير فيه خطوط سود و بيض، ثمّ يبدو حجم جناحيه. ثمّ يستقلّ فيموج بعضه في بعض، و قيل: إنّ الجراد إذا أراد الخضرة و دونه نهر جار صار بعضه جسر البعض ليعبر إليها فمن الناس من جعل ذلك حيلة لها الهمت إيّاها. و أباه قوم و قالوا: بل الزحف الأوّل من الدبى إذا أراد الخضرة و لا يقدر عليها إلّا بالعبور إليها عبر فإذا صارت تلك القطعة فوق الماء طافية صارت للزحف الثاني الّذي يريد الخضرة كالأرض، و ربّما نقل لها خواصّ اخرى لا تعلّق لها بما نحن بصدده.
و قوله: و خلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة. الواو للحال: أى أنّه تعالى خلقها على ما وصفت و أودعها من عجايب الصنع ما ذكرت بحيث يخاف منها الزرّاع مع أنّ خلقها كلّه دون الإصبع المستدقّة، و هذه الكلمة مستلزمة لتمام التعجّب من خلق اللّه فيها الامور الموصوفة حتّى لو قدّرنا أنّها وصفت لمن لم يرها فربّما اعتقد أنّ لها خلقا عظيما تستند إليه هذه الأوصاف و لم يكن عنده تعجّب حتّى نتبيّن مقدار خلقها و صغر صورتها ثمّ لما بيّن بعض مبدعاته و مكوّناته نوّه بزيادة عظمته تعالى و بركته باعتبار كونه معبودا لمن في السماوات و من في الأرض فله يسجدون طوعا و كرها كلّ بعبادة تخصّه و سجود لا يمكن من غيره مع اشتراك الكلّ في الدخول تحت ذلّ الحاجة إلى كمال قدرته و خضوع الإمكان بين يدي رحمته. و إليه الإشارة بقوله تعالى وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً«» و كذلك قوله: و يعفّر له خدّا و وجها. فما كان ذا وجه و خدّ حقيقة فلفظ التعفير صادق عليه حقيقة، و ما لم يكن السجود صادق عليه استعارة لخضوعه الخاصّ به، و لفظ التعفير و الخدّ و الوجه ترشيحات على أنّ موضوع السجود في اللغة هو الخضوع و كذلك إطلاق إعطاء القياد و وصف الرهبة و الخوف، و نصبهما على المفعول له. و قول ه: فالطير مسخّرة لأمره. كقوله تعالى أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ«» و كونها مسخّرة يعود إلى دخولها تحت حكم تصرّفه العامّ فيها قدرة و علما و الخاصّ تخصيصا و تعيينا، و إحصاء الريش منها و النفس باعتبار تسخيرها تحت تصرّفه العامّ بعلمه تعالى.
و إرساؤها: أى تثبّتها على قوائمها في الندى كطيرالماء و اليبس كطير البرّ باعتبار دخولها تحت قدرته و خلقها كذلك، و تقديره لأقواتها و ما يصلح منها و ما يكفيه باعتبار دخولها تحت قدرته و علمه معها. إذ كان التقدير هو إنزال تلك المقادير و إعدادها على وفق العلم الإلهىّ، و إحصاء أجناسها باعتبار علمه تعالى. و قوله: فهذا غراب. إلى قوله: نعام. تفصيل لأنواعها. و لم يرد الجنس بالاصطلاح الخاصّ بل اللغوىّ و هو النوع في المصطلح العلمىّ، و راعى في كلّ قرينتين من الأربع السجع المتوازى. و قوله: دعا كلّ طاير باسمه. فالدعاء استعارة في أمر كلّ نوع بالدخول في الوجود، و قد عرفت أنّ ذلك الأمر يعود إلى حكم القدرة الإلهيّة العظيمة عليه بالدخول في الوجود، و وجه الاستعارة ما يشترك فيه معنى الدعاء، و الأمر من طلب دخول مهية المطلوب بالدعاء و الأمر في الوجود و هو كقوله تعالى فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ«» الآية، و لما استعار لفظ الدعا رشّح بذكر الاسم لأنّ الشي‏ء إنّما يدعى باسمه، و يحتمل أن يريد الاسم اللغوىّ و هو العلامة فإنّ لكلّ نوع من الطير خاصّة و سمة ليست للآخر، و يكون المعنى أنّه تعالى أجرى عليها حكم القدرة بمالها من السمات و الخواصّ في العلم الإلهىّ و اللوح المحفوظ، و قال بعض الشارحين: أراد أسماء الأجناس، و ذلك أنّ اللّه تعالى كتب في اللوح المحفوظ كلّ لغة تواضع عليها العباد في المستقبل، و ذكر الأسماء الّتي يتواضعون عليها، و ذكر لكلّ اسم مسمّاه فعند إرادة خلقها نادى كلّ نوع باسمه فأجاب دعواه و أسرع في إجابته، و اعلم أنّك إذا تأمّلت حكمة الصانع في خلق الطائر شاهدت عجبا. حين اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يكون طائرا في الجوّ خفّف جسمه و أدمج خلقه فاقتصر من القوائم على اثنتين و من الأصابع على أربع من منفذين للزبل و البول على منفذ. ثمّ خلقه تعالى على جؤجؤ محدّب‏ ليسهل عليه خرق الهواء كما يجعل صدر السفينة بهذه الهيئة ليشقّ الماء، و خلق في جناحيه و ذنبه ريشات طوال لينهض بها إلى الطيران، و كسى جسمه كلّه ريشا ليتداخله الهواء فيقيله، و لمّا كان طعامه الحبّ أو اللحم يبلعه بلعا من غير مضغ نقص من خلقه الأسنان و خلق له منقارا صلبا، و أعانه بفضل حرارته في جوفه يستغنى بها عن المضغ. ثمّ خلقه تعالى يبيض بيضا و لا يلد لكيلا يثقل بكون الفراخ في جوفه عن الطيران، و جعل عوض استعداد الولد في البطن استعداده في البيضة بحرارة الحضن بمشاركة من الذكر و الانثى في ذلك، و من العناية اللإلهيّة بدوام نسله و بقائه أن ألهمه العطف على فراخه فيلتقط الحبّ فيغذو به فراخه بعد استقراره في حوصلته ليلين، و إذا فكّرت في الحوصلة وجدتها كالمخلاة المعلّقة أمامه فهو يعبّى فيها ما أراد من الطعم بسرعة ثمّ ينفذ إلى القانصة على مهل، و ذلك أنّ مسلك الطعم إلى القانصة ضيّق لا ينفذ فيه الطعم إلّا قليلا فلو كان هذا الطائر لا يلتقط حبّة ثانية حتّى تصير الاولى إلى القانصة لطال ذلك عليه فخلق تعالى له الحوصلة لذلك. ثمّ انظر إلى الريش الّذي تراه في الطواويس و الدراريج و غيرها عن استواء و مقابلة على نحو ما يخطّ بالأقلام، و كذلك انظر إلى العمود الجامع للريشة الّذي يجرى مجرى الجدول الممدّ للريشة و المغذّى لها، و خلق عصبيّ الجوهر صلبا متينا ليحفظ الريش و يمسكه لصلابته. فسبحان الّذي خلق الأزواج كلّها، و أحصى كلّ شي‏ء عددا، و أحاط بكلّ شي‏ء علما.
و قوله: و أنشأ السحاب. إلى آخره. إشارة إلى كمال قدرته باعتبار خلقه السحاب الثقال بالماء، و إرسال ديمها و هي أمطارها، و تعديد قسمها و هو ما يصيب كلّ بلد و أرض منها من القسم.
و ظاهر أنّه تعالى يعدّ الأرض بتلك البلّه بعد الجفاف لأن يخرج منها النبات بعد الجدب و إليه الإشارة بقوله تعالى أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ«»و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 121

خطبه 225 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام
روى ابو محمد اليمانى عن أحمد بن قتيبة عن عبد اللّه بن يزيد عن مالك بن دحية قال: كنا عند أمير المؤمنين عليه السّلام و قد ذكر عنده اختلاف الناس فقال إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمْ مَبَادِئُ طِينِهِمْ- وَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِلْقَةً مِنْ سَبَخِ أَرْضٍ‏ وَ عَذْبِهَا- وَ حَزْنِ تُرْبَةٍ وَ سَهْلِهَا- فَهُمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ يَتَقَارَبُونَ- وَ عَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِهَا يَتَفَاوَتُونَ- فَتَامُّ الرُّوَاءِ نَاقِصُ الْعَقْلِ- وَ مَادُّ الْقَامَةِ قَصِيرُ الْهِمَّةِ- وَ زَاكِي الْعَمَلِ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ- وَ قَرِيبُ الْقَعْرِ بَعِيدُ السَّبْرِ- وَ مَعْرُوفُ الضَّرِيبَةِ مُنْكَرُ الْجَلِيبَةِ- وَ تَائِهُ الْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اللُّبِّ- وَ طَلِيقُ اللِّسَانِ حَدِيدُ الْجَنَانِ أبو محمّد ذعلب اليمانىّ و أحمد و عبد اللّه و مالك من رجال الشيعة و محدّثيهم.

اللغة
و الفلقة: القطعة، و الشقّ من الشي‏ء.

و الرواء: المنظر الجميل.

و سبرت الرجل أسبره: اختبرت باطنه و غوره.

و الضريبة: الخلق و الطبيعة.

و الجليبة: ما يجلبه الإنسان و يتكلّفه.

و الكلام إشارة إلى السبب المادىّ لاختلاف الناس في الصور و الأخلاق.
فقوله: إنّما فرّق بينهم. إلى قوله: يتفاوتون. فطينهم إشارة إلى التربة الّتي أشار إلى جمع اللّه لها في قوله: في الخطبة الاولى: ثمّ جمع سبحانه من سهل الأرض و حزنها و سبخها و عذبها تربة. إلى قوله: و أصلدها حتّى استمسكت. و المعنى أنّ تقاربهم في الصور و الأخلاق تابع لتقارب طينهم و تقارب مباديه و هى السهل و الحزن و السبخ و العذب، و تفاوتهم فيها تابع لتفاوت طينهم و مباديه المذكورة. قال أهل التأويل: إضافة المبادى هنا إلى الطين إضافة بمعنى اللام: أى المبادى لطينهم، و الإشارة بطينهم إلى اصولهم، و هى الممتزجات المنتقلة في أطوار الخلقة كالنطفة و ما قبلها من موادّها و ما بعدها من العلقة و المضغة و العظم، و المزاج الإنسانىّ القابل للنفس المدبّرة. قالوا: و لمّا كانت مبادى ذلك الطين في ظاهر كلامه عليه السّلام هى السبخ و العذب و السهل و الحزن كان ذلك كناية عن الأجزاء العنصريّة الّتي هى مبادي الممتزجات ذوات الأمزجة كالنبات و الغذاء و النطفة و ما بعدها. إذ كلّ ممتزج منها لا بدّ فيه من أجزاء متفاعل فيحصل بواسطتها استعداداتها، و تفاعلها ذو مزاج هو نطفة و غيرها فتلك الأجزاء المتفاعلة المستعدّة لمزاج مزاج هى مبادى تلك الأمزجة و الممتزجات و لمّا كانت السبخيّة و العذوبة و السهولة و الحزونة امورا تلحق الممتزجات الأرضيّة الّتي هى مبادئ الطين و لها أثر في اختلاف مزاجه و ساير الأمزجة المركّبة منه، و كان اختلاف استعدادات تلك الامور الممتزجة لقبول الأمزجة الّتي هى السبب في اختلاف الأمزجة و استعداداتها لقبول الأخلاق و الصور هو السبب في اختلاف الأخلاق و الصور لا جرم كان السبب في تفرّق الناس في أخلاقهم و خلقهم إنّما هو اختلاف مبادئ طينهم، و قد علمت ممّا سلف في الخطبة الاولى لميّة تخصيصه عليه السّلام بعض الأجزاء العنصريّة بالتركّب عنها، و يحتمل أن يشير بالسبخ و العذب و السهل و الحزن إلى الأجزاء الأرضيّة من حيث هى ذوات أمزجة متعادلة الكيفيّات. فالسبخ كناية عن الحارّ اليابس منها، و العذب كناية عن الحارّ الرطب، و السهل كناية عن البارد الرطب، و الحزن كناية عن البارد اليابس قالوا: و على هذا حمل قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه سبحانه لمّا أراد خلق آدم أمر أن يؤخذ قبضة من كلّ أرض فجاء بنو آدم على قدر طينها الأحمر و الأبيض و السهل و الحزن و الطيّب و الخبيث. فالقبضة من كلّ أرض إشارة إلى الأجزاء الأرضيّة المذكورة، و كون الناس مختلفين عنها بالأبيض و الأحمر إشارة إلى اختلاف خلقهم، و كونهم مختلفين بالسهولة و الحزونة و الطيّب و الخبيث إشارة إلى اختلاف تلك الاستعدادات السابقة على كلّ مزاج في أطوار خلقهم قالوا: و قد بان بذلك معنى قوله: فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون: أى على حسب قرب مبادى طينهم المذكورة و تشابهها في استعداداتها و إعدادها يتقاربون و يتشابهون في الصور و الأخلاق، و على قدر اختلاف تلك المبادي و تباينها في ذلك يتفاوتون و تتضادّ أخلاقهم و تتباين خلقهم. قالوا: و يجب التأويل هنا لأنّا لو حملنا الكلام على ظاهره لاقتضى أنّ كلّا منهم قد خلق من الطين. قوله: فتامّ الرواء. إلى آخره.

تفصيل لهم في تفاوتهم. و ذكر أقساما سبعة فبدء بالأقسام الّتي تضادّ خلقها لأخلاقها أو بعض أخلاقها لبعض و هى خمسة: الأوّل: من استعدّ مزاجه لقبول صورة كاملة حسنة و عقل ناقص فهو داخل في رذيلة الغباوة. الثاني: المستعدّ لامتداد القامة و حسنها أيضا لكنّه ناقص في همّته فهو داخل في رذيلة الجبن، و كلاهما يشتركان في مخالفة ظاهرهما لباطنهما، و يتفاوتان في الاستعداد الباطن. الثالث: المستعدّ لقبح صورته الظاهرة و حسن باطنه باعتدال مزاج ذهنه المستلزم للأعمال الذاكية. الرابع: قريب القعر: أى قصير بعيد السبر: أى داهية ببعد اختيار باطنه و الوقوف على أسراره، و مخالفة ظاهر هذين القسمين لباطنهما ظاهر. الخامس. معروف الضريبة منكر الجليبة: أى يكون له خلق معروف يتكلّف ضدّه فيستنكر منه، و يظهر عليه تكلّفه كأن يكون مستعدّا للجبن فيتكلّف الشجاعة أو بخيلا فيتكلّف السخاوة فيستنكر منه ما لم يكن معروفا منه. فهذه هى الأقسام الخمسة، و القسم الأوّل و الثالث قليلان فإنّ الأغلب على المستعدّ لحسن الصورة و جمالها و اعتدال الخلقة أن يكون فطنا ذكيّا لدلالة تلك العوارض على استواء التركيب و اعتدال المزاج، و الأغلب على المستعدّ لقبح الصورة عكس ذلك، و أما القسم الثاني و الرابع فهو أكثر فإنّ الأغلب على طويل القامة نقصان العقل و البلادة و يتبع ذلك فتور العزم و قصور الهمة، و على القصير الفطنة و الذكاء و حسن الآراء و التدابير، و قد نبّه بعض الحكماء على علّة ذلك فقال حين سئل ما بال القصار من الناس أدهى و أحذق: لقرب قلوبهم من أدمغتهم. و مراده أنّ القلب لمّا كان مبدء للحار الغريزىّ و كان الأعراض النفسانيّة من الفطنة و الفهم و الإقدام و الوقاحة و حسن الظنّ و جودة الرأى و الرجاء و النشاط و رجوليّة الأخلاق و قلّة الكسل و قلّة الانفعال عن الأشياء كلّ ذلك يدلّ على الحرارة و توفّرها، و أضداد هذه الامور يدلّ على البرودة لا جرم كان قرب القلب من الدماغ في القصير لكونه سببا لتوفّر الحرارة في الدماغ وجودة استعداد القوى النفسانيّة فيه للأعراض المذكورة، و كان بعده منه في الطويل سببا لقلّة الحرارة فيه و ضعف استعداد القوى النفسانيّة فيه للأعراض المذكورة، و استعدادها لأضدادها و إن كانت الحرارة ليست هى كمال السبب المادىّ، و القسم الخامس أكثرى و ذلك لمحبّة النفوس للكمالات فترى البخيل يحبّ أن يعدّ كريما فيتكلّف الكرم، و الجبان يحبّ أن يعدّ شجاعا فيتكلّف الشجاعة، و قد راعى في هذه القرائن المطابقة فالتامّ بإزاء الناقص، و مادّ القامة بإزاء القصير، و الذكىّ بإزاء القبيح، و القريب بإزاء البعيد، و المعروف بإزاء المنكر، و أمّا القسمان الباقيان فأحدهما: تائه القلب متفرّق اللبّ، و هم العوامّ. و العامّة أتباع كل ناعق التائهون في تيه الجهل المتفرّقة أهواؤهم بحسب كلّ سانح من المطالب الدنيويّة و الخواطر الشيطانيّة، و الثاني: طليق اللسان حديد الجنان، و هو اللسن الزكىّ، و هذان القسمان مخالفان للأقسام الاولى في مناسبة ظاهرهما لباطنهما، و راعى في كلّ قرينتين من هذين القسمين السجع المتوازى. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج‏ البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 115

 

خطبه 223 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

كلم به عبد اللّه بن زمعة، و هو من شيعته،و ذلك أنه قدم عليه فى خلافته يطلب منه مالا، فقال عليه السّلام:

إِنَّ هَذَا الْمَالَ لَيْسَ لِي وَ لَا لَكَ- وَ إِنَّمَا هُوَ فَيْ‏ءٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَ جَلْبُ أَسْيَافِهِمْ- فَإِنْ شَرِكْتَهُمْ فِي حَرْبِهِمْ كَانَ لَكَ مِثْلُ حَظِّهِمْ- وَ إِلَّا فَجَنَاةُ أَيْدِيهِمْ لَا تَكُونُ لِغَيْرِ أَفْوَاهِهِمْ

أقول: هو عبد اللّه ابن زمعة بفتح الميم ابن أسود بن المطّلب بن أسود بن عبد العزّى بن قصّى بن كلاب. و كان من أصحاب علىّ و شيعته.

اللغة
و الجلب: المال المجلوب، و روى بالخا.

و جناة الثمر: ما يجنى منه.
المعنى
و ظاهر الكلام يقتضى أنّه استماحه عليه السّلام مالا فاعتذر إليه، و وجه العذر أنّه لم يكن ليجمع لنفسه مالا يخصّه و إنّما يجمع له معه ما كان لبيت مال المسلمين من فيئهم، و هو جلبة أسيافهم من مال الكفّار غنيمة، و نطق القرآن الكريم بقسمة خمسه بين من ذكر في قوله وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ«» و الأقسام الأربعة الباقية للقائمين الّذين باشروا القتال. فعند الشافعى للفارس ثلاثة أسهم و للراجل سهم، و عند أبى حنيفة للفارس سهمان و للراجل سهم، و هو مذهب أهل البيت عليهم السّلام. و يحمل منعه عليه السّلام له من الخمس على أنّه طلب من مال المقاتلة أو على أنّ الخمس كان قد قسّم أو على أنّه لم يكن من المساكين و هم أهل الفاقة و الفقر و لا ابن السبيل و هو المنقطع في سفره، و أمّا سهم اللّه فأجمع المفسّرون على أنّ ذكر اللّه هنا للتعظيم و إن اختلفوا في قسمة الخمس. فمنهم من قال: يقسّم خمسة أقسام لأنّ سهم اللّه و سهم الرسول للرسول فهو قسم واحد، و هو المرويّ عن ابن عبّاس و قتادة و جماعة من أهل التفسير، و منهم من قال: يقسّم أربعة أقسام، و منهم من قال: ثلاثة أقسام، و المرويّ عن أهل البيت عليه السّلام أنّه ينقسم ستّة أقسام فسهم اللّه و سهم رسوله للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هما بعده مع سهم ذوى القربى للقائم مقامه ينفقها على نفسه و أهل بيته من بنى هاشم، و الثلاثة الأسهم الباقية لليتامى و المساكين و أبناء السبيل من أهل‏ بيت الرسول لا يشركهم فيها باقى الناس عوضا من الصدقات المحرّمة عليهم. و الأئمّة الأربعة على أنّ سهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان تصرف بعد عهده إلى ما أهمّ به من مصالح المسلمين من السلاح و الكراع. فإذن لم يكن أن يعطيه من سهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ظاهر أنّه ليس من اولى القربى و لا اليتامى، و أمّا منعه من الأخماس الأربعة فلأنّها كانت للمقاتلة خاصّة و لم يكن هو منهم، و لذلك قال له: و إنّما هو في‏ء للمسلمين و جلب أسيافهم فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظّهم، و قد نطق كلامه عليه السّلام هنا بأنّ الفى‏ء و الغنيمة واحد و إن كان قد يختصّ الفى‏ء عند بعضهم بما اخذ من مال الكفّار بغير قتال و هو قول الشافعى و المرويّ في أخبار الإمامية. و قوله: و إلّا: أى و إن لا تكن قد شركتهم، و استعار لفظ الجناة لما اكتسبوه بأيديهم من ذلك المال ملاحظة لمشابهته باقتطاف الثمرة و اجتنائها و هو من أفصح الاستعارات، و يجرى مجرى المثل يضرب لمن يطلب مشاركة غيره في ثمرة فعل فعله ذلك الغير و تعب فيه، و لمّا كان قوله: و إلّا. دالّا على مقدّم شرطيّة متّصلة تقديره و إلّا تكن قد شركتهم في حربهم. و نبّه بقوله: فجناة أيديهم. إلى آخره على تاليها. إذ كان مفهوم هذا القول دالّا على عدم استحقاق غير الجانى نصيبا ممّا جنّته يد الجانى فكأنّه قال: و إلّا شركتهم في حربهم فلا يكون لك نصيب فيما كسبته أيديهم. و الفاء لجواب الشرط المقدّر. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 113

 

خطبه 222 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام خطبها بذى‏قار و هو متوجه الى البصره

ذكرها الواقدى فى كتاب الجمل فَصَدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَ بَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ- فَلَمَّ اللَّهُ بِهِ الصَّدْعَ وَ رَتَقَ بِهِ الْفَتْقَ- وَ أَلَّفَ بِهِ الشَّمْلَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ- بَعْدَ الْعَدَاوَةِ الْوَاغِرَةِ فِي الصُّدُورِ- وَ الضَّغَائِنِ الْقَادِحَةِ فِي الْقُلُوبِ‏

 

اللغة

أقول:

ذوقار: موضع قريب من البصرة، و فيه كانت وقعة العرب مع الفرس قبل الإسلام.

و الصدع: الشقّ.

و الواغرة: ذات الوغرة: و هى شدّة توقّد الحرّ، و في صدره و غر: أى عداوة وضعن توقد من الغيظ. و عداوة واغرة: شديدة.

و الضغائن الأحقاد.

و الإشارة إلى أوصاف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
فالأوّل: استعار له لفظ الصدع بما امر به من تبليغ الوحى
و وجه المشابهة أنّه شقّ بما جاء به الرسالة عصا الكفر و كلمة أهله، و فرّق ما اتّصل من أغشية الجهل على رءوس الكافرين و حجب الغفلة الّتي رانت على قلوبهم كما يصدع الحجر بالمعول و نحوه.
الثاني: ذكر تبليغه لرسالة ربّه
في معرض مدحه لكونه أداء أمانة عظم تبليغها و قدرها، و ذلك فضيلة تحت ملكة العفّة.
الثالث: كونه قد لمّ اللّه به الصدع، و رتق به الفتق،
و استعار لفظى الصدع و الرتق لما كان بين العرب من الافتراق و تشتّت الأهواء و اختلاف الكلمة و العداوات و الأحقاد حتّى أنّ أحدهم كان يقتل أباه و ابنه و ذوى رحمه لهوى يقوده أو ضغن يحمله فجمع اللّه بمقدمه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أشتاتهم و ألّف بين قلوبهم حتّى جعل ذلك في معرض امتنانه عليه. إذ يقول: و ألّف بين قلوبهم و لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم و لكنّ اللّه ألّف بينهم، و كذلك استعار لفظ القادحة للضغائن لاستلزامها إثارة الغضب و الفتن و الشرور كما يثير القادح النار. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 110

خطبه 221 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
القسم الأول
فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ مِفْتَاحُ سَدَادٍ- وَ ذَخِيرَةُ مَعَادٍ وَ عِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَةٍ- وَ نَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ- وَ يَنْجُو الْهَارِبُ وَ تُنَالُ الرَّغَائِبُ فَاعْمَلُوا وَ الْعَمَلُ يُرْفَعُ- وَ التَّوْبَةُ تَنْفَعُ وَ الدُّعَاءُ يُسْمَعُ- وَ الْحَالُ هَادِئَةٌ وَ الْأَقْلَامُ جَارِيَةٌ- وَ بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ عُمُراً نَاكِساً- أَوْ مَرَضاً حَابِساً أَوْ مَوْتاً خَالِساً- فَإِنَّ الْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِكُمْ- وَ مُكَدِّرُ شَهَوَاتِكُمْ وَ مُبَاعِدُ طِيَّاتِكُمْ- زَائِرٌ غَيْرُ مَحْبُوبٍ وَ قِرْنٌ غَيْرُ مَغْلُوبٍ- وَ وَاتِرٌ غَيْرُ مَطْلُوبٍ- قَدْ أَعْلَقَتْكُمْ حَبَائِلُهُ- وَ تَكَنَّفَتْكُمْ غَوَائِلُهُ وَ أَقْصَدَتْكُمْ مَعَابِلُهُ- وَ عَظُمَتْ فِيكُمْ سَطْوَتُهُ وَ تَتَابَعَتْ عَلَيْكُمْ عَدْوَتُهُ- وَ قَلَّتْ عَنْكُمْ نَبْوَتُهُ- فَيُوشِكُ أَنْ تَغْشَاكُمْ دَوَاجِي ظُلَلِهِ- وَ احْتِدَامُ عِلَلِهِ وَ حَنَادِسُ غَمَرَاتِهِ- وَ غَوَاشِي سَكَرَاتِهِ وَ أَلِيمُ إِرْهَاقِهِ- وَ دُجُوُّ أَطْبَاقِهِ وَ جُشُوبَةُ مَذَاقِهِ- فَكَأَنْ قَدْ أَتَاكُمْ بَغْتَةً فَأَسْكَتَ نَجِيَّكُمْ- وَ فَرَّقَ نَدِيَّكُمْ وَ عَفَّى آثَارَكُمْ- وَ عَطَّلَ دِيَارَكُمْ وَ بَعَثَ وُرَّاثَكُمْ- يَقْتَسِمُونَ تُرَاثَكُمْ بَيْنَ حَمِيمٍ خَاصٍّ لَمْ يَنْفَعْ- وَ قَرِيبٍ مَحْزُونٍ لَمْ يَمْنَعْ- وَ آخَرَ شَامِتٍ لَمْ يَجْزَعْ فَعَلَيْكُمْ بِالْجَدِّ وَ الِاجْتِهَادِ وَ التَّأَهُّبِ وَ الِاسْتِعْدَادِ- وَ التَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ- وَ لَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا- كَمَا غَرَّتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ- وَ الْقُرُونِ‏ الْخَالِيَةِ الَّذِينَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا- وَ أَصَابُوا غِرَّتَهَا وَ أَفْنَوْا عِدَّتَهَا- وَ أَخْلَقُوا جِدَّتَهَا وَ أَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً- وَ أَمْوَالُهُمْ مِيرَاثاً لَا يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ- وَ لَا يَحْفِلُونَ مَنْ بَكَاهُمْ وَ لَا يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ- فَاحْذَرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ- مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ- لَا يَدُومُ رَخَاؤُهَا- وَ لَا يَنْقَضِي عَنَاؤُهَا وَ لَا يَرْكُدُ بَلَاؤُهَا

اللغة
أقول:

الحابس: المانع.

و الخالس: المختطف.

و التكنّف: الإحاطة.

و الطيّات: جمع طيّة بالكسر، و هى منزل السفر.

و الواتر: الّذي يوجب لغيره الوتر و هو الذحل و الحقد.

و الغوائل: المصايب يأتي على غرّة، جمع غايلة.

و المعابل: جمع معبل بكسر الميم و هى نصل طويل عريض.

و عدوته بفتح العين: ظلمه.

و نبا السيف: إذا لم يؤثّر في الضربة.

و الظلل: جمع ظلّة، و هو السحاب.

و الاحتدام: شدّة الحدّة و الغيظ.

و الإرهاق: الإعجال، و يروى بالزاي.

و الجشوبة بالجيم: غلظ الطعام.

و النجىّ: القوم يتناجون.

و الندىّ: القوم يجتمعون في النادى، و هو المجتمع.

و لا يحفلون: لا يبالون، و الاحتفال بالشي‏ء: الاعتناء به.

المعنى
و في الفصل مقاصد:
الأوّل. التنبيه على فضيلة تقوى اللّه بأوصاف:
الأوّل: كونها مفتاح سداد،
و لمّا كان السداد هو الصواب و العدل في القول و العمل، و كان ذلك هو غاية الدين و الطريق المسلوك إلى اللّه، و كانت تقوى اللّه تعود إلى خشيته المستلزمة للإعراض عن مناهيه استعار لها لفظ المفتاح باعتبار كونها سببا للاستقامة على الصواب و القصد في صراط اللّه المستقيم إلى ثوابه المقيم الّذي أفضل المطالب كما أنّ المفتاح سبب الوصول إلي ما يخزن من‏ الأموال النفيسة.
الثاني: كونها ذخيرة معاد
و ظاهر أنّ الاستعداد لخشية اللّه و ما يستلزمه من الكمالات النفسانيّة من أنفس الذخائر المشفّع بها في المعاد.
الثالث: كونها عتقا من كلّ ملكة.
استعار لفظ العتق لخلاص النفس العاقلة من استيلاء حكم شياطينها المطيفة بها كخلاص العبد من استيلاء سيّده. ثمّ جعل التقوى نفسها عتقا مجازا إطلاق لاسم السبب على المسبّب. إذ كانت التقوى سببا لذلك الخلاص المستعار له لفظ العتق.
الرابع: و نجاة من كلّ هلكة.
أطلق عليها لفظ النجاة مجازا كالعتق لكونها سببا لنجاة الناس من الهلكات الاخرويّة و عقوبات الآثام، و ربّما كانت التقوى سببا للنجاة من مخاوف دنيويّة لولاها لحقت.
الخامس: بها ينجح الطالب.
أمّا لثواب اللّه في الآخرة فظاهر، و أمّا في الدنيا فلما نشاهده من اتّخاذ كثير من الناس شعار المتّقين ذريعة إلى مطالبها و نجاح مساعيهم و إقبال الدنيا عليهم،
السادس: و ينجو الهارب
أى من عذاب اللّه و هو ظاهر.
و السابع: و تنال الرغائب،
و هو كقوله: و ينجح الطالب، و في كلّ قرينتين من القرائن الستّ من أوّل الفصل السجع المتوازى.

المقصد الثاني: التنبيه على وجوب العمل الصالح المطلوب للّه. و مبادرته باعتبارات:
الأوّل: أنّهم في وقت العمل و إمكان رفعه إلى اللّه
دون ما بعد الموت، و الواو في قوله: و العمل. للحال.
الثاني: في وقت قبول التوبة
منهم و الإقلاع من موبقات الآثام.
الثالث: في وقت استماع الدعاء
و قبوله فإنّ شيئا من ذلك لا ينفع بل لا يمكن بعد الموت.
الرابع: و الحال هادئة.
أى حال الإنسان في الدنيا فإنّ حاله حين الموت‏ و ما بعده في غاية الاضطراب.
الخامس: و الأقلام جارية
أي أقلام الحفظة، و فائدة الإعلام بالعمل في حال جريان الأقلام التنبيه على وقت الأعمال الخيريّة و إمكانها حين تكتب و ترفع إلى اللّه: أى فاعملوا في الحال المذكورة ما دامت أقلام الكرام الكاتبين جارية لتكتب أعمالكم.

المقصد الثالث: حثّهم على المبادرة إلى الأعمال الخيريّة باعتبارات:
أحدها: أنّ أعمارهم الّتي هى محل الأعمال في معرض الانتكاس
و الرجوع إلى الحالة المنافية للتكليف و هى الهرم المستلزم لضعف العقل و البنية و نقصانهما و الرجوع إلى حال الطفل في ذلك كقوله تعالى وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ«» فينبغي أن يبادر ذلك بالأعمال الصالحة الممكنة فيه.
الثاني: أنّ أبدانهم في معرض التغيير و التبديل بالصحة الّتي هى مظنّة العمل مرضا
و هو مظنّة بطلان العمل و امتناعه فينبغى أن يبادر الصحّة بالعمل قبل الحبس عنه بالمرض.
الثالث: أن يبادر ما هو أعظم من ذلك و هو الموت
الّذى لا بدّ منه، و استعار لفظ الخالس له باعتبار أخذه للأعمار على غرّة و غفلة من أهلها كالمختلس للشي‏ء عن يد غيره.
ثمّ نبّه على وجوب العمل للموت و لما بعده بأوصافه المخوّفة:
أحدها: كونه هادم لذّاتهم الدنيويّة
و هو ظاهر، و نحوه قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أكثروا من ذكر هادم اللذّات.
الثاني
كونه مكدّر شهواتهم.
الثالث: كونه مباعد طيّاتهم،
و استعار لفظ الطيّات لمنازل السفر إلى الآخرة بالموت عن الدنيا و أهلها فإنّ الآخرة أبعد منزل عن الدنيا.
الرابع: استعار لفظ الزائر باعتبار هجومه على الإنسان
و لمّا كان من شأن الزائر أن يكون محبوبا ميّزه بكونه غير محبوب لتحصل النفرة عنه و تفرغ‏ إلى العمل له.
الخامس :استعار له لفظ القرن بوصف كونه غير مغلوب ليهتّم بالاستعداد له.
السادس: استعار لفظ الواتر بوصف كونه غير مطلوب
أى من شأنه أن يوتر القلوب و لا يمكن أن يطلب بوتر و لا ينتصف منه ملاحظة لشبهه بالرجل البالغ في الشجاعة بحيث لا يغلب.
السابع:استعار لفظ الحبائل للأوصاب و الأمراض البدنيّة الّتي هى داعية الموت و مؤدّية إليه كحبالة الصايد، و رشّح بوصف الإعلاق.
الثامن:و تكنّفتكم غوائله: أى أحاطت بكم مصائبه.
التاسع
استعار لفظ المعابل للآفات الداعية إلى الموت أيضا باعتبار كونها موذية أو قاتلة كالنصال، و رشّح بذكر الإقصاد.
العاشر
استعار لفظ السطوة له ملاحظة لشبهه بالسلطان القاهر أو السبع الضارى في قوّة أخذه و شدّة بطشه.
الحادى عشر
كذلك لفظ العدوة له باعتبار كون أخذه على غير حقّ له كالظالم.
فان قلت: إذا كانت حقيقة الظلم هى الأخذ بغير حقّ و هذا الحدّ صادق في محلّ الموت فوجب أن يكون لفظ العدوة هنا حقيقة لا استعارة.
قلت: لفظ الأخذ إنّما يصدق حقيقة على ذى الحياة و إن سلّمنا صدقه على غيره لكنّ الأخذ بغير حقّ ليس هو حقيقة الظلم بل الأخذ بغير حقّ لمن يكون من شأنه أن يكون له حقّ، و ذلك مختصّ بالعقلاء فسلب الحقّ عمّن له اللفظ حقيقة هو سلب الملكة. و عمّاله اللفظ مستعارا هو السلب المطلق.
الثاني عشر
و كذلك لفظ النبوة لعدم تأثيره ملاحظة لشبهه بالسيف القاطع و وصفها بالقلّة. و راعى في كلّ ثلاث قرائن من هذه التسع السجع المتوازى.
الثالث عشر
استعار لفظ الظلّ للأمراض و العلل الداعية إلى الموت استعارة لفظ المحسوس بالبصر للمتخيّل ملاحظة لشبهها بالسحاب المظلّ واصفا بالدواجى.
إذ كان الكلام في معرض التخويف، و السحاب المظلم أشدّ رهبة في القلوب من غيره و يقرب منه قوله تعالى وَ إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ«» و هو شروع في التخويف بنزول الموت.
الرابع عشر
و كذلك استعار وصف الاحتدام لعلله ملاحظة لشبهها في نزولها بالرجل المستشيط غضبا في قوّة الأخذ.
الخامس عشر
استعار لفظ الحنادس لما يتوهّمه الإنسان من الظلم في غمرات الموت و سكراته.
السادس عشر
و كذلك لفظ الغواشى لما يعرض عند سكرات الموت من العوارض المانعة من الإدراك، المغشية لآلاته.
السابع عشر
و أليم إرهاقه: أى إعجاله المؤلم.
الثامن عشر
و دجّو إطباقه. استعار لفظ الإطباق لحالاته المتزايدة و سكراته المتضاعفة الّتي بتضاعفها يزداد آلات إدراكه بعدا و انقطاعا عن المدركات الدنيويّة، و باعتبار انقطاع الإدراك بسبب تلك الحالات وصفها بالدجوّ و شدّة الظلمة، و يحتمل أن يريد بإطباقة إطباق القبور.
التاسع عشر
استعار لفظ مذاقه لوجدانه باعتبار المشاركة في الإدراك، و باعتبار شدّة ايلامه وصفه بالجشوبة.
العشرون: التخويف بإتيانه بغتة
و كأن هى المخفّفة من كأنّ و الاسم ضمير الشأن، و لمّا كانت كأنّ للتشبيه و كان التشبيه يستلزم المقاربة بين المشبّه و المشبّه به في وصف ما و هو وجه الشبه كان المشبّه هنا هو حال الموت من جهة ما هو منتظر لا بدّ منه، و المشبّه به هو باعتبار إتيانه و موافاته لهم، و وجه الشبه هو القرب: أى قرب المنتظر الّذي لا بدّ منه من الواقع الموجود. إذ كلّ ما هو آت قريب. ثمّ أردف التخويف منه بذكر لوازمه المخوّفة، و هى إسكات المتناجين، و تفريق المجتمعين، و تعفية الآثار. و تعطيل الديار، و بعث‏ الوارث لاقتسام التراث. و أسند إليه البعث باعتبار أنّه سبب يلزمه انبعاث دواعى الورثة إلى اقتسام التراث لزوما عرضيّا.
و قوله: بين حميم. متعلّق بأتاكم بغتة مع ما بعده من الأفعال: أى كأنّه قد أتاكم بغتة ففعل بكم ما فعل من إسكات المتناجين و غيره بين صديق خاصّ لأحدكم لا ينفع صداقته حينئذ، و قريب محزون لا ينفع حزنه و لا يقدر على المنع عنه، و آخر عدوّ شامت لا يجزع عليه. ثمّ أردف ذكر الموت و لوازمه بالحثّ على العمل و الجدّ فيه و التأهّب و الاستعداد لنزول الموت و ما بعده و التزوّد: أى بالتقوى في منزل الزاد و هو الدنيا لأنّها المنزل الّذي لا يمكن تحصيل الزاد إلى الآخرة إلّا فيه، و لذلك أضافه إليه، ثمّ بالنهى عن الانخداع لغرور الدنيا كانخداع السابقين و القرون الماضين، و استعار لفظ الدرّة لمنافع الدنيا و خيراتها، و لفظ الاحتلاب لجمعها و اقتنائها: أى الّذين فازوا بخيراتها و حصلوا عليها، و لذلك استعار لفظ الغرّة لعدم وصول حوادثها إليهم في مدّة استمتاعهم بها فكأنّها غافلة عنهم لا ترميهم بشي‏ء من المصائب فلمّا وجدوا ذلك منها أخذوا ما أخذوا و حصّلوا على ما حصّلوا. و إفناؤهم لما تعدّد فيها من مأكول و ملبوس و غيرهما ممّا يستمتع به فيغنى، و كذلك إخلاقهم لجدّتها كناية عن استمتاعهم بما أخذوا منها من صحّة و مال و غيرهما إلى انقضائه و انتهاء مدّته حتّى كأنّهم لم يبقوا من محاسنها شيئا إلّا أخلقوه. و لمّا وصف حالهم فيها بما وصف أردف ذلك بذكر غايتهم منها و هى الأحوال المذكورة بقوله: أصبحت مساكنهم أجداثا. إلى قوله: دعاهم. و خلاصة الكلام أنّكم لا تغترّوا بالدنيا كما اغترّ بها من كان قبلكم فإنّ اولئك مع أنّهم كانوا قد صادفوا غرّتها و حصّلوا منها على ما حصّلوا من خيراتها كانت غايتهم منها أن و صلوا إلى ما وصلوا من العدم فكذلك أنتم بطريق أولى. ثمّ أكّد التحذير منها بذكر أوصافها المنفّرة عنها فاستعار لها لفظ الغرارة باعتبار كونها سببا ماديّا للاغترار كما سبق، و لمّا كان الخداع هو المشورة بأمر ظاهره مصلحة و باطنه مفسدة و كان‏ ظهور زينة الحياة الدنيا للناس يشبه الرأي المحمود في الظاهر اتّباعها، و كانت تلك الزينة و اتّباعها لما فيها من الفتنة بها عن سبيل اللّه الّذي هو عين المفسدة تشبه المفسدة في باطن الرأى لا جرم أشبه ظهور زينتها الخداع فاستعار لها لفظ الخدوع بذلك الاعتبار، و كذلك استعار لفظ المعطية، و لفظ المنوع باعتبار كونها سببا ماديّا للانتفاع بما فيها من خيراتها و سببا ماديّا لمنعه، و كذلك لفظ الملبسة النزوع، و راعى في هاتين القرينتين المقابلة، و فايدتها ههنا التنفير عمّا يتوهّم فيها خيرا ممّا تعطيه و تلبسه بذكر استعقابها لمقابلتهما من منعها لما تعطيه و نزعها ممّا تلبسه، و لذلك أكّده بقوله: لا يدوم رخاؤها. إلى آخره، و لمّا كان رخاؤها من صحّة و شباب و مال و جاه و نحوها من سائر الملذّات البدنيّة حوادث مشروطة باستعدادات سابقة عليها و معدّات غير مضبوطة كثيرة حادثة و غير حادثة سريعة التغيّر أو بطيئة لا جرم كان من شأن ذلك الرخاء التغيّر و الانقطاع، و ظاهر أنّ انقطاع رخائها حالا فحالا مستلزم لعدم انقضاء عنائها و متاعبها، و تواتر بلائها. و استعار لبلاء الدنيا وصف عدم الركود ملاحظة لشبهه بالريح دائمة الحركة لكونه دايما.

القسم الثاني منها فى صفة الزهاد.
كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا- فَكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا عَمِلُوا فِيهَا بِمَا يُبْصِرُونَ- وَ بَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ- تَقَلَّبُ أَبْدَانِهِمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ الْآخِرَةِ- وَ يَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ- وَ هُمْ أَشَدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ

اللغة
أقول:

ظهراني: بفتح النون.

و الإشارة إلى بعض أصحابه الّذين درجوا قبله.

المعنى
و قوله: كانوا قوما. إلى قوله: أهلها.

قضيّتان ظاهرهما التناقض لكن قد علمت أنّ المطلقتين لا يتناقضان، و اختلافهما يحتمل أن يكونا بالموضوع أو بالإضافة فإنّهم من أهل الدنيا بأبدانهم و مشاركاتهم الضروريّة لأهلها في الحاجة إليها و ليسوا من أهلها بقلوبهم. إذ خرجوا عن ملاذّها و نعيمها و استغرقوا في محبّة اللّه و ما أعدّ لأوليائه الأبرار في دار القرار فهم أبدا متطلّعون إليه و شاهدون لأحوال الآخرة بعيون بصائرهم كما قال عليه السّلام فيما قبل في صفتهم: فهم و الجنّة كمن قد رآها فهم فيها متنعّمون، و هم و النار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون. و من كان كذلك فحضوره القلبىّ إنّما هو في تلك الدار فكان بالحقيقة من أهلها. و قوله: عملوا فيها بما يبصرون. أى كان سعيهم و حركاتهم البدنيّة و النفسانيّة في سبيل اللّه ببصيرة و مشاهدة لأحوال تلك الطريق و ما تفضى إليه من السعادة الباقية، و علم بما يستلزمه الانحراف عنها من الشقاوة اللازمة الدائمة، و الباء للتسبّب. و ما مصدريّة، و يحتمل أن تكون بمعنى الّذي: أى بالّذي يبصرونه و يشاهدونه من تلك الأحوال فإنّ علمهم اليقين بها هو السبب القائد و الحامل لهم في تلك الطريق و على سلوكها. و قوله: و بادروا فيها ما يحذرون. و المبادرة المسابقة و المعاجلة و هى مفاعلة من الطرفين، و المراد أنّهم سابقوا ما يحذرون من عذاب اللّه المتوعّد في الآخرة كأنّه سابق لهم إلى أنفسهم و هم مسابقوه إلى خلاصها فسبقوه إلى النجاة. إذ كانوا راكبين لمطاياها، و متمسّكين بعصمها و هى أوامر اللّه و حدوده. و قوله: تقلّب. إلى قوله: الآخرة. أى تتقلّب. فحذف إحدى التائين تخفيفا. فالمعنى أنّ دأبهم معاشرة أهل الآخرة و العاملين لها دون أهل الدنيا، و قيل: يحتمل أن يريد بأهل الآخرة سائر الناس لأنّ مستقرّهم الأصلى و دار قرارهم هى الآخرة كما قال تعالى وَ إِنْ‏ يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ«» و المعنى على هذا الوجه أنّهم مع الناس بأبدانهم فقط تتقلّب بينهم و أرواحهم في مقام آخر. و قوله: يرون. إلى آخره. الغرض الفرق بينهم و بين أهل الدنيا. إذ كان أهل الدنيا لا يرون أنّ وراء أبدانهم كمالا آخر فكانوا غافلين عن أحوال الآخرة من سعادة أو شقاوة فكان أعظم محبوباتهم بقاء أجسادهم و تكميلها، و أعظم منفور عنه لهم نقصانها و موتها: أمّا المتّقون فهم و إن كانوا يرونهم بتلك الحال إلّا أنّهم يرون أفضل ممّا يرون، و هو أنّ موت قلوبهم و فقدانها للحياة بالعلم و الحكمة أعظم من موت أجسادهم، و ذلك لعلمهم بفساد الحياة البدنيّه و انقطاعها و كدرها بعوارض الأمراض و ساير المغضبات الدنيويّة، و بقاء الحياة النفسانيّة و شرف كمالها و صفاء لذّاتها عن الأقدار و الأكدار. و إنّما قال: قلوب أحيائهم، و لم يقل: قلوبهم لأنّ موت القلوب قد يكون حقيقه بموت الأجساد، و قد يكون مجازا و هو موتها بفقدان العلم و نور الحكمة مع حياة أجسادها فكان ذكر الأحياء كالقرينة المعيّنة لمراده بذلك الموت مجازا، و الضمير في قوله: أحيائهم يعود إلى أهل الدنيا لأنّ موت القلوب هو الواقع بهم حال حياة أبدانهم، و يحتمل عوده إلى قوله: و هم. الّذي هو ضمير المتّقين. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 100

 

خطبه 215 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام
وَ اللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً- أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً- أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً- لِبَعْضِ الْعِبَادِ- وَ غَاصِباً لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ- وَ كَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا- وَ يَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا- وَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وَ قَدْ أَمْلَقَ- حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً- وَ رَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ- كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ- وَ عَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَ كَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً- فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي- وَ أَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي- فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا- فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا- وَ كَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا- فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ- أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ- وَ تَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ- أَ تَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَ لَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى- وَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَةٍ فِي وِعَائِهَا- وَ مَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا- كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا- فَقُلْتُ أَ صِلَةٌ أَمْ زَكَاةٌ أَمْ صَدَقَةٌ- فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ- فَقَالَ لَا ذَا وَ لَا ذَاكَ وَ لَكِنَّهَا هَدِيَّةٌ- فَقُلْتُ هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ أَ عَنْ دِينِ اللَّهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي- أَ مُخْتَبِطٌ أَمْ ذُو جِنَّةٍ أَمْ تَهْجُرُ- وَ اللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا- عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ- وَ إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا- مَا لِعَلِيٍّ وَ لِنَعِيمٍ يَفْنَى وَ لَذَّةٍ لَا تَبْقَى- نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَ قُبْحِ الزَّلَلِ وَ بِهِ نَسْتَعِينُ

اللغة
أقول:

السعدان: نبت شوكىّ ذو حسك لها ثلاث أرؤس محدّدة على أىّ وجه وقعت من الأرض كان لها رأسان قائمان.

و المصفّد: الموثوق شدّا بغلّ أو قيد و نحوهما.

و القفول: الرجوع من السفر.

و الإملاق: الافتقار.

و الاستماحة: طلب المنح و هو العطاء.

و العظلم: نبت و هو بالعربيّة النيل، و قيل: نبت آخر يصبغ به.

و الدنف: شدّة المرض.

و الميسم: المكواة.

و سجّرها: و قدها و أحماها.

و شنئتها: أبغضتها.

و هبلته الهبول: ثكلته الثواكل.

و الخباط: مرض كالجنون و ليس به، و المختبط: الّذي يطلب معروفك من غير سبب سابق بينكما من رحم أو معروفة سابقة أو سابقة معروف لك عنده.

و الجنّة: الجنون.

و الهجر: الهذيان.

و جلب الشعيرة: قشرها.

و غرض الفصل التبرّى من الظلم
و ذلك أنّ أحدهم كان يأتيه فيسأله العطاء و هو عليه السّلام لم يكن ليستبقى لنفسه شيئا و لا يرى أن يعطى من بيت المال أحدا دون غيره. فيحرمه، و ربّما كان في غاية الحاجه فينسبه إلى الظلم و التخصيص بالمال دونه. فتبرّأ بهذا الكلام ممّا نسب إليه من ذلك.

فقوله: و اللّه. إلى قوله: الحطام.

بيان لمقدار نفرته عن الظلم و غايتها. و علّة ترجيحه أو اختياره لأحد الأمرين المذكورين على الظلم مع ما يستلزمانه من التألّم و العذاب أنّ ما يستلزمه الظلم من عذاب اللّه أشدّ خصوصا في حقّ من نظر بعين بصيرته تفاوت العذابين، مؤكّدا لذلك البيان بالقسم البارّ. و لفظ الحطام مستعار لمتاع الدنيا باعتبار حقارته، و أصله ما تكسر من نبت الأرض. و ظالما و غاصبا حالان. و قوله: و كيف. إلى قوله: حلولها. استفهام عن وجه ظلمه لأحد استفهام إنكار على من نسب إليه ذلك مع ذكر سببين يمنعان العاقل من الظلم، و هما الرجوع إلى البلى من السفر في الدنيا، و طول الحلول في الثرى. و قوله: و اللّه لقد رأيت. إلى قوله: لظى. تنبيه لنفى الظلم عنه ببلوغه في المحافظة على بيت المال و مراعاة العدل إلى الحدّ الّذي فعله مع أخيه عقيل على شدّة فاقته و فاقة عياله و كونه ذا حقّ في بيت المال، و معلوم أنّ من لم تدعه هذه الأسباب الثلاثة، و هى الاخوّة و الفاقة و الحقّ الموجود لذى الفاقة. إلى أن يدفعه إليه أو بعضه خوفا من شبهة الظلم فهو أنزه الناس أن يظلم أو يحوم حول الظلم بوجه، و استعار لفظ السمع لما يوهم من استعاضة لذّة العطاء للأخ الفقير بما يفوت من الدين لسبب الظلم في عطيّته على غير الوجه الشرعىّ، و قيادة ما يقوده به من الاستعطاف و الرحم عن طريقة العدل، و إنّما أحمى له الحديدة لينبّهه بها على النار الاخرويّة، و لذلك احتجّ عند أنينه من حرّها بقوله: أتئنّ من حديدة.
إلى قوله: لغضبه، و وجه الاحتجاج أنّك إذا كنت تئنّ من هذه فبالأولى أن تئنّ من تلك النار، و غاية ذلك أن تترك الظلم بطلب ما لا تستحقّه لاستلزام الأنين من نار اللّه ترك الظلم، و لمّا أثبت عليه وجوب ترك الظلم بذلك الطلب أعقبه بالاحتجاج لنفسه على وجوب تركها للظلم بإعطائه بقوله: أتئنّ من الأذى و لا أئنّ من لظى: أى إذا كنت تئنّ من الأذى فبالأولى أن أئنّ من لظى. و إنّما قال: و لا أئنّ من لظى مع أنّ لظى غير حاصلة الآن تنزيلا للمتوقّع الّذى لا بدّ منه‏ بسبب الظلم منزلة الواقع ليكون أبلغ في الموعظة، و إنّما أضاف الإنسان إلى الحديدة لأنّه أراد إنسانا خاصّا هو المتولّى لأمر تلك الحديدة فعرّفه بإضافته إليها، و كذلك الإضافة في جبّارها، و إنّما قال: للعبه. استسهالا و تحقيرا لما فعل لغرض أن يكبّر فعل الحارّ من سجر النار، و كذلك جعل العلّة الحاملة على سجر النار هو غضب الجبّار تعظيما لشأنه. و قوله: و أعجب من ذلك. إلى قوله: أم تهجر. أى و أعجب من عقيل و حاله طارق طرقنا. و الطارق: الآتى ليلا، و كنّى بالملفوفة في وعائها عن الهديّة. و قيل: كان شيئا من الحلواء كالفالوذج أو الحنبص و نحوه، و نبّه بقوله: شنئتها. على بعضه للامور اللذيذة الدنيويّة و نفرته عنها زهدا فيها، و وجه تشبيهها بما عجن بريق الحيّة أوقيئها هو ما في تصوّره في قبولها من الفساد و ما قصد بها مهديها في طلب الميل إليه المستلزم للظلم و الجور عن سبيل اللّه فإنّ القصد الّذي اشتمل عليه كالسمّ المهلك، و أمّا كون وجه كون المهدى أعجب من عقيل فلأنّ عقيلا جاء بثلاث وسايل كلّ منها يستلزم العاطفة عليه: و هى الأخوّة و الفاقة و كونه ذا حقّ في بيت المال، و هذا المهدى إنّما أدلى بهديّته.

فأمّا قوله في جوابه: فقلت له. إلى قوله: أهل البيت. فإنّه أراد به حصر وجوب البرّ في العرف لأنّ التقرّب إلى اللّه ببذل المال لعباده إمّا صلة رحم أولا، و الثاني فإمّا على وجه الصدقة أو الزكاة الواجبة و لم يذكر الهديّة لأنّه لم يكن في وهم عاقل قبول علىّ عليه السّلام لها خصوصا زمان خلافته، و ذلك أنّ مطلوب العاقل منه بالهديّة إمّا حقّ أو باطل، و الحقّ لا يحتاج فيه إلى الهديّة و الباطل لا يفعله بوجه، و لذلك لمّا قال له الطارق: إنّها هديّة. دعا عليه و نسبه إلى الجنون و الهذيان، و لمّا قسّم عليه وجوب البرّ أبطل قسمين منها بقوله: فذلك محرّم علينا أهل البيت. و أراد الصدقة و الزكاة.
و أمّا صلة الرحم فلم يحتجّ إلى إبطالها لأنّ الطارق لم يكن ذا رحم له، و قول الطارق: لا هذا و لا ذاك. يجرى في مجرى إبطال الحصر بإبراز قسم رابع‏ هو الهديّة. و قوله: هبلتك الهبول. إلى قوله: تهجر. جواب لقوله: و لكنّها هديّة. قرّر عليه فيه ما فهمه من غرضه بالهديّة، و هو خداعه عن دينه. إذا الهديّه لغرض حرام صورة استغرار و خداع، و ذكر الخداع عن الدين تنفيرا لصاحب الهدية عن فعله ذلك، و لمّا كان ذلك الأمر لو تمّ الغرض به استلزم نقصان الدين كالخداع عن الدين فأطلق عليه لفظة الخداع استعارة. و قوله: أ مختبط أم ذو جنّة أم تهجر. استفهام على سبيل الإنكار و التوبيخ على ذلك الخداع بعد تقريره عليه.
إذ كان المخادع لمثله عليه السّلام عن دينه لا يكون إلّا على أحد الوجوه المذكورة غالبا و لا يتصوّر أن يصدر منه ذلك الخداع عن رويّة صحيحة، و قد ذكر وجوه الخروج عن الصواب ممّا يتعلّق بالعقل. و قوله: و اللّه. إلى قوله: ما فعلت. يحتمل أن يكون ردّا لوهم الطارق فيه أنّه يفعل مطلوبه الحرام بتلك الهديّة، و إبطال لذلك الوهم عنه. و الأقاليم السبعة: أقسام الأرض، و هو دليل منه على غاية العدل. و قوله: و إنّ دنياكم. إلى قوله: تقضمها. دليل على غاية الزهد منه في الدنيا كقوله في الشقشقيّة: و لألفيتم دنياكم هذه أهون عندى من عفطة عنز. و قوله: ما لعلىّ و لنعيم يفنى و لذّة لا تبقى. استفهام إنكار لملامته نعيم الدنيا و لذّاتها الفانية، و المعنى أنّ حال علىّ ينافي ذلك النعيم، و اختياره يضادّ تلك اللذّة. ثمّ تعوّذ باللّه من سبات العقل و هى اختياراته لتلك اللذّات و لذلك النعيم و ميله في مطاوعة النفس الأمّارة بالسوء، و من قبح الزلل و هو الانحراف عن سبيل اللّه الموقع في مهاوى الهلاك، و استعان به على دفع ما تعوّذ به منه. و باللّه التوفيق و العصمة.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 83

 

خطبه 214 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام قاله عند تلاوته يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم

أَدْحَضُ مَسْئُولٍ حُجَّةً وَ أَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً- لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ- يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ- وَ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ وَ مَا أَنَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ- أَ مَا مِنْ دَائِكَ بُلُولٌ أَمْ لَيْسَ مِنْ نَوْمِكَ يَقَظَةٌ- أَ مَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ‏ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَيْرِكَ- فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِيَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ- أَوْ تَرَى الْمُبْتَلَى بِأَلَمٍ يُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ- فَمَا صَبَّرَكَ عَلَى دَائِكَ وَ جَلَّدَكَ عَلَى بِمُصَابِكَ وَ عَزَّاكَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ- وَ هِيَ أَعَزُّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكَ- وَ كَيْفَ لَا يُوقِظُكَ خَوْفُ بَيَاتِ نِقْمَةٍ- وَ قَدْ تَوَرَّطْتَ بِمَعَاصِيهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ- فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ بِعَزِيمَةٍ- وَ مِنْ كَرَى الْغَفْلَةِ فِي نَاظِرِكَ بِيَقَظَةٍ- وَ كُنْ لِلَّهِ مُطِيعاً وَ بِذِكْرِهِ آنِساً- وَ تَمَثَّلْ فِي حَالِ تَوَلِّيكَ عَنْهُ- إِقْبَالَهُ عَلَيْكَ يَدْعُوكَ إِلَى عَفْوِهِ- وَ يَتَغَمَّدُكَ بِفَضْلِهِ وَ أَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ- فَتَعَالَى مِنْ قَوِيٍّ مَا أَكْرَمَهُ- وَ تَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِيفٍ مَا أَجْرَأَكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ- وَ أَنْتَ فِي كَنَفِ سِتْرِهِ مُقِيمٌ- وَ فِي سَعَةِ فَضْلِهِ مُتَقَلِّبٌ- فَلَمْ يَمْنَعْكَ فَضْلَهُ وَ لَمْ يَهْتِكْ عَنْكَ سِتْرَهُ- بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرَفَ عَيْنٍ- فِي نِعْمَةٍ يُحْدِثُهَا لَكَ أَوْ سَيِّئَةٍ يَسْتُرُهَا عَلَيْكَ- أَوْ بَلِيَّةٍ يَصْرِفُهَا عَنْكَ فَمَا ظَنُّكَ بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ كَانَتْ فِي مُتَّفِقَيْنِ فِي الْقُوَّةِ- مُتَوَازِيَيْنِ فِي الْقُدْرَةِ- لَكُنْتَ أَوَّلَ حَاكِمٍ عَلَى نَفْسِكَ بِذَمِيمِ الْأَخْلَاقِ- وَ مَسَاوِئِ الْأَعْمَالِ- وَ حَقّاً أَقُولُ مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ وَ لَكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ- وَ لَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ وَ آذَنَتْكَ عَلَى سَوَاءٍ- وَ لَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِجِسْمِكَ- وَ النَّقْصِ فِي قُوَّتِكَ أَصْدَقُ وَ أَوْفَى مِنْ أَنْ‏ تَكْذِبَكَ أَوْ تَغُرَّكَ- وَ لَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ- وَ صَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ- وَ لَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِي الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ وَ الرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ- لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِيرِكَ- وَ بَلَاغِ مَوْعِظَتِكَ- بِمَحَلَّةِ الشَّفِيقِ عَلَيْكَ وَ الشَّحِيحِ بِكَ- وَ لَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً- وَ مَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلًّا- وَ إِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْيَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْيَوْمَ- إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ وَ حَقَّتْ بِجَلَائِلِهَا الْقِيَامَةُ- وَ لَحِقَ بِكُلِّ مَنْسَكٍ أَهْلُهُ وَ بِكُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ- وَ بِكُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ- فَلَمْ يُجْزَ فِي عَدْلِهِ وَ قِسْطِهِ يَوْمَئِذٍ خَرْقُ بَصَرٍ فِي الْهَوَاءِ- وَ لَا هَمْسُ قَدَمٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِحَقِّهِ- فَكَمْ حُجَّةٍ يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَةٌ- وَ عَلَائِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَةٌ- فَتَحَرَّ مِنْ أَمْرِكَ مَا يَقُومُ بِهِ عُذْرُكَ وَ تَثْبُتُ بِهِ حُجَّتُكَ- وَ خُذْ مَا يَبْقَى لَكَ مِمَّا لَا تَبْقَى لَهُ- وَ تَيَسَّرْ لِسَفَرِكَ وَ شِمْ بَرْقَ النَّجَاةِ وَ ارْحَلْ مَطَايَا التَّشْمِيرِ

اللغة
أقول: حجّة داحضة: باطلة.

و أبرح جهالة بنفسه: أى بالغ في تحصيل جهالتها و أعجبه ذلك.

و البلول: الصحّة.

و الضاحى: البارز للشمس.

و الممضّ: المؤلم.

و السطوة: البطش و القهر، و السطوة المرّة منه و الجمع سطوات.

و التجلّد: التقوّى و التصبّر.

و الورطة: الهلاك. و تعمّدك: قصدك.

و الكنف: الحياطة.

و الكنف: الجانب.

و آذنك: أعلمك.

و المنسك: موضع العبادة، و أصله كلّ موضع يتردّد إليه و يقصد.

و التحرّى: طلب الأحرى و الأولى.

و شم‏ برق النجاة: أى أنظر إليه.

المعنى

فقوله: أدحض. خبر مبتداء محذوف و التقدير الإنسان عند سؤال ربّه له ما غرّك بربّك الكريم أدحض مسئول حجّة، و أشدّه انقطاعا في عذره. و مبالغته في تجهيل نفسه: كثرة إمهالها في متابعة هواها و تركها عن الإصلاح، و المنصوبات الثلاثة مميّزات. و قوله: يا أيّها الإنسان. إلى قوله: بهلكة نفسك. استفهامات عن أسباب جرأته على الذنوب و أسباب غرّته بربّه و غفلته عن شدّة بأسه و عن أسباب انسه بهلكة نفسه بتوريطها في المعاصى معها استفهاما على سبيل التقريع و التوبيخ، و يحتمل أن يكون قوله: ما آنسك. تعجّبا، و كذلك الاستفهام عن بلوله من داء الجهل و يقظته من نوم الغفلة و رحمته لنفسه كما يرحم غيرها إلّا أنّ الاستفهامات الثلاثة الأولى يطلب فيها تصوّر تلك الأسباب و فهم حقيقتها على سبيل تجاهل العارف، و في هذه الثلاثة الأخيرة يطلب فيها التصديق. ثمّ نبّه على وجوب رحمته لنفسه كما يرحم غيرها بقوله: فلربّما ترى الضاحى.
إلى قوله: رحمة له، و هى في قوّة صغرى قياس احتجّ به، و وجه ذلك أنّك قد ترحم من تراه في حرّ الشمس فتظلّه أو مبتلى بألم فتبكى رحمة له، و كلّ من كان كذلك فأولى أن يرحم لنفسه بانقاذها من بلاء تقع فيه. ينتج إنّك أولى أن ترحم نفسك من دائها. و قوله: فما صبّرك. إلى قوله: الأنفس عليك. استفهام عن أسباب صبره على دائه و تجلّده على مصائبه الّتي تلحقه بسبب ذلك الداء و تعزيّه عن البكاء على نفسه و على أعزّ الأنفس عليه استفهام توبيخ و لائمة حسنها بعد ذلك الاحتجاج ظاهر، و نبّه بقوله: و كيف لا يوقظك. إلى قوله: سطواته. على بعض أسباب اليقظة لعظمة اللّه عن الغفلة عنها و هى خوف بيات نقمه أن يوقعها به ليلا كقوله تعالى أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ‏
نائِمُونَ«» و مدارج سطواته مجارى بطشه و قهره و هى محالّ المعاصى و أسبابها.
و التورّط فيها: الحصول فيها المستلزم للهلاك الاخروىّ. و قوله: فتداو. إلى قوله: بيقظة. تنبيه على الدواء من الفترة في القلب عن ذكر اللّه و هو العزيمة على طاعته و الإجماع على ملازمة ذكره، و من نوم الغفلة في ناظر القلب عن ذلك باليقظة له. ثمّ أمر بما ينبغي أن يكون تلك العزيمة عليه و تلك اليقظة له و هما طاعة اللّه و تحصيل الانس بدوام ذكره. و قوله: و تمثّل. إلى قوله: يصرفها عنك. تنبيه له على ضروب نعم اللّه عليه و مقابلته لها بالكفران و المعصية لعلّه يتذكّر أو يخشى فأمره أن يتمثّل في ذهنه في حال إعراضه عن ربّه و انهما كه في معصيته إقباله عليه بضروب نعمه من دعوته له بكلامه على ألسنة خواصّ رسله إلى عفوه و تعمّده إيّاه بفضله و إقامته في كنف ستره و تقلّبه في سعة فضله لم يمنعه فضله و لاهتك عنه ستره لمقابلته تلك النعم بالكفران و المعصية بل لم يخل من لطفه مقدار طرفة عين، و ذلك الطف في نعمة يحدثها له أو سيّئة يسترها عليه أو بليّة يصرفها عنه. فأحسن بهذا التنبيه فإنّ استحضار ذهن العاقل بضروب هذه النعم في حال الإقبال على المعصية من أقوى الجواذب إلى اللّه عنها، و إنّما قال: و تمثّل. لأنّ الحاضر في الذهن ليس هو نفس إقبال اللّه على العبد بل معناه و مثاله. و يدعوه: في موضع الحال، و كذلك الواو في قوله: و أنت. و الملازمة أنّ فضله كان عليك حال معصيتك له كثيرا كما تقدّم بيانه فبالطريق الأولى أن يتمّ فضله عليك حال طاعتك إيّاه و حسن ظنّك به.
و قوله: و أيم اللّه. إلى قوله: الأعمال. أى لو كان هذا الوصف الّذي ذكرناه من إقبال اللّه عليك بضروب نعمه و مقابلتك له بالإعراض عنه و الإقبال على معاصيه وصف مثلين من الناس في القوّة و القدرة و المنزلة و كنت أنت المسي‏ء منهما لكان فيما ينبغي لك من الحياء و الأنفة أن تكون أوّل حاكم على نفسك بتقصيرها و ذميم أخلاقها و مقابح أعمالها. وهو صورة احتجاج يقرّر عليه مساوى أعماله و يجذبه بذلك إلى تبديلها بمحاسنها في قياس ضمير من الشكل الأوّل ذكر في الكلام صغراه. تلخيصها: أنّك أوّل حاكم على نفسك بتقصيرها على تقدير أن يكون موليك هذه النعم مثلا لك، و تقدير الكبرى و كلّ من كان كذلك فأولى به أن يكون أوّل حاكم عليها بتقصيرها على تقدير أن يكون موليه تلك النعم خالقه و مالك رقّه، و ينتج أنّ الأولى بك أن يكون أوّل حاكم على نفسك بتقصيرها على تقدير أن يكون مولى تلك النعم خالقك و مالك رقّك. و قوله: و حقّا أقول: ما الدنيا غرّتك و لكن بها اغتررت. تقدير منع لما عساه أن يجيب به الناس سؤاله تعالى إيّاهم بقوله: ما غرّك بربّك، و هو كثير في كلامهم: إنّ الدنيا هى الغارّة، و كما نسب القرآن الكريم إليها ذلك بقوله وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا و كلامه عليه السّلام حقّ من وجهين: أحدهما: أنّ الاستغرار من لواحق العقل و ليست الدنيا لها العقل، و الثاني: أنّها لم تخلق لأنّ يستغرّ بها. إذ كان مقصد العناية الإلهيّة بوجود الإنسان فيها فلا يجوز أن ينسب إليها الاستغرار حقيقة لكن لمّا كانت سببا ماديّا للاغترار بها جاز أن ينسب إليها الاستغرار مجازا، و صدق قوله أيضا: و لكن بها اغتررت. و قوله: و لقد كاشفتك العظات. تقرير لمنع نسبة الاستغرار إليها بنسبة ضدّه إليها و هو النصيحة له بما كاشفته بالمواعظ و هى محالّ الاتّعاظ من تصاريفها و عبرها، و بمجاهرتها و إعلامها على عدل منها. إذ خلقت لذلك التغيير و الإعلام و على ذلك التصريف و لم يمكن أن يكون إلّا كذلك فلم يكن تصاريفها بك جورا عليك. و قوله: و لهى بما تعدك. إلى قوله: تغرّك.

