۴۵ و من کتاب له ع إلى عثمان بن حنیف الأنصاری- و کان عامله على البصره
و قد بلغه أنه دعی إلى ولیمه قوم من أهلها فمضى إلیها- قوله- : أَمَّا بَعْدُ یَا ابْنَ حُنَیْفٍ- فَقَدْ بَلَغَنِی أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْیَهِ أَهْلِ الْبَصْرَهِ- دَعَاکَ إِلَى مَأْدُبَهٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَیْهَا- تُسْتَطَابُ لَکَ الْأَلْوَانُ وَ تُنْقَلُ إِلَیْکَ الْجِفَانُ- وَ مَا ظَنَنْتُ أَنَّکَ تُجِیبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ- عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَ غَنِیُّهُمْ مَدْعُوٌّ- فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ- فَمَا اشْتَبَهَ عَلَیْکَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ- وَ مَا أَیْقَنْتَ بِطِیبِ وَجْهِهِ فَنَلْ مِنْهُ- أَلَا وَ إِنَّ لِکُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً یَقْتَدِی بِهِ- وَ یَسْتَضِیءُ بِنُورِ عِلْمِهِ- أَلَا وَ إِنَّ إِمَامَکُمْ قَدِ اکْتَفَى مِنْ دُنْیَاهُ بِطِمْرَیْهِ- وَ مِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَیْهِ- أَلَا وَ إِنَّکُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِکَ- وَ لَکِنْ أَعِینُونِی بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ وَ عِفَّهٍ وَ سَدَادٍ- فَوَاللَّهِ مَا کَنَزْتُ مِنْ دُنْیَاکُمْ تِبْراً- وَ لَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً- وَ لَا أَعْدَدْتُ لِبَالِی ثَوْبِی طِمْراً- وَ لَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً- وَ لَا أَخَذْتُ مِنْهُ إِلَّا کَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَهٍ- وَ لَهِیَ فِی عَیْنِی أَوْهَى مِنْ عَفْصَهٍ مَقِرَهٍ
عثمان بن حنیف و نسبه
هو عثمان بن حنیف بضم الحاء بن واهب بن العکم- بن ثعلبه بن الحارث الأنصاری-ثم الأوسی أخو سهل بن حنیف- یکنى أبا عمرو و قیل أبا عبد الله- عمل لعمر ثم لعلی ع- و ولاه عمر مساحه الأرض و جبایتها بالعراق- و ضرب الخراج و الجزیه على أهلها- و ولاه علی ع على البصره- فأخرجه طلحه و الزبیر منها حین قدماها- و سکن عثمان الکوفه بعد وفاه علی ع- و مات بها فی زمن معاویه.
قوله من فتیه البصره أی من فتیانها- أی من شبابها أو من أسخیائها- یقال للسخی هذا فتى و الجمع فتیه و فتیان و فتو- و یروى أن رجلا من قطان البصره أی سکانها- . و المأدبه بضم الدال الطعام یدعى إلیه القوم- و قد جاءت بفتح الدال أیضا- و یقال أدب فلان القوم یأدبهم بالکسر- أی دعاهم إلى طعامه و الآدب الداعی إلیه- قال طرفه-
نحن فی المشتاه ندعو الجفلى
لا ترى الآدب فینا ینتقر
و یقال أیضا آدبهم إلى طعامه یؤدبهم إیدابا- و یروى و کثرت علیک الجفان فکرعت- و أکلت أکل ذئب نهم أو ضبع قرم- . و روی و ما حسبتک تأکل طعام قوم- . ثم ذم أهل البصره فقال- عائلهم مجفو و غنیهم مدعو- و العائل الفقیر و هذا کقول الشاعر-
فإن تملق فأنت لنا عدو
فإن تثر فأنت لنا صدیق
ثم أمره بأن یترک ما فیه شبهه إلى ما لا شبهه فیه- و سمی ذلک قضما و مقضما- و إن کان مما لا یقضم لاحتقاره له و ازدرائه إیاه- و أنه عنده لیس مما یستحق- أن یسمى بأسماء المرغوب فیه المتنافس علیه- و ذلک لأن القضم یطلق على معنیین- أحدهما على أکل الشیء الیابس- و الثانی على ما یؤکل ببعض الفم- و کلاهما یدلان على أن ذلک المقضم المرغوب عنه لا فیه- . ثم ذکر ع حال نفسه فقال- إن إمامکم قد قنع من الدنیا بطمریه- و الطمر الثوب الخلق البالی- و إنما جعلهما اثنین لأنهما إزار و رداء لا بد منهما- أی للجسد و الرأس- .
قال و من طعمه بقرصیه- أی قرصان یفطر علیهما لا ثالث لهما- و روی قد اکتفى من الدنیا بطمریه- و سد فوره جوعه بقرصیه- لا یطعم الفلذه فی حولیه إلا فی یوم أضحیه- . ثم قال إنکم لن تقدروا على ما أقدر علیه- و لکنی أسألکم أن تعینونی بالورع و الاجتهاد- . ثم أقسم أنه ما کنز ذهبا و لا ادخر مالا- و لا أعد ثوبا بالیا سملا لبالی ثوبیه- فضلا عن أن یعد ثوبا قشیبا- کما یفعله الناس فی إعداد ثوب جدید- لیلبسوه عوض الأسمال التی ینزعونها- و لا حاز من أرضها شبرا- و الضمیر فی أرضها یرجع إلى دنیاکم- و لا أخذ منها إلا کقوت أتان دبره- و هی التی عقر ظهرها فقل أکلها- . ثم قال و لهی فی عینی أهون من عفصه مقره أی مره- مقر الشیء بالکسر أی صار مرا- و أمقره بالهمز أیضا- قال لبید
ممقر مر على أعدائه
و على الأدنین حلو کالعسل
: بَلَى کَانَتْ فِی أَیْدِینَا فَدَکٌ مِنْ کُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ- فَشَحَّتْ عَلَیْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ- وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِینَ- وَ نِعْمَ الْحَکَمُ اللَّهُ- وَ مَا أَصْنَعُ بِفَدَکٍ وَ غَیْرِ فَدَکٍ- وَ النَّفْسُ مَظَانُّهَا فِی غَدٍ جَدَثٌ تَنْقَطِعُ فِی ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا- وَ تَغِیبُ أَخْبَارُهَا- وَ حُفْرَهٌ لَوْ زِیدَ فِی فُسْحَتِهَا وَ أَوْسَعَتْ یَدَا حَافِرِهَا- لَأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَ الْمَدَرُ- وَ سَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاکِمُ- وَ إِنَّمَا هِیَ نَفْسِی أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى- لِتَأْتِیَ آمِنَهً یَوْمَ الْخَوْفِ الْأَکْبَرِ- وَ تَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ الجدث القبر- و أضغطها الحجر جعلها ضاغطه و الهمزه للتعدیه- و یروى و ضغطها- . و قوله مظانها فی غد جدث- المظان جمع مظنه و هو موضع الشیء و مألفه الذی یکون فیه- قال
فإن یک عامر قد قال جهلا
فإن مظنه الجهل الشباب
یقول لا مال لی و لا اقتنیت فیما مضى مالا- و إنما کانت فی أیدینا فدک فشحت علیها نفوس قوم- أی بخلت و سخت عنها نفوس آخرین- سامحت و أغضت- و لیس یعنی هاهنا بالسخاء إلا هذا- لا السخاء الحقیقی- لأنه ع و أهله لم یسمحوا بفدک إلا غصبا و قسرا- و قد قال هذه الألفاظ فی موضع آخر فیما تقدم- و هو یعنی الخلافه بعد وفاه رسول الله ص- .
ثم قال و نعم الحکم الله الحکم الحاکم- و هذا الکلام کلام شاک متظلم- ثم ذکر مال الإنسان- و أنه لا ینبغی أن یکترث بالقینات و الأموال- فإنه یصیر عن قریب إلى دار البلى و منازل الموتى- . ثم ذکر أن الحفره ضیقه- و أنه لو وسعها الحافر- لألجأها الحجر المتداعی و المدر المتهافت- إلى أن تضغط المیت و تزحمه- و هذا کلام محمول على ظاهره لأنه خطاب للعامه- و إلا فأی فرق بین سعه الحفره و ضیقها على المیت- اللهم إلا أن یقول قائل إن المیت یحس فی قبره- فإذا قیل ذلک فالجاعل له حساسا بعد عدم الحس- هو الذی یوسع الحفره- و إن کان الحافر قد جعلها ضیقه- فإذن هذا الکلام جید لخطاب العرب خاصه- و من یحمل الأمور على ظواهرها- . ثم قال و إنما هی نفسی أروضها بالتقوى- یقول تقللی و اقتصاری من المطعم و الملبس- على الجشب و الخشن ریاضه لنفسی- لأن ذلک إنما أعمله خوفا من الله أن أنغمس فی الدنیا- فالریاضه بذلک هی ریاضه فی الحقیقه بالتقوى- لا بنفس التقلل و التقشف- لتأتی نفسی آمنه یوم الفزع الأکبر- و تثبت فی مداحض الزلق
ذکر ما ورد من السیر و الأخبار فی أمر فدک
و اعلم أنا نتکلم فی شرح هذه الکلمات بثلاثه فصول- الفصل الأول فیما ورد فی الحدیث و السیر من أمر فدک- و الفصل الثانی فی هل النبی ص یورث أم لا- و الفصل الثالث- فی أن فدک هل صح کونها نحله- من رسول الله ص لفاطمه أم لا- .
الفصل الأول- فیما ورد من الأخبار و السیر- المنقوله من أفواه أهل الحدیث و کتبهم- لا من کتب الشیعه و رجالهم
لأنا مشترطون على أنفسنا ألا نحفل بذلک- جمیع ما نورده فی هذا الفصل- من کتاب أبی بکر أحمد بن عبد العزیز الجوهری- فی السقیفه و فدک- و ما وقع من الاختلاف و الاضطراب- عقب وفاه النبی ص- و أبو بکر الجوهری هذا عالم محدث کثیر الأدب ثقه ورع- أثنى علیه المحدثون و رووا عنه مصنفاته- . قال أبو بکر حدثنی أبو زید عمر بن شبه قال- حدثنا حیان بن بشر قال حدثنا یحیى بن آدم قال- أخبرنا ابن أبی زائده عن محمد بن إسحاق- عن الزهری قال بقیت بقیه من أهل خیبر تحصنوا- فسألوا رسول الله ص أن یحقن دماءهم و یسیرهم ففعل- فسمع ذلک أهل فدک فنزلوا على مثل ذلک- و کانت للنبی ص خاصه- لأنه لم یوجف علیها بخیل و لا رکاب- .
قال أبو بکر و روى محمد بن إسحاق أیضا- أن رسول الله ص لما فرغ من خیبر- قذف الله الرعب فی قلوب أهل فدک- فبعثوا إلى رسول الله ص- فصالحوه على النصف من فدک- فقدمت علیه رسلهم بخیبر أو بالطریق- أو بعد ما أقام بالمدینه فقبل ذلک منهم- و کانت فدک لرسول الله ص خالصه له- لأنه لم یوجف علیها بخیل و لا رکاب- . قال و قد روى أنه صالحهم علیها کلها- الله أعلم أی الأمرین کان- . قال و کان مالک بن أنس- یحدث عن عبد الله بن أبی بکر بن عمرو بن حزم- أنه صالحهم على النصف فلم یزل الأمر کذلک- حتى أخرجهم عمر بن الخطاب و أجلاهم- بعد أن عوضهم عن النصف- الذی کان لهم عوضا من إبل و غیرها- .
و قال غیر مالک بن أنس- لما أجلاهم عمر بعث إلیهم من یقوم الأموال- بعث أبا الهیثم بن التیهان و فروه بن عمرو- و حباب بن صخر و زید بن ثابت- فقوموا أرض فدک و نخلها فأخذها عمر- و دفع إلیهم قیمه النصف الذی لهم- و کان مبلغ ذلک خمسین ألف درهم- أعطاهم إیاها من مال أتاه من العراق- و أجلاهم إلى الشام- .
قال أبو بکر فحدثنی محمد بن زکریا قال حدثنی جعفر بن محمد بن عماره الکندی قال- حدثنی أبی عن الحسین بن صالح بن حی قال حدثنی رجلان من بنی هاشم عن زینب بنت علی بن أبی طالب ع قال و قال جعفر بن محمد بن علی بن الحسین عن أبیه قال أبو بکر و حدثنی عثمان بن عمران العجیفی عن نائل بن نجیح بن عمیر بن شمر عن جابر الجعفی عن أبی جعفر محمد بن علی ع قال أبو بکر و حدثنی أحمد بن محمد بن یزید عن عبد الله بن محمد بن سلیمان عن أبیه عن عبد الله بن حسن بن الحسن قالوا جمیعا لما بلغ فاطمه ع- إجماع أبی بکر على منعها فدک- لاثت خمارها- و أقبلت فی لمه من حفدتها و نساء قومها- تطأ فی ذیولها- ما تخرم مشیتها مشیه رسول الله ص- حتى دخلت على أبی بکر- و قد حشد الناس من المهاجرین و الأنصار- فضرب بینها و بینهم ریطه بیضاء- و قال بعضهم قبطیه- و قالوا قبطیه بالکسر و الضم- ثم أنت أنه أجهش لها القوم بالبکاء- ثم أمهلت طویلا حتى سکنوا من فورتهم ثم قالت- أبتدئ بحمد من هو أولى بالحمد و الطول و المجد- الحمد لله على ما أنعم و له الشکر بما ألهم- و ذکر خطبه طویله جیده قالت فی آخرها- فاتقوا الله حق تقاته- و أطیعوه فیما أمرکم به- فإنما یخشى الله من عباده العلماء- و احمدوا الله الذی لعظمته و نوره- یبتغی من فی السموات و الأرض إلیه الوسیله- و نحن وسیلته فی خلقه و نحن خاصته و محل قدسه- و نحن حجته فی غیبه و نحن ورثهأنبیائه- ثم قالت أنا فاطمه ابنه محمد- أقول عودا على بدء- و ما أقول ذلک سرفا و لا شططا- فاسمعوا بأسماع واعیه و قلوب راعیه- ثم قالت لقد جاءکم رسول من أنفسکم- عزیز علیه ما عنتم حریص علیکم- بالمؤمنین رءوف رحیم- فإن تعزوه تجدوه أبی دون آبائکم- و أخا ابن عمی دون رجالکم- ثم ذکرت کلاما طویلا سنذکره فیما بعد فی الفصل الثانی-
تقول فی آخره ثم أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لی- أَ فَحُکْمَ الْجاهِلِیَّهِ یَبْغُونَ- وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُکْماً لِقَوْمٍ یُوقِنُونَ- إیها معاشر المسلمین ابتز إرث أبی- أبى الله أن ترث یا ابن أبی قحافه أباک و لا أرث أبی- لقد جئت شیئا فریا- فدونکها مخطومه مرحوله تلقاک یوم حشرک- فنعم الحکم الله- و الزعیم محمد و الموعد القیامه- و عند الساعه یخسر المبطلون- و لکل نبأ مستقر و سوف تعلمون من یأتیه عذاب- یخزیه و یحل علیه عذاب مقیم- ثم التفتت إلى قبر أبیها- فتمثلت بقول هند بنت أثاثه-
قد کان بعدک أنباء و هینمه
لو کنت شاهدها لم تکثر الخطب
أبدت رجال لنا نجوى صدورهم
لما قضیت و حالت دونک الکتب
تجهمتنا رجال و استخف بنا
إذا غبت عنا فنحن الیوم نغتصب
قال و لم یر الناس أکثر باک و لا باکیه منهم یومئذ- ثم عدلت إلى مسجد الأنصار فقالت- یا معشر البقیه و أعضاد المله و حضنه الإسلام- ما هذه الفتره عن نصرتی و الونیه عن معونتی- و الغمزه فی حقی و السنه عن ظلامتی- أ ما کان رسول الله ص یقول المرء یحفظ فی ولده- سرعان ما أحدثتم و عجلان ما أتیتم أ لأن مات رسول الله ص أمتم دینه- ها إن موته لعمری خطب جلیل استوسع وهنه و استبهم فتقه و فقد راتقه- و أظلمت الأرض له و خشعت الجبال و أکدت الآمال- أضیع بعده الحریم- و هتکت الحرمه و أذیلت المصونه- و تلک نازله أعلن بها کتاب الله قبل موته- و أنبأکم بها قبل وفاته فقال- وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ- أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِکُمْ- وَ مَنْ یَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَیْهِ فَلَنْ یَضُرَّ اللَّهَ شَیْئاً- وَ سَیَجْزِی اللَّهُ الشَّاکِرِینَ- إیها بنی قیله اهتضم تراث أبی- و أنتم بمرأى و مسمع تبلغکم الدعوه- و یشملکم الصوت و فیکم العده و العدد- و لکم الدار و الجنن- و أنتم نخبه الله التی انتخب- و خیرته التی اختار- بادیتم العرب و بادهتم الأمور- و کافحتم البهم حتى دارت بکم رحى الإسلام- و در حلبه و خبت نیران الحرب- و سکنت فوره الشرک و هدأت دعوه الهرج- و استوثق نظام الدین- أ فتأخرتم بعد الإقدام و نکصتم بعد الشده- و جبنتم بعد الشجاعه- عن قوم نکثوا أیمانهم من بعد عهدهم- و طعنوا فی دینکم- فقاتلوا أئمه الکفر إنهم لا أیمان لهم لعلهم ینتهون- ألا و قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض- و رکنتم إلى الدعه فجحدتم الذی وعیتم- و سغتم الذی سوغتم- و إن تکفروا أنتم و من فی الأرض جمیعا- فإن الله لغنی حمید- ألا و قد قلت لکم ما قلت على معرفه منی بالخذله- التی خامرتکم- و خور القناه و ضعف الیقین- فدونکموها فاحتووها مدبره الظهر- ناقبه الخف باقیه العار موسومه الشعار- موصوله بنار الله الموقده التی تطلع على الأفئده- فبعین الله ما تعملون- وَ سَیَعْلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَیَّ مُنْقَلَبٍ یَنْقَلِبُونَ
قال و حدثنی محمد بن زکریا قال حدثنا محمد بن الضحاک قال حدثنا هشام بن محمد عن عوانه بن الحکم قال لما کلمت فاطمه ع أبا بکر بما کلمته به- حمد أبو بکر الله و أثنى علیه و صلى على رسوله ثم قال- یا خیره النساء و ابنه خیر الآباء- و الله ما عدوت رأی رسول الله ص- و ما عملت إلا بأمره و إن الرائد لا یکذب أهله- و قد قلت فأبلغت و أغلظت فأهجرت- فغفر الله لنا و لک- أما بعد فقد دفعت آله رسول الله و دابته و حذاءه إلى علی ع- و أما ما سوى ذلک فإنی سمعت رسول الله ص یقول- إنا معاشر الأنبیاء لا نورث ذهبا و لا فضه- و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا- و لکنا نورث الإیمان و الحکمه و العلم و السنه- فقد عملت بما أمرنی و نصحت له- و ما توفیقی إلا بالله علیه توکلت و إلیه أنیب قال أبو بکر-
و روى هشام بن محمد عن أبیه قال- قالت فاطمه لأبی بکر- إن أم أیمن تشهد لی- أن رسول الله ص أعطانی فدک- فقال لها یا ابنه رسول الله- و الله ما خلق الله خلقا أحب إلی من رسول الله ص أبیک- و لوددت أن السماء وقعت على الأرض یوم مات أبوک- و الله لأن تفتقر عائشه أحب إلی من أن تفتقری- أ ترانی أعطی الأحمر و الأبیض حقه و أظلمک حقک- و أنت بنت رسول الله ص- إن هذا المال لم یکن للنبی ص- و إنما کان مالا من أموال المسلمین- یحمل النبی به الرجال- و ینفقه فی سبیل الله- فلما توفی رسول الله ص ولیته کما کان یلیه- قالت و الله لا کلمتک أبدا قال و الله لا هجرتک أبدا- قالت و الله لأدعون الله علیک- قال و الله لأدعون الله لک- فلما حضرتها الوفاه أوصت ألا یصلی علیها- فدفنت لیلا و صلى علیها عباس بن عبد المطلب- و کان بین وفاتها و وفاه أبیها اثنتان و سبعون لیله- .
قال أبو بکر و حدثنی محمد بن زکریا قال حدثنا جعفر بن محمد بن عماره بالإسناد الأول قال فلما سمع أبو بکر خطبتها شق علیه مقالتها- فصعد المنبر و قال أیها الناس- ما هذه الرعه إلى کل قاله- أین کانت هذه الأمانی فی عهد رسول الله ص-ألا من سمع فلیقل و من شهد فلیتکلم- إنما هو ثعاله شهیده ذنبه مرب لکل فتنه- هو الذی یقول کروها جذعه بعد ما هرمت- یستعینون بالضعفه و یستنصرون بالنساء- کأم طحال أحب أهلها إلیها البغی- ألا إنی لو أشاء أن أقول لقلت و لو قلت لبحت- إنی ساکت ما ترکت- ثم التفت إلى الأنصار فقال- قد بلغنی یا معشر الأنصار مقاله سفهائکم- و أحق من لزم عهد رسول الله ص أنتم- فقد جاءکم فآویتم و نصرتم- ألا إنی لست باسطا یدا و لا لسانا- على من لم یستحق ذلک منا- .
ثم نزل- فانصرفت فاطمه ع إلى منزلها- . قلت قرأت هذا الکلام- على النقیب أبی یحیى جعفر بن یحیى بن أبی زید البصری- و قلت له بمن یعرض فقال بل یصرح- قلت لو صرح لم أسألک فضحک و قال- بعلی بن أبی طالب ع- قلت هذا الکلام کله لعلی یقوله- قال نعم إنه الملک یا بنی- قلت فما مقاله الأنصار- قال هتفوا بذکر علی- فخاف من اضطراب الأمر علیهم فنهاهم- فسألته عن غریبه- فقال أما الرعه بالتخفیف أی الاستماع و الإصغاء- و القاله القول- و ثعاله اسم الثعلب علم غیر مصروف- و مثل ذؤاله للذئب- و شهیده ذنبه أی لا شاهد له على ما یدعی- إلا بعضه و جزء منه- و أصله مثل- قالوا إن الثعلب أراد أن یغرى الأسد بالذئب فقال- إنه قد أکل الشاه التی کنت قد أعددتها لنفسک- و کنت حاضرا- قال فمن یشهد لک بذلک- فرفع ذنبه و علیه دم- و کان الأسد قد افتقد الشاه فقبل شهادته و قتل الذئب- و مرب ملازم أرب بالمکان- و کروها جذعه أعیدوها إلى الحال الأولى- یعنی الفتنه و الهرج- و أم طحال امرأه بغی فی الجاهلیه- و یضرب بها المثل فیقال أزنى من أم طحال- .
قال أبو بکر و حدثنی محمد بن زکریا قال- حدثنی ابن عائشه قال حدثنی أبی عن عمه- قال لما کلمت فاطمه أبا بکر بکى ثم قال- یا ابنه رسول الله و الله ما ورث أبوک دینارا و لا درهما- و إنه قال إن الأنبیاء لا یورثون- فقالت إن فدک وهبها لی رسول الله ص- قال فمن یشهد بذلک- فجاء علی بن أبی طالب ع فشهد- و جاءت أم أیمن فشهدت أیضا- فجاء عمر بن الخطاب و عبد الرحمن بن عوف- فشهد أن رسول الله ص کان یقسمها- قال أبو بکر صدقت یا ابنه رسول الله ص- و صدق علی و صدقت أم أیمن- و صدق عمر و صدق عبد الرحمن بن عوف- و ذلک أن مالک لأبیک- کان رسول الله ص یأخذ من فدک قوتکم- و یقسم الباقی و یحمل منه فی سبیل الله- فما تصنعین بها قالت أصنع بها کما یصنع بها أبی- قال فلک على الله أن أصنع فیها کما یصنع فیها أبوک- قالت الله لتفعلن قال الله لأفعلن- قالت اللهم اشهد- و کان أبو بکر یأخذ غلتها فیدفع إلیهم منها ما یکفیهم- و یقسم الباقی- و کان عمر کذلک ثم کان عثمان کذلک- ثم کان علی کذلک- فلما ولی الأمر معاویه بن أبی سفیان- أقطع مروان بن الحکم ثلثها- و أقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها- و أقطع یزید بن معاویه ثلثها- و ذلک بعد موت الحسن بن علی ع- فلم یزالوا یتداولونها- حتى خلصت کلها لمروان بن الحکم أیام خلافته- فوهبها لعبد العزیز ابنه- فوهبها عبد العزیز لابنه عمر بن عبد العزیز- فلما ولی عمر بن العزیز الخلافه کانت أول ظلامه ردها- دعا حسن بن الحسن بن علی بن أبی طالب ع- و قیل بل دعا علی بن الحسین ع فردها علیه- و کانت بید أولاد فاطمه ع- مده ولایه عمر بن عبد العزیز- فلما ولی یزید بن عاتکه قبضها منهم- فصارت فی أیدی بنی مروان کما کانت یتداولونها- حتى انتقلت الخلافه عنهم- فلما ولی أبو العباس السفاح- ردها على عبد الله بن الحسن بن الحسن- ثم قبضها أبو جعفر لما حدث من بنی حسن ما حدث- ثم ردها المهدی ابنه على ولد فاطمه ع- ثم قبضها موسى بن المهدی و هارون أخوه- فلم تزل أیدیهم حتى ولی المأمون- فردها على الفاطمیین قال أبو بکر حدثنی محمد بن زکریا قال- حدثنی مهدی بن سابق قال- جلس المأمون للمظالم- فأول رقعه وقعت فی یده نظر فیها و بکى- و قال للذی على رأسه- ناد أین وکیل فاطمه- فقام شیخ علیه دراعه و عمامه و خف تعزى- فتقدم فجعل یناظره فی فدک- و المأمون یحتج علیه و هو یحتج على المأمون- ثم أمر أن یسجل لهم بها- فکتب السجل و قرئ علیه فأنفذه- فقام دعبل إلى المأمون فأنشده الأبیات التی أولها-
أصبح وجه الزمان قد ضحکا
برد مأمون هاشم فدکا
فلم تزل فی أیدیهم حتى کان فی أیام المتوکل- فأقطعها عبد الله بن عمر البازیار- و کان فیها إحدى عشره نخله غرسها رسول الله ص بیده- فکان بنو فاطمه یأخذون ثمرها- فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلک التمر فیصلونهم- فیصیر إلیهم من ذلک مال جزیل جلیل- فصرم عبد الله بن عمر البازیار ذلک التمر- و وجه رجلا یقال له بشران بن أبی أمیه الثقفی- إلى المدینه فصرمه- ثم عاد إلى البصره ففلج- . قال أبو بکر أخبرنا أبو زید عمر بن شبه- قال حدثنا سوید بن سعید و الحسن بن عثمان- قالا حدثنا الولید بن محمد عن الزهری- عن عروه عن عائشه- أن فاطمه ع أرسلت إلى أبی بکر- تسأله میراثها من رسول الله ص- و هی حینئذ تطلب ما کان لرسول الله ص بالمدینه و فدک- و ما بقی من خمس خیبر- فقال أبو بکرإن رسول الله ص قال لا نورث ما ترکناه صدقه- إنما یأکل آل محمد من هذا المال- و إنی و الله لا أغیر شیئا من صدقات رسول الله ص- عن حالها التی کانت علیها فی عهد رسول الله ص- و لأعملن فیها بما عمل فیها رسول الله ص- فأبى أبو بکر أن یدفع إلى فاطمه منها شیئا- فوجدت من ذلک على أبی بکر- و هجرته فلم تکلمه حتى توفیت- و عاشت بعد أبیها سته أشهر- فلما توفیت دفنها علی ع لیلا- و لم یؤذن بها أبا بکر- .
قال أبو بکر و أخبرنا أبو زید قال- حدثنا إسحاق بن إدریس قال حدثنا محمد بن أحمد- عن معمر عن الزهری عن عروه عن عائشه- أن فاطمه و العباس أتیا أبا بکر- یلتمسان میراثهما من رسول الله ص- و هما حینئذ یطلبان أرضه بفدک و سهمه بخیبر- فقال لهما أبو بکر إنی سمعت رسول الله ص یقول- لا نورث ما ترکنا صدقه- إنما یأکل آل محمد ص من هذا المال- و إنی و الله لا أغیر أمرا- رأیت رسول الله ص یصنعه إلا صنعته- قال فهجرته فاطمه فلم تکلمه حتى ماتت- .
قال أبو بکر و أخبرنا أبو زید قال حدثنا عمر بن عاصم و موسى بن إسماعیل قال حدثنا حماد بن سلمه عن الکلبی عن أبی صالح عن أم هانئ أن فاطمه قالت لأبی بکر من یرثک إذا مت- قال ولدی و أهلی- قالت فما لک ترث رسول الله ص دوننا- قال یا ابنه رسول الله- ما ورث أبوک دارا و لا مالا و لا ذهبا و لا فضه- قالت بلى سهم الله الذی جعله لنا- و صار فیئنا الذی بیدک- فقال لها سمعت رسول الله ص یقول- إنما هی طعمه أطعمناها الله- فإذا مت کانت بین المسلمین قال أبو بکر و أخبرنا أبو زید قال حدثنا أبو بکر بن أبی شیبه قال حدثنا محمد بن الفضل عن الولید بن جمیع عن أبی الطفیل قال أرسلت فاطمه إلى أبی بکر-أنت ورثت رسول الله ص أم أهله قال بل أهله- قالت فما بال سهم رسول الله ص- قال إنی سمعت رسول الله ص یقول- إن الله أطعم نبیه طعمه- ثم قبضه و جعله للذی یقوم بعده- فولیت أنا بعده على أن أرده على المسلمین- قالت أنت و ما سمعت من رسول الله ص أعلم- .
قلت فی هذا الحدیث عجب لأنها قالت له- أنت ورثت رسول الله ص أم أهله- قال بل أهله- و هذا تصریح بأنه ص موروث یرثه أهله- و هو خلاف قوله لا نورث- و أیضا فإنه یدل- على أن أبا بکر استنبط من قول رسول الله ص- أن الله أطعم نبیا طعمه- أن یجری رسول الله ص عند وفاته مجرى ذلک النبی ص- أو یکون قد فهم أنه عنى بذلک النبی المنکر لفظا نفسه- کما فهم من قوله فی خطبته- إن عبدا خیره الله بین الدنیا و ما عند ربه- فاختار ما عند ربه- فقال أبو بکر بل نفدیک بأنفسنا- .