زياده تأكيد لنصيحتها و تخويف منها، و استعار لفظ الوعد لإشعارها في تغييراتها بما يتوقّع من مصائبها كما أنّ الوعد إشعار بإعطاء مطلوب، و استعمل الوعد في مكان الوعيد مجازا إطلاقا لاسم أحد الضدّين على الآخر كتسمية السيّئة جزاء، و كذلك استعار لها لفظ الصدق و الوفاء ملاحظة لشبهها بالصادق الوفّى في أنّه لا بدّ من إيقاع ما وعد به.
و قوله: أصدق و أوفى. مع قوله: من أن تكذبك أو تغرّك. من باب اللفّ و النشر و فيه المقابلة. و قوله: و لربّ. إلى قوله: مكذّب. تقرير لبعض لوازم الغفلة عليه و هى تهمته للمناصح منها و تكذيبه لصادق خبرها، و أطلق لفظ التهمة و التكذيب مجازا في عدم الالتفات إلى نصيحتها بتصاريفها و ما يعلم من صادق تغيّراتها و عدم اعتبار ذلك منها إطلاقا لاسم ذى الغاية على غايته، و كانت غاية التهمة و التكذيب عدم الالتفات إلى المتّهم و المكذّب و الإعراض عنها. و قوله: و لئن تعرّفتها. إلى قوله. الشحيح بك، صورة احتجاج نبّه فيه على صدقها في نصيحتها كى تستنصح و لا تتّهم، و هو بقياس شرطيّ متّصل، و تقريره و لئن تعرّفتها: أى طلبت معرفة حالها في نصيحتها و غشّها من الديار الخاوية و الربوع الخالية للامم السالفة و القرون الماضية لتعرّفتها بمنزلة الشفيق عليك و الشحيح بك، و وجه شبهها بذلك حسن تذكّرها لك و بلاغ موعظتك و عبرتك منها كما أنّ الناصح الشفيق عليك، و بيان الملازمة بحال الوجدان بعد تعرّفها. و الاستثناء في هذه المتّصلة لعين المقدّم لينتج عين التالى. و قوله: و لنعم. إلى قوله: محلّا. مدح للدنيا باعتبار استعمالها على الوجه المقصود بالعناية الإلهيّة و هو الاعتبار بها دون الرضا بها لذاتها و اتّخاذها وطنا و دار إقامة، و اسم نعم هو دارمن لم يرض، و المخصوص بالمدح هو الدنيا، و دارا و محلا منصوبان على التميز يقومان مقام اسم الجنس الّذي هو اسم نعم إذا حذف، و هاهنا مسئلتان: إحداهما: أنّ اسم الجنس الّذي هو اسم نعم و بئس تضاف في العادة إلى ما فيه الألف و اللام كقولك: نعم صاحب القوم، و قد أضافه هاهنا إلى ما ليس فيه الألف و اللام، و قد جاء مثله في الشعر كقوله: فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم.

الثانية: أنّه جمع بين اسم الجنس و النكرة الّتي تبدل منه، و قد جاء مثله في قوله: فنعم الزاد زاد أبيك زادا، و إنّما أضاف دارا إلى من لم يرض بها، و محلّا إلى من لم يوطّنها لأنّ الدنيا إنّما يكون دارا ممدوحة باعتبار كونها دار من لم يرض بها و لم يوطنّها لاستلزام عدم رضاهم بها الانتفاع بالعبر بها و اتّخاذ زاد التقوى، و اولئك هم المتّقون السعداء بها. و يحتمل أن يكون دارا و محلّا منصوبين على التميز عن قوله: لم يرض بها و لم يوطّنها. و قوله: و إنّ السعداء بالدنيا غدا هم الهاربون منها اليوم. فوجه سعادتهم بها استثمارهم للكمالات المسعدة في الآخرة منها، و لن يحصل ذلك إلّا بالهرب منها اليوم، و كنّى بالهرب منها عن الإعراض الحقيقى عن لذّاتها، و التباعد من اقتنائها و لذّاتها لاستلزام الهرب عن الشي‏ء التباعد عنه و الزهد فيه، و ظاهر أنّ التباعد منها بالقلوب إلّا ما دعت الضرورة إليه و اتّخاذها مع ذلك سببا إلى الآخرة من أسباب السعادة و مستلزماتها كما أشار إليه سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من حاله فيها بقوله: ما أنا و الدنيا إنّما مثلى فيها كمثل راكب سار في يوم صايف فرفعت له شجرة فنزل فقعد في ظلّها ساعة ثمّ راح و تركها. و دلّ بقوله: إذا رجفت. على الوقت المذكور المدلول عليه بقوله: غدا. و هو يوم القيامة لقوله تعالى يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ«» قال المفسّرون: الراجفة: هى النفخة الاولى في الصور و هى صيحة عظيمة فيها تردّد و اضطراب كالرعد يصعق فيها الخلايق و تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ و هى النفخة الثانية تردف الأوّل. و جلائل القيامة: محنها الجليلة العظيمة. و قوله: و لحق بكلّ منسك أهله. إشارة إلى لحقوق كلّ نفس يوم القيامة لعبودها و مطاعها و ما ألفته و أحبّته من أمر دنيوىّ أو اخروىّ فأقبلت عليه و عملت له، و نحوه أشار الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يحشر المرء مع من أحبّ، و لو أحبّ أحدكم حجرا لحشر معه. و قوله: فلم يجز. إلى قوله: بحقّه. تقرير لعدله تعالى في ذلك اليوم. و المعنى أنّ كلّ حركة و لو طرفة عين في الهواء أو همس قدم في الأرض فإنّها لا تجرى في عدله إلّا بحقّها لا يزاد عليه و لا ينقص عنه. ثمّ أشار إلى كثرة الحجج الباطلة يومئذ و الأعذار المنقطعة ترغيبا في تحصيل الكمالات البرهانيّة و لزوم آثار المرسلين و الأولياء الأبرار في سلوك سبيل اللّه، و إنّما ذكر مخاوف ذلك اليوم و أهواله بعد ذكر السعداء فيه و تعيين أنّهم هم الهاربون من الدنيا اليوم ليرغّب إلى الاقتداء بهم في ذلك الهرب لغاية تلك السعادة. ثمّ أمر أن يطلب الإنسان من اموره و أحواله أحراها و أولاها ممّا يقوم به عذره في ذلك اليوم و تثبت به حجّته في محفل القيامة، و ذلك الأمر هو ما أشرنا إليه من البرهان و اقتفاء أثر المرسلين، و كذلك أمره أن يأخذ ما يبقى له من الكمالات المسعدة في الآخرة ممّا لا يبقى له و هو الدنيا و متاعها، و قد بيّنا كيفيّة ذلك الأخذ غير مرّة، و أن تيسّر لسفره: أى يستعدّ لسفره إلى اللّه بالرياضة بالزهد و العبادة، و أن يشيم برق النجاة: أى يوجّه سرّه إلى اللّه تعالى بعد الزهد الحقيقى و العبادة الكاسرة للنفس الأمّارة بالسوء لتشرق لوامع الأنوار الإلهيّة و بروقها الّتى هى بروق النجاة و أبواب السلامة كما أشار إليه فيما قبل هذا الفصل بفصلين بقوله: و تدافعته الأبواب إلى باب السلامة، و أن يرحل مطايا التشمير و هو إشارة إلى الجدّ في سلوك سبيل اللّه و الاجتهاد في العمل لما بعد الموت، و استعار لفط المطايا لآلات العمل، و لفظ الإرحال لإعمالها، و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی) ، ج 4 ، صفحه‏ ى 75

 

خطبه 213 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام قاله عند تلاوته: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ
إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى جَعَلَ الذِّكْرَ جِلاءً لِلْقُلُوبِ- تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ وَ تُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ- وَ تَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ- وَ مَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلَاؤُهُ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ- وَ فِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ- وَ كَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ- فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي الْأَبْصَارِ وَ الْأَسْمَاعِ وَ الْأَفْئِدَةِ- يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللَّهِ وَ يُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ- بِمَنْزِلَةِ الْأَدِلَّةِ فِي الْفَلَوَاتِ- مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ وَ بَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ- وَ مَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَ شِمَالًا ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ- وَ حَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ- وَ كَانُوا كَذَلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ- وَ أَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ- وَ إِنَّ لِلذِّكْرِ لَأَهْلًا أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلًا- فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَنْهُ- يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ- وَ يَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ- وَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَ يَأْتَمِرُونَ بِهِ- وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ- فَكَأَنَّمَا قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ وَ هُمْ فِيهَا- فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ- فَكَأَنَّمَا اطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طُولِ الْإِقَامَةِ فِيهِ- وَ حَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا- فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الدُّنْيَا- حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَى النَّاسُ وَ يَسْمَعُونَ مَا لَا يَسْمَعُونَ- فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ الْمَحْمُودَةِ- وَ مَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ- وَ قَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ- وَ فَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَ كَبِيرَةٍ- أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فيهَا وَ حَمَّلُوا ثِقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ- فَضَعُفُوا عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِهَا- فَنَشَجُوا نَشِيجاً وَ تَجَاوَبُوا نَحِيباً- يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَ اعْتِرَافٍ- لَرَأَيْتَ أَعْلَامَ هُدًى وَ مَصَابِيحَ دُجًى- قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ- وَ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ- وَ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَ أُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ- فِي مَقْعَدٍ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ- فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ وَ حَمِدَ مَقَامَهُمْ- يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ- رَهَائِنُ فَاقَةٍ إِلَى فَضْلِهِ وَ أُسَارَى ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ- جَرَحَ طُولُ الْأَسَى قُلُوبَهُمْ وَ طُولُ الْبُكَاءِ عُيُونَهُمْ- لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ- يَسْأَلُونَ مَنْ لَا تَضِيقُ لَدَيْهِ الْمَنَادِحُ- وَ لَا يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونَ- فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ

اللغة

أقول: الوقرة: الغفلة من الوقر و هو الصمم.

و العشوة: الغفلة من العشاء و هو ظلمة العين بالليل دون النهار.

و البرهة: المدّة الطويلة من الزمان.

و يهتفون: يصيحون.

و البرزخ: ما بعد الموت من مكان و زمان.

و النشج: الصوت في ترديد النفس عند البكاء.

و المنادح: جمع مندح و هو المتّسع.

المعنى
فقوله: إنّ اللّه سبحانه. إلى قوله: بعد المعاندة.

إنّما يتّضح بالإشارة إلى الذكر و فضيلته و فائدته: الذكر هو القرآن الكريم لقوله تعالى وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ«» و نحوه، و قيل: هو إشارة إلى تحميده تعالى و تسبيحه و تكبيره و تهليله و الثناء عليه و نحو ذلك، و أمّا فضيلته فمن القرآن قوله تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ«» و قوله اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً«» و قوله فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ«» الآية، و قوله فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ«» الآية. و أمّا من الأخبار فقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ذاكر اللّه في الغافلين كالمقاتل في الفارّين، و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يقول اللّه: أنا مع عبدى ما ذكرنى و تحرّكت بى شفتاه، و قوله: ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب اللّه من ذكر اللّه. قالوا: يا رسول اللّه و لا الجهاد في سبيل اللّه. قال: و لا الجهاد في سبيل اللّه إلّا أن تضرب بسيفك إلى أن ينقطع ثمّ تضرب به حتّى ينقطع- ثلاثا- و قوله: من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر منه ذكر اللّه. و نحو ذلك. فأمّا فائدته: فاعلم أنّ المؤثّر من الذكر و النافع منه ما كان على الدوام أو في أكثر الأوقات مع حضور القلب، و بدونهما فهو قليل الجدوى. و بذينك الاعتبارين هو المقدّم على ساير العبادات بل هو روح العبادات العمليّة و غاية ثمرتها، و له أوّل يوجب الانس باللّه و آخر يوجبه الانس باللّه، و ذلك أنّ المريد في مبدء أمره قد يكون متكلّفا لذكر أمر ليصرف إليه قلبه و لسانه عن الوسواس فإن وفّق للمداومة أنس به و انغرس في قلبه حبّ المذكور، و ممّا ينبّه على ذلك أنّ أحدنا يمدح بين يديه شخص و يذكر بحميد الخصال فيحبّه و يعشقه بالوصف و كثرة الذكر ثمّ إذا عشق بكثرة الذكر اضطرّ إلى كثرة الذكر آخرا بحيث لا يصبر عنه فإنّ من أحبّ شيئا أكثر ذكره و من أكثر من ذكر شي‏ء و إن كان متكلّفا أحبّه، و قد شاهدنا ذلك كثيرا.
كذلك أوّل ذكر اللّه متكلّف إلى أن يثمر الانس به و الحبّ له. ثمّ يمتنع الصبر عنه آخرا فيثمر الثمرة، و لذلك قال بعضهم: كابدت القرآن عشرين سنة. ثمّ تنعّمت به عشرين سنة. و لا يصدر التنعّم إلّا عن الانس و الحبّ و لا يصدر الانس إلّا من المداومة على المكابدة حتّى يصير التكلّف طبعا. ثمّ إذا حصل الانس باللّه انقطع عن غير اللّه، و ما سوى اللّه يفارقه عند الموت فلا تبقى معه في القبر أهل و لا مال و لا ولد و لا ولاية و لا تبقى إلّا المحبوب المذكور فيتمتّع به و يتلذّذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه من أسباب الدنيا و محبوباتها. إذا عرفت ذلك فقوله: جعله جلاء. إشارة إلى فائدته و هى استعداد النفوس بمداومته على الوجه الّذي ذكرناه لمحبّة المذكور و الإعراض عمّا سواه، و استعار لفظ الجلاء لإزالة كلّ ما سوا المذكور عن لوح القلب بالذكر كما يزال خبث المرآة بالصقال، و تجوّز بلفظ السمع في إقبالها على ما ينبغي أن يسمع من أوامر اللّه و نواهيه و ساير كلامه، و الوقرة لإعراضها عنها، و كذلك بلفظ البصر في إدراكها للحقايق و ما ينبغي لها، و لفظ العشوة لعدم ذلك الإدراك إطلاقا في المجازات الأربعة لاسم السبب على المسبّب. و انقياد هاله: أي للحقّ، و سلوك طريقه بعد المعاندة فيه و الانحراف عنه. و قوله: و ما برح. إلى قوله: عقولهم. إشارة إلى أنّه لم يخلو المدد و أزمان الفترات قطّ من عباد اللّه و أولياء له و ألهمهم معرفته و أفاض على أفكارهم و عقولهم صور الحقّ و كيفيّة الهداية إليه مكاشفة، و تلك الإفاضة و الإلهام هو المراد بالمناجات و التكلّم منه. و قوله: فاستصبحوا.
إلى قوله: و الأفئدة. أى استضاءوا بمصباح نور اليقظة، و اليقظة في الافئدة فطانتها و استعدادها الكامل لما ينبغي لها من الكمالات العقليّة، و نور تلك اليقظة هو ما يفاض عليها بسبب استعدادها بتلك الفطانة و يقظة الأبصار و الأسماع بتتّبعها لإبصار الامور النافعة المحصّلة منها عبرة و كمالا نفسانيّا و سماع النافع من الكلام، و أنوار اليقظه فيهما ما يحصل بسبب ذلك الإبصار و السماع من أنوار الكمالات النفسانيّة.

ثمّ شرع في وصف حالهم في هديهم لسبيل اللّه بأيّامه، و هى كناية عن شدايده النازلة بالماضين من الامم، و أصله أنّها يقع في الأيّام، و يحتمل أن يكون مجازا إطلاقا لاسم المحلّ على الحالّ، و مقام اللّه كناية عن عظمته و جلالته المستلزمة للهيبة و الخوف. و شبّههم بالأدلّة في الفلوات، و وجه الشبه كونهم هادين لسبيل اللّه كما تهدى الأدلّة، و كما أنّ الأدلّة تحمد من أخذ القصد في الطريق طريقه و تبشّره بالنجاة و من انحرف عنها يمينا و شمالا ذمّوا إليه طريقه و حذّروه من الهلكة كذلك الهداة إلى اللّه من سلك سبيل اللّه العدل إليه و قصد فيها حمدوا إليه طريقه و بشّروه بالنجاة من المهالك، و من انحرف عنها يمينا و شمالا: أى سلك أحد طرفي الإفراط و التفريط ذمّوا إليه مسلكه و حذّروه من الهلاك الأبديّ. و قوله: و كانوا كذلك. أى كما و صفناهم، و استعار لفظ المصابيح باعتبار إضاءتهم بكمالاتهم بطريق اللّه، و لفظ الأدلّة باعتبار هداهم إلى الحقّ و تمييزه عن شبهاب الباطل. و قوله: و إن للذكر لأهلا. إلى قوله: أيّام الحياة. فأهله هو من ذكرنا أنّهم اشتغلوا به حتّى أحبّوا المذكور و نسوا ما عداه من المحبوبات الدنيويّة، و إنّ من حبّ محبّة المذكور محبّة ذكره و ملازمته حتّى اتّخذوه بدلا من متاع الدنيا و طيّباتها و لم يشغلهم عنه تجارة و لا بيع و قطعوا به أيّام حياتهم الدنيا.
و قوله: و يهتفون. إلى قوله: و يتناهون عنه. إشارة إلى وجوه طاعتهم للّه و عبادتهم له و هى من ثمرات الذكر و محبّة المذكور لأنّ من أحبّ محبوبا سلك مسلكه و لم يخالف رسمه و كان له في ذلك الابتهاج و اللذّة. و قوله: فكأنّما قطعوا. إلى قوله: عداتها. تشبيه لهم في ثقتهم باللّه و بما جاءت به كتبه و رسله، و تحقّقهم لأحوال القيامة و وعدها و وعيدها بعين اليقين عن قطع الدنيا من أحوال أهل البرزخ وطول إقامتهم فيه فكشفوا غطاء تلك الأحوال لأهل الدنيا بالعبادات الواضحة و البيانات اللايحة حتّى كأنّهم في وصفهم لها عن صفاء سرائرهم و صقال جواهر نفوسهم بالرياضة التامّة يرون بأبصارهم ما لا يرى الناس، و يسمعون بآذانهم ما لا يسمعون الناس. إذ يخبرون عن مشاهدات و مسموعات لا يدركها الناس، و لمّا كان السبب في قصور النفوس عن إدراك أحوال الآخرة هو تعلّقها بهذه الأبدان و اشتغالها بتدبيرها و الانغماس في الهيئات الدنيويّة المكتسبة عنها، و كان هؤلاء الموصوفون قد غسلوا درن تلك الهيئات عن ألواح نفوسهم بمداومة ذكر اللّه و ملازمة الرياضة التامّة حتّى صارت نفوسهم كمرأى مجلوّة حوذى بها شطر الحقائق الإلهيّة فتجلّت و انتقشت بها لا جرم شاهدوا بعين اليقين سبيل النجاة و سبيل الهلاك و ما بينهما فسلكوا على بصيرة و هدوا الناس على يقين و أخبروا عن امور شاهدوها بأعين بصائرهم و سمعوا بآذان عقولهم فكأنّهم في وضوح ذلك لهم و ظهوره و إخبارهم عنه قد شاهدوا ما شاهده الناس بحواسّهم فشاهدوا ما لم يشاهده الناس و سمعوا ما لم يسمعوه. و قوله: فلو مثّلتهم بعقلك.
أى استحضرت صورهم و أعمالهم في مقاومهم المحمودة و مجالسهم المشهودة و هى مقامات العبادة و مجالسها. و دواوين أعمالهم: أذهانهم و ما ثبت فيها من أفعالهم. و نشرها: تتّبع نفوسهم بأفكارها و تخيّلاتها لصور تلك الأعمال و تصفّحها لها المشبّهة لتصفّح الأوراق. و الواو في قوله: و فرغوا لمحاسبة أنفسهم على كلّ صغيرة و كبيرة للبيان. ليستدعى بيان معنى المحاسبة، و لمّا كان معناها ليستدعى محاسبا حتّى يكون النظر معه في رأس المال في الربح و الخسران ليبيّن له الزيادة و النقصان، و إن كان من فضل حاصل استوفاه و إن كان من خسران طالبه بضمانه و كلّفه تداركه في المستقبل فكذلك العبد معامله نفسه الأمّارة بالسوء، و رأس ماله الفرائض و ربحه النوافل و الفضائل، و الخسران المعاصى، و موسم هذه التجارة جملة النهار فينبغى أن يكون للعبد في آخره ساعة يطالب بها نفسه و يحاسبها على جميع حركاتها و سكاناتها فإن كان قد أدّى الفرائض على وجهها شكر اللّه تعالى عليه و رغبّها في مثلها، و إن فوّتها من أصلها كلّفها بالقضاء، و إن أدّتها ناقصة كلّفها بالجبران بالنوافل، و إن ارتكب معصية اشتغل بعقابها و تعذيبها و معاتبتها و استوفى منها ما يتدارك به تفريطها كما يصنع التاجر بشريكه. و كما أنّه ينقش في حساب الدنيا عن الحبّة و القيراط فيحفظ مداخل الزيادة و النقصان كذلك ينبغي أن تتّقى خدعة النفس و مكرها فإنّها مخادعة مكّارة فليطالبها أوّلا بتصحيح الجواب عمّا تكلّم به طول نهاره و ليتولّى من حسابها بنفسه ما سيتولّاه غيره في محفل القيامة، و كذلك عن نظره و خواطره و أفكاره و قيامه و قعوده و أكله و شربه، و حتّى عن سكونه و سكوته. فإذا عرف أنّها أدّت الحقّ في الجميع كان ذلك القدر محسوبا له فيظهر بها الباقى و يقرّره عليها و يكتبه على صحيفة قلبه. ثمّ إنّ النفس غريم يمكن أن يستوفى منه الديون أمّا بعضها فبالغرامة و الضمان و بعضها بردّ عينها بالعقوبة لها على ذلك و لا يمكن شي‏ء من ذلك إلّا بعد تحقّق الحساب و تميّز باقى الحقّ الواجب عليه.
ثمّ يشتغل بعده بالمطالبة. و ينبغي أن يحاسب الإنسان النفس على جميع العمر يوما يوما و ساعة في جميع الأعضاء الظاهرة و الباطنة كما نقل عن توبة بن الصمة و كان بالرقّة و كان محاسبا لنفسه فحسب يوما فإذا هو ستّين سنة فحسب أيّامها فإذا أحد و عشرون ألف يوم و خمس مائة يوم فصرخ فقال: يا ويلتى ألقى الملك بأحد و عشرين ألف ذنب. ثمّ خرّ مغشيّا عليه فإذا هو ميّت فسمعوا قائلا يقول: يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى. فهكذا ينبغي أن تكون المحاسبة، و لو رمى العبد بكلّ معصية حصاة في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة من عمره و لكنّه يتساهل في حفظها و الملكان يحفظان عليه كما قال تعالى أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ«».
إذا عرفت ذلك فقوله: و فرغوا لمحاسبة أنفسهم. إلى قوله: ندم و اعتراف. إشارة إلى حال وجدانهم عند محاسبة أنفسهم لتقصيرها و الخسران في رءوس‏ أموالهم الّتي هى الطاعات و نشيجهم و نحيبهم و عجّهم في الندم و الاعتراف بالذنب إشارة إلى حالهم في تدارك ذلك الخسران بالشروع في الجبران. فأوّل مقاماته التوبة و لوازمها المذكورة، ثمّ العمل. و قوله: لرأيت. إلى قوله: الراغبون. صفات أحوالهم المحمودة، و اللام في قوله: لرأيت. جواب لو في قوله: فلو مثّلهم، و استعار لهم لفظة الأعلام و المصابيح‏ باعتبار كونهم أدلّة إلى طريق اللّه و ذوى أنوار يستضاء بها فيها، و حفوف الملائكة بهم كناية عن إحاطة عنايتهم به، و ذلك لكمال استعدادهم لقبول الأنوار عن اللّه بواسطة الملائكة الكروبيّة و وجوب فيضها عليهم عنهم، و في ذلك الإشارة إلى إكرامهم بذلك. و قوله: و تنزّلت عليهم السكينة. إشارة إلى بلوغ استعداد نفوسهم لإفاضة السكينة عليها و هى المرتبة الثالثة من أحوال السالك بعد الطمأنينة، و ذلك أن تكثّر تلك البروق و اللوامع الّتي كانت تغشيه حتّى يصير ما كان مخوفا منها مألوفا، و كانت تحصل لا لمشيئة السالك فيصير حصولها بمشيئته و إرادته. و فتح أبواب السماء لهم إشارة إلى فتح أبواب سماء الجود الإلهىّ بإفاضة الكمالات عليهم كما قال تعالى فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ«» و مقاعد الكرامات مراتب الوصول إليه. و تلك المقاعد الّتي اطّلع اللّه تعالى عليهم فيها فرضى سعيهم بالأعمال الصالحة المبلّغة إليها، و حمد مقامهم فيها.

و قوله: يتنسّمون بدعائه روح التجاوز. أى يدعونه و يتوقّعون بدعائه تجاوزه عن ذنوبهم، و أن لا يجعل تقصيرهم فيما عساهم قصّروا فيه سببا لانقطاع فيضه، و قد علمت أنّ سيّئات هؤلاء يعود إلى ترك الأولى بهم. ثمّ استعار لهم لفظ الرهائن لكونهم في محلّ الحاجة إلى فضله لا معدول و لا ملجأ لهم عنه كالرهائن في يد المسترهن، و كذلك لفظ الاسارى،و وجه المشابهة كونهم في مقام الذلّة بحسب عظمته كالأسير بالنظر إلى عظمة من أسرّه. و قوله: جرح. إلى قوله: عيونهم. فذلك الجرح من لوازم اطّلاعهم على خيانة أنفسهم و خسرانهم في معاملتهم لها بعد محاسبتها. و قوله: لكلّ باب. إلى قوله: يد قارعة. أشار بقرعهم لكلّ باب من أبواب الرغبة إلى اللّه إلى توجيه أسرارهم و عقولهم إلى القبلة الحقيقيّة استشراقا لأنوار اللّه و استسماحا لجوده. و قوله: يسألون. إلى قوله: المنادح. إشارة إلى سعة جوده و فضله و أنّه أكرم الأكرمين ليتبيّن أنّه أحقّ مسئول بإعطاء سؤل و أولى مرغوب إليه بإسداء مرغوب. و قوله: فحاسب نفسك. إلى آخره. أى فتولّ أنت حساب نفسك. فإنّ حساب غيرها من النفوس و هى الّتي لم يحاسبها صاحبها يتولّاه غيرك و هو أسرع الحاسبين، و ذلك في معنى تهديد الإنسان على ترك محاسبة نفسه. و باللّه التوفيق.

شرح نهج ‏البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 66

 

خطبه 212 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام قاله بعد تلاوته: (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر)
يَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ وَ زَوْراً مَا أَغْفَلَهُ- وَ خَطَراً مَا أَفْظَعَهُ- لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ مُدَّكِرٍ وَ تَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ- أَ فَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ- أَمْ بِعَدِيدِ الْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ وَ حَرَكَاتٍ سَكَنَتْ- وَ لَأَنْ يَكُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً- وَ لَأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ- أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ- لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ- وَ ضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ- وَ لَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ- وَ الرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ لَقَالَتْ- ذَهَبُوا فِي الْأَرْضِ ضُلَّالًا وَ ذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالًا- تَطَئُونَ فِي هَامِهِمْ وَ تَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ- وَ تَرْتَعُونَ فِيمَا لَفَظُوا وَ تَسْكُنُونَ فِيمَا خَرَّبُوا- وَ إِنَّمَا الْأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ بَوَاكٍ وَ نَوَائِحُ عَلَيْكُمْ- أُولَئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ وَ فُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ- الَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ-وَ حَلَبَاتُ الْفَخْرِ مُلُوكاً وَ سُوَقاً سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلًا سُلِّطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ- فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَ شَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ- فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لَا يَنْمُونَ- وَ ضِمَاراً لَا يُوجَدُونَ- لَا يُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الْأَهْوَالِ- وَ لَا يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الْأَحْوَالِ- وَ لَا يَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ وَ لَا يَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ- غُيَّباً لَا يُنْتَظَرُونَ وَ شُهُوداً لَا يَحْضُرُونَ- وَ إِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا وَ أُلَّافاً فَافْتَرَقُوا- وَ مَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ وَ لَا بُعْدِ مَحَلِّهِمْ- عَمِيَتْ أَخْبَارُهُمْ وَ صَمَّتْ دِيَارُهُمْ- وَ لَكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً- وَ بِالسَّمْعِ صَمَماً وَ بِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً- فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ صَرْعَى سُبَاتٍ- جِيرَانٌ لَا يَتَأَنَّسُونَ وَ أَحِبَّاءُ لَا يَتَزَاوَرُونَ- بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ- وَ انْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الْإِخَاءِ- فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَ هُمْ جَمِيعٌ- وَ بِجَانِبِ الْهَجْرِ وَ هُمْ أَخِلَّاءُ- لَا يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً وَ لَا لِنَهَارٍ مَسَاءً- أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً- شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا- وَ رَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا- فَكِلْتَا الْغَايَتَيْنِ مُدَّتْ لَهُمْ- إِلَى مَبَاءَةٍ فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَ الرَّجَاءِ- فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا- لَعَيُّوا بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَ مَا عَايَنُوا- وَ لَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ وَ انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ- لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ- وَ سَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ- وَ تَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ- فَقَالُوا كَلَحَتِ الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ وَ خَوَتِ الْأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ- وَ لَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى وَ تَكَاءَدَنَا ضِيقُ الْمَضْجَعِ- وَ تَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ وَ تَهَكَّمَتْ عَلَيْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ- فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا وَ تَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا- وَ طَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا- وَ لَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً وَ لَا مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعاً- فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ- أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ- وَ قَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ- وَ اكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَاب فَخَسَفَتْ- وَ تَقَطَّعَتِ الْأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلَاقَتِهَا- وَ هَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا- وَ عَاثَ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلًى سَمَّجَهَا- وَ سَهَّلَ طُرُقَ الْآفَةِ إِلَيْهَا- مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلَا أَيْدٍ تَدْفَعُ وَ لَا قُلُوبٌ تَجْزَعُ- لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ وَ أَقْذَاءَ عُيُونٍ- لَهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لَا تَنْتَقِلُ- وَ غَمْرَةٌ لَا تَنْجَلِي- فَكَمْ أَكَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ وَ أَنِيقِ لَوْنٍ- كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ وَ رَبِيبَ شَرَفٍ- يَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ- وَ يَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ- ضَنّاً بِغَضَارَةِ عَيْشِهِ وَ شَحَاحَةً بِلَهْوِهِ وَ لَعِبِهِ فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وَ تَضْحَكُ إِلَيْهِ- فِي ظِلِّ عَيْشٍ غَفُولٍ إِذْ وَطِئَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ- وَ نَقَضَتِ الْأَيَّامُ قُوَاهُ- وَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ الْحُتُوفُ مِنْ كَثَبٍ- فَخَالَطَهُ بَثٌّ لَا يَعْرِفُهُ وَ نَجِيُّ هَمٍّ مَا كَانَ يَجِدُهُ- وَ تَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُ عِلَلٍ آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ- فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ الْأَطِبَّاءُ- مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ وَ تَحْرِيكِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ- فَلَمْ يُطْفِئْ بِبَارِدٍ إِلَّا ثَوَّرَ حَرَارَةً- وَ لَا حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلَّا هَيَّجَ بُرُودَةً- وَ لَا اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ- إِلَّا أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ- حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ وَ ذَهَلَ مُمَرِّضُهُ- وَ تَعَايَا أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ- وَ خَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّاِئِلينَ عَنْهُ- وَ تَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِيَّ خَبَرٍ يَكْتُمُونَهُ- فَقَائِلٌ هُوَ لِمَا بِهِ وَ مُمَنٍّ لَهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِهِ- وَ مُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ- يُذَكِّرُهُمْ أُسَى الْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ- فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا- وَ تَرْكِ الْأَحِبَّةِ- إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ- فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ وَ يَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ- فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ- وَ دُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ- مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُهُ- وَ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ- أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا

اللغة

أقول: المرام: المطلوب.

و الزور: الزائرون.

و الخطر: الإشراف على الهلاك.

و الفظيع: الشديد الّذي جاوز الحدّ في شدّته.

و استحلوا: أى اتّخذوا تحلية الذكر و أبهم و شأنهم، و قيل: استخلوا: أى وجدوه خاليا.

و التناوش:التنازل.

و أحجى: أولى بالحجى و هو العقل.

و العشوة: ركوب الأمر على جهل به.

و ترتعون: يتنعمون.

و لفظوا: أرموا و تركوا.

و الفارط: السابق إلى الماء و المورد.

و حلبات الفخر: جماعاته.

و السوق: جمع سوقة و هى الرعيّة.

و البرزخ: ما بين الدنيا و الآخرة من وقت الموت إلى البعث.

و الفجوات: جمع فجوة و هى المتّسع من الأرض.

و الضمار: الغايب الّذي لا يرجى إيابه.

و يحفلون: يبالون.

و الرواجف: الزلازل.

و يأذنون: يسمعون.

و ارتجال الصفة: انتشاؤها.

و السبات: النوم، و أصله الراحة.

و أفظع: أشدّ.

و المباءة: الموضع يبوء الإنسان إليه: أى يرجع: و عىّ عن الكلام: أى عجز عنه.

و الكلوح: تكشّر في عبوس.

و الأهدام: جمع هدم، و هو الثوب البالى.

و تكاءدنا: شقّ علينا و صعب.

و تهكّعت: تهدّمت.

و ارتسخت: ثبتت في قرارها الهوام.

و استكّت: انسدّت.

و ذلاقة اللسان: حدّته و سهولة الكلام به.

و همدت: سكنت و بليت.

و عاث: انسدّ.

و سمّجها: قبّحها.

و الأشجان: الأحزان.

و الأنيق: العجب للناظر.

و غضارة العيش: طيّبه.

و الكثب: القرب.

و البثّ: الحال من همّ و حزن.

و القارّ و القرور: الماء البارد.

المعنى

و في الفصل فوائد:

فالاولى: اللام في قوله: يا له. لام الجرّ للتعجّب كقولهم: يا للدواهى، و الجارّ و المجرور في محلّ النصب لأنّه المنادى و يروى: يا مراما. و مراما و زورا و خطرا منصوبات على التميز لمعنى التعجّب من بعد ذلك المرام و هو التكاثر فإنّ الغاية المطلوبة منه لا يدركها الإنسان لأنّ كلّ غاية بلغها ففوقها غاية اخرى قد أدركها غيره فنفسه تطمح إليها، و ذلك التعجّب من شدّة غفلة الزور: أى الزائرين للمقابر لأنّ الكلام خرج بسبب الآية، و ظاهر أنّ غفلة الإنسان عمّا يزور و يقدم بعد تلك الزيارة عليه غفلة عظيمة و هى محلّ التعجّب، و كذلك التعجّب من فظاعة الخطر و الإشراف على شدائد الآخرة فإنّ كلّ خطر دنيائى يستحقر في جنبه، و الضمير في قوله: استحلوا للأحياء، و في منهم‏ للأموات، و عنّى بالذكر عمّا خلّفوه من الآثار الّتي هى محلّ العبرة. و قوله: أىّ مدّكر. استفهام على سبيل التعجّب من ذلك المدّكر في أحسن إفادته للعبر لاولى الأبصار، و تناوشوهم من مكان بعيد: أى تركهم ما ينتفعون به و هو المدّكر من جهة الاعتبار به و تناولوهم من جهة بعيدة، و الّذي تناولوه هو افتخار كلّ منهم بأبه و قبيلته، و مكاثرته بالماضين من قومه الّذينهم بعد الموت أبعد الناس عنه أو الّذين كمالاتهم أبعد الكمالات عنه، و كنّى بالمكان البعيد عن ذلك الاعتبار فإنّ الأموات و كمالاتهم في أبعد الاعتبارات عن الأحياء و الأبناء، و لذلك استفهم عن ذلك استفهام إنكار و توبيخ فقال: أ فبمصارع آبائهم يفخرون. إلى قوله: سكنت، و ذلك الارتجاع بالمفاخرة بهم فكأنّهم بذكرهم لهم في الفخر قد ارتجعوهم بعد موتهم، و يحتمل أن يكون ذلك مستفهما عنه أيضا على سبيل الإنكار و إن لم يكن حرف الاستفهام، و التقدير أ يرتجعون منهم بفخرهم لهم أجسادا خوت.
و قوله: و لأن يكونوا عبرا أحقّ من أن يكونوا مفتخرا. مؤكّد لتوبيخه لهم ترك العبرة بالمدّكر الّذي هو وجه النفع و أخذهم بالوجه البعيد و هو الافتخار، و كشف لمعناه. و كذلك قوله: لأن يهبطوا بهم جناب ذلّة: أى بالاعتبار بمصارعهم فإنّه يستلزم الخشوع لعزّة اللّه و الخشية منه. و ذلك أولى بالعقل و التدبير من أن يقوموا بهم مقام عزّة بالمفاخرة و المكاثرة، و أضاف الأبصار إلى العشوة لنسبتها إليها: أى نظروا إليها بأبصار قلوب غطّى عليها الجهل بأحوالهم فساروا في تلك الأحوال بجهالة غامرة لهم. و قوله: و لو استنطقوا. إلى قوله: لقالت. أى لو طلبت منها النطق لقالت بلسان حالها كذا و كذا. إلى قوله: و تسكنون فيما خرّبوا، و يحتمل أن يكون باقى الفصل كلّه مقولا بلسان حال تلك الديار، و النصب في قوله: ضلّالا و جهّالا على الحال: أى ذهبوا في الأرض هالكين و ذهبتم بعدهم جاهلين بأحوالهم تطئون رؤسهم و تستنبتون الأشجار في‏ أجسادهم و ذلك في المواضع الّتي بليت فيها الأجساد، و استعار لفظ البواكى و النوائح لأيّام الحياة ملاحظة لشبهها في مفارقتهم لها بالامّهات الّتي فارقها أولادها بالموت. و قوله: اولئك سلف غايتكم و فرّاط مناهلكم. السابقون لكم إلى غايتكم و هى الموت و ما بعده، و إلى مناهلكم و هى تلك الموارد أيضا، و مقاوم: جمع مقام لأنّ ألفه عن واو، و ملوكا و سوقا نصب على الحال، و بطون البرزخ ما غاب و بطن منه عن علومنا و مشاهداتنا، و السبيل فيه هى مسلك القدر بهم إلى غاياتهم الاخرويّة من سعادة أو شقاوة، و نسبة الأكل و الشرب إلى الأرض مجاز يقارب الحقيقة في كثرة الاستعمال، و إنّما سلب عنهم النموّ و الفزع من ورود أهوال الأرض عليهم، و الحزن من تغيّر الأحوال بهم، و الحفلة بزلازل الأرض و سماع الرياح القاصفة، لكون انتظار ذلك من توابع الحياة و صفاتها.
فإن قلت: فهذا ينافي ما نقل من عذاب القبر فإنّه يستلزم الفزع و الحزن.
قلت: إنّما سلب عنهم الفزع و الحزن من أحوال الدنيا المشاهدة لنا، و كذلك الحفلة بأهوالها و سماعها. و عذاب القبر ليس من ذلك القبيل بل من أحوال الآخرة و أهوالها، و لا يلزم من سلب الفزع الخاصّ سلب العامّ، و نبّه على أنّ غيبتهم و شهودهم ليس كغيبة أهل الدنيا و شهودهم. إذ كان الغائب في الدنيا من شأنه أن ينتظر و الشاهد فيها حاضر و هم شاهدون بأبدانهم مع صدق الغيبة عليهم عنّا: أى بأنفسهم، و لمّا امتنع ذلك العود لا جرم صدق أنّهم غيّب لا ينتظرون و شهود لا يحضرون. و قوله: و ما عن طول عهدهم. إلى قوله: سكونا. أى عدم علمنا بأخبارهم و صمم ديارهم عند ندائنا ليس لأجل طول عهد بيننا و بينهم و لا بعد محلّتهم و مستقرّهم فإنّ الميّت حال موته و هو بعد مطروح الجسد مشاهد لنا تعمى علينا أخباره و لا يسمع نداءنا دياره، و لكن ذلك لأجل أنّهم سقوا كأس المنيّة فبدّلتهم بالنطق خرسا و بالسمع صمما و بالحركات سكونا و إسناد العمى إلى الأخبار و الصمم إلى الديار مجاز كقولهم: نهاره صائم و ليله قايم. و قوله: فكأنّهم. إلى قوله: سبات. أى إذا أراد أحد ينشى‏ء صفة حالهم، شبّههم بالصرعى عن النوم، و وجه الشبه عدم الحركات و السماع و النطق مع الهيئة المشاهدة من المستغرق في نومه. ثمّ نبّه على أنّهم في أحوالهم الاخرويّة من تجاورهم مع وحدتهم و تهاجرهم ليس كتلك الأحوال في الدنيا. إذ من شأن الجيران فيها أن يأنس بعضهم ببعض، و الأحياء أن تزاوروا، و الواحد أن لا يكون في جماعة. و أشار بالجوار إلى تقارب أبدانهم في القبور، و بالمحابّة إلى ما كانوا عليه من التحابّ في الدنيا، و بهجرهم إلى عدم تزاورهم، و كذلك خلالهم إلى ما كانوا عليه من المودّة في الدنيا، و كونهم لا يتعارفون لليل صباحا و لا لنهار مساء لكون الليل و النهار من لواحق الحركات الدنيويّة الفانية عنهم فتساوى الليل و النهار بالنسبة إليهم،

و كذلك قوله: أىّ الجديدين.إلى قوله: سرمدا، و الجديدان الليل و النهار لتجدّد كلّ منهما أبدا. و استعار وصف الظعن لانتقالهم إلى الدار الآخرة، و كون ذلك الجديد الّذي ظعنوا فيه سرمدا عليهم ليس حقيقة لعدم عوده بعينه بل إسناد السرمديّة إليه لكونه جزء من الزمان الّذي يلزمه السرمديّة لذاته حقيقة.

و قوله: شاهدوا. إلى قوله: عاينوا. إشارة إلى صعوبة أهوال الآخرة و عظمة أحوالها بالنسبة إلى ما يخاف منها في الدنيا، و ذلك أمر عرف بأخبار الشريعة الحقّة و تأكّد باستقراء اللذّات و الآلام العقليّة و نسبتها إلى الحسيّة. ثمّ إنّ الخوف و الرجاء لامور الآخرة إنّما يبعثان منّا بسبب وصف تلك الامور، و إنّما يفعل من تلك الأوصاف ما كان فيه مناسبة و تشبّه بالامور المخوفة و المرجّوة في الدنيا فنحن نتصوّر تلك على قياس هذه فذلك سبب سهولتها علينا و ضعف خوفنا منها و رجائنا لها حتّى لو شاهدنا أخطار تلك الدار لشاهدنا أشدّ ممّا نخافه الآن و نتصوّره و نقدّره بأوهامنا. فلا جرم لمّا وصل السابقون شاهدوا أفظع ممّا خافوا، و لو أمكنهم النطق لعيّوا بصفة ما شاهدوا منها و عجزوا عن شرحها.

و قوله: فكلتا الغايتين. أى غاية المؤمنين و الكافرين من سعادة و شقاوة مدّت: أى مدّ لهم أجل ينتهون فيه إلى غاية و مرجع و هو الجنّة أو النار، و ذلك المرجع يفوت مبالغ خوفنا و رجاءنا: أى هو أعظم ممّا نخافه و نرجوه، و أسند المدّ إلى الغاية مجازا. و قوله: لقد رجعت. إلى قوله. النطق. من أفصح الكلام و أبلغه، و أبصار العبر أبصار البصائر الّتي يعتبر بها، و آذان العقول مجاز في علمها بأحوالهم الّتي من شأنها أن تسمع إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.
و قوله: و تكلّموا من غير جهات النطق. أى من غير أفواه و ألسنة لحمانيّة و لكن بألسنة أحواليّة. و قوله: فقالوا. إلى قوله: متّسعا. إشارة إلى ما تنطق به ألسنة أحوالهم و تحكيه منها في القبور، و روى عوض خلت خوت، و استعار لفظ الأهدام للتغيّر و التقشّف و التمزيق العارض لجسم الميّت لمشابهتها العظم البالى، و يحتمل أن يريد بها الأكفان، و المضجع: القبر. و توارث الوحشة: أى وحشة القبر، و استعار لفظ التوارث لكون تلك الوحشة كانت لآبائهم قبلهم فحصلت لهم بعدهم، و الربوع الصموت: أيضا القبور.
و كذلك مساكن الوحشة. و معارف صورهم: ما كان معروفا منها في الدنيا. و قوله: فلو مثّلتهم بعقلك. أى تخيّلت صورهم و استحضرتها في خيالك و كشف عنهم محجوب الغطاء لك: أى ما حجب بأغطية التراب و السواتر لأجسادهم عن بصرك. و الواو في قوله: و قد ارتسخت. للحال، و يقظة قلوبهم استعارة لحياتهم و حركاتها، و إسناد العبث إلى جديد البلى مجاز، و مستسلمات حال للجوارح و العامل عاث و سهل، واللام في قوله: لرأيت. جواب لو، و أحسن بقوله: لهم في كلّ فظاعة صفة حال لا تنتقل و غمرة لا تنجلى. وصفا إجماليّا. فإنّه لا مزيد عليه في البلاغة اللذيذة، و أراد بالغمرة من الفظاعة ما يغمرهم من الشدائد، و الغذىّ فعيل بمعنى مفعول: أى مغذى بالترف. و قوله: و يفزع إلى السلوة. أى عن المصيبة النازلة له إلى المسرّات و المتنزّهات، و ضحكه إلى الدنيا كناية عن ابتهاجه بها و ما فيها من القينات و غاية إقباله عليه لأنّ غاية المبتهج بالشي‏ء أن يضحك له، و كذلك ضحك الدنيا مجاز في إقبالها عليه إطلاقا لاسم السبب الغائى على مسبّبه، و أصل بينا بين و الألف عن إشباع الفتحة، و العيش الغفول الّذي يكثر الغفلة فيه لطيبه. و استعار لفظ الحسك للآلام و الأمراض و مصائب الدهر، و وجه المشابهة استلزامها للأذى كاستلزام الحسك له، و رشّح بذكر الوطى، و كذلك استعار وصف النظر لإقبال الحتوف إليه لاستعداد لها فشابهت في ذلك الراصد للشي‏ء المصوب إليه نظره ليقتنصه، و البثّ و النجىّ من الهمّ الحال الّتي يجدها الإنسان عند و هم الموت من الوسواس و التخيّلات و الغموم و الأحزان الّتي عند و هم الموت من الوسواس و التخيّلات و الغموم و الأحزان الّتي لم تكن تعرض له. و قوله: فتولّدت فيه فترات علل آنس ما كان بصحّته. و انتصاب آنس على الحال، و ما بمعنى الزمان، و كان تامّة، و بصحّته متعلّق بآنس: أى حال ما هو آنس زمان مدّة صحّته، و قيل: ما مصدريّة، و التقدير آنس كونه على أحواله لصحّته. و قوله، فلم يطفى‏ء ببارد إلّا ثوّر حرارة. إلى قوله: ذات داء. إشارة إلى لوازم العلاج عند سقوطه العلّة من المرض الحارّة و البارد المقاوم لها، و ليس العلاج بالبارد هو المثوّر للحرارة و لا بالعكس لأنّ الدواء معين للطبيعة على مقاومة المرض فلا يكون مثوّرا له، و لكن ما كان مع ذلك العلاج و تلك الإعانة لغلب الحرارة و البرودة و يظهر بسبب ذلك: أى الدواء، و كذلك‏ قوله: و لا اعتدل بممازج لتلك الطبايع إلّا أمدّ منها كلّ ذات داء: أى و لا اعتدل المريض في علاجه نفسه بما يمازج تلك الطبايع من الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة إلّا كان مادّة لداء، و ليس مادّة على الحقيقة و لكن لمّا كان يغلب معه المرض على القوّة فكأنّه مادّة له فنسب إليه و هى امور عرفيّة يقال كثيرا، و الكلام فيها على المتعارف. و قوله: حتّى فتر معلّله. غاية تلك اللوازم. و معلّله: طبيبه و ممرّضه. و خرس أهله عن جواب السائل: إشارة إلى سكوتهم عند السؤال من حاله، و ذلك أنّهم لا يخبرون عن عافية لعدمها، و تكره نفوسهم الإخبار عنه بما هو عليه من الحال لشدّتها عليهم، فيكون شأنهم في ذلك السكوت عن حاله المشبه للخرس في جوابه. فذلك استعارة له. و قوله: و تنازعوا. إلى قوله: من قبله. إشارة إلى ما يتحاوره أهل المريض المشرف على الموت من أحواله و صوره بما العادة جارية أن يقولوه. و قوله: فبينا هو كذلك. صفة حال الأخذ في الموت المعتاد للناس. و قوله: إنّ للموت. إلى آخره. تلك الغمرات و كونها، أفظع من أن يحيط بها وصف الإنسان أو يستقيم شرحها على الإنسان كما يخبر عليه السّلام. و يعلم ذلك على سبيل الجملة و بالحدس و القياس إلى الأمراض الصعبة الّتي يمارسها الناس و يشتدّ عليهم فيعرف عند مقاساتها و معاناة شدايدها. و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول في سكرات موته: الّلهمّ أعنّى على سكرات الموت. و ما يستعين عليه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع كمال اتّصاله بالعالم الأعلى فلا شكّ في شدّته. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 56

خطبه 207 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام خطبها بصفين
أَمَّا بَعْدُ- فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلَايَةِ أَمْرِكُمْ- وَ لَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ- فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ- وَ أَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ- لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ- وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ- وَ لَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ- لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ- لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَ لِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ- وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ- وَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ- تَفَضُّلًا مِنْهُ وَ تَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً- افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ- فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا- وَ يُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً- وَ لَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ- . وَ أَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ- حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ وَ حَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْوَالِي- فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ- فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَ عِزّاً لِدِينِهِمْ- فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ- وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ- فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي‏ حَقَّهُ- وَ أَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا- عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَ قَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ- وَ اعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَ جَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ- فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ- وَ طُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَ يَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ- . وَ إِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا- أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ- اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ- وَ ظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ وَ كَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ- وَ تُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى- وَ عُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَ كَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ- فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ- وَ لَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ- فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ وَ تَعِزُّ الْأَشْرَارُ- وَ تَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ عِنْدَ الْعِبَادِ- . فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وَ حُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ- فَلَيْسَ أَحَدٌ وَ إِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ حِرْصُهُ- وَ طَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ- بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ- وَ لَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ- النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ- وَ التَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ- وَ لَيْسَ امْرُؤٌ وَ إِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ- وَ تَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ- بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ- وَ لَا امْرُؤٌ وَ إِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ- وَ اقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ- بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ ع رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ- بِكَلَامٍ طَوِيلٍ يُكْثِرُ فِيهِ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ-

وَ يَذْكُرُ سَمْعَهُ وَ طَاعَتَهُ لَهُ فَقَالَ ع إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلَالُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ- وَ جَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ- أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَمِ ذَلِكَ كُلُّ مَا سِوَاهُ- وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ- وَ لَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ- إِلَّا ازْدَادَ حَقُّ اللَّهِ عَلَيْهِ عِظَماً- وَ إِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالَاتِ الْوُلَاةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ- أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ- وَ يُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ- وَ قَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الْإِطْرَاءَ- وَ اسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ وَ لَسْتُ بِحَمْدِ اللَّهِ كَذَلِكَ- وَ لَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ- لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ- عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَ الْكِبْرِيَاءِ- وَ رُبَّمَا اسْتَحْلَى النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلَاءِ- فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ- لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ- فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا- فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ- وَ لَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ- وَ لَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَ لَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي- وَ لَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي- فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ- أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ- فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ- فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ- وَ لَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي- إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي- فَإِنَّمَا أَنَا وَ أَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ- يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا- وَ أَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ- فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَ أَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى

اللغة
أقول: أذلالها: وجوهها و طرقها.

و أجحف بهم: ذهب بأصلهم.

و الإدغال: الإفساد.

و اقتحمته: دخلت فيه بالاحتقاد و الازدراد.

و أسخف: أضعف و أصغر.

و البادرة: الحدّة.

و غرض الفصل جمع كلمتهم و اتّفاقهم على أوامره
فأشار أوّلا إلى أنّ لكلّ منه و منهم على الآخر حقّ يجب أن يخرج إليه منه
فحقّه عليهم هو حقّ ولايته لأمرهم، و حقّهم عليه حقّ الرعيّة على الوالى، و هو مثله في وجوب مراعاته و في استلزامه اللوازم الّتي سيذكرها. و قوله: فالحقّ أوسع. إلى قوله: قضائه. تقرير لوجوب حقّه عليهم، و كالتوبيخ لهم على قلّة الإنصاف فيه. و معناه أنّه إذا أخذ الناس في وصف الحقّ و بيانه كان له في ذلك مجال واسع لسهولته على ألسنتهم، و إذا حضر الناصف بينهم و طلب منهم ضاق عليهم المجال لشدّة العمل بالحقّ و صعوبة الانصاف لاستلزامه ترك بعض المطالب المحبوبة لهم، و إطلاق السعة و الضيق على الحقّ استعارة ملاحظة لتشبيه ما يتوهّم فيه من اتّساعه للقول و ضيقه عن العمل بالمكان الّذي يتّسع لشي‏ء أو يضيق عمّا هو أعظم منه. و قوله: لا يجرى لأحد إلّا جرى عليه. تقرير للحقّ عليهم و توطين لنفوسهم عليه، و لا يجرى عليه إلّا جرى له تسكين لنفوسهم بذكر الحقّ لهم. ثمّ أعاد تقرير الحقّ عليهم بحجّة في صورة متّصلة، و هى لو كان لأحد أن يجرى له الحقّ و لا يجرى عليه لكان اللّه تعالى هو الأولى بخلوص ذلك له دون خلقه. ثمّ بيّن الملازمة بقوله: لقدرته. إلى قوله: صروف قضائه: أى لكونه قادرا على عباده و على الانتصاف منهم مع كونه لا يستحقّ عليه شي‏ء لهم لعدله فيهم في كلّ ما جرت به مقاديره الّتي هى صروف قضائه فكان أولى بخلوص ذلك دونهم، و بيّن استثناء نقيض التالى باستثناء ملزومه و هو قوله: و لكنّه تعالى جعل. إلى قوله: أهله، و معناه لكنّه تعالى جعل لنفسه على عباده حقّا هو طاعتهم له ليثبت لهم بذلك حقّا يكون جزاء طاعتهم له فقد ثبت أنّه لم يخلص ذلك للّه تعالى بل كما أوجب على عباده حقّا له أوجب لهم على نفسه بذلك حقّا. فإذن لا يجرى لأحد حقّ إلّا جرى عليه و هو نقيض المقدّم، و في قوله: مضاعفة الثواب. إلى قوله: أهله تنبيه لهم على أنّ الحقّ الّذي أوجبه على نفسه أعظم ممّا أوجب لها مع أنّه ليس بحقّ وجب عليه بل بفضل منه عليهم ممّا هو أهله من مزيد النعمة ليتخلّقوا بأخلاق اللّه في أداء ما وجب عليهم من الحقّ بأفضل وجوهه و يقابلوا ذلك التفضّل بمزيد الشكر، و تلك المضاعفة كما في قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها«» و نحوه. و قوله: ثمّ جعل سبحانه. إلى قوله: ببعض. كالمقدّمة لما يريد أن ينبّه من كون حقّه عليهم واجبا من قبل اللّه تعالى و هو حقّ من حقوقه ليكون أدعى لهم إلى أدائه. و بيّن فيها أنّ حقوق الخلق بعضهم على بعض من حقّ اللّه تعالى من حيث إنّ حقّه على عباده هو الطاعة، و أداء تلك الحقوق طاعات للّه كحقّ الوالد على ولده و بالعكس، و حقّ الزوج على الزوجة، و حقّ الوالى على الرعيّة و بالعكس. و قوله: فجعلها تتكافأ في وجوهها. أى جعل كلّ وجه من تلك الحقوق مقابلا لمثله فحقّ الوالى و هو الطاعة من الرعيّة مقابل لمثله منه و هو العدل فيهم و حسن السيرة، و لا يستوجب كلّ من‏ الحقّين إلّا بالآخر. ثمّ قال: و أعظم ما افترض اللّه من تلك الحقوق حقّ الوالى على الرعيّة و حقّ الرعيّة على الوالى لأنّ هذين الحقّين أمرين كلّيّين تدور عليها أكثر المصالح في المعاش و المعاد، و أكّد ذلك بقوله: فريضة فرضها اللّه سبحانه لكلّ على كلّ: أى ذلك فريضة.

و قوله: فجعلها نظاما. إلى قوله: عند العباد.
إشارة إلى لوازم حقّ الوالى على الرعيّة و حقّ الرعيّة على الوالى:
(ا) إنّ اللّه تعالى جعل تلك الحقوق سببا لالفتهم إن أدّى كلّ إلى كلّ حقّه، و قد بيّنا فيما سلف غير مرّة أنّ الفتهم من أعزّ مطالب الشارع، و أنّها مطلوبة من اجتماع الخلق على الصلاة في المساجد: في كلّ يوم خمس مرّات، و في كلّ اسبوع مرّة في الجمعة، و في كلّ سنة مرّتين في الأعياد. و التناصف و الاجتماع في طاعة الإمام العادل من موجبات الانس و الالفة و المحبّة في اللّه حتّى يكون الناس كلّهم كرجل واحد عالم بما يصلحه و متّبع له و بما يفسده و مجتنب عنه. (ب) أنّه جعل تلك الحقوق عزّا لدينهم، و ظاهر أنّ الاجتماع إذا كان سببا للالفة و المحبّة كان سببا عظيما للقوّة و لقهر الأعداء و إعزاز الدين. ثمّ أكّد القول في أنّ صلاح الرعيّة منوط بصلاح الولاة، و هو أمر قد شهدت به العقول و توافقت عليه الآراء الحقّة، و إليه أشار القائل: تهدى الرعيّة ما استقام الرئيس.

و قول الآخر:
تهدى الامور بأهل الرأي ما صلحت فإن تولّت فبا لأشرار تنقاد

و كذلك صلاح حال الولاة منوط بصلاح الرعيّة و استقامتهم في طاعتهم، و فساد أحوالهم بعصيانهم و مخالفتهم. فإذا أدّى كلّ من الوالى و الرعيّة الحقّ إلى صاحبه عزّ الحقّ بينهم و لم يكن له مخالف. (ج) من لوازم ذلك قيام مناهج الدين و طرقه بالاستقامة على قوانينه و العمل بها.

(د) و اعتدال معالم العدل و مظانّه بحيث لاجور فيها.

(ه) و جريان السنن على وجوهها و مسالكها بحيث لا تحريف فيها.

(و) صلاح الزمان بذلك. و نسبة الصلاح إليه مجاز. إذ الصلاح في الحقيقة يعود إلى حال أهل الزمان و انتظام امورهم في معاشهم و معادهم، و إنّما يوصف بالصلاح و الفساد باعتبار وقوعهما فيه و كونه من الأسباب المعدّة لهما.

(ز) من لوازم ذلك الطمع في بقاء الدولة و يأس مطامع الأعداء في فسادها و هدمها. و قوله: فإذا غلبت. إلى قوله: عند العباد. إشارة إلى ما يلزم عصيان الرعيّة للإمام أو حيفه هو عليهم و إجحافه بهم في الفساد: (ا) اختلاف الكلمة، و كنّى به عن اختلاف الآراء و التفرّق بسببه. (ب) ظهور معالم الجور و علاماته، و هو ظاهر لعدم العدل بعدم أسبابه. (ج) كثرة الفساد في الدين، و ذلك لتبدّد الأهواء و تفّرقها عن رأى الإمام العادل الجامع لها، و أخذ كلّ فيما يشتهيه ممّا هو مفسد للدين و مخالف له. (د) ترك محاجّ السنن و طرقها. فمن الإمام لجوره، و من الرعيّة لتبدّد نظام آرائها. (ه) العمل بالهوى. و علّته ما مرّ. (و) تعطيل الأحكام الشرعيّة، و هو لازم للعمل بالهوى. (ز) و كثرة علل النفوس، و عللها أمراضها بملكات السوء كالغلّ و الحسد و العداوات و العجب و الكبر و نحوها، و قيل: عللها وجوه ارتكابها للمنكرات فيأتى في كلّ منكر بوجه و علّة و رأى فاسد. (ح) فلا يستوحش بعظيم حقّ عطّل، و ذلك للانس بتعطيله، و لا بعظيم باطل فعل، و ذلك لاعتياده و الاتّفاق عليه و كونه مقتضى الأهويه. (ط) فهنالك تذلّ الأبرار لذلّة الحقّ المعطّل الّذي هم أهله و كان غيرهم بغيره.(ى) و تعزّ الأشرار لعزّة الباطل الّذي هم عليه بعد ذلّهم بعزّة الحقّ. (يا) و تعظم تبعات اللّه على العباد: أى عقوباته بسبب خروجهم عن طاعته. و لمّا بيّن لوازم طاعته و عصيانه قال: فعليكم بالتناصح في ذلك: أى في ذلك الحقّ، و حسن التعاون عليه.

و قوله: فليس أحد. إلى قوله: من الطاعة له. تأكيد لأمره بالمبالغة في طاعة اللّه: أى قليل من الناس يبلغ بطاعته للّه تعالى ما هو أهله منها و إن اشتدّ حرصه على إرضائها بالعمل و طال فيه اجتهاده، و لكن على العباد من ذلك مبلغ جهدهم في النصيحة و التعاون على إقامة حقّ اللّه بينهم بقدر الإمكان لا بقدر ما يستحقّه هو تعالى فإنّ ذلك غير ممكن. و قوله: و ليس امرؤ و إن عظمت. إلى قوله: حمّله اللّه تعالى من حقّه. أى أنّه و إن بلغ المرء أىّ درجة كانت من طاعة اللّه فهو محتاج إلى أن يعان عليها، و ليس هو بأرفع من أن يعان على ما حمّله اللّه منها، و ذلك أنّ تكليف اللّه تعالى بطاعته بحسب وسع المكلّف، و الوسع في بعض العبادات قد يكون مشروطا بمعونة الغير فيها فلا يستغنى أحد منها. و قوله: و لا امرء و إن صغّرته النفوس. إلى قوله: أو يعان عليه.
إشارة إلى أنّه لا ينبغي أن يزدرى أحد عن الاستعانة في طاعة اللّه أو أن يعان عليها
فإنّه و إن احتقرته النفوس فليس بدون أن يعين على طاعة اللّه و أداء حقّه و لو بقبول الصدقات و نحوها أو تعاونوا عليها بإعطاء ما يسدّ خلّتهم أو يدفع عنهم ضررا كالجاه، و لفظ الاقتحام استعارة، و وجهها أنّ الّذي تحتقره النفوس تجبّرا عليه و تعبره العيون عبور الاحتقار فكأنّها قد اقتحمته. و غرض هذا الكلام الحثّ على استعانة بعض ببعض و على الالفة و الاتّحاد في‏ الدين، و أن لا يزدرى فقير لفقره و لا ضعيف لضعفه، و أن لا يستغنى غنىّ عن فقير فلا يلتفت إليه و لا قوىّ عن ضعيف فيحتقره بل أن يكون الكلّ كنفس واحدة. و أمّا قوله لمن أكثر عليه الثناء فحاصله التأديب على الإطراء أو النهى عن الغلوّ في الثناء على الإنسان في وجهه‏ بالفضائل و إن كانت حقّه، و سرّه أنّ ذلك يستلزم في كثير من الناس الكبر و العجب بالنفس و العمل.

فقوله: إنّ من حقّ من عظم. إلى قوله: إحسانه إليه. مقدّمة في الجواب بيّن فيها أنّ من عظمت نعمة اللّه عليه و لطف إحسانه إليه فحقّه أن يصغر عنده كلّ ما سواه بقياس من الشكل الأوّل، و تقدير صغراه أنّ من عظمت نعم اللّه عليه و لطف إحسانه إليه فهو أحقّ الناس بتعظيم جلال اللّه في نفسه و إجلال موضعه من قلبه، و تقدير كبراه و كلّ من كان أحقّ بذلك فمن حقّه أن يصغر كلّ ما سواه عنده، و دلّ على الكبرى بقوله: لعظم ذلك: أى لعظم جلال اللّه في قلبه يجب أن يصغر عنده كلّ شي‏ء سواه، و هذه المقدّمة و إن كانت عامّة إلّا أنّ الإشارة الحاضرة بها إلى نفسه، و ذلك أنّ أعظم نعمة اللّه في الدنيا خلافة المسلمين، و في الآخرة ما هو عليه من الكمالات النفسانيّة فكان أحقّ الناس بتعظيم جلال اللّه في نفسه، و كان بذلك من حقّه أن يصغر كلّ ما سوى اللّه في قلبه. ثمّ قال: و من أسخف حالات الولات. إلى قوله: و الكبرياء. فكأنّه قال: و من كان من حقّه أن يصغر كلّ ما سوى اللّه في قلبه فكيف يليق به أن يحبّ الفخر أو يصنع أمره على الكبر الذين لا يليقان إلّا بعظمة اللّه، أو يظنّ به ذلك و يعامل بما يعامل به الجبابرة من الخطاب به، و صرّح بأنّ المراد نفسه في قوله: و قد كرهت، إلى آخره. و قوله: و لو كنت احبّ أن يقال فيّ ذلك. يجرى مجرى تسليم الجدل: أى وهب إنّى احبّ أن يقال ذلك فيّ باعتبار ما فيه اللذّة لكنّى لو كنت كذلك لتركته باعتبار آخر، و هو الانحطاط و التصاغر عن تناول ما هو اللّه أحقّ به من العظمة و الكبرياء، و نبّه في ذلك على أنّ الإطراء يستلزم التكبّر و التعظيم فكان تركه له و كراهته لكونه مستلزما لهما. و قوله: و ربّما استحلى الناس الثناء بعد البلاء. يجرى مجرى تمهيد العذر لمن أثنى عليه فكأنّه يقول: و أنت معذور في‏ ذلك حيث رأيتنى اجاهد في اللّه و أحثّ الناس على ذلك، و من عادة الناس أن يستحلوا الثناء عند أن يبلوا بلاء حسنا في جهاد أو غيره من ساير الطاعات. ثمّ أجاب عن هذا العذر في نفسه بقوله: فلا تثنوا علىّ بجميل ثناء، إلى قوله: من إمضائها، و أراد فلا تثنوا علىّ لأجل ما ترونه منّى من طاعة اللّه فإنّ ذلك إنّما هو إخراج لنفسى إلى اللّه من الحقوق الباقية علىّ لم أفرغ بعد من أدائها و هى حقوق نعمه، و من فرائضه الّتي لا بدّ من المضى فيها، و كذلك إليكم من الحقوق الّتي أوجبها اللّه علىّ لكم من النصيحة في الدين و الارشاد إلى الطريق الأقصد و التعليم لكيفيّة سلوكه، و في خطّ الرضى- رحمه اللّه- من التقيّة بالتاء، و المعنى فإنّ الّذي أفعله من طاعة اللّه إنّما هو إخراج لنفسى إلى اللّه و إليكم من تقيّة الحقّ فيما يجب علىّ من الحقوق إذ كان عليه السّلام إنّما يعبد اللّه للّه غير ملتفت في شي‏ء من عبادته و أداء واجب حقّه إلى أحد سواء خوفا منه أو رغبة إليه، و كأنّه قال: لم أفعل شيئا إلّا و هو ذا حقّ وجب علىّ و إذا كان كذلك فكيف أستحقّ أن يثنى علىّ لأجله بثناء جميل و اقابل بهذا التعظيم، و هو من باب التواضع للّه و تعليم كيفيّته و كسر النفس عن محبّة الباطل و الميل إليه.

و قوله: فلا تكلّمونى. إلى قوله: بعدل.
إرشاد لهم إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه من السيرة عنده و نهاهم من امور:
(ا) أن لا يكلّموه بكلام الجبابرة لما فيه من إغراء النفس، و لأنّه عليه السّلام ليس بجبّار فيكون ذلك منهم وصفا للشي‏ء في غير موضعه. (ب) أن لا يتحفّظوا منه بما يتحفّظ به عند أهل البادرة و سرعة الغضب من الملوك و غيرهم، و ذلك التحفّظ كتكلّف ترك المساورة و الحديث إجلالا و خوفا منه أو كترك مشاورته أو إعلامه ببعض الامور أو كالقيام بين يديه فإنّ ذلك التحفّظ قد يفوت به مصالح كثيرة، و لأنّه ممّا يغرى النفس بحبّ الفخر و العجب، و لأنّه وضع للشي‏ء في غير موضعه. (ج) أن لا تخالطوه بالمصانعة و النفاق لما فيه من فساد الدين و الدنيا.(د) أن لا يظنّوا به استثقالا لحقّ يقال له و إن كان فيه مرارة، و استعار لفظ المرار لشدّة الحقّ و صعوبته فإنّ عدله عليه السّلام و ما يستلزمه من قبول الحقّ كيف كان يرشد إلى أن لا يظنّوا به أنّه يلتمس الإعظام لنفسه، و ذلك لمعرفته بمن هو أهله دونه و هو اللّه تعالى. و قوله: فإنّه من استثقل. إلى قوله: أثقل. قياس ضمير من الشكل الثاني بيّن فيه أنّه لا يستثقل قول الحقّ له و عرض العدل عليه ليزول ظنّ من ظنّ ذلك به، و المذكور هو صغرى القياس و تلخيصها أنّ من استثقل قول الحقّ له و عرض العدل عليه كان العمل الحقّ و العدل عليه ثقيلا بطريق أولى، و تقدير الكبرى و لا شي‏ء من العمل بهما بثقيل علىّ أمّا الصغرى فظاهرة لأنّ تكلّف فعل الحقّ أصعب على النفس من سماع وصفه، و أمّا الكبرى فلأنّه عليه السّلام يعمل بهما من غير تكلّف و استثقال كما هو المعلوم من حاله فينتج أنّه لا شي‏ء من قول الحقّ له و عرض العدل عليه بثقيل. (ه) أن لا يكفّوا عن قول حقّ و مشورة بعدل لما في الكفّ عن ذلك من المفسدة.
و قوله: فإنّى لست. إلى قوله: منّى. من قبيل التواضع الباعث لهم على الانبساط معه بقول الحقّ، و في قوله: إلّا أن يكفى اللّه من نفسى: أى من نفسى الأمّارة بالسوء ما هو أقوى منّى على دفعه و كفايته من شرورها، و هو إسناد العصمة إلى اللّه تعالى. و قوله: فإنّما أنا و أنتم. إلى آخر. تأديب في الانقياد للّه و تذليل لعظمته، و ظاهر كونه تعالى يملك من أنفسنا و ميولها و خواطرها. إذ الكلّ منه و هو مبدء فيضه و الاستعداد له. و قوله: و أخرجنا ممّا كنّا فيه.
أى من الضلالة في الجاهليّة و عمى الجهل فيها عن إدراك الحقّ و سلوك‏ سبيل اللّه إلى ما صلحنا عليه: أى من الهدى بسبيل اللّه و البصيرة لما ينبغي من مصالح الدارين، و ذلك ببعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ظهور نور النبوّة عنه.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 38

خطبه 206 شرح ابن میثم بحرانی

و من دعائه له عليه السّلام
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُصْبِحْ بِي مَيِّتاً وَ لَا سَقِيماً- وَ لَا مَضْرُوباً عَلَى عُرُوقِي بِسُوءٍ- وَ لَا مَأْخُوذاً بِأَسْوَإِ عَمَلِي وَ لَا مَقْطُوعاً دَابِرِي- وَ لَا مُرْتَدّاً عَنْ دِينِي وَ لَا مُنْكِراً لِرَبِّي- وَ لَا مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِيمَانِي وَ لَا مُلْتَبِساً عَقْلِي- وَ لَا مُعَذَّباً بِعَذَابِ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِي- أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوكاً ظَالِماً لِنَفْسِي- لَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ وَ لَا حُجَّةَ لِي- وَ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ إِلَّا مَا أَعْطَيْتَنِي- وَ لَا أَتَّقِيَ إِلَّا مَا وَقَيْتَنِي- اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَفْتَقِرَ فِي غِنَاكَ- أَوْ أَضِلَّ فِي هُدَاكَ أَوْ أُضَامَ فِي سُلْطَانِكَ- أَوْ أُضْطَهَدَ وَ الْأَمْرُ لَكَ- اللَّهُمَّ اجْعَلْ نَفْسِي أَوَّلَ كَرِيمَةٍ تَنْتَزِعُهَا مِنْ كَرَائِمِي- وَ أَوَّلَ وَدِيعَةٍ تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِكَ عِنْدِي- اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِكَ- أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِينِكَ- أَوْ تَتَابَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ

اللغة
أقول: الدابر: بقيّة الرجل و ولده و نسله.