قال أبو بکر و أخبرنا أبو زید قال أخبرنا القعنبی قال حدثنا عبد العزیز بن محمد عن محمد بن عمر عن أبی سلمه أن فاطمه طلبت فدک من أبی بکر- فقال إنی سمعت رسول الله ص یقول- إن النبی لا یورث- من کان النبی یعوله فأنا أعوله- و من کان النبی ص ینفق علیه فأنا أنفق علیه- فقالت یا أبا بکر أ یرثک بناتک- و لا یرث رسول الله ص بناته- فقال هو ذاک
قال أبو بکر و أخبرنا أبو زید قال حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبیر قال حدثنا فضیل بن مرزوق قال حدثنا البحتری بن حسان قال قلت لزید بن علی ع- و أنا أرید أن أهجن أمر أبی بکر- إن أبا بکر انتزع فدک من فاطمه ع- فقال إن أبا بکر کان رجلارحیما- و کان یکره أن یغیر شیئا فعله رسول الله ص- فأتته فاطمه فقالت- إن رسول الله ص أعطانی فدک- فقال لها هل لک على هذا بینه- فجاءت بعلی ع فشهد لها- ثم جاءت أم أیمن فقالت- أ لستما تشهدان أنی من أهل الجنه- قالا بلى قال أبو زید- یعنی أنها قالت لأبی بکر و عمر- قالت فأنا أشهد أن رسول الله ص أعطاها فدک- فقال أبو بکر- فرجل آخر أو امرأه أخرى لتستحقی بها القضیه- ثم قال أبو زید و ایم الله لو رجع الأمر إلی- لقضیت فیها بقضاء أبی بکر قال أبو بکر و أخبرنا أبو زید قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا یحیى بن المتوکل أبو عقیل عن کثیر النوال قال قلت لأبی جعفر محمد بن علی ع- جعلنی الله فداک- أ رأیت أبا بکر و عمر هل ظلماکم من حقکم شیئا- أو قال ذهبا من حقکم بشیء فقال لا- و الذی أنزل القرآن على عبده لیکون للعالمین نذیرا- ما ظلمنا من حقنا مثقال حبه من خردل- قلت جعلت فداک أ فأتولاهما قال نعم ویحک- تولهما فی الدنیا و الآخره- و ما أصابک ففی عنقی- ثم قال فعل الله بالمغیره و بنان- فإنهما کذبا علینا أهل البیت قال أبو بکر و أخبرنا أبو زید قال حدثنا عبد الله بن نافع و القعنبی عن مالک عن الزهری عن عروه عن عائشه أن أزواج النبی ص- أردن لما توفی أن یبعثن عثمان بن عفان إلى أبی بکر- یسألنه میراثهن- أو قال ثمنهن- قالت فقلت لهن أ لیس قد قال النبی ص لا نورث ما ترکنا صدقه
قال أبو بکر و أخبرنا أبو زید قال حدثنا عبد الله بن نافع و القعنبی و بشر بن عمر عن مالک عن أبی الزناد عن الأعرج عن أبی هریره عن النبی ص قال لا یقسم ورثتی دینارا و لا درهما- ما ترکت بعد نفقه نسائی و مئونه عیالی فهو صدقهقلت هذا حدیث غریب- لأن المشهور أنه لم یرو حدیث انتفاء الإرث إلا أبو بکر وحده- . و قال أبو بکر و حدثنا أبو زید عن الحزامی عن ابن وهب عن یونس عن ابن شهاب عن عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هریره یقول سمعت رسول الله ص یقول و الذی نفسی بیده لا یقسم ورثتی شیئا ما ترکت صدقه- قال و کانت هذه الصدقه بید علی ع- غلب علیها العباس و کانت فیها خصومتهما- فأبى عمر أن یقسمها بینهما حتى أعرض عنها العباس- و غلب علیها ع- ثم کانت بید حسن و حسین ابنی علی ع- ثم کانت بید علی بن الحسین ع و الحسن بن الحسن- کلاهما یتداولانها ثم بید زید بن علی ع-
قال أبو بکر و أخبرنا أبو زید قال- حدثنا عثمان بن عمر بن فارس- قال حدثنا یونس عن الزهری- عن مالک بن أوس بن الحدثان- أن عمر بن الخطاب دعاه یوما بعد ما ارتفع النهار- قال فدخلت علیه و هو جالس على سریر رمال- لیس بینه و بین الرمال فراش على وساده أدم- فقال یا مالک- إنه قد قدم من قومک أهل أبیات حضروا المدینه- و قد أمرت لهم برضخ فاقسمه بینهم- فقلت یا أمیر المؤمنین مر بذلک غیری- قال اقسم أیها المرء- قال فبینا نحن على ذلک إذ دخل یرفأ فقال- هل لک فی عثمان و سعد و عبد الرحمن و الزبیر- یستأذنون علیک قال نعم فأذن لهم-
قال ثم لبث قلیلا ثم جاء فقال- هل لک فی علی و العباس یستأذنان علیک- قال ائذن لهما فلما دخلا قال عباس- یا أمیر المؤمنین اقض بینی و بین هذا یعنی علیا- و هما یختصمان فی الصوافی- التی أفاء الله على رسوله من أموال بنی النضیر- قال فاستب علی و العباس عند عمر- فقال عبد الرحمن یا أمیر المؤمنین- اقض بینهما و أرح أحدهما من الآخر- فقال عمر أنشدکم الله الذی تقوم بإذنه السماوات و الأرض- هل تعلمون أن رسول الله ص قال- لا نورث ما ترکناه صدقه یعنی نفسه- قالوا قد قال ذلک- فأقبل على العباس و علی فقال- أنشدکما الله هل تعلمان ذلک قالا نعم- قال عمر فإنی أحدثکم عن هذا الأمر- أن الله تبارک و تعالى خص رسوله ص- فی هذا الفیء بشیء لم یعطه غیره-
قال تعالى وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ- فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَیْهِ مِنْ خَیْلٍ وَ لا رِکابٍ- وَ لکِنَّ اللَّهَ یُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ یَشاءُ- وَ اللَّهُ عَلى کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ- و کانت هذه خاصه لرسول الله ص- فما اختارها دونکم و لا استأثر بها علیکم- لقد أعطاکموها و ثبتها فیکم حتى بقی منها هذا المال- و کان ینفق منه على أهله سنتهم- ثم یأخذ ما بقی فیجعله فیما یجعل مال الله عز و جل- فعل ذلک فی حیاته ثم توفی- فقال أبو بکر أنا ولی رسول الله ص- فقبضه الله و قد عمل فیها بما عمل به رسول الله ص- و أنتما حینئذ و التفت إلى علی و العباس- تزعمان أن أبا بکر فیها ظالم فاجر- و الله یعلم أنه فیها لصادق بار راشد تابع للحق- ثم توفى الله أبا بکر فقلت- أنا أولى الناس بأبی بکر و برسول الله ص- فقبضتها سنتین أو قال سنین من إمارتی- أعمل فیها مثل ما عمل به رسول الله ص و أبو بکر- ثم قال و أنتما و أقبل على العباس و علی- تزعمان أنی فیها ظالم فاجر- و الله یعلم أنی فیها بار راشد تابع للحق- ثم جئتمانی و کلمتکما واحده و أمرکما جمیع- فجئتنی یعنی العباس تسألنی نصیبک من ابن أخیک- و جاءنی هذا یعنی علیا یسألنی نصیب امرأته من أبیها- فقلت لکما أن رسول الله ص قال- لا نورث ما ترکناه صدقه- فلما بدا لی أن أدفعها إلیکما قلت- أدفعها على أن علیکما عهد الله و میثاقه- لتعملان فیها بما عمل رسول الله ص و أبو بکر- و بما عملت به فیها و إلا فلا تکلمانی- فقلتما ادفعها إلینا بذلک- فدفعتها إلیکما بذلک- أ فتلتمسان منی قضاء غیر ذلک- و الله الذی تقوم بإذنه السماوات و الأرض- لا أقضی بینکما بقضاء غیر ذلک حتى تقوم الساعه- فإن عجزتما عنها فادفعاها إلی فأنا أکفیکماها- .
قال أبو بکر و حدثنا أبو زید قال حدثنا إسحاق بن إدریس قال حدثنا عبد الله بن المبارک قال حدثنی یونس عن الزهری قال حدثنی مالک بن أوس بن الحدثان بنحوه قال فذکرت ذلک لعروه فقال صدق مالک بن أوس أنا سمعت عائشه تقول أرسل أزواج النبی ص عثمان بن عفان- إلى أبی بکر یسأل لهن میراثهن- من رسول الله ص مما أفاء الله علیه- حتى کنت أردهن عن ذلک فقلت- أ لا تتقین الله أ لم تعلمن أن رسول الله ص کان یقول- لا نورث ما ترکناه صدقه- یرید بذلک نفسه- إنما یأکل آل محمد من هذا المال- فانتهى أزواج النبی ص إلى ما أمرتهن به قلت هذا مشکل لأن الحدیث الأول- یتضمن أن عمر أقسم على جماعه فیهم عثمان- فقال نشدتکم الله- أ لستم تعلمون أن رسول الله ص قال- لا نورث ما ترکناه صدقه- یعنی نفسه- فقالوا نعم و من جملتهم عثمان- فکیف یعلم بذلک فیکون مترسلا لأزواج النبی ص- یسأله أن یعطیهن المیراث- اللهم إلا أن یکون عثمان و سعد- و عبد الرحمن و الزبیر صدقوا عمر- على سبیل التقلید لأبی بکر فیما رواه و حسن الظن- و سموا ذلک علما- لأنه قد یطلق على الظن اسم العلم- .
فإن قال قائل- فهلا حسن ظن عثمان بروایه أبی بکر فی مبدإ الأمر- فلم یکن رسولا لزوجات النبی ص فی طلب المیراث- قیل له یجوز أن یکون فی مبدإ الأمر شاکا- ثم یغلب على ظنه صدقه لأمارات اقتضت تصدیقه- و کل الناس یقع لهم مثل ذلک- . و هاهنا إشکال آخر- و هو أن عمر ناشد علیا و العباس- هل تعلمان ذلک فقالا نعم- فإذا کانا یعلمانه- فکیف جاء العباس و فاطمه إلى أبی بکر- یطلبان المیراث على ما ذکره فی خبر سابق على هذا الخبر- و قد أوردناه نحن- و هل یجوز أن یقال- کان العباس یعلم ذلک ثم یطلب الإرث الذی لا یستحقه- و هل یجوز أن یقال أن علیا کان یعلم ذلک- و یمکن زوجته أن تطلب ما لا تستحقه- خرجت من دارها إلى المسجد و نازعت أبا بکر- و کلمته بما کلمته إلا بقوله و إذنه و رأیه- و أیضا فإنه إذا کان ص لا یورث- فقد أشکل دفع آلته و دابته و حذائه إلى علی ع- لأنه غیر وارث فی الأصل- و إن کان أعطاه ذلک لأن زوجته بعرضه أن ترث- لو لا الخبر فهو أیضا غیر جائز- لأن الخبر قد منع أن یرث منه شیئا- قلیلا کان أو کثیرا- .
فإن قال قائل- نحن معاشر الأنبیاء لا نورث ذهبا- و لا فضه و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا- قیل هذا الکلام یفهم من مضمونه- أنهم لا یورثون شیئا أصلا- لأن عاده العرب جاریه بمثل ذلک- و لیس یقصدون نفی میراث هذه الأجناس- المعدوده دون غیرها- بل یجعلون ذلک- کالتصریح بنفی أن یورثوا شیئا ما على الإطلاق- . و أیضا فإنه جاء فی خبر الدابه و الآله و الحذاء- أنه روی عن النبی ص- لا نورث ما ترکناه صدقه- و لم یقل لا نورث کذا و لا کذا- و ذلک یقتضی عموم انتفاء الإرث عن کل شیء
و أما الخبر الثانی- و هو الذی رواه هشام بن محمد الکلبی عن أبیه- ففیه إشکال أیضا- لأنه قال إنها طلبت فدک- و قالت إن أبی أعطانیها و إن أم أیمن تشهد لی بذلک- فقال لها أبو بکر فی الجواب- إن هذا المال لم یکن لرسول الله ص- و إنما کان مالا من أموال المسلمین- یحمل به الرجال و ینفقه فی سبیل الله- فلقائل أن یقول له- أ یجوز للنبی ص أن یملک ابنته أو غیر ابنته- من أفناء الناس ضیعه مخصوصه- أو عقارا مخصوصا من مال المسلمین- لوحی أوحى الله تعالى إلیه أو لاجتهاد رأیه- على قول من أجاز له أن یحکم بالاجتهاد- أو لا یجوز للنبی ص ذلک- فإن قال لا یجوز- قال ما لا یوافقه العقل و لا المسلمون علیه- و إن قال یجوز ذلک- قیل فإن المرأه ما اقتصرت على الدعوى- بل قالت أم أیمن تشهد لی- فکان ینبغی أن یقول لها فی الجواب- شهاده أم أیمن وحدها غیر مقبوله- و لم یتضمن هذا الخبر ذلک- بل قال لها لما ادعت و ذکرت من یشهد لها- هذا مال من مال الله لم یکن لرسول الله ص- و هذا لیس بجواب صحیح- .
و أما الخبر الذی رواه محمد بن زکریا عن عائشه- ففیه من الإشکال مثل ما فی هذا الخبر- لأنه إذا شهد لها علی ع و أم أیمن- أن رسول الله ص وهب لها فدک- لم یصح اجتماع صدقها و صدق عبد الرحمن و عمر- و لا ما تکلفه أبو بکر من تأویل ذلک بمستقیم- لأن کونها هبه من رسول الله ص لها- یمنع من قوله- کان یأخذ منها قوتکم و یقسم الباقی- و یحمل منه فی سبیل الله- لأن هذا ینافی کونها هبه لها- لأن معنى کونها لها انتقالها إلى ملکیتها- و أن تتصرف فیها خاصه دون کل أحد من الناس- و ما هذه صفته کیف یقسم و یحمل منه فی سبیل الله- .
فإن قال قائل هو ص أبوها- و حکمه فی مالها کحکمه فی ماله- و فی بیت مال المسلمین- فلعله کان بحکم الأبوه یفعل ذلک- قیل فإذا کان یتصرف فیها تصرف الأب فی مال ولده- لا یخرجه ذلک عن کونه مال ولده- فإذا مات الأب لم یجز لأحد أن یتصرف فی مال ذلک الولد- لأنه لیس باب له فیتصرف فی ماله- تصرف الآباء فی أموال أولادهم- على أن الفقهاء أو معظمهم لا یجیزون للأب- أن یتصرف فی مال الابن- . و هاهنا إشکال آخر- و هو قول عمر لعلی ع و العباس- و أنتما حینئذ تزعمان أن أبا بکر فیها ظالم فاجر- ثم قال لما ذکر نفسه- و أنتما تزعمان أنی فیها ظالم فاجر- فإذا کانا یزعمان ذلک فکیف یزعم هذا الزعم- مع کونهما یعلمان أن رسول الله ص قال لا أورث- إن هذا لمن أعجب العجائب- و لو لا أن هذا الحدیث- أعنی حدیث خصومه العباس و علی عند عمر- مذکور فی الصحاح المجمع علیها- لما أطلت العجب من مضمونه- إذ لو کان غیر مذکور فی الصحاح- لکان بعض ما ذکرناه یطعن فی صحته- و إنما الحدیث فی الصحاح لا ریب فی ذلک- .
قال أبو بکر و أخبرنا أبو زید قال- حدثنا ابن أبی شیبه قال حدثنا ابن علیه- عن أیوب عن عکرمه- عن مالک بن أوس بن الحدثان قال- جاء العباس و علی إلى عمر فقال العباس- اقض بینی و بین هذا الکذا و کذا أی یشتمه- فقال الناس افصل بینهما فقال لا أفصل بینهما- قد علما أن رسول الله ص قال- لا نورث ما ترکناه صدقه- . قلت و هذا أیضا مشکل- لأنهما حضرا یتنازعان لا فی المیراث- بل فی ولایه صدقه رسول الله ص- أیهما یتولاها ولایه لا إرثا- و على هذا کانت الخصومه-
فهل یکون جواب ذلک- قد علما أن رسول الله ص قال لا نورث- . قال أبو بکر و أخبرنا أبو زید قال- حدثنی یحیى بن کثیر أبو غسان- قال حدثنا شعبه عن عمر بن مره- عن أبی البختری قال- جاء العباس و علی إلى عمر و هما یختصمان- فقال عمر لطلحه و الزبیر و عبد الرحمن و سعد- أنشدکم الله أ سمعتم رسول الله ص یقول- کل مال نبی فهو صدقه- إلا ما أطعمه أهله إنا لا نورث- فقالوا نعم- قال و کان رسول الله یتصدق به و یقسم فضله- ثم توفی فولیه أبو بکر سنتین یصنع فیه- ما کان یصنع رسول الله ص- و أنتما تقولان أنه کان بذلک خاطئا- و کان بذلک ظالما- و ما کان بذلک إلا راشدا- ثم ولیته بعد أبی بکر فقلت لکما- إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله ص و عهده- الذی عهد فیه- فقلتما نعم و جئتمانی الآن تختصمان- یقول هذا أرید نصیبی من ابن أخی- و یقول هذا أرید نصیبی من امرأتی- و الله لا أقضی بینکما إلا بذلک- .
قلت و هذا أیضا مشکل- لأن أکثر الروایات أنه لم یرو هذا الخبر- إلا أبو بکر وحده- ذکر ذلک أعظم المحدثین- حتى إن الفقهاء فی أصول الفقه- أطبقوا على ذلک فی احتجاجهم فی الخبر- بروایه الصحابی الواحد- و قال شیخنا أبو علی- لا تقبل فی الروایه إلا روایه اثنین کالشهاده- فخالفه المتکلمون و الفقهاء کلهم- و احتجوا علیه بقبول الصحابه روایه أبی بکر وحده- نحن معاشر الأنبیاء لا نورث- حتى إن بعض أصحاب أبی علی تکلف لذلک جوابا- فقال قد روی أن أبا بکر یوم حاج فاطمه ع قال- أنشد الله امرأ سمع من رسول الله ص فی هذا شیئا- فروى مالک بن أوس بن الحدثان أنه سمعه من رسول الله ص- و هذا الحدیث ینطق بأنه استشهد عمر و طلحه و الزبیر- و عبد الرحمن و سعدا- فقالوا سمعناه من رسول الله ص- فأین کانت هذه الروایات أیام أبی بکر- ما نقل أن أحدا من هؤلاء- یوم خصومه فاطمه ع و أبی بکر- روى من هذا شیئا- .