و الدابر: الظهر.

و الالتباس: الاختلاط.

و اضطهد: أظلم.

و التتابع: التهافت في الشرّ و إلقاء النفس فيه.

المعنى
و قد حمد اللّه تعالى باعتبار ضروب من النعم اعترف بها و عدّ منها عشرة: و هى الحياة، و الصحّة، و السلامة من آفات العروق و أمراضها. و من الأخذ بالجريمة.

و قطع النسل، و يحتمل أن يريد بالدابر الظهر، و كنّى بالقطع عن الرمى بالدواهى العظيمة الّتي من شأنها قصم الظهر و قطع القوّ. ثمّ عن الارتداد. ثمّ عن جحود ربوبيّة اللّه. ثمّ عن الاستيحاش من الإيمان استثقاله و النفرة عنه. ثمّ من اختلاط العقل.
ثمّ من التعذيب بعذاب الامم السالفة بالصواعق و الخسف و نحوها. و عقّب ذلك الحمد بالإقرار على نفسه و صفات الخضوع و الذلّة المستلزمة لاستنزال الرحمة و عدّ منها خمسة: و هى كونه عبدا مملوكا للّه تعالى. ثمّ كونه ظالما لنفسه. ثمّ كونه معترفا بحجّة اللّه عليه مقطوع الحجّة في نفسه. ثمّ كونه معترفا بعدم استطاعة أن يأخذ إلّا ما قسّم اللّه له و سبّب له الوصول إليه، و أنّه لا يقدر أن يتّقى من المضارّ إلّا ما وقاه اللّه إيّاه. ثمّ لمّا أعدّ نفسه بهذه الإقرارات بقبول الرحمة من اللّه استعاذ به من اموره: و هى أن يفتقر في غناه تعالى: أى أن يفتقر مع أنّه الغنىّ المطلق، و أن يضلّ في هداه: أى مع أنّ له الهدى الّذي لا اختلال معه، و أن يظلم في سلطانه: أى مع أنّ له السلطان الظاهر، و أن يضطهد و له الأمر القاهر. ثمّ سأله أن يجعل نفسه أوّل كريمة ينتزعها من كرائمه. و أراد بكرائمه قواه النفسانيّة و البدنيّة و أعضاه، و غرض السؤال تمتّعه بجميعها سليمة من الآفات إلى حين الممات فتكون نفسه أوّل منتزع من كرائمه قبل أن يفقد شي‏ء منها. و نحوه قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الّلهمّ متّعنى بسمعى و بصرى و اجعلهما الوارث منى: أى اجعلهما باقيين صحيحين إلى حين وفاتى. و استعار لفظ الوديعة للنفس باعتبار أنّها في معرض الاسترجاع كالوديعة. ثمّ استعاذ به من الذهاب عن قوله تعالى: و الافتنان عن دينه. و قد روى الرضى- رضوان اللّه عليه- يفتتن بالبناء للفاعل على أن يكون الفتنة من النفس الأمّارة. و روى و يفتتن بالبناء للمفعول فيكون المستعار منه الفتنة بالغير. ثمّ من الانخراط في سلك الأهواء و تتابعها به في مرامى الشقاوة دون الهدى الّذي جاءت به الكتب الإلهيّة من عند اللّه. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم‏بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 37

 

خطبه 205 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
وَ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ عَدَلَ وَ حَكَمٌ فَصَلَ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ سَيِّدُ عِبَادِهِ- كُلَّمَا نَسَخَ اللَّهُ الْخَلْقَ فِرْقَتَيْنِ جَعَلَهُ فِي خَيْرِهِمَا- لَمْ يُسْهِمْ فِيهِ عَاهِرٌ وَ لَا ضَرَبَ فِيهِ فَاجِرٌ- أَلَا وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلْخَيْرِ أَهْلًا- وَ لِلْحَقِّ دَعَائِمَ وَ لِلطَّاعَةِ- عِصَماً- وَ إِنَ‏ لَكُمْ عِنْدَ كُلِّ طَاعَةٍ عَوْناً مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ- يَقُولُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَ يُثَبِّتُ الْأَفْئِدَةَ- فِيهِ كِفَاءٌ لِمُكْتَفٍ وَ شِفَاءٌ لِمُشْتَفٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُسْتَحْفَظِينَ عِلْمَهُ- يَصُونُونَ مَصُونَهُ وَ يُفَجِّرُونَ عُيُونَهُ- يَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلَايَةِ- وَ يَتَلَاقَوْنَ بِالْمَحَبَّةِ وَ يَتَسَاقَوْنَ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ- وَ يَصْدُرُونَ بِرِيَّةٍ لَا تَشُوبُهُمُ الرِّيبَةُ- وَ لَا تُسْرِعُ فِيهِمُ الْغِيبَةُ- عَلَى ذَلِكَ عَقَدَ خَلْقَهُمْ وَ أَخْلَاقَهُمْ- فَعَلَيْهِ يَتَحَابُّونَ وَ بِهِ يَتَوَاصَلُونَ- فَكَانُوا كَتَفَاضُلِ الْبَذْرِ يُنْتَقَى فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَ يُلْقَى- قَدْ مَيَّزَهُ التَّخْلِيصُ وَ هَذَّبَهُ التَّمْحِيصُ فَلْيَقْبَلِ امْرُؤٌ كَرَامَةً بِقَبُولِهَا- وَ لْيَحْذَرْ قَارِعَةً قَبْلَ حُلُولِهَا- وَ لْيَنْظُرِ امْرُؤٌ فِي قَصِيرِ أَيَّامِهِ وَ قَلِيلِ مُقَامِهِ فِي مَنْزِلٍ- حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلًا- فَلْيَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ وَ مَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ- فَطُوبَى لِذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ- أَطَاعَ مَنْ يَهْدِيهِ وَ تَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيهِ- وَ أَصَابَ سَبِيلَ السَّلَامَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ- وَ طَاعَةِ هَادٍ أَمَرَهُ وَ بَادَرَ الْهُدَى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ- وَ تُقْطَعَ أَسْبَابُهُ وَ اسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ وَ أَمَاطَ الْحَوْبَةَ- فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى الطَّرِيقِ وَ هُدِيَ نَهْجَ السَّبِيلِ

اللغة

أقول: نسخ: أزال و غيّر.

و العاهر: الزانى و يصدق على الذكر و الانثى، و كذلك الفاجر.

و الكفاء: الكفاية و المكافاة.

و الريّة بالكسر: الفعلة منه الري و هى الهيئة الّتي عليها المرتوى.

و الريبة الدغل و الغلّ.

و التمحيص: الابتلاء و الاختبار.

و القارعة: الشديدة من شدائد الدهر.

و يرديه: يوقعه في الردى. 

وأماط: أزال.

و الحوبة: الإثم.

المعنى
و أطلق لفظ العدل على العادل مجازا إطلاقا لاسم اللازم على ملزومه، و البارى تعالى عادل بالنظر إلى علمه و قضائه: أى لا يقضى في ملكه بأمر إلّا و هو على وفق النظام الكلّىّ و الحكمة البالغة، و يدخل في ذلك جميع أقواله و أفعاله فإنّه لا يصدر منها شي‏ء إلّا و هو كذلك، و أمّا الجزئيّات المعدودة شرورا و صورة جور في هذا العالم فإنّها إذا اعتبرت كانت شرورا بالنسبة و مع ذلك فهى من لوازم الخير و العدل لا بدّ منها و لا يمكن أن يكون العدل و الخير من دونها كما لا يمكن أن يكون الإنسان إنسانا إلّا و هو ذو شهوة و غضب تلزمها الفساد و الشرّ الجزئيّ، و لمّا كان الخير أكثر و كان ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّا كثيرا في الجود و الحكمة وجب وجود تلك الشرور الجزئيّة لوجود ملزوماتها، و أشار بقوله: عدل إلى إيجاد العدل بالفعل، و بقوله في وصف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سيّد عباده إلى قوله: أنا سيّد ولد آدم و لا فخر. و قوله: كلّما نسخ اللّه الخلق فرقتين. فنسخ الخلق قسمة كلّ قرن و فرقة إلى خيار و أشرار، و القسمة يغيّر للمقسوم و إزالة عن حال إتحاده. و قوله: جعله في خيرهما. إشارة إلى ما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال المطّلب بن أبى وداعة: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب إنّ اللّه خلق الخلق فجعلنى في خيرهم. ثمّ جعلهم فرقتين فجعلنى في خيرهم. ثمّ جعلهم قبايل فجعلنى في خيرهم.
ثمّ جعلهم بيوتا فجعلنى في خيرهم فأنا خيركم بيتا و خيركم نفسا. و قوله: لم يسهم فيه عاهر، و لا ضرب فيه فاجر. أى لم يضرب فيه العاهر بسهم و لم يكن للفجور في أصله شركة يقال: ضرب في كذا بنصيب إذا كان له فيه شرك، و هو إشارة إلى طهارته من قبل أصله عن الزنا كما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يزل ينقلني اللّه تعالى من أصلاب الطاهرين إلى أرحام‏ الطاهرات، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لمّا خلق اللّه آدم أودع نورى في جبينه فما زال ينقله من الآباء الأخاير إلى الامّهات الطواهر حتّى انتهى إلى عبد المطّلب، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ولدت من نكاح لا من سفاح. و قوله: ألا و إنّ اللّه. إلى قوله: عصما. ترغيب للسامعين أن يكونوا أهل الجنّة و دعائم الحقّ و عصم الطاعة، و كذلك قوله: و إنّ لكم. إلى قوله: من اللّه. جذب لهم إلى طاعته بذكر العون منه و كأنّه عنّى بالعون القرآن الكريم. و قوله: يقول على الألسنة، و يثبّت الأفئدة. تفصيل لوجوه العون منه تعالى، و عونه من جهة القول على الألسنة وعده المطيعين بالثواب العظيم على الطاعة، و مدحه لهم، و تبشيرهم بالجنّة و الرضوان منه على ألسنة الرسل فإنّ كلّ ذلك مقوّ على الطاعة و معين عليها، و أمّا تثبيت الأفئدة فمن جهة الاستعداد لطاعة اللّه و استلاحة أنواره من كتابه العزيز و استكشاف أسراره كما قال تعالى أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ«» و قوله كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا«» و إنّ في القرآن الكريم من المواعظ و الزواجر المخوّفة ما يوجب الفزع إلى اللّه و تثبّت القلوب على طاعته للخلاص منها.
و قوله: فيه كفاء لمكتف. أى في ذلك القول كفاية لطالبى الاكتفاء: أى من الكمالات النفسانيّة، و شفاء لمن طلب الشفاء من أمراض الرذائل الموبقة. ثمّ نبّه على عباد اللّه الصالحين و صفاتهم ليقتفوا آثارهم و يكونوا منهم فأعلمهم أنّهم هم الّذين استحفظهم علمه و أسرار خلقه.
فمن صفاتهم امور:

أحدها: أنّهم يصرفون ما وجب صرفه من غير أهله، و لا يضعون أسراره إلّا في أهله.

الثاني: يفجّرون عيونه، و لفظ العيون مستعار إمّا لمعادنه و هى أذهان‏ الأنبياء و الأولياء و أئمّة العلماء، و إمّا لاصوله الطيّبة و حملته الّتى علموها، و يكون لفظ التفجير مستعار لإفادتها و تفريقها و تفصيلها.

الثالث: و يتواصلون بالولاية الّتي نصرة بعضهم لبعض في دين اللّه و إقامة ناموس شريعته.

الرابع: و يتلاقون بالمحبّة فيه الّتي هى مطلوب الشارع من شريعته حتّى يصيروا كنفس واحدة. الخامس: و يتساقون بكأس رويّة. و استعار لفظ الكأس للعلم: أى تستفيد بعضهم من بعض. و رشّح بذكر الرويّة، و أراد بها تمام الإفادة.

السادس: و يصدرون بريّة: أى يصدر كلّ منهم عن الآخر بفايدة قد ملأت نفسه كمالا. و لفظ الريّة مستعار.
السابع: كونهم لا تشوبهم الريبة: أى لا يتداخل بعضهم شكّ في بعض، و لا يهمّه بنفاق أو بسوء باطن له من غلّ أو حسد.

الثامن: و لا تسرع فيهم الغيبة. و إنّما نفى عنهم سرعة الغيبة لأنّ فيهم من ليس بمعصوم فلم يكن نفيها عنهم بالكلّيّة بل استبعد وقوعها منهم، و يحتمل أن يريد أنّهم لقلّة عيوبهم لا يكاد أحد يتسرّع فيهم بغيبة.

التاسع: كونهم على ذلك عقد اللّه خلقهم: أى على ذلك الوصف و الكمال قد خلقهم على وفق قضائه لهم بذلك و أوجدهم. فعليه: أى فعلى ما عقد خلقهم عليه من الكمال يتحابّون، و به يتواصلون.

العاشر: كونهم في ذلك كتفاضل البذر. أى فكانوا في فضلهم بالقياس إلى الناس كتفاضل البذر، و أشار إلى وجه الشبه بقوله: ينتقى. إلى قوله: التمحيص، و تقريره أنّهم خلاصة الناس و نقاوتهم الّذين صفاهم منهم و ميّزهم عنهم تخليص عناية اللّه لهم بإفاضة رحمته و هدايته إلى طريقه، و خلّصهم ابتلاؤه و اختباره بأوامره.

و قوله: فليقبل امرء كرامة بقبولها. إلى آخره. عود إلى النصيحة و الموعظة، و أراد كرامة اللّه بطاعته و ما استلزمه من‏ المواهب الجليلة، و أراد بقبولها قبولها الحقّ التامّ على الوجه الّذي ينبغي من مراعاة مصلحتها و مراقبتها عن آثار النفاق كما قال تعالى فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ«» و بالقارعة الّتي حذّر منها قبل حلولها قارعة الموت. ثمّ أمر أن يعتبر المرء قصر أيّام حياته و قلّة مقامه في منزل يستلزم الإقامة القليلة فيه هذه العناية و هى أن يستبدل به منزلا آخر: أى يحلّ محلّ عبرته إقامته القصيرة في الدنيا المستلزمة لانتقاله منها إلى الآخرة فإنّ في تصوّره قلّة المقام في هذا المنزل للعبور إلى منزل آخر عبرة تامّة، و يحتمل أن تكون حتّى غاية من أمره بالنظر في الاعتبار: أى فلينظر في ذلك المنزل يستبدل به غيره، و إذا كان كذلك فينبغى أن يعمل لذلك المنزل المتحوّل إليه، و لمعارف منتقلة: أى لمواضع الّتي يعرف انتقاله إليها. و طوبى فعلى من الطيب قلّبوا ياءها واو للضمّة قبلها، و قيل: هى اسم شجرة في الجنّة، و قلب سليم: أى لم يتدنّس برذيلة الجهل المركّب و لا بنجاسات الأخلاق الرديئة، و من يهديه إشارة إلى نفسه عليه السّلام و أئمّة الدين، و من يرديه في مهاوى الهلاك المنافقون و أئمّة الضلالة، و إصابته لسبيل السلامة وقوفه على سبيل اللّه عند حدوده بهداية من هداه و طاعته لها و أمره بسلوكها، و مبادرته للهدى مسارعته إليه قبل غلق أبوابه، و استعار لفظ الأبواب له و لأئمّة الدين من قبله، و رشّح بذكر الغلق و أراد به عدمهم أو موت الطالب، و كذلك استعار لفظ الأسباب لهم، و وجه الاستعارة كونهم وصلا إلى المراد كالجبال، و رشّح بذكر القطع و أراد به أيضا موتهم، و استفتاح التوبة استقبالها و الشروع فيها، و إماطة الحوبة إزالة الإثم عن لوح نفسه بتوبته.

و قوله: فقد اقيم. إلى آخره. إشعار منه بإقامة أعلام اللّه و هم العلماء و الكتاب المنزل و السنّة النبويّة و الهداية بها إلى واضح سبيله ليقتدى الناس بها و يسلكوا على بصيرة. و باللّه التوفيق و العصمة.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 36

 

خطبه 204 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
القسم الأول
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ- الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِينَ- الظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِيرِهِ لِلنَّاظِرِينَ- وَ الْبَاطِنِ بِجَلَالِ عِزَّتِهِ عَنْ فِكْرِ الْمُتَوَهِّمِينَ- الْعَالِمِ بِلَا اكْتِسَابٍ وَ لَا ازْدِيَادٍ- وَ لَا عِلْمٍ مُسْتَفَادٍ- الْمُقَدِّرِ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ بِلَا رَوِيَّةٍ وَ لَا ضَمِيرٍ- الَّذِي لَا تَغْشَاهُ الظُّلَمُ وَ لَا يَسْتَضِي‏ءُ بِالْأَنْوَارِ- وَ لَا يَرْهَقُهُ لَيْلٌ وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ نَهَارٌ- لَيْسَ إِدْرَاكُهُ بِالْإِبْصَارِ وَ لَا عِلْمُهُ بِالْإِخْبَارِ
أقول: حمد اللّه تعالى باعتبارات إضافيّة و سلبيّة:
أولها: العلىّ عن شبه المخلوقين
أي في ذاته و صفاته و أفعاله و أقواله، و قد علمت كيفيّة ذلك من غير مرّة.
الثاني: الغالب لمقال الواصفين
و ذلك الغلب إشارة إلى تعاليه عن إحاطة الأوصاف به و فوته لها و عدم القدرة على ذلك منه، و قد أشرنا إلى ذلك مرارا.
الثالث: الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين
بأعين بصايرهم و أبصارهم.

الرابع: الباطن بجلال عزّته عن فكر المتوهّمين.
و قد مرّ بيان هذين الوصفين و فايدة قوله: بجلال عزّته تنزيه بطونه عن الفكر باعتبار جلالته و عزّته عن أن تناله لا باعتبار حقارة و صغر، و إنّما قال: فكر المتوهّمين لأنّ النفس الإنسانيّة حال التفاتها إلى استلاحة الامور العلويّة المجردّة لا بدّ أنّ يستعين بالقوّة المتخيّلة يباعث الوهم في أن تصوّر تلك الامور بصور خياليّة مناسبة لتشبيهها بها و تحطّها إلى الخيال، و قد علمت أنّ الوهم إنّما يدرك ما كان متعلّقا بمحسوس أو متخيّل من المحسوسات فكلّ أمر يتصوّره الإنسان و هو في هذا العالم سواء كان ذات اللّه سبحانه أو صفاته أو غير ذلك فلا بدّ أن يكون مشوبا بصورة خياليّة أو معلّقا بها و هو تعالى منزّه بجلال عزّته عن تكيّف تلك الفكر له و باطن عنها.
الخامس: العالم المنزّه في كيفيّة علمه عن اكتساب له بعد جهل أو ازدياد
منه بعد نقصان أو استفادة له عن غير كما عليه علم المخلوقين.
السادس: المقدّر لجميع الامور
أى الموجد لجميع الامور على وفق قضائه كلّا بمقدار معلوم تنزّه فيه عن التفكّر و الضمير، و أراد بالضمير ما اضمر من الرويّة.
السابع: الّذي لا تغشاه الظلم، و لا يستضي‏ء بالأنوار
لتنزّهه عن الجسميّة و لواحقها.
الثامن: و لا يرهقه
أى لا يدركه ليل. و لا يجرى عليه نهار، و ذلك لتنزّهه عن إحاطة الزمان.
التاسع: ليس إدراكه بالأبصار
لتقدّس ذاته عن الحاجة إلى الآلة في الإدراك و غيره.
العاشر: و لا علمه بالأخبار
أى كما عليه كثير من علومنا لتقدّسه عن حاسّة السمع. و باللّه التوفيق.

القسم الثاني و منها فى ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

أَرْسَلَهُ بِالضِّيَاءِ وَ قَدَّمَهُ فِي الِاصْطِفَاءِ- فَرَتَقَ بِهِ الْمَفَاتِقَ وَ سَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ- وَ ذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَةَ وَ سَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَةَ- حَتَّى سَرَّحَ الضَّلَالَ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ
اللغة
أقول: المساورة: المواثبة.

و سرّح: فرّق.
و قد أشار إلى بعض فضائل النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعض فوايده
فمن فضائله إرساله بالضياء، و لفظ الضياء مستعار لأنوار الإسلام الهادية في سبيل اللّه إليه، و منها تقديمه على سائر الأنبياء ء في الفضيلة و إن كان الكلّ منهم مصطفى، و ذكر من فوايده كونه رتق به المفاتق، و كنّى بها عن امور العالم المتفرّقة و تشتّت مصالحه زمان الفترة، و رتقها به كناية عن نظمها به بعد تفرّقها كناية بالمستعار، و منها كونه ساور به المغالب، و أسند المساورة إلى اللّه مجازا باعتبار بعثه للنبىّ بالدين عن أمره لمواثبة مغالبه من المشركين و غيرهم، و منها كونه ذلّل به الصعوبة: أى صعوبة أهل الجاهليّة و أعداء دين اللّه، و منها كونه سهّل به الحزونة: أى حزونة طريق اللّه بهدايته فيها إلى غاية أن سرّح الضلال و الجهل عن يمين النفوس و شمالها، و هو إشارة إلى إلقائه رذيلتي التفريط و الإفراط عن ظهور النفوس كسريح جنبتى الحمل عن ظهر الدابة، و هو من ألطف الاستعارات و أبلغها، و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 29

 

خطبه 203 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
اللَّهُمَّ أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِكَ- سَمِعَ مَقَالَتَنَا الْعَادِلَةَ غَيْرَ الْجَائِرَةِ- وَ الْمُصْلِحَةَ غَيْرَ الْمُفْسِدَةِ فِي الدِّينِ وَ الدُّنْيَا- فَأَبَى بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلَّا النُّكُوصَ عَنْ نُصْرَتِكَ- وَ الْإِبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ دِينِكَ- فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُكَ عَلَيْهِ يَا أَكْبَرَ الشَّاهِدِينَ شَهَادَةً- وَ نَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا أَسْكَنْتَهُ أَرْضَكَ وَ سمَاوَاتِكَ- ثُمَّ أَنْتَ بَعْدَهُ الْمُغْنِي عَنْ نَصْرِهِ- وَ الْآخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ

اللغة
أقول: النكوص: الرجوع على الأعقاب.

و هذا الفصل من خطبة كان يستنهض بها أصحابه إلى جهاد أهل الشام
قال بعد تقاعد أكثرهم عن نصرته. استشهد فيه اللّه تعالى و ملائكته و عباده على من سمع مقالته العادلة المستقيمة الّتي هى طريق اللّه القايدة للناس إلى الرشاد في دينهم ودنياهم المصلحة غير المفسدة لهم و هى دعوته إيّاهم إلى جهاد أعداء الدين و البغاة عليه. ثمّ أعرض عنها و قعد عن نصرته و تباطى‏ء عن إعزاز دينه و أبى إلّا التأخّر عن طاعته، و في ذلك الاستشهاد ترغيب إلى الجهاد و تنفير عن التأخّر عنه. إذ كان كأنّه إعلام للّه بحال المتخاذلين عن نصرة دينه و قعودهم عمّا أمرهم به من الذبّ عنه فتتحرّك أوهامهم لذلك بالفزع إلى طاعته، و كذلك في وصفه لمقالته بالعدل و الإصلاح ترغيب في سماعها و جذب إليها. و في قوله: ثمّ أنت بعد: أى بعد تلك الشهادة عليه المغنى لنا عن نصرته تنبيه على عظمة ملك اللّه، و تحقير للنفوس المتخاذلة عن نصرة الدين، و في ذلك الأخذ بالذنب تذكير بوعيد اللّه و أنّ في ذلك التخاذل ذنب عظيم يؤخذ به العبد. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 28

خطبه 202شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
وَ كَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ- وَ بَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ- أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ- الْمُتَرَاكِمِ الْمُتَقَاصِفِ يَبَساً جَامِداً- ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً- فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِهِ- وَ قَامَتْ عَلَى حَدِّهِ وَ أَرْسَى‏ أَرْضاً يَحْمِلُهَا الْأَخْضَرُ الْمُثْعَنْجِرُ- وَ الْقَمْقَامُ الْمُسَخَّرُ- قَدْ ذَلَّ لِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِهَيْبَتِهِ- وَ وَقَفَ الْجَارِي مِنْهُ لِخَشْيَتِهِ- وَ جَبَلَ جَلَامِيدَهَا وَ نُشُوزَ مُتُونِهَا وَ أَطْوَادِهَا- فَأَرْسَاهَا فِي مَرَاسِيهَا- وَ أَلْزَمَهَا قَرَارَتَهَا- فَمَضَتْ رُءُوسُهَا فِي الْهَوَاءِ- وَ رَسَتْ أُصُولُهَا فِي الْمَاءِ- فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا- وَ أَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي مُتُونِ أَقْطَارِهَا وَ مَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا- فَأَشْهَقَ قِلَالَهَا وَ أَطَالَ أَنْشَازَهَا- وَ جَعَلَهَا لِلْأَرْضِ عِمَاداً وَ أَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً- فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا مِنْ أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا- فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِيَاهِهَا- وَ أَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَكْنَافِهَا- فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً- وَ بَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً- فَوْقَ بَحْرٍ لُجِّيٍّ رَاكِدٍ لَا يَجْرِي وَ قَائِمٍ لَا يَسْرِي- تُكَرْكِرُهُ الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ- وَ تَمْخُضُهُ الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ- إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى‏

اللغة

أقول: تعاصفه: تراد أمواجه و تلاطمها و كسر بعضها بعضا.

و المثعنجر: السيال الكثير الماء.

و القمقام: البحر. قيل: سمّى بذلك لاجتماعه.

و جبل: خلق. و جلاميدها: صخورها. و أنهد: رفع.

و أساخ: أدخل.

و أنصابها: جمع نصب و هو ما انتصب فيها.

و الأنشاز: جمع نشز و هو العوالى منها.

و أرّزها فيها: أى وكّرها و غرزها، و روى أرزها مخفّفة: أى أثبتها، و عليه نسخة الرضىّ و الاولى أصحّ و أظهر.

و أكنافها: أقطارها.

و تكر كره: تردّده و تصرّفه.

المعنى

و قد أشار في هذا الفصل إلى أنّ أصل الأجرام الأرضيّة و السماويّة و مادّتها هو الماء، و وصف كيفيّة خلقتها عنه و كيفيّة خلقة الأرض و السماوات و الجبال، و قد مرّ بيان كلّ ذلك مستقصى في الخطبة الأولى،
و في هذا الفصل فوايد:
الأولى
أنّه لمّا كانت هذه الأجرام في غاية القوّة و العظمة و مع ذلك ففيها من عجائب الصنع و بدايعه ما يبهر العقول و يعجزها عن كيفيّة شرحه لا جرم نسبها إلى اقتدار جبروته و عظمته و بديع لطائف صنعته تنبيها بالاعتبار الاولى على أنّه الأعظم المطلق، و بالثانى على لطفه و حكمته التامّة، و كنّى باليبس الجامد عن الأرض.
الثانية
الضمير في منه للبحر و في حدّه إمّا للّه أو لأمره و قيامها على حدّه كناية عن وقوفها على ما حدّه من المقدار و الشكل و الهيئة و النهايات و نحوها و عدم خروجها عن ذلك و تجاوزها له، و الضمير المنصوب في يحملها لمعنى اليبس الجامد و هو الأرض، و كذلك في جلاميدها و ما بعده في أرساها و ما بعده للجبال، و في جبالها و سهو لها و أقطارها للأرض، و في قواعدها و قلالها و أنشازها للجبال، و قد عرفت كيفيّة ذلك الخلق فيما حكاه عليه السّلام في الخطبة الاولى من ثوران الزبد بالريح و ارتفاعه إلى الجوّ الواسع و تكوين السماوات عنه.
الثالثة
ذلّة البحر لأمره و إذعانه لهيبته دخوله تحت الإمكان و الحاجة إلى قدرته و تصريفها له، و هو من باب الاستعارة.
الرابعة
قوله: على حركتها: أى حال حركتها لأنّ على تفيد الحال، و قوله: تسيخ بحملها يفهم منه أنّه لو لا الجبال كونها أوتادا للأرض لمادّت و ساخت بأهلها. فأمّا كونها مانعة لها من الميدان فقد عرفت وجهه في الخطبة الاولى، و أمّا كونها تسيخ لولاها فلأنّها إذا مادّت انقلبت بأهلها فغاص الوجه الّذي هم عليه و ذلك مراده بسيخها فالمانع بها من الميدان هو المانع بها أن تسيخ أو تزول عن موضعها.
الخامسة
أشار بإجمادها بعد رطوبة أكنافها إلى أنّ أصلها من زبد الماء كما اشير إليه من قبل، و يحتمل أن يشير بذلك إلى ما كان مغمورا بالماء منها.
ثمّ سال الماء عنه إلى مواضع أسفل منه فخلا و جفّ و هى مواضع كثيرة مسكونة و غير مسكونة.
السادسة
قوله: تمخضه الغمام الذوارف إشارة إلى أنّ البحر إذا وقع فيه المطر يريح و يتمخض و يضطرب كثيرا و ذلك لتحريك أوقع المطر له بكثرته و قوّته أو لكثرة اقتران المطر بالرياح فتموّجه، و أغلبها تحريكا له الرياح الجنوبيّة لانكشافه لها، و قد شاهدنا ذلك كثيرا.
السابعة
لمّا عدّد المخلوقات المذكورة و تصريف القدرة الربّانيّة لها قال: إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى تنبيها على وجوه الاعتبار بها لمن يخشى اللّه، و أراد العلماء لانحصار الخشية فيهم بقوله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ«» و باللّه التوفيق.

 

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 25

 

خطبه 201 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

و قد سأله سائل عن أحاديث البدع، و عما فى أيدى الناس من اختلاف الخبر فقال عليه السّلام: إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَ بَاطِلًا- وَ صِدْقاً وَ كَذِباً وَ نَاسِخاً وَ مَنْسُوخاً- وَ عَامّاً وَ خَاصّاً- وَ مُحْكَماً وَ مُتَشَابِهاً وَ حِفْظاً وَ وَهْماً- وَ لَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص عَلَى عَهْدِهِ- حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَالَ- مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ- وَ إِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالْإِسْلَامِ- لَا يَتَأَثَّمُ وَ لَا يَتَحَرَّجُ- يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص مُتَعَمِّداً- فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ- وَ لَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ- وَ لَكِنَّهُمْ قَالُوا صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ص- رَآهُ وَ سَمِعَ مِنْهُ وَ لَقِفَ عَنْهُ فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ- وَ قَدْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ- وَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ- فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ- وَ الدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَ الْبُهْتَانِ- فَوَلَّوْهُمُ الْأَعْمَالَ وَ جَعَلُوهُمْ‏ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ- فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا وَ إِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَ الدُّنْيَا- إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ فَهَذَا أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ وَ رَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ- فَوَهِمَ فِيهِ وَ لَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً فَهُوَ فِي يَدَيْهِ- وَ يَرْوِيهِ وَ يَعْمَلُ بِهِ- وَ يَقُولُ أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص- فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ- وَ لَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَرَفَضَهُ وَ رَجُلٌ ثَالِثٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص شَيْئاً- يَأْمُرُ بِهِ ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ- أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْ‏ءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ- فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ وَ لَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ- فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ- وَ لَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ وَ آخَرُ رَابِعٌ- لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اللَّهِ وَ لَا عَلَى رَسُولِهِ- مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللَّهِ وَ تَعْظِيماً لِرَسُولِ اللَّهِ ص- وَ لَمْ يَهِمْ بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ- فَجَاءَ بِهِ عَلَى سَمْعِهِ- لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ- فَهُوَ حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ- وَ حَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ- وَ عَرَفَ الْخَاصَّ وَ الْعَامَّ فَوَضَعَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ مَوْضِعَهُ- وَ عَرَفَ الْمُتَشَابِهَ- وَ مُحْكَمَهُ‏ وَ قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص الْكَلَامُ- لَهُ وَجْهَانِ فَكَلَامٌ خَاصٌّ وَ كَلَامٌ عَامٌّ- فَيَسْمَعُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَا عَنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ- وَ لَا مَا عَنَى رَسُولُ اللَّهِ ص- فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ وَ يُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَعْنَاهُ- وَ مَا قُصِدَ بِهِ وَ مَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ- وَ لَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَ يَسْتَفْهِمُهُ- حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِي‏ءَ الْأَعْرَابِيُّ وَ الطَّارِئُ- فَيَسْأَلَهُ ع حَتَّى يَسْمَعُوا- وَ كَانَ لَا يَمُرُّ بِي مِنْ ذَلِكَ شَيْ‏ءٌ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَ حَفِظْتُهُ- فَهَذِهِ وُجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلَافِهِمْ وَ عِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ

اللغة

أقول: أحاديث البدع: أى الأحاديث المبتدعة بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المنقولة عنه، و ما يبتنى عليها من الأفعال المبتدعة في الدين بدعة أيضا.

و تبوّء مقعده: نزله و استقرّ فيه.

و لقف عنه: تناول بسرعة.

و وهم بالكسر: غلط، و بالفتح ذهب و همه إلى شي‏ء و هو يريد غيره.

و جنّب عنه: أخذ عنه جانبا.

المعنى

و قوله: إنّ في أيدى الناس. إلى قوله: و حفظا و وهما. تعديد لأنواع الكلام الواقع إلى الناس نقلا عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الصدق و الكذب من خواصّ الخبر، و الحقّ و الباطل أعمّ منهما لصدقهما على الأفعال و على الناسخ و المنسوخ و العامّ و الخاصّ و المتشابه، و قد مضى تفسير هذه المفهومات، و أمّا الحفظ فهو ما حفظ عن رسول اللّه كما هو، و الوهم ما غلط فيه و وهم مثلا أنّه عامّ و هو خاصّ أو أنّه ثابت و هو منسوخ إلى غير ذلك. و قوله: قد كذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على عهده. إلى قوله: النار.

فذلك الكذب نحو ما روى أنّ رجلا سرق رداء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خرج إلى قوم و قال هذا رداء محمّد أعطانيه لتمكّنونى من تلك المرأة و استنكروا ذلك فبعثوا من سأل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك فقام الرجل الكاذب فشرب ماء فلدغته حيّة فمات، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين سمع بتلك الحال قال لعلىّ: خذ السيف و انطلق فإن وجدته و قد كفيت فاحرقه بالنار فجائه و أمر بإحراقه فكان ذلك سبب الخبر المذكور، و اعلم أنّ العلماء ذكروا في بيان أنّه لا بدّ أن يكذّب عليه دليلا فقالوا: قد نقل عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: سيكذّب علىّ فإن كان الخبر صدقا فلا بد أن يكذّب عليه، و إن كان كذبا فقد كذّب عليه. ثمّ شرع في قسمة رجال الحديث و قسّمهم إلى أربعة أقسام، و دلّ الحصر بقوله: ليس لهم خامس، و وجه الحصر في الأقسام الأربعة أنّ الناقل للحديث عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المتسمّين بالإسلام إمّا منافق أولا، و الثاني إمّا أن يكون قد وهم فيه أولا، و الثاني إمّا أن لا يكون قد عرف ما يتعلّق به من شرائط الرواية أو يكون. فالأوّل و هو المنافق ينقل كما أراد سواء كان أصل الحديث كذبا أو أنّ له أصلا حرّفه و زاد فيه و نقص بحسب هواه فهو ضالّ مضّل تعمّدا و قصدا، و الثاني يرويه كما فهم و وهم فهو ضالّ مضلّ سهوا، و الثالث يروى ما سمع فضلا له و إضلاله عرضىّ، و الرابع يؤدّيه كما سمعه و كما هو فهو هادّ مهديّ فأشار عليه السّلام إلى القسم الأوّل بقوله: رجل منافق. إلى قوله: فهذا أحد الأربعة. فقوله: متصنّع بالإسلام.
أي يظهره شعارا له. و قوله: لا يتأثّم. أى: لا يعرف بالإثم و لزوم العقاب عليه في الآخرة فلا يحذر منه، و وجه دخول الشبهة في قبول قوله: كونه ظاهر الإسلام و الصحبة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سماع قوله مع كون الناس لا يعلمون باطنه و نفاقه و ما أخبر به اللّه تعالى عن المنافقين‏ كقوله إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ«» و ما وصفهم به كقوله تعالى إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ«» الآية دلّت على وصفهم بالكذب في مطابقة عقايدهم لألسنتهم في الشهادة بأنّه رسول حقّ و من كان يعتقد أنّه غير رسول فإنّه مظنّة الكذب عليه، و أئمّة الضلالة بنو اميّة، و دعاتهم إلى النار دعاتهم إلى اتّباعهم فيما يخالف الدين، و ذلك الاتّباع مستلزم لدخول النار، و الزور و البهتان إشارة إلى ما كانوا يتقرّبون به إلى بنى اميّة من وضع الأخبار عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في فضلهم و أخذهم على ذلك الأجر من اولئك الأئمّة و توليتهم الأعمال و الإمرة على الناس. و قوله: و إنّما الناس. إلى قوله: إلّا من عصم. إشارة إلى علّة فعل المنافق لما يفعل فظاهر أنّ حبّ الدنيا هو الغالب على الناس من المنافقين و غيرهم لقربهم من المحسوس و جهلهم بأحوال الآخرة و ما يراد بهم من هذه الحياة إلّا من هدى اللّه فعصمه بالجذب في طريق هدايته إليه عن محبّة الامور الباطلة، و فيه إيماء إلى قلّة الصالحين كما قال تعالى إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ و قوله يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ و إنّما قال: ثمّ بقوا بعده عليه السّلام. ثمّ حكى حالهم مع أئمّة الضلال و إن كانت الأئمّة المشار إليهم لم يوجدوا بعد إمّا تنزيلا لما لا بدّ منه من ذلك المعلوم له منزلة الواقع أو إشارة إلى من بقى منهم بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تقرّب إلى معاوية لأنّه إذن ذاك إمام ضلالة، و أشار إلى القسم الثاني بقوله: و رجل سمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شيئا لم يحفظه. إلى قوله: لرفضه، و ذلك أن يسمع من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلاما فيتصوّر منه معنى غير ما يريده الرسول.

ثمّ لا يحفظ اللفظ بعينه فيورده بعبارته الدالّة على ما تصوّره من المعنى فلا يكون قد حفظه و تصوّره على وجهه المقصود للرسول فوهم فيه و لم يتعمّد كذبا لوهمه فهو في يديه يرويه و يعمل به على وفق ما تصوّر منه و يسنده إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و علّة دخول الشبهة على المسلمين فيه هى عدم علمهم بوهمه، و علّة دخولها عليه في الرواية و العمل هو وهمه حين السماع حتّى لو علم ذلك لترك روايته و العمل به، و أشار إلى القسم الثالث بقوله: و رجل سمع. إلى قوله: لرفضه، و علّة دخول الشبهة على الراوى و على المسلمين واحدة و هو عدم علمهم بأنّه منسوخ، و أشار إلى القسم الرابع بقوله: و آخر رابع. إلى قوله: و محكمه. فقوله: و عرف الخاصّ و العامّ فوضع كلّ شي‏ء موضعه. أى عمل بالعامّ فيما عدا صورة التخصيص. و قوله: و قد كان يكون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. إلى آخره. تنبيه على صحة القسم الثالث و داخل فيه فإنّ منهم من كان يسمع الكلام ذى الوجهين منه خاصّ و منه عامّ فلا يعرف أنّ أحدهما مخصّص الآخر أو يسمع العامّ دون الخاصّ فينقل العامّ بوجهه على غير معرفة معناه أو أنّه خرج على سبب خاصّ فهو مقصور عليه و انتقل سببه فيعتقده عامّا أو أنّه عامّ فيعتقده مقصورا على السبب و لا يعمل به فيما عدا صورة السبب فيتّبعه الناس في ذلك. و كان قوله: و ليس كلّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. إلى آخره جواب سؤال مقدّر كأن يقال: فكيف يقع الاشتباه عليهم في قوله مع كثرتهم و تواضعه لهم فلا يسألونه فأجاب أنّهم ليسوا بأسرهم كانوا يسألونه لاحترامهم له و تعظيمه في قلوبهم، و إنّما كان يسأله آحاده حتّى كانوا يحبّون أن يجي‏ء الأعرابى أو الطارى‏ء فيسأله حتّى يسمعوا و يفتح لهم باب السؤال، و نبّه على أنّه عليه السّلام كان يستقصى في سؤاله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن كلّ ما يشتبه و يحفظ جوابه ليرجع الناس إلى فضيلته و الاقتباس من أنواره.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 19

 

خطبه 200 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام بالبصرة،
و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثى- و هو من أصحابه- يعوده، فلما رأى سعة داره قال: مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسَعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا- أَمَا أَنْتَ إِلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ- وَ بَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ- تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وَ تَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ- وَ تُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا- فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ- فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ- قَالَ وَ مَا لَهُ- قَالَ لَبِسَ الْعَبَاءَةَ وَ تَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا- قَالَ عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ- يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ- أَ مَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ- أَ تَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَ هُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا- أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ- قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ- هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ جُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ- قَالَ وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ- إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ- كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ‏

اللغة

أقول: استهام بك: أى أذهبك لوجهك، و زيّن لك الهيام، و هو الذهاب في التيه.

و جشوبة المأكل: غلظته و خشونته، و قيل: الطعام الجشب: الّذي لا إدام معه.

و تبيّغ: تهيّج.

المعنى
و قد استفهمه عن غرضه في توسعة داره استفهام توبيخ و إنكار لما أنّ ذلك ينافي الزهد في الدنيا و الحرص في الآخرة. ثمّ عن كونه أحوج إليها في الآخرة استفهام تثبيت و تقرير، و أراد أنّك لو كنت أنفقت ما أخرجته على بنائها من المال في سبيل اللّه لكان أولى و لكنت إليه أحوج منها، و في رواية بإثبات الهمزة مع ما في قوله: ما أنت. و قوله: و بلى. إلى آخره.
هداية له إلى وجوه استعمالها في مرضات اللّه و التقرّب بها إليه بعد التفريط في بنائها، و عدّ وجوه المبارّ المتعلّقة بها. و مطالع الحقوق وجوهها الشرعيّة المتعلّقة به كالزكاة و الصدقة و غيرهما، و ظاهر كونها مبلّغه إلى الآخرة عند إخراج تلك الحقوق منها و فيها، و مقرّ به إلى اللّه. و قوله: علىّ به. ينوب مناب فعل الأمر: أى جيئوا به، و عدىّ تصغير عدوّ، و أصله عديو و فحذفوا إحدى الواوين و قلّبوا الثانية ياء تخفيفا و ادغموا فيها ياء التصغير، و إنّما صغّره استصغارا له باعتبار أنّ شيطانه لم يعدّه إلى كبيرة بل قاده إلى أمرو إن كان خارجا به عن الشريعة إلّا أنّه قريب من السلامة، و دخل عليه بالخدعة في رأى الصالحين، و كان شيطانه بذلك الاعتبار صغيرا بالنسبة إلى شيطان آخر و هو باعتبار القيادة لذلك الوسواس عدّى نفسه، و قيل: بل صغّره من جهة حقارة فعله ذلك لكونه عن جهل منه و إنّما منعه من هذه الطريقة لكونه لم يترك الدنيا على وجه الترك بل كان لمشاركة هواه لعقله، و كان تركه ذلك مستلزما لإهمال حقوق تجب عليه في الشريعة و تلزمه فنبّه بقوله: لقد استهام بك الخبيث على أنّ فعله ذلك عن مشاركة الشيطان و لم يكن عن عقليّة خالصة، و بقوله: أما رحمت أهلك و ولدك على الحقوق اللازمة له من قبلهم، و قد أهملها بفعله ذلك.

فقوله: أ ترى اللّه. إلى قوله: ذلك. في مقام التوبيخ له على ذلك الترك و هو كقوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ«» الآية، و الحاصل أنّ ترك الدنيا بالكلّيّة ليس هو مطلوب الشارع من الزهد فيها و التخلّى عنها لأنّ الشارع يراعى نظام العالم باشتراك الخلق في عمارة الدنيا و تعاونهم على المصالح بقاء النوع الإنسانىّ و ترك الدنيا و إهمالها بالكلّيّة يعدم ذلك النظام و ينافيه بل الّذي يأمر به الشارع القصد في الدنيا و استعمال متاعها على القوانين الّتي وردت بها الرسل و الوقوف فيها عند الحدود المضروبة في شرايعهم دون تعدّيها كما أشار إليه عليه السّلام من منع هذا الرجل، و أمّا السالكون من الصوفيّة بعد عصر الصحابة فهم على الطريقين: فمنهم من يختار القشف و ترك الطيّبات و هجر اللذّات رأسا، و منهم من يؤثر الترف، و الّذي يفعله المحقّقون من السالكين من التقشّف فلا ينافي الشريعة لعلمهم بأسرارها و طريقتهم تلك أقرب إلى السلامة من طريق المترفين لكون الترف مجال الشيطان، و قد كان سلوك الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علىّ عليه السّلام و جماعة من أكابر الصحابة أميل إلى طريق التقشّف لكن مع مشاركتهم لأهل الدنيا في تدبير أحوال المدن و صلاح العالم غير منقطعين عن أهلها و لا منعزلين فأمّا اعتراض عاصم على علىّ عليه السّلام في نهيه له فحاصله أنّه قاس نفسه في ترك الدنيا عليه، و تقديره إنّك إذا نهيتنى عن ذلك فكيف بك: أى فكيف بما أرى من هذه الحال و أنت المقتدى به، أو فكيف أصنع بك مع الحال الّتي أنت عليها، و إنّما ينبغي لى أن أقتدى بك فأجابه عليه السّلام بجواب إقناعىّ بيّن فيه الفرق بينه و بينه، و هو إنّى إنّما فعلت ذلك لكونى إماما و كلّ إمام فرض اللّه عليه أن يقدّر نفسه بضعفة الناس: أى ليسويّها بهم في حالهم كيلا يهيّج بالفقير فقره فيضعف عن حلمه فيكفر أو يفسق و قد كان عليه السّلام قبل الخلافة كذلك، و الجواب المحقّق هو ما قلناه من كون هذه الطريق أسلم، و أمّا الفرق بينهما فيرجع إلى أنّ عاصما سلك على غير علم بكيفيّة السلوك مع ترك الحقوق الّتي تلزمه لأهله و ولده فكانت حالة الّتي فارقها أولى به. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 17

 

خطبه 199 شرح ابن میثم بحرانی

و قال عليه السّلام لما اضطرب عليه أصحابه فى أمر الحكومة

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ أَمْرِي مَعَكُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ- حَتَّى نَهِكَتْكُمُ الْحَرْبُ- وَ قَدْ وَ اللَّهِ أَخَذَتْ مِنْكُمْ وَ تَرَكَتْ- وَ هِيَ لِعَدُوِّكُمْ أَنْهَكُ- . لَقَدْ كُنْتُ أَمْسِ أَمِيراً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُوراً- وَ كُنْتُ أَمْسِ نَاهِياً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَنْهِيّاً- وَ قَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ وَ لَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ

اللغة

أقول: نهكتكم: خلقتكم.

المعنى

فقوله: على ما أحبّ.
أى من الطاعة لى، و لفظ النهك و استناده إلى الحرب استعارة لاضعافها لهم ملاحظة لشبههم بالثوب الّذي أخلقه اللبس، و تشبّهها بمستعملة في كونها سببا لذلك الإضعاف: أى لم أزل كذلك إلى تلك الغاية.

و قوله: و اللّه أخذت منكم و تركت.
كناية عن تصرّفها فيهم بوجوه التصرّف و هو كالعذر لهم، و إرادته بقوله: و هى لعدوّكم أنهك لكى لا يتعاجزوا بعذر إنها كهالهم. ثمّ أخذ في التشكّى منهم إليهم‏ و عتابهم على عصيانهم له و حكمهم عليه بالرجوع إلى التحكيم حتّى صار مأمورا لهم و منهيّا بعد كونه آمرا فيهم و ناهيا، و ذلك من معكوس الحكم و مضادّ لما ينبغي لهم. و قوله: و قد أحببتم البقاء. أى بترك القتال و هو كالتوبيخ لهم على ذلك. و قوله: و ليس. إلى آخره. أي ليس لى قدرة على ذلك و إن كان له ذلك بحسب المصلحة و الشرع.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 16

 

 

خطبه 198 شرح ابن میثم بحرانی

و قال عليه السّلام فى بعض أيام صفين و قد رأى الحسن عليه السلام يتسرع إلى الحرب

امْلِكُوا عَنِّي هَذَا الْغُلَامَ لَا يَهُدَّنِي- فَإِنَّنِي أَنْفَسُ بِهَذَيْنِ يَعْنِي الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ ع- عَلَى الْمَوْتِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللَّهِ ص قال الرضى أبو الحسن: قوله عليه السلام «املكوا عنى هذا الغلام» من أعلى الكلام و أفصحه.

 

اللغة

أقول: املكوه: شدّوه و اضبطوه.

و يهدّنى: يكسرني.

و نفست بالكسر أنفس بالفتح: أى أضنّ و أبخل.

المعنى

و لمّا كان وجود الولد المنتفع ممّا يشدّ القوّة و تقوى به النفس خصوصا مثل الحسن عليه السّلام كنّى بقوله: لا يهدّنى على تقدير هلاكه عن إضعافه لركنه و انكسار نفسه بذلك. ثمّ على علّة اخرى لوجوب المحافظة عليه مع أخيه عليهما السّلام و هى المحافظة على نسل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 15

خطبه 197 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام و قد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين

إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ- وَ لَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَ ذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ- كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَ أَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ- وَ قُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ- اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَ دِمَاءَهُمْ- وَ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَ بَيْنِهِمْ وَ اهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ- حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ- وَ يَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَ الْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ

اللغة

أقول: لهج به: أولع و حرص عليه.

و حاصل الفصل تأديب قومه و إرشادهم إلى السيرة الحسنة و جذب لهم عن تعويدها و تمرينها بكلام الصالحين

و نبّه بكراهته للسبّ و النهى عنه على تحريمه، و نحوه إشارة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: ما بعثت لعّانا و لا سبّابا. و قوله: اللهم إنّى بشر فإذا دعوت على إنسان فاجعل دعائى له لا عليه و اهده إلى الصراط المستقيم.

و قوله: لو وصفتم. إلى قوله: في العذر.
أى لو عدلتم عن السباب إلى وصف أعمالهم و تذكيرهم بكونهم ظالمين لكم و ضالّين عن السبيل ذكرا على وجه النصيحة و الهداية لهم. ثمّ قلتم مكان سبّكم إيّاهم هذا الدعاء لكان أصوب في القول ممّا ذكرتموه من رذيلة السباب و لأنّ في تذكيرهم بأحوالهم و نصيحتهم إيّاهم فائدة و هى رجاء أن يعودوا إلى الحقّ و لأنّ ذلك أبلغ في العذر إليهم من غيره. إذ لكم أن تقولوا بعد ذلك إنّكم نصحتموهم و طلبتم منهم العتبى فلم يستعينوا.

و قوله: و قلتم.
عطف على قوله: وصفتم و لو مقدّرة عليه و جوابها مقدّر بعد تمام الدعاء و حذفا لدلالة لو الاولى عليهما، و التقدير لو قلتم هذا الدعاء لكان أصوب و أبلغ في العذر، و الدعاء الّذي علّمهم عليه السّلام إيّاه مطابق لصورة حال الحرب، و اشتمل على طلب حقن الدماء أوّلا لأنّ سفك الدماء هو الخوف الحاضر، و على طلب علّته و هى إصلاح ذات البين: أى ما بيننا و بينهم من الأحوال الموجبة للافتراق حتّى يكون أحوال الفة و اتّفاق، و لمّا كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها: ذات البين كقولك: اسقنى ذا إنائك: أى ما في إنائك من الشراب، و قيل: ذات البين حقيقة الفرقة: أى صلح حقيقة الفرقة بيننا و بينهم و بدّلها بالالفة. ثمّ على طلب العلّة الحاسمة للفرقة الموجبة لاصلاحها و هى هداهم من ضلالتهم بمعرفة من جهل الحقّ له و ارعوا به من غباوته، و هى طرف التفريط من فضيلة الحكمة، و عداوته و هو طرف الإفراط من فضيلة العدل، و قد كانت الرذيلتان في أصحاب معاوية فإنّه لمّا قصرت وطئتهم عن وجه الحقّ و غلبت عليهم الشبهة بغوا و تعدّوا و لهجوا بعدوانهم، و روى عوض الغىّ العمى و هو عمى البصيرة و غباوتها.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 13

 

 

خطبه 196 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

كلم به طلحة و الزبير بعد بيعته بالخلافة و قد عتبا [عليه‏] من ترك مشورتهما، و الاستعانة فى الأمور بهما لَقَدْ نَقَمْتُمَا يَسِيراً وَ أَرْجَأْتُمَا كَثِيراً- أَ لَا تُخْبِرَانِي أَيُّ شَيْ‏ءٍ كَانَ لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ- أَمْ أَيُّ قَسْمٍ اسْتَأْثَرْتُ عَلَيْكُمَا بِهِ- أَمْ أَيُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ- ضَعُفْتُ عَنْهُ أَمْ جَهِلْتُهُ أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ- . وَ اللَّهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ- وَ لَا فِي الْوِلَايَةِ إِرْبَةٌ- وَ لَكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا وَ حَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا- فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ مَا وَضَعَ لَنَا- وَ أَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ- وَ مَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ ص فَاقْتَدَيْتُهُ- فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إِلَى رَأْيِكُمَا وَ لَا رَأْيِ غَيْرِكُمَا- وَ لَا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَ إِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ- وَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا وَ لَا عَنْ‏ غَيْرِكُمَا- . وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الْأُسْوَةِ- فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي- وَ لَا وَلِيتُهُ هَوًى مِنِّي- بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَ أَنْتُمَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ص قَدْ فُرِغَ مِنْهُ- فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيمَا قَدْ فَرَغَ اللَّهُ مِنْ قَسْمِهِ- وَ أَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ- فَلَيْسَ لَكُمَا وَ اللَّهِ عِنْدِي وَ لَا لِغَيْرِكُمَا فِي هَذَا عُتْبَى- . أَخَذَ اللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَ قُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ- وَ أَلْهَمَنَا وَ إِيَّاكُمُ الصَّبْرَ.

اللغة

أقول: أرجأتما: أخّرتما.

و استأثر: استبدّ. و الإربة: الحاجة.

و أفضت: وصلت.

و العتبى: الرجوع عن الإساءة

المعنى

و اعلم أنّ الرجلين كانا يؤمّلان الأمر لأنفسهما فلمّا صار إليه عليه السّلام عاد إلى رجاء أن يداخلهما في أمره و أن يزد لهما في العطاء على غيرهما كما فضّل بعض الأئمّة من قبله و أن يشاركهما في أكثر الآراء المصلحيّة محبّة منهما للجاه و نظرا إلى محلّهما و شرفهما لكنّ الرجل لمّا جعل دليله الكتاب العزيز و السنّة النبويّة و كان هو القويّ على تفريع الأحكام منهما دون غيره و صاحب أسرارهما كما علمت رجوع أكابر الصحابة و الخلفاء السابقين إليه في كثير الأحكام لا جرم لم يكن به حاجة إلى الاستشارة فيما يقع إليه من الوقايع، و أشار باليسير الّذي نقماه إلى ترك مشورتهما و تسويتهما بغيرهما في العطاء و إن كان عندهما صعبا فهو لكونه عنده غير حقّ في غاية من السهولة، و الكسير الّذي أرجاه ما أخّراه من حقّه و لم يوفياه إيّاه، و روى كثيرا بالثاء بثلاث نقط، و أشار به إلى ما يعود إلى صلاح المسلمين من الآراء الّتي ينبغي أن‏ يتحدّث فيها، و يحتمل أن يريد أنّ الّذي أبدياه و نقماه بعض ممّا في أنفسهما، و قد دلّ ذلك على أنّ في أنفسهما أشياء كثيرة وراء ما ذكراه لم يقولاه.

و قوله: ألا تخبرانى. إلى قوله: بابه.
استفسار عن الحقّ الّذي نقما تركه، و أشار إلى وجوه الحقّ و جهاته المتعارفة المعتادة، و تلخيصه أنّ الحقّ الّذي تنقمان على تركه إمّا أن يكون متعلّقا بكما أو بغير كما من المسلمين، و الأوّل إمّا أن يكون قسما استأثرت به أو غيره من الحقوق دفعتكما عنه ظلما، و الثاني إمّا أن يكون تركه منّى ضعفا أو جهلا به أو خطأ لدليل الحكم فيه، و الاستفهام في الأقسام كلّها استفهام إنكار لها و مستند منعه و إنكاره لها ظاهر فإنّ التسوية في العطاء سنّة الرسول فيجب اتّباعها، و الاستشارة في الحوادث و نحوها إنّما يجب مع عدم الحكم في الواقعة أو مع جهله و لم يكن عادما لأحكام الوقايع الواردة عليه و لا جاهلا بها، و كذلك لم يترك حقّا لأحد من المسلمين عن ضعف منه لأنّه كان خليفة الوقت و لا عن جهل بحكم و لا بدليله لأنّه كان أعلم الامّة بأحكام اللّه، و لمّا كان الّذي نقماه عليه في تلك الحال من الأقسام المذكورة إنّما هو ترك مشورتهما و السوية في العطاء بينهما و بين غيرهما أشار إلى الجواب عن الأوّل بقوله: و اللّه ما كانت.
إلى قوله: و لا عن غيركما.
فقوله: و اللّه. إلى قوله: حملتمونى عليها.

كالمقدّمة في الجواب المكاسرة من توهّمهما رغبته في الخلافة و محبّته للملك و السلطان لاستيثار عليهما و نحو ذلك فإنّه إذا انكسر ذلك الوهم لم يبق علّة طلبه للولاية إلّا نصرة الحقّ و إقامته كما صرّح هو به في غير موضع و حينئذ تندفع شبهتها عنه.

و قوله: فلمّا أفضت. إلى قوله: فاقتديته.
وجه الجواب دلّ به على صغرى القياس فيه، و خلاصته: أى إنّما أحكم بالكتاب فأتّبعته و أقتدى بالسنّة، و تقدير الكبرى و كلّ من فعل ذلك فلا حاجة به في الحكم إلى الرأي.
و قوله، فلم أحتج. إلى قوله، غيركما.
كالنتيجة.

و قوله: و لا وقع حكم جهلته.
أحد الأقسام الّتي استفهم عنها على سبيل الإنكار أوّلا قد صرّح بإنكاره هاهنا و منعه على تقدير دعواهم له. ثمّ بتسليمه تسليم جدل أنّه لو وقع لم يكن يرغب عنهما و لا عن غيرهما من المسلمين و الاستشارة فيه. ثمّ ذكر الأمر الثاني ممّا نقماه عليه فقال: و أمّا ما ذكرتما من الأمر الأسوة: أى اسوتكما بغير كما في العطاء، و أجاب عنه بقوله: فإنّ ذلك أمر. إلى قوله: حكمه. فقوله: و لاولّيته هوى منّى.
أى لم أجعل الحاكم في ذلك هواى، و روى و لا ولّيته هوى منّى على أن يكون هوى مفعولا له: و خلاصته أنّ حكمى بالتسوية في القسمة لم يكن عن رأى منّى و لا هوى أتّبعته و لكن وجدته أنا و أنتم قد فرغ اللّه منه: أى من القضاء به في اللوح المحفوظ و إنزاله، و يقال للأمر الثابت الّذي لا يحتاج إلى إيجاد أو تكميل مفروغ منه، و نسبة الفراغ إلى اللّه مجاز لمناسبته ما قضاه بفعل العبد الّذي فرغ من عمله.

و قوله: فلم أحتج إليكما. إلى قوله: حكمه.
أى لمّا وجدته كذلك لم أمل إليكما بما يرضيكما مع مخالفته لما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و روى فلم أحتجّ إليكما: أى في الإرشاد إلى أحكام اللّه بعد فراغه منها.

و قوله: فليس لكما. إلى قوله. عتبى.
لازم بنتيجتى قياسيّة في الجوابين فإنّه لمّا ثبت أنّه لا حقّ لهما فيما نقماه عليه لم يكن عليه أن يعتب. ثمّ أخذ في الدعاء لهما و لنفسه بأخذ اللّه قلوبهم إلى الحقّ و إلهامهم الصبر عن الميول الباطلة و على الحقّ. ثمّ دعا برحمة اللّه لرجل‏ رأى حقّا و عدلا و أعان على العمل به، أو رأى جورا و ظلما فردّه و أعان على صاحبه جذ بالهما إلى ذلك. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 9

خطبه 195 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام كان كثيرا ما ينادى به أصحابه

تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ- وَ أَقِلُّوا الْعُرْجَةَ عَلَى الدُّنْيَا- وَ انْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ- فَإِنَّ أَمَامَكُمْ عَقَبَةً كَئُوداً وَ مَنَازِلَ مَخُوفَةً مَهُولَةً- لَا بُدَّ مِنَ الْوُرُودِ عَلَيْهَا وَ الْوُقُوفِ عِنْدَهَا- . وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَلَاحِظَ الْمَنِيَّةِ نَحْوَكُمْ دَانِيَةٌ- وَ كَأَنَّكُمْ بِمَخَالِبِهَا وَ قَدْ نَشِبَتْ فِيكُمْ- وَ قَدْ دَهَمَتْكُمْ فِيهَا مُفْظِعَاتُ الْأُمُورِ وَ مُعْضِلَاتُ الْمَحْذُورِ- . فَقَطِّعُوا عَلَائِقَ الدُّنْيَا وَ اسْتَظْهِرُوا بِزَادِ التَّقْوَى و قد مضى شي‏ء من هذا الكلام فيما تقدم، بخلاف هذه الرواية.

اللغة

أقول: العرجة و التعريج: الإقامة على المكان و الاحتباس به.

و عقبة كؤود: شاقة المصاعد.

و الملاحظ: جمع ملحظ و هو مصدر أو محلّ اللحظ و هو النظر بموخّر العين.

و دانية: مجدّدة.

و مفظعات الامور: عظائمها و شدائدها المجاوزة حدّ المقدار المعتاد.

و معضلات المحذور: ما ثقل منها و أمال.

و مدار الفصل على الأمر بالتجهيز من الدنيا

و هو الاستعداد للسفر إلى اللّه بما يحتاج إليه المسافرون إلى حضرته من الزاد المبلغ و هو التقوى، و الرحيل يحتمل أن يريد به السفر بالموت فيكون المنادى هو حوادث الأيّام الداعية بضرورتها للأمزجة إلى الانهدام، و يحتمل أن يريد به السفر إلى اللّه بالرياضة الكاملة، و المنادى بذلك هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الكتاب العزيز و أولياء اللّه. ثمّ على الأمر بإقلال التعريج على الدنيا: أي بقلّة الالتفات إليها إلّا على القدر الضرورىّ منها و هو الزهد. ثمّ بالانقلاب عنها بصالح ما يحضرهم في الدنيا و يمكنهم إعداده و الاستعداد به و هو الأعمال الصالحة و التقوى و قوله: فإنّ أمامكم عقبة كؤودا.

استعار لفظ العقبة بوصف الكؤود، و وجه المشابهة شدّة الملاقات و قطع منازله في حال تألم النفوس إلى آخر الموت، و أراد بالمنازل المحوفة المهولة منازل الآخرة بعد من القبر و ساير درجات النفوس في الشقاوة و الأهوال الاخرويّة و ظاهر أنّه لا بدّ من ورود تلك المنازل و الوقوف عندها إلى حين عبورها خصوصا أصحاب الملكات الرديئة و العلايق الدنيّة البدنيّة فإنّ وقوفهم بتلك المنازل أطول و شدائدهم فيها أهول.

و قوله: و اعلموا. إلى قوله: فيكم.
أخذ بعض لوازم المستعار و هو الملاحظة و ذويها، و كنّى بذلك عن كونها هم بالرصد لا تنقطع عنهم، و روى دائنة: أى قريبة منهم، و كذلك المخالب و نشبتها كناية عن لحوق الآفات و الأمراض المهلكة لهم، و معنى التشبيه هاهنا تشبيه المقدّر القريب وقوعه و هو لحوق الموت لهم، و نسبة مخالب المنية فيهم بوقوع ذلك في السرعة، و الباء في بمخالبها للالصاق، و الواوان في قوله: و قد للحال.

و قوله: و قد دهمتكم. إلى قوله: المحذور.
كناية عن لحوق شدائد الموت و مثقلات الظهور المحذورة و هى الذنوب.

و قوله: فقطّعوا علايق الدنيا.
أمر بالزهد الحقيقىّ فيها و التخفيف منها بترك الفضول و الاستكثار من متاعها، و استظهروا بزاد التقوى: أى اتّخذوه ظهيرا لكم على مشاقّ السفر إلى الآخرة، و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن‏ ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 8

خطبه 194 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ مَجَازٍ وَ الْآخِرَةُ دَارُ قَرَارٍ- فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ- وَ لَا تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُمْ- وَ أَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ- مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ- فَفِيهَا اخْتُبِرْتُمْ وَ لِغَيْرِهَا خُلِقْتُمْ- إِنَّ الْمَرْءَ إِذَا هَلَكَ قَالَ النَّاسُ مَا تَرَكَ- وَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مَا قَدَّمَ- لِلَّهِ آبَاؤُكُمْ فَقَدِّمُوا بَعْضاً يَكُنْ لَكُمْ- وَ لَا تُخْلِفُوا كُلًّا فَيَكُونَ فَرْضاً عَلَيْكُمْ

أقول: حاصل الفصل التنفير عن الدنيا و الترغيب في الآخرة بذكر الغاية من وجودهما
فتكون الدنيا مجازا: أى يسلك بها إلى الآخرة سلوكا اختياريّا كسلوك عباد اللّه الصالحين إليه، و اضطراريّا كعبور الكلّ إلى الآخرة بالموت، و أراد هنا الاضطرارىّ، و هاتان القرينتان كالمقدّمة لقوله: فخذوا من ممرّكم لمقرّكم.

و قوله: و لا تهتكوا. إلى قوله: أسراركم.أى لمجاهرته بالمعصية فإنّه إذا كان يعلم أسراركم فهو يعلم ظواهر كم أولى.

و قوله: و أخرجوا. إلى قوله: أبدانكم.
أمر لهم بالزهد في الدنيا قبل الموت، و كنّى عنه بإخراج القلوب منها. يقال: خرج فلان عن كذا، و أخرج نفسه من كذا إذا أعرض عنه و تبرّء منه.

و قوله: ففيها اختبرتم.
إشارة إلى قصد العناية الإلهيّة منها، و قد عرفت معنى الاختبار، و لغيرها خلقتم: أى لنيل السعادة في الآخرة بالذات، أو الشقاوة لمن حرّمها بالعرض.

و قوله: إنّ المرء. إلى قوله: قدّم.
أى ما ترك من متاع الدنيا أو ما قدّم من الأعمال الصالحة، و إنّما قرن ذكر الناس و ما يسئلون عنه بذكر الملائكة و ما يسئلون عنه لينبّه على شرف الأعمال المسعدة في الآخرة على متاع الدنيا لكون الأوّل مطلوب الملائكة و ما تعتنون بالفحص عنه، و كون الثاني معتنى الناس الغافلين، و في لفظ ما ترك و ما قدّم لطف شبيه [تنبيه خ‏] على أنّ متاع الدنيا مفارق متروك و الأعمال الصالحة مقدّمة باقية نافعة للمرء في معاده فينبغى أن تكون العناية بها دون المفارق المتروك.

و قوله: للّه آباؤكم.
كلمة تقولها العرب لتعظيم المخاطب بنسبته أو بنسبة أبيه إلى اللّه يقال: للّه أنت و للّه أبوك، و قيل: اللام للعاقبة: أى إلى اللّه تصير آبائكم لكن بذلك يخرج الكلام عن معنى التعجّب و الاستعظام.

و قوله: فقدّموا بعضا. إلى آخره.
أى فقدّموا بعضا من متاع الدنيا كالصدقات و نحوها يكن لكم ثوابها في الآخرة كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا بن آدم ليس لك من دنياك إلّا ثلاث: ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأبقيت، و لا تخلّفوها بأسرها لغيركم فيكون عليكم وزرها، و قد علمت كيفيّة استلزام الصدقة و الزكاة و نحوها للملكات الفاضلة و الثواب الاخروى، و استلزام البخل و ادخار المال للشقاوة الاخرويّة، و إنّما خصّص‏ البعض بالتقديم لأنّ حرمان الورثة لا يجوز، و نهى عن تخليف الكلّ لأنّ ترك الزكاة و الصدقة لا يجوز، و روى يكن لكم قرضا و يكن عليكم كلّا و هو كقوله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً«» و لفظ القرض مستعار، و وجه الاستعارة أنّ القرض يستلزم في العادة الطلب من المقترض و شكره لمقرضه و أداه إليه فأشبه ذلك تكرر أوامر اللّه الطالبة للزكاة و الصدقة و شكر اللّه للمنفقين في سبيله و جزاؤه للمتصدّقين في الآخرة بأضعاف ما بذلوه و أنفس كميّة و كيفيّة من الكلّ الّذي لا منفعة فيه مع وجود مضرّته، و لمّا كان حفظ المال و تخليفه بعد الموت كذلك لا جرم كان كلّا. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 6

 

خطبه 193 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

روى عنه أنه قاله عند دفن سيدة النساء فاطمة عليها السلام كالمناجى به رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم عند قبره

السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي- وَ عَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ- وَ السَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ- قَلَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي وَ رَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي- إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ- وَ فَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ- فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ- وَ فَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَ صَدْرِي نَفْسُكَ- فَ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ- فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ وَ أُخِذَتِ الرَّهِينَةُ- أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وَ أَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ- إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللَّهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ- وَ سَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا- فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ وَ اسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ- هَذَا وَ لَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ وَ لَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ- وَ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَا قَالٍ‏ وَ لَا سَئِمٍ- فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ- وَ إِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِينَ

اللغة

أقول: مسهّد: مورق.