قال أبو بکر و أخبرنا أبو زید عمر بن شبه قال- حدثنا محمد بن یحیى عن إبراهیم بن أبی یحیى- عن الزهری عن عروه عن عائشه- أن أزواج النبی ص أرسلن عثمان إلى أبی بکر- فذکر الحدیث- قال عروه و کانت فاطمه قد سألت میراثها من أبی بکر- مما ترکه النبی ص فقال لها- بأبی أنت و أمی و بأبی أبوک و أمی و نفسی- إن کنت سمعت من رسول الله ص شیئا- أو أمرک بشیء لم أتبع غیر ما تقولین- و أعطیتک ما تبتغین- و إلا فإنی أتبع ما أمرت به- .
قال أبو بکر و حدثنا أبو زید قال حدثنا عمرو بن مرزوق عن شعبه عن عمرو بن مره عن أبی البختری قال قال لها أبو بکر لما طلبت فدک- بأبی أنت و أمی أنت عندی الصادقه الأمینه- إن کان رسول الله ص عهد إلیک فی ذلک عهدا- أو وعدک به وعدا صدقتک و سلمت إلیک- فقالت لم یعهد إلی فی ذلک بشیء- و لکن الله تعالى یقول یُوصِیکُمُ اللَّهُ فِی أَوْلادِکُمْ- فقال أشهد لقد سمعت رسول الله ص یقول- إنا معاشر الأنبیاء لا نورث- . قلت و فی هذا من الإشکال ما هو ظاهر- لأنها قد ادعت أنه عهد إلیها رسول الله ص فی ذلک أعظم العهد- و هو النحله- فکیف سکتت عن ذکر هذا لما سألها أبو بکر- و هذا أعجب من العجب- .
قال أبو بکر و حدثنا أبو زید- قال حدثنا محمد بن یحیى- قال حدثنا عبد العزیز بن عمران بن عبد العزیز بن عبد الله الأنصاری- عن ابن شهاب عن مالک بن أوس بن الحدثان قال- سمعت عمر و هو یقول للعباس و علی- و عبد الرحمن بن عوف و الزبیر و طلحه- أنشدکم الله هل تعلمون أن رسول الله ص قال- إنا لا نورث معاشر الأنبیاء ما ترکنا صدقه- قالوا اللهم نعم- قال أنشدکم الله هل تعلمون أن رسول الله ص- یدخل فی فیئه أهله السنه من صدقاته- ثم یجعل ما بقی فی بیت المال- قالوا اللهم نعم- فلما توفی رسول الله ص قبضها أبو بکر- فجئت یا عباس تطلب میراثک من ابن أخیک- و جئت یا علی تطلب میراث زوجتک من أبیها- و زعمتما أن أبا بکر کان فیها خائنا فاجرا- و الله لقد کان امرأ مطیعا تابعا للحق- ثم توفی أبو بکر فقبضتها- فجئتمانی تطلبان میراثکما- أما أنت یا عباس فتطلب میراثک من ابن أخیک- و أما علی فیطلب میراث زوجته من أبیها- و زعمتما أنی فیها خائن و فاجر- و الله یعلم أنی فیها مطیع تابع للحق- فأصلحا أمرکما و إلا و الله لم ترجع إلیکما- فقاما و ترکا الخصومه و أمضیت صدقه- . قال أبو زید قال أبو غسان- فحدثنا عبد الرزاق الصنعانی عن معمر بن شهاب- عن مالک بنحوه و قال فی آخره- فغلب علی عباسا علیها- فکانت بید علی ثم کانت بید الحسن- ثم کانت بید الحسین ثم علی بن الحسین- ثم الحسن بن الحسن ثم زید بن الحسن- .
قلت و هذا الحدیث یدل صریحا- على أنهما جاءا یطلبان المیراث لا الولایه- و هذا من المشکلات- لأن أبا بکر حسم الماده أولا- و قرر عند العباس و علی و غیرهما- أن النبی ص لا یورث- و کان عمر من المساعدین له على ذلک- فکیف یعود العباس و علی بعد وفاه أبی بکر- یحاولان امرأ قد کان فرغ منه- و یئس من حصوله- اللهم إلا أن یکونا ظنا- أن عمر ینقض قضاء أبی بکر فی هذه المسأله- و هذا بعید لأن علیا و العباس- کانا فی هذه المسأله یتهمان عمر- بممالأه أبی بکر على ذلک أ لا تراه یقول- نسبتمانی و نسبتما أبا بکر إلى الظلم و الخیانه- فکیف یظنان أنه ینقض قضاء أبی بکر و یورثهما و اعلم أن الناس یظنون- أن نزاع فاطمه أبا بکر کان فی أمرین- فی المیراث و النحله- و قد وجدت فی الحدیث أنها نازعت فی أمر ثالث- و منعها أبو بکر إیاه أیضا- و هو سهم ذوی القربى-
قال أبو بکر أحمد بن عبد العزیز الجوهری أخبرنی أبو زید عمر بن شبه قال حدثنی هارون بن عمیر قال حدثنا الولید بن مسلم قال حدثنی صدقه أبو معاویه عن محمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الرحمن بن أبی بکر عن یزید الرقاشی عن أنس بن مالک أن فاطمه ع أتت أبا بکر فقالت- لقد علمت الذی ظلمتنا عنه أهل البیت من الصدقات- و ما أفاء الله علینا من الغنائم فی القرآن- من سهم ذوی القربى- ثم قرأت علیه قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْءٍ- فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبى الآیه- فقال لها أبو بکر بأبی أنت و أمی و والد ولدک- السمع و الطاعه لکتاب الله و لحق رسول الله ص- و حق قرابته- و أنا أقرأ من کتاب الله الذی تقرءین منه- و لم یبلغ علمی منه- أن هذا السهم من الخمس یسلم إلیکم کاملا- قالت أ فلک هو و لأقربائک- قال لا بل أنفق علیکم منه- و أصرف الباقی فی مصالح المسلمین- قالت لیس هذا حکم الله تعالى-
قال هذا حکم الله- فإن کان رسول الله عهد إلیک فی هذا عهدا- أو أوجبه لکم حقا- صدقتک و سلمته کله إلیک و إلى أهلک- قالت إن رسول الله ص لم یعهد إلی فی ذلک بشیء- إلا أنی سمعته یقول لما أنزلت هذه الآیه- أبشروا آل محمد فقد جاءکم الغنى- قال أبو بکر لم یبلغ علمی من هذه الآیه- أن أسلم إلیکم هذا السهم کله کاملا- و لکن لکم الغنى الذی یغنیکم و یفضل عنکم- و هذا عمر بن الخطاب و أبو عبیده بن الجراح- فاسألیهم عن ذلک- و انظری هل یوافقک على ما طلبت أحد منهم- فانصرفت إلى عمر فقالت له مثل ما قالت لأبی بکر- فقال لها مثل ما قاله لها أبو بکر- فعجبت فاطمه ع من ذلک- و تظنت أنهما کانا قد تذاکرا ذلک و اجتمعا علیه- .
قال أبو بکر و أخبرنا أبو زید قال- حدثنا هارون بن عمیر قال حدثنا الولید- عن ابن أبی لهیعه عن أبی الأسود- عن عروه قال- أرادت فاطمه أبا بکر على فدک و سهم ذوی القربى- فأبى علیها و جعلهما فی مال الله تعالى- . قال أبو بکر و أخبرنا أبو زید- قال حدثنا أحمد بن معاویه عن هیثم- عن جویبر عن أبی الضحاک- عن الحسن بن محمد بن علی بن أبی طالب ع- أن أبا بکر منع فاطمه و بنی هاشم سهم ذوی القربى- و جعله فی سبیل الله فی السلاح و الکراع- .
قال أبو بکر و أخبرنا أبو زید قال حدثنا حیان بن هلال عن محمد بن یزید بن ذریع عن محمد بن إسحاق قال سألت أبا جعفر محمد بن علی ع قلت- أ رأیت علیا حین ولی العراق- و ما ولی من أمر الناس کیف صنع فی سهم ذوی القربى- قال سلک بهم طریق أبی بکر و عمر- قلت و کیف و لم و أنتم تقولون ما تقولون- قال أما و الله ما کان أهله یصدرون إلا عن رأیه- فقلت فما منعه- قال کان یکره
أن یدعى علیه مخالفه أبی بکر و عمر
قال أبو بکر و حدثنی المؤمل بن جعفر قال- حدثنی محمد بن میمون عن داود بن المبارک قال- أتینا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن الحسن- و نحن راجعون من الحج فی جماعه- فسألناه عن مسائل و کنت أحد من سأله- فسألته عن أبی بکر و عمر فقال- سئل جدی عبد الله بن الحسن بن الحسن عن هذه المسأله- فقال کانت أمی صدیقه بنت نبی مرسل- فماتت و هی غضبى على إنسان- فنحن غضاب لغضبها و إذا رضیت رضینا- . قال أبو بکر و حدثنی أبو جعفر محمد بن القاسم- قال حدثنی علی بن الصباح- قال أنشدنا أبو الحسن روایه المفضل للکمیت-
أهوى علیا أمیر المؤمنین و لا
أرضى بشتم أبی بکر و لا عمرا
و لا أقول و إن لم یعطیا فدکا
بنت النبی و لا میراثها کفرا
الله یعلم ما ذا یحضران به
یوم القیامه من عذر إذا اعتذرا
قال ابن الصباح فقال لی أبو الحسن- أ تقول إنه قد أکفرهما فی هذا الشعر قلت نعم- قال کذاک هو- . قال أبو بکر حدثنا أبو زید عن هارون بن عمیر عن الولید بن مسلم عن إسماعیل بن عباس عن محمد بن السائب عن أبی صالح عن مولى أم هانئ قال دخلت فاطمه على أبی بکر بعد ما استخلف- فسألته میراثها من أبیها فمنعها- فقالت له لئن مت الیوم من کان یرثک- قال ولدی و أهلی- قالت فلم ورثت أنت رسول الله ص- دون ولده و أهله- قال فما فعلت یا بنت رسول الله ص- قالت بلى إنک عمدت إلى فدک- و کانت صافیه لرسول الله ص فأخذتها- و عمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته عنا- فقال یا بنت رسول الله ص لم أفعل- حدثنی رسول الله ص- أن الله تعالى یطعم النبی ص الطعمه ما کان حیا- فإذا قبضه الله إلیه رفعت- فقالت أنت و رسول الله أعلم- ما أنا بسائلتک بعد مجلسی ثم انصرفت
قال أبو بکر و حدثنا محمد بن زکریا قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن المهلبی عن عبد الله بن حماد بن سلیمان عن أبیه عن عبد الله بن حسن بن حسن عن أمه فاطمه بنت الحسین ع قالت لما اشتد بفاطمه بنت رسول الله ص الوجع- و ثقلت فی علتها- اجتمع عندها نساء من نساء المهاجرین و الأنصار- فقلن لها کیف أصبحت یا ابنه رسول الله ص- قالت و الله أصبحت عائفه لدنیاکم قالیه لرجالکم- لفظتهم بعد أن عجمتهم- و شنئتهم بعد أن سبرتهم- فقبحا لفلول الحد و خور القناه و خطل الرأی- و بئسما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله علیهم- و فی العذاب هم خالدون لا جرم- قد قلدتهم ربقتها و شنت علیهم غارتها- فجدعا و عقرا و سحقا للقوم الظالمین- ویحهم أین زحزحوها عن رواسی الرساله- و قواعد النبوه و مهبط الروح الأمین- و الطیبین بأمر الدنیا و الدین- ألا ذلک هو الخسران المبین- و ما الذی نقموا من أبی حسن- نقموا و الله نکیر سیفه- و شده وطأته و نکال وقعته- و تنمره فی ذات الله- و تالله لو تکافوا عن زمام- نبذه إلیه رسول الله ص لاعتلقه- و لسار إلیهم سیرا سجحا- لا تکلم حشاشته و لا یتعتع راکبه- و لأوردهم منهلا نمیرا فضفاضا یطفح ضفتاه- و لأصدرهم بطانا قد تحیر بهم الرأی غیر متحل بطائل- إلا بغمر الناهل و ردعه سوره الساغب- و لفتحت علیهم برکات من السماء و الأرض- و سیأخذهم الله بما کانوا یکسبون- ألا هلم فاستمع و ما عشت أراک الدهر عجبه- و إن تعجب فقد أعجبک الحادث- إلى أی لجإ استندوا و بأی عروه تمسکوا- لبئس المولى و لبئس العشیر- و لبئس للظالمین بدلا- استبدلوا و الله الذنابى بالقوادم و العجز بالکاهل- فرغما لمعاطس قوم یحسبون أنهم یحسنون صنعا- ألا إنهم هم المفسدون و لکن لا یشعرون- ویحهم أ فمن یهدی إلى الحق أحق أن یتبع- أمن لا یهدی إلا أن یهدى فما لکم کیف تحکمون- أما لعمر الله لقد لقحت فنظره ریثما تنتج- ثم احتلبوها طلاع العقب دما عبیطا و ذعاقا ممقرا- هنالک یخسر المبطلون- و یعرف التالون غب ما أسس الأولون- ثم طیبوا عن أنفسکم نفسا و اطمئنوا للفتنه جأشا- و أبشروا بسیف صارم و هرج شامل- و استبداد من الظالمین- یدع فیئکم زهیدا و جمعکم حصیدا- فیا حسره علیکم- و أنى لکم و قد عمیت علیکم أ نلزمکموها- و أنتم لها کارهون- و الحمد لله رب العالمین- و صلاته على محمد خاتم النبیین و سید المرسلین- .