و أحفها السؤال: استقص عليها فيه.

المعنى

فأمّا قول السيّد- رضى اللّه تعالى عنه- سيّدة النساء، فقد جاء في الخبر أنّه رآها تبكى عند موته فقال لها: أ ما ترضين أن تكون سيّدة نساء هذه الامّة، و روى أنّه قال: سادات نساء العالمين أربع: خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمّد، و آسية بنت مزاحم، و مريم بنت عمران. و السلام منه عليه السّلام على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كعادة الزائرين لكن الزيارة هنا قلبيّة، و عنها كالمستأذن لها في الدخول عليه، و جوارها له: أى في منازل الجنّة و أمّا سرعة لحاقها به ففائدة ذكرها التشكّى إليه من سرعة تواتر المصائب عليه بموته و لحوقها عقيبه، و المنقول أنّ مدّة حياتها بعده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أربعة أشهر، و قيل: ستّة أشهر. ثمّ أخذ في التشكّى إليه كالمخاطب له من قلّة صبره و رقّة تجلّده و تحمّله للمصيبة بها.

و في قوله: صفيّتك.
إشارة إلى ما كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من التبجيل و المحبّة و الإكرام.

و قوله: إلّا أنّ لى. إلى قوله: موضع تعزّ.
كالعذر و التسلية و إن كانت هذه المصيبة عظيمة يقلّ لها الصبر و يرقّ لها التجلّد فإنّ المصيبة بفراقك أعظم، و كما صبرت في تلك على كونها أشدّ فلإن أصبر على هذه أولى. و التأسي الاقتداء بالصبر في هذه المصيبة كالصبر في تلك.

و قوله: فلقد وسّدتك. إلى قوله: نفسك.
كالشرح للمصيبة به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مقاساتها عند تلحيده و عند فيضان نفسه و هى دمه بين صدره و نحره، و كالتذكير لنفسه بها.

و قوله: فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون.
امتثال لقوله تعالى وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا
لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ«».

و قوله: فلقد استرجعت الوديعة. إلى قوله: الرهينة.
استعار لفظ الوديعة و الرهينة لتلك النفس، و وجه الاستعارة الاولى أنّ النفوس في هذه الأبدان يشبه الودايع و الأمانات في كونها تسترجع إلى عاملها في وجوب المحافظة عليها من المهلكات، و يحتمل أن يريد ما هو المتعارف بين الناس من كون المرأة وديعة الرجل كما يقال: النساء ودايع الكرام، و وجه الثانية أنّ كلّ نفس رهينة على الوفاء بالميثاق الّذي واثقها اللّه تعالى به، و العهد الّذي أخذ عليها حين الإهباط إلى عالم الحسّ و الخيال أن ترجع إليه سالمة من سخطه، عاملة بأوامره غير منحرفة من صراطه الوضوح على لسان رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإن وفيت بعهدها خرجت من وثاق الرهن و ضوعف لها الأجر كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ«» و إن نكثت و ارتكبت بما نهيت عنه بقيت رهينة بعملها كما قال تعالى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ«» و الرهينة تصدق على الذكر و الأنثى. و قد سبقت الإشارة إلى ذلك.

و قوله: أمّا حزنى. إلى قوله: مقيم.
صورة حاله بعدهما على سبيل الشكاية، و كنّى بالدار عن الجنّة لأنّه ممّن بشّر بها.

و قوله: و ستنبّئك ابنتك. إلى قوله: الذكر.
رمز للتشكّى إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من امّته بعده فيما كان يعتقده حقّا له من الخلافة و نحلة فدك لفاطمة عليها السّلام فزحزحا عنهما مع نوع من الاهتضام له، و الغلظة عليه في القول على قرب عهدهم بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طراوة الذكر الّذي هو القرآن الآمر بمودّة القربى.

و قوله: و السلام عليكما. إلى آخره.صورة وداع المحبّين الناصحين بجارى العادة.

و قوله: و إن اقم. إلى قوله: الصابرين.
تنزيه لنفسه عمّا عساه يعرض لبعض من يلازم القبور لشدّة الجزع و الأسف عن و هم أنّه لا عوض عن ذلك الفائت و الأجر على التعزّى و الصبر عنه، و ما وعد اللّه به الصابرين على نزول المصائب هو صلاته و رحمته في قوله تعالى الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ«» و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(اب ‏ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى‏3

خطبه 192 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

أَيُّهَا النَّاسُ- لَا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ- فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ- وَ جُوعُهَا طَوِيلٌ- أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا وَ السُّخْطُ- وَ إِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ- فَعَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَا- فَقَالَ سُبْحَانَهُ فَعَقَرُوها
فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ- فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ خَارَتْ أَرْضُهُمْ بِالْخَسْفَةِ- خُوَارَ السِّكَّةِ الْمُحْمَاةِ فِي الْأَرْضِ الْخَوَّارَةِ- أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوَاضِحَ وَرَدَ الْمَاءَ- وَ مَنْ خَالَفَ وَقَعَ فِي التِّيهِ

اللغة

أقول: السكّة: الحديدة تكون في رأس خشبة الفدّان تثار بها الأرض.

و خوارها: صوتها في الأرض.

و الأرض الخوّارة: الضعيفة.

و حاصل الفصل ترغيب أصحابه السالكين لطريق الهدى في البقاء على ما هم عليه

بذكر كونه طريق الهدى، و من العادة أن يستوحش الناس من الوحدة و قلّة الرفيق في الطريق الطويل الصعب فنهى عن الاستيحاش في تلك الطريق، و كنّى به عمّا عساه يعرض لبعضهم من الوسوسة بأنّهم ليسوا على حقّ لقلّتهم و كثرة مخالفيهم لأنّ قلّة العدد في الطريق مظنّة الهلاك و السلامة مع الكثرة و نحو ذلك فنبّههم على أنّهم في طريق الهدى و إن كانوا قليلين. و قوله: فإنّ الناس اجتمعوا. إلى قوله: طويل. تنبيه على علّة قلّة أهل الهدى و هو اجتماع الناس على الدنيا، و استعار لها لفظ المائدة ملاحظة لشبهها بها في كونها مجتمع اللذّات، و كنّى عن قصر مدّتها بقصر شبعها، و عن استعقاب الانهماك فيها للعذاب الطويل في الآخرة بطول جوعها، و لفظ الجوع مستعار للحاجة الطويلة بعد الموت إلى المطاعم الحقيقيّة الباقية من الكمالات النفسانيّة الفانية بسبب الغفلة في الدنيا فلذلك نسب الجوع إليها، و يحتمل أن يكون مستعارا لما تتلهّف عليه النفس و تتأسّف بعد المفارقة من اللذّات الدنيويّة الّتي لا تحصل عليها بعد الموت أبدا فيطول جوعها منها، و راعى المقابلة فالجوع بإزاء الشبع و الطول بإزاء القصر.

و قوله: أيّها الناس. إلى قوله: السخط. أى إنّما يجمع الناس في عذاب اللّه رضاهم بالمنكرات و معاصى اللّه و إن‏ لم يباشرها أكثرهم و سخطهم لمحابّه من الأعمال، و مصداق ذلك قصّة ثمود في عموم العذاب لهم بفعل عاقر الناقة فإنّهم بأسرهم ما فعلوا ذلك مع نسبة الفعل إلى جميعهم كما قال تعالى «فَعَقَرُوها» الآية و عمّتهم العقوبة لمّا عمّوه بالرضى، و الضمير في عمّوه يعود إلى الرجل أو إلى العقر الّذي دلّ عليه قوله: عقر: أى لمّا عمّوا فعله برضاهم به، و إليه الإشارة بقوله تعالى «وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»«» و ظاهر أنّ الراضى بفعل شريك فاعله و في قوّته، و كذلك إنّما يجمع اللّه الناس في رحمته باجتماعهم على الرضا بمحابّه و السخط لمكارهه.

فقوله: فما كان إلّا أن خارت أرضهم. إلى قوله: الخوّارة. تفسير للعذاب اللاحق لهم المشار إليه بقوله: فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب، و قد فسّره القرآن الكريم أيضا في قوله «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ»«» فبيّن عليه السّلام كيفيّة ذلك و شبّه صوت أرضهم في خسوفها و ذهابها في الأرض بصوت السكّة المحماة في الأرض عند الحرث بها، و إنّما زادها صفة المحماة تنبيها على قوّة تصويتها و سرعة غوصها لأنّ المحماة يكون لها في الأرض نشيش زائد على ما يقتضيه حركتها و يعينها الحمى على النفوذ. فأمّا قصّة ثمود فالمنقول أنّهم خلف عاد في الأرض بعد هلاكهم عنها فكثروا و عمّروا أعمارا طويلة حتّى كان الرجل يبنى المسكن المحكم فينهدم في حياته فنحتّوا البيوت في الجبال و كانوا في سعة و رخاء من العيش فعتوا عن أمر اللّه و أفسدوا في الأرض و عبدوا الأوثان. فبعث اللّه إليهم صالحا و كانوا قوما عربا و صالح من أوسطهم نسبا فدعاهم إلى اللّه فلم يتّبعه إلّا قليل منهم مستضعفون فحذّرهم و أنذرهم فسألوه آية فقال: أيّة آية تريدون. فقالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم من السنة تدعو إلهك و ندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتّبعناك و إن استجيب لنا اتّبعتنا. فقال: نعم. فخرج معهم و دعوا أربابهم و سألوها فلم تجب.

فقال كبيرهم و أشار إلى صخرة مفردة في ناحية الجبل يسمّونها الكاثبة: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة جوفاء و براء فإن فعلت صدّقناك و أجبناك. فأخذ عليهم‏ المواثيق بذلك. ثمّ صلّى و دعا ربّه فتمخّضت الصخرة كما تمخّض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء و براء كما يطلبون، و عظماؤهم ينظرون. ثمّ نتجت ولدا مثلها في العظم. فآمن به رئيسهم و نفر من قومه و منع أعقابهم ناس من رؤسائهم أن يؤمنوا. فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر و تشرب الماء و كانت ترد غبّا فإذا كان يوم شربها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتّى تشرب كلّ ماء فيها. ثمّ تفجّج فيحلبون ما شاءوا حتّى تمتلى أوانيهم فيشربون و يدّخرون. فإذا وقع الحرّ تصيّفت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه، و إذا وقع البرد تشتّت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشقّ ذلك عليهم، و زيّنت لهم عقرها امرأتان: عنيزة امّ غنم و صدقة بنت المختار كانتا كثيرتى المواشى لمّا أضرّت بمواشيهما.

فعقرها قدار الأحمر و اقتسموا لحمها و طبخوه فانطلق سقبها حتّى رقى جبلا يقال له غارة فرغا ثلاثا و كان صالح قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه و انفجّت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح: تصبحون غدا و وجوهكم مصفرّة و بعد غد و هي محمّرة و اليوم الثالث و هي مسوّدة.

ثمّ يغشاكم العذاب. فلمّا رأوا العلامات همّوا بقتله فأنجاه اللّه إلى أرض فلسطين. فلمّا كان اليوم الرابع و ارتفع الضحى تحنّطوا بالصبر و تكفّنوا بالأنطاع فأتتهم الصيحة و خسف شديد و زلزال فتقطّعت قلوبهم فهلكوا. و باللّه العصمة و التوفيق هذا آخر المجلّد الثالث من هذا الكتاب تمّ ثالث أجزاء الكتاب من الأجزاء الخمسة على ما جزئه الشارح المحقّق- قدّس سرّه- في أحسن وضع و على أنقى ورق و بأجود طباعة و يليه الجزءان الآخران- إنشاء اللّه تعالى- و لو تدرى نفس ما يتحمّله المقدم من الصعوبة في تهذيب طباعة كتاب لعبت به يد الأيّام و حرّفته أقلام الجهلة لقبل ذلك عذرا فيما يؤخذ على الناشر، أو ليحثّه أن يغفر ما له من الذنب.
و عليه سبحانه التوكّل و به العصمة.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 473

خطبه 191 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

وَ اللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي وَ لَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَ يَفْجُرُ- وَ لَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ- وَ لَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وَ كُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ- وَ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- وَ اللَّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ وَ لَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ

اللغة

أقول: الدهاء: استعمال العقل و الرأى الجيّد فيما يراد فعله ممّا لا ينبغي مع إظهار إرادة غيره. و يسمّى صاحبه داهيا، و داهية للمبالغة، و خبيثا و مكّارا و حيّالا.
و هو داخل تحت رذيلة الجربزة و هي طرف الإفراط من فضيلة الحكمة العمليّة و يستلزم رذائل كثيرة كالكذب.

و الغدر: هو الرذيلة المقابلة لفضيلة الوفاء بالعهود الّتي هي ملكة تحت العفّة.

و الفجور: المقابل لفضيلة العفّة.

المعنى

فقوله عليه السّلام: ما معاوية بأدهى منّى. أى ليس بأقدر منّي على فعل الدهاء، و أكّد ذلك بالقسم البارّ. و قوله: و لكنّه يغدر و يفجر. إشارة إلى لوازم الدهاء الّتي لأجلها تركه و هو الغدر، و بواسطته الفجور فإنّ الوفاء لمّا كان نوعا تحت العفّة كان الغدر الّذى هو رذيلته نوعا تحت ما يقابل العفّة و هو الفجور و لذلك نفى الدهاء عن نفسه لكراهيّته للغدر، و نفيه له عن نفسه‏

لأنّ نفى اللازم مستلزم لنفى الملزوم. ثمّ جعل الغدر أوسط في إثبات الفجور لمعاوية بقياس ضمير من الشكل الأوّل فقوله: و لكنّه يغدر. في قوّة صغرى القياس، و قوله: و يفجر. في قوّة النتيجة فكأنّه قال: و لكنّه يغدر فهو يفجر، و نبّه على الكبرى بقوله: و كلّ غدرة فجرة. فصار الترتيب هكذا: و لكنّه يغدر و كلّ من يغدر يفجر و النتيجة فهو إذن يفجر. ثمّ نبّه على لزوم الكفر له بقياس آخر من الشكل الأوّل نبّه على صغراه بقوله: و كلّ غدرة فجرة، و على كبراه بقوله: و كلّ فجرة كفرة، و إذ ثبت في القياس الأوّل أنّه فاجر و استلزم قوله: و كلّ فجرة كفرة أن كلّ فاجر كافر ثبت بهاتين المقدّمتين أنّه كافر. و روى: غدرة، و فجرة، و كفرة.

و هو كثير الغدر و الفجور و الكفر و ذلك أصرح في إثبات المطلوب، قال بعض الشارحين: و وجه لزوم الكفر أنّ هنا الغادر على وجه استباحة ذلك و استحلاله، كما كان هو المشهور من حال عمرو بن العاص و معاوية في استباحة ما علم تحريمه بالضرورة من دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و جحده و هو معنى الكفر، و يحتمل أنّه يريد كفر نعم اللّه و سترها بإظهار معصيته كما هو المفهوم اللغويّ من لفظ الكفر. و إنّما وحّد الكفر ليتعدّد الكفر بحسب تعدّد الغدر فيكون أدعى إلى النفار عن الغدر. إذ هو في معرض التنفير عنه. و قوله: و لكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة. لفظ الخبر النبوىّ، و فيه تنفير عن رذيلة الغدر. و قوله: و اللّه ما استغفل بالمكيدة. تقرير و تأكيد لما ذكره من معرفته بوجوه الآراء و كيفيّة الدهاء للداهى فإنّ من يكون كذلك لا يلحقه غفلة عمّا يعمل عليه من الحيلة و المكيدة. و قوله: و لا استغمز. بالزاء المعجمة. أى لا يطلب غمزى و إضعافي فإنّى لا أضعف عمّا ارمى به من الشدائد، و روى بالراء أى لا استجهل بشدائد المكائد. و هذا القول صدر منه عليه السّلام كالجواب لما كان يسمعه من أقوال الجاهلين بحاله و نسبتهم له إلى قلّة التدبير و سوء الرأى‏ و نسبة معاوية إلى استخراج وجوه المصالح و الآراء الصحيحة في الحرب و غيرها. و اعلم أنّ الجواب عن هذا الخيال يستدعى فهم حاله عليه السّلام و حال معاوية و غيره ممّن ينسب إلى جودة الرأى، و بيان التفاوت بينهم و بينه و ذلك راجع إلى حرف واحد و هو أنّه عليه السّلام كان ملازما في جميع حركاته قوانين الشريعة مدفوعا إلى اتّباعها و رفض ما العادة أن يستعمل في الحروب.

فالتدابير من الدهاء و الخبث و المكر و الحيلة و الاجتهادات في النصوص و تخصيص عموماتها بالآراء و غير ذلك ممّا لم ترخص فيه الشريعة، و كان غيره يعتمد جميع ذلك سواء وافق الشريعة أو لم يوافق فكانت وجوه الحيل و التدبير عليهم أوسع، و كان مجالها عليه أضيق. و نقل عن أبى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في هذا المعنى كلام طويل خلاصته أن قال: إنّى ربّما رأيت بعض من يظنّ بنفسه العقل و العلم و أنّه من الخاصّة و هو من العامّة، و يزعم أنّ معاوية كان أبعد غورا و أصحّ فكرا و أجود مسلكا من علىّ و ليس الأمر كذلك و ساؤمى إلى موضع غلطه، و ذلك أنّ عليّا عليه السّلام كان لا يستعمل في حروبه إلّا ما يوافق الكتاب و السنّة، و كان معاوية يستعمل ما يخالفهما كاستعماله ما يوافقهما و يسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لا فى كسرى، و كان علىّ يقول لأصحابه: لا تبدءوهم بالقتال حتّى يبدؤكم و لا تتّبعوا مدبرا و لا تجهزوا على جريح و لا تفتحوا بابا مغلقا. هذه سيرته في ذى الكلاع و في أبى الأعور السلمى و في عمرو بن العاص و في حبيب بن مسلمة و في جميع الرؤساء كسيرته في الحاشية و الأتباع، و أصحاب الحروب إنّما يقصدون الوجه الّذى به هلاك الخصم و ينتظرون وجه الفرصة سواء كان مخالفا للشريعة كالحريق و الغريق و دفق السموم و التضريب بين الناس بالكذب و إلقاء الكتب في العسكر أو موافقا لها فمن اقتصر في التدبير على الكتاب و السنّة فقد منع نفسه الطويل العريض من التدبير و ما لا يتناهى من المكائد، و الصدق و الكذب أكثر من الصدق وحده و الحلال و الحرام أكثر من الحلال وحده فعلىّ كان ملجما بلجام الورع عن جميع القول إلّا ما فيه للّه رضى، و ممنوع اليدين من كلّ بطش إلّا بما دلّ عليه الكتاب و السنّة دون أصحاب‏ الدهاء و المكر و المكائد فلمّا رأت العوامّ نوادر معاوية في المكائد و كثرة معايبه في الخديعة و ما تهيّأ له و لم يروا مثل ذلك من علىّ ظنّوا القصور فظنّهم أنّ ذلك من رجحان عند معاوية و نقصان في علىّ. ثمّ انظر بعد ذلك كلّه هل يعدّ لمعاوية من الخداع أكبر من رفع المصاحف، ثمّ انظر هل خدع بها إلّا من عصى رأى علىّ و خالف أمره من أصحابه فإن زعمت أنّه قد نال ما أراد بخداعه من الاختلاف على علىّ فقد صدقت و لكن ليس ذلك محل النزاع و لم يختلف في غرارة أصحاب علىّ و عجلتهم و تسرّعهم و تنازعهم، و إنّما كانت البحث في التمييز بينه و بين معاوية في الدهاء و المكر و صحّة العقل و الرأى.

فهذه خلاصة كلامه، و من تأمّله بعين الانصاف علم صحّته و صدقه، و من هذا يتبيّن لك الجواب عن كلّ ما نسب إليه من التقصير في خلافته كعدم إقراره لمعاوية على الولاية في أوّل خلافته ثمّ يعزله بعد ذلك لما يستلزم تقريره من الظلم، و كشبهة التحكيم، و كنسبتهم له إلى التوحّش لبعض أصحابه حتّى فارقوه إلى معاوية كأخيه عقيل و شاعره النجاشي و مصقلة بن هبيرة، و كتركه لطلحة و الزبير حتّى فارقاه و خرجا إلى مكّة و أذن لهما في العمرة و ذهب عنه الرأى في ارتباطهما عنده و منعه لهما من البعد عنه، و أمثال ذلك فإنّ الانصاف عند اعتبار حاله في جميع ما نسب إليه يقتضى موافقته للشريعة و عدم خروجه عنها. و تفصيل الأجوبة عن ذلك ممّا يخرج عن الغرض، و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 269

 

خطبه 190 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام كان يوصى به أصحابه

تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلَاةِ وَ حَافِظُوا عَلَيْهَا- وَ اسْتَكْثِرُوا مِنْهَا وَ تَقَرَّبُوا بِهَا- فَإِنَّهَا كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً- أَ لَا تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِينَ سُئِلُوا- ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ- قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ- وَ إِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ الْوَرَقِ- وَ تُطْلِقُهَا إِطْلَاقَ الرِّبَقِ- وَ شَبَّهَهَا رَسُولُ اللَّهِ ص بِالْحَمَّةِ تَكُونُ عَلَى بَابِ الرَّجُلِ- فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ وَ اللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ- فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ الدَّرَنِ- وَ قَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- الَّذِينَ لَا تَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِينَةُ مَتَاعٍ وَ لَا قُرَّةُ عَيْنٍ- مِنْ وَلَدٍ وَ لَا مَالٍ- يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ- رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ- وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ- وَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص نَصِباً بِالصَّلَاةِ- بَعْدَ التَّبْشِيرِ لَهُ بِالْجَنَّةِ- لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ أْمُرْ أَهْلَكَ‏ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها- فَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ وَ يُصْبِرُ نَفْسَهُ ثُمَّ إِنَّ الزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّلَاةِ قُرْبَاناً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ- فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا- فَإِنَّهَا تُجْعَلُ لَهُ كَفَّارَةً وَ مِنَ النَّارِ حِجَازاً وَ وِقَايَةً- فَلَا يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ وَ لَا يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهَفَهُ- فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا غَيْرَ طَيِّبِ النَّفْسِ بِهَا- يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ- مَغْبُونُ الْأَجْرِ ضَالُّ الْعَمَلِ- طَوِيلُ النَّدَمِ ثُمَّ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ- فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا- إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ الْمَبْنِيَّةِ- وَ الْأَرَضِينَ الْمَدْحُوَّةِ وَ الْجِبَالِ ذَاتِ الطُّولِ الْمَنْصُوبَةِ- فَلَا أَطْوَلَ وَ لَا أَعْرَضَ وَ لَا أَعْلَى وَ لَا أَعْظَمَ مِنْهَا- وَ لَوِ امْتَنَعَ شَيْ‏ءٌ بِطُولٍ أَوْ عَرْضٍ- أَوْ قُوَّةٍ أَوْ عِزٍّ لَامْتَنَعْنَ- وَ لَكِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ- وَ عَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُنَّ وَ هُوَ الْإِنْسَانُ- إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ- مَا الْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ فِي لَيْلِهِمْ وَ نَهَارِهِمْ- لَطُفَ بِهِ خُبْراً وَ أَحَاطَ بِهِ عِلْماً أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُهُ- وَ جَوَارِحُكُمْ جُنُودُهُ وَ ضَمَائِرُكُمْ عُيُونُهُ وَ خَلَوَاتُكُمْ عِيَانُهُ

اللغة

أقول: الربق: جمع الربقة و هي الحلقة في الحبل.

و الجمّة بالجيم: الحفيرة يجمع فيها الماء، و روى بالحاء و المعنى واحد.

و الدرن: الوسخ.

و النصب: التاعب.

و الاقتراف: الاكتساب.

المعنى

و حاصل الفصل الوصيّة بالمحافظة على امور ثلاثة و الحثّ عليها:

أوّلها: الصلاة فأمر بتعاهد أمرها و المحافظة عليها
و ذلك بافتقار الإنسان لأحوال نفسه حال الصلاة و مراقبتها حذرا أن تشوبها نزغات الشيطان برياء فيها أو التفاوت عنها. ثمّ بالمحافظة على أوقاتها و أداء أركانها كما هى. ثمّ بالاستكثار منها و التقرّب بها إلى اللّه لكونها أفضل العبادات و القرب إليه. ثمّ أشار إلى فضيلتها و وجه وجوبها: أحدها: قوله: فإنّها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا و هو لفظ القرآن الكريم. و موقوتا: مفروضاً، و قيل منجّما في كلّ وقت صلاة معيّنة. الثاني: التحذير لتاركها بالتنبيه على استلزام تركها لدخول النار بقوله: لا تسمعون. إلى قوله: من المصلّين. الثالث: أنّها تحتّ الذنوب حتّ الورق، و هو تشبيه للمعقول بالمحسوس و وجه الشبه ظاهر، و كذلك و تطلقها إطلاق الربق: أى و تطلق أعناق النفوس من أغلالها كما تطلق الربقة من عنق الشاة. الرابع: تشبيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لها بالجمّة تكون على باب الرجل. و صورة الخبر عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: أيسّر أحدكم أن يكون على بابه جمّة يغتسل منها كلّ يوم خمس مرّات فلا يبقى عليه من درنه شي‏ء فقالوا: نعم. قال: فإنّها الصلوات الخمس. الخامس: تنبيهه بذكر عرفان رجال من المؤمنين و هم الموصوفون في الآية بقدرها. السادس: نصب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيها و أمر اللّه تعالى بالمواظبة عليها بعد تبشّره له بالجنّة و ذلك في قوله «وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها» و امتثاله لذلك الأمر في نفسه و أمره أهله، و روى أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قام في الصلاة حتّى تورمت قدماه.

فقيل له في ذلك. فقال: أفلا أكون عبدا شكورا، و ذلك من أوضح الدلائل على كثرة فوائدها و قوّة فضيلتها، و اعلم أنّه قد ورد في فضلها أخبار كثيرة بعد تأكيد القرآن للأمر بها، و قد بيّنّا ذلك و أشرنا إلى فضيلتها إشارة مستوفاة في الفصل‏

الّذى أوّله: إنّ أفضل ما يتوسّل به المتوسّلون إلى اللّه سبحانه الإيمان به و برسوله.
الثانية ممّا أمر بالمحافظة عليه: الزكاة
و هى قرينة الصلاة في الذكر في الكتاب العزيز و في الفضيلة فلذلك قال: جعلت مع الصلاة. ثمّ أشار إلى سرّها و هو كونها قربانا لأهل الإسلام، و سنبيّن ذلك، و أشار بقوله: فمن أعطاها إلى قوله: طويل الندم إلى شرط كونها مقرّبة إلى اللّه تعالى و بيان كون قبولها مشروطا بطيب النفس ببيان سرّها، و قد عرفته أيضا في ذلك الفصل و علمت أنّ من أقسام المستنزلين عن المال من اقتصر منه على أداء الواجب من الزكاة من غير زيادة و لا نقصان و هم العوامّ لجهلهم بسرّ البذل و بخلهم بالمال و ميلهم إليه من ضعف حبّهم للآخرة قال تعالى «إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا» و طهارة الفرق الّذين ذكرناهم ممّن استنزل عن المال و محابّهم و قربهم من اللّه و بعدهم بقدر طيب أنفسهم عن بذل المال و الإعراض عنه و محبّته، و هذه الفرقة أعنى من اقتصر منهم على أداء الواجب فقط تنقسم إلى مؤدّ لذلك الحقّ بطيب نفس و مسامحة، و إلى مؤدّ له مع بقاء محبّته و تكدير النفس ببذله و تلهّف عليه أو انتظار جزاء له، و باعتبار القسمين الأوّلين مع القسم الأوّل من هذه الفرقة يكون بذل المال و الزكاة قربة إلى اللّه تعالى و هو الّذي أشار إليه أمير المؤمنين بقوله: إنّ الزكاة. إلى قوله: و وقاية.

و إن كان قد خصّص الزكاة هنا، و إنّما يكون قربة لاستلزامه رفض هذا المحبوب الّذي يتصوّر باذنه أنّ جميع الكمالات الدنيويّة يستفاد منه رغبة عنه و محبّة للّه و رغبة فيما عنده، و تكون كفّارة ماحية لرذيلة البخل و ما يستلزمه من الذنوب، و يكون حجابا بين العبد و بين عذاب اللّه. إذ قد علمت أنّ مبدء العذاب في الآخرة حبّ الدنيا و أعظمه حبّ المال فإذا كان بذل المال مستلزما لزوال حبّه كان بذلك الاعتبار حجابا من العذاب و وقاية منه، و أمّا إيتاء الزكاة على الوجه الثاني فهو المذموم و المنهىّ عنه بقوله: و لا يكثرنّ عليها لهفه.

بعد أمره بها في قوله: فلا يتبعنّها أحد نفسه و يلزم باذلها على ذلك الوجه النقائص المذكورة: و هي الجهل بالسنّة فإنّ السنّة في أدائها أن يؤدّى بطيب نفسه و مسامحة، و أن يكون مغبونا في الأجر فإنّ إيتانها على وجه توقّع جزاء لها لا على وجه القربة إلى اللّه غير مستلزمة لرضوانه و ذلك هو الغبن و إن حصل له جزاء غير رضوان اللّه فإنّ الحصول على كلّ جزاء غير رضوانه جزاء ناقص و غبن فاحش بالنسبة إليه، و أن يكون ضالّ العمل و هو إعطاؤه ذلك المال و بذله على غير وجهه و قصده به غير سبيل الهدى إلى رضوان اللّه، و أن يكون طويل الندم: أي في محبّة المال و فيما يرجوه به من الجزاء.

الثالثة ممّا أوصى به: أداء الأمانة
و هي الّتي أشار القرآن الكريم إليها بقوله «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ»«» الآية، و قد بيّنّا فيما سلف أنّها تعود إلى العبادة و الطاعة المطلوبة من الإنسان بما هو إنسان، و ظاهر أنّ تلك العبادة لا يمكن من غيره فإنّه إنّما حملها من حيث خلق مستصلحا للدارين، و بيان ذلك أنّ مخلوقات اللّه تعالى إمّا جمادات أو ذات حياة، و ذوات الحيات إمّا الملائكة و الحيوان الأرضى، و الحيوان الأرضى إمّا أعجم أو ناطق.
فالحيوان منها و هو الإنسان هو المتأهّل لعمارة الدارين و الكون فيها، و هو الواسطة بين خلقين وضيع و هو الحيوان الأعجم و شريف و هو الملك، و قد استجمع قوّتى العاملين فهو كالحيوان في الشهوة و الغضب و قوّة التناسل و ساير القوى البدنيّة المختصّة بالحيوان، و كالملك في القوّة المجرّدة و العقل و العلم و العبادة و سائر الكمالات النفسانيّة، و وجه الحكمة في ذلك أنّه تعالى لمّا اقتضت عنايته إيجاده لهذه العبادة المخصوصة أن يجعل في الأرض خليفة لعمارتها جمع له بين القوّتين فإنّه لو كان كالبهيمة خاليا عن العقل لم يتأهّل لمعرفته و عبادته الخاصّة، و لو خلق كالملك معرّى عن الشهوة و الغضب و سائر القوى البدنيّة لم يصلح لعمارة أرضه و خلافته فيها و لذلك قال للملائكة «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» فإذن هذه العبادة الخاصّة و هي الأمانة المشار إليها لا يصلح لها إلّا الإنسان و لا يمكن من غيره، و قد علمت أيضا فيما سلف أنّ إباء السماوات و الأرض و الجبال عن حملها يعود إلى امتناع‏ قبولها بلسان حال قصورها و عدم صلاحيّتها لها، و إشفاقها من عقوبة اللّه على التقصير عن أداء حقوقها كما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله: أشفقن من العقوبة. و لم يكن ذلك إباء استكبار لخضوعها تحت ذلّ الحاجة إليه، و لفظ الإشفاق مجاز في ثمرته و لازمه و ذلك أنّ السلطان مثلا إذا كلّف بعض رعيّته حمل أمانة تكليف تخيير فخاف ذلك المكلّف العقوبة على تقصيره في أداء تلك الأمانة فإنّ خوفه يستلزم تركه و امتناعه من حمله فكان الامتناع من الأمانة مسبّبا عن الإشفاق فأطلق الإشفاق هنا على إباء السماوات و الأرض بلسان حالها مجازا إطلاقا لاسم السبب على المسبّب و قيل: إنّ ذلك الإباء و الإشفاق على وجه التقدير و إنّما جي‏ء بلفظ الواقع لأنّ الواقع أبلغ من المقدّر: أى لو كانت هذه الأجرام عاقلة ثمّ عرضت عليها وظائف الدين عرض تخيير لاستثقلت ذلك مع كبر أجسامها و شدّتها و لامتنعت من حملها إشفاقا من القصور عن أداء حقّها. ثمّ إنّ مخاطبة الجماد و الإخبار عنها نظرا إلى قرينة الحال طريقة مشهورة للعرب و مستحسنهم في تعارفهم كقولهم: يا دار ما صنعت بك الأيّام، و نحوه. بل مخاطبة بعض الجمادات لبعض بلسان أحوالها كقولهم: قال الحائط للوتد: لم تشقّنى قال: سل من يدقّنى، و نحو ذلك كثير. فأمّا قوله عليه السّلام: و قد خاب من ليس من أهلها. فتلك الخيبة تعود إلى حرمان ثمرة هذه العبادة و ما يستلزمه من الحصول على الكمالات. إذ ليست من أهلها، و ذكر كون السماوات مبنيّة و الأرض مدحوّة و الجبال بأطوالها و عروضها و علوّها و عظمتها تنبيه للإنسان على جرأته على المعاصى و تضييع هذه الأمانة إذ اهلّ لها و حملها، و تعجّب منه في ذلك. فكأنّه يقول: إذا كانت هذه الأجرام العلويّة الّتي لا أعظم منها قد امتنعت من حمل هذه الأمانة حين عرضت عليها فكيف حملها من هو أضعف منها.

و قوله: و لو امتنع شي‏ء. إلى قوله: لامتنعن. إشارة إلى أنّ امتناعهنّ لم يكن لعزّة و عظمة أجساد و لا استكبار عن الطاعة له، و أنّه لو كان كذلك لكانت أولى بالمخالفة عن كلّ شي‏ء لأعظميّة أجرامها عن كلّ المخلوقات بل إنّما ذلك عن ضعف و إشفاق من خشية اللّه، و عقلن ما جهل الإنسان. قيل: إنّ اللّه تعالى عند خطابها خلق فيها فهما و عقلا، و قيل: إنّ إطلاق العقل مجاز في مسبّبه و هو الامتناع عن قبول هذه الأمانة كلفظ الإشفاق فإنّ عقليّة المكلّف العقوبة على التقصير في تكليف يخيّر فيه و يخاف التقصير يستلزم تركه لذلك التكليف و استقالته منه، و إذ لم يكن لها عقل من جهة ما هي أجرام اطلق لفظ العقل على لازمه و ثمرته و هو الامتناع و الإباء مجازا إطلاقا لاسم السبب على المسبّب كإطلاق لفظ الإرادة على ميل الحائط في قوله تعالى «جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ»«» و أقول: يحتمل أن يعود الضمير في أشفقن و عقلن إلى من يعقل من الملائكة السماويّة. إذ لكلّ جرم سماويّ ملك يدبّره هو كالبدن له لإمكان ذلك فيها دون سائر الأجرام الأرضيّة، و ما جهله الإنسان هو عظمة اللّه و غاية هذه الأمانة، و تقصيره في أداء واجباتها المستلزم لعقوبته و استحقاق سخط اللّه، و كونه ظلوما: أي كثير الظلم لنفسه لعدم محافظته على هذه الأمانة، و كونه جهولا: أي كثير الجهل بأسرار هذه الأمانة و الغفلة عمّا يستلزمه فعلها و تركها و عن الوعيدات الواردة على التقصير فيها. و قوله: إنّ اللّه لا يخفى عليه. إلى آخره. تنبيه لهذا الظلوم الجهول على إحاطة علم اللّه تعالى بجميع أحواله و اكتساباته في ليله و نهاره و أنّه لطيف الخبر و المعرفة بها ينفذ علمه في البواطن كما يقع على الظواهر. و قوله: أعضاؤكم شهوده. أى شهود له عليكم من قوله تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ»«»، و جوارحكم جنوده و ذلك باعتبار كونها معينة عليهم، و ضمائركم عيونه: أى طلائعه و جواسيسه كقوله تعالى «وَ شَهِدُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ»«» و تلك الشهادة و الإعانة بلسان الحال و قد عرفت كيفيّة إنطاق الجوارح و شهادة النفوس على أنفسها، و كنّى بالخلوات عمّا يفعل فيها من معاصى اللّه مجازا، و إنّما خصّصها لأنّها مظنّة المعصية، و يحتمل أن يريد بالخلوة مصدر قولك: خلوت خلوا. لا المكان. فيكون حقيقة و ظاهرا كونها عيانا للّه: أى معاينة له، و كلّ ذلك تحذير و تنفير عن تحريك الجوارح و الخلوة بها فيما لا ينبغي من المعاصي. و باللّه التوفيق و العصمة.

 

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 463

 

خطبه 189 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

يَعْلَمُ عَجِيجَ الْوُحُوشِ فِي الْفَلَوَاتِ- وَ مَعَاصِيَ الْعِبَادِ فِي الْخَلَوَاتِ- وَ اخْتِلَافَ النِّينَانِ فِي الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ- وَ تَلَاطُمَ الْمَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَاتِ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً نَجِيبُ اللَّهِ- وَ سَفِيرُ وَحْيِهِ وَ رَسُولُ رَحْمَتِهِ‏ أَمَّا بَعْدُ- فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ- وَ إِلَيْهِ يَكُونُ مَعَادُكُمْ وَ بِهِ نَجَاحُ طَلِبَتِكُمْ- وَ إِلَيْهِ مُنْتَهَى رَغْبَتِكُمْ وَ نَحْوَهُ قَصْدُ سَبِيلِكُمْ- وَ إِلَيْهِ مَرَامِي مَفْزَعِكُمْ- فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِكُمْ- وَ بَصَرُ عَمَى أَفْئِدَتِكُمْ وَ شِفَاءُ مَرَضِ أَجْسَادِكُمْ- وَ صَلَاحُ فَسَادِ صُدُورِكُمْ- وَ طُهُورُ دَنَسِ أَنْفُسِكُمْ وَ جِلَاءُ غِشَاءِ أَبْصَارِكُمْ- وَ أَمْنُ فَزَعِ جَأْشِكُمْ وَ ضِيَاءُ سَوَادِ ظُلْمَتِكُمْ فَاجْعَلُوا طَاعَةَ اللَّهِ شِعَاراً دُونَ دِثَارِكُمْ- وَ دَخِيلًا دُونَ شِعَارِكُمْ وَ لَطِيفاً بَيْنَ أَضْلَاعِكُمْ- وَ أَمِيراً فَوْقَ أُمُورِكُمْ وَ مَنْهَلًا لِحِينِ وُرُودِكُمْ- وَ شَفِيعاً لِدَرَكِ طَلِبَتِكُمْ وَ جُنَّةً لِيَوْمِ فَزَعِكُمْ- وَ مَصَابِيحَ لِبُطُونِ قُبُورِكُمْ- وَ سَكَناً لِطُولِ وَحْشَتِكُمْ وَ نَفَساً لِكَرْبِ مَوَاطِنِكُمْ- فَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ حِرْزٌ مِنْ مَتَالِفَ مُكْتَنِفَةٍ- وَ مَخَاوِفَ مُتَوَقَّعَةٍ وَ أُوَارِ نِيرَانٍ مُوقَدَةٍ- فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا- وَ احْلَوْلَتْ لَهُ الْأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا- وَ انْفَرَجَتْ عَنْهُ الْأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا- وَ أَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ إِنْصَابِهَا- وَ هَطَلَتْ عَلَيْهِ الْكَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا- . وَ تَحَدَّبَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورِهَا- وَ تَفَجَّرَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا- وَ وَبَلَتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ بَعْدَ إِرْذَاذِهَا- فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي نَفَعَكُمْ بِمَوْعِظَتِهِ- وَ وَعَظَكُمْ بِرِسَالَتِهِ وَ امْتَنَّ عَلَيْكُمْ بِنِعْمَتِهِ-

فَعَبِّدُوا أَنْفُسَكُمْ لِعِبَادَتِهِ- وَ اخْرُجُوا إِلَيْهِ مِنْ حَقِّ طَاعَتِهِ ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ- وَ اصْطَنَعَهُ عَلَى عَيْنِهِ وَ أَصْفَاهُ خِيَرَةَ خَلْقِهِ- وَ أَقَامَ دَعَائِمَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ- أَذَلَّ الْأَدْيَانَ بِعِزَّتِهِ وَ وَضَعَ الْمِلَلَ بِرَفْعِهِ- وَ أَهَانَ أَعْدَاءَهُ بِكَرَامَتِهِ وَ خَذَلَ مُحَادِّيهِ بِنَصْرِهِ- وَ هَدَمَ أَرْكَانَ الضَّلَالَةِ بِرُكْنِهِ- وَ سَقَى مَنْ عَطِشَ مِنْ حِيَاضِهِ- وَ أَتْأَقَ الْحِيَاضَ لِمَوَاتِحِهِ- ثُمَّ جَعَلَهُ لَا انْفِصَامَ لِعُرْوَتِهِ وَ لَا فَكَّ لِحَلْقَتِهِ- وَ لَا انْهِدَامَ لِأَسَاسِهِ وَ لَا زَوَالَ لِدَعَائِمِهِ- وَ لَا انْقِلَاعَ لِشَجَرَتِهِ وَ لَا انْقِطَاعَ لِمُدَّتِهِ- وَ لَا عَفَاءَ لِشَرَائِعِهِ وَ لَا جَذَّ لِفُرُوعِهِ وَ لَا ضَنْكَ لِطُرُقِهِ- وَ لَا وُعُوثَةَ لِسُهُولَتِهِ وَ لَا سَوَادَ لِوَضَحِهِ- وَ لَا عِوَجَ لِانْتِصَابِهِ وَ لَا عَصَلَ فِي عُودِهِ- وَ لَا وَعَثَ لِفَجِّهِ وَ لَا انْطِفَاءَ لِمَصَابِيحِهِ- وَ لَا مَرَارَةَ لِحَلَاوَتِهِ- فَهُوَ دَعَائِمُ أَسَاخَ فِي الْحَقِّ أَسْنَاخَهَا- وَ ثَبَّتَ لَهَا آسَاسَهَا وَ يَنَابِيعُ غَزُرَتْ عُيُونُهَا- وَ مَصَابِيحُ شَبَّتْ نِيرَانُهَا- وَ مَنَارٌ اقْتَدَى بِهَا سُفَّارُهَا وَ أَعْلَامٌ قُصِدَ بِهَا فِجَاجُهَا- وَ مَنَاهِلُ رَوِيَ بِهَا وُرَّادُهَا- .

جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مُنْتَهَى رِضْوَانِهِ- وَ ذِرْوَةَ دَعَائِمِهِ وَ سَنَامَ طَاعَتِهِ- فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ وَثِيقُ الْأَرْكَانِ رَفِيعُ الْبُنْيَانِ- مُنِيرُ الْبُرْهَانِ مُضِي‏ءُ النِّيرَانِ- عَزِيزُ السُّلْطَانِ مُشْرِفُ الْمَنَارِ مُعْوِذُ الْمَثَارِ- فَشَرِّفُوهُ وَ اتَّبِعُوهُ وَ أَدُّوا إِلَيْهِ حَقَّهُ وَ ضَعُوهُ مَوَاضِيعَهُ‏ ثُمِّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ص بِالْحَقِّ- حِينَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الِانْقِطَاعُ وَ أَقْبَلَ مِنَ الْآخِرَةِ الِاطِّلَاعُ- وَ أَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاقٍ وَ قَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ- وَ خَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ وَ أَزِفَ مِنْهَا قِيَادٌ- فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا وَ اقْتِرَابٍ مِنْ أَشْرَاطِهَا- وَ تَصَرُّمٍ مِنْ أَهْلِهَا وَ انْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا- وَ انْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا وَ عَفَاءٍ مِنْ أَعْلَامِهَا- وَ تَكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا وَ قِصَرٍ مِنْ طُولِهَا- جَعَلَهُ اللَّهُ بَلَاغاً لِرِسَالَتِهِ وَ كَرَامَةً لِأُمَّتِهِ- وَ رَبِيعاً لِأَهْلِ زَمَانِهِ وَ رِفْعَةً لِأَعْوَانِهِ وَ شَرَفاً لِأَنْصَارِهِ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لَا تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ- وَ سِرَاجاً لَا يَخْبُو تَوَقُّدُهُ وَ بَحْراً لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ- وَ مِنْهَاجاً لَا يُضِلُّ نَهْجُهُ وَ شُعَاعاً لَا يُظْلِمُ ضَوْءُهُ- وَ فُرْقَاناً لَا يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ وَ تِبْيَاناً لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ- وَ شِفَاءً لَا تُخْشَى أَسْقَامُهُ وَ عِزّاً لَا تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ وَ حَقّاً لَا تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ- فَهُوَ مَعْدِنُ الْإِيمَانِ وَ بُحْبُوحَتُهُ وَ يَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَ بُحُورُهُ- وَ رِيَاضُ الْعَدْلِ وَ غُدْرَانُهُ وَ أَثَافِيُّ الْإِسْلَامِ وَ بُنْيَانُهُ- وَ أَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَ غِيطَانُهُ وَ بَحْرٌ لَا يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ- وَ عُيُونٌ لَا يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ- وَ مَنَاهِلُ لَا يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ- وَ مَنَازِلُ لَا يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ- وَ أَعْلَامٌ لَا يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ- وَ آكَامٌ لَا يَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ جَعَلَهُ‏

اللَّهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ وَ رَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ- وَ مَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ وَ دَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ- وَ نُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ وَ حَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ- وَ مَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ وَ عِزّاً لِمَنْ تَوَلَّاهُ- وَ سِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ وَ هُدًى لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ- وَ عُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ وَ بُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ- وَ شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ وَ فَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ- وَ حَامِلًا لِمَنْ حَمَلَهُ وَ مَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ- وَ آيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ وَ جُنَّةً لِمَنِ اسْتَلْأَمَ- وَ عِلْماً لِمَنْ وَعَى وَ حَدِيثاً لِمَنْ رَوَى وَ حُكْماً لِمَنْ قَضَى

اللغة

أقول: العجيج: رفع الصوت،

و النينان: جمع نون و هو الحوت.

و الجأش: القلب.

و الاوار: حرّ النار.

و الشمس عزبت: غابت.

و إنصابها: إتعابها.

و تحدّبت: عطفت و حنّت.

و الرذاذ: ضعيف المطر.

و عبّدوا: ذلّلوا.

و المحادّ: المشاقّ.

و أثاق الحياض: ملأها.

و المواتح: المستقون.

و الوعوثة: كثرة في سهولة توجب صعوبة المشى كما في الرمل.

و الوضح: البياض.

و العوج: بالفتح فيما له ساق ينتصب كالنخلة، و بالكسر فيما ليس كذلك كالطريق.

و العصل. الاعوجاج.

و ساخ: غاص. و السنخ: الأصل.

و أزف: دنا و بحبوحة الدار: وسطها.

و الغيطان: المواضع المطمئنّة من الأرض.

و المحاجّ: جمع محجّة و هى جادّة الطريق.

و المعقل: الملجأ.

و الفلج: الفوز.

و المتوسّم: المتفرّس.

و استلأم: لبس لامة الحرب و هي الدرع.

المعنى

و صدر الفصل تنبيه على إحاطة علمه بجزئيّات الموجودات على اختلافها و كثرتها
و نبّه بعجيج الوحوش على أنّه تعالى يعلمها حين يجأر إليه من جدب الأرض و قلّة العشب فكأنّها تضرّع إليه بالعجيج ليكون الإنسان أولى بذلك النزع [الفزع- خ- ] إليه، و بعلمه بمعاصى العباد في الخلوات تنفيرا عنها في الخلوة الّتي‏ هي مظنّتها، و اختلاف النينان بالمجى‏ء و الذهاب و قطع البحار طولا و عرضا. ثمّ عقّب بشهادة الرسالة. ثم بالوصيّة بتقوى اللّه، و قرنها باعتبارات من صفاته تعالى توجب الفزع إليه و هى كونه سبحانه مبدءا لخلقهم و منتهى لمعادهم الحسّى و العقلىّ كقوله تعالى «وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» و قد نبّهنا عليه مرارا، و أنّ به نجاح طلباتهم، و إليه منتهى رغباتهم، و نحوه قصدهم و سلوكهم فإنّه تعالى غاية الكلّ، و إليه مرامى مفزعهم يقال: فلان مرمى قصدى: أى إليه مفزعى في المهمّات، و نحوه قوله تعالى «إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ».
ثمّ باعتبارات من صفة التقوى توجب الفزع إليها.
(ا) و هى كونها دواء داء قلوبكم، و قد عرفت كونها دواء لأدواء الرذائل النفسانيّة الموبقة. (ب) و بصر عمى أفئدتكم: أى أبصار أفئدتكم من عمى الجهل. (ج) و شفاء مرض أجسادكم، و ذلك أنّ التقوى تستلزم قلّة الأكل و الشرب و استعمالهما بقدر الحاجة كما قال في صفات المتّقين: منزورا أكله. و قد علمت ما تحدث البطنة من الأمراض البدنيّة، و لذلك قال عليه السّلام: المعدة بيت الأدواء. (د) و صلاح فساد صدوركم: أى من الغلّ و الحسد و الخبث و النيّات المخالفة لأوامر اللّه. فإنّ التقوى تستلزم نفى ذلك كلّه. و صلاح الصدور منه لأنّ مبادى تلك الشرور كلّها محبّة الدنيا و باطلها، و المتّقون بمعزل عن ذلك. (ه) و كذلك طهور دنس أنفسكم: أى من نجاسات الرذائل المهلكة و هو كقوله: دواء قلوبكم. لكن اعتبار كونها دواء يخالف اعتبار كونها طهورا إذ في الأوّل ملاحظة كون الرذائل أمراضا ضارّا تؤدّى إلى الهلاك السرمدى، و في الثاني اعتبار كونها نجاسات تمنع من دخول حظيرة القدس و مقعد الصدق. (و) و جلاء عشا أبصاركم، و فيه استعارة لفظ العشا لما يعرض عن ظلمة الجهل، و سائر الرذائل من عدم إدراك الحقائق، و يروى غشاء بالغين المعجمة و هو الظلمة المتوهّمة من الجهل الّتى هى حجاب الغفلة، و بهذا الاعتبار ففى التقوى جلاء لتلك الظلمة لما تستلزمه من إعداد النفس للكمال، و كونها نفسها هى الجلاء مجاز إطلاقا لاسم المسبّب على السبب. (ز) و أمن فزع جأشكم. إذ قد علمت أنّ بها الأمان من عذاب الآخرة، و قد يكون بها الأمان من فزع الدنيا. لأنّ أكبر مخاوف الدنيا الموت و ما يؤدّى إليه، و المتّقون العارفون بمعزل عن تقيّة الموت بل عسى يكون محبوبا لهم لكونه وسيلة لهم إلى اللقاء الخالص لمحبوبهم الأقصى، و إليه الإشارة بقوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»«» دلّت الآية على أنّ الصادق في دعوى الولاية يتمنّى الموت، و كذلك قوله تعالى «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»«». (ح) ضياء سواد ظلمكم، و استعار لفظ الظلمة للجهل و تغطية القلب، و رشّح بذكر السواد لاستلزام الظلمة السواد، و هو كقوله: و جلاء عشا أبصاركم، و راعى في هذه القرائن كلّها المضادّة.

ثمّ أكّد الوصيّة بطاعة اللّه تعالى بآداب:
أحدها: أن يجعلوها شعارهم
و كنّى بذلك عن ملازمتهم لها كما يلزم الشعار الجسد. ثمّ عن كونها في الباطن دون الظاهر لقلّة فايدته و هو المشار إليه بقوله.
دون دثاركم.

الثاني: أكّد أمرهم بإبطانهم
بأمرهم باتّخاذها دخيلا تحت الشعار لإمكان ذلك فيها دون الشعار المحسوس. ثمّ فسّر ذلك فقال: و لطيفا بين أضلاعكم. و كنّى بلطفها عن اعتقادها و عقليتها و يكون بين أضلاعهم عن إيداعها القلوب.

الثالث: أن يجعلوها أميرا
و استعار لها لفظ الأمير باعتبار إكرامهم لها و تقديمها على سائر مهمّاتهم.

الرابع: أن يجعلوها منهلا لحين ورودهم
أي يوم القيامة، و استعار لفظ المنهل لها، و وجه المشابهة أنّ التقوى و الطاعة للّه مظنّة التروّى من شراب الأبرار يوم القيامة كما أنّ موارد الإبل مظنّة ريّها.

الخامس: أن يجعلوها شفيعا إلى اللّه و وسيلة إلى مطالبهم منه
و ظاهر كون المطيع يستعدّ بطاعته لدرك بغيته من اللّه تعالى، و لفظ الشفيع مستعار للوسيلة و القربة.

السادس: و جنّة ليوم فزعهم
و ظاهر كون الطاعة ساترا يوم القيامة من الفزع الأكبر من عذاب اللّه.

السابع: و مصابيح لبطون قبورهم
و قد عرفت كيفيّة إعداد الطاعة لقبول الأنفس الأنوار العلويّة و الأسرار الإلهيّة المخلّصة من ظلمة القبور و العذاب الاخروىّ. و في الخبر: أنّ العمل الصالح يضي‏ء قبر صاحبه كما يضي‏ء المصباح الظلمة.
و استعار لها لفظ المصابيح لاستلزامها الإنارة.

الثامن: و كذلك سكنا لطول الوحشة في القبور تستأنس به النفوس
كما روى: أنّ العمل الصالح و الخلق الفاضل يراه صاحبه بعد الموت في صورة شابّ حسن الصورة و الثياب طيّب الريح فيسلّم عليه فيقول له: من أنت فيقول: أنا خلقك الحسن أو عملك الحسن. و حاصله يعود إلى كون الطاعة سببا للاستيناس من وحشة الآخرة، و ذلك أنّ الوحشة إنّما تعرض في المكان لمن كان غافلا عنه و غير متوقّع له و لا متهيّى‏ء للانتقال إليه و مطمئنّا بوطنه الأوّل و بأهله و جاعلهم كلّ الانس.

فأمّا أهل الطاعة فإنّهم أبدا متفكّرون فيما ينتقلون إليه و متذكّرون له واثقون بانس ربّهم و ملتفتون إليه. فانسهم أبدا به و فرحهم دائما بلقائه، و اعتقادهم في الدنيا: أنّهم لأهلها بأبدانهم مجاورون. فمنهم يهربون و إلى العزلة ينقطعون. فبالحرىّ أن لا تعرض لهم وحشة و أن تكون أعمالهم سببا لعدم الوحشة الّتي عساها تعرض لهم، و لمّا كان الإنسان في الدنيا لا يتصوّر ما بعد الموت بالحقيقة لا جرم لا بدّ له من وحشة ما إلّا أنّ الأنوار الإلهيّة و الانس بالرفيق الأعلى مزيل لها.

التاسع: و كذلك و نفسا لكرب مواطنكم
أى سعة و روحا لما يعرض من‏ كرب منازل الآخرة و أهوالها.

العاشر: كونها حرزا من متالف مكتنفة
و تلك المتالف هى الرذائل الموبقة الّتي هي محالّ الهلاك و التلف. و اكتنافها إحاطتها بالنفس بحيث لا يكفّها إلّا طاعة اللّه و سلوك سبيله، و المخاوف المتوقّعة مخاوف الآخرة و حرّ نيرانها.

الحادى عشر: كون التقوى مستلزمة لبعد الشدائد عن المتّقى بعد دنوّها منه
و كثيرا ما يعبّر بالتقوى عن الطاعة و إن كانت أخصّ في بعض المواضع. أمّا في بعد شدائد الآخرة فظاهر، و أمّا في الدنيا فلأنّ المتّقين هم أسلم الناس من شرور الناس لبعدهم عن مخالطاتهم و مجاذباتهم لمتاع الدنيا، و بغضهم لها. إذ كانت محبّتها و الحرص عليها منبعا لجميع الشرور و الشدائد.

الثاني عشر: كونها مستلزمة لحلاوة الامور بعد مرارتها
أمّا امور الآخرة فكالتكليف الوارد عليهم لها بالعبادات، و ظاهر أنّها عند المتّقين أحلى و ألذّ من كلّ شي‏ء بعد مرارتها في ذوقهم في مبدء سلوكهم و ثقلها عليهم و على غيرهم من الجاهلين، و أمّا المرّ من امور الدنيا فكالفقر و العرى و الجوع، و كلّ ذلك شعار المتّقين، و هو أحلى في نفوسهم و آثر من كلّ شعار و إن كان مرّا في ذوقهم في مبدء السلوك و قبل وصولهم إلى ثمرات التقوى.

الثالث عشر: و انفراج الأمواج عنه بعد تراكمها
و استعار لفظ الأمواج للهيئات البدنيّة الرديئة و ملكات السوء الّتى إذا تكاثفت و توالت على النفس أغرقتها في بحار عذاب اللّه. و ظاهر كون لزوم التقوى سببا ينفرج باستعداد النفوس به عنها تلك الهيئات و ينمحي من لوحها و إن كثرت.

الرابع عشر: كون لزومها سببا لتسهيل صعاب الأمور على النفس بعد إتعابها لها و ذلك أنّ المتّقين عند ملاحظة غايتهم من نفوسهم يسهل عليهم كلّ صعب من أمور الدنيا ممّا يشتدّ على غيرهم كالفقر و المرض و كلّ شديد، و كذلك يسهل عليهم كلّ صعب من مطالب الآخرة بعد إتعاب تلك المطالب لهم قبل تصوّرها التامّ في أوّل التكليف.

الخامس عشر: كونه سببا لهطل الكرامة عليهم
و الكرامة تعود إلى الكمالات النفسانيّة الباقية و الالتذاذ بها. و لاحظ في إفاضتها عليهم مشابهتها بالغيث فاستعار لها لفظ الهطل و أسنده إليها، و كذلك لفظ القحوط، و كنّى به عن منعهم إيّاها قبل استعدادهم بالتقوى لها.

السادس عشر: كونه سببا لتعطف الرحمة الإلهيّة بإفاضة الكمالات عليهم بعد نفورها عنهم لعدم الاستعداد أيضا، و لفظ التحدّب مستعار للإرادة أو لأثر الرحمة، و كذلك لفظ النفور لعدم أثرها في حقّهم قبل ذلك.

السابع عشر: كونه سببا لتفجّر النعم بعد نضوبها
و لفظ التفجّر مستعار لانتشار وجوه إفاضات النعم الدنيويّة و الاخرويّة كما قال تعالى «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ»«» و كذلك لفظ النضوب لعدمها قبل الاستعداد لها ملاحظة لشبه النعم بالماء في الاستعارتين.

الثامن عشر: كونه سببا لوبل البركة بعد رذاذها
و لفظ الوبل مستعار للفيض الكثير من البركة بعد الاستعداد بالتقوى، و لفظ الرذاذ للقليل قبل ذلك الاستعداد ملاحظة لشبهها بالغيث أيضا، و ظاهر كون التقوى سببا لمزيد الفيض على كلّ من كان له بعض الكمالات كمن يستعدّ بالعلوم دون الزهد و العبادة ثمّ يسلك بهما.
ثمّ بعد الفراغ من فضائلها و الترغيب فيها من تلك الجهة أعاد الأمر بها و رغّت فيها باعتبارات اخر من إنعام المنعم، و هي كونه تعالى نافعا لهم بموعظته: أى جاذبا لهم إلى جنّته، مرغّبا لهم في كرامته، و واعظا لهم برسالته إليهم، و ممتّنا عليهم بنعمته كقوله تعالى «وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» في غير موضع من كتابه. ثمّ أمرهم بتعبيد أنفسهم و تذليلها لعبادته و الخروج إليه من حقّه الّذي يطلبه منهم و هو طاعته.

ثمّ ذكر الإسلام و فضائله مرغّبا فيه
و هو كالتفسير لطاعته و عبادته فكأنّه قال: و اخرجوا إليه من حقّ طاعته الّذي هو الإسلام فإنّه ذكر له فضائل:

(ا) كونه اصطفاه لنفسه: أى طريقا إلى معرفته و نيل ثوابه.

(ب) كونه اصطنعه على عينه و هي كلمة يقال لما يهتمّ به و كأنّه للصنعة الّتي يختارها من عملت له و يشاهدها بعينه. و لفظ العين مجاز في العلم. و على تفيد الحال: أى على علم منه بشرفه و فضيلته و وجه الحكمة فيه، و نحو قوله تعالى «وَ لِتُصْنَعَ عَلى‏ عَيْنِي».

(ج) و اصطفاه خير خلقه: أى اصطفى للبعثة به و إليه خير خلقه محمّد و آله.

(د) و أقام دعائمه على محبّته. و لفظ الدعائم مستعار إمّا لأهل الإسلام أو لأركانه. و وجه المشابهة قيامه بها في الوجود كقيام الشي‏ء المدعوم بدعائمه، و كلمة على للحال، و الضمير في محبّته للإسلام: أى أقام دعائمه حال المحبّة له، و قيل بل اللّه كما تقول طبع اللّه قلبي على محبّته.

(ه) أذلّ الأديان بعزّه. و ذلّة الأديان تعود إلى عدم الالتفات إليها فيكون مجازا من باب إطلاق اسم السبب على المسبّب، أو ذلّة أهلها. فيكون من باب حذف المضاف. و ظاهر أنّ عزّ الإسلام سبب للأمرين.

(و) و كذلك إطلاق وضع الملل برفعه.

(ز) و كذلك إهانة أعدائه و هم المشركون و المكذّبون له من الملل السابقة إهانتهم بالقتل و أخذ الجزية و الصغار لهم، و كرامته إجلاله و أجلال أهله و تعظيمهم في النفوس.

(ح) و خذل محادّيه بنصره: أى بنصر أهله و في القرائن الأربع التضادّ: فالعزّ للذلّ، و الرفع للوضع، و الكرامة للإهانة، و النصر للخذلان.

(ط) و هدم أركان الضلالة بركنه و قوّته، و أركان الضلالة تعود إلى العقائد المضلّة في الجاهليّة و إلى أهل الضلالة و هو مستعار. و وجه الاستعارة قيام الضلالة بتلك العقائد أو بأهلها كقيام ذى الأركان بها و كذلك لفظ الهدم لزوال الضلالة بقوّة الإسلام و أهله.

(ى) و سقى من عطش من حياضه. فاستعار السقى لإفاضة علوم الدين على‏ على نفوسهم و كمالها بها، و لفظ العطش لما كانوا عليه من الجهل البسيط و عدم العلم و كذلك استعار لفظ الحياض لعلماء الإسلام الّذين هم أوعيته و حياضه الّتي ترده العطاش من العلوم و الحكمة الدينيّة.

(يا) و أثاق الحياض لمواتحه، و استعار لفظ المواتح إمّا للأئمّة من القرن الأوّل الاخذين للإسلام من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم الّذي هو الينبوع، أو لأفكار العلماء و سؤالاتهم و بحثهم عن الدين و أحكامه و استفادتهم بها، و وجه الاستعارتين كونهم مستخرجين للعلم و الدين عن مظانّه كما يستخرج الماتح الماء من البئر. و لفظ الحياض للمستفيدين.

(يب) جعله له بحيث لا ينفصم عروته، و لفظ العروة مستعار لما يتمسّك الإنسان به منه، و رشّح بذكر الانفصام. و لمّا كان المتمسّك به ناجيا من الهلاك الأخروىّ و الشرور اللاحقة للملل السابقة و كان عدم الانفصام مظنّة سلامة المتمسّك عن الهلاك كنّى به عن دوام السلامة.

(يج) و لا فكّ لحلقته، كناية عن عدم انقهار أهله و جماعته.

(يد) و لا انهدام لأساسه، استعار لفظ الأساس للكتاب و السنّة الّذين هما أساس الإسلام، و لفظ الانهدام لاضمحلالهما.

(يه) و لا زوال لدعائمه، استعار لفظ الدعائم لعلمائه أو للكتاب و السنّة و قوانينهما و أراد بعدم زوالهما عدم انقراض العلماء أو عدم القوانين الشرعيّة.

(يو) و لا انقلاع لشجرته، استعار لفظ الشجرة لأصله و أركانه، و هو كقوله: و لا انهدام لأساسه.

(يز) و لا انقطاع لمدّته، إشارة إلى بقائه إلى يوم الدين.

(يح) و لا عفاء لشرايعه، و شرايعه قوانينه و اصوله و هو كقوله: لا انقلاع لشجرته.

(يط) و لا جذّ لفروعه: أى لا ينقطع التفريع عليه بل كلّ ذهن سليم فكّر في اصوله و هي الكتاب و السنّة استخرج منها ما لم يستخرجه غيره.

(ك) و لا ضنك لطرقه، و كنّى بعدم الضيق عن عدم صعوبة قوانينه على أهل التكليف، أو لازم الضيق و هو مشقّة السالكين به إلى اللّه كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: بعثت بالحنيفيّة السهلة السمحة.

(كا) و لا وعوثة لسهولته، كناية عن كونه في غاية العدل بين الصعوبة و بين السهولة المفرطة كما عليه أكثر الأديان السابقة من التشبيه و التجسيم فإنّ سلوكها مع ذلك و تصوّرها في غاية السهولة لكنّها طرق يبعد حصول المطالب الحقيقيّة و الوصول إلى التوحيد الخالص منها فكانت في سهولها هذه الوعوثة.

(كب) و لا سواد لوضحه، استعار لفظ الوضح لصفائه عن كدر الباطل الّذى هو سواد ألواح نفوس الكافرين و المنافقين.

(كج) و لا عوج لانتصابه، و استعار لفظ الانتصاب لاستقامته في إدّائه إلى اللّه تعالى. إذ هو الصراط المستقيم في الدنيا.

(كد) و كذلك و لا عصل في عوده.

(كه) و لا وعث لفجّه.

(كو) و لا انطفاء لمصابيحه، عبّر بالمصابيح عن العلماء استعارة، و بعدم انطفائها عن عدم خلوّ الأرض منهم.

(كز) و لا مرارة لحلاوته، و ذلك أنّ حلاوة الإسلام الحقيقيّ في قلوب المتّقين لا يشوبها مرارة من مشقّة تكليف و نحوها لما يتصوّرونه من شرف غايتهم.

(كح) فهو دعائم: أى فالإسلام دعائم، و ذلك إشارة إلى تعريفه بأجزائه و هي كالشهادتين و العبادات الخمس كما ورد في الخبر: بنى الإسلام على خمس. و قوله: أساخ في الحقّ اسناخها إشارة إلى كونه تعالى بناها على أسرار من الحقّ عميقة لا يهتدى إليها إلّا آحاد الخلق و هو أسرار العبادات. (كط) قوله: و ينابيع غزرت عيونها، إشارة إلى تعريفه من قبل مادّته و هي الكتاب و السنّة، و استعار لهما لفظ الينابيع نظرا إلى فيضان العلوم الإسلاميّة النقليّة و العقليّة عنهما كفيضان الماء عن الينابيع، و لفظ العيون لما صدرا عنه، و هو علم اللّه تعالى و نفوس ملائكته و نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و ظاهر غزارة تلك العلوم و كثرتها.

(ل) و مصابيح شبّت نيرانها إشارة إلى مادّته أيضا باعتبار أنّ في الكتاب و السنّة أدلّة أحكامها و براهينها، و استعار لها لفظ المصابيح باعتبار كونها تضي‏ء الطريق لخابطها إلى اللّه. و رشّح بذكر إضرام نيرانها، و عبّر به عن غاية إضاءتها.

(لا) و منار اقتدى بها سفّارها و أعلام قصد بها فجاجها. إشارة إلى تلك المادّة باعتبار أنّ فيها أمارات على أحكام اللّه الظنيّة يقتدى بها المسافرون السالكون إلى قصدها و القاصدون لطرقها الّتي هي منصوبة عليها.

(لب) و مناهل روى بها ورّادها، استعار لفظ المناهل لتلك الموادّ أيضا باعتبار كونها من العلم لوارديها و مقتبسيه منها كما تروى ورّاد الحياض بمائها.

لج) جعل اللّه فيه منتهى رضوانه، و ذلك في نحو قوله تعالى «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ» و قوله «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» و لأنّ فيه أتمّ وسيلة إلى غاية الكمالات الإنسانيّة الّتي هي منتهى ما يرضاه اللّه و يحبّه من عباده.

(لد) و ذروة دعائمه، و الضمير في دعائمه للّه: أى لدعائم الّتي جعلها اللّه عمدة له في إصلاح خلقه و هى الشرائع و قوانينها، و ظاهر أنّ الأنوار الّتي جاء بها الإسلام و الهداية الّتي به أشرف و أعلى منها في سائر الشرائع فهو كالذروة لها.

(له) و سنام طاعته، و لفظ السنام مستعار لمجموع ما اشتمل عليه من البيانات و الهدايات. و وجه المشابهة شرفها أيضا و علوّها بالنسبة إلى الطاعات السابقة عليه كشرف السنام بالنسبة إلى باقى الأعضاء.

(لو) فهو عند اللّه وثيق الأركان، و أركانه أجزائه، و وثاقتها تعود إلى بنائها على الأسرار الحقيقيّة و العلم التامّ لواضعها بكيفيّة وضعها و كمال فايدتها بحيث لا يمكن انتقاضها و لا زوالها.

(لز) رفيع البيّنات: أى ما ارتقى إليه أهله من المجد و الفضيلة، و ظاهر علوّ قدره و قدر أهله و تعظيمهم في النفوس على سائر الأديان و أهلها.

(لج) منير البرهان، و أراد برهانه الّذى دعى الخلق إليه و هو القرآن و سائر المعجزات، و لا شكّ في إنارتها و إضاءتها في أقطار العالم و اهتداء أكثر الخلق بها.

(لط) مضي‏ء النيران، و استعار لفظ النيران لأنواره من العلوم و الأخلاق المضيئة على علمائه و أئمّته.

(م) عزيز السلطان، و أراد قوّته و عزّة أهله و دولته و منعة من التجأ إليه به.

(ما) مشرف المنار، و كنّى به عن علوّ قدر علمائه و أئمّته و انتشار فضلهم و الهداية بهم.

(مب) معوز المثار: أى يعجز الخلق إثارة دفائنه و ما فيه من كنوز الحكمة و لا يمكنهم استقصاء ذلك منه، و روى المنال: أى يعجز الناس إمّا بالإتيان بمثله أو باستقصاء حكمه و ثمراته، و روى المثال و هو ظاهر. ثمّ لمّا بيّن فضيلته أمر بتعظيمه و اتّباعه و أداء حقّه و هو العمل به مع اعتقاد شرفه و كونه مؤدّيا إلى الجنّة.

ثمّ بوضعه مواضعه و هى القلوب لا الألسن و الشعار الظاهر فقطّ. ثمّ لمّا فرغ من ذلك شرع في فضائل من بعث به ليذكّرهم نعمة من اللّه بعد نعمة، و قرن ذكره بذكر أحوال الدنيا حين البعثة ليظهر شرفها: ف (ا) كونها قد دنا انقطاعها و إقبال الآخرة و اطّلاعها، و قد بيّنّا ذلك في قوله: ألا و إنّ الدنيا قد أدبرت و آذنت بوداع، و على الجملة فيحتمل أن يريد قرب انقطاع الدنيا و زوالها بالكلّيّة و حضور الآخرة و القيامة الكبرى كما عليه ظاهر الشريعة و يحتمل أن يريد قرب انقطاع دنيا كلّ امّة منهم و حضور آخرتهم بموتهم و انقراضهم و لفظ الاطّلاع استعارة كما سبق. (ب) كونها قد أظلمت بهجتها بعد إشراق، و أراد إشراق بهجتها بأنوار الأنبياء السابقين و ضياء الشرائع، و إظلامها حين بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم باندراس تلك الآثار و فسادها.

(ج) قيامها بأهلها على ساق، كناية عن ظهوره شدائدها و إثارة الفتن بين أهلها و ما كانت العرب عليه من الخبط و الاختلاف في الحروب و الغارات المؤدّية إلى الفناء. (د) خشونة المهاد منها، و كنّى به عن عدم الاستقرار بها و طيب العيش فإنّ ذلك إنّما يتمّ و يعتدل بنظام الشرائع و النواميس الإلهيّة. (ه) و أزف منها قياد: أى قرب منها انقياد للانقطاع و الزوال و الانخراط في سلك التقضّى و اقتراب علامات ذلك منها، و علامات زوالها هى علامات الساعة و و أشراطها، و كذلك تصرّم أهلها و انفصام حلقتها، و كنّى بالحلقة عن نظامها و اجتماع أهلها بالنواميس و الشرائع و بانفصامها عن فساد ذلك النظام بانتشار سببها عن فساد أسباب ذلك النظام فإنّ أسباب التصرّف النافع فيها إنّما يتمّ بالنواميس الشرعيّة و قوانينها، و استعار لفظ أعلامها للعلماء و الصلحاء بها و كان عليهم العفاء حينئذ، و كذلك بعوراتها عن وجوه الفساد فيها، و بتكشّفها عن ظهورها بعد اختفاء، و كذلك القصر من طولها فإنّ الدنيا إنّما يكون طولها و دوامها عند صلاحها بالشرائع فإذن قصرها يكون عند فسادها و عدم النظام الشرعىّ.

ثمّ رجع إلى تعديد فوائد بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم: ف (ا) إنّ اللّه تعالى جعله بلاغا لرسالته و هو كقوله تعالى «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ»«» الآية. (ب) و كرامة لامّته لكونه داعيا لهم إلى الكرامة الباقية التامّة و سبب للكرامة. (ج) و ربيعا لأهل زمانه، و استعار لفظ الربيع له، و وجه المشابهة كونه بهجة للمسلمين و علمائهم و سببا لبطنتهم من العلم و الحكمة كما أنّ الربيع سبب لبهجة الحيوان بمراعيها و بطنتهم و سمنهم. (د) و رفعة لأعوانه: أى لأعوان اللّه و أنصاره و هم المسلمون و ظاهر كونه صلّى اللّه عليه و آله و سلم سبب رفعتهم و شرفهم.

ثمّ عقّب بذكر بعض الأنوار الّتي بعث بها صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هو الكتاب العزيز و عدّ فضائل: ف (ا) كونه نورا لا تطفى مصابيحه، و أراد نور العلم و الأخلاق المشتمل عليها، و استعار لفظ المصابيح إمّا لما انتشر من علومه و حكمه فاقتدى بها الناس، و إمّا لعلمائه و حاملى فوايده. (ب) كونه سراجا لا يخبو توقّده، و أراد أنّه لا تنقطع هداية الناس بنوره فهو كالأوّل. (ج) و بحر لا يدرك قعره، لفظ البحر مستعار له باعتبارين: أحدهما عمق أسراره بحيث لا يحيط بها الأفهام و لا تصل إلى أغوارها العقول كما لا يدرك الغائض قعر البحر العميق. و الثاني: كونه معدنا لجواهر العلوم النفيسة و الفضائل كما أنّ البحر معدن للجواهر. (د) و منهاجا لا يضلّ نهجه، و ظاهر كونه طريقا واضحا لمن سلك به إلى اللّه.
و من تفهم مقاصده لا يضلّ قصده. (ه) و شعاعا لا يظلم ضوءه: أى لا يغطّى الحقّ الوارد به ظلام شبهة و لا تلبيس باطل، و لفظ الشعاع و الضوء و الظلمة مستعار. (و) و فرقانا لا يخمد برهانه: أى فيه براهين يفرق بين الحقّ و الباطل لا يخمد، و لفظ الخمود مستعار ملاحظة لشبه البرهان بالنار في الإضاءه فنسب إليه وصفها. (ز) و بنيانا لا تهدم أركانه، و استعار لفظ البنيان لما انتظم من الكتاب و رسخ في القلوب، و رشّح بذكر الأركان لاستلزام البنيان لها. (ح) و شفاء لا يخشى سقامه كما قال تعالى «وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ»، و ظاهر كون تدبّره و أسراره شفاء للنفوس من أعراض الجهل و رذائل الأخلاق، و ذلك شفاء لا يخاف استعقابه بمرض و ذلك أنّ الفضائل النفسانيّة

إذا صارت ملكات لم تزل و لم يتبدّل بأضدادها و إن كان أيضا شفاء للأبدان كما سبق. (ط) و عزّاً لا تهزم أنصاره. (ى) و حقّا لا تخذل أعوانه و أنصاره، و أعوانه هم المسلمون المعتزّون به [المعترفون به خ‏] و الملتجئون إليه العاملون على وفقه السالكون به إلى اللّه، و ظاهر أنّ اولئك الأنصار و الأعوان لا يهزمهم أحد و لا يخذلهم اللّه أبدا. (يا) فهو معدن الإيمان الّذي يستنار منه الإيمان الكامل باللّه و رسوله و بما جاء به و بحبوحته، و ظاهر كون اعتقاد حقّيته و تفهّم مقاصده و العمل بها واسطة عقد الإيمان. (يب) و ينابع العلم و بحوره، و اللفظان استعارة له باعتبار كونه محلّ فيض العلوم النفيسة و استف استفادتها. (يج) و رياض العدل و غدرانه، و اللفظان مستعاران أيضا باعتبار كونه موردا يؤخذ عنه العدل بكلّيّته فهو مورده الّذى لا يجور عن سنن الحقّ إلى أن يبلغ به صاحبه السالك به إلى اللّه.
(يد) و أثافىّ الإسلام و بنيانه، و اللفظان مستعاران له باعتبار كونه أصلا للإسلام يبتنى عليه، و به يقوم كما أنّ الأثافىّ للقدر و البنيان لما يحمل عليه كذلك. (يد) و أودية الحقّ و غيطانه، و اللفظان مستعاران له باعتبار كونه معدنا للحقّ و مظنّة له كما أنّ الأودية و الغيطان مظانّ الكلاء و الماء. (يو) و بحر لا يستنزفه المستنزفون. (يز) و عيون لا ينضبها الماتحون، إنّما كرّر استعارة البحر و العيون له باعتبار آخر و هو كونه لا ينتهى فوايده و المقاصد المستنبطة منه. (يح) و كذلك و مناهل لا يغيضها الواردون و خصّص النضوب بالعيون لإمكان ذلك فيها دون البحر و الورد بالمناهل لكون النهل و هوى الرىّ لغاية وارد الماء. (يط) منازل لا يضلّ نهجها المسافرون: أى مقامات من العلوم إذا نزلتها العقول المسافرة إلى اللّه لا تضلّ لاستنارتها و شدّة إضاءتها.

(ك) و كذلك و أعلام لا تعمى عنها السائرون. (كا) و كذلك و آكام لا يجوز عنها القاصدون، استعار لفظ الأعلام و الآكام للأدلّة و الأمارات فيه على طريق إلى معرفته و أحكامه باعتبار كونها هادية إليها كما تهدى الأعلام و الجبال على الطرق. (كب) جعله اللّه ريّا لعطش العلماء، استعار لفظ الرىّ له باعتبار كونه دافعا لألم الجهل عن النفوس كما يدفع الماء ألم العطش، و لفظ العطش للجهل البسيط أو لاستعداد الطالبين للعلوم و اشتياقهم إلى الاستفادة، و أطلق لفظ الرىّ على المروى مجازا إطلاقا لاسم اللازم على ملزومه. (كج) و ربيعا لقلوب الفقهاء، و لفظ الربيع مستعار له باعتبار كونه مرعى لقلوب الفقهاء يستثمرون منه الأحكام، و بهجة لها كالربيع للحيوان.
(كد) و محاجّ لطرق الصلحاء، و ظاهر كونه طريقا واضحا للصالحين إلى اللّه. (كه) و دواء ليس بعده داء كقوله: شفاء لا يخشى سقامه. (كو) و نورا ليس معه ظلمه: أى لا تبقى مع هدايته إلى الأحكام ظلمة على البصيرة، و هو كقوله: و شعاعا لا يظلم نوره. (كز) و حبلا وثيقا عروته، استعار لفظ الحبل له و العروة لما يتمسّك به منه، و كنّى بوثاقة عروته عن كونه منجيا لمن تمسّك به. (كح) و معقلا منيعا ذروته، استعار لفظ المعقل باعتبار كونه ملجأ من الجهل و لوازمه و هو العذاب، و رشّح بذكر الذروة و كنّى بمنعتها عن كونه عزيزا يمنع من لجأ إليه. (كط) و عزّا لمن تولّاه: أى اتّخذه وليّا يلقى إليه مقاليد اموره و لا يخالفه، و ظاهر كونه سبب عزّه في الدارين. (ل) و سلماً لمن دخله: أى أمنا. و دخوله: الخوض في تدبّر مقاصده و اقتباسها، و بذلك الاعتبار يكون مأمنا من عذاب اللّه و من الوقوع في الشبهات الّتي هي مهاوى الهلاك.

(لا) و هدى لمن ائتمّ و هو ظاهر. (لب) و عذرا لمن انتحله: أى من نسبه إلى نفسه بدعوى حفظه أو تفسيره و نحو ذلك معتذرا بذلك من تكليف لا يليق به أو يشقّ عليه كان ذلك عذرا منجيا له. و هذا كمال تقول لمن يقصد إنسانا بأذى: لا ينبغي لك أن تؤذيه فإنّه من حملة القرآن الكريم أو ممّن يعلم علومه فيكون ذلك سببا لترك أذاه. (لج) و برهانا لمن تكلّم به. (لد) و شاهدا لمن خاصم به (له) و فلجا لمن حاجّ به. الثلاثة متقاربة، و أطلق لفظ الفلج عليه من جهة ما يحتجّ به إطلاقا لاسم الغاية على ذى الغاية إذ غاية الاحتجاج به الفوز. و الشاهد و الحجّة أعمّ من البرهان. (لو) و حاملا لمن حمله: أى يحمل يوم القيامة حملته و حفظته الآن، و عبّر بحمله لهم عن إنجائه لهم من العذاب اطلاقا لاسم السبب على المسبّب. (لز) و مطيّة لمن أعمله، استعار له لفظ المطيّة باعتبار كونه منجياً لهم كقوله: حاملا و لفظ الأعمال لاتّباع قوانينه و المواظبة عليها المنجية من العذاب كما ينجى إعمال المطيّة في الطريق البعيد. (لح) و آية لمن توسّم، و ذلك باعتبار تدبّر أمثاله و قصصه فإنّ فيها آياتا و عبرا كما قال تعالى «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ»«». (لط) و جنّة لمن استلأم: أى لمن استلأمه و لبسه كالدرع، و استعار له لفظ الجنّة لوقايته من استعدّ بعلمه من عذاب اللّه، و كنّى باستلئامه عن ذلك الاستعداد به. (م) و علما لمن وعى: أى لمن حفظه و فهم مقاصده. (ما) و حديثا لمن روى، و ذلك باعتبار ما فيه من القصص و أخبار القرون الماضية فإنّ أصدق حديث يروى منها ما اشتمل عليه القرآن، و يحتمل أن يريد بكونه حديثا كونه قولا و كلاما ليس لمن نقله كما قال تعالى «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ‏ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ» إلخ«» و تكون فايدة هذا الوصف أنّ فيه غنية لمن أراد أن يتحدّث بحديث غيره ممّا لا يفيد فايدته فينبغى أن يعدل إليه و يشتغل بتلاوته و التحدّث به. (مب) و حكما لمن قضى: أى فيه الأحكام الّتى يحتاج إليها القضاة، و روى حكما: أى حاكما ترجع إليه القضاة و لا يخرجون عن حكمه. و باللّه التوفيق

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 463

خطبه 188 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

وَ لَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ص- أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللَّهِ وَ لَا عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ- وَ لَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ- الَّتِي تَنْكُصُ فِيهَا الْأَبْطَالُ- وَ تَتَأَخَّرُ فِيهَا الْأَقْدَامُ نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِهَا- وَ لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ص وَ إِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي- وَ لَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي- وَ لَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ ص وَ الْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي- فَضَجَّتِ الدَّارُ وَ الْأَفْنِيَةُ- مَلَأٌ يَهْبِطُ وَ مَلَأٌ يَعْرُجُ- وَ مَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ- يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ- فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَ مَيِّتاً- فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ- وَ لْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ- فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ- وَ إِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ- أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَ لَكُمْ‏

 

اللغة

أقول: الهيمنة: صوت خفىّ يسمع و لا يفهم.

و حاصل الفصل: التنبيه على فضيلته لغاية قبول قوله فيما يأمرهم به.
فذكر منها: أنّه لم يردّ على اللّه و على رسوله في وقت قطّ
فيما صدر من الأمر عنهما، و استشهد على ذلك بما علمه منه المستحفظون من الصحابة و هم العلماء و أهل الدين الّذين استحفظوا كتاب اللّه و دينه: أى جعلوا حفظة له و اودعوا إيّاه، و قال بعض الشارحين: و فيه ايماء إلى ما كان يفعله بعض الصحابة من التسرّع بالقول و الاعتراض على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم في مواضع كما نقل عن عمر يوم الحديبيّة عند سطر كتاب الصلح أنّه أنكر ذلك و قال لرسول اللّه: ألسنا على الحقّ قال: بلى. قال: أو ليسوا الكاذبين. قال: بلى. قال: فكيف تعطى الريبة في ديننا. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: أنا أعمل بما اومر به. فقام عمر فقال لقوم من الصحابة: ألم يكن قد وعدنا اللّه بدخول مكّة و ها نحن قد صددنا عنها ثمّ ننصرف بعد أن اعطينا الريبة في ديننا و اللّه لو وجدت أعوانا لم اعط الريبة أبدا. فقال له ابو بكر: ويحك الزم غزوه فو اللّه إنّه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أنّ اللّه لا يضيّعه. ثمّ قال له: أقال لك: إنّه سيدخل مكّة هذا العام. فقال: لا. قال: فسيدخلها. فلمّا فتح النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم مكّة و أخذ مفاتيح الكعبة دعاه. فقال: هذا الّذي وعدتم به.

و منها: مواساته لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بنفسه و هو ممّا اختصّ به عليه السّلام،
و ذلك في مواطن: فثبت معه يوم احد و فرّ الناس. روى المحدّثون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا ارتثّ يوم احد، و نادى الناس قتل محمّد رأته كتيبة من المشركين و هو صريع بين القتلى إلّا أنّه حيّ فصمدت له. فقال لعلىّ: اكفنى هذه. فحمل عليها فهزمها و قتل رئيسها: ثمّ صمدت له اخرى. فقال يا على: اكفنى هذه فحمل عليها و قتل رئيسها.
ثمّ صمدت له ثالثة فكذلك. فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: قال لى جبرئيل حينئذ: يا محمّد هذه المواساة. فقلت: و ما يمنعه و هو منّى و أنا منه. فقال جبرئيل: و أنا منكما، و روى المحدّثون أيضا أنّ المسلمين سمعوا ذلك اليوم هاتفا من قبل السماء ينادى: لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا علىّ. فقال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم: ألا تسمعون هذا صوت جبرئيل. و كذلك ثبت معه يوم حنين في نفر يسير من بنى هاشم بعد أنّ ولّى المسلمون الأدبار، و حامى عنه، و قتل قوما من هو اذن بين يديه حتّى ثابت إليه الأنصار و انهزمت هو اذن و غنمت أموالها، و أمّا يوم خبير فقصّته مشهورة، و ذلك قوله: و لقد واسيته. إلى قوله: الأقدام. و قوله: نجدة أكرمنى اللّه بها. فالنجدة فضيلة تحت الشجاعة، و قد يعبّر بها عن الشجاعة.

و منها حاله عند ما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم
من تولّى أمره و مباشرة ما يختصّ به من الأحوال حالة وفاته من وضع رأسه على صدره، و قيل: أراد بذلك أنّ رأسه حينئذ كان على ركبتيه، و على ذلك يكون في صدره عند إكبابه عليه. و الأشبه أنّه أراد تسنيده حين اشتداد علّة موته. ثمّ سيلان نفسه في كفه و إمرارها على وجهه، و أراد بنفسه دمه يقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قاء وقت موته دما يسيرا، و أنّ عليّا عليه السّلام مسح بذلك الدم وجهه، و لا ينافي ذلك نجاسة الدم لجواز أن يخصّص دم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم كما روى أنّ أبا طيبة الحجّام شرب دمه صلّى اللّه عليه و آله و سلم حين حجمه. فقال: إذن لا يتّجع بطنك، و كذلك تولّيه لغسله بإعانة الملائكة، و كان هو الّذى يغسّله و الفضل بن عباس يصّب الماء عليه، روى أنّه عصب عينى الفضل حين صبّه الماء، و نقل عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: لا يبصر عورتى غيرك أحد إلّا عمى، و روى أنّه عليه السّلام قال: ما قلّبت عضوا إلّا و انقلب لا أجد له ثقلا كأنّ معى من يساعدني عليه، و ما ذلك إلّا الملائكة. و حيّا و ميّتا منصوبان على الحال من الضمير المجرور في به، و أمّا دفنه فتنازع الصحابة في أنّه يلحد أو يضرح فأرسل العبّاس إلى عبيدة بن الجرّاح و كان يحفر لأهل مكّة و يضرح لهم على عادتهم، و أرسل إلى أبى طلحة الأنصارى و كان يلحد لأهل المدينة على عادتهم فقال: اللهم اختر لنبيّك فجاء أبو طلحة فلحد له، و تنازعوا فيمن يدخل القبر معه فقال على عليه السّلام: لا ينزل معه أحد غيرى و غير العبّاس. ثمّ أذن في نزول الفضل و اسامة بن زيد. ثمّ ضجّت الأنصار و سألوا أن ينزل منهم رجل فأنزلوا أوس بن خولىّ و كان بدريّا، و قد يعبّر بالضريح عن القبر فيكون أعمّ من الشقّ و اللحد.

فأمّا ضجيج الدار و الأفنية بأصوات الملائكة ملأ يهبط منهم و ملأ يصعد بحيث لا يفارق هينمتهم سمعه في حال صلاتهم عليه إلى أن واراه في ضريحه. فقد عرفت كيفيّة سماع البشر لأصوات الملائكة في مقدّمات الكتاب، و كذلك صلاتهم تعود إلى وساطتهم في إفاضة الرحمة من اللّه تعالى على العباد، و كذلك علمت معنى الصعود و الهبوط منهم فيما سبق.

 

و اعلم أنّ حمل الكلام على ظاهره عند الإمكان أولى من التعسّف في التأويل، و ذكر هذه الفضيلة بهذه المقامات تجرى مجرى صغرى قياس ضمير من الشكل الأوّل استدلّ به على أنّه لا أحقّ منه به. و تقدير كبراه: و كلّ من كان ذلك معه صلّى اللّه عليه و آله و سلم. فهو أحقّ به. و حينئذ يتبيّن أنّه لا أحقّ به منه، و أراد أنّه لا أحقّ بالمنزلة و القرب منه. ففى حياته بالاخوّة و الوزارة، و بعد موته بالوصيّة و الخلافة إذ لا يريد أنّه أحقّ بذاته فبقى أن يريد كونه أحقّ به في المنزلة و ولاية أمره بعده. ثمّ عقّب ذكر فضيلته بأمرهم أن يمضوا في جهاد عدوّهم على بصائرهم: أى عقايدهم أنّهم على الحقّ و أنّ عدوّهم على الباطل، و أكّد تلك العقائد بالقسم البارّ أنّه فيما يأمرهم به على طريق الحقّ، و أنّ خصومه على مزلّة الباطل، و ذكر الجادّه للحقّ جذبا إليه، و المزلّة للباطل تنفيرا عنه، و لأنّ الباطل لا طريق واضحة له بعلم حقّ أو برهان صدق كما عليه الطريق الحقّ، و باقى الكلام خاتمة الخطبة.
و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 440

خطبه 187 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

بَعَثَهُ حِينَ لَا عَلَمٌ قَائِمٌ- وَ لَا مَنَارٌ سَاطِعٌ وَ لَا مَنْهَجٌ وَاضِحٌ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ- وَ أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا دَارُ شُخُوصٍ- وَ مَحَلَّةُ تَنْغِيصٍ سَاكِنُهَا ظَاعِنٌ وَ قَاطِنُهَا بَائِنٌ- تَمِيدُ بِأَهْلِهَا مَيَدَانَ السَّفِينَةِ- تَقْصِفُهَا الْعَوَاصِفُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ- فَمِنْهُمُ الْغَرِقُ الْوَبِقُ وَ مِنْهُمُ النَّاجِي عَلَى بُطُونِ الْأَمْوَاجِ- تَحْفِزُهُ الرِّيَاحُ بِأَذْيَالِهَا وَ تَحْمِلُهُ عَلَى أَهْوَالِهَا- فَمَا غَرِقَ مِنْهَا فَلَيْسَ بِمُسْتَدْرَكٍ وَ مَا نَجَا مِنْهَا فَإِلَى مَهْلَكٍ- عِبَادَ اللَّهِ الْآنَ فَاعْلَمُوا وَ الْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ- وَ الْأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ وَ الْأَعْضَاءُ لَدْنَةٌ- وَ الْمُنْقَلَبُ فَسِيحٌ وَ الْمَجَالُ عَرِيضٌ- قَبْلَ إِرْهَاقِ الْفَوْتِ وَ حُلُولِ الْمَوْتِ- فَحَقِّقُوا عَلَيْكُمْ نُزُولَهُ وَ لَا تَنْتَظِرُوا قُدُومَهُ

اللغة

أقول: الساطع: المرتفع.

و الوبق: الهالك.

و اللدن: الناعم: و الإرهاق: الإلحاق.

 

المعنى

و قد ذكر البعثة حين ظهور الأحوال الّتي كان العالم عليها تنبيها على فضلها و فضيلة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم.
فقوله: حيث لا علم قائم. استعار لفظ العلم و المنار للهداة إلى اللّه الداعين إليه، و عدم قيامه و سطوعه لعدمهم زمان الفترة. و قوله: و لا منهج واضح. أى لا طريق إلى اللَّه خالص عن شوب الأباطيل يتّبع. ثمّ عقّب بالوصيّة بتقوى اللّه. ثمّ بالتحذير من الدنيا، و قرنها بذكر عيوبها للتنفير عنها. و كونها دار شخوص إشارة إلى ضرورة الارتحال عنها بالموت، و محلّة تنغيص: أى تنغيص لذّاتها بالآلام و الأمراض حتّى قيل: إنّ اللذّة فيها إنّما هي الخلاص عن الألم. و قوله: ساكنها ظاعن و قاطنها بائن. كالتفسير لقوله: دار شخوص. و قوله: تميد بأهلها إلى قوله: إلى مهلك. ضربه لها و لأحوال أهلها فيها. فمثّلها بالسفينة عند عصف الريح، و مثّل تصرّفاتها و تغيّراتها بميدان السفينة، و رميهم فيها بالأمراض و الحوادث الّتي هى مظنّة الهلاك بالأحوال الّتى يلحق أهل السفينة عند هبوب الريح العاصف حال كونها في لجج البحار، و مثّل انقسامهم عند بعض تلك الحوادث و نزولها بهم إلى ميّت لا يرجى له عودة و إلى مستدرك متفارط بانقسام ركّاب السفينة عند عصف الريح عليها إلى غريق هالك و إلى ناج، و مثّل الناجى من بعض الأمراض الّذي تأخّر موته إلى مرض آخر فلاقى من أهوال الدنيا في تلك المدّة ما لاقى ثمّ لحقه الموت بالأخرة بالناجى من الغرق الّذى تحمله الأمواج و تدفعه الرياح و يقاسى أهوال البحر و شدائده ثمّ بعد خلاصه منه لا بدّ له من وقت هو أجله و مرض هو المهلك: أى محلّ هلاكه. ثمّ أمر بالعمل و ذكر الأحوال الّتى يمكن فيها و معها العمل تنبيها على انتهاز الفرصة، و تلك الأحوال صحّة الألسن و إمكان ذكر اللّه و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و سائر التكاليف المتعلّقة بها، و كذلك صحّة الأبدان‏ و لدنة الأعضاء و مطاوعتها للعمل قبل يبسها بالسقم و الأمراض، و فسح المنقلب و هو محلّ التصرّف و التقلّب، و كنّى به عن وقت الصحّة و الشبيبة، و يقرب منه عرض المجال، و ذكر إرهاق الأجل و حلول الموت تحذيرا منه و جذبا إلى العمل لما بعده. ثمّ أمرهم أن يتحقّقوا نزوله قبل نزوله: أى يتذكّروه و يخطر ببالهم أنّه حقّ و يقدّروا أنّه واقع ليكون آكد في العمل. و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: أكثروا من ذكر هادم اللذّات. و نهاهم عن انتظار قدومه لاستلزام انتظارهم له توهّمهم لبعده عنهم، و ذلك يوقعهم في التكاسل عن العمل. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 437

 

 

خطبه 186 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ وَ جَلَالِ كِبْرِيَائِهِ- مَا حَيَّرَ مُقَلَ الْعُيُونِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ- وَ رَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ النُّفُوسِ عَنْ عِرْفَانِ كُنْهِ صِفَتِهِ وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ- شَهَادَةَ إِيمَانٍ وَ إِيقَانٍ وَ إِخْلَاصٍ وَ إِذْعَانٍ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- أَرْسَلَهُ وَ أَعْلَامُ الْهُدَى دَارِسَةٌ- وَ مَنَاهِجُ الدِّينِ طَامِسَةٌ فَصَدَعَ بِالْحَقِّ- وَ نَصَحَ لِلْخَلْقِ وَ هَدَى إِلَى الرُّشْدِ وَ أَمَرَ بِالْقَصْدِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ‏

وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يُرْسِلْكُمْ هَمَلًا- عَلِمَ مَبْلَغَ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ وَ أَحْصَى إِحْسَانَهُ إِلَيْكُمْ- فَاسْتَفْتِحُوهُ وَ اسْتَنْجِحُوهُ وَ اطْلُبُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَمْنِحُوهُ- فَمَا قَطَعَكُمْ عَنْهُ حِجَابٌ وَ لَا أُغْلِقَ عَنْكُمْ دُونَهُ بَابٌ- وَ إِنَّهُ لَبِكُلِّ مَكَانٍ وَ فِي كُلِّ حِينٍ وَ أَوَانٍ- وَ مَعَ كُلِّ إِنْسٍ وَ جَانٍّ- لَا يَثْلِمُهُ الْعَطَاءُ وَ لَا يَنْقُصُهُ الْحِبَاءُ- وَ لَا يَسْتَنْفِدُهُ سَائِلٌ وَ لَا يَسْتَقْصِيهِ نَائِلٌ- وَ لَا يَلْوِيهِ شَخْصٌ عَنْ شَخْصٍ وَ لَا يُلْهِيهِ صَوْتٌ عَنْ صَوْتٍ- وَ لَا تَحْجُزُهُ هِبَةٌ عَنْ سَلْبٍ وَ لَا يَشْغَلُهُ غَضَبٌ عَنْ رَحْمَةٍ- وَ لَا تُولِهُهُ رَحْمَةٌ عَنْ عِقَابٍ وَ لَا يُجِنُّهُ الْبُطُونُ عَنِ الظُّهُورِ- وَ لَا يَقْطَعُهُ الظُّهُورُ عَنِ الْبُطُونِ- قَرُبَ فَنَأَى وَ عَلَا فَدَنَا وَ ظَهَرَ فَبَطَنَ- وَ بَطَنَ فَعَلَنَ وَ دَانَ وَ لَمْ يُدَنْ- لَمْ يَذْرَأِ الْخَلْقَ بِاحْتِيَالٍ وَ لَا اسْتَعَانَ بِهِمْ لِكَلَالٍ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ- فَإِنَّهَا الزِّمَامُ وَ الْقِوَامُ فَتَمَسَّكُوا بِوَثَائِقِهَا وَ اعْتَصِمُوا بِحَقَائِقِهَا تَؤُلْ بِكُمْ إِلَى أَكْنَانِ الدَّعَةِ- وَ أَوْطَانِ السَّعَةِ وَ مَعَاقِلِ الْحِرْزِ وَ مَنَازِلِ الْعِزِّ- فِي يَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ وَ تُظْلِمُ لَهُ الْأَقْطَارُ- وَ تُعَطَّلُ فِيهِ صُرُومُ الْعِشَارِ وَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ- فَتَزْهَقُ كُلُّ مُهْجَةٍ وَ تَبْكَمُ كُلُّ لَهْجَةٍ- وَ تَذِلُّ الشُّمُّ الشَّوَامِخُ وَ الصُّمُّ الرَّوَاسِخُ- فَيَصِيرُ صَلْدُهَا سَرَاباً رَقْرَقاً وَ مَعْهَدُهَا قَاعاً سَمْلَقاً- فَلَا شَفِيعٌ يَشْفَعُ وَ لَا حَمِيمٌ يَنْفَعُ وَ لَا مَعْذِرَةٌ تَدْفَعُ‏

 

اللغة

أقول: مقلة العين: شحمتها.

و الهمهمة: حديث النفس مع صوت خفىّ لا يفهم.

و الطامسة: كالدراسة.

و الحباء: النوال.

و ذرء: خلق.

و المعقل: الملجأ.

و الصروم: جمع صرم و صرمة و هي القطعة من الإبل نحو الثلاثين.

و العشار: النوق أتى عليها بعد طروق الفحل عشرة أشهر.

و الشمّ الشوامخ: الجبال العالية.

و معهدها: ما كان مسكونا منها.

و قاعا: خاليا.

و السملق: الصفصف المستوى ليس بعضه أرفع من بعض.

المعنى

و قد حمد اللّه تعالى باعتبار إظهاره من آثار ملكه و سلطانه ما أظهره من ملكوت السماوات و الأرض، و ترتيب العالمين على وجه النظام الأتمّ ممّا هو محلّ العجب العجيب الّذي تحار أبصار البصائر في كيفيّة وقوعه من القدرة الإلهيّة، و في ترتيبه على النظام الأكمل. بل كلّ مخلوق منها فهو محلّ ذلك العجب و الحيرة، و لفظ المقل مستعار و نسبة ذلك إلى جلال كبريائه مناسب لما أنّ السلطان و العظمة و الكبرياء يناسب صدور الآثار العظيمة العجيبة المحكمة عنها. و ردع خطرات هماهم النفوس: أى ما يخطر للنفوس فيهمهم به، و ردعه لها استلزام كماله المطلق عجزها عن إدراك حقيقته. و قد سبق ذلك غير مرّة. ثمّ شهد بكلمة التوحيد معتبرا فيها أربعة أمور: أحدها: كونها شهادة إيمان: أى يطابق القول فيها للعقد القلبىّ. الثاني: و إيقان: أى يكون اعتقادها يقينا و هو اعتقاد أن لا إله إلّا هو مع اعتقاد أنّه لا يمكن أن يكون ذلك المعتقد إلّا كذلك. الثالث: و إخلاص: و هي أن يحذف عن ذلك المعتقد كلّ أمر عن درجة الاعتبار و لا يلاحظ معه غيره. الرابع: و إذعان: و الإذعان ثمرة ذلك الإخلاص و كماله، و يتفاوت بتفاوته و يعود إلى سائر الطاعات و العبادات الّتى هي من حقوق تلك الكلمة و توابعها. ثمّ أردفها باختها. و ذكر الأحوال الّتي كان العالم عليها حين الرسالة ممّا هي شرور تنبيها على فضيلة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و استعار أعلام الهدى لأئمّة الدين الهادين إلى‏ سبيل اللَّه. و لفظ المناهج لقوانين الشريعة الّتي يسلك فيها جزئيّات الأحكام. و لفظ دروسها و طموسها لاضمحلالها قبل النبوّة.

و الواو في و أعلام للحال. فصدع بما جاء به من الحقّ ما طلب من الباطل، و نصح الخلق ليردّهم عن غوايتهم إلى صراط اللّه، و هداهم إلى الرشد في سلوكه، و أمرهم بالعدل و الاستقامة عليه. ثمّ نبّه السامعين إجمالا على أنّ خلق اللّه تعالى لهم ليس خاليا عن غاية و أنّهم لم يرسلوا في الدنيا مهملين عن أمر يراد بهم كإهمال البهيمة. ثمّ على علمه بمبلغ نعمه عليهم كميّة و كيفيّة و إحصائه لها عدّا ليبعثهم على شكرها، و لذلك قال فاستفتحوه: أى اطلبوا منه أن يفتح عليكم أبواب بركاته و نصره، و استنجحوه: أى اطلبوا منه نجاح حاجاتكم، و اطلبوا إليه: أى اطلبوا الهداية إلى حضرته و وجوه مرضاته، و استمنحوه أن يعطيكم كمالكم. كلّ ذلك بالشكر و سائر العبادات الّتي بها الاستعداد لإفاضة رحمته. و قوله فما قطعكم عنه حجاب إلى قوله: إنس و جانّ. إظهار لوجود كماله و عظمته، و تنزيه له عن صفات المخلوقين المحدثين، و تقريب له من عباده ليطلبوا منه و يتقرّبوا إليه و يستنجحوه و يستمنحوه و تنفتح آمالهم منه، و إذ لم يكن تعالى متحيّزا فلا حجاب دونه و لا باب، و كان بكلّ مكان في حالة واحدة: أى بعلمه المحيط لاستحالة ذلك التحيّز، و في كلّ حين و أوان بمعنى مساوقة وجوده لوجود الزمان لا بمعنى الظرفيّة له لتنزّهه تعالى عن لحوق الزمان المتأخّر عنه بمراتب من المعلولات، و مع كلّ إنس و جانّ بعلمه «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ». و قوله: لا يثلمه العطاء. إلى قوله: نائل. فاستقصاء النائل له بلوغ الجود منه أقصى مقدوره، و برهان تلك الأحكام أنّ الثلم و النقصان و الاستنفاد و الاستقصاء على المقدور يستلزم النهاية و الحاجة المستلزمين للإمكان، و لا شي‏ء من واجب الوجود بممكن، و كلّ من لحقته هذه الأحوال ممكن فواجب الوجود لا تلحقه هذه الأحوال، و كذلك قوله: لا يلويه‏ شخص عن شخص: أى لا يصرفه. إلى قوله: عقاب. و برهان هذه الأحكام أنّ الصرف و اللهو يستلزمان الغفلة عن أمر و الفطنة لغيره بعد الغفلة عنه، و كذلك حجز الهبة و منعها عن سلب نعمة اخرى و شغل الغضب له عن الرحمة مستلزمان قصور القدرة و ضعفها و تعلّقها بمحلّ جسمانى، و ذلك مستلزم للنقصان المستلزم للحاجة و الإمكان المنزّه قدس اللّه تعالى عنه، و كذلك توليهه الرحمة عن العقاب يستلزم رقّة الطبع و رحمة النفوس البشرية المستلزمة لعوارض الجسميّة. و جلال اللّه منزّه عنها. و قوله: و لا تجنّه البطون عن الظهور. يحتمل وجهين: أحدهما: لا يخفيه بطون حقيقته عن العقول و خفاؤه عن العيون عن ظهوره للبصائر في صور آثاره و ملكوت قدرته. الثاني: أنّه ليس في شي‏ء حتّى يخفى فيه عن الظهور على الأشياء و الاطّلاع عليها. و لا يقطعه الظهور عن البطون: أى لا يقطعه كونه ظاهرا أو عالما بالامور الظاهرة عن أن يكون باطنا لا يطّلع العقل عليه أو عن علمه ببواطن الامور و حقايقها. و قوله: قرب. أى بعلمه و قدرته من الأشياء قرب العلّة من المعلول. فنأى: أى بعد بحقيقته عن إدراك العقول و الحواسّ. و قوله: و علا فدنا. فعلّوه شرفه بالقياس إلى آثاره شرف العلّة على المعلول و دنوّه منها قربه. و قوله: و ظهر فبطن و بطن فعلن. تأكيد لما قبله، و قد سبق بيانه غير مرّة. و قوله: لم يذرء الخلق باحتيال إلى قوله: الكلال. تنزيه لايجاده لآثاره عن استخراج الحيل و إجالة وجوه الآراء في استخراجها.

ثمّ عن الاستعانة بغيره في شي‏ء من آثاره. ثمّ عن مبدء الاستعانة و هو الكلال و الإعياء لاستلزام ذلك تناهى القوّة المستلزمة للجسميّة، و إذ قدّم تنزيه الحقّ سبحانه عمّا لا ينبغي له، و وصفه بما ينبغي له شرع في الوصيّة بتقواه. ثمّ في التنبيه على فضائلها، و استعار لفظ الزمام لها باعتبار كونها قائدة للعبد إلى طريق الحقّ‏ مانعة له عن الجور إلى طرف الباطل كالزمام للناقة، و أراد بكونها قواما كونها مقيمة للعبد في سلوك سبيل اللّه أيضا إقامة للمصدر مقام اسم الفاعل. و قوله: فتمسّكوا بوثائقها. أى بما به يوثق منها و هو سائر أنواع العبادات الّتي هي أجزاؤها، و التمسّك بها يقود إلى لزومها و المواظبة عليها. و اعتصموا بحقائقها: أى بالخالص منها دون المشوب بالرياء و النفاق فإنّ الالتجاء إلى خالصها هو المخلص من عذاب اللّه. و قوله: تؤل بكم. انجزم تؤل لكونه جواب الأمر بالتمسّك و الاعتصام. و أكنان الدعة مواطن الراحة من الآلام الحسّيّة و العقليّة. و هي غرفات الجنّة و منازلها و هي أوطان السعة أيضا من ضيق الأبدان و ضنك بيوت النيران، و هي معاقل الحرز المانعة من عذاب اللّه. و هي منازل العزّ في جوار اللّه. و قوله: في يوم. متعلّق بتؤل، و اليوم يوم القيامة و سائر ما عدّده من صفات ذلك اليوم ممّا نطق به الكتاب الكريم كقوله تعالى «إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ» و قوله «وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ» و قوله «وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ» و قوله «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً» الآية و قوله «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» و قوله «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ» فهذه بعض أهوال القيامة المحسوسة، و أمّا المعقولة فقال بعض السالكين: إنّ الإنسان إذا حضرته الوفاة شخص بصر عقله إلى ما انكشف له من الأطوار الاخرويّة، و أظلمت عليه أقطار الدنيا، و غاب منها ما كان يشاهده، و تعطّلت عنه عشاره، و ناداه داعى الأجل إلى الآخرة فزهقت نفسه، و أجابت الداعى، و بكمت لهجته، و ذلّت شوامخ الجبال و رواسخها في نظره لعظمة اللّه عند مشاهدة كبريائه‏ فتصير لا نسبة لها في نظره إلى ما شاهد من عظيم ملكوته فكأنّها اضمحلّت و غابت و صارت في نظره كالسراب المترقرق الّذى لا أصل له بعد ما كان يراها عليه من العلوّ و العظمة، و كذلك ينقطع نظره عن عالم الأجسام و الجسمانيّات عند التوجّه إلى عالم الملكوت، و كذلك يرى ما كان معهودا منها كالقاع الصفصف المستوى تحت سلطان اللّه و قهره، و حينئذ تنقطع عن الشفيع الشافع و الصديق الدافع و العذر النافع. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 431

خطبه 185 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام يصف فيها المنافقين

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا وَفَّقَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ- وَ ذَادَ عَنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَ نَسْأَلُهُ لِمِنَّتِهِ تَمَاماً- وَ بِحَبْلِهِ اعْتِصَاماً- وَ نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ‏ اللَّهِ كُلَّ غَمْرَةٍ وَ تَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّةٍ- وَ قَدْ تَلَوَّنَ لَهُ الْأَدْنَوْنَ وَ تَأَلَّبَ عَلَيْهِ الْأَقْصَوْنَ- وَ خَلَعَتْ إِلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا- وَ ضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا- حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَهَا مِنْ أَبْعَدِ الدَّارِ وَ أَسْحَقِ الْمَزَارِ- أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ أُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ- فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ وَ الزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ- يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً وَ يَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً- وَ يَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ وَ يَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ- قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ وَ صِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ- يَمْشُونَ الْخَفَاءَ وَ يَدِبُّونَ الضَّرَاءَ- وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ وَ قَوْلُهُمْ شِفَاءٌ وَ فِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ- حَسَدَةُ الرَّخَاءِ وَ مُؤَكِّدُو الْبَلَاءِ وَ مُقْنِطُو الرَّجَاءِ- لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ- وَ إِلَى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ وَ لِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ- يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ وَ يَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ- إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا وَ إِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا وَ إِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا- قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلًا وَ لِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلًا- وَ لِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلًا وَ لِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً- وَ لِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً- يَتَوَصَّلُونَ إِلَى الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ لِيُقِيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ- وَ يُنْفِقُوا بِهِ أَعْلَاقَهُمْ يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ- وَ يَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِيقَ- وَ أَضْلَعُوا الْمَضِيقَ فَهُمْ لُمَةُ الشَّيْطَانِ وَ حُمَةُ النِّيرَانِ- أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ- أَلا إِنَّ حِزْبَ‏ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ

اللغة

اقول: ذاد: طرد.

و الغمرة من كلّ شي‏ء: معظمه.

و أسحق المزار: أبعده.

و السحق بضم السين: البعد، و كذلك بضمّ الحاء.

و يعمدونكم: يهدّونكم و يفدحونكم.

و العماد: الأمر الفادح.

يرصدونكم: يقعدون لكم المراصد و ينتظرونكم: و الضراء: ما واراك من الشجر الملتفّ.

و الإلحاف: الاستقصاء في السؤال.

و الشجو: الحزن.

و الأعلاق: جمع علق و هى السعلة الثمينة.

و التمويه: التزيين و التلبيس.

و أضلعوا المضيق إضلاعا: أى عوّجوه و أمالوه.

و هو ضلع: أى مائل.

و ضلع بفتح اللام: أى معوّج خلقة.

و اللمة بالتخفيف: الجماعة.

و حمّة النيران بالتشديد: معظم حرّها.

و بالتخفيف سمّ العقرب.

المعنى

و قد حمد اللّه تعالى باعتبارين: و هما التوفيق لطاعته الّتي هى سبب الفوز الأكبر و الطرد عن معصيته الّتى هى سبب الخسران الأخسر، و ذلك الذود إمّا بالنواهى أو بحسم أسباب المعاصى و عدم الإعداد لها و الكلّ منه سبحانه. ثمّ سأله أمرين: التمام لما شكره من النعمة نظرا إلى قوله تعالى «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» و الاعتصام بحبله المتين و هو الدين القويم العاصم لمن تمسّك له عن الهوى في مهاوى الهلاك و دركات الجحيم، و أردف ذلك بشهادة الرسالة و شرح حال المرسل صلّى اللّه عليه و آله و سلم في أداء رسالته، و استعار لفظ الغمرة لمعظم الشرور و المكاره المتكافئة المجتمعة حين بعثته صلّى اللّه عليه و آله و سلم ملاحظة لشبهها بغمرة الماء، و رشّح بذكر الخوض، و كنّى به عن مقاساته للمتاعب الكثيرة و ملاقاته للنوائب من المشركين في بدء دعوته، و كنّى بالغصص عن عوارض الغموم له من ملاقاة تلك المكاره، و كنّى بتلوّن الأدنين له عن تغيّر قلوب أقربائه عليه حينئذ بضروب التغيّرات، و تألّب الأقصين عليه اجتماع الأباعد عنه من العرب و انضمامهم من أقصى البلاد إلى حربه. و قوله: و خلعت إليه العرب. إلى قوله: رواحلها. مثلان كنّى بهما عن المسارعة إلى حربه لأنّ أقوى عدوّ الخيل إذا خلعت أعنّتها، و أقوى عدوّ الرواحل إذا ضربت بطونها، و فيه إيماء إلى أنّهم أتوه فرسانا و ركبانا متسرّعين إلى حربه. و قوله: حتّى أنزلت بساحته عداوتها. أى حروبها و شرورها الّتي هى ثمرة العداوة، و أطلق لفظ العداوة على الحرب مجازا إطلاقا لاسم السبب على المسبّب. و من طالع كتب السير يطّلع على ما لاقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في ذات اللّه سبحانه من المشاقّ كاستهزاء قريش به في أوّل الدعوة، و رميهم إيّاه بالحجارة حتّى أدموا عقبيه، و صياح الصبيان به، و فرث الكرش على رأسه، و فتلهم الثوب في عنقه، و حصره هو و أهله في شعب بنى هاشم سنين عدّة محرّمة معاملتهم و مبايعتهم و مناكحتهم و كلامهم حتّى كادوا يتلفون جوعا لو لا بعض من كان يحنو عليهم لرحم أو لسبب آخر فكان يسترق لهم القليل من الدقيق أو التمر فيلقيه إليهم ليلا، ثمّ ضربهم لأصحابه و تعذيبهم بالجوع و الوثاق في الشمس و طردهم إيّاهم عن شعاب مكّة حتّى خرج بعضهم إلى الحبشة و خرج هو عليه السّلام مستجيرا منهم تارة بثقيف و تارة ببنى عامر و تارة بربيعة الفرس و بغيرهم، ثمّ أجمعوا على قتله و الفتك به ليلا حتّى هرب منهم لائذا بالأوس و الخزرج تاركا لأولاده و أهله ناجيا بحشاشة نفسه حتّى وصل إلى المدينة فناصبوا الحرب و رموه بالكتايب و ضربوا إليه آباط الإبل حتّى أكرمه اللّه تعالى و نصره و أيّد دينه و أظهر.
ثمّ عقّب عليه السّلام بالوصيّة بتقوى اللّه و التحذير من المنافقين و تعديد مذاقهم ليعرفوا فيجتنبوا و يحصل النفار عنهم فإنّهم الضالّون: أى المنحرفون عن سبيل اللّه لعدم الاهتداء إليها، المضلّون لغيرهم عنها بالشبهات الباطلة. و كذلك الزالّون المزلّون. و كنّى بتلوّنهم ألوانا عن تغيّراتهم في أقوالهم و أفعالهم من حال إلى حال بحسب أغراضهم الفاسدة فيلقون كلا بوجه و لسان غير الآخر. و كذلك تفتّنهم: أى تشعّب أقوالهم و حالاتهم بحسب تشعّب أغراضهم. و أراد بعمدهم لهم قصدهم لهم بكلّ مكروه على وجه الحيلة و الخدعة، و ترصّدهم لهم بكلّ مرصاد تتّبع وجوه الحيل في هلاكهم بكلّ مكروه على وجه الحيلة. و أراد بقلوبهم دويّة و صفاحهم نقيّة اشتمال نفوسهم على الداء النفسانىّ من الحسد و الحقد و المكر و الخديعة و إعمال الحيلة مع إظهارالبشاشة و الصداقة و المحبّة و النصيحة لهم، و هذا هو الضابط في النفاق، و هو أن يظهر الانسان بلسانه أمراً حسنا محمودا و يبطن خلافه، و أراد بصفاحهم وجوههم، و بنقائها سلامتها عن شرّ ظاهر. و قوله: يمشون الخفاء. كناية عن كون حركاتهم القوليّة و الفعليّة فيما يريدونه في خفاء أفهام الناس، و كذلك قوله: و يدبّون الضراء. و الخفاء و الضراء منصوبان على الظرف.
و هما مثلان لمن يختل غيره و يخدعه. و قوله: وصفهم دواء إلى قوله: العياء. أى أقوالهم أقوال الزاهدين العابدين من الموعظة و الأمر بالتقوى و طاعة اللّه الّذي هو دواء الغىّ و الضلال و شفاء منهما، و أفعالهم أفعال الفاسقين الضالّين من معصية اللّه الّتي هى الداء الأكبر. و العياء: المعيى للأطبّاء. و قوله: حسدة الرخاء. أى إن رأوا لامرء رخاء حسدوه، و مؤكّدو البلاء: أى إن رأوا به بلاء أكّدوه بالسعاية و التأليب عليه. و روى: و مولّدوا. و هو ظاهر. و مقنطوا الرجاء: أى إذا رجا راج أمرا ففى طباعهم أن يقنطوه و يؤيسوه. و هكذا شأن المنافق الكذّاب أن يبعّد القريب و يقرّب البعيد. و قوله: لهم بكلّ طريق صريع. كناية عن كثرة من يقتلونه أو يؤذونه بخديعتهم و مكرهم. و كنّى بالطريق إمّا عن كلّ مقصد قصدوه، أو عن كلّ حيلة احتالوها و مكر مكروه فانّه لابدّ أن يستلزم أذى. و قوله: إلى كلّ قلب شفيع. أى إنّ من شأن المنافق أن يتّخذ إلى كلّ قلب ذريعة و وجها غير الآخر فيكون صديق الكلّ حتّى المتعادين ليتوصّل بذلك إلى إثارة الفتن و ايقاع الشرّ بينهم و هو في نفس الأمر عدوّ الكلّ، و كذلك لهم لكلّ شجو دموع كناية عن توجّعهم لكلّ‏ شجو و توصّلهم بذلك إلى أغراضهم و إن كانوا لأهل الشجو أعداء. و قوله: يتقارضون الثناء و يتراقبون الجزاء. أى يثنى أحدهم على الآخر ليثنى الآخر عليه، و يترقّب كلّ منهم الجزاء من صاحبه على ثنائه. و قوله: إن سألوا ألحفوا. أى ألحّوا في السؤال و هو من المذامّ كما قال تعالى «لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً»«». و قوله: و إن عذلوا كشفوا. أى إذا عذلك أحدهم كشف لك عيوبك في ذلك العذل و جبّهك بها و ربّما ذكرها بمحضر من لا تحبّ ذكرها معه و ليسوا كالناصحين الّذين يعرضون بالذنب عند العتاب تعريضا لطيفا دون التصريح، و إذا حكموا أسرفوا: أى إذا ولّى أحدهم ولاية أسرف فيها بالظلم و الانهماك في مأكله و مشربه و عبر في قينات الدنيا إلى حدّ الإفراط من فضيلة العدل. و ذلك لجهله بالعواقب و تصوّره أن لا غاية أشرف ممّا هو فيه، قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا: أى من الشبه يموّهون عليه و يغطّونه بها، و لكلّ حىّ قاتلا: أى سببا يميتونه به. و الحىّ أعمّ من الإنسان هنا بل كلّ أمر يحيى و يقوم إذا أرادوا فساده، و لكلّ باب مفتاحا من الحيل و الخديعة و لفظ المفتاح مستعار، و لكلّ ليل مصباحا و لفظ الليل مستعار لما أشكل من الأمور و أظلم. و كذلك لفظ المصباح للرأى الّذي يدخلون به في ذلك الأمر و يهتدون إلى وجهه به كرأى عمرو بن العاص على معاوية ليلة الهرير برفع المصاحف و دعوتهم أهل العراق أن يحاكموهم إلى كتاب اللّه فلم يكن لذلك المشكل إلّا ذلك الرأى الصعب، و يتوصّلون إلى الطمع باليأس: أى بإظهار اليأس عمّا في أيدى الناس و الزهد فيه كما يفعله كثير من زهّاد الوقت.
و وصفهم بأخذ الشي‏ء بضدّه أبلغ ما يكون في وصف النفاق و الحيلة. و قوله: ليقيموا به أسواقهم.

استعار لفظ الأسواق لأحوالهم في معاملة الخلق من أخذ و إعطاء فإنّ فعلهم ذلك يقيمها بين الناس و يروّجها عليهم. و كذلك ينفقوا به أعلاقهم. و لفظ الأعلاق مستعار لما يزعمون أنّه نفيس من آرائهم و حركاتهم الخارجة عن أوامر اللّه. و قوله: يقولون. إلى قوله. فيوهّمون. أى يوقعون بأقوالهم الشبه في القلوب و يوهّمون عليهم الباطل بصورة الحقّ. و قوله: قد هوّنوا الطريق. أى قد عرفوا كيف يسلكون في مقاصدهم من الآراء و الحيل، و أضلعوا الطريق: عوّجوا مضائقها. و كنّى بمضائقها عن دقائق المداخل في الامور، و بتعويجها عن أنّهم إذا أرادوا الدخول في أمر مضيّق أظهروا أنّهم يريدون غيره تعمية على الغير و تلبيسا أن يقف على وجه الحيلة فيفسد مقصودهم. و قوله: فهم لمة الشيطان. أى جماعته و أتباعه. و حمّة النيران مستعار لمعظم شرورهم. و وجه المشابهة استلزامها للأذى البالغ. و كذلك حمة بالتخفيف.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 426

خطبه 184 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

روى أن صاحبا لأمير المؤمنين عليه السلام- يقال له: همام- كان رجلا عابدا، فقال له: يا أمير المؤمنين، صف لى المتقين حتى كأنى أنظر إليهم فتثاقل عليه السلام عن جوابه، ثم قال: يا همّام اتّق اللّه و أحسن فإنّ اللّه مع الّذين اتّقوا و الّذين هم محسنون) فلم يقنع همام بهذا القول حتى عزم عليه، فحمد اللّه و أثنى عليه، و صلّى على النبي صلّى اللّه عليه و آله، ثم قال: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ- غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ- لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ- وَ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ‏ أَطَاعَهُ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ- وَ وَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ- فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ- مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَ مَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ وَ مَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ- غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ- وَ وَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ- نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ- كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ- وَ لَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ- لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ- شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَ خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ- عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ- فَهُمْ وَ الْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ- وَ هُمْ وَ النَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ- قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَ شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ- وَ أَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ وَ حَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَ أَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ- صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً- تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ- أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا- وَ أَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا- أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ- تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا- يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ- فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً- وَ تَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَ ظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ- وَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ- أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ- وَ ظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَ شَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ- فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ- مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَ أَكُفِّهِمْ وَ رُكَبِهِمْ وَ أَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ- يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ- وَ أَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ- قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ- يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى- وَ مَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَ يَقُولُ قَدْ خُولِطُوا- وَ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ- لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ- وَ لَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ- فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ- إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ- أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَ رَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي- اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ- وَ اجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ وَ اغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ- وَ حَزْماً فِي لِينٍ وَ إِيمَاناً فِي يَقِينٍ وَ حِرْصاً فِي عِلْمٍ- وَ عِلْماً فِي حِلْمٍ وَ قَصْداً فِي غِنًى وَ خُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ- وَ تَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ وَ صَبْراً فِي شِدَّةٍ وَ طَلَباً فِي حَلَالٍ- وَ نَشَاطاً فِي هُدًى وَ تَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ- يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَ هُوَ عَلَى وَجَلٍ- يُمْسِي وَ هَمُّهُ الشُّكْرُ وَ يُصْبِحُ وَ هَمُّهُ الذِّكْرُ- يَبِيتُ حَذِراً وَ يُصْبِحُ فَرِحاً- حَذِراً لِمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ- وَ فَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَ الرَّحْمَةِ- إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ- لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ- قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وَ زَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى- يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَ الْقَوْلَ بِالْعَمَلِ- تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلًا زَلَلُهُ خَاشِعاً قَلْبُهُ- قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلًا أَمْرُهُ- حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ- الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَ الشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ- إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ- وَ إِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ- يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَ يُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ- وَ يَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ بَعِيداً فُحْشُهُ- لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ- مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ- فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَ فِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ- وَ فِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ- وَ لَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ- يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ- لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَ لَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ- وَ لَا يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ وَ لَا يُضَارُّ بِالْجَارِ- وَ لَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ وَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ- وَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ- إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وَ إِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ- وَ إِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ- نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ- أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ وَ أَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ- بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَ نَزَاهَةٌ- وَ دُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَ رَحْمَةٌ- لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَ عَظَمَةٍ وَ لَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَ خَدِيعَةٍ- قَالَ فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا- فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع‏

أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ- ثُمَّ قَالَ أَ هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا- فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ- فَقَالَ ع وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ- وَ سَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا- فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ

المعنى

أقول: و من هاهنا اختلفت نسخ النهج فكثير منها تكون هذه الخطبة فيها أوّل المجلد الثاني منه بعد الخطبة المسمّاة بالقاصعة، و يكون عقيب كلامه للبرج بن مسهر الطائى قوله: و من خطبة له عليه السّلام الحمد للّه الّذى لا تدركه الشواهد و لا تحويه المشاهد، و كثير من النسخ تكون هذه الخطبة فيها متّصلة بكلامه عليه السّلام للبرج بن مسهر و يتأخّر تلك الخطبة فيكون بعد قوله: و من كلامه له عليه السّلام و هو يلي غسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يتّصل ذلك إلى تمام الخطبة المسمّاة بالقاصعة. ثمّ يليه قوله: باب المختار من كتب أمير المؤمنين و رسائله، و عليه جماعة الشارحين كالإمام قطب الدين أبى الحسن الكيدرىّ و الفاضل عبد الحميد بن أبى الحديد، و وافقتهم هذا الترتيب لغلبة الظنّ باعتمادهم على النسخ الصحيحة. فأمّا همام هذه فهو همام بن شريح بن يزيد بن مرّة بن عمرو بن جابر بن عوف الأصهب، و كان من شيعة على عليه السّلام، و أوليائه ناسكا عابدا، و تثاقله عليه السّلام عن جوابه لما رأى من استعداد نفسه لأثر الموعظة، و خوفه عليه أن يخرج به خوف اللّه إلى انزعاج نفسه و صعوقها. فأمره بتقوى اللّه: أى في نفسه أن يصيبها فادح بسبب سؤاله، و أحسن: أى أحسن إليها بترك تكليفها فوق طوقها، و لذلك قال عليه السّلام حين صعق همام: أما و اللّه لقد كنت أخافها عليه. فحيث لم يقنع همام إلّا بما سأل، و عزم عليه بذلك: أى ألحّ عليه في‏ السؤال و أقسم، أجابه.

فإن قلت: كيف جاز منه عليه السّلام أن يجيبه مع غلبة ظنّه بهلاكه و هو كالطبيب إنّما يعطى كلّا من المرضى بحسب احتمال طبيعته من الدواء.
قلت: إنّه لم يكن يغلب على ظنّه عليه السّلام إلّا الصعقة عن الوجد الشديد فأمّا أنّ تلك الصعقة فيها موته فلم يكن مظنونا له. و إنّما قدّم بيان كونه تعالى غنيّا عن الخلق في طاعتهم و آمنا منهم في معصيتهم لأنّه لمّا كانت أوامره تعالى بأسرها أو أكثرها يعود إلى الأمر بتقواه و طاعته و كان أشرف ما يتقرّب إليه البشر بالتقوى، و هو في معرض صفة المتّقين فرّبما خطر ببعض أوهام الجاهلين أنّ للّه تعالى في تقواه و طاعته منفعة، و له بمعصيته مضرّة فصدّره الخطبة بتنزيهه تعالى عن الانتفاع و التضرّر. و قد مرّ برهان ذلك غير مرّة. و قوله: فقسم. إلى قوله: مواضعهم. تقرير و تأكيد لكمال غناه عنهم لأنّه إذا كان وجوده هو مبدء خلقهم و قسمة معايشهم و وضعهم من الدنيا في مراتبهم و منازلهم من غنىّ و فقير و شريف و وضيع فهو الغنىّ المطلق عنهم، و إليه الإشارة بقوله تعالى «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ»«» ثمّ أخذ في غرض الخطبة، و هو وصف المتّقين فوصفهم بالوصف المجمل.

فقال: فالمتّقون فيها هم أهل الفضايل: أى الّذين استجمعوا الفضايل المتعلّقة بإصلاح قوّتى العلم و العمل،
ثمّ شرع في تفصيل تلك الفضايل و نسقها:

فالاولى: الصواب في القول
و هو فضيلة العدل المتعلّقة باللسان، و حاصله أن لا يسكت عمّا ينبغي أن يقال فيكون مفرّطا، و لا يقول ما ينبغي أن يسكت عنه فيكون مفرطا بل يضع كلّا من الكلام في موضعه اللايق به، و هو أخصّ من الصدق لجواز أن يصدق الإنسان فيما لا ينبغي من القول.

الثانية: و ملبسهم الاقتصاد
و هو فضيلة العدل في الملبوس فلا يلبس ما يلحقه‏ بدرجة المترفين، و لا ما يلحقه بأهل الخسّة و الدناءة ممّا يخرج به عن عرف الزاهدين في الدنيا.

الثالثة: مشى التواضع
و التواضع ملكة تحت العفّة تعود إلى العدل بين رذيلتى المهانة و الكبر، و مشى التواضع مستلزم للسكون و الوقار عن تواضع نفسهم.

الرابعة: غضّ الأبصار عمّا حرّم اللّه
و هو ثمرة العفّة.

الخامسة: و قوفهم أسماعهم على سماع العلم النافع
و هو فضيلة العدل في قوّة السمع، و العلوم النافعة ما هو كمال القوّة النظريّة من العلم الإلهى و ما يناسبه، و ما هو كمال للقوّة العمليّة و هى الحكمة العمليّة كما سبق بيانها.

السادسة: نزول أنفسهم منهم في البلاء كنزولها في الرخاء
أى لا تقنط من بلاء ينزل بها و لا يبطر برخاء يصيبها بل مقامها في الحالين مقام الشكر. و الّذى صفة مصدر محذوف، و الضمير العايد إليه محذوف أيضا، و التقدير نزلت كالنزول الّذى نزلته في الرخاء، و يحتمل أن يكون المراد بالّذى الّذين محذف النون كما في قوله تعالى «كَالَّذِينَ مِنْ» و يكون المقصود تشبيههم حال نزول أنفسهم منهم في البلاء بالّذين نزلت أنفسهم منهم في الرخاء، و المعنى واحد.

السابعة: غلبة الشوق إلى ثواب اللّه و الخوف من عقابه على نفوسهم
إلى غاية أنّ أرواحهم لا تستقرّ في أجسادهم من ذلك لولا الآجال الّتي كتبت لهم، و هذا الشوق و الخوف إذا بلغ إلى حدّ الملكة فإنّه يستلزم دوام الجدّ في العمل و الإعراض عن الدنيا، و مبدءهما تصوّر عظمة الخالق، و بقدر ذلك يكون تصوّر عظمة وعده و وعيده، و بحسب قوّة ذلك التصوّر يكون قوّة الخوف و الرجاء، و هما بابان عظيمان للجنّة.

الثامنة: عظم الخالق في أنفسهم
و ذلك بحسب الجواذب الإلهيّة إلى الاستغراق في معرفته و محبّته، و بحسب تفاوت ذلك الاستغراق يكون تفاوت تصوّر العظمة، و بحسب تصوّر عظمته تعالى يكون تصوّرهم لأصغريّة ما دونه و نسبته إليه في أعين بصائرهم.

و قوله: فهم و الجنّة كمن رآها. إلى قوله: معذّبون. إشارة إلى أنّ العارف و إن كان في الدنيا بجسده فهو في مشاهدته بعين بصيرته لأحوال الجنّة و سعادتها و أحوال النار و شقاوتها كالّذين شاهدوا الجنّة بعين حسّهم و تنعّموا فيها، و كالّذين شاهدوا النار و عذّبوا فيها. و هى مرتبة عين اليقين. فحسب هذه المرتبة كانت شدّة شوقهم إلى الجنّة و شدّة خوفهم من النار.

التاسعة: حزن قلوبهم
و ذلك ثمرة خوف الغالب.

العاشرة: كونهم مأمونى الشرّ
و ذلك أنّ مبدء الشرور محبّة الدنيا و أباطيلها و العارفون بمعزل عن ذلك.

الحادية عشر: نحافة أجسادهم
و مبدء ذلك كثرة الصيام و السهر و جشوبة المطعم و خشونة الملبس و هجر الملاذّ الدنيويّة.

الثانية عشر: خفّة حاجتهم
و ذلك لاقتصارهم من حوائج الدنيا على القدر الضرورىّ من ملبس و مأكل، و لا أخفّ من هذه الحاجة.

الثالثة عشر: عفّة أنفسهم
و ملكة العفّة فضيلة القوّة الشهويّة، و هى الوسط بين رذيلتى خمود الشهوة و الفجور.

الرابعة عشر: الصبر على المكاره أيّام حياتهم من ترك الملاذّ الدنيويّه، و احتمال أذى الخلق، و قد عرفت أنّ الصبر مقاومة النفس الأمّارة بالسوء لئلّا ينقاد إلى قبائح اللذّات، و إنّما ذكر قصر مدّة الصبر و استعقابه للراحة الطويلة ترغيبا فيه، و تلك الراحة بالسعادة في الجنّة كما قال تعالى «وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً» الآية. و قوله: تجارة مربحة. استعار لفظ التجارة لأعمالهم الصالحة و امتثال أوامر اللّه، و وجه المشابهة كونهم متعوّضين بمتاع الدنيا و بحركاتهم في العبادة متاع الآخرة، و رشّح بلفظ الربح لأفضليّة متاع الآخرة و زيادته في النفاسة على ما تركوه، و ظاهر أنّ ذلك بتيسير اللّه لأسبابه و إعدادهم له بالجواذب الإلهيّة.

الخامسة عشر: عدم إرادتهم للدنيا مع إرادتها لهم
و هو إشارة إلى الزهد الحقيقىّ، و هو ملكة تحت العفّة، و كنّى بإرادتها عن كونهم أهلا لأن يكونوا فيها رؤساءاً و أشرافا كقضاة و وزراء و نحو ذلك، و كونها بمعرض أن تصل إليهم لو أرادوها، و يحتمل أن يريد أرادهم أهل الدنيا فحذف المضاف.

السادسة عشر: افتداء من أسرته لنفسه منها
و هو إشارة إلى من تركها و زهد فيها بعد الانهماك فيها و الاستمتاع بها ففكّ بذلك الترك و الإعراض و التمرّن على طاعة اللّه أغلال الهيئات الرديئة المكتسبة منها من عنقه، و لفظ الأسر استعارة في تمكّن تلك الهيئات من نفوسهم، و لفظ الفدية استعارة لتبديل ذلك الاستمتاع بها بالإعراض عنها و المواظبة على طاعة اللّه، و إنّما عطف بالواو في قوله: و لم يريدوها، و بالفاء في قوله: ففدوا. لأنّ زهد الإنسان في الدنيا كما يكون متأخّرا عن إقبالها عليه كذلك قد يكون متقدّما عليه لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و من جعل الآخرة أكبر همّه جمع اللّه عليه همّه و أتته الدنيا و هى راغمة. فلم يحسن العطف هنا بالفاء، و أمّا الفدية فلمّا لم يكن إلّا بعد الأسر لا جرم عطفها بالفاء.

السابعة عشر: كونهم صافيّن أقدامهم بالليل يتلون القرآن و يرتّلونه.
إلى قوله: آذانهم. و ذلك إشارة إلى تطويع نفوسهم الأمّارة بالسوء بالعبادات، و شرح لكيفيّة استثارتهم للقرآن العزيز في تلاوته و غاية ترتيلهم له بفهم مقاصده و تحزينهم لأنفسهم به عند ذكر الوعيدات من جملة استثارتهم لإدواء دائهم، و لمّا كان داؤهم هو الجهل و سائر رذائل العمليّة كان دواء الجهل بالعلم، و دواء كلّ رذيلة الحصول على الفضيلة المضادّة. فهم بتلاوة القرآن يستثيرون بالتحزين الخوف من وعيد اللّه المضادّ للانهماك في الدنيا، و دوائه العلم الّذى هو دواء الجهل، و كذلك كلّ فضيلة حثّ القرآن عليها فهى دواء لما يضادّها من الرذائل، و باقى الكلام شرح لكيفيّة التحزين و التشويق. و قوله: فهم حانون على أوساطهم. ذكر لكيفيّة ركوعهم.

و قوله: مفترشون لجباههم. إلى قوله: أقدامهم. إشارة إلى كيفيّة سجودهم، و ذكر الأعضاء السبعة. و قوله: يطّلبون. إلى قوله: رقابهم. إشارة إلى غايتهم من عبادتهم تلك.

الثامنة عشر:- من صفات النهار- كونهم حكماء
و أراد الحكمة الشرعيّة و ما فيها من كمال القوّة العلميّة و العمليّة لكونها المتعارفة بين الصحابة و التابعين، و روى: حلماء. و الحلم فضيلة تحت ملكة الشجاعة هى الوسط بين رذيلتى المهانة و الإفراط في الغضب، و إنّما خصّ الليل بالصلاة لكونها أولى بها من النهار كما سبق.

التاسعة عشر: كونهم علماء
و أراد كمال القوّة النظريّة بالعلم النظرىّ و هو معرفة الصانع و صفاته.

العشرون: كونهم أبرار
و البرّ يعود إلى العفيف لمقابلته الفاجر.

الحادية و العشرون: كونهم أتقياء
و المراد بالتقوى هاهنا الخوف من اللّه. و قد مرّ ذكر العفّة و الخوف، و إنّما كرّرها هنا في إعداد صفاتهم بالنهار و ذكرها هناك في صفاتهم المطلقة.
قوله: و قد براهم الخوف. إلى قوله: عظيم. شرح لفعل الخوف الغالب بهم، و إنّما يفعل الخوف ذلك لاشتغال النفس المدبّرة للبدن به عن النظر في صلاح البدن، و وقوف القوّة الشهويّة و الغاذيّة عن إدّاء بدل ما يتحلّل، و شبّه برى الخوف لهم ببرى القداح و وجه التشبيه شدّة النحافة، و يتبع ذلك تغيّر السحنات و الضعف عن الانفعالات النفسانيّة من الخوف و الحزن حتّى يحسبهم الناظر مرضى و إن لم يكن بهم مرض، و يقول قد خولطوا إشارة إلى ما يعرض لبعض العارفين عند اتّصال نفسه بالملأ الأعلى و اشتغالها عن تدبير البدن و ضبط حركاته من أن يتكلّم بكلام خارج عن المتعارف مستبشع بين أهل الشريعة الظاهرة فينسب ذلك منه إلى الاختلاط و الجنون و تارة إلى الكفر و الخروج عن الدين كما نقل عن الحسين بن منصور الحلّاج و غيره.
و قوله: و لقد خالطهم أمر عظيم. و هو اشتغال أسرارهم بملاحظة جلال اللّه و مطالعة أنوار الملأ الأعلى.