قلت هذا الکلام و إن لم یکن فیه ذکر فدک و المیراث- إلا أنه من تتمه ذلک- و فیه إیضاح لما کان عندها- و بیان لشده غیظها و غضبها- فإنه سیأتی فیما بعد- ذکر ما یناقض به قاضی القضاه و المرتضى- فی أنها هل کانت غضبى أم لا- و نحن لا ننصر مذهبا بعینه- و إنما نذکر ما قیل- و إذا جرى بحث نظری قلنا ما یقوى فی أنفسنا منه- . و اعلم أنا إنما نذکر فی هذا الفصل- ما رواه رجال الحدیث و ثقاتهم- و ما أودعه أحمد بن عبد العزیز الجوهری فی کتابه- و هو من الثقات الأمناء عند أصحاب الحدیث- و أما ما یرویه رجال الشیعه و الأخباریون منهم فی کتبهم- من قولهم إنهما أهاناها و أسمعاها کلاما غلیظا- و إن أبا بکر رق لها حیث لم یکن عمر حاضرا- فکتب لها بفدک کتابا- فلما خرجت به وجدها عمر- فمد یده إلیه لیأخذه مغالبه فمنعته- فدفع بیده فی صدرها و أخذ الصحیفه- فخرقها بعد أن تفل فیها فمحاها- و إنها دعت علیه فقالت- بقر الله بطنک کما بقرت صحیفتی- فشیء لا یرویه أصحاب الحدیث و لا ینقلونه- و قدر الصحابه یجل عنه- و کان عمر أتقى لله و أعرف لحقوق الله من ذلک- و قد نظمت الشیعه بعض هذه الواقعه- التی یذکرونها شعرا- أوله أبیات لمهیار بن مرزویه الشاعر من قصیدته التی أولها-
یا ابنه القوم تراک
بالغ قتلی رضاک
و قد ذیل علیها بعض الشیعه و أتمها و الأبیات-
یا ابنه الطاهر کم تقرع
بالظلم عصاک
غضب الله لخطب
لیله الطف عراک
و رعى النار غدا قط
رعى أمس حماک
مر لم یعطفه شکوى
و لا استحیا بکاک
و اقتدى الناس به بعد
فأردى ولداک
یا ابنه الراقی إلى السدره
فی لوح السکاک
لهف نفسی و على مثلک
فلتبک البواکی
کیف لم تقطع ید مد
إلیک ابن صحاک
فرحوا یوم أهانوک
بما ساء أباک
و لقد أخبرهم أن
رضاه فی رضاک
دفعا النص على إرثک
لما دفعاک
و تعرضت لقدر
تافه و انتهراک
و ادعیت النحله المشهود
فیها بالصکاک
فاستشاطا ثم ما إن
کذبا إن کذباک
فزوى الله عن الرحمه
زندیقا ذواک
و نفى عن بابه الواسع
شیطانا نفاک
فانظر إلى هذه البلیه التی صبت من هؤلاء- على سادات المسلمین و أعلام المهاجرین- و لیس ذلک بقادح فی علو شأنهم و جلاله مکانهم- کما أن مبغضی الأنبیاء و حسدتهم- و مصنفی الکتب- فی إلحاق العیب و التهجین لشرائعهم- لم تزدد لأنبیائهم إلا رفعه- و لا زادت شرائعهم إلا انتشارا فی الأرض- و قبولا فی النفس- و بهجه و نورا عند ذوی الألباب و العقول- . و قال لی علوی فی الحله- یعرف بعلی بن مهنإ ذکی ذو فضائل- ما تظن قصد أبی بکر و عمر بمنع فاطمه فدک- قلت ما قصدا- قال أرادا ألا یظهرا لعلی و قد اغتصباه الخلافه- رقه ولینا و خذلانا- و لا یرى عندهما خورا فأتبعا القرح بالقرح- . و قلت لمتکلم من متکلمی الإمامیه- یعرف بعلی بن تقی من بلده النیل- و هل کانت فدک إلا نخلا یسیرا و عقارا- لیس بذلک الخطیر- فقال لی لیس الأمر کذلک بل کانت جلیله جدا- و کان فیها من النخل نحو ما بالکوفه الآن من النخل- و ما قصد أبو بکر و عمر بمنع فاطمه عنها- إلا ألا یتقوى علی بحاصلها و غلتها- على المنازعه فی الخلافه- و لهذا أتبعا ذلک بمنع فاطمه و علی- و سائر بنی هاشم و بنی المطلب حقهم فی الخمس- فإنالفقیر الذی لا مال له- تضعف همته و یتصاغر عند نفسه- و یکون مشغولا بالاحتراف و الاکتساب- عن طلب الملک و الرئاسه- فانظر إلى ما قد وقر فی صدور هؤلاء- و هو داء لا دواء له- و ما أکثر ما تزول الأخلاق و الشیم- فأما العقائد الراسخه فلا سبیل إلى زوالها
الفصل الثانی فی النظر فی أن النبی ص هل یورث أم لا
نذکر فی هذا الموضع- ما حکاه المرتضى رحمه الله فی الشافی- عن قاضی القضاه فی هذا المعنى- و ما اعترضه به- و إن استضعفنا شیئا من ذلک قلنا ما عندنا- و إلا ترکناه على حاله- . قال المرتضى أول ما ابتدأ به قاضی القضاه حکایته عنا- استدلالنا على أنه ص مورث بقوله تعالى- یُوصِیکُمُ اللَّهُ فِی أَوْلادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَیَیْنِ- و هذا الخطاب عام یدخل فیه النبی و غیره- . ثم أجاب یعنی قاضی القضاه عن ذلک- فقال إن الخبر الذی احتج به أبو بکر- یعنی قوله نحن معاشر الأنبیاء لا نورث- لم یقتصر على روایته هو وحده- حتى استشهد علیه عمر و عثمان و طلحه- و الزبیر و سعدا و عبد الرحمن فشهدوا به- فکان لا یحل لأبی بکر و قد صار الأمر إلیه- أن یقسم الترکه میراثا- و قد خبر رسول الله ص بأنها صدقه و لیست بمیراث- و أقل ما فی هذا الباب أن یکون الخبر من أخبار الآحاد- فلو أن شاهدین شهدا فی الترکه أن فیها حقا- أ لیس کان یجب أن یصرف ذلک عن الإرث- فعلمه بما قال رسول الله ص مع شهاده غیره أقوى- و لسنا نجعله مدعیا لأنه لم یدع ذلک لنفسه- و إنما بین أنه لیس بمیراث و أنه صدقه- و لا یمتنع تخصیص القرآن بذلک- کما یخص فی العبد و القاتل و غیرهما- و لیس ذلک بنقص فی الأنبیاء بل هو إجلال لهم- یرفع الله به قدرهم عن أن یورثوا المال- و صار ذلک من أوکد الدواعی ألا یتشاغلوا بجمعه لأن أحد الدواعی القویه إلى ذلک- ترکه على الأولاد و الأهلین- و لما سمعت فاطمه ع ذلک من أبی بکر- کفت عن الطلب فیما ثبت من الأخبار الصحیحه- فلا یمتنع أن تکون غیر عارفه بذلک فطلبت الإرث- فلما روى لها ما روى کفت- فأصابت أولا و أصابت ثانیا- . و لیس لأحد أن یقول- کیف یجوز أن یبین النبی ص ذلک للقوم- و لا حق لهم فی الإرث- و یدع أن یبین ذلک لمن له حق فی الإرث- مع أن التکلیف یتصل به- و ذلک لأن التکلیف فی ذلک یتعلق بالإمام- فإذا بین له جاز ألا یبین لغیره- و یصیر البیان له بیانا لغیره- و إن لم یسمعه من الرسول- لأن هذا الجنس من البیان- یجب أن یکون بحسب المصلحه- .
قال ثم حکى عن أبی علی أنه قال- أ تعلمون کذب أبی بکر فی هذه الروایه- أم تجوزون أن یکون صادقا- قال و قد علم أنه لا شیء یقطع به على کذبه- فلا بد من تجویز کونه صادقا- و إذا صح ذلک قیل لهم- فهل کان یحل له مخالفه الرسول- فإن قالوا لو کان صدقا لظهر و اشتهر- قیل لهم إن ذلک من باب العمل- و لا یمتنع أن ینفرد بروایته جماعه یسیره- بل الواحد و الاثنان مثل سائر الأحکام و مثل الشهادات- فإن قالوا نعلم أنه لا یصح لقوله تعالى فی کتابه- وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ- قیل لهم و من أین أنه ورثه الأموال- مع تجویز أن یکون ورثه العلم و الحکمه- فإن قالوا إطلاق المیراث لا یکون إلا فی الأموال- قیل لهم إن کتاب الله یبطل قولکم- لأنه قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا- و الکتاب لیس بمال- و یقال فی اللغه- ما ورثت الأبناء عن الآباء شیئا أفضل من أدب حسن- و قالوا العلماء ورثه الأنبیاء- و إنما ورثوا منهم العلم دون المال- على أن فی آخر الآیه ما یدل على ما قلناه- و هو قوله تعالى حاکیا عنه- وَ قالَ یا أَیُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّیْرِ- وَ أُوتِینا مِنْ کُلِّ شَیْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِینُ- فنبه على أن الذی ورث هو هذا العلم و هذا الفضل- و إلا لم یکن لهذا القول تعلق بالأول- فإن قالوا فقد قال تعالى- فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ- و ذلک یبطل الخبر- قیل لهم لیس فی ذلک بیان المال أیضا- و فی الآیه ما یدل على أن المراد النبوه و العلم- لأن زکریا خاف على العلم أن یندرس-
و قوله وَ إِنِّی خِفْتُ الْمَوالِیَ مِنْ وَرائِی یدل على ذلک- لأن الأنبیاء لا تحرص على الأموال- حرصا یتعلق خوفها بها- و إنما أراد خوفه على العلم أن یضیع- فسأل الله تعالى ولیا یقوم بالدین مقامه- و قوله وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ- یدل على أن المراد العلم و الحکمه- لأنه لا یرث أموال یعقوب فی الحقیقه- و إنما یرث ذلک غیره- قال فأما من یقول- إن المراد أنا معاشر الأنبیاء لا نورث- ما ترکناه صدقه- أی ما جعلناه صدقه فی حال حیاتنا لا نورثه- فرکیک من القول- لأن إجماع الصحابه یخالفه- لأن أحدا لم یتأوله على هذا الوجه- لأنه لا یکون فی ذلک تخصیص الأنبیاء- و لا مزیه لهم و لأن قوله ما ترکناه صدقه- جمله من الکلام مستقله بنفسها- کأنه ع مع بیانه أنهم لا یورثون المال- یبین أنه صدقه- لأنه کان یجوز ألا یکون میراثا- و یصرف إلى وجه آخر غیر الصدقه- .
قال فأما خبر السیف و البغله و العمامه و غیر ذلک- فقد قال أبو علی إنه لم یثبت أن أبا بکر دفع ذلک- إلى أمیر المؤمنین ع على جهه الإرث- کیف یجوز ذلک مع الخبر الذی رواه- و کیف یجوز لو کان وارثا أن یخصه بذلک- و لا إرث له مع العم لأنه عصبه- فإن کان وصل إلى فاطمه ع- فقد کان ینبغی أن یکون العباس شریکا فی ذلک- و أزواج رسول الله ص- و لوجب أن یکون ذلک ظاهرا مشهورا- لیعرف أنهم أخذوا نصیبهم من ذلک أو بدله- و لا یجب إذا لم یدفع أبو بکر ذلک إلیه على جهه الإرث- ألا یحصل ذلک فی یده- لأنه قد یجوز أن یکون النبی ص نحله ذلک- و یجوز أیضا أن یکون أبو بکر رأى الصلاح فی ذلک- أن یکون بیده لما فیه من تقویه الدین- و تصدق ببدله بعد التقویم- لأن الإمام له أن یفعل ذلک- . قال و حکى عن أبی علی فی البرد و القضیب- أنه لم یمتنع أن یکون جعله عده فی سبیل الله- و تقویه على المشرکین- فتداولته الأئمه لما فیه من التقویه- و رأى أن ذلک أولى من أن یتصدق به- إن ثبت أنه ع لم یکن قد نحله غیره فی حیاته- ثم عارض نفسه بطلب أزواج النبی ص المیراث- و تنازع أمیر المؤمنین ع و العباس بعد موت فاطمه ع- و أجاب عن ذلک بأن قال- یجوز أن یکونوا لم یعرفوا روایه أبی بکر و غیره للخبر- .
و قد روی أن عائشه لما عرفتهن الخبر أمسکن- و قد بینا أنه لا یمتنع فی مثل ذلک- أن یخفى على من یستحق الإرث- و یعرفه من یتقلد الأمر- کما یعرف العلماء و الحکام من أحکام المواریث- ما لا یعلمه أرباب الإرث- و قد بینا أن روایه أبی بکر مع الجماعه-أقوى من شاهدین لو شهد أن بعض ترکته ع دین- و هو أقوى من روایه سلمان و ابن مسعود لو رویا ذلک- .
قال و متى تعلقوا بعموم القرآن- أریناهم جواز التخصیص بهذا الخبر- کما أن عموم القرآن یقتضی کون الصدقات للفقراء- و قد ثبت أن آل محمد لا تحل لهم الصدقه- . هذا آخر ما حکاه المرتضى من کلام قاضی القضاه- . ثم قال نحن نبین أولا ما یدل على أنه ص یورث المال- و نرتب الکلام فی ذلک الترتیب الصحیح- ثم نعطف على ما أورده و نتکلم علیه- . قال رضی الله عنه و الذی یدل على ما ذکرنا قوله تعالى- مخبرا عن زکریا ع- وَ إِنِّی خِفْتُ الْمَوالِیَ مِنْ وَرائِی- وَ کانَتِ امْرَأَتِی عاقِراً- فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا- یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِیًّا- فخبر أنه خاف من بنی عمه- لأن الموالی هاهنا هم بنو العم بلا شبهه- و إنما خافهم أن یرثوا ماله فینفقوه فی الفساد- لأنه کان یعرف ذلک من خلائقهم و طرائقهم- فسأل ربه ولدا یکون أحق بمیراثه منهم- و الذی یدل على أن المراد بالمیراث المذکور میراث المال- دون العلم و النبوه- على ما یقولون إن لفظه المیراث فی اللغه و الشریعه- لا یفید إطلاقها إلا على ما یجوز أن ینتقل على الحقیقه- من الموروث إلى الوارث- کالأموال و ما فی معناها- و لا یستعمل فی غیر المال إلا تجوزا و اتساعا- و لهذا لا یفهم من قول القائل- لا وارث لفلان إلا فلان- و فلان یرث مع فلان بالظاهر و الإطلاق- إلا میراث الأموال و الأعراض دون العلوم و غیرها- و لیس لنا أن نعدل عن ظاهر الکلام و حقیقته- إلى مجازه بغیر دلاله- و أیضا فإنه تعالى خبر عن نبیه- أنه اشترط فی وارثه أن یکون رضیا- و متى لم یحمل المیراث فی الآیه على المال- دون العلمو النبوه- لم یکن للاشتراط معنى و کان لغوا و عبثا- لأنه إذا کان إنما سأل من یقوم مقامه و یرث مکانه- فقد دخل الرضا- و ما هو أعظم من الرضا فی جمله کلامه و سؤاله- فلا مقتضی لاشتراطه- أ لا ترى أنه لا یحسن أن یقول- اللهم ابعث إلینا نبیا و اجعله عاقلا و مکلفا- فإذا ثبتت هذه الجمله- صح أن زکریا موروث ماله- و صح أیضا لصحتها أن نبینا ص ممن یورث المال- لأن الإجماع واقع على أن حال نبینا ع- لا یخالف حال الأنبیاء المتقدمین فی میراث المال- فمن مثبت للأمرین و ناف للأمرین- .
قلت إن شیخنا أبا الحسین قال فی کتاب الغرر- صوره الخبر الوارد فی هذا الباب- و هو الذی رواه أبو بکر لا نورث- و لم یقل نحن معاشر الأنبیاء لا نورث- فلا یلزم من کون زکریا یورث الطعن فی الخبر- و تصفحت أنا کتب الصحاح فی الحدیث- فوجدت صیغه الخبر کما قاله أبو الحسین- و إن کان رسول الله ص عنى نفسه خاصه بذلک- فقد سقط احتجاج الشیعه بقصه زکریا و غیره من الأنبیاء- إلا أنه یبعد عندی أن یکون أراد نفسه خاصه- لأنه لم تجر عادته أن یخبر عن نفسه فی شیء بالنون- . فإن قلت- أ یصح من المرتضى أن یوافق على أن صوره الخبر هکذا- ثم یحتج بقصه زکریا بأن یقول- إذا ثبت أن زکریا موروث- ثبت أن رسول الله ص یجوز أن یکون موروثا- لإجماع الأمه على أن لا فرق بین الأنبیاء کلهم- فی هذا الحکم- .
قلت و إن ثبت له هذا الإجماع صح احتجاجه- و لکن ثبوته یبعد- لأن من نفى کون زکریا ع موروثا من الأمه- إنما نفاه لاعتقاده أن رسول الله ص قال- نحن معاشر الأنبیاء- فإذا کان لم یقل هکذا- لم یقل إن زکریا ع غیر موروث قال المرتضى و مما یقوی ما قدمناه- أن زکریا ع خاف بنی عمه- فطلب وارثا لأجل خوفه- و لا یلیق خوفه منهم إلا بالمال دون العلم و النبوه- لأنه ع کان أعلم بالله تعالى- من أن یخاف أن یبعث نبیا لیس بأهل للنبوه- و أن یورث علمه و حکمه من لیس أهلا لهما- و لأنه إنما بعث لإذاعه العلم و نشره فی الناس- فلا یجوز أن یخاف من الأمر الذی هو الغرض فی البعثه- فإن قیل هذا یرجع علیکم فی الخوف عن إرث المال- لأن ذلک غایه الضن و البخل- قلنا معاذ الله أن یستوی الحال- لأن المال قد یصح أن یرزقه الله تعالى المؤمن و الکافر- و العدو و الولی- و لا یصح ذلک فی النبوه و علومها- و لیس من الضن أن یأسى على بنی عمه- و هم من أهل الفساد- أن یظفروا بماله فینفقوه على المعاصی- و یصرفوه فی غیر وجوهه المحبوبه- بل ذلک غایه الحکمه و حسن التدبیر فی الدین- لأن الدین یحظر تقویه الفساق و إمدادهم- بما یعینهم على طرائقهم المذمومه- و ما یعد ذلک شحا و لا بخلا إلا من لا تأمل له- .
فإن قیل أ فلا جاز أن یکون خاف من بنی عمه- أن یرثوا علمه- و هم من أهل الفساد على ما ادعیتم- فیستفسدوا به الناس و یموهوا به علیهم- قلنا لا یخلو هذا العلم الذی أشرتم إلیه- من أن یکون هو کتب علمه و صحف حکمته- لأن ذلک قد یسمى علما على طریق المجاز- أو یکون هو العلم الذی یحل القلب- فإن کان الأول فهو یرجع إلى معنى المال- و یصحح أن الأنبیاء یورثون أموالهم و ما فی معناها- و إن کان الثانی لم یخل هذا- من أن یکون هو العلم الذی بعث النبی لنشره و أدائه- أو أن یکون علما مخصوصا لا یتعلق بالشریعه- و لا یجب إطلاع جمیع الأمه علیه- کعلم العواقب و ما یجری فی مستقبل الأوقات- و ما جرى مجرى ذلک- و القسم الأول لا یجوز على النبی- أن یخاف من وصوله إلى بنی عمه- و هم من جمله أمته الذین بعث لإطلاعهم على ذلک- و تأدیته إلیهم- و کأنه على هذا الوجه یخاف مما هو الغرض من بعثته- و القسم الثانی فاسد أیضا- لأن هذا العلم المخصوص إنما یستفاد من جهته- و یوقف علیه بإطلاعه و إعلامه- و لیس هو مما یجب نشره فی جمیع الناس- فقد کان یجب إذا خاف من إلقائه- إلى بعض الناس فسادا- ألا یلقیه إلیه- فإن ذلک فی یده و لا یحتاج إلى أکثر من ذلک- .