الثانية و العشرون: كونهم لا يرضون القليل.
إلى قوله: الكثير، و ذلك لتصوّرهم شرف غايتهم المقصودة بأعمالهم. و قوله: فهم لأنفسهم متّهمون. إلى قوله: ما لا يعلمون. فتهمتهم لأنفسهم و خوفهم من أعمالهم يعود إلى شكّهم فيما يحكم به أوهامهم من حسن عبادتهم، و كونها مقبولة أو واقعة على الوجه المطلوب الموصل إلى اللّه تعالى فإنّ هذا الوهم يكون مبدءا للعجب بالعبادة و التقاصر عن الازدياد من العمل.
و التشكّك في ذلك و تهمة النفس بانقيادها في ذلك الحكم للنفس الأمّارة يستلزم خوفها أن تكون تلك الأعمال قاصرة عن الوجه المطلوب و غير واقعة عليه فيكون باعثا على العمل و كاسرا للعجب به، و قد عرفت أن العجب من المهلكات كما قال عليه السّلام: ثلاث مهلكات: شحّ مطاع و هوى متّبع و إعجاب المرء بنفسه. و كذلك خوفهم من تزكية الناس لهم هو الدواء لما ينشأ عن تلك التزكية من الكبر و العجب بما يزكّون به. فيكون جواب أحدهم عند تزكيته: إنّى أعلم بنفسى من غيرى. إلى آخره.

ثمّ شرع بعد ذلك في علاماتهم الّتي بجملتها يعرف أحدهم.
و الصفات السابقة و إن كان كثير منها مما يخصّ أحدهم و يعرف به إلّا أنّ بعضها قد يدخله الرياء فلا يدخل على التقوى الحقّة فجمعها هاهنا و نسقها:

فالأولى: القوّة في الدين
و ذلك أن يقاوم في دينه الوسواس الخنّاس و لا يدخل فيه خداع الناس، و هذا إنّما يكون في دين العالم.

الثانية: الحزم في الأمور
الدنيويّة و التثبّت فيها ممزوجا باللين للخلق و عدم الفظاظة عليهم كما في المثل: لا تكن حلوا فتسترط و لا مرّا فتلفظ. و هى فضيلة العدل في المعاملة مع الخلق، و قد علمت أنّ اللين قد يكون للتواضع المطلوب بقوله‏ «وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»«» و قد يكون عن مهانة و ضعف يقين، و الأوّل هو المطلوب و هو المقارن للحزم في الدين و مصالح النفس، و الثاني رذيلة و لا يمكن معه الحزم لانفعال المهين عن كلّ جاذب.

الثالثة: الإيمان في اليقين
و لمّا كان الإيمان عبارة عن التصديق بالصانع و بما وردت به الشريعة، و كان ذلك التصديق قابلا للشدّة و الضعف، فتارة يكون عن التقليد و هو الاعتقاد المطابق لا لموجب، و تارة يكون عن العلم و هو الاعتقاد المطابق لموجب هو الدليل، و تارة عن العلم به مع العلم بأنّه لا يكون إلّا كذلك، و هو علم اليقين- و محقّقوا الساكين لا يقفون عند هذه المرتبة بل يطلبون اليقين بالمشاهدة بعد طرح حجب الدنيا و الإعراض عنها- أراد أنّ علمهم علم يقين لا يتطرّق إليه احتمال.

الرابعة:
الحرص في العلم و الازدياد منه.

الخامسة: مزج العلم و هو فضيلة القوّة الملكيّة بالحلم
و هو من فضايل القوّة السبعيّة.

السادسة: القصد في الغنى
و هو فضيلة العدل في استعمال متاع الدنيا و حذف الفضول عن قدر الضرورة.

السابعة: الخشوع في العبادة
و هو من ثمرة الفكر في جلال المعبود و ملاحظة عظمته الّذي هو روح العبادة.

الثامنة: التحمّل في الفاقه
و ذلك بترك الشكوى إلى الخلق و الطلب منهم، و إظهار الغنى عنهم. و ذلك ينشأ عن القناعة و الرضا بالقضاء و علوّا الهمّة، و يعين على ذلك ملاحظة الوعد الأجلّ و ما اعدّ للمتّقين.

التاسعة:
و كذلك الصبر في الشدّة.

العاشرة:
الطلب في الحلال، و ينشأ عن العفّة.

الحادية عشر: النشاط في الهدى
و سلوك سبيل اللّه. و ينشأ عن قوّة الاعتقاد فيما وعد المتّقون و تصوّر شرف الغاية.

الثانية عشر: عمل الصالحات على وجل
أى من أن يكون على غير الوجه اللايق فلا يقبل كما روى عن زين العابدين عليه السّلام أنّه كان في التلبية و هو على راحلته فخرّ مغشيّاً عليه فلمّا أفاق قيل له ذلك. فقال: خشيت أن يقول لي ربّى: لا لبّيك و لا سعديك.

الثالثة عشر: أن يكون همّهم عند المساء الشكر
على ما رزقوا بالنهار و ما لم يرزقوا، و يصبحوا و همّهم الذكر للّه ليذكرهم فيرزقهم من الكمالات النفسانيّة و البدنيّة كما قال تعالى «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ».

الرابعة عشر: أن يبيت حذرا و يصبح فرحا. إلى قوله: الرحمة
تفسير لمحذور و ما به الفرح، و ليس مقصوده تخصيص البيات بالحذر و الصباح بالفرح كما يقول أحدنا يمسى فلان و يصبح حذرا فرحا، و كذلك تخصيصه الشكر بالمساء و الذكر بالصباح يحتمل أن لا يكون مقصودا.

الخامسة عشر: قوله إن استصعبت. إلى قوله: تحبّ.
إشارة إلى مقاومته لنفسه الأمّارة بالسوء عند استصعابها عليه، و قهره لها على ما تكره و عدم مطاوعته لها في ميولها الطبيعيّة و محابّها.

السادسة عشر: أن يرى قرّة عينه فيما لا يزول
من الكمالات النفسانيّة الباقية كالعلم و الحكمة و مكارم الأخلاق المستلزمة للذّات الباقية و السعادة الدائمة، و قرّه عينه كناية عن لذّته و ابتهاجه لاستلزامها لقرار العين و بردها برؤية المطلوب، و زهادته فيما لا يبقى من متاع الدنيا.

السابعة عشر: أن يمزج بالحلم العلم
فلا يجهل و يطيش، و القول بالعمل فلا يقول ما لا يفعل فلا يأمر بمعروف و يقف دونه و لا ينهى عن منكر ثمّ يفعله، و لا يعد فيخلف فيدخل في مقت اللّه كما قال تعالى «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ».

الثامنة عشر: قصر أمله و قربه
و ذلك لكثرة ذكر الموت و الوصول إلى اللّه.

التاسعة عشر: قلّة زلله
قد عرفت أنّ زلل العارفين يكون من باب ترك الأولى‏ لأنّ صدور الخيرات عنهم صادر ملكة و الجواذب فيهم إلى الزلل و الخطيئات نادرة تكون لضرورة منهم أو سهو، و لا شكّ في قلّته.

العشرون: خشوع قلبه
عن تصوّر عظمته المعبود و جلاله.

الحادية و العشرون: قناعة نفسه
و ينشأ عن ملاحظة حكمة اللّه في قدرته و قسمته الأرزاق، و يعين عليها تصوّر فوائدها الحاضرة و غايتها في الآخرة.

الثانية و العشرون: قلّة أكله
و ذلك لما يتصوّر في البطنة من ذهاب الفطنة و زوال الرقّة و حدوث القسوة و الكسل عن العمل.

الثالثة و العشرون: سهولة أمره
أى لا يتكلّف لأحد و لا يكلّف أحدا.

الرابعة و العشرون: حرز دينه
فلا يهمل منه شيئا و لا يطرق إليه خللا.

الخامسة و العشرون: موت شهوته
و لفظ الموت مستعار لخمود شهوته عمّا حرّم عليه. و يعود إلى العفّة.

السادسة و العشرون: كظم غيظه
و هو من فضائل القوّة الغضبيّة.

السابعة و العشرون: كونه مأمول الخير
و ذلك لأكثريّة خيريّته، مأمون الشرور و ذلك لعلم الخلق بعدم قصده للشرور.

الثامنة و العشرون: قوله: إن كان في الغافلين.
إلى قوله: الغافلين: أى إن رآه الناس في عداد الغافلين عن ذكر اللّه لتركه الذكر باللسان كتب عند اللّه من الذاكرين لاشتغال قلبه بالذكر و إن تركه بلسانه، و إن كان من الذاكرين بلسانه بينهم فظاهر أنّه لا يكتب من الغافلين. و لذكر اللّه ممادح كثيرة و هو باب عظيم من أبواب الجنّة و الاتّصال لجناب اللّه، و قد أشرنا إلى فضيلته و أسراره.

التاسعة و العشرون: عفوه عمّن ظلمه
و العفو فضيلة تحت الشجاعة، و خصّ من ظلمه ليتحقّق عفوه مع قوّة الداعى إلى الانتقام.

الثلاثون: و يعطى من حرمه
و هى فضيلة تحت السخاء.

الحادية و الثلاثون: و يصل من قطعه
و المواصلة فضيلة تحت العفّة.

الثانية و الثلاثون: بعد فحشه
و أراد ببعد الفحش عنه أنّه قلّما يخرج في‏ أقواله إلى ما لا ينبغي.

الثالثة و الثلاثون: ليّنة في القول
عند محاورة الناس و وعظهم و معاملتهم، و هو من أجزاء التواضع.

الرابعة و الثلاثون: غيبة منكره
و حضور معروفه، و ذلك للزومه حدود اللّه.

الخامسة و الثلاثون: إقبال خيره و إدبار شرّه
و هو كقوله: الخير منه مأمول و الشرّ منه مأمون، و يحتمل باقبال خيره أخذه في الازدياد من الطاعة و تشميره فيها، و بقدر ذلك يكون إدباره عن الشرّ لأنّ من استقبل أمرا و سعى فيه بعد عمّا يضادّه و أدبر عنه.

السادسة و الثلاثون: وقاره في الزلازل
و كنّى بها عن الامور العظام و الفتن الكبار المستلزمة لاضطراب القلوب و أحوال الناس. و الوقار ملكة تحت الشجاعة.

السابعة و الثلاثون: كثرة صبره في المكاره
و ذلك عن ثباته و علوّ همّته عن أحوال الدنيا.

الثامنة و الثلاثون: كثرة شكره في الرخاء
و ذلك لمحبّة المنعم الأوّل- جلّت قدرته- فيزداد شكره في رخائه و إن قلّ.

التاسعة و الثلاثون: كونه لا يحيف على من يبغض
و هو سلب للحيف و الظلم مع قيام الداعى إليهما و هو البغض لمن يتمكّن من حيفه و ظلمه.

الأربعون: كونه لا يأثم فيمن يحبّ
و هو سلب لرذيلة الفجور عنه باتّباع الهوى فيمن يحبّ إمّا بإعطائه ما لا يستحقّ أو دفع ما يستحقّ عليه عنه كما يفعله قضاة السوء و امراء الجور. فالمتّقى لا يأثم بشي‏ء من ذلك مع قيام الداعى إليه و هو المحبّة لمن يحبّه بل يكون على فضيلة العدل في الكلّ على السواء.

الحادية و الأربعون: اعترافه بالحقّ قبل أن يشهدوا عليه
و ذلك لتحرّزه في دينه من الكذب. إذ الشهادة إنّما يحتاج إليها مع إنكار الحقّ، و ذلك كذب.

الثانية و الأربعون: كونه لا يضيع أماناته و لا يفرط فيما استحفظه
اللّه من دينه و كتابه، و ذلك لورعه و لزوم حدود اللّه.

الثالثة و الأربعون: و لا ينسى ما ذكر
من آيات اللّه و عبره و أمثاله و لا يترك‏ العمل بها، و ذلك لمداومته ملاحظتها و كثرة إخطارها بباله و العمل بها لغايته المطلوبة منه.

الرابعة و الأربعون: و لا ينابز بالألقاب
و ذلك لملاحظته النهى في الذكر الحكيم «وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ»«» و لسرّ ذلك النهى و هو كون ذلك مستلزما لإثارة الفتن و التباغض بين الناس، و الفرقة المضادّة لمطلوب الشارع.

الخامسة و الأربعون: و لا يضارّ بالجار
لملاحظة وصيّة اللّه تعالى «وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ»«» و وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في المرفوع إليه: أوصانى ربّى بالجار حتّى ظننت أنّه يورّثه، و لغاية ذلك و هى الالفة و الاتّحاد في الدين.

السادسة و الأربعون: و لا يشمت بالمصائب
و ذلك لعلمه بأسرار القدر، و ملاحظته لأسباب المصائب، و أنّه في معرض أن تصيبه فيتصوّر أمثالها في نفسه فلا يفرح بنزولها على غيره.

السابعة و الأربعون: أنّه لا يدخل الباطل و لا يخرج عن الحقّ
أى لا يدخل فيما يبعّد عن اللّه تعالى من باطل الدنيا و لا يخرج عمّا يقرّب إليه من مطالبه الحقّة، و ذلك لتصوّر شرف غايته.

الثامنة و الأربعون: كونه لا يغمّه صمته
لوضعه كلّا من الصمت و الكلام في موضعه، و إنّما يستلزم الغمّ الصمت عمّا ينبغي من القول و هو صمت في غير موضعه.

التاسعة و الأربعون: كونه لا يعلو ضحكه
و ذلك لغلبة ذكر الموت و ما بعده على قلبه، و ممّا نقل من صفات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم: كان أكثر ضحكه التبسّم، و قد يفتر أحيانا، و لم يكن من أهل القهقهة و الكركرة. و هما كيفيّتان للضحك.

الخمسون: صبره في البغى عليه إلى غاية انتقام اللّه له
و ذلك منه نظرا إلى ثمرة الصبر و إلى الوعد الكريم ذلك «ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ»«» الآية و قوله «وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ».

الحادية و الخمسون: كون نفسه منه في عناء
أى نفسه الأمّارة بالسوء لمقاومته‏ لها و قهرها و مراقبته إيّاها، و الناس من أذاه في راحة لذلك.

الثانية و الخمسون: كون بعده عمّن تباعد عنه لزهده
فيما في أيدى الناس و نزاهته عنه لا عن كبر و تعظيم عليهم، و كذلك دنوّه ممن دنا منه عن لين و رحمة منه لهم لا بمكر بهم و خديعة لهم عن بعض المطالب كما هو عادة الخبيث المكّار.

و هذه الصفات و العلامات قد يتداخل بعضها بعضا، و لكن تورد بعبارة أخرى أو يذكر مفردة ثمّ يذكر ثانيا مركّبة مع غيرها. و بالجملة فهذه الخطبة من جليل و بليغ وصفه و لذلك فعلت بهمّام ما فعلت. فأمّا جوابه عليه السّلام لمن سأله بقوله: ويحك إنّ لكلّ أجل وقتا لا يعدوه: أى ينتهى إليه و يكون غاية له لا يتجاوزها و لا يتأخّر عنها، و الضمير في يعدوه للأجل. و سببا لا يتجاوزه: أى و لذلك الأجل سبب: أى علّة فاعلة لا يتعدّاها إلى غيرها من الأسباب فمنها ما يكون موعظة بالغة كهذه. فهو جواب مقنع للسامع مع أنّه حقّ و صدق، و هو إشارة إلى السبب الأبعد لبقائه عليه السّلام عند سماع المواعظ البالغة و هو الأجل المحكوم به للقضاء الإلهىّ، و أمّا السبب القريب للفرق بينه و بين همّام و نحوه فقوّة نفسه القدسيّة على قبول الواردات الإلهيّة و تعوّده بها و بلوغ رياضته حدّ السكينة عند ورود أكثرها و ضعف نفس همّام عمّا ورد عليه من خوف اللّه و رجائه. و لم يجب عليه السّلام بمثل هذا الجواب لاستلزامه تفضيل نفسه، أو لقصور فهم السائل. و نهيه له عن مثل هذا السؤال و التنفير عنه كونه من نفثات الشيطان لوضعه في غير موضعه و هو من آثار الشيطان. و باللّه العصمة و التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 410

 

خطبه 183 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

قاله للبرج بن مسهر الطائى، و قد قال له بحيث يسمعه: «لا حكم إلا للّه»، و كان من الخوارج

اسْكُتْ قَبَحَكَ اللَّهُ يَا أَثْرَمُ- فَوَاللَّهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ فَكُنْتَ فِيهِ ضَئِيلًا شَخْصُكَ- خَفِيّاً صَوْتُكَ حَتَّى إِذَا نَعَرَ الْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِزِ

 

اللغة

أقول: هو البرج بالباء المضمومة و الجيم.

و قبّحه اللّه: نحّاه عن الخير.

و أثرم: ساقط الثنية.

و الضئيل: الصغير الحقير النحيف.

و نعر: صاح.

و نجم: طلع.

المعنى

و كان البرج شاعرا مشهورا من شعراء الخوارج نادى بشعارهم بحيث يسمعه عليه السّلام فزجره و قبّحه و دعاه بآفته إهانة له و انتقاصا كما هو العادة في إهانة ذوى العاهات بذكر آفاتهم، و كنّى بضئولة شخصه عند ظهور الحقّ عن حقارته في زمن العدل بين الجماعة و خمول ذكره- و ظهور الحقّ زمان قوّة الإسلام و قبل ظهور الفتن و قوّة الباطل- ، و بخفاء صوته عن عدم الالتفات إلى أقواله و حقارته، و استعار لفظ النعير لظهور الباطل ملاحظة لشبهه في قوّته و ظهوره بالرجل الصائل الصائح بكلامه عن جرأة و شجاعة، و شبّه ظهوره بين الناس و ارتفاع ذكره عند ظهور الباطل و قوّته بظهور قرن الماعز في السرعة بغتة: أى طلعت بلا شرف و لا شجاعة و لا قدم بل على غفلة كنبات قرن الماعز و من البلاغة تشبيه من يراد إهانته بالمهين الحقير و تشبيه من يراد تعظيمه بالعظيم الخطير، و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 409

 

خطبه 182 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

القسم الأول

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ- وَ الْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ مَنْصَبَةٍ خَلَقَ الْخَلَائِقَ‏ بِقُدْرَتِهِ- وَ اسْتَعْبَدَ الْأَرْبَابَ بِعِزَّتِهِ وَ سَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ- وَ هُوَ الَّذِي أَسْكَنَ الدُّنْيَا خَلْقَهُ- وَ بَعَثَ إِلَى الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ رُسُلَهُ- لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا وَ لِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا- وَ لِيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا وَ لِيَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبَرٍ مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا وَ أَسْقَامِهَا- وَ لَيُبْصَرُوهُمْ عُيُوبَهَا و حَلَالِهَا وَ حَرَامِهَا- وَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ وَ الْعُصَاةِ- مِنْ جَنَّةٍ وَ نَارٍ وَ كَرَامَةٍ وَ هَوَانٍ- أَحْمَدُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا اسْتَحْمَدَ إِلَى خَلْقِهِ- وَ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً وَ لِكُلِّ قَدْرٍ أَجَلًا وَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاباً

اللغة

أقول: المنصبة: التعب.

المعنى

 
و حمد اللّه باعتبار كونه معروفا بآيات آثاره عند العقول المعرفة المنزّهة عن إدراك البصر المختصّ بالأجسام و لواحقها. ثمّ باعتبار كونه خالقا و موجدا الايجاد المنزّه عن المتاعب لاستلزامها الآلات المستلزمة للجسميّة الّتي من شأنها الضعف و النهاية في القوّة. ثمّ نبّه على استناد الخلايق و النعم المفاضة إلى قدرته ليعتبر السامعون نسبتهم إليه، و باعتبار استعباده الأرباب على كمال عزّه المطلق الواجبىّ المستلزم لخضوع كلّ موجود في ذلّ الإمكان و الحاجة إليه، و بسيادته للعظماء على كمال عظمة وجوده الواجبىّ المطلق المستلزم لفقر كلّ إليه و تعبّده له، ثمّ بنسبة إسكانهم الدنيا و بعثه رسله إلى الجنّ و الإنس منهم كما قال «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي»«» الآية على كمال لطفه بخلقه و حكمته في إيجادهم في الدنيا. و غاية ذلك أن يكشفوا لهم ما يغطّى بحجب الدنيا عن أعين بصائرهم من أحوال الآخرة الّتي خلقوا لها، و أن يجذبوهم بالتحذير من‏ ضرّ الدنيا و عواقبها و ضرب الأمثال بنسبتها كما في القرآن الكريم «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ» الآية و أمثالها، و أن يبصروهم عيوبها، و أن يهجموا عليهم بما في تصاريفها من العبرة و هي الصحّة و السقم و ما أحلّ و حرّم على طريق الابتلاء به. و حلالها عطف على تصرّف، و يحتمل أن يكون عطفا على أسقامها باعتبار أنّ الحلال و الحرام من تصاريف الدنيا، و بيانه أنّ كثيرا من المحرّمات لنبىّ كانت حلالا لنبىّ قبله، و بالعكس و ذلك تابع لمصالح الخلق بمقتضى تصاريف أوقاتهم و أحوالهم الّتي هي تصاريف الدنيا. و قوله: و ما أعدّ اللّه. إمّا عطف على معتبر أو على عيوبها: أى و يبصرونهم ما أعدّ اللّه للمطيعين و العصاة. إلى آخره. و قوله: أحمده إلى نفسه كما استحمد إلى خلقه. أى أحمده حمدا يكون في الكيفيّة و الكميّة على الوجه الّذي طلب الحمد لنفسه من خلقه. و قوله: جعل لكلّ شي‏ء قدرا. كقوله تعالى «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً»«» أى مقدارا من الكيفيّة و الكميّة ينتهى إليه و حدّا يقف عنده، و لكلّ قدر أجلا: أى و لكلّ مقدار وقت يكون، انقضاؤه فيه و فناؤه و لكلّ أجل كتابا و أراد بالكتاب العلم الإلهى المعبّر عنه بالكتاب المبين و اللوح المحفوظ المحيط بكلّ شي‏ء و فيه رقم كلّ شي‏ء. و باللّه التوفيق.

القسم الثاني منها في ذكر القرآن

فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ وَ صَامِتٌ نَاطِقٌ- حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ أَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُمْ- وَ ارْتَهَنَ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ أَتَمَّ نُورَهُ- وَ أَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ وَ قَبَضَ نَبِيَّهُ ص- وَ قَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحْكَامِ‏ الْهُدَى بِهِ- فَعَظِّمُوا مِنْهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ- فَإِنَّهُ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيْئاً مِنْ دِينِهِ- وَ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلَّا وَ جَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً- وَ آيَةً مُحْكَمَةً تَزْجُرُ عَنْهُ أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ- فَرِضَاهُ فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ وَ سَخَطُهُ فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرْضَى عَنْكُمْ بِشَيْ‏ءٍ سَخِطَهُ- عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ- وَ لَنْ يَسْخَطَ عَلَيْكُمْ بِشَيْ‏ءٍ رَضِيَهُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ- وَ إِنَّمَا تَسِيرُونَ فِي أَثَرٍ بَيِّنٍ- وَ تَتَكَلَّمُونَ بِرَجْعِ قَوْلٍ قَدْ قَالَهُ الرِّجَالُ مِنْ قَبْلِكُمْ- قَدْ كَفَاكُمْ مَئُونَةَ دُنْيَاكُمْ وَ حَثَّكُمْ عَلَى الشُّكْرِ- وَ افْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِكُمُ الذِّكْرَ وَ أَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوَى- وَ جَعَلَهَا مُنْتَهَى رِضَاهُ وَ حَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ وَ نَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ- وَ تَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ- إِنْ أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ وَ إِنْ أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ- قَدْ وَكَّلَ بِذَلِكَ حَفَظَةً كِرَاماً لَا يُسْقِطُونَ حَقّاً وَ لَا يُثْبِتُونَ بَاطِلًا- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ الْفِتَنِ- وَ نُوراً مِنَ الظُّلَمِ وَ يُخَلِّدْهُ فِيمَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ- وَ يُنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ فِي دَارٍ اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ- ظِلُّهَا عَرْشُهُ وَ نُورُهَا بَهْجَتُهُ- وَ زُوَّارُهَا مَلَائِكَتُهُ وَ رُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ- فَبَادِرُوا الْمَعَادَ وَ سَابِقُوا الْآجَالَ- فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الْأَمَلُ وَ يَرْهَقَهُمُ الْأَجَلُ- وَ يُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ- فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْهِ الرَّجْعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ- وَ أَنْتُمْ‏ بَنُو سَبِيلٍ عَلَى سَفَرٍ مِنْ دَارٍ لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ- وَ قَدْ أُوذِنْتُمْ مِنْهَا بِالِارْتِحَالِ وَ أُمِرْتُمْ فِيهَا بِالزَّادِ وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ- فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ- فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا- أَ فَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ- وَ الْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ وَ الرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ- فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ- ضَجِيعَ حَجَرٍ وَ قَرِينَ شَيْطَانٍ- أَ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ- حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِهِ- وَ إِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ- أَيُّهَا الْيَفَنُ الْكَبِيرُ الَّذِي قَدْ لَهَزَهُ الْقَتِيرُ- كَيْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الْأَعْنَاقِ- وَ نَشِبَتِ الْجَوَامِعُ حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ- فَاللَّهَ اللَّهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ- وَ أَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ- وَ فِي الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضِّيقِ- فَاسْعَوْا فِي فَكَاكِ رِقَابِكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا- أَسْهِرُوا عُيُونَكُمْ وَ أَضْمِرُوا بُطُونَكُمْ- وَ اسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَكُمْ وَ أَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ- وَ خُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ- وَ لَا تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ- إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ- وَ قَالَ تَعَالَى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً- فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ- فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ‏ مِنْ ذُلٍّ- وَ لَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ- اسْتَنْصَرَكُمْ وَ لَهُ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- وَ اسْتَقْرَضَكُمْ وَ لَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ- وَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ- وَ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا- فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ تَكُونُوا مَعَ جِيرَانِ اللَّهِ فِي دَارِهِ- رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَهُ وَ أَزَارَهُمْ مَلَائِكَتَهُ- وَ أَكْرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ نَارٍ أَبَداً- وَ صَانَ أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَى لُغُوباً وَ نَصَباً- ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ- أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلَى نَفْسِي وَ أَنْفُسِكُمْ- وَ هُوَ حَسْبُنَا وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ

اللغة

أقول: اليفن. الشيخ الكبير.

و القتير: الشيب.

و لهزه: خالطة.

و الجوامع: جمع جامعة و هي الغلّ لجمعها الأيدى إلى الأعناق.

و اللغوب: التعب.

المعنى

و قد وصف القرآن الكريم بالأضداد المتعادية لاختلاف الاعتبارات: فالآمر مع الزاجر. و إطلاقهما عليه مجاز من باب إطلاق اسم السبب على المسبّب. إذ الآمر و الناهى هو اللّه تعالى، و الصامت مع الناطق. و إطلاق لفظ الناطق عليه مجاز. إذ الناطق هو المتكلّم به من باب إطلاق اسم المتعلّق على المتعلّق، و كونه حجّة اللّه على خلقه لاشتماله على وعدهم و وعيدهم، و بيان غاية وجودهم و المطلوب منهم و الإعذار إليهم «أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين» و لأنّه خلاصة ما بعث به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قد بعث رسله مبشّرين و منذرين لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة بعد الرسل، و لأنّه أقوى المعجزات الّتي احتجّ بها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم على الخلق في صدقه. و قوله: أخذ عليهم ميثاقه.

الضمير في أخذ للّه و في ميثاقه للكتاب، و ذلك الأخذ هو خلقهم و بعثهم إلى الوجود إلى أن يعملوا بما اشتمل عليه الكتاب من مطالب اللّه الحقّة، و هو ما أشار إليه القرآن الكريم «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» الآية، و التقدير أخذ عليهم ميثاق بما فيه. و قوله: وارتهن عليه أنفسهم. أى جعل أنفسهم رهنا على العمل بما فيه و الوفاء به «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى‏ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً»و أتمّ به نوره: أى نور هدايته للخلق، و النور المتمّم هو نور النبوّة و هو المشار إليه بقوله تعالى «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ» و إطفاؤه بما كانوا يقولونه من كونه صلّى اللّه عليه و آله و سلم معلّم مجنون و ساحر كذّاب، و كون القرآن أساطير الأوّلين اكتتبها. و كذلك أكرم به دينه. و قوله: و قبض نبيّه. إلى قوله: به. كقوله تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» الآية، و أحكام الهدى بيان طرقه و كيفيّة سلوكها و تثبيتها في قلوب المؤمنين. ثمّ أمر بتعظيم اللّه سبحانه و تعالى.

يقال: عظّمت من فلان. كما يقال: عظّمته، و ما هنا مصدريّة: أى عظّموه كتعظيمه نفسه: أى اطلبوا المناسبة في تعظيمكم له كتعظيمه نفسه. ثمّ أشار إلى وجه وجوب تعظيمنا له و هو قوله: لم يخف عنكم شيئا من دينه بل كشفه لنا و بيّنه بأجمعه بقدر الإمكان، و لم يترك شيئا من مراضيه و مكارهه إلّا نصب عليه علما ظاهرا أو آية واضحة من كتابه يشتمل على أمر بما يرضيه أو زجر عمّا يكرهه. و قوله: فرضاه فيما بقى واحد و سخطه فيما بقى واحد. إشارة إلى أنّ المرضىّ له من الأحكام أو المسخوط فيما مضى هو المرضىّ أو المسخوط فيما بقى من الأوقات و استقبل من الزمان، و حكمه في كونه مرضيّا أو مسخوطا واحد في جميع الأوقات لا يتغيّر و لا ينقض، و فيه إيماء إلى أنّ رفع شي‏ء من الأحكام السابقة بالقياس و الرأى لا يجوز كما سبق بيان مذهبه عليه السّلام في ذلك. و قوله: أنّه لن يرضى عنكم بشي‏ء سخطه على من كان قبلكم. إلى قوله: قبلكم. تأكيد و تقرير لما سبق: أى أنّ ما سخطه و نهى عنه الصحابة مثلا فلن يرضى عنكم بفعله فليس لكم أن تجوّزوه و تحلّوه باجتهاد، و كذلك ما رضيه لهم و أمرهم به فلن يسخط عليكم بفعله حتّى تحرّموه باجتهاد منكم. و يحتمل أن يريد بقوله: فرضاه فيما بقى واحد و سخطه فيما بقى واحد: أى فيما بقى من الأحكام الجزئيّة الّتي لم يدلّ النصّ عليها بالمطابقة بل يحتاج إلى اجتهاد في إلحاقها بالمنصوص و إدراجها تحت النصوص. و معنى وحدة رضاه و سخطه فيها أنّ الحكم المطلوب أو المكروه فيها واحد لا يجوز الاختلاف فيه حتّى يحكم أحد المجتهدين في الشي‏ء الواحد بالحلّ و يحكم الآخر فيه بالحرمة، و يختلف الفتاوى في تلك القضيّة.

لأنّها إمّا مسخوطة أو مرضىّ. و يكون ذلك نهيا منه عليه السّلام عن الاختلاف في الفتيا كما علمت ذمّه لذلك فيما سبق من الفصول، و يكون قوله: و اعلموا أنّه لن يرضى عنكم. إلى قوله: قبلكم. في معنى النهى عن رفع الأحكام الشرعيّة بالاجتهاد و القياس كما قرّرناه، و قيل: معناه النهى عن الاختلاف في الفتيا أيضا: أى أنّه لن يرضى عنكم بالاختلاف الّذي سخطه ممّن كان قبلكم كما أشار إليه تعالى بقوله «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‏ءٍ» و كذلك ليس يسخط عليكم بالإتّفاق و الاجتماع المرضىّ ممّن كان قبلكم، و قيل: بل المراد أنّه لم يرض عنكم بشى‏ء سخطه ممّن كان قبلكم من الاعتقادات الباطلة في المسائل الإلهيّة، و لم يسخط عليكم بشى‏ء رضيه ممّن كان قبلكم من الاعتقادات الحقّة فيها، و يكون ذلك مختصّا بالاصول دون الفروع. و قوله: و إنّما تسيرون في أثر بيّن. إلى قوله: قبلكم. إشارة إلى أنّ الأدلّة لكم واضحة قد تداولها الأوّلون قبلكم. فأنتم المتكلّمون‏ بها و تردّدونها رجع القول المردّد منهم. و قوله: قد كفاكم مئونة دنياكم. كقوله تعالى «وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ»«» و تلك الكفاية إمّا بخلقها و إيجادها، و إمّا برزقه بكلّ ما كتب له في اللوح المحفوظ. و حثّه على الشكر في تكرار أوامره به‏. و نقل عن الحسن البصرىّ أنّه قال: إنّ اللّه كفانا مئونة دنيانا و حثّنا على القيام بوظائف ديننا فليته كفانا مئونة ديننا و حثّنا على القيام بوظائف دنيانا، و هو إشارة منه إلى شدّة التحفّظ في الدين و الاحتراز عليه. و قوله: و افترض من ألسنتكم الذكر.

لمّا كان لكلّ من الجوارح عبادة كانت العبادة المفروضة باعتبار اللسان الذكر، و قد علمت أنّه باب عظيم من أبواب السلوك إلى اللّه بل هو روح العبادات كلّها.
إذ كلّ عبادة لم يشفع بالذكر فهي خداج. ثمّ نبّه على التقوى بوصيّة اللّه تعالى فيها، ثمّ بكونها منتهى رضاه و حاجته من خلقه، و لفظ الحاجة مستعار. إذ تنزّه قدسه تعالى عنها، و وجه مشابهته للمحتاج هو الحثّ و الطلب المتكرّر منه حتّى كأنّه محتاج إلى عبادة العباد و تقويهم، و لمّا استلزمت التقوى الحقيقيّة الوصول إلى اللّه لا جرم كانت منتهى رضاه من خلقه. ثمّ أمرهم بها بعد التنبيه عليها. و نبّه على الوجوه الّتي لأجلها تحصل تقوى اللّه و خشيته و هي كونهم بعينه: أى بحيث يعلم ما يعملون، و لفظ العين مجاز في العلم إطلاقا لاسم السبب على المسبّب لاستلزامها إيّاه، و كون نواصيهم بيده: أى في قدرته. و إنّما خصّ الناصية إشارة إلى أنّ أعظم جوارح الإنسان و أشرف ما فيه مملوك. و اليد مجاز في القدرة إطلاقا لاسم السبب القابلىّ على المسبّب، و كذلك كون تقلّبهم في قبضته: أى تصرّفهم في حركاتهم و سكناتهم بحسب تصريف قدرته و حكمه لا خروج عنه في شي‏ء. و قوله: إن أسررتم. كقوله تعالى «يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ».

و قوله: إن أعلنتم كتبه. إلى قوله: باطلا. قد سبقت الإشارة إلى الكتبة غير مرّة. ثمّ أكّد القول في التقوى بقوله: و اعلموا. إلى قوله: من الفتن. و هو لفظ القرآن.

و قوله: من الفتن. تفسير لقوله: مخرجا. و نورا من الظلم. أى من ظلم الجهل بأنوار العلوم الحاصلة عن الاستعداد بالتقوى. و قوله: و يخلده فيما اشتهت نفسه. كقوله تعالى «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا»«»، و منزل الكرامة هو المنزل المبارك المأمور بطلبه في قوله تعالى «وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ»«» و الدار الّتي اصطنعها لنفسه كناية عن الجنّة، و نسبها إلى نفسه تعظيما لها و ترغيبا فيها. و ظاهر حسن تلك النسبة فإنّ الجنّة المحسوسة أشرف دار رتّبت لأشرف المخلوقات. و أمّا المعقولة فيعود إلى درجات الوصول و الاستغراق في المعارف الإلهيّة الّتي بها السعادة و البهجة و اللذّة التامّة و هي جامع الاعتبار العقلىّ لمنازل أولياء اللّه و خاصّته و مقامات ملائكته و رسله. و من المتعارف أنّ الملك العظيم إذا صرف عنايته إلى بناء دار يسكنها هو و خاصّته أن يقال إنّها تخصّ بالملك و أنّه بناها. و ظاهر الكلام يدلّ على أنّها في السماوات و أنّ العرش عليها، و في هذه الكلمة لطيفة و ذلك أنّك علمت أنّ العرش يطلق و يراد به الفلك التاسع، و يطلق و يراد به العقل الأوّل باعتبار إحاطة علمه بجميع الموجودات و باعتبار حمله لمعرفة صانعه الأوّل- جلّت عظمته- ، و يطلق و يراد به سلطانه و عظمته. و استعار لفظ الظلّ للعرش بالمعنى الأوّل باعتبار أنّ حركة الفلك من الأسباب المعدّة لوصول النفوس البشريّة و الفلكيّة إلى كمالها بالمعارف الإلهيّة الّتي بها الراحة الكبرى من حرارة نار الجهل كما أنّ بالظلّ يكون الراحة من حرارة الشمس.
و بالمعنى الثاني أيضا هو أنّ المعارف الإلهيّة المفاضة على أسرار المستعدّين من‏ قبل ذلك الملك المقدّس يكون بها الراحة الكبرى كما تكون بالظلّ أيضا. و بالمعنى الثالث أنّ سلطانه تعالى و علوّه هو المستولى على كلّ سلطان و العالى عليه العلوّ المطلق. و إذ هو مبدء راحة جميع النفوس بجميع كمالاتها العقليّة فهو ظلّها الّذي إليه يلجأ. و إطلاق لفظ الظلّ على النعمة و السلطان في العرف ظاهر يقال: أنا في ظلّ فلان و في ظلّ الملك و عدله إذا كان في نعمة منه و عنايته. و قوله: و نورها بهجته. فبهجته تعالى تعود إلى بهائه و كماله المشرق في أقطار العالمين على أسرار النفوس. و ظاهر كونه نور الجنّة الّذي تعشى فيه أبصار البصائر، و يستغرق في الابتهاج به الملائكة المقرّبون. و قوله: و زوّارها ملائكته و رفقاؤها رسله. فيه لطيفة: و ذلك أنّه لمّا كانت النفوس البشريّة متّحدة كانت متقاربة المنازل في الكمال، و ممكن لها ذلك. فعبّر عن الرسل بالرفقاء في الجنّة لسكّانها. و لمّا خالفت أنواع الملائكة السماويّة و المجرّدين عن علايق الأجسام في الحقائق و تفاوتت في الكمالات لا جرم خصّص الملائكة بكونهم زوّارها: أى زوّار ساكنيها.

إذ كان الرفيق ألصق و أقرب من الزائر. و عبّر بتلك الزيارة عن حضور الملأ الأعلى عند النفوس الكاملة عند [حين خ‏] انقطاعها عن العلايق الحسيّة و التفاتها عنها. و لمّا كان ذلك الحضور غير دايم بل بحسب فلتات النفس أشبه الزيارة فاستعير له لفظها. و إنّما كان الملك هو الزائر دون النفس لأنّ صورته و مثاله هو الواصل إلى النفس عند استعدادها لتصوّره من فيض واهب الصور. ثمّ عاد إلى التذكير بأمر المعاد فأمر بمبادرته إلى المعالجة إلى ما يصلحه و يخلص من أهواله من سائر القربات إلى اللّه. و كذلك مسابقة الآجال. و قوله: فإنّ الناس يوشك أن ينقطع بهم الأمل. أى أمل الدنيا و البقاء فيها. و لأجل ذلك الانقطاع و قربه يجب أن يلتفت إلى صلاح المعاد. و يرهقهم الأجل: أى يلحقهم. فلأجل ذلك اللحوق يجب أن يسارع إلى العمل لما يبقى. و يسدّ عنهم باب التوبة بإدراك الأجل فيجب مبادرتها. و قوله: فقد أصبحتم. إلى قوله: قبلكم. أى أصبحتم في حال الحياة و الصحّة و الأمن و ساير الأسباب الّتي يتمنّى من كان قبلكم الرجعة إليها، و يمكنكم معها العمل. و قوله: و أنتم بنو سبيل. إلى قوله: بالزاد. فالواو في أنتم للحال، و استعار لهم وصف بنو السبيل لكونهم في هذه الدار بالعرض تقصد بهم العناية الإلهيّة غاية اخرى، و تحثّهم بالشريعة على الرحيل عن الدنيا فهم فيها كالمسافرين. فأبواب مدينتهم جود اللّه. و أقرب الأبواب إلى الدنيا الأرحام الّتي منها يخرجون إليها. و أبواب الخروج منها هي الموت. و لفظ السفر مستعار مشهور يقرب من الحقيقة. و ظاهر أنّ دارا لا يبقى الإنسان فيها بل تكون مرافق لطريق دار اخرى ليست بدار للسالك إلى تلك الدار، و نبّه على إيذانهم فيها بالرحيل منها تنفيرا عن الركون إليها و اتّخاذها وطنا، و على أمرهم باتّخاذ الزاد فيها تنبيها على أنّ هناك غاية لها يجب أن يستعدّ للسلوك إليها فيها.

و لفظ الزاد مستعار لتقوى اللّه و طاعته الّتي هي زاد النفوس إلى حضرة ربّ العالمين. و قوله: و اعلموا. إلى قوله: نفوسكم. تذكير بالوعيد على المعاصى، و أمر لهم برحمة نفوسهم. و ذلك بالأعمال الصالحة و اتّباع أوامر اللّه. و قوله: فإنّكم قد جرّبتموها. إلى قوله: شيطان. في قوّة احتجاج على وجوب تلك الرحمة. و تلخيصه أنّكم جرّبتم أنفسكم في هذه الأمور الحقيرة فجزعتم، و كلّ من جزع من أمثال هذه فبالأولى أن يجزع من كونه بين طابقين من نار ضجيع حجر و قرين شيطان، و قد علمت فيما سلف أنّ للنار سبع طبقات و هي دركاتها، و ضجيع حجر من قوله تعالى «وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ»، و قرين شيطان من قوله «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ» و هم الشياطين، و قوله «وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ»«» إلى قوله «وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ»«». و قوله: أعلمتم أنّ مالكا. إلى قوله: زجرته. من صفات النار المحسوسة ذكرها للتخويف و التحذير. و قوله: أيّها اليفن الكبير. إلى قوله: السواعد. خطاب للشيخ الكبير لأنّه أولى بالإقلاع عن المعصية لقربه من الآخرة. و سؤاله عن حاله سؤاله تقريع و توبيخ على المعصية. و أطواق النار المحسوسة ظاهرة، و أطواقها المعقولة تمكّن الهيئات البدنيّة من أعناق النفوس، و أغلالها من سواعدها. ثمّ أخذ في التحذير من اللّه لغاية العمل بما يرضيه حال الصحّة و الفسحة قبل لحوق ضدّيهما. ثمّ في الأمر بالسعى لغاية فكاك رقابهم من النار. قبل أن تغلق رهائنها بآثامها. و قد علمت وجه الاستعارة هنا للرهن. ثمّ في الأمر بالسهر، و كنّى به عن قطع الليل بالعبادة كقوله تعالى «وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا»«» و إنّما خصّ الليل لأنّه مظنّة الخلوة باللّه و الفراغ من الناس، و لأنّ النهار محلّ عبادة اخرى كالجهاد و الكدح للعيال. ثم بتضمير البطون، و كنّى به عن صيام النهار. ثمّ باستعمال أقدامهم، و كنّى به عن القيام في الصلاة. ثمّ بإنفاق أموالهم، و كنّى به عن الصدقات و الزكوات في سبيل اللّه. ثمّ بالأخذ من أجسادهم، و كنّى به عن إذابتها بالصيام و القيام للصلوات و إيثار القشف المستلزم للإعراض عن تربيته هذه الأجساد لاستلزام ذلك حبّ الدنيا و الإقبال على لذّاتها. و لا شكّ أنّ الأخذ من الجسد بهذه العبادات جود على النفس بملكات الخير و القرب من اللّه تعالى، و لذلك قال: فجودوا بها على أنفسكم و لا تبخلوا بها عنها. و في ذكر أنّ إتعاب الجسد جود على النفس ترغيب فيه. ثمّ استشهد بالآيتين على وعد اللّه بالنصر لمن نصره، و بمضاعفة الأجر لمن أقرضه بعد أمره بنصر اللّه بامتثال أوامره و بقرضه بالصدقات، و وجه استعارة لفظ القرض كثرة الأوامر الإلهيّة الطالبة للصدقات فاشبهت طلب‏ المحتاج المستقرض، و فائدة هذه الاستشهاد إلى قوله: أيّكم أحسن عملا. إعلامهم بانّه الغنّى المطلق عن عباده فيما طلبه منهم من نصرة و قرض، و بيان غاية العناية الإلهيّة منهم بذلك و هو الابتلاء، و قد علمت ابتلاء اللّه تعالى لخلقه غير مرّة. ثمّ أعاد الأمر بالمبادرة إلى أعمال الآخرة لغاية الكون مع خزّان اللّه [جيران اللّه- خ- ] في جنّته مرافقين لرسله كما قال تعالى «وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ»«» و مرافقة رسله كقوله تعالى «وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ»«» و مزارين للملائكة كقوله تعالى «وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» و تكرمة أسماعهم أن يسمع حسيس نار أبدا كقوله تعالى «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُم‏ ْ خالِدُونَ» و صيانة أجسادهم أن يلقى لغوبا و نصبا كقوله تعالى «لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ»«». و قوله: ذلك فضل اللّه الآية. اقتباس للآية و وجه الاقتباس ظاهر. و قوله: أقول. إلى آخره. خاتمة الخطبة، و فيها الاستعانة باللّه على النفوس الأمّارة بالسوء في قهرها و تطويعها للنفوس المطمئنّة فإنّه نعم المعين و نعم الوكيل.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 396

 

خطبه 181شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

روى عن نوف البكالى قال: خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومى، و عليه مدرعة من صوف، و حمائل سيفه ليف، و في رجليه نعلان من ليف، و كأن جبينه ثفنة بعير. فقال عليه السلام:

 

القسم الأول

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي إِلَيْهِ مَصَائِرُ الْخَلْقِ- وَ عَوَاقِبُ الْأَمْرِ نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيمِ إِحْسَانِهِ- وَ نَيِّرِ بُرْهَانِهِ وَ نَوَامِي فَضْلِهِ وَ امْتِنَانِهِ- حَمْداً يَكُونُ لِحَقِّهِ قَضَاءً وَ لِشُكْرِهِ أَدَاءً- وَ إِلَى ثَوَابِهِ مُقَرِّباً وَ لِحُسْنِ مَزِيدِهِ مُوجِباً- وَ نَسْتَعِينُ بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاجٍ لِفَضْلِهِ مُؤَمِّلٍ لِنَفْعِهِ وَاثِقٍ بِدَفْعِهِ- مُعْتَرِفٍ لَهُ بِالطَّوْلِ مُذْعِنٍ لَهُ بِالْعَمَلِ وَ الْقَوْلِ- وَ نُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ رَجَاهُ مُوقِناً- وَ أَنَابَ إِلَيْهِ مُؤْمِناً وَ خَنَعَ لَهُ مُذْعِناً- وَ أَخْلَصَ لَهُ مُوَحِّداً وَ عَظَّمَهُ مُمَجِّداً وَ لَاذَ بِهِ رَاغِباً مُجْتَهِداً لَمْ يُولَدْ سُبْحَانَهُ فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكاً- وَ لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْرُوثاً هَالِكاً- وَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ وَ لَا زَمَانٌ- وَ لَمْ يَتَعَاوَرْهُ زِيَادَةٌ وَ لَا نُقْصَانٌ- بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلَامَاتِ التَّدْبِيرِ الْمُتْقَنِ- وَ الْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ- فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ مُوَطَّدَاتٍ بِلَا عَمَدٍ- قَائِمَاتٍ بِلَا سَنَدٍ دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَاتٍ مُذْعِنَاتٍ- غَيْرَ مُتَلَكِّئَاتٍ وَ لَا مُبْطِئَاتٍ- وَ لَوْ لَا إِقْرَارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ- وَ إِذْعَانُهُنَّ بِالطَّوَاعِيَةِ- لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ وَ لَا مَسْكَناً لِمَلَائِكَتِهِ- وَ لَا مَصْعَداً لِلْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْلَاماً يَسْتَدِلُّ بِهَا الْحَيْرَانُ- فِي مُخْتَلِفِ فِجَاجِ الْأَقْطَارِ- لَمْ يَمْنَعْ ضَوْءَ نُورِهَا ادْلِهْمَامُ سُجُفِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ- وَ لَا اسْتَطَاعَتْ جَلَابِيبُ سَوَادِ الْحَنَادِسِ- أَنْ‏ تَرُدَّ مَا شَاعَ فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ تَلَأْلُؤِ نُورِ الْقَمَرِ- فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سَوَادُ غَسَقٍ دَاجٍ- وَ لَا لَيْلٍ سَاجٍ فِي بِقَاعِ الْأَرَضِينَ الْمُتَطَأْطِئَاتِ- وَ لَا فِي يَفَاعِ السُّفْعِ الْمُتَجَاوِرَاتِ- وَ مَا يَتَجَلْجَلُ بِهِ الرَّعْدُ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ- وَ مَا تَلَاشَتْ عَنْهُ بُرُوقُ الْغَمَامِ- وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ تُزِيلُهَا عَنْ مَسْقَطِهَا عَوَاصِفُ الْأَنْوَاءِ- وَ انْهِطَالُ السَّمَاءِ- وَ يَعْلَمُ مَسْقَطَ الْقَطْرَةِ وَ مَقَرَّهَا وَ مَسْحَبَ الذَّرَّةِ وَ مَجَرَّهَا- وَ مَا يَكْفِي الْبَعُوضَةَ مِنْ قُوتِهَا وَ مَا تَحْمِلُ الْأُنْثَى فِي بَطْنِهَا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ عَرْشٌ- أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ أَوْ جَانٌّ أَوْ إِنْسٌ- لَا يُدْرَكُ بِوَهْمٍ وَ لَا يُقَدَّرُ بِفَهْمٍ- وَ لَا يَشْغَلُهُ سَائِلٌ وَ لَا يَنْقُصُهُ نَائِلٌ- وَ لَا يَنْظُرُ بِعَيْنٍ وَ لَا يُحَدُّ بِأَيْنٍ وَ لَا يُوصَفُ بِالْأَزْوَاجِ- وَ لَا يُخْلَقُ بِعِلَاجٍ وَ لَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ وَ لَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ- الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيماً وَ أَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ عَظِيماً- بِلَا جَوَارِحَ وَ لَا أَدَوَاتٍ وَ لَا نُطْقٍ وَ لَا لَهَوَاتٍ- بَلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَيُّهَا الْمُتَكَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّكَ- فَصِفْ جِبْرِيلَ وَ مِيكَائِيلَ وَ جُنُودَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي حُجُرَاتِ الْقُدُسِ مُرْجَحِنِّينَ- مُتَوَلِّهَةً عُقُولُهُمْ أَنْ يَحُدُّوا أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ- فَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالصِّفَاتِ ذَوُو الْهَيْئَاتِ وَ الْأَدَوَاتِ- وَ مَنْ يَنْقَضِي إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ- فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَلَامٍ-وَ أَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُورٍ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ- الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ- فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إِلَى الْبَقَاءِ سُلَّماً أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلًا- لَكَانَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ ع الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ- مَعَ النُّبُوَّةِ وَ عَظِيمِ الزُّلْفَةِ- فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ وَ اسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ- رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ- وَ أَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ خَالِيَةً- وَ الْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً وَ وَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ- وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً- أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَ أَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ- أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَ أَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ- أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ- وَ أَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وَ أَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ- أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وَ هَزَمُوا بِالْأُلُوفِ- وَ عَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ وَ مَدَّنُوا الْمَدَائِنَ

اللغة

أقول: نقل الجوهرىّ في الصحاح أنّ نوفا البكالى بفتح الباء و تخفيف الكاف كان صاحب علىّ عليه السّلام، و نقل عن ثعلب أنّه منسوب إلى بكالة قبيلة. و قال القطب الراوندىّ: و هو منسوب إلى بكال، و بكيل و بكال شي‏ء واحد و هو اسم حىّ من همدان. قال: و بكيل أكثر، و قال الشارح عبد الحميد بن أبى الحديد: و الصواب غير ما قالاه، و إنّما هو بكال بكسر الباء من حمير فمنهم هذا الشخص و هو نوف بن فضالة صاحب عليّ عليه السّلام. و الأقوال محتملة. و أمّا جعدة بن هبيرة فهو ابن اخت أمير المؤمنين عليه السّلام امّ هانى بنت أبى طالب بن عبد المطّلب بن هاشم، و أبوه هبيرة بن أبى وهب بن عمرو بن عامد بن عمران بن مخزوم و هو صحابىّ. و ثفنة البعير: واحدة الثفنات و هي ما يقع على الأرض من أعضائه.

و الخنوع: الخضوع.

و يتعاوره.

يختلف عليه.

و موطّدات. ممهّدات.

و التلكّؤ: التوقّف.

و الطواعية: الطاعة.

و الفجاج: الطريق بين الجبال.

و الادلهمام: شدّة الظلمة.

و السجف: الستور.

و الحندس بكسر الحاء: الليل شديد الظلمة.

و السفع: الجبال.

و السفعة: سواد مشرب بحمرة و لون الجبال في الأكثر.

و اليفاع: المرتفع من الأرض.

و الجلجلة: صوت الرعد.

و تلاشى: اضمحلّ: و الأنواء: جمع نوء، و هو سقوط نجم من منازل القمر الثمانية و العشرين في المغرب مع الفجر، و طلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كلّ ليلة إلى ثلاثة عشر يوما، و هكذا كلّ نجم منها إلى انقضاء السنة ما خلا الجبهة فإنّ لها أربعة عشر يوما.

و مرجحنّين: مائلين إلى جهة تحت.

و الرياش: اللباس.

و الطعمة. المأكلة.

المعنى

فقوله: الحمد للّه. إلى قوله: الأمر. حمد له باعتبار كونه منتهى جميع آثاره في عالمى الخلق و الأمر انتهاءاً في أوّليّتها بالصنع و الإبداع و انتهاء في آخريّتها لأنّه غاية مطلوب السالكين، و هو الباقى بعد كلّ شي‏ء منها باعتبار وجوب وجوده فهو مستحقّ البقاء لذاته، و هى الممكنة و المستحقّة للفناء باعتبار كونه ممكنا لها، و لمّا كان الحمد قد يكون لأداء حقّ ما سبق من النعمة، و قد يكون للاستزادة منها كان قوله: نحمده. إلى قوله: أداء. نظرا إلى ما سبق من أنواع نعم اللّه و هي عظيم إحسانه بالخلق و الايجاد على وفق الحكمة و المنفعة. ثمّ بإنارة برهانه في متقن صنعه و محكمه و على ألسنة رسله لسوقنا في صراطه المستقيم إلى جنّات النعيم و هدايتنا إليها. ثمّ بإفاضة نوامى فضله و امتنانه بكفايتنا في حياتنا الدنيا. ثمّ بإفاضة أسباب معاشنا و معادنا، و كان قوله: و إلى ثوابه. إلى قوله: موجبا إشارة إلى ما يستزاد منها و هو القرب من ثوابه الاخروى لاستكمال النفس بذلك و حسن مزيده من نعمه الحاضرة كما قال تعالى «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»«» ثمّ أردف ذلك الشكر بطلب المعونة منه استعانة بالصفات المعدودة. إلى قوله: و القول. فإنّ استعانة من هذه صفته تكون أقرب الاستعانات إلى إجابة المستعان بالعون لقوّتها باستجماعها قوّة الرجاء، و الأمل له تعالى، و حسن اليقين في قدرته على بذل النفع و دفع الضرّ، و الشكر و الإذعان بالطاعة العمليّة و القوليّة. ثمّ أردف ذلك بالإقرار بالإيمان الكامل، و هو إيمان من استكمل الأوصاف المعدودة آنفا و هي رجاء المطالب العالية منه حال اليقين التامّ بأنّه أهلها، و الرجوع إليه عن جميع الفرطات و في سائر المهمّات حال الإيمان به، و الخضوع حال انقياده لعزّته، ثمّ الإخلاص له حال توحيده، ثمّ تعظيمه حال تمجيده، و اللوذ به حال الرغبة إليه و الاجتهاد فيها.
و ظاهر أنّ ذلك الإيمان كامل. ثمّ أخذ في تنزيهه تعالى باعتبارات سلبيّة و إضافيّة هي غاية الواصفين: منها أنّه لم يكن له والد فيكون له شريك في العزّ. إذ العادة أن يكون والد العزيز عزيزا. و منها أنّه لم يلد فيكون موروثا هالكا. و هو تنزيه له عن صفات البشر. إذ العادة أنّ الإنسان يهلك فيرثه ولده، و برهانهما أنّهما من لواحق الحيوانيّة المستلزمة للجسميّة المنزّه قدسه عنها. و منها أنّه لم يتقدّمه وقت و لا زمان و الوقت جزء الزمان و إذا كان خالق الوقت و الزمان فبالحرىّ أن يتقدّمها. و منها أنّه لم يختلف عليه الزيادة و النقصان لأنّ الزيادة و النقصان من لواحق الممكنات لاستلزامهما التغيّر المستلزمة للإمكان المنزّه قدسه عنه. و منها أنّه ظاهر للعقول في علامات التدبير، و هى الإحكام و الإتقان في مصنوعاته الموجودة على وفق القضاء المحكم فمن جملتها خلق السماوات كقوله تعالى «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» الآية، و قوله «أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» و قد مرّ بيان كونهما بلا عمد و قيامهما بلا سند في الخطبة الاولى، و دعاؤهنّ حكم سلطان القدرة الإلهيّة عليهنّ، و إجابتهنّ دخولهنّ في الوجود عن ذلك الحكم و طوعهنّ و إذعانهنّ من غير تلكّؤ و لا تباطى‏ء في إجابتهنّ و خضوعهنّ في رقّ الحاجة و الإمكان لواجب وجوده و سلطانه. و قوله: و لو لا إقرارهنّ. إلى قوله: و العمل الصالح من خلقه. كلام حقّ فإنّ الإقرار بالربوبيّة له راجع إلى شهادة لسان حال الممكن بالحاجة إلى الربّ و الانقياد لحكم قدرته، و ظاهر أنّه لو لا إمكانها و انفعالها عن قدرته و تدبيره لم يكن فيها عرش و لم يكن أهلا لقبول تدبير أحوال الملائكة و سكناها، و لم تكن قابلة لصعود الملائكة بالكلم الطيّب و الأعمال الصالحة للخلق، و قد سبقت الإشارة إلى بيان الصعود بالأعمال و غيرها في الخطبة الاولى بحسب الإمكان، و لفظ الدعاء و الإقرار و الإذعان مستعارة و يحتمل أن يكون حقائق نظرا إلى أنّ لها أرواحا مدبّرة عاقلة.

و قوله: و جعل نجومها. إلى قوله: الأقطار. إشارة إلى بعض غايات وجود النجوم، و قد سبق بيان ذلك. و قوله: لم يمنع. إلى قوله: القمر. استعار لفظ السجف و الجلابيب للساتر من سواد الليل، و وجه الاستعارة ظاهر، و خصّ القمر بالذكر لكونه من الآيات العظيمة، و المقابلة بين الضياء و الظلم مقابلة العدم و الملكة، و كلّ منهما يوجد بوجود سببه و يعدم بعدم سببه فلا يكون رفع أحدهما بالآخر، و ظاهر إذن أنّ نور القمر و النجوم لا يمنعه من الوجود و التحقّق ظلمة ليل بل يتعاقبان بحسب تعاقب أسبابهما المنتهية إلى قدرة الصانع الحكيم- جلّت قدرته-

. و قوله: فسبحان. إلى قوله: في بطنها. تنزيه له بحسب إحاطة علمه بحسب كلّيّات الأشياء و جزئيّاتها. و المطأطئات: مهابط الأرض، و ما يتجلجل به الرعد إشارة إلى تسبيحه في قوله تعالى «وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ»«» و ذلك التسبيح يعود إلى شهادته بلسان حاله في ذلك الصوت على كمال قدرة مسخّر السحاب و مؤلّفه و المقدّر لتصويته، و قد عرفت سببه، و ما تلاشت‏ عنه بروق الغمام إشارة إلى ما ينكشف للأبصار بإضائتها، و إنّما خصّ ذلك دون ما أضاءته لأنّ العلم هناك أشرف لتعلّقه بما لا يدركه أبصار المخلوقين دون ما تضيئه لإدراك الكلّ له، و إنّما أضاف العواصف إلى الأنواء لأنّ العرب تضيف الآثار العلويّة من الرياح و الأمطار و الحرّ و البرد إليها. ثمّ عاد إلى حمده تعالى باعتبار تقدّمه في الوجود على سائر مخلوقاته، و قد عرفت ما يقال في الكرسىّ و العرش.

ثمّ نزّهه تعالى باعتبارات سلبيّة:

الأوّل: أنّه لا يدرك بوهم. الثاني: أنّه لا يقدّر بفهم: أى لا يحدّ بفهم، و الفهم من صفات العقل و قد مرّت الإشارة إلى عجز العقول و الأوهام عن وصفه تعالى. الثالث: و لا يشغله سائل لإحاطة علمه و قدرته. و قد سبق بيانه أيضا. الرابع: و لا ينقصه نائل لأنّ النقصان يتوجّه نحو ذى الحاجة، و قد تنزّه قدسه تعالى عنها. الخامس: كونه لا يبصر بعين: أى أنّ إدراكه ليس بحاسّة البصر و إن كان بصيرا و ذلك لتنزّه قدسه عن الحواسّ. السادس: و لا يحدّ بأين: أى لا تحدّه العقول بالأمكنة و لا تحيط به باعتبارها لبراءته عن التحيّز و هو نفى الكميّة المتّصلة عنه. السابع: و لا يوصف بالأزواج و هو نفى الكمّ المنفصل عنه: أى ليس فيه اثنينية و تعدد. و الثامن: و لا يخلق بعلاج تنزيه لصنعه عن وساطة الآلة و الحيلة كما تزاوله أصحاب الصنائع. التاسع: و لا يدرك بالحواسّ لتخصيص إدراكها بالأجسام و كيفيّاتها و تنزّهه تعالى عن الجسميّة و لواحقها. العاشر: و لا يقاس بالناس تنزيه له عن التشبّه بخلقه في كمالاتهم كما يتوهّمه أهل التجسيم.

الحادى عشر: كونه متكلّما بلا جارحة نطق و لا لهوات، و هو تنزيه له عن حال البشريّة. و علمت في المقدّمات كيفيّة سماع الأنبياء عليهم السلام للوحى. فأمّا قوله: و أراه من آياته عظيما. فقيل: أراد آياته في كلامه لئلّا يصير بين قوله: تكليما. و قوله: بلا جوارح. اعتراض غير مناسب، و الّذي رآه من تلك الآيات ما روى أنّه كان يسمع الصوت من جهاته الستّ ليس على حدّ سماع البشر من جهة مخصوصة و له دوىّ كوقع السلاسل العظيمة على الحصا الأصمّ، و في هذه الكيفيّة سرّ لطيف، و كونه يسمع من الجهات الستّ إشارة إلى أنّ الكلام كان يأتيه فينتقش في لوح خياله لا من جهة بل نسبة الجهات الستّ إليه على سواء في عدم سماعه منها فلا جرم قيل: يسمع من الجهات الستّ و هو أولى من أن يقال: يسمع لا من جهة لبعد ذلك عن أوهام الخلق. فأمّا كونه كوقع السلاسل في القوّة فأشار إلى عظمته بالنسبة إليه فشبّهه بأشدّ الأصوات جرسا.

و قيل: أراد بها الآيات التسع كانشقاق البحر و قلب العصا ثعبانا و غيرهما. ثمّ نبّه على عجز القوّة البشريّة عن وصف كماله تعالى بقوله: بل إن كنت صادقا إلى قوله: أحسن الخالقين. و هي صورة قياس استثنائىّ متّصل نبّه به على عجز من يدّعى وصف ربّه كما هو، و تقديره إن كنت صادقا أيّها المتكلّف لوصف ربّك في وصفه فصف بعض خلقه و هو جبرئيل و ميكائيل و جنود ملائكته المقرّبين، و و ينتج باستثناء نقيض تاليه: أى لكنّك لا يمكنك وصف هؤلاء بالحقيقة فلا يمكنك وصفه تعالى. بيان الملازمة أنّ وصفه تعالى إذا كان ممكنا لك فوصف بعض آثاره أسهل عليك، و أمّا بطلان التالى فلأنّ حقيقة جبرئيل و ميكائيل و ساير الملائكة المقرّبين غير معلومة لأحد من البشر، و من عجز عن وصف بعض آثاره فهو عن وصفه أعجز، و حجرات القدس: مقارّ الطهارة عن الهيئات البدنيّة و التعلّقات الخياليّة عن شوائب النفس الأمّارة بالسوء، و استعار لفظ المرجحنّين لخضوعهم تحت سلطان هيبته و عظمته، و تولّه عقولهم: حيرتها و تشتّتها عن إدراك حقيقته بحدّ تقف عنده عظمته، ثمّ نبّه على ما يدرك من جهة الوصف و هو ذوو الهيئات و الآلات الّتي يحترف بها و يحيط بها الأفهام من جهتها، و ما يلحقه الفناء فينقضى إذا بلغ أمد حدّه، و تقف الأفهام على ذلك الحدّ و تحلّله إلى أجزائه فتطّلع على كنهه منها. ثمّ عقّب ذلك التنزيه بتوحيده و نفى الكثرة عنه.

و قوله: أضاء بنوره كلّ ظلام. فالظلام إمّا محسوس فأضاء بأنوار الكواكب، أو معقول و هو ظلام الجهل فأضاءه بأنوار العلم و الشرائع. و قوله: و أظلم بنوره كلّ نور. إذ جميع الأنوار المحسوسة أو المعقولة لغيره متلاشية مضمحلّة في نور علمه، و ظلام بالنسبة إلى ضياء براهينه في جميع مخلوقاته الكاشفة على وجوده و كمال جوده. ثمّ شرع في الموعظة فبدء بالوصيّة بتقوى اللّه باعتبار سلب أمرين هما سبب البقاء في الحياة الدنيا و هما الملبوس و المطعوم، و يحتمل أن يريد بالمعاش سائر أسباب البقاء، و ثنّى بذكر أنّه لا سبيل إلى البقاء و دفع الموت تخويفا به، و احتجّ عليه بقياس استثنائى تلخيصه: لو أنّ أحدا يجد سبيلا إلى دفع الموت لوجده سليمان عليه السّلام و تقدير الاستثناء: لكنّه لم يجده فلن يجده أحد بعده. أمّا الملازمة فلأنّ سليمان عليه السّلام كان أقوى سلطان وجد في العالم لاستيلاء حكمه على ملك الجنّ و الإنس مع النبوّة و عظيم الزلفة عند اللّه فكان أولى بدفعه لو كان يمكن دفعه، و أمّا بطلان التالى فلأنّه عليه السّلام لما استوفى طعمته و استكمل مدّته مات فلو وجد مدفعا لدفعه عن نفسه.

فقوله: فلو أنّ. إلى قوله: سبيلا. هو مقدّم الشرطيّة.
و قوله: لكان ذلك. إلى قوله: عليه السّلام. هو التالى.
و قوله: الّذي. إلى قوله: الزلفة. بيان لوجه الملازمة.
و قوله: فلمّا استوفى. إلى قوله: قوم آخرون.

هو بيان بطلان التالى، و لفظ القسىّ و النبال استعارة لمرامى الأمراض و أسبابها الّتي هي نبال الموت، و وجها ظاهر. ثمّ شرع في التنبيه على الاعتبارات بأحوال القرون السالفة و استفهم عن قرن قرن تنبيها على فنائهم استفهاما على سبيل التقرير.
و العماليق أولاد لاوذ بن إرم بن سام بن نوح و كان باليمن و الحجاز و ما تاخم ذلك من الأقاليم فمن أولاده عملاق و طسم و جديس، و كان العزّ و الملك بعد عملاق بن لاوذ في طسم فلمّا ملكهم عملاق بن طسم بغى و أكثر العبث و الفساد في الأرض حتّى كان يطأ العروس ليلة هدائها إلى بعلها و إن كانت بكرا افتضّها قبل وصولها إليه ففعل ذلك بامراة من جديس فغضب لها أخوها و تابعه قومه على الفتك بعملاق بن طسم و أهل بيته فصنع أخوها طعاما و [دخل خ‏] عملاق الملك إليه. ثمّ وثب به و بطسم فأتى على رؤسائهم و نجا منهم رياح بن مرّ فصار إلى ذى جيشان بن تبّع الحميرى ملك اليمن فاستغاث به و استنجده على جديس و أتى ذو جيشان في حمير بلاد جوّ و هي قصبة اليمامة فاستأصل جديسا و أخرب اليمامة. فلم يبق لجديس باقية و لا لطسم إلّا اليسير منهم. ثمّ ملك بعد طسم و جديس و باز بن أميم بن لاوذ بن إرم بولده و أهله فنزل بأرض و باز و هي المعروفة الآن برمل عالج فبغوا في الأرض حينا ثمّ أفناهم اللّه. ثمّ ملك بعد و باز عبد ضخم [صمم خ‏] بن آسف بن لاوذ فنزلوا بالطايف حينا.

ثمّ بادوا. و أمّا الفراعنه فهم ملوك مصر فمنهم الوليد بن ريّان فرعون يوسف، و منهم الوليد بن مصعب فرعون موسى، و منهم فرعون الأعرج الّذي غزا بنى إسرائيل و أخرب بيت المقدس. و أمّا أصحاب مداين الرسّ. فقيل: إنّهم أصحاب شعيب النبىّ عليه السّلام و كانوا عبدة أوثان و لهم مواشى و آبار يستقون منها، و الرسّ بئر عظيمة جدّا انخسفت بهم و هم حولها، و قيل: الرسّ قرية باليمامة كان يسكنها قوم من بقايا ثمود فبغوا فاهلكوا، و قيل الرس: أصحاب الاخدود و هو الرسّ الأخدود، و قيل: الرسّ نهر عظيم في إقليم الباب و الأبواب مبدئه من مدينة طرار و ينتهى إلى نهر كبير فيختلط به حتّى يصبّ في بحر الخزر، و كان هناك ملوك اولو بأس و قدرة فأهلكهم اللّه ببغيهم. و باللّه التوفيق.

 

القسم الثاني منها

قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا- وَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا- وَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا وَ التَّفَرُّغِ لَهَا- فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا- وَ حَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا- فَهُوَ مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الْإِسْلَامُ- وَ ضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ- وَ أَلْصَقَ الْأَرْضَ بِجِرَانِهِ بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِهِ- خَلِيفَةٌ مِنْ خَلَائِفِ أَنْبِيَائِهِ ثم قال عليه السلام: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَوَاعِظَ- الَّتِي وَعَظَ الْأَنْبِيَاءُ بِهَا أُمَمَهُمْ- وَ أَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ الْأَوْصِيَاءُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ- وَ أَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا- وَ حَدَوْتُكُمْ بِالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا- لِلَّهِ أَنْتُمْ- أَ تَتَوَقَّعُونَ إِمَاماً غَيْرِي يَطَأُ بِكُمُ الطَّرِيقَ- وَ يُرْشِدُكُمُ السَّبِيلَ- أَلَا إِنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَانَ مُقْبِلًا- وَ أَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِراً- وَ أَزْمَعَ التَّرْحَالَ عِبَادُ اللَّهِ الْأَخْيَارُ- وَ بَاعُوا قَلِيلًا مِنَ الدُّنْيَا لَا يَبْقَى- بِكَثِيرٍ مِنَ الْآخِرَةِ لَا يَفْنَى- مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُم وَ هُمْ بِصِفِّينَ- أَلَّا يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً يُسِيغُونَ الْغُصَصَ- وَ يَشْرَبُونَ الرَّنْقَ قَدْ وَ اللَّهِ لَقُوا اللَّهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ- وَ أَحَلَّهُمْ دَارَ الْأَمْنِ بَعْدَ خَوْفِهِمْ- أَيْنَ إِخْوَانِيَ الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ- وَ مَضَوْا عَلَى الْحَقِّ أَيْنَ عَمَّارٌ وَ أَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ- وَ أَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ- وَ أَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ- وَ أُبْرِدَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ- قَالَ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى لِحْيَتِهِ الشَّرِيفَةِ الْكَرِيمَةِ- فَأَطَالَ الْبُكَاءَ ثُمَّ قَالَ ع- أَوْهِ عَلَى إِخْوَانِيَ الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ- وَ تَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ- أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَ أَمَاتُوا الْبِدْعَةَ- دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا وَ وَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللَّهِ- أَلَا وَ إِنِّي مُعَسْكِرٌ فِي يَومِي هَذَا- فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى اللَّهِ فَلْيَخْرُجْ

قال نوف: و عقد للحسين- عليه السلام- في عشرة آلاف، و لقيس بن سعد رحمه اللّه في عشرة آلاف، و لأبى أيوب الأنصارى في عشرة آلاف، و لغيرهم على أعداد أخر، و هو يريد الرجعة إلى صفين، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه اللّه، فتراجعت العساكر فكنا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كل مكان.

اللغة

أقول: جرانه: صدره.

و عسيب ذنبه: طرفه.

و استوسق الأمر: انتظم و اجتمع.

و أزمع: صمّم عزمه.

و الرنق بالسكون: الكدر.

و أبرد: أرسل.

و أوه: ساكنة الواو مكسورة الهاء كلمة توجّع.

و الاختطاف و التخطّف: الأخذ بسرعة.

المعنى

و الإشارة إلى العارف مطلقا، و قال بعض الإماميّة: الإشارة إلى الإمام المنتظر، و ليس بواضح من هذا الكلام، و لفظ الجنّة مستعار في الاستعداد للحكمة بالزهد و العبادة الحقيقيّتين و المواظبة على العمل بأوامر اللّه، و وجه الاستعارة أنّ بذلك الاستعداد يأمن إصابة سهام الهوى و ثوران دواعى الشهوات القايدة إلى النار كما يأمن لابس الجنّة من أذى الضرب و الجرح. و أخذه لها بجميع آدابها من الإقبال عليها و المعرفة بها: أى بقدرها و التفرّغ لها عن العلايق الدنيويّة بالزهد من جملة الاستعداد لها أيضا، و استعار لها لفظ الضالّة لمكان إنشاده و طلبه كما تطلب الضالّة من الإبل، و إليه الإشارة بقوله عليه السّلام: الحكمة ضالّة المؤمن. و قوله: فهو مغترب إذا اغترب الإسلام. إشارة إلى إخفائه نفسه و إيثاره العزلة عند اغتراب الإسلام و ضعفه و ظهور البدع و المنكرات كما أشار إليه سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و سلم بدء الإسلام غريبا و سيعود غريبا كما بدء، و استعار لفظ العسيب و الذنب و الجران ملاحظة لشبهه بالبعير البارك، و كنّى بذلك عن ضعفه و قلّة نفعه فإنّ البعير أقلّ ما يكون نفعه حال بروكه. و قوله: بقيّة من بقايا حجّته. أى على خلقه. إذا العلماء و العارفون حجج اللّه في الأرض على عباده، و ظاهر كونه خليفة من خلفاء أنبيائه لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: العلماء ورثة الأنبياء. و قوله: أيّها الناس. إلى قوله: تستوسقوا. تذكير بموعظته لهم، و إعذار إليهم بأداء ما كلّف به في حقّهم ممّا كلّفت به الأنبياء مع اممهم و الأوصياء إلى من بعدهم، و معاتبة لهم، و توبيخ على عدم استقامتهم و اجتماعهم على أوامره مع تأديبه لهم بالضرب و التحذير بالزواجر.

و قوله: للّه أنتم. إلى قوله: السبيل. استفهام لهم عن توقّعهم إماما هاديا مرشدا غيره استفهاما على سبيل الإنكار لوجود سبيل ذلك الإمام، و أكّد ذلك الإنكار المفهوم من الاستفهام بقوله: ألا إنّه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا: أى من الخير و صلاح أهلها، و أقبل منها ما كان مدبرا: أى من الشرور الّتى أدبرت بمقدم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ظهور الإسلام، و أزمع الترحال عباد اللّه الأخيار المتوقّع فيهم إمام كمثله عليه السّلام في الهداية لسبيل اللّه، و إزماعهم للترحال كناية عن اقتضاء الزمان لفنائهم من الدنيا و الرحيل عنها. ثمّ استعار لفظ البيع لتعويضهم بالقليل الفانى من متاع الدنيا و الكثير الباقى من متاع الآخرة. ثمّ أخذ في التذكير بنفى ضرر الموت و عدم الحياة عن إخوانه من الصحابة الّذين قتلوا بصفّين، و زهّد في تلك الحياة بكونها محلّ تجرّع الغصص و شرب الكدر من الآلام و الأعراض و مشاهدة المنكرات، و لمّا زهّد في تلك الحياة نبّه على مالهم في عدمها من الفائدة و هي لقاء اللّه، و توفيته لأجورهم على الأعمال الصالحة، و حلولهم في دار الأمن: أى الجنّة بعد خوفهم من فتن أهل الضلال. ثمّ أخذ في استفهام عمّن ركب طريق الحقّ و مضى عليه مستصحبا له استفهاما على سبيل التوجّع لفقدهم و التوحّش لفراقهم، ثمّ عن أعيان أكابرهم فذكر عمّار بن ياسر. و فضله في الصحابة مشهور و أبوه عربىّ قحطانىّ و امّه كانت أمة لأبى حذيفة ابن المغيرة المخزومىّ ولدت عمّارا فأعتقها أبو حذيفة فمن هناك كان عمّار مولى لبنى مخزوم، و أسلم هو و امّه سميّة فعذّبهما بنو مخزوم في اللّه فأعطاهم عمّار مولى أرادوا بلسانه مع اطمينان قلبه بالإيمان فنزلت فيه «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا»«» و هاجر إلى أرض الحبشة، و صلّى القبلتين، و هو من المهاجرين الأوّلين، و شهد بدرا و المشاهد كلّها، و ابلى بلاء حسنا، ثمّ شهد اليمامة فابلى فيها أيضا و يومئذ قطعت اذنه.
و عن ابن عبّاس في قوله تعالى «أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ»«» قال: هو عمّار بن ياسر، و عن عايشة أنّها قالت: ما من أحد من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم أشاء أن أقول فيه إلّا قلت إلّا عمّار بن ياسر فإنّى سمعته صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول: إنّه ملى‏ء إيمانا إلى أخمص قدميه. و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: عمّار جلدة ما بين عينى تقتله الفئة الباغية لا أنالها اللّه شفاعتى. و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم من أبغض عمّاراً أبغضه اللّه. و أمّا ابن التيّهان بياء مشدّدة مفتوحة بنقطتين من تحت، و يروى مخفّفة ساكنة فهو من الأنصار كنية أبو الهيثم. و اسمه مالك بن مالك، و قيل: بل اسم أبيه عمرو بن الحرب و هو- ابن التيّهان- كان أحد النقباء ليلة العقبة، و شهد بدرا، و المشهور أنّه أدرك صفّين‏

مع علىّ عليه السّلام و قتل بها، و قيل: توفّى في زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم. و أمّا ذو الشهادتين فكنية أبو عماره و اسمه حزيمة بن ثابت بن الفاكة بن ثعلبة الخطمى الأنصارى من الأوس. جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم شهادته بشهادة رجلين لقصّة مشهورة، و شهد بدرا و ما بعدها من المشاهد، و كانت راية بنى خطمة من الأوس يوم الفتح بيده، و شهد صفّين مع علىّ عليه السّلام فلمّا قتل عمّار قاتل هو حتّى قتل معه. و نظراؤهم من إخوانه: أى الّذين قتلوا بصفّين معه من الصحابة كابن بديل و هاشم بن عتبة و نحوهما، و تعاقدهم على المنيّة اتّفاقهم على المقاتلة إلى غاية أن يقتلوا. و روى: تعاهدوا.

و الفجرة الّذين حملت رؤوسهم إليهم امراء الشام. ثمّ أخذ في التشكّى و التوجّع على فقدهم. ثمّ أشار إلى فضائلهم الّتي هي غاية الشريعة المطلوبة منهم و هي تلاوة القرآن و إحكامه بفهم مقاصده و معانيه، و التدبّر للفرض: أى فهم ما لأجله العبادات و إقامتها و المواظبة عليها نظرا إلى أسرارها، و إحياء السنن النبويّة، و إماتة البدع المخالفة لها، و إجابتهم للدعوة إلى الجهاد لإقامة الدين، و وثوقهم إليه في سبيل اللّه يعنى نفسه و اتّباعهم له، و الرواح إلى اللّه الخروج إلى الجهاد الّذي هو سبيله الموصلة إليه و إلى ثوابه. و قيس بن سعد الخزرجى صحابى كنيته أبو عبد الملك روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أحاديث و أبوه سعد من رؤساء بالخزرج و هو سعد بن عبادة الّذي حاولت قومه إقامته خليفة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و كان قيس هذا من كبار شيعة علىّ و محبّيه، و شهد معه حروبه كلّها، و كان مع الحسن ابنه و نقم عليه صلحه لمعاوية.

و أمّا أبو أيّوب الأنصارىّ فهو خالد بن سعد بن كعب الخزرجى من بنى النجّار شهد العقبة و بدرا و ساير المشاهد، و عليه نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا خرج من بنى عمرو بن عوف حين قدم المدينة مهاجرا فلم يزل عنده حتّى بنى مسجده و مساكنه ثمّ انتقل إليها، و شهد مع علىّ مشاهده كلّها الجمل و صفّين، و كان على مقدّمته يوم النهروان. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 381

 

خطبه 180شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

و قد أرسل رجلا من أصحابه يعلم له علم أحوال قوم من جند الكوفة قد هموا باللحاق بالخوارج، و كانوا على خوف منه عليه السلام، فلما عاد إليه الرجل قال له: أمنوا فقطنوا أم جبنوا فظعنوا فقال الرجل: بل ظعنوا يا أمير المؤمنين.

فقال: بُعْداً لَهُمْ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ- أَمَا لَوْ أُشْرِعَتِ الْأَسِنَّةُ إِلَيْهِمْ- وَ صُبَّتِ السُّيُوفُ عَلَى هَامَاتِهِمْ- لَقَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ- إِنَّ الشَّيْطَانَ الْيَوْمَ قَدِ اسْتَفَلَّهُمْ- وَ هُوَ غَداً مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ وَ مُتَخَلٍّ عَنْهُمْ- فَحَسْبُهُمْ بِخُرُوجِهِمْ مِنَ الْهُدَى وَ ارْتِكَاسِهِمْ فِي الضَّلَالِ وَ الْعَمَى- وَ صَدِّهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَ جِمَاحِهِمْ فِي التِّيهِ

اللغة

أقول: قطنوا: أقاموا.

و بعدت بالكسر: هلكت.

و أشرعت الرمح: سدّدته و صوّبته نحو من تريد ضربه.

و استفلّهم: أى طلب منهم التفرّق و الهزيمة و زيّنها لهم.

و الفلّ: التفريق و الانهزام.

و الارتكاس: الرجوع في الشي‏ء مقلوبا.

و الفصل مشتمل على السؤال عن ظعنهم و إقامتهم و علّتهما و هما الأمن و الجبن
ثمّ على الدعاء عليهم بالهلاك. و انتصب بعدا على المصدر. ثمّ على ما لو فعل لكان سببا لندمهم على ما فعلوا و هو الهجوم عليهم بالقتل و الاذلال على ما كان منهم من اللحوق بأولياء الشيطان. ثمّ على علّة لحوقهم بهم و هى استفلال الشيطان لهم و تفريقه لجماعتهم، و روى استفزّهم: أى استخفّهم، و روى استقبلهم: أى تقبّلهم و رضى عنهم. و هى أقوى القرينة. قوله: و هو غدا متبرّى‏ء منهم و متخلّ عنهم. أى تارك لهم فإنّ التبرى‏ء في مقابلة الاستقبال و ذلك كقوله تعالى «وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» إلى قوله «وَ إِذْ زَيَّنَ»«». و قوله: فحسبهم بخروجهم من الهدى. أى يكفيهم ذلك عذاباً و شرّا، و الباء في بخروجهم زائدة كهي في قوله تعالى «وَ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً»، و ارتكاسهم في الضلال و العمى رجوعهم إلى الضلال القديم و عمى الجهل الّذي كانوا عليه بعد خروجهم منه بهدايته، و صدّهم عن الحقّ بالخروج عن طاعته و جماحهم في تيه الجهل و الهوى بعد الاستقرار في مدينة العلم و العقل، و لفظ الجماح مستعار لخروجهم عن فضيلة العدل إلى رذيلة الإفراط منها كما سبق و الغلوّ في طلب الحقّ إلى حدّ الجور عن الصراط المستقيم. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم‏بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 381

 

 

خطبه 179شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام فى ذم أصحابه

أَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى مَا قَضَى مِنْ أَمْرٍ وَ قَدَّرَ مِنْ فِعْلٍ- وَ عَلَى ابْتِلَائِي بِكُمْ أَيَّتُهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي إِذَا أَمَرْتُ لَمْ تُطِعْ- وَ إِذَا دَعَوْتُ لَمْ تُجِبْ- إِنْ أُمْهِلْتُمْ خُضْتُمْ وَ إِنْ حُورِبْتُمْ خُرْتُمْ- وَ إِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ طَعَنْتُمْ- وَ إِنْ أُجِئْتُمْ إِلَى مُشَاقَّةٍ نَكَصْتُمْ- . لَا أَبَا لِغَيْرِكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ- وَ الْجِهَادِ عَلَى حَقِّكُمْ- الْمَوْتَ أَوِ الذُّلَّ لَكُمْ- فَوَاللَّهِ لَئِنْ جَاءَ يَومِي وَ لَيَأْتِيَنِّي لَيُفَرِّقَنَّ بَيْنِي وَ بَيْنِكُمْ- وَ أَنَا لِصُحْبَتِكُمْ قَالٍ وَ بِكُمْ غَيْرُ كَثِيرٍ- لِلَّهِ أَنْتُمْ أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَ لَا حَمِيَّةٌ تَشْحَذُكُمْ- أَ وَ لَيْسَ عَجَباً أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَدْعُو الْجُفَاةَ الطَّغَامَ- فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَعُونَةٍ وَ لَا عَطَاءٍ- وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ وَ أَنْتُمْ تَرِيكَةُ الْإِسْلَامِ- وَ بَقِيَّةُ النَّاسِ‏ إِلَى الْمَعُونَةِ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَطَاءِ- فَتَفَرَّقُونَ عَنِّي وَ تَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ- إِنَّهُ لَا يَخْرُجُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِي رِضًا فَتَرْضَوْنَهُ- وَ لَا سُخْطٌ فَتَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ- وَ إِنَّ أَحَبَّ مَا أَنَا لَاقٍ إِلَيَّ الْمَوْتُ- قَدْ دَارَسْتُكُمُ الْكِتَابَ وَ فَاتَحْتُكُمُ الْحِجَاجَ- وَ عَرَّفْتُكُمْ مَا أَنْكَرْتُمْ وَ سَوَّغْتُكُمْ مَا مَجَجْتُمْ- لَوْ كَانَ الْأَعْمَى يَلْحَظُ أَوِ النَّائِمُ يَسْتَيْقِظُ- وَ أَقْرِبْ بِقَوْمٍ مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ قَائِدُهُمْ مُعَاوِيَةُ- وَ مُؤَدِّبُهُمُ ابْنُ النَّابِغَةِ

اللغة

أقول: الخور: الضعف، و يحتمل أن يكون من الخوارج و هو الصياح.

و اجئتم: جذبتم، و دعيتم.

و نكص: رجع على عقبه.

و القالى: المبغض.

و الطعام: أوغاد الناس.

و التريكة: بيضة النعام.

و مجّه: ألقاه من فيه.

 

المعنى

و قد حمد اللّه تعالى على ما قضى و قدّر، و لمّا كان القضاء هو الحكم الإلهى بما يكون قال: على ما قضى من الأمر. لأنّ الأمر أعمّ أن يكون فعلا، و لمّا كان القدر هو تفصيل القضاء و إيجاد الأشياء على وفقه قال: و قدّر من فعل. و قوله: و على ابتلائى بكم. تخصيص لبعض ما قضى و قدّر. و قوله: إذا أمرت. إلى قوله: نكصتم. شرح لوجوه الابتلاء بهم، و حاصلها يعود إلى مخالفتهم له في جميع ما يريده منهم ممّا ينتظم به حالهم. و قوله: إلى مشاقّة. أى إلى مشاقّة عدوّ. و قوله: لا أبا لغيركم. دعاء بالذلّ لغيرهم، و فيه نوع تلطّف لهم، و الأصل لا أب، و الألف مزيدة إمّا لاستثقال توالى أربع حركات فأشبعوا الفتحة فانقلبت ألفا أو لأنّهم قصدوا الإضافة و أتوا باللام للتأكيد. ثمّ أقسم إن جاء يومه: أى وقت موته ليفرقنّ بينهم و بينه و هو تهديد لهم بفراقه و انشعاب امورهم بعده. و قوله: و ليأتينّى. حشوة لطيفة و أتى به مؤكّدة لأنّ إتيان الموت أمر محقّق، و كأنّه ردّ بها ما يقتضيه إن من الشكّ فحسنت هذه الحشوة بعدها. ثمّ أخذ في التضجّر منهم، و أخبرهم أنّه لصحبتهم مبغض، و أنّه غير كثير بهم لأنّ الكثرة إنّما تراد للمنفعة فحيث لا منفعة فكأنّه لا كثرة. و قوله: للّه أنتم. جملة اسميّة فيها معنى التعجّب من حالهم، و مثله للّه أبوك و للّه درّك. ثمّ أخذ في استفهامهم عمّا يدّعون أنّه موجود فيهم، و هو الدين و الحميّة و الأنفة، و من شأن الدين أن يجمع على إنكار المنكر، و الحميّة أن تشحذ و تثير القوّة الغضبيّة لمقاومة العدوّ استفهاما على سبيل العيب و الإنكار عليهم. و قوله: أ و ليس عجبا. إلى قوله: و تختلفون علىّ. استفهام لتقرير التعجّب من حاله معهم في تفرّقهم عنه حتّى عند الدعوة إلى العطاء، و من حال معاوية مع قومه في اجتماعهم عليه من غير معونة و لاعطاء.

فإن قلت: المشهور أنّ معاوية إنّما استجلب من استجلب من العرب بالأموال و الرغائب فلم قال: فيتّبعونه على غير معونة و لا عطاء قلت: إنّ معاوية لم يكن يعطى جنده على وجه المعونة و العطاء المتعارف بين الجند، و إنّما كان يعطى رؤساء القبائل من اليمن و الشام الأموال الجليلة ليستعبدهم بها و اولئك الرؤساء يدعون أتّباعهم من العرب فيطيعونهم. فصادق إذن أنّهم يتّبعونه على غير معونة و عطاء، و أمّا هو عليه السّلام فإنّه كان يقسّم بيوت الأموال بالسويّة بين الأتباع و الرؤساء على وجه الرزق و العطاء، لا يرى لشريف على مشروف فضلا، و كان أكثر من يقعد عن نصرته من الرؤساء لما يجدونه في أنفسهم من أمر المساواة بينهم و بين الأتباع، و إذا أحسّ الأتباع بذلك تخاذلوا أيضا متابعة لرؤسائهم. و المعونة هى ما يعطى للجند في وقت الحاجة لترميم أسلحتهم و إصلاح دوابّهم و هو خارج عن العطاء المفروض شهراً فشهراً، و استعار لهم لفظ التريكة، و وجه المشابهة أنّهم خلف الإسلام و بقيّة أهله كالبيضة الّتي تتركها النعامة. و قوله: إنّه لا يخرج. إلى قوله: فترضونه. أى إنّه لا يخرج إليكم من أمرى أمر من شأنه أن يرضى به أو يسخط منه فترضونه و تجتمعون عليه بل لا بدّ لكم من التفرّق و المخالفة على الحالين. ثمّ نبّههم على سوء صنيعهم معه بأنّ أحبّ الأشياء إليه الموت. و قد لاحظ هذه الحال أبو الطيّب فقال:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا و حسب المنايا أن تكون أمانيا
تمنّيتها لمّا تمنّيت أن أرى‏
صديقا فأعيا أو عدوّا مداجيا

و قوله: قد دارستكم الكتاب. إلى قوله: مججتم. إشارة إلى وجوه الامتنان عليهم و هى مدارستهم الكتاب: أى تعليمه، و مفاتحتهم الحجاج: أى مماراتهم و تعريفهم وجوه الاحتجاج، و تعريفهم ما أنكروه: أى الامور المجهولة لهم، و تسويغهم ما مجّوه. و استعار وصف التسويغ إمّا لإعطائه لهم العطيّات و الأرزاق الّتي كانوا يحرمونها من يد غيره لو كان كمعاوية، و إمّا لإدخاله العلوم في أفواه أذهانهم، و كذلك لفظ المجّ إمّا لحرمانهم من يد غيره أو لعدم العلوم عن أذهانهم و نبوّ أفهامهم عنها فكأنّهم ألقوها لعدم صلوحها للإساغة، و وجه الاستعارتين ظاهر. و قوله: لو كان الأعمى. إلى قوله: يستيقظ. إشارة إلى أنّهم جهّال لا يلحظون بأعين بصائرهم ما أفادهم من العلوم، و غافلون لا يستيقظون من سنة غفلتهم بما أيقظهم به من المواعظ أو غيرها، و لفظ الأعمى و النائم مستعاران، و القوم في قوله: و أقرب بقوم. هم أهل الشام. و هو تعجّب من شدّة قربهم من الجهل باللّه. إذ كان قائدهم في الطريق معاويه و مؤدّبهم ابن النابغة: أى عمرو بن العاص و هو رئيسهم رئيس المنافقين و أهل الغدر و الخداع، و إذا كان‏ الرئيس القائد و المؤدّب في تلك الطريق من الجهل و الفجور بحال الرجلين المشار إليهما فما أقرب أتباعهما من البعد عن اللّه و الجهل به. و أقرب: صيغة التعجّب.

و قائدهم معاوية: جملة اسميّة محلّها الجرّ صفة لقوم. و فصّل بين الموصوف و الصفة بالجار و المجرور كما في قوله تعالى «وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ»«» فمحلّ مردوا الرفع صفة المنافقون، و فصّل بينهما بقوله: و من أهل المدينة، و الغرض من ذكرهم و وصفهم بما وصف التنفير عنهم.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 375

خطبه 178شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

و قد ساله ذعلب اليمانى فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام: أ فأعبد ما لا أرى فقال: و كيف تراه فقال:

لَا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ- وَ لَكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ- قَرِيبٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ مُلَامِسٍ بَعِيدٌ مِنْهَا غَيْرَ مُبَايِنٍ- مُتَكَلِّمٌ لَا بِرَوِيَّةٍ مُرِيدٌ لَا بِهِمَّةٍ صَانِعٌ لَا بِجَارِحَةٍ- لَطِيفٌ لَا يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ كَبِيرٌ لَا يُوصَفُ بِالْجَفَاءِ- بَصِيرٌ لَا يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ رَحِيمٌ لَا يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ- تَعْنُو الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ وَ تَجِبُ الْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ

اللغة

أقول: تعنو: تخضع.

و تجب القلوب: تخفق.

و الفصل فصل شريف من التوحيد و التنزيه.
فقوله: أ فأعبد ما لا أرى. استفهام على سبيل الإنكار لعبادة ما لا يدرك، و فيه إزراء على السائل. و قوله: لا تدركه العيون. إلى آخره. تنزية له عن الرؤية بحاسّة البصر و شرح لكيفيّة الرؤية الممكنة، و لمّا كان تعالى منزّها عن الجسميّة و لواحقها من الجهة و توجيه البصر إليه و إدراكه به و إنّما يرى و يدرك بحسب ما يمكن لبصيرة العقل لا جرم نزّهه عن تلك و أثبت له هذه. فقال: لا تدركه العيون. إلى قوله: بحقائق الإيمان. و أراد بحقائق الإيمان أركانه، و هى التصديق بوجود اللّه و وحدانيّته و سائر صفاته و اعتبارات أسمائه الحسنى، و عدّ من جملتها اعتبارات يدركه بها: أحدها: كونه قريبا من الأشياء، و لمّا كان المفهوم من القرب المطلق الملامسة و الالتصاق و هما من عوارض الجسميّة نزّه قربه تعالى عنها. فقال: غير ملامس فأخرجت هذه القرينة ذلك اللفظ عن حقيقته إلى مجازه و هو اتّصاله بالأشياء و قربه منها بعلمه المحيط و قدرته التامّة. الثاني: كونه بعيدا منها، و لمّا كان البعد يستلزم المباينة و هي أيضا من لواحق الجسميّة نزّهه عنها بقوله: غير مباين. و قد سبق بيان ذلك مرارا فكان بعده عنها إشارة إلى مباينته بذاته الكاملة عن مشابهة شي‏ء منها. الثالث: و كذلك قوله: متكلّم بلا رويّة. و كلامه يعود إلى علمه بصور الأوامر و النواهى و سائر أنواع الكلام عند قوم، و إلى المعنى النفسانىّ عند الأشعرى، و إلى خلقة الكلام في جسم النبىّ عند المعتزلة.

و قوله: بلا رويّة [لا برويّة خ‏].
تنزيه له عن كلام الخلق لكونه تابعا للأفكار و التروّى. الرابع: و كذلك مريد بلا همّة تنزيه لإرادته عن مثليّة إرادتنا في سبق العزم و الهمّة لها. الخامس: صانع بلا جارحة. و هو تنزيه لصنعه عن صنع المخلوقين لكونه بالجارحة الّتي هي من لواحق الجسميّة. السادس: و كذلك لطيف لا يوصف بالخفاء، و اللطيف يطلق و يراد به رقيق القوام، و يراد به صغير الحجم المستلزمين للخفاء، و عديم اللون من الأجسام، و المحكم من الصنعة. و هو تعالى منزّه عن إطلاقه بأحد هذه المعاني لاستلزام‏ الجسميّة و الإمكان فبقى إطلاقها عليه باعتبارين: أحدهما: تصرّفه في الذوات و الصفات تصرّفا خفيّا بفعل الأسباب المعدّة لها لإفاضة كمالاتها. و الثاني: جلالة ذاته و تنزيهها عن قبول الإدراك البصرى. السابع: رحيم لا يوصف بالرّقة. تنزية لرحمته عن رحمة أحدنا لاستلزامها رقّة الطبع و الانفعال النفسانىّ، و قد سبق بيان كونه تعالى رحيما الثامن: كونه عظيما تخضع الوجوه لعظمته. إذ هو الإله المطلق لكلّ موجود و ممكن فهو العظيم المطلق الّذي تفرّد باستحقاق ذلّ الكلّ و خضوعه له، و وجيب القلوب و اضطرابها من هيبته عند ملاحظة كلّ منها ما يمكن له من تلك العظمة.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 374

خطبه 177شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ وَ لَا يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ- وَ لَا يَحْوِيهِ مَكَانٌ وَ لَا يَصِفُهُ لِسَانٌ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ عَدَدُ قَطْرِ الْمَاءِ وَ لَا نُجُومِ السَّمَاءِ- وَ لَا سَوَافِي الرِّيحِ فِي الْهَوَاءِ- وَ لَا دَبِيبُ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا- وَ لَا مَقِيلُ الذَّرِّ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ- يَعْلَمُ مَسَاقِطَ الْأَوْرَاقِ وَ خَفِيَّ طَرْفِ الْأَحْدَاقِ- وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ غَيْرَ مَعْدُولٍ بِهِ- وَ لَا مَشْكُوكٍ فِيهِ وَ لَا مَكْفُورٍ دِينُهُ- وَ لَا مَجْحُودٍ تَكْوِينُهُ شَهَادَةَ مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ- وَ صَفَتْ دِخْلَتُهُ وَ خَلَصَ يَقِينُهُ وَ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الَمْجُتْبَىَ مِنْ خَلَائِقِهِ- وَ الْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ‏

وَ الْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ كَرَامَاتِهِ- وَ الْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالَاتِهِ- وَ الْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَى وَ الْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ الْعَمَى أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الدُّنْيَا تَغُرُّ الْمُؤَمِّلَ لَهَا وَ الْمُخْلِدَ إِلَيْهَا- وَ لَا تَنْفَسُ بِمَنْ نَافَسَ فِيهَا وَ تَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا- وَ ايْمُ اللَّهِ مَا كَانَ قَوْمٌ قَطُّ فِي غَضِّ نِعْمَةٍ مِنْ عَيْشٍ- فَزَالَ عَنْهُمْ إِلَّا بِذُنُوبٍ اجْتَرَحُوهَا- لِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَ لَوْ أَنَّ النَّاسَ حِينَ تَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ وَ تَزُولُ عَنْهُمُ النِّعَمُ- فَزِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِصِدْقٍ مِنْ نِيَّاتِهِمْ وَ وَلَهٍ مِنْ قُلُوبِهِمْ- لَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَارِدٍ وَ أَصْلَحَ لَهُمْ كُلَّ فَاسِدٍ- وَ إِنِّي لَأَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا فِي فَتْرَةٍ- وَ قَدْ كَانَتْ أُمُورٌ مَضَتْ مِلْتُمْ فِيهَا مَيْلَةً- كُنْتُمْ فِيهَا عِنْدِي غَيْرَ مَحْمُودِينَ- وَ لَئِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ إِنَّكُمْ لَسُعَدَاءُ وَ مَا عَلَيَّ إِلَّا الْجُهْدُ- وَ لَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ أقول: هذه الخطبة خطب بها بعد مقتل عثمان في أوّل خلافته.

 

اللغة

و الدخلة بالكسر و الضمّ: باطن الشي‏ء.

و المعتام: المختار.

و عقائل الشي‏ء: نفايسه.

و أشراط الهدى: علاماته.

و الغربيب: الأسود.

و المخلد إليها: المسلّم إليها اموره.

و لا تنفس: لا تضنّ و لا تبخل.

و غضّ النعمة: طريفها.

المعنى

و صدّر الخطبة بالإشارة إلى اعتبارات توحيديّة: الأوّل: أنّه لا يشغله شأن عن شأن، و ذلك لأنّ الشغل عن الشي‏ء إمّا لقصور القدرة أو العلم، و قدرته تعالى و علمه المحيطان بكلّ مقدور و معلوم فإذن لا يشغله مقدور عن مقدور و لا معلوم عن معلوم، و تقرير هاتين المسألتين في الكتب‏ الكلاميّة و الحكميّة. الثاني: لا يغيّره زمان، و إذ ثبت أنّه تعالى خالق الزمان، و لا زمان يلحقه.

فلا تغيّر يلحقه، و لأنّه واجب الوجود، و لا شي‏ء من المتغيّر في ذاته أو صفاته بواجب الوجود. فلا شي‏ء منه يلحقه التغيّر. الثالث: و لا يحويه مكان لبراءته عن الجسميّة و لواحقها، و كلّما كان كذلك فهو برى‏ء عن المكان و لواحقه فينتج أنّه برى‏ء من المكان و لواحقه. الرابع: و لا يصفه لسان: أى لا يعبر اللسان عن حقيقة وصفه، و بيان ما هو ذلك أنّه تعالى منزّه عن ركوب [وجوه خ‏] التراكيب فمحال أن يقع العقول على حقيقة وصفه فكيف باللسان الّذي هو المعبّر عنها. الخامس: و لا يعزب عنه عدد قطر الماء. إلى قوله: الأحداق، و هو إشارة إلى إحاطة علمه المقدّس بكلّيّات الأمور و جزئيّاتها، و هذه مسئلة عظيمة حارت العقول، و قد أشرنا إليها في المختصر الموسوم بالقواعد الإلهيّة.

ثمّ عقّب هذا التنزيه بالشهادة بكلمة التوحيد، و ذكر للّه تعالى أحوالا شهد بوحدانيّته عليها: الأوّل: كونه غير معدول به: أى لا عديل له و لا مثل.

الثاني: و لا مشكوك فيه: أى في وجوده فإنّ ذلك ينافي الشهادة بوحدانيّته.

الثالث: و لا مكفور دينه لأنّ الجحود لدينه يستلزم النقصان في معرفته فكان الاعتراف به كمالا لمعرفته و للشهادة بوحدانيّته.

الرابع: و لا مجحود تكوينه: أى إيجاده للموجودات و كونه ربّا لها. ثمّ عقّب وصف المشهود له حال تلك الشهادة بأوصاف الشاهد بها باعتبار شهادته: و هى كونه صادق النيّة في تلك الشهادة: أى باعتقاد جازم، و صافي الدخلة: أى نقىّ الباطن من الرياء و النفاق، و خالص اليقين بوجود المشهود أو كمال وحدانيّته من الشكوك و الشبهات فيه، و ثقيل الموازين بكمال تلك الشهادة و القيام بحقوقها من سائر الأعمال الصالحات، و أردفها باختها و ذكر للمشهود بحقّية رسالته أوصافا:

أحدها: كونه مجتبى من الخلايق و مصطفى منهم، و ذلك يعود إلى إكرامه بإعداد نفسه لقبول أنوار النبوّة. الثاني: و المعتام لشرح حقايقه: أى لإيضاح ما خفى من الحقائق الإلهيّة و الشرعيّة الّتى بيّنها. الثالث: المختصّ بنفايس كرامته، و هى الكمالات النفسانيّة من العلوم و مكارم الأخلاق الّتي اقتدر معها على تكميل الناقصين. الرابع: و المصطفى لكرائم رسالاته: أى لرسالاته الكريمة. و تعديدها باعتبار تعداد نزول الأوامر عليه فإنّ كلّ أمر أمر بتبليغه إلى الخلق رسالة كريمة. الخامس: الموضّحة به أعلام الهدى، و هى قوانين الشريعة و دلالات الكتاب و السنّة. السادس: و المجلوّ به غربيب العمى، و استعار لفظ الغربيب لشدّة ظلمة الجهل، و لفظ الجلاء لزوال تلك الظلم بأنوار النبوّة. ثمّ أيّه بالناس منبّها لهم على مقابح الدنيا و مذامّها. منها: تغرّ المؤمّل لها و الراكن إليها. و ذلك أنّ المؤمّل لبعض مطالبها لا يزال يتجدّد له أمارات خياليّة على مطالب و هميّة و أنّها ممكنة التحصيل نافعة فتوجب له مدّ الأمل، و قد يخترم دون بلوغها، و قد ينكشف بطلان تلك الأمارات بعد العناء الطويل، و منها: أنّها لا تنفس على من نافس فيها و أحبّها بل تسمح به للمهالك و ترميه بغرايب من النوايب، و منها: أنّها تغلب على من غلب عليها: أى من ملكها و أخذها بالغلبة فعن قريب تقهره و تهلكه، و الأوصاف المذكورة الّتى من شأنها أن تكون للعدوّ القوىّ الداهى و هى كونها تغرّ المؤمّل لها و تغلب مغالبها و لا تبقى على محبّها مستعارة، و وجه المشابهة استلزام الكون فيها و الاغترار بها و محبّتها و التملّك لها الهلاك فيها و في الآخرة كاستلزام الغرور بالعدوّ الداهى الّذي لا يحبّ أحدا و الركون إليه الهلاك.

ثمّ أخذ عليه السّلام في التنبيه على وجوب شكر المنعم و استدراكها بالفزع إلى اللّه، و أقسم أنّ زوالها عنهم ليس إلّا بذنوب اجترحوها، و ذلك إشارة إلى أنّ الذنوب تعدّلزوال النعم و حلول النقم لأنّهم لو استحقّوا إفاضة النعم مع الذنوب لكان منعهم إيّاها منعا للمستحقّ المستعدّ، و ذلك عين الظلم و هو من الجود الإلهي محال كما قال تعالى «وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»«» و إلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ»«» أى يستعدّوا للتغيّر بالمعاصى.

و قوله: و لو أنّ الناس. إلى قوله: كلّ فاسد. إشارة إلى أنّ الفزع إلى اللّه بصدق النيّة و وله القلب و تحيّره و ذهوله عن كلّ شي‏ء سوى اللّه يعدّ الإعداد التامّ لإفاضة المطالب سواء كانت عود نعمة أو استحداثها أو زوال نقمة أو استنزالها على عدوّ. و ردّ الشارد: أى من النعم، و إصلاح الفاسد: أى من سائر الأحوال.

و قوله: و إنّى لأخشى عليكم أن تكونوا في فترة. كنّى بالفترة عن أمر الجاهليّة كناية بالمجاز إطلاقا لاسم الظرف على المظروف: أى أخشى أن يكون أحوالهم [لكم خ‏] أحوال الجاهليّة في التعصّبات الباطلة بحسب الأهواء المختلفة. و قوله: و قد كانت امور. إلى قوله: محمودين. قالت الإماميّة: تلك الامور الّتي مالوا فيها هى تقديمهم عليه من سبق من الأئمّة، و قال غيرهم: هى حركاتهم و ميلهم عليه في تقديم عثمان وقت الشورى، و اختيارهم له و ما جرى فيها من الأقوال و الأفعال. و قوله: و لئن ردّ عليكم أمركم. أى صلاح أحوالكم و استقامة سيرتكم الّتي كنتم عليها في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم إنّكم لسعداء عند اللّه و في الدنيا. و ما علىّ إلّا الجهد: أى في عود ذلك الأمر عليكم. و قوله: و لو أشاء أن أقول لقلت. يفهم منه أنّه لو قال لكان مقتضى قوله نسبة من تقدّم عليه إلى الظلم له و تخطئهم في التقدّم عليه، و ذكر معايب يقتضى وجوب تأخّرهم في نظره. و تقدير الكلام: و لكنّى لا أقول فلم أكن مريدا للقول. و قوله: عفا اللّه عمّا سلف. إشارة إلى مسامحته لهم بما سبق منهم. إذ العادة جارية بأن يقول الإنسان مثل ذلك فيما تسامح به غيره من الذنوب، و أحسن العبارات في ذلك لفظ القرآن الكريم فيقتبس في الكلام. و باللّه التوفيق.

 

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 369

خطبه 176 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام في معنى الحكمين

فَأَجْمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَيْنِ- فَأَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ يُجَعْجِعَا عِنْدَ الْقُرْآنِ وَ لَا يُجَاوِزَاهُ- وَ تَكُونُ أَلْسِنَتُهُمَا مَعَهُ وَ قُلُوبُهُمَا تَبَعَهُ فَتَاهَا عَنْهُ- وَ تَرَكَا الْحَقَّ وَ هُمَا يُبْصِرَانِهِ- وَ كَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا وَ الِاعْوِجَاجُ رَأْيَهُمَا- وَ قَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ- وَ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَ جَوْرَ حُكْمِهِمَا- وَ الثِّقَةُ فِي أَيْدِينَا لِأَنْفُسِنَا حِينَ خَالَفَا سَبِيلَ الْحَقِّ- وَ أَتَيَا بِمَا لَا يُعْرَفُ مِنْ مَعْكُوسِ الْحُكْمِ أقول: هذا الفصل من خطبة خطبها بعد ما بلغه أمر الحكمين.

اللغة

و الإجماع: تصميم العزم.

و يجعجعا: يحبسا نفسهما على القرآن

المعنى
و الخطاب لمن أنكر عليه رضاه بالتحكيم بعد الرضا به، و قد حكى فيه إجماع رأى جماعتهم على اختيار الرجلين و هما أبو موسى الأشعرى و عمرو بن العاص و أخذه عليهما أن يحبسا نفسهما على العمل بالقرآن و لا يجاوزاه، و تكون ألسنتهما و قلوبهما معه، و اطلق لفظ القلوب على الميول الإراديّة مجازا إطلاقا لاسم السبب على المسبّب كقوله تعالى «فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما» و ذلك هو شرط رضاه عليه السّلام بالتحكيم. ثمّ حكى‏ خروجهما عمّا اشترط عليهما و تيهه ما عن الكتاب و تركهما للحقّ مع إبصارهما له، و خروجه ما عن فضيلة العدل بحسب الهوى إلى رذيلة الجور و الاعوجاج عن طريقة الحقّ. و قوله: و قد سبق استثناؤنا. إعادة لذكر سبق الشرط في الحكم بالعدل، و سوء رأيهما منصوب لأنّه مفعول سبق. و قوله: و الثقة في أيدينا لأنفسنا. أى إنّا على برهان وثقة من أمرنا، و ليس بلازم لنا حكمهما لأنّهما خالفا الشرط و آتيا بما لا يعرف من الحكم المعكوس، و قد حكينا فيما سبق طرفا من حال التحكيم و خداع عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعرى. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 367

خطبه 175 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السلام

انْتَفِعُوا بِبَيَانِ اللَّهِ وَ اتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللَّهِ- وَ اقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللَّهِ- فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْكُمْ بِالْجَلِيَّةِ وَ أَخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ- وَ بَيَّنَ لَكُمْ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَ مَكَارِهَهُ مِنْهَا- لِتَتَّبِعُوا هَذِهِ وَ تَجْتَنِبُوا هَذِهِ- فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص كَانَ يَقُولُ- إِنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ- وَ إِنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ شَيْ‏ءٌ إِلَّا يَأْتِي فِي كُرْهٍ- وَ مَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَيْ‏ءٌ إِلَّا يَأْتِي فِي شَهْوَةٍ- فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ وَ قَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ- فَإِنَّ هَذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْ‏ءٍ مَنْزِعاً- وَ إِنَّهَا لَا تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَى مَعْصِيَةٍ فِي هَوًى- وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُمْسِي وَ لَا يُصْبِحُ-

إِلَّا وَ نَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ- فَلَا يَزَالُ زَارِياً عَلَيْهَا وَ مُسْتَزِيداً لَهَا- فَكُونُوا كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ وَ الْمَاضِينَ‏ أَمَامَكُمْ- قَوَّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِلِ وَ طَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازِلِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ- وَ الْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ وَ الْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ- وَ مَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ- زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ- وَ لَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِن غِنًى- فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ- وَ اسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ- فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ- وَ هُوَ الْكُفْرُ وَ النِّفَاقُ وَ الْغَيُّ وَ الضَّلَالُ- فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ وَ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ- وَ لَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ- إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَ قَائِلٌ مُصَدَّقٌ- وَ أَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ- وَ مَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ- فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- أَلَا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وَ عَاقِبَةِ عَمَلِهِ- غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ- فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَ أَتْبَاعِهِ- وَ اسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ وَ اسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ- وَ اتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ وَ اسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ الْعَمَلَ الْعَمَلَ ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ- وَ الِاسْتِقَامَةَ الِاسْتِقَامَةَ ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ وَ الْوَرَعَ الْوَرَعَ- إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ- وَ إِنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ- وَ إِنَّ لِلْإِسْلَامِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى غَايَتِهِ- وَ اخْرُجُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ- وَ بَيَّنَ لَكُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ- أَنَا شَاهِدٌ لَكُمْ وَ حَجِيجٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْكُمْ أَلَا وَ إِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدْ وَقَعَ- وَ الْقَضَاءَ الْمَاضِيَ قَدْ تَوَرَّدَ- وَ إِنِّي مُتَكَلِّمٌ بِعِدَةِ اللَّهِ وَ حُجَّتِهِ- قَالَ اللَّهُ تَعَالَى- إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا- تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا- وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ وَ قَدْ قُلْتُمْ رَبُّنَا اللَّهُ فَاسْتَقِيمُوا عَلَى كِتَابِهِ- وَ عَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِهِ وَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادَتِهِ-

ثُمَّ لَا تَمْرُقُوا مِنْهَا وَ لَا تَبْتَدِعُوا فِيهَا- وَ لَا تُخَالِفُوا عَنْهَا فَإِنَّ أَهْلَ الْمُرُوقِ مُنْقَطَعٌ بِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِيَّاكُمْ وَ تَهْزِيعَ الْأَخْلَاقِ وَ تَصْرِيفَهَا- وَ اجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً وَ لْيَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ- فَإِنَّ هَذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ- وَ اللَّهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْزُنَ لِسَانَهُ- وَ إِنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ- وَ إِنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ- لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ- فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ وَ إِنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ- وَ إِنَّ الْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ- لَا يَدْرِي مَا ذَا لَهُ وَ مَا ذَا عَلَيْهِ- وَ لَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص- لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ

حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ- وَ لَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ- فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى- وَ هُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَ أَمْوَالِهِمْ- سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ فَلْيَفْعَلْ وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَحِلُّ الْعَامَ- مَا اسْتَحَلَّ عَاماً أَوَّلَ وَ يُحَرِّمُ الْعَامَ مَا حَرَّمَ عَاماً أَوَّلَ- وَ أَنَّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ لَا يُحِلُّ لَكُمْ شَيْئاً- مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ- وَ لَكِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَ الْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ- فَقَدْ جَرَّبْتُمُ الْأُمُورَ وَ ضَرَّسْتُمُوهَا- وَ وُعِظْتُمْ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ ضُرِبَتِ لَكُمْ الْأَمْثَالُ وَ دُعِيتُمْ إِلَى الْأَمْرِ الْوَاضِحِ فَلَا يَصَمُّ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا أَصَمُّ- وَ لَا يَعْمَى عَنْ ذَلِكَ إِلَّا أَعْمَى- وَ مَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ وَ التَّجَارِبِ- لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْعِظَةِ وَ أَتَاهُ التَّقْصِيرُ مِنْ أَمَامِهِ- حَتَّى يَعْرِفَ مَا أَنْكَرَ وَ يُنْكِرَ مَا عَرَفَ- فَإِنَّ النَّاسَ رَجُلَانِ مُتَّبِعٌ شِرْعَةً وَ مُبْتَدِعٌ بِدْعَةً- لَيْسَ مَعَهُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ سُنَّةٍ وَ لَا ضِيَاءُ حُجَّةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ- فَإِنَّهُ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَ سَبَبُهُ الْأَمِينُ- وَ فِيهِ رَبِيعُ الْقَلْبِ وَ يَنَابِيعُ الْعِلْمِ- وَ مَا لِلْقَلْبِ جِلَاءٌ غَيْرُهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الْمُتَذَكِّرُونَ- وَ بَقِيَ النَّاسُونَ أَوِ الْمُتَنَاسُونَ- فَإِذَا رَأَيْتُمْ خَيْراً فَأَعِينُوا عَلَيْهِ- وَ إِذَا رَأَيْتُمْ شَرّاً فَاذْهَبُوا عَنْهُ-

فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص‏ كَانَ يَقُولُ- يَا ابْنَ آدَمَ اعْمَلِ الْخَيْرَ وَ دَعِ الشَّرَّ- فَإِذَا أَنْتَ جَوَادٌ قَاصِدٌ أَلَا وَ إِنَّ الظُّلْمَ ثَلَاثَةٌ- فَظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ وَ ظُلْمٌ لَا يُتْرَكُ- وَ ظُلْمٌ مَغْفُورٌ لَا يُطْلَبُ- فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ- قَالَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يُغْفَرُ- فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْهَنَاتِ- وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ- فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً- الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى- وَ لَا ضَرْباً بِالسِّيَاطِ وَ لَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ- فَإِيَّاكُمْ وَ التَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللَّهِ- فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيمَا تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ- خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِيمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ- وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَيْراً مِمَّنْ مَضَى- وَ لَا مِمَّنْ بَقِيَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ- طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ- وَ طُوبَى لِمَنْ لَزِمَ بَيْتَهُ وَ أَكَلَ قُوتَهُ- وَ اشْتَغَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ وَ بَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ- فَكَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِي شُغُلٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ

اللغة

أقول: الظنون: المتّهمة.

و الزارى: العايب.

و تقويض البناء: نقضه.

و اللأواء: الشدّة.

و محل به السلطان: كاده و قال فيه ما يضرّه.

و تورّدت الخيل البلدة: دخلتها قطعة قطعة.

و تهزيع الأخلاق: تكسيرها و تفريقها.

و ضرست الأمر: أحكمته تجربة.

المعنى

و قد أمر السامعين أن ينتفعوا ببيان اللّه في كتابه و على لسان رسوله، و يتّعظوا بمواعظه و يقبلوا نصيحته فيما لأجله خلقوا، و إنّما عدّد اسم اللّه صريحا دون‏ الضمير للتعظيم. ثمّ أشار إلى وجه وجوب الامتثال عليهم و هو إعذاره إليهم بالجليّة: أى إظهار ما هو صورة العذر من الآيات و النذر الجليّة الواضحة، و اتّخاذ الحجّة ببعث الرسل، و بيان محابّه من الأعمال الصالحات و مكارهه من المحرّمات في كتابه العزيز لغاية اتّباع محابّه و اجتناب مكارهه. ثمّ نبّه على ما في الطاعة و امتثال التكليف من الشدّة و المكروه فذكر الخبر، و نعم ما تضمّنه الخبر و أنّه لم ينبّه على الشدّة مجرّدة بل قرنها بذكر الجنّة و جعلها محجوبة بها لتحصل الرغبة في الجنّة فيتمّ السعى في قطع تلك الحجب المكروهة، و كذلك قرن ذكر الشهوات بذكر كونها محفوفة بها بالنار تنفيرا عنها. ثمّ بعد تسهيل المكاره الّتي يشتمل عليها الطاعات بذكر الجنّة و تحقير الشهوات الّتي يريد الجذب عنها بذكر النار صرّح بأنّه لا تأتى طاعة إلّا في كره و لا معصية إلّا في شهوة، و قد عرفت سرّ ذلك، و أنّ النفس للقوّة الشهويّة أطوع منها للعقل خصوصا فيما هو أقرب إليها من اللذّات المحسوسة الّتي يلحقها العقاب عليها. ثمّ عقّب ذلك بدعاء اللّه أن يرحم امرأ نزع عن شهوته: أى امتنع من الانهماك فيها و قمع نفسه الأمّارة بالسوء فإنّها أبعد شي‏ء منزعا عن اللّه. ثمّ فسّر منزعها الّذي ينزع إليه و هي المعصية في هواها، و ما تميل إليه. ثمّ نبّه على حال المؤمن الحقّ و تهمته نفسه في جميع أوقاته من صباح و مساء، و أنّه لا يزال عائبا عليها و مراقبا لأحوالها، و مؤاخذا لها بالزيادة في الأعمال الصالحة، و قد سبقت الإشارة إلى ذلك. ثمّ أمرهم أن يكونوا كالسابقين من أكابر الصحابة و الماضين أمامهم إلى الجنّة في الإعراض عن الدنيا، و استعار لفظ التقويض و الطىّ لقطعهم علائق الدنيا و رحيلهم إلى الآخرة كما يقوّض الراحل متاعه للسفر، و يطوى خيامه للرحيل. ثمّ عقّب بذكر القرآن و ممادحه ترغيبا في الاقتداء به، و استعار وصف الناصح له، و وجه الاستعارة أنّ القرآن يرشده إلى وجوه المصالح كما أنّ الناصح كذلك، و رشّح بكونه لا غشّ معه و كذلك كونه هاديا لا يضلّ: أى طريق اللّه، و روى لا يضلّ: أى لا يضلّ غيره، و كذلك استعار وصف المحدّث له، و رشّح بكونه لا يكذب، و وجه الاستعارة اشتماله على الأخبار و القصص الصحيح، و فهمه و استفادته عنه كالمحدّث الصادق، و كنّى بمجالسة القرآن عن مجالسة حملته و قرّائه لاستماعه منهم، و تدبّره عنهم فإنّ فيه من الآيات الباهرة و النواهي الزاجرة ما يزيد بصيرة المستبصر من الهدى، و ينقص من عمى الجهل. ثمّ نبّههم على أنّه ليس بعده على أحد فقر: أى ليس بعد نزوله للناس و بيانه الواضح حاجة بالناس إلى بيان حكم في إصلاح معاشهم و معادهم، و لا لأحد قبله من غنى: أى قبل نزوله لا غنى عنه للنفوس الجاهلة، و إذا كان بهذه الصفة أمرهم بأخذ الشفاء عنه لأدوائهم: أى أدواء الجهل، و أن يستعينوا به على شدّتهم و فقرهم إلى أن يستليحوا منه وجوه المصالح الدنيويّة و الاخرويّة.

ثمّ عدّ أكبر أدواء الجهل و أعاد ذكر كونه شفاء منها: أوّلها: الكفر باللّه و هو عمى القوّة النظريّة من قوى النفس عن معرفة صانعها و مبدعها إلى غاية إنكاره أو اتّخاذ ثان له أو الحكم عليه بصفات المخلوقين المحدّثين، و الثاني: النفاق و هو مستلزم لرذيلة الكذب المقابلة لفضيلة الصدق. ثمّ لرذيلة الغدر المقابلة لفضيلة الوفاء، و قد سبق بيان حال النفس في هاتين الرذيلتين. الثالث: الغىّ و هو رذيلة التفريط من فضيلة الحكمة. الرابع: الضلال و هو الانحراف عن فضيلة العدل، و إلى كونه شفاء الإشارة بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ القلوب تصدء كما يصدء الحديد. قيل: يا رسول اللّه ما جلاؤها قال: قراءة القرآن و ذكر الموت، و قد علم اشتماله على ذكر الموت في مواضع كثيرة. ثمّ أمرهم أن يسألو اللّه به، و المراد أنّكم اعدّوا أنفسكم و كمّلوها لاستنزال المطالب من اللّه بما اشتمل عليه القرآن من الكمالات النفسانيّة، و توجّهوا إليه بحبّه لأنّ من أحبّه استكمل بما فيه فحسن توجّهه إلى اللّه.

و قوله: و لا تسئلوا به خلقه.
و قوله: و لا تسئلوا به خلقه. أى لا تجعلوا تعلّمكم له لطلب الرزق به من خلق مثلكم فإنّه لم ينزل لذلك.

و قوله: إنّه [فإنّه خ‏] ما توجّه العباد إلى اللّه بمثله.
و قوله: إنّه [فإنّه خ‏] ما توجّه العباد إلى اللّه بمثله. و ذلك لاشتماله على جميع الكمالات النفسانيّة من العلوم، و مكارم الأخلاق‏ و النهى عن جميع الرذائل الموبقة. ثم استعار لفظى الشافع و المشفّع. و وجه الاستعارة كون تدبّره و العمل بما فيه ماحيا لما يعرض للنفس من الهيئات الرديئة من المعاصي، و ذلك مستلزم لمحو غضب اللّه كما يمحو الشفيع المشفّع أثر الذنب عن قلب المشفوع إليه، و ذلك سرّ الخبر المرفوع ما من شفيع من ملك و لا نبىّ و لا غيرهما أفضل من القرآن، و كذلك لفظ القائل المصدّق، و وجه الاستعارة كونه ذا ألفاظ إذا نطق بها لا يمكن تكذيبها كالقائل الصادق. ثمّ أعاد معنى كونه شافعا مشفّعا يوم القيامة. ثمّ استعار لفظ المحل للقرآن، و وجه الاستعارة أنّ لسان حال القرآن شاهد في علم اللّه و حضرة ربوبيّته على من أعرض عنه بعدم اتّباعه و مخالفته لما اشتمل عليه، و تلك شهادة لا يجوز عليها الكذب فبالواجب أن يصدق فأشبه الساعى إلى السلطان في حقّ غيره بما يضرّه.

و قوله: فإنّه لا ينادى مناد يوم القيامة. إلى آخره.
و قوله: فإنّه لا ينادى مناد يوم القيامة. إلى آخره. فالمنادى هو لسان حال الأعمال، و الحرث كلّ عمل تطلب به غاية و تستخرج منه ثمرة، و الابتلاء هاهنا ما يلحق النفس على الأعمال و عواقبها من العذاب بقدر الخروج فيها عن طاعة اللّه، و ظاهر أنّ حرث القرآن و البحث عن مقاصده لغاية الاستكمال به برى‏ء من لواحق العقوبات. ثمّ حثّهم على أن يكونوا من حرثته و أتباعه، و أن يستدلّوه: أى يتّخذوه دليلا قاعدا إلى ربّهم، و أن يستنصحوه على انفسهم: أى يتّخذوه ناصحا على نفوسهم الأمّارة بالسوء لكونها هي الغاشية لهم يقودها إلى معصية اللّه، و كون القرآن زاجرا لهم عمّا تأمرهم به تلك النفوس فيجب أن تقبل نصيحته عليها، و كذلك اتّهموا عليه آرائكم: أى إذا رأيتم رأيا يخالف القرآن فاتّهموا ذلك الرأى فإنّه صادر عن النفس الأمّارة بالسوء، و كذلك قوله: و استغشّوا فيه أهوائكم، و إنّما قال هنا: استغشّوا، و قال في الآراء: اتّهموا لأنّ الهوى هو ميل النفس الأمّارة من غير مراجعة العقل فإذا حكمت النفس عن متابعتها بحكم فهو غشّ صراح، و أمّا الرأي فقد يكون‏ بمراجعة العقل و حكمه، و قد يكون بدونه فجاز أن يكون حقّا، و جاز أن يكون باطلا فكان بالتهمة أولى.

ثمّ أمر بلزوم العمل الصالح. ثمّ بحفظ النهاية المطلوبة منهم بالعمل و الوصول إليها منه: أى راعوا عاقبتكم و نهاية أعمالكم و غايتها فإنّ الأمور بخواتيمها. ثمّ أمر بالاستقامة: أى على العمل. ثمّ بالصبر عليه، و حقيقته مقاومة الهوى لئلّا ينقاد إلى قبائح اللذّات فيخرج عن الصراط. ثمّ بالورع، و هو لزوم الأعمال الجميلة، و إنّما عطف النهاية و الصبر بثمّ لتأخّر نهاية العمل عنه، و كون الصبر أمرا عدميّا فهو في معنى المتراخي و المنفك عن العمل الّذي هو معنى وجوديّ بخلاف الاستقامة على العمل فإنّها كيفيّة له، و الورع فإنّه جزء منه، و كرّر تلك الألفاظ للتأكيد، و النصب في جميعها على الإغراء. ثمّ أشار إلى أنّ تلك النهاية هي النهاية الّتي لهم و أمرهم بالانتهاء إليها، و هي الأمر الّذي خلقوا لأجله أعنى الوصول إلى اللّه طاهرين عن رجس الشيطان، و هو لفظ الخبر النبويّ أيّها الناس إنّ لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، و إنّ لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم فإنّ المراد بالغاية و النهاية واحد، و المراد بالمعالم حظائر القدس و منازل الملائكة، و كذلك إنّ لكم علما فاهتدوا بعلمكم: أى إلى تلك النهاية. و استعار لفظ العلم لنفسه. ثمّ أخبر أنّ للإسلام غاية و أمرهم بالانتهاء إليها، و تلك الغاية هي النهاية المشار إليها.

و قوله: و أخرجوا إلى اللّه. إلى قوله: وظائفه.
و قوله: و أخرجوا إلى اللّه. إلى قوله: وظائفه. فالتقدير أخرجوا من حقّه فيما افترض عليكم، و حقّه في فرائضه و وظائفه الإخلاص بها لوجهه. ثمّ رغّبهم في طاعته و اتّباع أوامره بكونه شاهدا لهم يوم القيامة و محتجّا. قال بعض الشارحين: و إنّما ذكر الاحتجاج و إن كان ذلك الموقف ليس موقف محاجّة لأنّه إذا شهد لهم فكأنّه أثبت الحجّة لهم فأشبه المحاجّ، و أقول: لمّا كان إمام كلّ قوم هو المخاطب عنهم و الشهيد لهم كما قال تعالى «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ»«» و قوله «وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ»«» و كان ذلك الموقف هو موقف السؤال و الجواب كان ذلك معنى المحاجّة و المجادلة. فالخلوص من الأسئلة بأجوبتها يشبه غلب المسئول بالحجّة و هو البرهان المطلوب، و جرت العادة بأنّ البرهان يكون عند المحاجّة، و كذلك الانقطاع عن الجواب يشبه كون المسئول محجوجا، و هذا الاحتجاج و الشهادة مقاليّة عند القائلين بحشر الأجساد، و حاليّة عند غيرهم. ثمّ أخبر أنّ القدر السابق في علم اللّه قد وقع، و القضاء الماضى: أى النافذ قد تورّد: أى دخل في الوجود شيئا فشيئا، و قد علمت فيما سلف أنّ القضاء هو العلم الإلهى بما يكون و ما هو كائن، و أنّ القدر تفصيله الواقع على وفقه لكنّه أشار بوقوع القدر هنا إلى وقع خاص و هو خلافته و ما يلزمها من الفتن و الوقايع، و روى أنّ هذه الخطبة من أوائل الخطب الّتي خطب بها أيّام بويع بعد قتل عثمان. قال بعض الشارحين: و في هذا الكلام إشارة إلى أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبره أنّ الأمر سيصل إليه في آخر وقته، و أقول: لا شكّ أنّ وقوع هذا الأمر من القدر السابق على وفق القضاء، و ليس للّفظ إشعار بما قال هذا الفاضل. إذ كان عليه السّلام عالما بأنّ كلّ واقع في الوجود فبقضاء من اللّه و قدر.

و قوله: و إنّى متكلّم بعدة اللّه و حجّته.
و قوله: و إنّى متكلّم بعدة اللّه و حجّته. أى لمّا وقع هذا الأمر إلىّ فإنّى أتكلّم بكذا، وعدة اللّه ما وعد به عباده الّذين اعترفوا بربوبيّته و استقاموا على سلوك سبيله بطاعته من تنزّل الملائكة عليهم بذهاب الخوف و الحزن و البشارة بالجنّة، و أمّا حجّته الّتي تكلّم بها فقوله: و قد قلتم ربّنا اللّه: أى اعترفتم بالربوبيّته فاستقيموا على كتابه و على منهاج أمره و على الطريقة الصالحة من عبادته: أى الّتي هي عن علم و الخالصة من الرياء و النفاق من غير أن يمرقوا منها: أى يخرجوا فيها بالتحذلق و التشدّد إلى طرف الإفراط الّذي هو ثمرة الجهل، و لا تحدثوا فيها بدعة و لا تخالفوا عنها و تحيدوا يمينا و شمالا فتقعوا في مهاوى الهلاك فإنّكم متى فعلتم ذلك فقد تمّ شرط استحقاقكم لإنجاز عدته المذكورة فإنّ ذلك الشرط مركّب من الاعتراف بربوبيّته، و الاستقامة على الامور المذكورة فحينئذ يجب أن تفاض تلك العدة، و مع فوات جزء من ذلك الشرط لا يقع المشروط فلم يتحقّق الموعود به، و ذلك معنى كون أهل المروق‏ منقطعا بهم: أى لا يجدون بلاغا يوصلهم إلى المقصد لأنّ الشرط هو البلاغ إلى المقصد الحقيقىّ. ثمّ شرع في النهى عن النفاق لأنّ تهزيع الأخلاق تغييرها و نقلها من حال إلى حال و هو معنى تصريفها، و ذلك هو النفاق. إذ المنافق لا يلزم خلقا واحدا بل تارة يكون صادقا، و تارة كاذبا، و تارة وفيّا، و اخرى غادرا، و مع الظالمين ظالم، و مع أهل العدل عادل، و لذلك قال: و اجعلوا اللسان واحدا، و هو شروع في الوصيّة بحال اللسان وعد له: أى لا يكوننّ أحدكم ذا لسانين و هو المنافق.. ثمّ أمر بخزنه و استلزم النهى عن امور، و هي الفضل من القول و وضعه في غير مواضعه و الغيبة و النميمة و السعاية و المسابة و القذف و نحوه، و كلّها رذائل في طرف الإفراط من فضيلة العدل.

و قوله: فإنّ اللسان جموح بصاحبه.
و قوله: فإنّ اللسان جموح بصاحبه. تعليل لذلك النهى، و إشارة إلى خروجه بصاحبه عن فضيلة العدل إلى الرذائل الّتي هي موارد الهلكة في الآخرة و الدنيا كما أنّ الفرس الجموح مخرج بصاحبه إلى الهلاك، و لفظ الجموح مستعار له بهذا الاعتبار. ثمّ أقسم أنّه لا متّقى ينفعه تقواه إلّا بخزن لسانه، و هو حقّ لأنّ التقوى النافع هو تقوى التامّ، و خزن اللسان و كفّه عن الرذائل المذكورة جزء عظيم من التقوى لا يتمّ بدونه فهي إذن لا ينفع إلّا به. ثمّ نبّه على ما ينبغي عند إرادة القول من التثبّت و التأمّل ما يراد النطق به و على ما لا ينبغي من القول بغير مراجعة الفكر، و قرن الأوّل بالإيمان ترغيبا فيه، و الثاني بالنفاق تنفيرا عنه.

و قوله: لأنّ المؤمن. إلى قوله: و ما ذا عليه.
و قوله: لأنّ المؤمن. إلى قوله: و ما ذا عليه. بيان لمعنى كون اللسان وراء و أماما، و تلخيص هذا البيان أنّ الوراء في الموضعين كناية عن التبعيّة لأنّ لسان المؤمن تابع لقلبه فلا ينطق إلّا بعد تقديم الفكر فيما ينبغي أن يقوله، و قلب المنافق و ذكره متأخّر عن نطقه فكان لفظ الوراء استعارة من المعنى المحسوس للمعقول فأمّا الخبر النبوىّ المذكور فهو استشهاد على أنّ الإيمان لا يتمّ إلّا باستقامة اللسان على الحقّ و خزنه عن الرذائل‏ الّتى عدّدناها و ذلك عين ما ادّعاه في قوله: إنّ التقوى لا ينفع العبد حتّى يخزن لسانه. فأمّا برهان الخبر فهو أنّ استقامة القلب عبارة عن التصديق باللّه و رسوله و اعتقاد حقيّة ما وردت به الشريعة من المأمورات و المنهيّات، و ذلك عين الإيمان و حقيقته فإذن لا يستقيم الإيمان حتّى يستقيم القلب، و أمّا أنّه لا يستقيم القلب حتّى يستقيم اللسان فلأنّ استقامة اللسان على الإقرار بالشهادتين و لوازمها و على الإمساك عمّا لا ينبغي من الأمور المعدودة من لوازم استقامة القلب لحكمنا على غير المقرّ بتلك الامور و القائل بها بعدم الإيمان الكامل، و لا يستقيم أمر من دون لازمه.

و قوله: فمن استطاع. إلى قوله: فليفعل.
و قوله: فمن استطاع. إلى قوله: فليفعل. أمر بالاجتهاد في لقاء اللّه تعالى على أحوال، و هي نقاء الراحة من دماء المسلمين و أراد السلامة من قتل النفس، و أموالهم و أراد السلامة من الظلم، و أن يكون الإنسان سليم اللسان من أعراضهم و أراد الكفّ عن الغيبة و السبّ، و شرط ذلك بالاستطاعة لعسره و شدّته و إن كان واجب الترك على كلّ حال، و أشدّها الكفّ عن الغيبة فإنّه يكاد أن لا يستطاع، و إلى نحو هذا إشارة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المسلّم من سلم المسلمون من يده و لسانه. فسلامتهم من يده سلامة دمائهم و أموالهم، و سلامتهم من لسانه سلامة أعراضهم، و أعمّ من ذلك قال بعض الحكماء: من علم أنّ لسانه جارحة من جوارحه أقلّ من إعمالها و استقبح إدامة تحريكها كما يستقبح أن يحرّك رأسه أو منكبه دائما.

و قوله: و اعلموا. إلى قوله: حرّم عليكم
و قوله: و اعلموا. إلى قوله: حرّم عليكم قال بعض الشارحين: هو إشارة إلى أنّ ما ثبت من طريق النصّ أو العادة الّتي شهد بها النصّ في زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يجوز أن ينقض بالقياس و الاجتهاد بل كلّ ما ورد به النصّ فيتبع فيه مورد النصّ فما كان حلالا بمقتضى النصّ و عمومه العام الماضى فهو في هذا العام حلال، و كذا في الحرام، و عموم هذا الكلام يقتضى عدم جواز نسخ النصّ و تخصيصه بالقياس و هو مذهب الإماميّة لاعتقادهم بطلان القول بالقياس المتعارف، ومذهب جماعة من الاصوليّين مع اعترافهم بصحّة القياس، و من يجوّز تخصيصه به يحمل هذا الكلام على عدم قبول القياس في نسخ النصّ من كتاب أو سنّة، و ما أحدثه الناس إشارة إلى القياس.

و قوله: و لكنّ الحلال ما أحلّ اللّه و الحرام ما حرّم اللّه،
و قوله: و لكنّ الحلال ما أحلّ اللّه و الحرام ما حرّم اللّه، تأكيد لاتّباع النصّ و ما كان عليه الصحابة من الدين ممّا هو معلوم بينهم دون ما أحدث من الآراء و المذاهب.

و قوله: و قد جرّبتم الامور و ضرّستموها. إلى قوله: الأمر الواضح.
و قوله: و قد جرّبتم الامور و ضرّستموها. إلى قوله: الأمر الواضح. إشارة إلى وجوه العلم و مأخذه، و وجه اتّصاله بما قبله أنّهم إذا كانوا قد أحكموا الامور تجربة، و وعّظوا بمن كان قبلهم، و ضربت لهم الأمثال، و دعوا إلى الأمر الواضح و هو الدين و طريقه فلا بدّ أن تكون نفوسهم قد استعدّت بذلك لعلم الأحكام الشرعيّة و مقاصدها من الكتاب و السنّة و عادات الرسول و الصحابة، و لا يخفى عليهم ما ابتدع بعدها، و أنّ كلّ بدعة حرام فضلا أن ترفع حكم نصّ أو سنّة سبق العلم بها، و لا يصمّ عن هذه المواعظ و الأمثال و الدعوة إلى الدين إلّا أصمّ. أى من هو شديد الصمم كما يقال: ما يجهل بهذا الأمر إلّا جاهل: أى أشدّ الناس جهلا، و كذلك لا يعمى عنه: أى لا يعمى عنه بصيرة إلّا بصيرة اشتدّ عماها.