قلت لعاکس أن یعکس هذا على المرتضى رحمه الله حینئذ- و یقول له و قد کان یجب- إذا خاف من أن یرث بنو عمه أمواله- فینفقوها فی الفساد- أن یتصدق بها على الفقراء و المساکین- فإن ذلک فی یده فیحصل له ثواب الصدقه- و یحصل له غرضه من حرمان أولئک المفسدین میراثه- . قال المرتضى رضی الله عنه- و مما یدل على أن الأنبیاء یورثون قوله تعالى- وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ- و الظاهر من إطلاق لفظه المیراث- یقتضی الأموال و ما فی معناها على ما دللنا به من قبل- .
قال و یدل على ذلک أیضا قوله تعالى- یُوصِیکُمُ اللَّهُ فِی أَوْلادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَیَیْنِ الآیه- و قد أجمعت الأمه على عموم هذه اللفظه- إلا من أخرجه الدلیل- فیجب أن یتمسک بعمومها لمکان هذه الدلاله- و لا یخرج عن حکمها إلا من أخرجه دلیل قاطع- . قلت أما قوله تعالى وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ- فظاهرها یقتضی وراثه النبوه أو الملک أو العلم- الذی قال فی أول الآیه- وَ لَقَدْ آتَیْنا داوُدَ وَ سُلَیْمانَ عِلْماً- لأنه لا معنى لذکر میراث سلیمان المال- فإن غیره من أولاد داود قد ورث أیضا أباه داود- و فی کتب الیهود و النصارى- أن بنی داود کانوا تسعه عشر- و قد قال بعض المسلمین أیضا ذلک- فأی معنى فی تخصیص سلیمان بالذکر إذا کان إرث المال- و أما یُوصِیکُمُ اللَّهُ فِی أَوْلادِکُمْ- فالبحث فی تخصیص ذلک بالخبر- فرع من فروع مسأله خبر الواحد- هل هو حجه فیالشرعیات أم لا- فإن ثبت مذهب المرتضى فی کونه لیس بحجه- فکلامه هنا جید- و إن لم یثبت فلا مانع من تخصیص العموم بالخبر- فإن الصحابه قد خصصت عمومات الکتاب- بالأخبار فی مواضع کثیره- .
قال المرتضى و أما تعلق صاحب الکتاب- بالخبر الذی رواه أبو بکر- و ادعاؤه أنه استشهد عمر و عثمان و فلانا و فلانا- فأول ما فیه أن الذی ادعاه من الاستشهاد غیر معروف- و الذی روی أن عمر استشهد هؤلاء النفر- لما تنازع أمیر المؤمنین ع- و العباس رضی الله عنه فی المیراث- فشهدوا بالخبر المتضمن لنفی المیراث- و إنما مقول مخالفینا فی صحه الخبر- الذی رواه أبو بکر عند مطالبه فاطمه ع بالإرث- على إمساک الأمه عن النکیر علیه و الرد لقضیته- .
قلت صدق المرتضى رحمه الله فیما قال- أما عقیب وفاه النبی ص- و مطالبه فاطمه ع بالإرث- فلم یرو الخبر إلا أبو بکر وحده- و قیل إنه رواه معه مالک بن أوس بن الحدثان- و أما المهاجرون الذین ذکرهم قاضی القضاه- فإنما شهدوا بالخبر فی خلافه عمر- و قد تقدم ذکر ذلک- . قال المرتضى- ثم لو سلمنا استشهاد من ذکر على الخبر لم یکن فیه حجه- لأن الخبر على کل حال لا یخرج من أن یکون غیر موجب للعلم- و هو فی حکم أخبار الآحاد- و لیس یجوز أن یرجع عن ظاهر القرآن- بما یجرى هذا المجرى- لأن المعلوم لا یخص إلا بمعلوم- و إذا کانت دلاله الظاهر معلومه- لم یجز أن یخرج عنها بأمر مظنون- .
قال و هذا الکلام مبنی- على أن التخصیص للکتاب و السنه المقطوع بها- لا یقع بأخبار الآحاد- و هو المذهب الصحیح- و قد أشرنا إلى ما یمکن أن یعتمد فی الدلاله علیه- من أن الظن لا یقابل العلم- و لا یرجع عن المعلوم بالمظنون- قال و لیس لهم أن یقولوا- إن التخصیص بأخبار الآحاد یستند أیضا إلى علم- و إن کان الطریق مظنونا- و یشیروا إلى ما یدعونه- من الدلاله على وجوب العمل بخبر الواحد فی الشریعه- و أنه حجه لأن ذلک مبنی من قولهم على ما لا نسلمه- و قد دل الدلیل على فساده- أعنی قولهم خبر الواحد حجه فی الشرع- على أنهم لو سلم لهم ذلک لاحتاجوا إلى دلیل مستأنف- على أنه یقبل فی تخصیص القرآن- لأن ما دل على العمل به فی الجمله لا یتناول هذا الموضع- کما لا یتناول جواز النسخ به- .
قلت أما قول المرتضى- لو سلمنا أن هؤلاء المهاجرین السته رووه- لما خرج عن کونه خبرا واحدا- و لما جاز أن یرجع عن عموم الکتاب به- لأنه معلوم و الخبر مظنون- . و لقائل أن یقول- لیته حصل فی کل واحد من آیات القرآن روایه- مثل هذه السته- حیث جمع القرآن على عهد عثمان و من قبله من الخلفاء- فإنهم بدون هذا العدد- کانوا یعملون فی إثبات الآیه فی المصحف- بل کانوا یحلفون من أتاهم بالآیه- و من نظر فی کتب التواریخ عرف ذلک- فإن کان هذا العدد إنما یفید الظن- فالقول فی آیات الکتاب کذلک- و إن کانت آیات الکتاب أثبتت عن علم مستفاد- من روایه هذا العدد و نحوه- فالخبر مثل ذلک- . فأما مذهب المرتضى فی خبر الواحد فإنه- قول انفرد به عن سائر الشیعه- لأن من قبله من فقهائهم ما عولوا فی الفقه- إلا على أخبار الآحاد کزراره و یونس و أبی بصیر- و ابنی بابویه و الحلبی و أبی جعفر القمی و غیرهم- ثم من کان فی عصر المرتضى منهم کأبی جعفر الطوسی و غیره- و قد تکلمت فی اعتبار الذریعه- على ما أعتمد علیه فی هذه المسأله- و أما تخصیص الکتاب بخبر الواحد- فالظاهر أنه إذا صح کون خبر الواحد حجه فی الشرع- جاز تخصیص الکتاب به- و هذا من فن أصول الفقه فلا معنى لذکره هنا- .
قال المرتضى رضی الله عنه- و هذا یسقط قول صاحب الکتاب- إن الشاهدین لو شهدا أن فی الترکه حقا- لکان یجب أن ینصرف عن الإرث- و ذلک لأن الشهاده و إن کانت مظنونه- فالعمل بها یستند إلى علم- لأن الشریعه قد قررت العمل بالشهاده- و لم تقرر العمل بخبر الواحد- و لیس له أن یقیس خبر الواحد على الشهاده- من حیث اجتمعا فی غلبه الظن- لأنا لا نعمل على الشهاده من حیث غلبه الظن- دون ما ذکرناه من تقریر الشریعه العمل بها- أ لا ترى أنا قد نظن بصدق الفاسق و المرأه و الصبی- و کثیر ممن لا یجوز العمل بقوله- فبان أن المعول فی هذا على المصلحه- التی نستفیدها على طریق الجمله من دلیل الشرع- .
قال و أبو بکر فی حکم المدعی لنفسه و الجار إلیها- بخلاف ما ظنه صاحب الکتاب- و کذلک من شهد له إن کانت هناک شهاده- و ذلک أن أبا بکر و سائر المسلمین- سوى أهل بیت الرسول ص یحل لهم الصدقه- و یجوز أن یصیبوا فیها- و هذه تهمه فی الحکم و الشهاده- . قال و لیس له أن یقول- فهذا یقتضی ألا یقبل شهاده شاهدین فی ترکه- فیها صدقه لمثل ما ذکرتم- .
قال و ذلک لأن الشاهدین إذا شهدا فی الصدقه- فحظهما منها کحظ صاحب المیراث بل سائر المسلمین- و لیس کذلک حال ترکه الرسول- لأن کونها صدقه یحرمها على ورثته- و یبیحها لسائر المسلمین- . قلت هذا فرق غیر مؤثر- اللهم إلا أن یعنی به تهمه أبی بکر و الشهود السته- فی جر النفع إلى أنفسهم یکون أکثر من تهمتهم- لو شهدوا على أبی هریره مثلا أن ما ترکه صدقه- لأن أهل أبی هریره یشارکون فی القسمه- و أهل النبی ص لا یشارکون الشهود فیما یصیبهم- إذ هم لا تحل لهم الصدقه- فتکون حصه أبی بکر و الشهود مما ترکه رسول الله- أکثر من حصتهم مما یترکه أبو هریره- فیکون تطرق التهمه إلى أبی بکر و الشهود- أکثر حسب زیاده حصتهم- و ما وقفت للمرتضى على شیء أطرف من هذا- لأن رسول الله ص مات- و المسلمون أکثر من خمسین ألف إنسان- لأنه قاد فی غزاه تبوک عشرین ألفا- ثم وفدت إلیه الوفود کلها بعد ذلک- فلیت شعری کم مقدار ما یتوفر على أبی بکر و سته نفر معه- و هم من جمله خمسین ألفا- بین ما إذا کان بنو هاشم و بنو المطلب- و هم حینئذ عشره نفر- لا یأخذون حصه- و بین ما إذا کانوا یأخذون- أ ترى أ یکون المتوفر على أبی بکر و شهوده- من الترکه عشر عشر درهم- ما أظن أنه یبلغ ذلک- و کم مقدار ما یقلل حصص الشهود على أبی هریره- إذا شرکهم أهله فی الترکه- لتکون هذه القله موجبه رفع التهمه- و تلک الزیاده و الکثره موجبه حصول التهمه- و هذا الکلام لا أرتضیه للمرتضى- . قال المرتضى رضی الله عنه-
و أما قوله یخص القرآن بالخبر- کما خصصناه فی العبد و القاتل- فلیس بشیء- لأنا إنما خصصنا من ذکر بدلیل مقطوع علیه معلوم- و لیس هذا موجودا فی الخبر الذی ادعاه- فأما قوله و لیس ذلک ینقص الأنبیاء- بل هو إجلال لهم-فمن الذی قال له إن فیه نقصا- و کما أنه لا نقص فیه فلا إجلال فیه و لا فضیله- لأن الداعی و إن کان قد یقوى على جمع المال- لیخلف على الورثه- فقد یقویه أیضا إراده صرفه فی وجوه الخیر و البر- و کلا الأمرین یکون داعیا إلى تحصیل المال- بل الداعی الذی ذکرناه أقوى فیما یتعلق بالدین- . قال و أما قوله- إن فاطمه لما سمعت ذلک کفت عن الطلب- فأصابت أولا و أصابت ثانیا- فلعمری إنها کفت عن المنازعه و المشاحه- لکنها انصرفت مغضبه متظلمه متألمه- و الأمر فی غضبها و سخطها- أظهر من أن یخفى على منصف- فقد روى أکثر الرواه- الذین لا یتهمون بتشیع و لا عصبیه فیه- من کلامها فی تلک الحال- و بعد انصرافها عن مقام المنازعه و المطالبه- ما یدل على ما ذکرناه من سخطها و غضبها- .
أخبرنا أبو عبید الله محمد بن عمران المرزبانی قال حدثنی محمد بن أحمد الکاتب قال حدثنا أحمد بن عبید بن ناصح النحوی قال حدثنی الزیادی قال حدثنا الشرقی بن القطامی عن محمد بن إسحاق قال حدثنا صالح بن کیسان عن عروه عن عائشه قالت لما بلغ فاطمه إجماع أبی بکر على منعها فدک- لاثت خمارها على رأسها و اشتملت بجلبابها- و أقبلت فی لمه من حفدتها…
قال المرتضى و أخبرنا المرزبانی قال حدثنا أبو بکر أحمد بن محمد المکی قال حدثنا أبو العیناء بن القاسم الیمانی قال حدثنا ابن عائشه قال لما قبض رسول الله ص- أقبلت فاطمه إلى أبی بکر فی لمه من حفدتها- ثم اجتمعت الروایتان من هاهنا…- و نساء قومها تطأ ذیولها- ما تخرم مشیتها مشیه رسول الله ص-حتى دخلت على أبی بکر- و هو فی حشد من المهاجرین و الأنصار و غیرهم- فنیطت دونها ملاءه- ثم أنت أنه أجهش لها القوم بالبکاء- و ارتج المجلس- ثم أمهلت هنیهه حتى إذا سکن نشیج القوم- و هدأت فورتهم- افتتحت کلامها بالحمد لله عز و جل و الثناء علیه- و الصلاه على رسول الله ص- ثم قالت لَقَدْ جاءَکُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِکُمْ- عَزِیزٌ عَلَیْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْکُمْ- بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُفٌ رَحِیمٌ- فإن تعزوه تجدوه أبی دون آبائکم- و أخا ابن عمی دون رجالکم- فبلغ الرساله صادعا بالنذاره- مائلا عن سنن المشرکین ضاربا ثبجهم-
یدعو إلى سبیل ربه بالحکمه و الموعظه الحسنه- آخذا بأکظام المشرکین- یهشم الأصنام و یفلق الهام- حتى انهزم الجمع و ولوا الدبر- و حتى تفرى اللیل عن صبحه- و أسفر الحق عن محضه و نطق زعیم الدین- و خرست شقائق الشیاطین و تمت کلمه الإخلاص- و کنتم على شفا حفره من النار نهزه الطامع- و مذقه الشارب و قبسه العجلان- و موطإ الأقدام تشربون الطرق- و تقتاتون القد أذله خاسئین- یختطفکم الناس من حولکم- حتى أنقذکم الله برسوله ص بعد اللتیا و التی- و بعد أن منی بهم الرجال- و ذؤبان العرب و مرده أهل الکتاب- و کلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله- أو نجم قرن الشیطان أو فغرت فاغره- قذف أخاه فی لهواتها- و لا ینکفئ حتى یطأ صماخها بأخمصه- و یطفئ عادیه لهبها بسیفه- أو قالت یخمد لهبها بحده- مکدودا فی ذات الله- و أنتم فی رفاهیه فکهون آمنون وادعون-إلى هنا انتهى خبر أبی العیناء عن ابن عائشه- و أما عروه عن عائشه فزاد بعد هذا حتى إذا اختار الله لنبیه دار أنبیائه- ظهرت حسیکه النفاق و شمل جلباب الدین- و نطق کاظم الغاوین و نبغ خامل الآفکین- و هدر فنیق المبطلین فخطر فی عرصاتکم- و أطلع الشیطان رأسه صارخا بکم- فدعاکم فألفاکم لدعوته مستجیبین و لقربه متلاحظین- ثم استنهضکم فوجدکم خفافا- و أحمشکم فألفاکم غضابا- فوسمتم غیر إبلکم و وردتم غیر شربکم- هذا و العهد قریب و الکلم رحیب و الجرح لما یندمل-
إنما زعمتم ذلک خوف الفتنه- ألا فی الفتنه سقطوا و إن جهنم لمحیطه بالکافرین- فهیهات و أنى بکم و أنى تؤفکون- و کتاب الله بین أظهرکم زواجره بینه- و شواهده لائحه و أوامره واضحه- أ رغبه عنه تریدون أم لغیره تحکمون- بئس للظالمین بدلا- و من یتبع غیر الإسلام دینا فلن یقبل منه- و هو فی الآخره من الخاسرین- ثم لم تلبثوا إلا ریث أن تسکن نفرتها- تسرون حسوا فی ارتغاء- و نحن نصبر منکم على مثل حز المدى- و أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا- أ فحکم الجاهلیه یبغون- و من أحسن من الله حکما لقوم یوقنون- یا ابن أبی قحافه أ ترث أباک و لا أرث أبی- لقد جئت شیئا فریا- فدونکها مخطومه مرحوله تلقاک یوم حشرک- فنعم الحکم الله و الزعیم محمد و الموعد القیامه- و عند الساعه یخسر المبطلون- ثم انکفأت إلى قبر أبیها ع فقالت-
قد کان بعدک أنباء و هنبثه
لو کنت شاهدها لم تکثر الخطب
إذا فقدناک فقد الأرض وابلها
و اختل قومک فاشهدهم و لا تغب
و روى حرمی بن أبی العلاء مع هذین البیتین بیتا ثالثا-
فلیت بعدک کان الموت صادفنا
لما قضیت و حالت دونک الکتب
قال- فحمد أبو بکر الله و أثنى علیه و صلى على رسوله ص- و قال یا خیر النساء و ابنه خیر الآباء- و الله ما عدوت رأی رسول الله ص و لا عملت إلا بإذنه- و إن الرائد لا یکذب أهله- و إنی أشهد الله و کفى بالله شهیدا- أنی سمعت رسول الله یقول إنا معاشر الأنبیاء لا نورث ذهبا- و لا فضه و لا دارا و لا عقارا- و إنما نورث الکتاب و الحکمه و العلم و النبوه قال فلما وصل الأمر إلى علی بن أبی طالب ع- کلم فی رد فدک فقال إنی لأستحیی من الله- أن أرد شیئا منع منه أبو بکر و أمضاه عمر قال المرتضى و أخبرنا أبو عبد الله المرزبانی قال حدثنی علی بن هارون قال أخبرنی عبید الله بن أحمد بن أبی طاهر عن أبیه قال ذکرت لأبی الحسین زید بن علی بن الحسین- بن علی بن أبی طالب ع- کلام فاطمه ع عند منع أبی بکر إیاها فدک- و قلت له إن هؤلاء یزعمون أنه مصنوع- و أنه من کلام أبی العیناء لأن الکلام منسوق البلاغه- فقال لی رأیت مشایخ آل أبی طالب یروونه عن آبائهم- و یعلمونه أولادهم- و قد حدثنی به أبی عن جدی- یبلغ به فاطمه ع على هذه الحکایه- و قد رواه مشایخ الشیعه و تدارسوه- قبل أن یوجد جد أبی العیناء- و قد حدث الحسین بن علوان عن عطیه العوفی- أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسن- یذکر عن أبیه هذا الکلام- .
ثم قال أبو الحسن زید- و کیف تنکرون هذا من کلام فاطمه ع- و همیروون من کلام عائشه عند موت أبیها- ما هو أعجب من کلام فاطمه ع- و یحققونه لو لا عداوتهم لنا أهل البیت- ثم ذکر الحدیث بطوله على نسقه- و زاد فی الأبیات بعد البیتین الأولین-
ضاقت علی بلادی بعد ما رحبت
وسم سبطاک خسفا فیه لی نصب
فلیت قبلک کان الموت صادفنا
قوم تمنوا فأعطوا کل ما طلبوا
تجهمتنا رجال و استخف بنا
مذ غبت عنا و کل الإرث قد غصبوا
قال فما رأینا یوما أکثر باکیا أو باکیه- من ذلک الیوم- . قال المرتضى و قد روى هذا الکلام على هذا الوجه- من طرق مختلفه و وجوه کثیره- فمن أرادها أخذها من مواضعها- فکیف یدعی أنها ع کفت راضیه- و أمسکت قانعه لو لا البهت و قله الحیاء- . قلت لیس فی هذا الخبر ما یدل على فساد- ما ادعاه قاضی القضاه- لأنه ادعى أنها نازعت و خاصمت- ثم کفت لما سمعت الروایه و انصرفت- تارکه للنزاع راضیه بموجب الخبر المروی- و ما ذکره المرتضى من هذا الکلام- لا یدل إلا على سخطها حال حضورها- و لا یدل على أنها بعد روایه الخبر- و بعد أن أقسم لها أبو بکر بالله تعالى- أنه ما روى عن رسول الله ص إلا ما سمعه منه- انصرفت ساخطه- و لا فی الحدیث المذکور و الکلام المروی ما یدل على ذلک- و لست أعتقد أنها انصرفت راضیه- کما قال قاضی القضاه- بل أعلم أنها انصرفت ساخطه- و ماتت و هی على أبی بکر واجده- و لکن لا من هذا الخبر بل من أخبار أخر- کان الأولى بالمرتضى أن یحتج بها- على ما یرویه فی انصرافها ساخطه- و موتها على ذلک السخط- و أما هذا الخبر و هذا الکلام فلا یدل على هذا المطلوب- .
قال المرتضى رحمه الله- فأما قوله إنه یجوز أن یبین ع- أنه لا حق لمیراثه فی ورثته لغیر الورثه- و لا یمتنع أن یرد من جهه الآحاد لأنه من باب العمل- و کل هذا بناء منه على أصوله الفاسده- فی أن خبر الواحد حجه فی الشرع و أن العمل به واجب- و دون صحه ذلک خرط القتاد- و إنما یجوز أن یبین من جهه أخرى- إذا تساویا فی الحجه و وقوع العمل- فأما مع تباینهما فلا یجوز التخییر فیهما- و إذا کان ورثه النبی ص متعبدین بألا یرثوه- فلا بد من إزاحه علتهم فی هذه العباده- بأن یوقفهم على الحکم و یشافههم به- و یلقیه إلى من یقیم الحجه علیهم بنقله- و کل ذلک لم یکن- .
فأما قوله- أ تجوزون صدقه فی الروایه أم لا تجوزون ذلک- فالجواب إنا لا نجوزه- لأن کتاب الله أصدق منه و هو یدفع روایته و یبطلها- فأما اعتراضه على قولنا- إن إطلاق المیراث لا یکون إلا فی الأموال بقوله تعالى- ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا- و قولهم ما ورثت الأبناء من الآباء شیئا- أفضل من أدب حسن- و قولهم العلماء ورثه الأنبیاء- فعجیب لأن کل ما ذکر مقید غیر مطلق- و إنما قلنا إن مطلق لفظ المیراث من غیر قرینه- و لا تقیید یفید بظاهره میراث الأموال- فبعد ما ذکره و عارض به لا یخفى على متأمل- .
فأما استدلاله على أن سلیمان ورث داود علمه دون ماله- بقوله یا أَیُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّیْرِ وَ أُوتِینا مِنْ کُلِّ شَیْءٍ- إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِینُ- و أن المراد أنهورث العلم و الفضل- و إلا لم یکن لهذا القول تعلق بالأول- فلیس بشیء یعول علیه- لأنه لا یمتنع أن یرید به أنه ورث المال بالظاهر- و العلم بهذا المعنى من الاستدلال- فلیس یجب إذا دلت الدلاله فی بعض الألفاظ- على معنى المجاز أن یقتصر بها علیه- بل یجب أن یحملها على الحقیقه- التی هی الأصل إذا لم یمنع من ذلک مانع- على أنه لا یمتنع أن یرید میراث المال خاصه- ثم یقول مع ذلک إنا عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّیْرِ- و یشیر الْفَضْلُ الْمُبِینُ إلى العلم و المال جمیعا- فله بالأمرین جمیعا فضل على من لم یکن علیهما- و قوله وَ أُوتِینا مِنْ کُلِّ شَیْءٍ- یحتمل المال کما یحتمل العلم- فلیس بخالص ما ظنه- .
فأما قوله فی قصه زکریا- إنه خاف على العلم أن یندرس- لأن الأنبیاء و إن کانوا لا یحرصون على الأموال- و إنما خاف أن یضیع العلم- فسأل الله تعالى ولیا یقوم بالدین مقامه- فقد بینا أن الأنبیاء و إن کانوا لا یحرصون على الأموال- و لا یبخلون بها- فإنهم یجتهدون فی منع المفسدین- من الانتفاع بها على الفساد- و لا یعد ذلک بخلا و لا حرصا بل فضلا و دینا- و لیس یجوز من زکریا- أن یخاف على العلم الاندراس و الضیاع- لأنه یعلم أن حکمه الله تعالى تقتضی حفظ العلم- الذی هو الحجه على العباد- و به تنزاح عللهم فی مصالحهم- فکیف یخاف ما لا یخاف من مثله- .
فإن قیل فهبوا أن الأمر کما ذکرتم- من أن زکریا کان یأمن على العلم أن یندرس- أ لیس لا بد أن یکون مجوزا- أن یحفظه الله تعالى بمن هو من أهله و أقاربه- کما یجوز حفظه بغریب أجنبی- فما أنکرتم أن یکون خوفه إنما کان من بنی عمه- ألا یتعلموا العلم و لا یقوموا فیه مقامه- فسأل الله ولدا یجمع فیه هذه العلوم- حتى لا یخرج العلم عن بیته و یتعدى إلى غیر قومه- فیلحقه بذلک وصمه- .
قلنا أما إذا رتب السؤال هذا الترتیب- فالجواب عنه ما أجبنا به صاحب الکتاب- و هو أن الخوف الذی أشاروا إلیه- لیس من ضرر دینی- و إنما هو من ضرر دنیاوی- و الأنبیاء إنما بعثوا لتحمل المضار الدنیاویه- و منازلهم فی الثواب- إنما زادت على کل المنازل لهذا الوجه- و من کانت حاله هذه الحال- فالظاهر من خوفه إذا لم یعلم وجهه بعینه- أن یکون محمولا على مضار الدین- لأنها هی جهه خوفهم- و الغرض فی بعثهم تحمل ما سواها من المضار- فإذا قال النبی ص أنا خائف- فلم یعلم جهه خوفه على التفصیل- یجب أن یصرف خوفه بالظاهر- إلى مضار الدین دون الدنیا- لأن أحوالهم و بعثهم یقتضی ذلک- فإذا کنا لو اعتدنا من بعضنا الزهد فی الدنیا- و أسبابها و التعفف عن منافعها- و الرغبه فی الآخره و التفرد بالعمل لها- لکنا نحمل على ما یظهر لنا- من خوفه الذی لا یعلم وجهه بعینه- على ما هو أشبه و ألیق بحاله- و نضیفه إلى الآخره دون الدنیا- و إذا کان هذا واجبا فیمن ذکرناه- فهو فی الأنبیاء ع أوجب- .
قلت ینبغی ألا یقول المعترض- فیلحقه بذلک وصمه- فیجعل الخوف من هذه الوصمه- بل یقول إنه خاف ألا یفلح بنو عمه و لا یتعلموا العلم- لما رأى من الأمارات الداله على ذلک- فالخوف على هذا الترتیب یتعلق بأمر دینی لا دنیوی- فسأل الله تعالى أن یرزقه ولدا یرث عنه علمه- أی یکون عالما بالدینیات کما أنا عالم بها- و هذا السؤال متعلق بأمر دینی لا دنیوی- و على هذا یندفع ما ذکره المرتضى- على أنه لا یجوز إطلاق القول- بأن الأنبیاء بعثوا لتحمل المضار الدنیاویه- و لا القول الغرض فی بعثتهم- تحمل ما سوى المضار الدینیه من المضار- فإنهم ما بعثوا لذلک و لا الغرض فی بعثتهم ذلک- و إنما بعثوا لأمر آخر- و قد تحصل المضار فی أداء الشرع ضمنا و تبعا- لا على أنها الغرض و لا داخلهفی الغرض و على أن قول المرتضى لا یجوز أن یخاف زکریا- من تبدیل الدین و تغییره- لأنه محفوظ من الله- فکیف یخاف ما لا یخاف من مثله غیر مستمر على أصوله- لأن المکلفین الآن قد حرموا بغیبه الإمام- عنده ألطافا کثیره الوصله بالشرعیات- کالحدود و صلاه الجمعه و الأعیاد- و هو و أصحابه یقولون فی ذلک أن اللوم على المکلفین- لأنهم قد حرموا أنفسهم اللطف- فهلا جاز أن یخاف زکریا من تبدیل الدین و تغییره- و إفساد الأحکام الشرعیه- لأنه إنما یجب على الله تعالى- التبلیغ بالرسول إلى المکلفین- فإذا أفسدوا هم الأدیان و بدلوها- لم یجب علیه أن یحفظها علیهم- لأنهم هم الذین حرموا أنفسهم اللطف- .
و اعلم أنه قد قرئ وَ إِنِّی خِفْتُ الْمَوالِیَ مِنْ وَرائِی- و قیل إنها قراءه زین العابدین- و ابنه محمد بن علی الباقر ع- و عثمان بن عفان- و فسروه على وجهین- أحدهما أن یکون ورائی بمعنى خلفی و بعدی- أی قلت الموالی و عجزوا عن إقامه الدین- تقول قد خف بنو فلان أی قل عددهم- فسأل زکریا ربه تقویتهم و مظاهرتهم بولی یرزقه- . و ثانیهما أن یکون ورائی بمعنى قدامی- أی خف الموالی و أنا حی و درجوا و انقرضوا- و لم یبق منهم من به اعتضاد- و على هذه القراءه لا یبقى متعلق بلفظه الخوف- . و قد فسر قوم قوله وَ إِنِّی خِفْتُ الْمَوالِیَ- أی خفت الذین یلون الأمر من بعدی- لأن الموالی یستعمل فی الوالی و جمعه موال- أی خفت أن یلی بعد موتی أمراء و رؤساء- یفسدون شیئا من الدین- فارزقنی ولدا تنعم علیه بالنبوه و العلم- کما أنعمت علی- و اجعل الدین محفوظا به- و هذا التأویل غیر منکر- و فیه أیضا دفع لکلام المرتضى- .
قال المرتضى و أما تعلق صاحب الکتاب- فی أن المیراث محمول على العلم بقوله- وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ- لأنه لا یرث أموال آل یعقوب فی الحقیقه- و إنما یرث ذلک غیره- فبعید من الصواب- لأن ولد زکریا یرث بالقرابه من آل یعقوب أموالهم- على أنه لم یقل یرث آل یعقوب- بل قال یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ- تنبیها بذلک- على أنه یرث من کان أحق بمیراثه فی القرابه- . فأما طعنه على من تأول الخبر بأنه ع لا یورث- ما ترکه للصدقه بقوله- إن أحدا من الصحابه لم یتأوله على هذا الوجه- فهذا التأویل الذی ذکرناه أحد- ما قاله أصحابنا فی هذا الخبر- فمن أین له إجماع الصحابه على خلافه- و إن أحدا لم یتأوله على هذا الوجه- . فإن قال لو کان ذلک لظهر و اشتهر- و لوقف أبو بکر علیه- فقد مضى من الکلام فیما یمنع من الموافقه- على هذا المعنى ما فیه کفایه- . قلت لم یکن ذلک الیوم أعنی یوم حضور فاطمه ع- و قولها لأبی بکر ما قالت یوم تقیه و خوف- و کیف یکون یوم تقیه و هی تقول له و هو الخلیفه- یا ابن أبی قحافه أ ترث أباک و لا أرث أبی- و تقول له أیضا لقد جئت شیئا فریا- فکان ینبغی إذا لم یؤثر أمیر المؤمنین ع- أن یفسر لأبی بکر معنى الخبر أن یعلم فاطمه ع تفسیره- فتقول لأبی بکر أنت غالط فیما ظننت- إنما قال أبی ما ترکناه صدقه فإنه لا یورث- . و اعلم أن هذا التأویل کاد یکون مدفوعا بالضروره- لأن من نظر فی الأحادیث التی ذکرناها- و ما جرت علیه الحال یعلم بطلانه علما قطعیا- .
قال المرتضى و قوله إنه لا یکون- إذ ذلک تخصیص للأنبیاء و لا مزیه- لیس بصحیح- و قد قیل فی الجواب عن هذا- إن النبی ص یجوز أن یرید أن ما ننوی فیه الصدقه- و نفرده لها من غیر أن نخرجه عن أیدینا لا تناله ورثتنا- و هذا تخصیص للأنبیاء و مزیه ظاهره- . قلت هذه مخالفه لظاهر الکلام- و إحاله اللفظ عن وضعه- و بین قوله ما ننوی فیه الصدقه- و هو بعد فی ملکنا لیس بموروث- و قوله ما نخلفه صدقه لیس بموروث فرق عظیم- فلا یجوز أن یراد أحد المعنیین- باللفظ المفید للمعنى الآخر- لأنه إلباس و تعمیه- و أیضا فإن العلماء ذکروا خصائص الرسول- فی الشرعیات عن أمته و عددوها- نحو حل الزیاده فی النکاح على أربع- و نحو النکاح بلفظ الهبه على قول فرقه من المسلمین- و نحو تحریم أکل البصل و الثوم علیه و إباحه شرب دمه- و غیر ذلک- و لم یذکروا فی خصائصه أنه إذا کان قد نوى أن یتصدق بشیء- فإنه لا یناله ورثته لو قدرنا أنه یورث الأموال- و لا الشیعه قبل المرتضى ذکرت ذلک- و لا رأینا فی کتاب من کتبهم- و هو مسبوق بإجماع طائفته علیه و إجماعهم عندهم حجه- .