و قوله: من لم ينفعه. إلى قوله: من أمامه.
و قوله: من لم ينفعه. إلى قوله: من أمامه. كلام حقّ، و ذلك أنّ الإنسان في مبدء الفطرة خال عن العلوم، و إنّما خلقت له هذه الآلات البدنيّة ليتصفّح بها صور المحسوسات و معانيها و يتنبّه لمشاركات بينها و مباينات فيحصل له التجربة و سائر العلوم الضروريّة و المكتسبة فمن لم ينتفع بالبلاء: أى بامتحان الأمور و تجاريبها، و هو إشارة إلى اعتبار الأمور و التفكّر فيها و الابتلاء بها كالوقوع في المكاره و معاناة الأعمال و لم يستفد منها علما فظاهر أنّه لا ينفعه العظة لأنّ العظة فرع تصفّح الأمور و اعتبار آيات اللّه منها، و محال أن يحصل فرع من دون أصله و حينئذ يأتيه النقص في كمال نفسه و وجوه مصالحه، و يحتمل أن لا يريد بالعظة الاتّعاظ بل الموعظة، و ظاهر أنّ الموعظة أيضا لا ينفعه لأنّ البلاء بالمكاره و الوقائع النازلة أقوى فعلا في النفس و أكثر تأثيراً فإذا لم ينتفع بها و لم يستفد منها علما فبالأولى أن لا ينتفع بالموعظة.

و قوله: من أمامه.
و قوله: من أمامه. لأنّ الكمالات الّتي يتوجّه إليها بوجه عقله تفوته لنقصان تجربته و وقوف عقله عنها فأشبه فوتها له مع طلبه لها إتيان النقصان له من أمامه.

و قوله: حتّى يعرف ما أنكر و ينكر ما عرف.
و قوله: حتّى يعرف ما أنكر و ينكر ما عرف. إشارة إلى غاية نقصانه، و هي الاختلاط و الحكم على غير بصيرة فتارة يتخيّل فيما أنكره و جهله أنّه عارف بحقيقته، و تارة ينكر ما كان يعرفه و يحكم بصحّته لخيال يطرأ عليه. ثمّ قسّم لهم الناس إلى قسمين: فقسم متّبع شرعة: أى طريقة و منهاجا و هو منهاج الدين، و قسم مبتدع بدعة بغير برهان سنّة من اللّه يعتمد عليه، و لا ضياء حجّة يقوده في ظلمات الجهل ليلحقوا بأفضل القسمين.

و قوله: إنّ اللّه سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن.
و قوله: إنّ اللّه سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن. رجوع إلى ممادح القرآن، و استعار له ألفاظا: الأوّل: لفظ الحبل، و رشّح بالمتين، و قد عرفت وجه هذا الاستعارة مراراً. الثاني: و كذلك سببه الأمين. الثالث: لفظ الربيع، و وجهها أنّ القلوب يحيى به كما يحيى الأنعام بالربيع. الرابع: لفظ الينابيع، و وجهها أنّ العلوم عند تدبّره و التفهم عنه تغيض عنه و ينتفع بها كما يغيض الماء عن الينابيع. الخامس: لفظ الجلاء، و وجهها أنّ الفهم عنه يكشف عن القلوب صداء الجهل كما يجلو الصيقل المرآة.
فإن قلت: فلم قال: و ليس للقلب جلاء غيره مع أنّ سائر العلوم جلاء له.
فالجواب من وجهين: أحدهما: أنّ العلوم الجالية للقلب هي المعدّة لسلوك سبيل اللّه و الوصول إلى الغاية من الكمال النفسانىّ كالعلوم الإلهيّة، و علم الأخلاق و أحوال المعاد، و لا علم منها إلّا و في القرآن أصله و مادّته و هو مقتبس من القرآن. الثاني: أنّ هذا الكلام صدر عنه عليه السّلام و لم يكن في ذلك الزمان علم مدوّن و لا استفادة للمسلمين إلّا من

و قوله: مع أنّه قد ذهب المتذكّرون
و قوله: مع أنّه قد ذهب المتذكّرون: أى المتدبّرون لمقاصد القرآن، و بقى الناسون له و المتناسون المتعمّدون للتشاغل و النسيان للجواذب إلى اللّه، و هو في معنى التوبيخ لهم. ثمّ أمرهم بإعانة من يعمل الخير على فعله، و وجوه الإعانة كثيرة. ثمّ بالإعراض عن الشرّ و إنكاره عند رؤيته و استشهد على وجوب امتثال أمره بالخبر النبوىّ، و قد نبّه الخبر على وجوب عمل الخير و الانتهاء عن الشرّ باستلزام ذلك لكون فاعله جوادا قاصدا، و استعار وصفى الجواد القاصد، و وجه المشابهة أنّ العامل للخير المنتهى عن الشرّ مستقيم على طريق اللّه فلا تعريج في طريقه و لا اعوجاج فيكون سيره في سلوك سبيل اللّه أسرع سير كالجواد من الخيل المستقيم على الطريق. ثمّ قسّم عليه السّلام الظلم إلى ثلاثة أقسام: الأوّل: الظلم الّذي لا يغفر أصلا. و هو ظلم النفس بالشرك باللّه، و برهانه النصّ و المعقول: أمّا النصّ فقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» و أمّا المعقول فلأنّ المغفرة عبارة إمّا عن محو آثار الجرائم عن ألواح النفوس أو عمّا يلزم ذلك من ستر اللّه على النفوس أن تحترق بنار جهنّم، و الهيئات البدنيّة الّتي حجبت نفوس المشركين عن معرفة اللّه هيئات متمكّنة من تلك النفوس قد صارت ملكات لا يمكن زوالها مع عدم مسكتهم بالمعارف الإلهيّة فهم في العذاب ماكثون، و في سلاسل تلك الهيئات و أغلالها مكبّلون فإذن لا يتحقّق المغفرة في حقّهم لعدم مخلصهم منها و جاذبهم عنها و هي عصمة المعرفة. الثاني: ظلم لا يترك: أى لا بدّ من أخذ فاعله بالعقوبة و القصاص به، و هو ظلم العباد بعضهم لبعض، و إليه الإشارة بقوله: يوم يقتصّ للجماء من القرناء، و هذا الظالم إن كانت له مسكة ببعض عصم النجاة من المعارف الإلهيّة وجب خلاصه من العذاب بعد حين لكن يتفاوت مكثه بحسب تفاوت شدّة تمكّن تلك الهيئات الرديئة من نفسه و ضعفها، و إليه أشار الخبر النبوىّ يخرجون من النار بعد ما يصيرون حمما و فحما.
و الثالث: الظلم الّذي يغفر و لا يطلب و هو ظلم العبد نفسه عند ارتكابه بعض‏ صغائر الزلّات، و هي الّتي لا تكسب النفس هيئة رديئة باقية بل حالة يسرع زوالها، و إليه الإشارة بقوله تعالى «وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ»«» أى في حال كونهم ظالمين: ثمّ أخذ في التحذير من الظلم بذكر شدّة القصاص في الآخرة، و صدق أنّه ليس جرحا بمدية و لا ضربا بسوط كقصاص الدنيا، و لكنّه ما يستصغر ذلك معه من العقوبات بالنار المشهورة أوصافها، و روى عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه كان جالسا في أصحابه فسمع هدّة. فقال: هذا حجر أرسله اللّه تعالى من شفير جهنّم فهو يهوى فيها منذ سبعين خريفا حتّى بلغ الآن قعرها فهذا بعض أوصافها المحسوسة.
و اعلم أنّ لهذا الخبر تماما ما يكشف سرّه، و هو أنّ الراوى قال: فسمعنا بعد ذلك صيحة و صراخا فقلنا: ما هذا فقالوا: فلان المنافق مات و كان عمره يومئذ سبعين سنة. قال بعض من تلطّف: إنّ المراد بجهنّم المشار إليها هي الدنيا و متاعها. و بالحجر هو ذلك المنافق استعارة، و وجه المشابهة أنّ ذلك المنافق لم ينتفع بوجوده مدّة حياته و لم تكسب نفسه خيرا فأشبه الحجر في ذلك، و إرسال اللّه تعالى له هو إفاضته عليه ما استعدّ له من اتّباع هواه فيها و الانهماك في شهوتها و التيه عن سبيله المشار إليه بقوله «يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ» و شفيرها هو أوّلها بالنسبة إليه و ذلك حين استعداده للانهماك فيها، و أوّل الامور القائدة له في طرق الضلال من متاعها و لذّاتها، و هويّه فيها سبعين خريفا هو انهماكه فيها مدّة عمره، و بلوغه قعرها هو وصوله بموته إلى غاية العذاب بسبب ما اكتسب منها من ملكات السوء كما أومأنا إليه غير مرّة. ثمّ نهى عن التلوّن في دين اللّه، و كنّى به عن منافقة بعضهم لبعض فإنّ ذلك يستلزم الفرقة و لذلك. قال: فإنّ جماعة فيما تكرهون من الحقّ خير من فرقة فيما تحبّون من الباطل: أى فإنّ الاجتماع على الحقّ المكروه إليكم كالحرب مثلا خير لكم من الافتراق في الباطل المحبوب عندكم كمتاع الدنيا. ثمّ تمّم النهى عن الفرقة و قال: فإنّ اللّه لم يعط أحدا بفرقة خيراً لا من الماضين و لا من الباقين، و لمّا كان الخير في الاجتماع و الالفة و المحبّة حتّى يصير الناس كرجل واحد و يتمّ نظام العالم بذلك كان في الفرقة أضداد ذلك و كذلك ما روى عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، و قد سبق بيان فضيلة الاجتماع. ثمّ أعاد النهى عن الغيبة للناس بذكر معايبهم و نبّه من عساه أن يستحيى من نفسه بأنّ لكلّ عيبا ينبغي أن يشتغل به، و طوبى فعلى من الطيب، و الواو منقلبه عن الياء، و قيل: هى اسم شجرة في الجنّة، و على التقديرين مبتداء. ثمّ نبّه على فضل العزلة و لزوم البيت للاشتغال بطاعة اللّه و البكاء على الخطيئة و الندم عليها.

و قوله: و كان من نفسه في شغل. إلى آخر ما ذكره ثمرة العزلة.
و قوله: و كان من نفسه في شغل. إلى آخر ما ذكره ثمرة العزلة. و اعلم أنّ الناس قد اختلفوا في أنّ العزلة أفضل أم المخالطة ففضّل جماعة من مشاهير الصوفيّة و العارفين العزلة منهم إبراهيم بن أدهم و سفيان الثورى، و داود الطائى و الفضيل بن عياض و سليمان الخواص و بشر الحافي، و فضّل الآخرين المخالطة و منهم الشعبى و ابن أبى ليلى و هشام بن عروة و ابن شبرمة و ابن عيينة و ابن المبارك، و احتجّ الأوّلون بالنقل و العقل: أمّا النقل فقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعبد اللّه بن عامر الجهنى لمّا سأله عن طريق النجاة. فقال: ليسعك بيتك و أمسك عليك لسانك و ابك على خطيئتك. و قيل له صلّى اللّه عليه و آله و سلم: أىّ الناس أفضل. فقال: رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربّه و يدع الناس من شرّه، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: يحبّ التقى النقى الخفىّ، و أمّا العقل فهو أنّ في العزلة فوائد مطلوبة للّه لا توجد في المخالطة فكانت أشرف منها الفراغ لعبادة اللّه و الذكر له و الاستيناس بمناجاته و الاستكشاف لأسراره في امور الدنيا و الآخرة من ملكوت السماوات و الأرض، و لذلك كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يتعبّد بجبل حراء و يعتزل به حتّى آتته النبوّة، و احتجّ الآخرون بالقرآن و السنّة: أمّا القرآن فقوله تعالى «فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً»«» و قوله «وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا»«» و معلوم أنّ العزلة تنفى تألّف القلوب و توجب تفرّقها، و أمّا السنّة فقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه. و ما روى أنّ رجلا أتى جبلا يعبد اللّه فيه فجاء به أهله إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم فنهاه عن ذلك. و قال له: إنّ صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يوما واحدا خير له من عبادة أربعين سنة، و أقول: إنّ كلا الاحتجاجين صحيح لكنّه ليس أفضليّة العزلة مطلقا و لا أفضليّة المخالطة مطلقا بل كلّ في حقّ بعض الناس بحسب مصلحته، و في بعض الأوقات بحسب ما يشتمل عليه من المصلحة.

و اعلم أنّه من أراد أن يعرف مقاصد الأنبياء عليهم السّلام في أوامرهم و تدبيراتهم فينبغي أن يتعرّف طرفا من قوانين الأطبّاء، و مقاصدهم من العبارات المطلقة لهم فإنّه كما أنّ الأطبّاء هم المعالجون للأبدان بأنواع الأدوية و العلاجات لغاية بقائها على صلاحها أو رجوعها إلى العافية من الأمراض البدنيّة كذلك الأنبياء عليهم السّلام و من يقوم مقامهم فإنّهم أطبّاء النفوس و المبعوثون لعلاجها من الأمراض النفسانيّة كالجهل و سائر رذائل الأخلاق بأنواع الكلام من الآداب و المواعظ و النواهى و الضرب و القتل، و كما أنّ الطبيب قد يقول الدواء الفلانى نافع من المرض الفلانى، و لا يعنى به في كلّ الأمزجة بل في بعضها كذلك الأنبياء و الأولياء إذا أطلقوا القول في شي‏ء أنّه نافع كالعزلة مثلا فإنّهم لا يريدون أنّها نافعة لكلّ إنسان، و كما أنّ الطبيب قد يصف لبعض المرضى دواء و يرى شفائه فيه و يرى أنّ ذلك الدواء بعينه لمريض آخر كالسم‏ ّ القاتل و يعالجه بغيره كذلك الأنبياء عليهم السّلام قد يرون أنّ بعض الامور دواء لبعض النفوس فيقتصرون عليه، و قد يرون أنّ بعض الأوامر علاج لبعض النفوس كالأمر بالعزلة و الحثّ عليها لبعض الناس، و قد يرون أنّ ذلك العلاج بعينه مضرّ لغير تلك النفس فيأمرونها بضدّ ذلك كالأمر بالمخالطة و المعاشرة، و أكثر ما يختارون العزلة لمن بلغ رتبة من الكمال في قوّتيه النظريّة و العمليّة، و استغنى عن مخالطة كثير من الناس لأنّ أكثر الكمالات الإنسانيّة من العلوم و الأخلاق إنّما تحصل بالمخالطة خصوصا إذا كان ذلك الإنسان أعنى المأمور بالعزلة خاليا عن عائلة يحتاج أن يتكسب لهم، و أكثر ما يختارون المخالطة و الاجتماع لتحصّل الألفة و الإتّحاد بالمحبّة، و للاتّحاد غايتان كلّيّتان: إحداهما: حفظ أصل الدين و تقويته بالجهاد، و الثانية: تحصيل الكمالات الّتي بها نظام أمر الدارين لأنّ أكثر العلوم و الأخلاق يستفاد من العشرة و المخالطة كما بيّنّاه. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 349

خطبه 174 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السلام

أَيُّهَا النَّاسُ غَيْرُ الْمَغْفُولِ عَنْهُمْ- وَ التَّارِكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ- مَا لِي أَرَاكُمْ عَنِ اللَّهِ ذَاهِبِينَ وَ إِلَى غَيْرِهِ رَاغِبِينَ- كَأَنَّكُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ بِهَا سَائِمٌ إِلَى مَرْعًى وَبِيٍّ وَ مَشْرَبٍ دَوِيٍّ- وَ إِنَّمَا هِيَ كَالْمَعْلُوفَةِ لِلْمُدَى لَا تَعْرِفُ مَا ذَا يُرَادُ بِهَا- إِذَا أُحْسِنَ إِلَيْهَا تَحْسَبُ يَوْمَهَا دَهْرَهَا وَ شِبَعَهَا أَمْرَهَا- وَ اللَّهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ- بِمَخْرَجِهِ وَ مَوْلِجِهِ وَ جَمِيعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ- وَ لَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فِيَّ بِرَسُولِ اللَّهِ ص- أَلَا وَ إِنِّي مُفْضِيهِ إِلَى الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذَلِكَ مِنْهُ- وَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ وَ اصْطَفَاهُ عَلَى الْخَلْقِ- مَا أَنْطِقُ إِلَّا صَادِقاً- وَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَ بِمَهْلِكِ مَنْ يَهْلِكُ- وَ مَنْجَى مَنْ يَنْجُو وَ مَآلِ هَذَا الْأَمْرِ- وَ مَا أَبْقَى شَيْئاً يَمُرُّ عَلَى رَأْسِي إِلَّا أَفْرَغَهُ فِي أُذُنَيَّ- وَ أَفْضَى بِهِ إِلَيَّ- أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَ اللَّهِ مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ- إِلَّا وَ أَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا- وَ لَا أَنْهَاكُمْ‏ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وَ أَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا

اللغة

أقول: السائم: الراعى.

و الوبىّ: محلّ الوباء.

و الدوىّ: محلّ الداء.

و المدى: جمع مدية، و هي السكين.

المعنى

و الخطاب عامّ. و كونهم غافلين: أى عمّا يراد بهم من أمر الآخرة، و غير مغفول عنهم: أى أنّ أعمالهم محصّلة في اللوح المحفوظ. و تاركين: أى لما امروا به من الطاعة، المأخوذ منهم: أى منتقص من أعمارهم و قيناتهم الدنيويّة من مال و أهل. ثمّ نبّههم على ذهابهم عن اللّه و هو التفاتهم عن طاعته و رغبتهم في غيره و هو الحياة الدنيا و زينتها. ثمّ شبّههم في ذلك بالنعم الّتي أراح بها راعيها إلى مرعى كثير الوباء و الداء. و وجه الشبه أنّهم لغفلتهم كالنعم و نفوسهم الأمّارة بالسوء القائدة لهم إلى المعاصى كالراعى القائد إلى المرعى الوبيّ و لذّات الدنيا و مشتهياتها، و كون تلك اللذّات و المشتهيات محلّ الآثام الّتي هي مظنّة الهلاك الاخروىّ و الداء الدويّ تشبه المرعى الوبيّ و المشرب الدوىّ. و قوله: و إنّما هي كالمعلوفة. تشبيه آخر لهم بمعلوفة النعم، و وجه الشبه أنّهم لعنايتهم بلذّات الدنيا من المطاعم و المشارب كالنعم المعتنى بعلفها، و كون ذلك التلذّذ غايته الموت تشبه غاية المعلوفة و هي الذبح، و كونهم غافلين من غاية الموت و ما يراد بهم يشبه غفلة النعم عن غايتها من الذبح، و كونهم يظنّون أنّ الإحسان إليهم ببسط اللذّات الدنيويّة في بعض الأوقات دائم في جميع أوقاتهم و، أنّ شبعهم في هذه الحياة و ريّهم هو غايتهم الّتي خلقوا لأجلها و تمام أمرهم يشبه غفلة النعم في حال حضور علفها في بعض الأوقات عمّا بعده من الأوقات و توهّمها أنّ ذلك غايتها الّتي خلقت لأجلها، و وجه هذا الشبه مركّب من هذه الوجوه. ثمّ أقسم أنّه لو شاء لأخبر كلّ رجل منهم بمواضع تصرّفاته و حركاته و جميع أحواله. و هو كقول المسيح عليه السّلام: و أنبّئكم بما تأكلون و ما تدّخرون في بيوتكم.«» و قد علمت إمكان ذلك‏ العلم و سببه في حقّ الأنبياء و الأولياء في مقدّمة الكتاب. و قوله: و لكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم. أى أخاف أن تغلوا في أمرى، و تفضّلوني على رسول اللّه. بل كان يخاف أن يكفروا فيه باللّه كما ادّعت النصارى في المسيح حيث أخبرهم بالأمور الغايبة. ثمّ قال: ألا و إنّى مفضيه إلى الخاصّة: أى أهل العلم و الثبات من أصحابه ممّن يؤمن ذلك الكفر منه، و هكذا شأن العلماء و أساطين الحكمة رأيهم أن لا يضعو العلم إلّا في أهله. هذا مع أنّ من الناس من يدّعى فيه النبوّة و أنّه شريك محمّد في الرسالة، و منهم من ادّعى أنّه إله، و هو الّذي أرسل محمّدا. إلى غير ذلك من الضلال. و فيه يقول بعض شعرائهم:

        و من أهلك عادا و ثمود بدوا هيه         و من كلّم موسى فوق طور إذ يناديه‏
        و من قال على المنبر يوما و هو راقيه   سلونى أيّها الناس. فحاروا في معانيه‏

و قول الآخر:

           إنّما خالق الخلائق من               زعزع أركان خيبر جذبا
           قد رضينا به إماما و مولى‏           و سجدنا له إلها و ربّا

ثمّ أقسم أنّه ما نطق إلّا صادقا فيما يخبر به من هذه الامور، و أخبر أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم عهد إليه بذلك و بمهلك من يهلك. إلى قوله: و أفضى به إلىّ: أى ألقاه إلىّ و أعلمنى به. و ذلك التعليم منه ما يكون على وجه جزئىّ أعنى أن يخبره بواقعة واقعة، و منه ما يكون على وجه كلّىّ: أى يلقى إليه اصولا كلّيّة يعدّ ذهنه بها لاستفاضته الصور الجزئيّة من واهب الصور كما سبق تقريره. و ممّا نقل عنه من ذلك في بعض خطبته الّتى يشير فيها إلى الملاحم يؤمى به إلى القرامطة: ينتحلون لنا الحبّ و الهوى و يضمرون لنا البغض و القلى و آية ذلك قتلهم ورّاثنا و هجرهم أحداثنا. و صحّ ما أخبر عنه لأنّ القرامطة قتلت من آل أبى طالب خلقا كثيرا. و أسماؤهم مذكورة في كتاب مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج الإصبهانىّ.
قال بعض الشارحين: و من هذه الخطبة- و هو يشير إلى السارية الّتي كانت‏

يستند إليها في مسجد الكوفة- : كأنّى بالحجر الأسود منصوبا هاهنا و يحهم إنّ فضيلته ليست في نفسه بل في موضعه و أنّه يمكث هاهنا مدّة ثمّ هاهنا مدّة- و أشار إلى مواضع- ثمّ يعود إلى ما وراءه و يأمّ مثواه. و وقع من القرامطة في الحجر الأسود بموجب ما أخبر به عليه السّلام.
و أقول: في هذا النقل نظر لأنّ المشهور أنّ القرامطة نقلوا الحجر الأسود إلى أرض البحرين، و بنوا له موضعا وضعوه فيه يسمّى إلى الآن بالكعبة، و بقى هناك مدّة ثمّ أعيد إلى مكّة، و روي أنّه مات في المجي‏ء به خمسة و عشرون بعيرا و عاد به إلى مكّة بعير ليس بالقوىّ، و ذلك من أسرار دين اللّه تعالى، و لم ينقل أنّهم نقلوه مرّتين، و اللّه أعلم.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 346

 

خطبه173 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام في طلحة بن عبيد اللّه

قَدْ كُنْتُ وَ مَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ- وَ لَا أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ- وَ أَنَا عَلَى مَا قَدْ وَعَدَنِي رَبِّي مِنَ النَّصْرِ- وَ اللَّهِ مَا اسْتَعْجَلَ مُتَجَرِّداً لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ- إِلَّا خَوْفاً مِنْ أَنْ يُطَالَبَ بِدَمِهِ لِأَنَّهُ مَظِنَّتُهُ- وَ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَوْمِ أَحْرَصُ عَلَيْهِ مِنْهُ- فَأَرَادَ أَنْ يُغَالِطَ بِمَا أَجْلَبَ فِيهِ- لِيَلْتَبِسَ الْأَمْرُ وَ يَقَعَ الشَّكُّ- . وَ وَ اللَّهِ مَا صَنَعَ فِي أَمْرِ عُثْمَانَ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ- لَئِنْ كَانَ ابْنُ عَفَّانَ ظَالِماً كَمَا كَانَ يَزْعُمُ- لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوَازِرَ قَاتِلِيهِ- وَ أَنْ يُنَابِذَ نَاصِرِيهِ- . وَ لَئِنْ كَانَ مَظْلُوماً- لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُنَهْنِهِينَ عَنْهُ- وَ الْمُعَذِّرِينَ فِيهِ- وَ لَئِنْ كَانَ فِي شَكٍّ مِنَ الْخَصْلَتَيْنِ- لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَهُ- وَ يَرْكُدَ جَانِباً وَ يَدَعَ النَّاسَ مَعَهُ- فَمَا فَعَلَ وَاحِدَةً مِنَ الثَّلَاثِ- وَ جَاءَ بِأَمْرٍ لَمْ يُعْرَفْ بَابُهُ وَ لَمْ تَسْلَمْ مَعَاذِيرُهُ أقول: هذا الفصل من كلام قاله حين بلغه خروج طلحة و الزبير إلى البصرة.و تهديدهم بالحرب.

اللغة

و نهنه عنه: كفّ و زجر.

و المعذرين بالتخفيف: المتعذّرين عنه.

و بالتشديد المظهرين للعذر مع أنّه لا عذر.

و ركد: سكن.

المعنى

فقوله: و قد كنت. إلى قوله: النصر.

جواب لتهديدهم. و قد مرّت هذه الألفاظ بعينها مشروحة إلّا أنّ هناك: و إنّى على يقين من ربّى. و هنا: و أنا على ما قد وعدنى ربّى من النصر. و ذلك الّذي هو عليه هو اليقين بالنصر على لسان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و الواو في قوله: و ما اهدّد للحال. و كان تامّة. و قوله: و اللّه ما استعجل. إلى قوله: و يقع الشكّ. إشارة إلى شبهتهم في الخروج إلى البصرة. و هي الطلب بدم عثمان، ثمّ إلى معارضة هذه الشبهة و هي أنّ خروجه ليس إلّا خوفا من أن يطلب بدمه لأنّه مظنّة ذلك. و قد سبقت منّا الإشارة إلى دخول طلحة في تحريص الناس على قتل عثمان و جمعه لهم في داره. و روى أنّه منع الناس من دفنه ثلاثة أيّام، و أنّ حكيم بن حزام و جبير بن مطعم استنجدا بعلىّ في دفنه فأقعد لهم طلحة في الطريق اناسا يرمونهم بالحجارة فخرج به نفر من أهله يريدون به حائطا في المدينة يعرف بحشّ كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم فلمّا صار هناك رجم سريره فهمّوا بطرحه فأرسل إليهم علىّ عليه السّلام فكفّهم عنه حتّى دفن بحشّ كوكب. و روى أنّه جادل في دفنه بمقابر المسلمين و قال: ينبغي أن يدفن بدير سلع يعني مقابر اليهود.
و بالجملة فهو كما قال عليه السّلام: لم يكن في القوم أحرص منه على قتله لكنّه أراد أن يغالط بما أجلب في الطلب بدمه ليلتبس الأمر و يقع الشكّ في دخوله في قتله. و قوله: و و اللّه ما صنع في أمر عثمان. إلى آخره. صورة احتجاج عليه و قطع لعذره في الخروج و الطلب بدمه بقياس شرطىّ منفصل، و تقريره أنّ حاله في أمر عثمان و خروجه في طلب دمه لا تخلو من امور ثلاثة فإنّه إمّا أن يعلم أنّه كان ظالما أو يعلم أنّه كان مظلوما أو يشكّ في الأمرين و يتوقّف فيهما فإن كان الأوّل فقد كان الواجب عليه أن يساعد قاتليه و يوازرهم و ينابذ ناصريه لوجوب إنكار المنكر عليه. و هو قد عكس الحال لأنّه نابذ قاتليه و ثار في طلب دمه مع ناصريه ممّن توهّم فيه ذلك، و إن كان الثاني فقد كان يجب عليه أن يكون ممّن يكفّ الناس عنه و يعتذر عنه فيما فعل لوجوب إنكار المنكر أيضا مع أنّه ممّن وازر عليه الناس و أظهر أحداثه و عظّمها كما هو المنقول المشهور عنه، و إن كان الثالث فقد كان الواجب عليه أن يعتزله و يسكن عن الخوض في أمره و لم يفعل ذلك بل ثار في طلب دمه. فكان في هذه الأحوال الثلاثة محجوجاً في خروجه و نكثه للبيعة. فإذن ما جاء به من ذلك أمر لا يعرف بابه: أى وجه دخوله فيه، و لم يسلّم فيه عذر. و باللّه التوفيق.

 

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 344

خطبه172 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

أَمِينُ وَحْيِهِ وَ خَاتَمُ رُسُلِهِ- وَ بَشِيرُ رَحْمَتِهِ وَ نَذِيرُ نِقْمَتِهِ أَيُّهَا النَّاسُ- إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ- وَ أَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ فِيهِ- فَإِنْ شَغَبَ شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ فَإِنْ أَبَى قُوتِلَ- وَ لَعَمْرِي لَئِنْ كَانَتِ الْإِمَامَةُ لَا تَنْعَقِدُ- حَتَّى يَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ فَمَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ- وَ لَكِنْ أَهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهَا- ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ وَ لَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَخْتَارَ- أَلَا وَ إِنِّي أُقَاتِلُ رَجُلَيْنِ- رَجُلًا ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ وَ آخَرَ مَنَعَ الَّذِي عَلَيْهِ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ- فَإِنَّهَا خَيْرُ مَا تَوَاصَى الْعِبَادُ بِهِ- وَ خَيْرُ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ عِنْدَ اللَّهِ- وَ قَدْ فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ- وَ لَا يَحْمِلُ هَذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ وَ الصَّبْرِ- وَ الْعِلْمِ بِمَوَاقِعِ الْحَقِّ- فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَ قِفُوا عِنْدَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ- وَ لَا تَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ حَتَّى تَتَبَيَّنُوا- فَإِنَّ لَنَا مَعَ كُلِّ أَمْرٍ تُنْكِرُونَهُ غِيَراً

أَلَا وَ إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا- وَ تَرْغَبُونَ فِيهَا وَ أَصْبَحَتْ تُغْضِبُكُمْ وَ تُرْضِيكُمْ- لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ وَ لَا مَنْزِلِكُمُ الَّذِي خُلِقْتُمْ لَهُ- وَ لَا الَّذِي دُعِيتُمْ إِلَيْهِ- أَلَا وَ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَاقِيَةٍ لَكُمْ وَ لَا تَبْقَوْنَ عَلَيْهَا- وَ هِيَ وَ إِنْ غَرَّتْكُمْ مِنْهَا فَقَدْ حَذَّرَتْكُمْ شَرَّهَا- فَدَعُوا غُرُورَهَا لِتَحْذِيرِهَا وَ أَطْمَاعَهَا لِتَخْوِيفِهَا- وَ سَابِقُوا فِيهَا إِلَى الدَّارِ الَّتِي دُعِيتُمْ إِلَيْهَا- وَ انْصَرِفُوا بِقُلُوبِكُمْ عَنْهَا- وَ لَا يَخِنَّنَّ أَحَدُكُمْ خَنِينَ الْأَمَةِ عَلَى مَا زُوِيَ عَنْهُ مِنْهَا- وَ اسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ- وَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ- أَلَا وَ إِنَّهُ لَا يَضُرُّكُمْ تَضْيِيعُ شَيْ‏ءٍ مِنْ دُنْيَاكُمْ- بَعْدَ حِفْظِكُمْ قَائِمَةَ دِينِكُمْ- أَلَا وَ إِنَّهُ لَا يَنْفَعُكُمْ بَعْدَ تَضْيِيعِ دِينِكُمْ شَيْ‏ءٌ- حَافَظْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ- أَخَذَ اللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَ قُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ- وَ أَلْهَمَنَا وَ إِيَّاكُمُ الصَّبْرَ

المعنى

أقول: صدر هذا الفصل من ممادح الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم
فشهادة كونه أمينا على التنزيل من التحريف و التبديل العصمة، و شهادة ختامه للرسل قوله تعالى «وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ» و كونه بشير رحمته بالثواب الجزيل و نذير نقمته بالعذاب الوبيل قوله تعالى «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً».

ثمّ أردفه ببيان أحكام:

الأوّل: بيان أحكام الّذي هو أحقّ الناس بأمر الخلافة
و حصر الأحقّ به في أمرين: أحدهما أقوى الناس عليه و هو الأكمل قدرة على السياسة و الأكمل علما بمواقعها و كيفيّاتها و كيفيّة تدبير المدن و الحروب و ذلك يستلزم كونه أشجع الناس. و الثاني أعملهم بأوامر اللّه فيه، و مفهوم الأعمل بأوامر اللّه يستلزم الأعلم باصول الدين و فروعه ليضع الأعمال مواضعها، و يستلزم أشدّ حفاظا على مراعاة حدود اللّه‏ و العمل بها، و ذلك يستلزم كونه أزهد الناس و أعفّهم و أعدلهم. و لمّا كانت هذه الفضائل مجتمعة له عليه السّلام كان إشارة إلى نفسه، و روى عوض أعملهم أعلمهم.

الثاني: في بيان حكم المشاغب للإمام بعد انعقاد بيعته
و هو أنّه يستعتب: أى أنّه في أوّل مشاغبته يطلب منه العتبى و الرجوع إلى الحقّ و الطاعة بلين القول فإن أبى قوتل و ذلك الحكم مقتضى قوله تعالى «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما»«» الآية.

الثالث: بيان كيفيّة انعقاد الإمامة بالإجماع
فبيّن بقوله: و لعمرى. إلى قوله: ما إلى ذلك سبيل. أنّ الإجماع لا يعتبر فيه دخول جميع الناس حتّى العوامّ.

إذ لو كان ذلك شرطا لأدّى إلى أن لا ينعقد إجماع قطّ فلم تصحّ إمامة أحد أبدا لتعذّر اجتماع المسلمين بأسرهم من أطراف الأرض بل المعتبر في الإجماع اتّفاق أهل الحلّ و العقد من امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم على بعض الأمور، و هم العلماء، و قد كانوا بأسرهم مجتمعين حين بيعته عليه السّلام فليس لأحد منهم بعد انعقادها أن يرجع، و لا لمن عداهم من العوامّ و من غاب عنهما أن يختاروا غير من أجمع هؤلاء عليه. فإن قلت: إنّه عليه السّلام إنّما احتجّ على القوم بالإجماع على بيعته، و لو كان متمسّك آخر من نصّ أو غيره لكان احتجاجه بالنصّ أولى فلم يعدل إلى دعوى الإجماع.
قلت: احتجاجه بالإجماع لا يتعرّض لنفى النصّ و لا لإثباته بل يجوز أن يكون النصّ موجودا، و إنّما احتجّ عليهم بالإجماع لاتّفاقهم على العمل به فيمن سبق من الأئمّة، و لأنّه يحتمل أن يكون سكوته عنه لعلمه بأنّه لا يلتفت إلى ذكره على تقدير وجوده لأنّه لمّا لم يلتفت إليه في مبدء الأمر حين موت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم فبالأولى أن لا يلتفت إليه الآن و قد طالت المدّة و بعد العهد فلم تكن في ذكره فايدة.

الرابع: بيان من يجب قتاله
و هو أحد رجلين: الأوّل: رجل خرج على‏ الإمام العادل بعد تمام بيعته و ادّعى أنّ الإمامة حقّ له و قد ثبت بالإجماع على غيره أنّها ليست له، و الثاني: رجل خرج على الإمام و لم يمتثل له في شي‏ء من الأحكام. و الأوّل إشارة إلى أصحاب الجمل، و الثاني إلى معاوية و أصحابه.
ثمّ عقّب بالوصيّة بتقوى اللّه فإنّها خير زاد عند اللّه يستعقبه الإنسان من حركاته و سكناته و لمّا كان كذلك كان خير ما تواصى به عباد اللّه. و قوله: و قد فتح باب الحرب بينكم و بين أهل القبلة. إلى قوله: غيرا. إعلام لأصحابه بحكم البغاة من أهل القبلة على سبيل الإجمال، و أحال التفصيل على أوامره حال الحرب، و قد كان الناس قبل حرب الجمل لا يعرفون كيفيّة قتال أهل القبلة و لا كيف السنّة فيهم إلى أن علموا ذلك منه عليه السّلام. و نقل عن الشافعي أنّه قال: لو لا علىّ ما عرفت شي‏ء من أحكام أهل البغى. و قوله: و لا يحمل هذا العلم إلّا أهل البصر. أى أهل البصائر، و العقول الراجحة، و الصبر: أى على المكاره و عن التسرّع إلى الوساوس، و العلم بمواضع الحقّ. و ذلك أنّ المسلمين عظم عندهم حرب أهل القبلة و أكبروه، و المقدمون منهم على ذلك إنّما أقدموا على خوف و حذر. فقال عليه السّلام: إنّ هذا العلم لا يدركه كلّ أحد بل من ذكره. و روى العلم بفتح اللام، و ذلك ظاهر فإنّ حامل العلم عليه مدار الحرب و قلوب العسكر منوطة به فيجب أن يكون بالشرائط المذكورة ليضع الأشياء مواضعها. ثمّ أمرهم بقواعد كلّيّة عند عزمه على المسير للحرب و هي أن يمضوا فيما يؤمرون به و يقفوا عند ما ينهون عنه و لا يعجلوا في أمر إلى غاية أن يتبيّنوه: أى لا يتسرّعوا إلى إنكار أمر فعله أو يأمرهم به حتّى سألوه عن فايدته و بيانه. فإنّ له عند كلّ أمر ينكرونه تغييرا: أى قوّة على التغيير إن لم يكن في ذلك الأمر مصلحة في نفس الأمر و فايدة أمرهم بالتبيّن عند استنكار أمر أنّه يحتمل أن لا يكون ما استنكروه منكرا في نفس الأمر فيحكمون بكونه منكرا لعدم علمهم بوجهه، و يتسرّعون إلى إنكاره بلسان أو يد فيقعون في الخطأ. قال بعض الشارحين: و في قوله: فإنّ لنا عند كلّ أمر ينكرونه‏ تغييرا. إيماء إلى أنّه ليس كعثمان في صبره على ارتكاب الناس لما كان ينهاهم عنه بل يغيّر كلّ ما ينكره المسلمون و يقتضى العرف و الشرع تغييره. ثمّ أخذ في التنفير عن الدنيا بامور: الأوّل: التنفير عن تمنّيها و الرغبة فيها و عن الغضب لفوتها و الرضى بحصولها بكونها ليست الدار و المنزل الّذي خلقوا له و دعوا إليه، و استلزم ذلك التنفير التنبيه على ما ورائها و العمل له. الثاني نفر عنها بفنائها عنهم و فنائهم عنها. الثالث: بأنّه لا فائدة فيها فإنّها و إن كانت تغرّ و تخدع بما فيها ممّا يعتقد خيرا و كمالا فإنّ فيها ما يقابل ذلك و هو التحذير بما فيها من الآفات و التغيّرات المتعدّدة شرّا فينبغي أن يتركوا خيرها القليل لشرّها الكثير، و إطماعها لتخويفها، و يسابقوا إلى الخير الخالص و الدار الّتي دعوا إليها و خلقوا لأجلها، و يتصرّفوا بقلوبهم عنها: أى يزهدوا الزهد الحقيقىّ فيها فإنّ الزهد الظاهرىّ مع الحنين إلى ما زوى منها عن أحدكم غير منتفع و به خصّ حنين الأمة لأنّ الحنين أكثر ما يسمع من الأمة لأنّ العادة أن تضرب و تؤذى فيكثر حنينها. و روى حنين بالخاء المعجمة. و الخنين كالبكاء في الأنف. و إذ أمر بالزهد الحقيقى أمر بالصبر على طاعة اللّه و عبادته و المحافظة على أوامر كتابه و نواهيه إذ بالزهد يكون حذف الموانع الداخلة و الخارجة، و بالطاعة و العبادة يكون تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة. و هما جزاء الرياضة و السلوك لسبيل اللّه. و رغّب في الصبر على طاعة اللّه بأنّ فيه استتماما لنعمة اللّه. و ظاهر أنّ طاعة اللّه سبب عظيم لإفاضة نعمه الدنيويّة و الاخرويّة. ثمّ أكّد الأمر بالمحافظة على ما قام من الدين بأنّه لا مضرّة في ترك شي‏ء من الدنيا و تضييعها مع المحافظة على الدين لما في المحافظة على الدين من الخير الدائم التامّ الاخروى الّذي لا نسبة لخير الدنيا إليه، و بأنّه لا منفعة في المحافظة على ما فيها: أى في الدنيا مع تضييع الدين و إهماله. و ذلك أمر مفروغ عنه و مستغنى عن بيانه. ثمّ ختم بالدعاء لهم و لنفسه بأخذ اللّه بقلوبهم إلى الحقّ:

أى إلهامهم لطلبه و هدايتهم إليه و جذبهم إلى سلوك سبيله، ثمّ إلهامهم الصبر: أى على طاعته و عن معصية. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 339

 

خطبه 171شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

القسم الأول

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُوَارِي عَنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً- وَ لَا أَرْضٌ أَرْضاً

المعنى

أقول: حمد اللّه تعالى باعتبار إحاطة علمه بالسماوات و الأرضين، و استلزم ذلك تنزيهه تعالى عن وصف المخلوقين. إذ كانوا في إدراكهم لبعض الأجرام السماويّة و الأرضيّة محجوبين عمّا ورائها، و علمه تعالى هو المحيط بالكلّ الّذي لا يحجبه السواتر و لا تخفى عليه السرائر.

القسم الثاني منها

وَ قَدْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ لَحَرِيصٌ- فَقُلْتُ بَلْ أَنْتُمْ وَ اللَّهِ لَأَحْرَصُ وَ أَبْعَدُ وَ أَنَا أَخَصُّ وَ أَقْرَبُ- وَ إِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَ أَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ- وَ تَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ- فَلَمَّا قَرَّعْتُهُ بِالْحُجَّةِ فِي الْمَلَإِ الْحَاضِرِينَ- هَبَّ كَأَنَّهُ بُهِتَ لَا يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِهِ‏ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ- فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ صَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ- وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي- ثُمَّ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَ فِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ

المعنى

أقول: هذا الفصل من خطبة يذكر فيها عليه السّلام ما جرى له يوم الشورى بعد مقتل عمر، و الّذي قال له هذا القول هو سعد بن أبى وقّاص مع روايته فيه: أنت منّى بمنزلة هرون من موسى. و هو محلّ التعجّب. فأجابه بقوله: بل أنتم و اللّه أحرص و أبعد: أى أحرص على هذا الأمر و أبعد من استحقاقه. و هو في صورة احتجاج بقياس ضمير من الشكل الأوّل مسكت للقائل صغراه ما ذكر، و تقدير كبراه: و كلّ من كان أحرص على هذا الأمر و أبعد منه فليس له أن يعيّر الأقرب إليه بالحرص عليه. و قوله: و أنا أخصّ و أقرب. صغرى قياس ضمير احتجّ به على أولويّته بطلب هذا الأمر، و تقدير كبراه: و كلّ من كان أخصّ و أقرب إلى هذا الأمر فهو أولى بطلبه، و روى أنّ هذا الكلام قاله يوم السقيفة، و أنّ الّذي قال له: إنّك على هذا الأمر لحريص. هو أبى عبيدة بن الجرّاح، و الرواية الاولى أظهر و أشهر. و روى عوض بهت هبّ: أى انبته كأنّه كان غافلا ذاهلا عن الحجّة فاستيقظ من غفلته. ثمّ أخذ في استعانة اللّه تعالى على قريش و من أعانهم عليه، و شكا امورا: منها قطع رحمه فإنّهم لم يراعو قربه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و منها تصغير عظيم منزلته بعدم التفاتهم إلى ما ورد من النصوص النبويّة في حقّه، و منها اتّفاقهم على منازعته أمر الخلافة الّذي يرى أنّه أحقّ به منهم. و قوله: ثمّ قالوا: إلى آخره. أى إنّهم لم يقتصروا على أخذ حقّى ساكتين عن دعوى كونه حقّا لهم و لكنّهم‏ أخذوه مع دعواهم أنّ الحقّ لهم، و أنّه يجب عليّ أن أترك المنازعة فيه. فليتهم أخذوه معترفين أنّه حقّ لى فكانت المصيبة أهون، و روى نأخذه و نتركه بالنون في الكلمتين، و عليه نسخة الرضى- رضوان اللّه عليه- و المراد إنّا نتصرّف فيه كما نشاء بالأخذ و الترك دونك، و هذه شكاية ظاهرة لا تأويل فيها.

القسم الثالث منها في ذكر أصحاب الجمل:

فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللَّهِ ص- كَمَا تُجَرُّ الْأَمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا- مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ- فَحَبَسَا نِسَاءَهُمَا فِي بُيُوتِهِمَا- وَ أَبْرَزَا حَبِيسَ رَسُولِ اللَّهِ ص لَهُمَا وَ لِغَيْرِهِمَا- فِي جَيْشٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَ قَدْ أَعْطَانِي الطَّاعَةَ- وَ سَمَحَ لِي بِالْبَيْعَةِ طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَهٍ- فَقَدِمُوا عَلَى عَامِلِي بِهَا- وَ خُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا- فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً وَ طَائِفَةً غَدْراً- فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ يُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ- إِلَّا رَجُلًا وَاحِداً مُعْتَمِدِينَ لِقَتْلِهِ- بِلَا جُرْمٍ جَرَّهُ لَحَلَّ لِي قَتْلُ ذَلِكَ الْجَيْشِ كُلِّهِ- إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ يُنْكِرُوا- وَ لَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ بِلِسَانٍ وَ لَا بِيَدٍ- دَعْ مَا إِنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ- مِثْلَ الْعِدَّةِ الَّتِي دَخَلُوا بِهَا عَلَيْهِمْ

اللغة

أقول: جرّه: جناه.
و مقصود الفصل إظهار عذره في قتال أصحاب الجمل.
و ذكر لهم ثلاث كبائر من الذنوب تستلزم إباحة قتالهم و قتلهم:

الاولى: خروجهم بحرمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حبيسه يجرّونها كما تجرّ الأمة عند شرائها مع حبسهما لنسائهما و محافظتهما عليهنّ، و ضمير التثنية في حبسا لطلحة و الزبير، و وجه الشبه انتهاك الحرمة و نقصانها في إخراجها، و في ذلك جرأة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و روى عكرمة عن ابن عبّاس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوما لنسائه و هنّ عنده جميعا: ليت شعرى أيتكنّ صاحبة الجمل الأرب تنبحها كلاب الحوؤب يقتل عن يمينها و شمالها قتلى كثير كلّهم في النار و تنجو بعد ما كادت، و روى حبيب بن عمير قال: لمّا خرجت عايشة و طلحة و الزبير من مكّة إلى البصرة طرقت ماء الحوؤب- و هو ماء لبنى عامر بن صعصعة- فنبحتهم الكلاب فنفرت صعاب إبلهم. فقال قائل منهم: لعن اللّه الحوؤب فما أكثر كلابها. فلمّا سمعت عايشة ذكر الحوؤب قالت: أ هذا ماء الحوؤب قال: نعم. قالت: ردّونى. فسئلوها ما شأنها و ما بدء لها. قالت: إنّى سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: كأنّى بكلاب الحوؤب قد نبحت بعض نسائى ثمّ قال لى: يا حميراء إيّاك أن تكونيها. فقال الزبير: مهلا يرحمك اللّه فإنّا قد جزنا ماء الحوؤب بفراسخ كثيرة. فقالت: أ عندك من يشهد بأنّ هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوؤب فلفّف لها الزبير و طلحة و طلبا خمسين أعرابيّا جعلا لهم جعلا فحلفوا لها و شهدوا أنّ هذا الماء ليس بماء الحوؤب. فكانت هذه أوّل شهادة زور علمت في الإسلام. فسارت عايشة لوجهها. فأمّا قوله في الخبر: و تنجو بعد ما كادت. فقالت الإماميّة: معناه تنجو من القتل بعد ما كادت أن تقتل، و قال المعتذرون لها معناه تنجو من النار بالتوبة بعد ما كادت أن تدخلها بما فعلت.

الثانية: نكثهم لبيعته
و خروجهم عليه بعد الطاعة في جماعة ما منهم إلّا من أخذ بيعته.

الثالثة: قتلهم لعامله بالبصرة و خزّان بيت مال المسلمين بها بعض صبرا
أى بعد الأسر و بعض غدرا: أى بعد إعطائهم الأمان. و خلاصة القصّة ما روى أنّ طلحة و الزبير و عايشة لمّا انتهوا في مسيرهم إلى حفر أبى موسى قريب البصرة كتبوا إلى عثمان بن حنيف الأنصارىّ، و هو يومئذ عامل عليّ على البصرة: أنّ أخل لنا دار الأمارة. فلمّا قرأ كتابهم بعث إلى الأحنف بن قيس و إلى حكيم بن جبلّة العبدىّ‏ فاقرء هما الكتاب. فقال الأحنف: إنّهم إن حاولوا بهذا الطلب بدم عثمان و هم الّذين أكّبوا على عثمان و سفكوا دمه فأراهم و اللّه لا يزايلونا حتّى يلقوا العداوة بيننا و يسفكوا دماءنا، و أظنّهم سيركبون منك خاصّة ما لا قبل لك به، و الرأى إن تتأهّب لهم بالنهوض إليهم في من معك من أهل البصرة فإنّك اليوم الوالى عليهم و أنت فيهم مطاع فسر إليهم بالناس و بادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة فيكون الناس لهم أطوع منهم لك. و قال حكيم: مثل ذلك. فقال عثمان بن حنيف: الرأى ما رأيتما لكنّى اكره الشرّ و أن أبدأهم به و أرجو العافية و السلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين و رأيه فأعمل به. فقال له حكيم: فاذن لى حتّى أسير إليهم بالناس فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين و إلّا نابذتهم إلى سواء. فقال عثمان: و لو كان ذلك لى لسرت إليهم بنفسى. فقال حكيم: أمّا و اللّه لئن دخلوا عليك هذا المصر لينتقلنّ قلوب كثير من الناس إليهم و ليزيلنّك عن مجلسك هذا، و أنت أعلم.
فأبى عثمان. ثمّ كتب عليّ عليه السّلام إلى عثمان بن حنيف لمّا بلغه مسير القوم إلى البصرة: من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف أمّا بعد فإنّ البغاة عاهدوا اللّه ثمّ نكثوا و توجّهوا إلى مصرك و ساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى اللّه به، و اللّه أشدّ بأسا و أشدّ تنكيلا فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة و الرجوع إلى الوفاء بالعهد و الميثاق الّذي فارقونا عليه فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك، و إن أبوا إلّا التمسّك بحبل النكث و الخلاف فناجزهم القتال حتّى يحكم اللّه بينك و بينهم و هو خير الحاكمين، و كتبت كتابى هذا من الربذة و أنا معجّل السير إليك إنشاء اللّه، و كتب عبيد اللّه بن أبى رافع في صفر سنة ستّ و ثلاثين. فلمّا وصل الكتاب إلى عثمان بعث أبا الاسود الدؤلىّ و عمران بن الحصين إليهم فدخلا على عايشة فسألاها عمّا جاء بهم. فقالت لهما: ألقيا طلحة و الزبير. فقاما و ألقيا الزبير فكلّماه فقال: جئنا لنطلب بدم عثمان و ندعو الناس أن يردّوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم. فقالا له: إنّ عثمان لم يقتل بالبصرة لتطلبا دمه فيها، و أنت تعلم قتلة عثمان و أين هم، و إنّك و صاحبك و عايشة كنتم أشدّ الناس عليه و أعظمهم إغراء بدمه فأقيدوا أنفسكم، و أمّا إعادة أمر الخلافة شورى فكيف و قد بايعتم عليّا طائعين غير مكرهين، و أنت يا أبا عبد اللّه لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنت آخذ قائم سيفك تقول: ما أحد أحقّ بالخلافة منه.

و امتنعت من بيعة أبى بكر. فأين ذلك الفعل من هذا القول فقال لهما: اذهبا إلى طلحة. فقاما إلى طلحه فوجداه خشن الملمس شديد العريكة قوىّ العزم في إثارة الفتنة. فانصرفا إلى عثمان بن حنيف فأخبراه بما جرى، و قال له أبو الأسود: يا ابن حنيف قد أتيت فانفر و طاعن القوم و جالد و اصبر و أبرز لهما مستلئما و شمّر. فقال ابن حنيف: أى و الحرمين لأفعلنّ، و أمر مناديه فنادى في الناس: السلاح السلاح. فاجتمعوا إليه و أقبلوا حتّى انتهوا إلى المربد. فملأ مشاة و ركبانا فقام طلحة فأشار إلى الناس بالسكوت ليخطب فسكتوا بعد جهد فقال: أمّا بعد فإنّ عثمان بن عفّان كان من أهل السابقة و الفضيلة و من المهاجرين الأوّلين الّذين رضى اللّه عنهم و رضوا عنه، و نزل القرآن ناطقا بفضلهم و أحد الأئمّة الوالين عليكم بعد أبى بكر و عمر صاحبى رسول اللّه و قد كان أحدث أحداثا نقمناها عليه فأتيناه و استعتبناه فأعتبنا فعدا عليه امرؤ ابتزّ هذه الامّة أمرها غصبا بغير رضى و لا مشورة فقتله و ساعده على ذلك قوم غير أتقياء و لا أبرار فقتل محرما بريئا تائبا، و قد جئتناكم أيّها النّاس نطلب بدمه و ندعوكم إلى الطلب بدمه فإن نحن أمكننا اللّه قتلهم قتلناهم به و جعلنا هذا الأمر شورى بين المسلمين و كانت خلافته رحمة للامّة جميعا فإنّ كلّ من أخذ الأمر من غير رضى العامّة و لا مشورة منها ابتزازا كان ملكه ملكا عضوضا و حدثا كبيرا. ثمّ قام الزبير فتكلّم بمثل كلام طلحة. فقام إليهما ناس من أهل البصرة فقالوا لهما: ألم تبايعا عليّا فيمن بايعه ففيم بايعتما ثمّ نكثتما.

فقالا: ما بايعناه و ما لأحد في أعناقنا بيعة و إنّما استكرهنا على بيعته. فقال ناس: قد صدقا و نطقا بالصواب، و قال آخرون: ما صدقا و لا أصابا. حتّى ارتفعت الأصوات فأقبلت عايشة على جملها فنادت بصوت مرتفع أيّها الناس أقلّوا الكلام و اسكتوا. فسكت الناس لها.
فقالت: إنّ أمير المؤمنين عثمان قد كان غيّر و بدّل. ثمّ لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتّى قتل مظلوما تائبا و إنّما نقموا عليه ضربه بالسوط و تأميره الشبّان و حمايته موضع الغمامة فقتلوه محرما في حرمة الشهر، و حرمة البلد ذبحا كما يذبح الجمل، ألا و إنّ قريشا رمت غرضها بنبالها و أدمت أفواهها بأيديها و ما نالت بقتلها إيّاه شيئا و لا سلكت به سبيلا قاصدا أما و اللّه ليرونها بلايا عقيمة تنبه النائم و تقيم الجالس، و ليسلطنّ عليهم قوم لا يرحمونهم، يسومونهم سوء العذاب. أيّها الناس إنّه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحلّ به دمه مصّتموه كما يماصّ الثوب الرحيض، ثمّ عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته و خروجه من ذنبه و بايعتم ابن أبى طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازا و غصبا، أ ترانى أغضب لكم من سوط عثمان و لسانه و لا أغضب لعثمان من سيوفكم. ألا إنّ عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم، ثمّ اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الّذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب و لا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان. قال: فماج الناس و اختلطوا فمن قايل يقول: القول ما قالت، و من قائل يقول: و ما هي من هذا الأمر إنّما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها.

و ارتفعت الأصوات و كثر اللغط حتّى تضاربوا بالنعال و ترامو بالحصا. ثمّ تمايزوا فرقتين فرقة مع عثمان بن حنيف و فرقة مع طلحة و الزبير. ثمّ أقبلا من المربد يريدان عثمان بن حنيف فوجدوه و أصحابه قد أخذوا بأفواه السكك فمضوا حتّى انتهوا إلى مواضع الدبّاغين فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف فشجرهم طلحة و الزبير و أصحابهما بالرماح فحمل عليهم حكيم بن جبلّة فلم يزل هو و أصحابه يقاتلونهم حتّى أخرجوهم من جميع السكك، و رماهم النساء من فوق البيوت بالأحجار فأخذوا إلى مقبرة بنى مازن فوقفوا بها مليّا حتّى ثابت إليهم خيلهم، ثمّ أخذوا على مسنّاة البصرة حتّى انتهوا إلى الرابوقة. ثمّ أتوا سبخة دار الرزق فنزلوها فأتاهما عبد اللّه بن حكيم التميمىّ لمّا نزلا السبخة بكتب كتباها إليه فقال لطلحة: يا أبا محمّد أما هذه كتبك إلينا. فقال: بلى. فقال: فكنت أمس تدعونا إلى خلع عثمان و قتله حتّى إذا قتلته أتيتنا ثائرا بدمه، فلعمرى ما هذا رأيك و لا تريد إلّا هذه الدنيا. مهلا إذا كان هذا رأيك قبلت من علىّ ما عرض عليك من البيعة فبايعته‏ طائعا راضيا ثمّ نكثت بيعتك و جئتنا لتدخلنا في فتنتك. فقال: إنّ عليّا دعانى إلى بيعته بعد ما بايع الناس فعلمت أنّى لو لم أقبل ما عرضه عليّ لا يتمّ لى ثمّ يغرى بى من معه. ثمّ أصبحا من غد فصفّا للحرب و خرج إليهما عثمان في أصحابه فناشدهما اللّه و الإسلام و أذكرهما بيعتهما ثلاثا. فشتماه شتما قبيحا و ذكرا امّة.

فقال للزبير: أما و اللّه لو لا صفيّة و مكانها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّها أذرتك إلى الظلّ، و إنّ الأمر بينى و بينك يا ابن الصعبة يعنى طلحة أعظم من القول لأعلمتكما من أمركما ما يسوئكما. اللّهمّ إنّى قد أعذرت إلى هذين الرجلين. ثمّ حمل عليهم فاقتتل الناس قتالا شديدا. ثمّ تحاجزوا و اصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح.
فكتب: هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصارىّ و من معه من المؤمنين من شيعة عليّ بن أبي طالب و طلحة و الزبير و من معهما من المؤمنين و المسلمين من شيعتهما أنّ لعثمان بن حنيف الأنصارىّ دار الأمارة و الرحبة و المسجد و بيت المال و المنبر، و أنّ لطلحة و الزبير و من معهما أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة و لا يضارّ بعضهم بعضا في طريق و لا سوق و لا فرضة و لا مشرعة و لا مرفق حتّى يقدم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فإن أحبّوا دخلوا فيما دخلت فيه الأمّة و إنّ أحبّوا ألحق كلّ قوم بهواهم و ما أحبّوا من قتال أو سلم أو خروج أو إقامة، و على الفريقين بما كتبوا عهد اللّه و ميثاقه و أشدّ ما أخذه على نبىّ من أنبيائه من عهد و ذمّة. و ختم الكتاب، و رجع عثمان حتّى دخل دار الأمارة و أمر أصحابه أن يلحقوا بأهلهم و يداووا جراحاتهم فمكثوا كذلك أيّاما. ثمّ خاف طلحة و الزبير من مقدم عليّ عليه السّلام و هما على تلك القلّة و الضعف فراسلوا القبائل يدعونهم إلى الطلب بدم عثمان و خلع علىّ عليه السّلام فبايعهم على ذلك الأزد و ضبّة و قيس غيلان كلّها إلّا الرجل و الرجلين من القبيلة كرهوا أمرهم فتواروا عنهم، و بايعهما هلال بن وكيع بمن معه من بنى عمرو ابن تميم و أكثر بنى حنظلة و بنى دارم. فلمّا استوسق لهما أمرهما خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح و مطر في أصحابهما، و قد ألبسوهم الدروع، و ظاهروا فوقها بالثياب فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر و قد سبقهم عثمان بن حنيف إليه و اقيمت الصلاة فتقدّم عثمان ليصلّى بهم فأخّره أصحاب طلحة و الزبير، و قدّموا الزبير فجاءت الشرط- حرس بيت المال- و أخّروا الزبير و قدّموا عثمان فغلبهم أصحاب الزبير فقدّموه و أخّروا عثمان فلم يزالوا كذلك حتّى كادت الشمس أن تطلع فصاح بهم أهل المسجد ألا تتّقون اللّه أصحاب محمّد قد طلعت الشمس فغلب الزبير فصلّى بالناس فلمّا انصرف من صلاته صاح بأصحابه المتسلّحين أن خذوا عثمان فأخذوه بعد أن تضارب هو و مروان بن الحكم بسيفهما فلمّا اسر ضرب ضرب الموت و نتفت حاجباه و أشفار عينيه و كلّ شعرة في رأسه و وجهه، و أخذوا السيالحة و هم سبعون رجلا فانطلقوا بهم و بعثمان بن حنيف إلى عايشة فأشارت إلى أحد أولاد عثمان أن اضرب عنقه فإنّ الأنصار قتلت أباك و أعانت على قتله. فنادى عثمان يا عايشة و يا طلحة و يا زبير إنّ أخى سهل بن حنيف خليفة عليّ بن أبى طالب على المدينة و أقسم باللّه إن قتلتمونى ليضعنّ السيف في بنى أبيكم و أهليكم و رهطكم فلا يبقى منكم أحدا.

فكفّوا عنه و خافوا من قوله فتركوه، و أرسلت عايشة إلى الزبير أن اقتل السيالحة فإنّه قد بلغنى الّذي صنعوا بك قبل. فذبحهم و اللّه كما يذبح الغنم. ولى ذلك عبد اللّه ابنه و هم سبعون رجلا، و بقيت منهم بقيّة متمسّكون ببيت المال قالوا: لا نسلّمه حتّى يقدم أمير المؤمنين. فسار إليهم الزبير في جيش ليلا و أوقع بهم و أخذ منهم خمسين أسيرا فقتلهم صبرا. فحكى أنّ القتلى من السيالحة يومئذ أربع مأئة رجل، و كان غدر طلحة و الزبير بعثمان بن حنيف بعد غدرهم في بيعة عليّ غدرا في غدر، و كانت السيالحة أوّل قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبرا، و خيّروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعليّ فاختار الرحيل فخلّوا سبيله فلحق بعليّ عليه السّلام فلمّا رآه بكى و قال له شيخ و جئتك أمردا. فقال عليّ عليه السّلام: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون قالها ثلاثا. فذلك معنى قوله: فقدموا على عاملى بها و خزّان بيت مال المسلمين.
إلى آخره. ثمّ أقسم عليه السّلام إنّهم لو لم يصيبوا أى يقتلوا من المسلمين إلّا رجلا واحدا متعمّدين قتله بغير ذنب جناه لحلّ له قتل ذلك الجيش كلّه، و- إن- زايدة.

فإن قلت: المفهوم من هذا الكلام تعليل جواز قتله لذلك الجيش كلّه بعدم‏ إنكارهم للمنكر فهل يجوز قتل من لم ينكر المنكر قلت: أجاب الشارح عبد الحميد بن أبى الحديد عنه. فقال: إنّه تجوّز قتلهم لأنّهم اعتقدوا ذلك القتل مباحا مع أنّه ممّا حرّمه اللّه فجرى ذلك مجرى اعتقادهم لإباحة الزنا و شرب الخمر.

و أجاب القطب الراوندىّ بأنّ جواز قتلهم لدخولهم في عموم قوله تعالى «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا»«» الآية و إنّ هؤلاء القوم قد حاربوا رسول اللّه لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حربك يا عليّ حربى، و سعوا في الأرض بالفساد، و اعترض المجيب الأوّل عليه. فقال: الإشكال إنّما هو في تحليله لقتل الجيش المذكور لكونه لم ينكر على من قتل رجلا واحدا من المسلمين فالتعليل بعدم إنكار المنكر لا بعموم الآية.
و أقول: الجواب الثاني أسدّ، و الأوّل ضعيف. لأنّ القتل و إن وجب على من اعتقد إباحة ما علم تحريمه من الدين ضرورة كشرب الخمر و الزنا فلم قلت إنّه يجب على من اعتقد إباحة ما علم تحريمه من الدين بالتأويل كقتل هؤلاء القوم لمن قتلوا و خروجهم لما خرجوا له فإنّ جميع ما فعلوه كان بتأويل لهم و إن كان معلوم الفساد.

فظهر الفرق بين اعتقاد حلّ الخمر و الزنا و بين اعتقاد هؤلاء لإباحة ما فعلوه، و أمّا الاعتراض على الجواب الثاني فضعيف أيضا. لأنّ له أن يقول: إنّ قتل المسلم الّذي لا ذنب له عمدا إذا صدر من بعض الجيش و لم ينكر الباقون مع تمكّنهم و حضورهم كان ذلك قرينة دالّة على الرضا من جميعهم، و الراضى بالقتل شريك القاتل خصوصا إذا كان معروفا بصحبته و الاتّحاد به كاتّحاد بعض الجيش ببعض. فكان خروج ذلك الجيش على الإمام العادل محاربة للّه و رسوله، و قتلهم لعامله و خزّان بيت مال المسلمين و نهبهم له و تفريق كلمة أهل المصر و فساد نظامهم سعى في الأرض بالفساد، و ذلك عين مقتضى الآية. و قوله: دع. إلى آخره.

أى لو كان من قتلوه من المسلمين واحدا لحلّ لى قتلهم فكيف و قد قتلوا منهم عدّة مثل عدّتهم الّتي دخلوا بها البصرة. و- ما- بعد- دع- زايدة، و المماثلة هنا في الكثرة. و صدق عليه السّلام فإنّهم قتلوا من أوليائه و خزّان بيت المال بالبصرة خلقا كثيرا كما ذكرناه على الوجه الّذي ذكره بعض غدرا و بعض صبرا. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 329

 

خطبه 170شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام لما عزم على لقاء القوم بصفين

اللَّهُمَّ رَبَّ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَ الْجَوِّ الْمَكْفُوفِ- الَّذِي جَعَلْتَهُ مَغِيضاً لِلَّيْلِ وَ النَّهَارِ- وَ مَجْرًى لِلشَّمْسِ وَ الْقَمَرِ وَ مُخْتَلَفاً لِلنُّجُومِ السَّيَّارَةِ- وَ جَعَلْتَ سُكَّانَهُ سِبْطاً مِنْ مَلَائِكَتِكَ- لَا يَسْأَمُونَ مِنْ عِبَادَتِكَ- وَ رَبَّ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي جَعَلْتَهَا قَرَاراً لِلْأَنَامِ- وَ مَدْرَجاً لِلْهَوَامِّ وَ الْأَنْعَامِ- وَ مَا لَا يُحْصَى مِمَّا يُرَى وَ مَا لَا يُرَى- وَ رَبَّ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي الَّتِي جَعَلْتَهَا لِلْأَرْضِ أَوْتَاداً- وَ لِلْخَلْقِ اعْتِمَاداً إِنْ أَظْهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا- فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ وَ سَدِّدْنَا لِلْحَقِّ- وَ إِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنَا الشَّهَادَةَ- وَ اعْصِمْنَا مِنَ الْفِتْنَةِ أَيْنَ الْمَانِعُ لِلذِّمَارِ- وَ الْغَائِرُ عِنْدَ نُزُولِ الْحَقَائِقِ مِنْ أَهْلِ الْحِفَاظِ- الْعَارُ وَرَاءَكُمْ وَ الْجَنَّةُ أَمَامَكُمْ

اللغة

أقول: مغيضا لهما: أى مغيبا.

و السبط: القبيلة.

المعنى

و قد دعا اللّه سبحانه باعتبار كونه ربّا للسماء و الأرض و باعتبار ما فيهما من الآيات المنبّهة على كمال عظمته و لطفه بخلقه، و هذا الدعاء ممّا تستعدّ به القلوب و الأبدان لاستفاضة الغلبة و النصر على العدوّ. و السقف المرفوع: السماء. و كذلك الجوّ المكفوف، و قد مرّت الإشارة إلى ذلك في الخطبة الاولى، و كونه مغيضا للّيل و النهار لأنّ الفلك بحركته المستلزمة لحركة الشمس إلى وجه الأرض يكون سببا لغيبوبة الليل، و استلزام حركته لحركاتها عن وجه الأرض يكون سببا لغيبوبة النهار فكان كالمغيض لهما فاستعار له لفظ المغيض. و كونه محلّا لجرى الشمس و القمر و محلّ اختلاف النجوم السيّارة ظاهر. و ليس فيه دلالة على أنّ النجوم تتحرّك: بذاتها من دون حركته. و الطائفة من الملائكة إشارة إلى الأرواح الفلكيّة لأجرامها، و قد سبقت الإشارة إليهم و بيان أنّهم لا يسأمون من العبادة في الخطبة الاولى. ثمّ دعاه باعتبار كونه ربّا للأرض، و باعتبار ما بسطها لأجله من كونها قراراً للأنام و مدرجا للهوامّ و الأنعام و ما لا يحصى ممّا يرى و لا يرى من أنواع الحيوان. قال بعض العلماء: من أراد أن يعرف حقيقة قوله عليه السّلام: ما يرى و ما لا يرى فليوقد نارا صغيرة في فلاة في ليلة صيفيّة و ينظر ما يجتمع عليها من غرائب أنواع الحيوان العجيبة الخلق لم يشاهدها هو و لا غيره. و أقول: يحتمل أن يريد بقوله: و ما لا يرى ما ليس من شأنه أن يرى إمّا لصغره أو لشفافيّته. ثمّ باعتبار كونه ربّا للجبال، و قد علمت معنى كونها أوتادا للأرض. فأمّا كونها اعتمادا للخلق فلأنّهم قد يبنون بها المساكن و يقوم فيها من المنافع ما لا يقوم في الأودية لكثير من الأشجار و الثمار، و لأنّها معادن الينابيع و منابع المعادن، و ظاهر كونها إذن معتمدا للخلق في مراتعهم و منافعهم. ثمّ سأل على تقدير نصره أن يجنّبه‏ البغى و هو العبور إلى طرف الإفراط من فضيلة العدل ثمّ التسديد و الاستقامة على فضيلة العدل و هو الحقّ، و على تقدير إظهار عدوّه عليه الشهادة و العصمة من فتنة الغبن و الانقهار فإنّ المغلوب إذا كان معتقدا أنّه على الحقّ قلّما يسلم من التسخّط على البخت و التعتّب على ربّه، و ربّما كفر كثير من الناس عند نزول البلاء بهم. و ظاهر كونه فتنة: أى صارفا عن اللّه. و اعتصم عليه السّلام من تلك الفتنة و أمثالها استثباتا لنفسه على الحقّ و تأديبا للسامعين. ثمّ أخذ فيما العادة أن يستحمى به الإنسان أصحابه في الحرب، و يستثير به طباعهم: من الاستفهام عن حامى الذمار، و الّذي تصيبه الغيرة من أهل المحافظة عند نزول الحقائق: أى عظائم الامور و شدائدها. ثمّ قال: النار ورائكم: أى إنّ رجوعكم القهقرى هربا من العدوّ مستلزم لدخولكم النار و استحقاقكم لها، و الجنّة أمامكم: أى في إقدامكم على العدوّ و التقدّم إلى مناجزته، و هو كلام في غاية الوجازة و البلاغة.

شرح ‏نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 327