قال المرتضى فأما قوله إن قوله ع ما ترکناه صدقه- جمله من الکلاممستقله بنفسها- فصحیح إذا کانت لفظه ما مرفوعه على الابتداء- و لم تکن منصوبه بوقوع الفعل علیها- و کانت لفظه صدقه أیضا مرفوعه غیر منصوبه- و فی هذا وقع النزاع- فکیف یدعى أنها جمله مستقله بنفسها- و أقوى ما یمکن أن نذکره أن نقول- الروایه جاءت بلفظ صدقه بالرفع- و على ما تأولتموه لا تکون إلا منصوبه- و الجواب عن ذلک إنا لا نسلم الروایه بالرفع- و لم تجر عاده الرواه- بضبط ما جرى هذا المجرى من الإعراب- و الاشتباه یقع فی مثله- فمن حقق منهم و صرح بالروایه بالرفع- یجوز أن یکون اشتبه علیه فظنها مرفوعه و هی منصوبه- قلت و هذا أیضا خلاف الظاهر- و فتح الباب فیه یؤدی إلى إفساد الاحتجاج- بکثیر من الأخبار- .
قال و أما حکایته عن أبی علی- أن أبا بکر لم یدفع إلى أمیر المؤمنین ع- السیف و البغله و العمامه على جهه الإرث- و قوله کیف یجوز ذلک مع الخبر الذی رواه- و کیف خصصه بذلک دون العم الذی هو العصبه- فما نراه زاد على التعجب- و مما عجب منه عجبنا- و لم یثبت عصمه أبی بکر فینتفی عن أفعاله التناقض- . قلت لا یشک أحد فی أن أبا بکر کان عاقلا- و إن شک قوم فی ذلک- فالعاقل فی یوم واحد- لا یدفع فاطمه ع عن الإرث و یقول- إن أباک قال لی إننی لا أورث- ثم یورث فی ذلک الیوم شخصا آخر من مال ذلک المتوفى- الذی حکى عنه أنه لا یورث- و لیس انتفاء هذا التناقض عن أفعاله- موقوفا على العصمه بل على العقل- .
قال المرتضى و قوله یجوز أن یکون النبی ص نحله إیاه- و ترکه أبو بکر فی یده لما فی ذلک من تقویه الدین- و تصدق ببدله- و کل ما ذکره جائز- إلا أنه قد کان یجب أن یظهر أسباب النحله- و الشهاده بها و الحجه علیها- و لم یظهر من ذلک شیء فنعرفه- و من العجائب أن تدعی فاطمه فدک نحله- و تستشهد على قولها أمیر المؤمنین ع و غیره- فلا یصغى إلى قولها- و یترک السیف و البغله و العمامه فی ید أمیر المؤمنین- على سبیل النحله بغیر بینه ظهرت- و لا شهاده قامت- . قلت لعل أبا بکر سمع الرسول ص- و هو ینحل ذلک علیا ع- فلذلک لم یحتج إلى البینه و الشهاده- فقد روى أنه أعطاه خاتمه و سیفه فی مرضه- و أبو بکر حاضر- و أما البغله فقد کان نحله إیاها- فی حجه الوداع على ما وردت به الروایه- و أما العمامه فسلب المیت- و کذلک القمیص و الحجزه و الحذاء- فالعاده أن یأخذ ذلک ولد المیت- و لا ینازع فیه لأنه خارج أو کالخارج عن الترکه- فلما غسل ع أخذت ابنته ثیابه التی مات فیها- و هذه عاده الناس- على أنا قد ذکرنا فی الفصل الأول- کیف دفع إلیه آله النبی ص و حذاءه و دابته- و الظاهر أنه فعل ذلک اجتهادا لمصلحه رآها- و للإمام أن یفعل ذلک- .
قال المرتضى- على أنه کان یجب على أبی بکر أن یبین ذلک- و یذکر وجهه بعینه- لما نازع العباس فیه- فلا وقت لذکر الوجه فی ذلک أولى من هذا الوقت- . قلت لم ینازع العباس فی أیام أبی بکر- لا فی البغله و العمامه و نحوها و لا فی غیر ذلک- و إنما نازع علیا فی أیام عمر- و قد ذکرنا کیفیه المنازعه و فیما ذا کانت- . قال المرتضى رضی الله عنه فی البرده و القضیب- إن کان نحله أو على الوجه الآخر- یجری مجرى ما ذکرناه- فی وجوب الظهور و الاستشهاد- و لسنا نرى أصحابنا یعنی المعتزله- یطالبون أنفسهم فی هذه المواضع بما یطالبوننا بمثله- إذا ادعینا وجوها و أسبابا و عللا مجوزه- لأنهم لا یقنعون منا بما یجوز و یمکن- بل یوجبون فیما ندعیه الظهور و الاستشهاد- و إذا کان هذا علیهم نسوه أو تناسوه- .
قلت أما القضیب- فهو السیف الذی نحله رسول الله ص علیا ع فی مرضه- و لیس بذی الفقار بل هو سیف آخر- و أما البرده فإنه وهبها کعب بن زهیر- ثم صار هذا السیف و هذه البرده إلى الخلفاء- بعد تنقلات کثیره مذکوره فی کتب التواریخ- . قال المرتضى فأما قوله- فإن أزواج النبی ص إنما طلبن المیراث- لأنهن لم یعرفن روایه أبی بکر للخبر- و کذلک إنما نازع علی ع- بعد موت فاطمه ع فی المیراث لهذا الوجه- فمن أقبح ما یقال فی هذا الباب و أبعده عن الصواب- و کیف لا یعرف أمیر المؤمنین ع روایه أبی بکر- و بها دفعت زوجته عن المیراث- و هل مثل ذلک المقام الذی قامته- و ما رواه أبو بکر فی دفعها- یخفى على من هو فی أقاصی البلاد- فضلا عمن هو فی المدینه حاضر شاهد یراعی الأخبار- و یعنی بها- إن هذا لخروج فی المکابره عن الحد- و کیف یخفى على الأزواج ذلک- حتى یطلبنه مره بعد أخرى- و یکون عثمان الرسول لهن و المطالب عنهن- و عثمان على زعمهم أحد من شهد- أن النبی ص لا یورث- و قد سمعن على کل حال أن بنت النبی ص لم تورث ماله- و لا بد أن یکن قد سألن عن السبب فی دفعها- فذکر لهن الخبر- فکیف یقال إنهن لم یعرفنه- .
قلت الصحیح أن أمیر المؤمنین ع- لم ینازع بعد موت فاطمه فی المیراث- و إنما نازع فی الولایه لفدک و غیرها- من صدقات رسول الله ص- و جرى بینه و بین العباس فی ذلک ما هو مشهور- و أما أزواج النبی ص فما ثبت أنهن نازعن فی میراثه- و لا أن عثمان کان المرسل لهن و المطالب عنهن- إلا فی روایه شاذه- و الأزواج لما عرفن أن فاطمه ع- قد دفعت عن المیراث أمسکن- و لم یکن قد نازعن و إنما اکتفین بغیرهن- و حدیث فدک و حضور فاطمه عند أبی بکر- کان بعد عشره أیام من وفاه رسول الله ص- و الصحیح أنه لم ینطق أحد بعد ذلک من الناس- من ذکر أو أنثى بعد عود فاطمه ع من ذلک المجلس- بکلمه واحده فی المیراث- . قال المرتضى فإن قیل- فإذا کان أبو بکر قد حکم بالخطإ- فی دفع فاطمه ع عن المیراث- و احتج بخبر لا حجه فیه- فما بال الأمه أقرته على هذا الحکم و لم تنکر علیه- و فی رضاها و إمساکها دلیل على صوابه- . قلت قد مضى أن ترک النکیر لا یکون دلیل الرضا- إلا فی هذا الموضع الذی لا یکون له وجه سوى الرضا- و ذکرنا فی ذلک قولا شافیا- و قد أجاب أبو عثمان الجاحظ فی کتاب العباسیه- عن هذا السؤال جوابا حسن المعنى و اللفظ- نحن نذکره على وجهه- لیقابل بینه و بین کلامه فی العثمانیه و غیرها- .
قلت ما کناه المرتضى رحمه الله فی غیر هذا الموضع أصلا- بل کان ساخطا علیه- و کناه فی هذا الموضع و استجاد قوله- لأنه موافق غرضه- فسبحان الله ما أشد حب الناس لعقائدهم- . قال قال أبو عثمان و قد زعم أناس- أن الدلیل على صدق خبرهما یعنی أبا بکر و عمر- فی منع المیراث و براءه ساحتهما- ترک أصحاب رسول الله ص النکیر علیهما- ثم قال قد یقال لهم- لئن کان ترک النکیر دلیلا على صدقهما- لیکونن ترک النکیر على المتظلمین- و المحتجین علیهما و المطالبین لهما- دلیلا على صدق دعواهم أو استحسان مقالتهم- و لا سیما و قد طالت المناجاه- و کثرت المراجعه و الملاحاه- و ظهرت الشکیه و اشتدت الموجده- و قد بلغ ذلک من فاطمه ع- حتى إنها أوصت ألا یصلی علیها أبو بکر- و لقد کانت قالت له حین أتته طالبه بحقها- و محتجه لرهطها- من یرثک یا أبا بکر إذا مت- قال أهلی و ولدی-
قالت فما بالنا لا نرث النبی ص- فلما منعها میراثها و بخسها حقها- و اعتل علیها و جلح فی أمرها- و عاینت التهضم و أیست من التورع- و وجدت نشوه الضعف و قله الناصر- قالت و الله لأدعون الله علیک- قال و الله لأدعون الله لک- قالت و الله لا أکلمک أبدا قال و الله لا أهجرک أبدا- فإن یکن ترک النکیر على أبی بکر دلیلا على صواب منعها- إن فی ترک النکیر على فاطمه ع- دلیلا على صواب طلبها- و أدنى ما کان یجب علیهم فی ذلک تعریفها ما جهلت- و تذکیرها ما نسیت- و صرفها عن الخطإ و رفع قدرها عن البذاء- و أن تقول هجرا- أو تجور عادلا أو تقطع واصلا- فإذا لم تجدهم أنکروا على الخصمین جمیعا- فقد تکافأتالأمور و استوت الأسباب- و الرجوع إلى أصل حکم الله من المواریث أولى بنا و بکم- و أوجب علینا و علیکم- .
قال فإن قالوا کیف تظن به ظلمها و التعدی علیها- و کلما ازدادت علیه غلظه ازداد لها لینا و رقه- حیث تقول له و الله لا أکلمک أبدا- فیقول و الله لا أهجرک أبدا- ثم تقول و الله لأدعون الله علیک- فیقول و الله لأدعون الله لک- ثم یحتمل منها هذا الکلام الغلیظ- و القول الشدید فی دار الخلافه- و بحضره قریش و الصحابه- مع حاجه الخلافه إلى البهاء و التنزیه- و ما یجب لها من الرفعه و الهیبه- ثم لم یمنعه ذلک أن قال معتذرا متقربا- کلام المعظم لحقها المکبر لمقامها- و الصائن لوجهها المتحنن علیها- ما أحد أعز علی منک فقرا- و لا أحب إلی منک غنى- و لکنی سمعت رسول الله ص یقول- إنا معاشر الأنبیاء لا نورث- ما ترکناه فهو صدقه- قیل لهم لیس ذلک بدلیل على البراءه من الظلم- و السلامه من الجور- و قد یبلغ من مکر الظالم و دهاء الماکر إذا کان أریبا- و للخصومه معتادا- أن یظهر کلام المظلوم و ذله المنتصف- و حدب الوامق و مقه المحق- و کیف جعلتم ترک النکیر حجه قاطعه- و دلاله واضحه- و قد زعمتم أن عمر قال على منبره- متعتان کانتا على عهد رسول الله ص- متعه النساء و متعه الحج- أنا أنهى عنهما و أعاقب علیهما- فما وجدتم أحدا أنکر قوله- و لا استشنع مخرج نهیه و لا خطأه فی معناه- و لا تعجب منه و لا استفهمه- و کیف تقضون بترک النکیر و قد شهد عمر یوم السقیفه- و بعد ذلک أن النبی ص قال الأئمه من قریش- ثم قال فی شکاته- لو کان سالم حیا ما تخالجنی فیه شک- حین أظهر الشک فی استحقاق کل واحد من السته- الذینجعلهم شورى- و سالم عبد لامرأه من الأنصار- و هی أعتقته و حازت میراثه- ثم لم ینکر ذلک من قوله منکر- و لا قابل إنسان بین قوله و لا تعجب منه-
و إنما یکون ترک النکیر على من لا رغبه و لا رهبه عنده- دلیلا على صدق قوله و صواب عمله- فأما ترک النکیر على من یملک الضعه و الرفعه- و الأمر و النهی و القتل و الاستحیاء و الحبس و الإطلاق- فلیس بحجه تشفی و لا دلاله تضیء- . قال و قال آخرون- بل الدلیل على صدق قولهما و صواب عملهما- إمساک الصحابه عن خلعهما و الخروج علیهما- و هم الذین وثبوا على عثمان فی أیسر من جحد التنزیل- و رد النصوص و لو کان کما تقولون و ما تصفون- ما کان سبیل الأمه فیهما إلا کسبیلهم فیه- و عثمان کان أعز نفرا و أشرف رهطا- و أکثر عددا و ثروه و أقوى عده- .
قلنا إنهما لم یجحدا التنزیل و لم ینکرا النصوص- و لکنهما بعد إقرارهما بحکم المیراث- و ما علیه الظاهر من الشریعه ادعیا روایه- و تحدثا بحدیث لم یکن محالا کونه- و لا ممتنعا فی حجج العقول مجیئه- و شهد لهما علیه من علته مثل علتهما فیه- و لعل بعضهم کان یرى تصدیق الرجل- إذا کان عدلا فی رهطه مأمونا فی ظاهره- و لم یکن قبل ذلک عرفه بفجره و لا جرت علیه غدره- فیکون تصدیقه له على جهه حسن الظن- و تعدیل الشاهد- و لأنه لم یکن کثیر منهم یعرف حقائق الحجج- و الذی یقطع بشهادته على الغیب- و کان ذلک شبهه على أکثرهم- فلذلک قل النکیر و تواکل الناس فاشتبه الأمر- فصار لا یتخلص إلى معرفه حق ذلک من باطله إلا العالم المتقدم أو المؤید المرشد- و لأنه لم یکن لعثمان فی صدور العوام- و قلوب السفله و الطغام- ما کان لهما من المحبه و الهیبه- و لأنهما کانا أقل استئثارا بالفیء و تفضلا بمال الله منه- و من شأن الناس إهمال السلطان ما وفر علیهم أموالهم- و لم یستأثر بخراجهم و لم یعطل ثغورهم- و لأن الذی صنع أبو بکرمن منع العتره حقها- و العمومه میراثها- قد کان موافقا لجله قریش و کبراء العرب- و لأن عثمان أیضا کان مضعوفا فی نفسه- مستخفا بقدره- لا یمنع ضیما و لا یقمع عدوا- و لقد وثب ناس على عثمان- بالشتم و القذف و التشنیع و النکیر- لأمور لو أتى أضعافها و بلغ أقصاها- لما اجترءوا على اغتیابه- فضلا على مبادأته و الإغراء به و مواجهته- کما أغلظ عیینه بن حصن له فقال له- أما إنه لو کان عمر لقمعک و منعک- فقال عیینه إن عمر کان خیرا لی منک- أرهبنی فاتقانی- .
ثم قال و العجب أنا وجدنا جمیع من خالفنا فی المیراث- على اختلافهم فی التشبیه و القدر و الوعید- یرد کل صنف منهم من أحادیث مخالفیه و خصومه- ما هو أقرب إسنادا و أصح رجالا و أحسن اتصالا- حتى إذا صاروا إلى القول فی میراث النبی ص- نسخوا الکتاب- و خصوا الخبر العام بما لا یدانی بعض ما ردوه- و أکذبوا قائلیه- و ذلک أن کل إنسان منهم إنما یجری إلى هواه- و یصدق ما وافق رضاه- . هذا آخر کلام الجاحظ ثم قال المرتضى رضی الله عنه فإن قیل- لیس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال بترک النکیر- و قوله کما لم ینکروا على أبی بکر- فلم ینکروا أیضا على فاطمه ع- و لا على غیرها من الطالبین بالإرث- کالأزواج و غیرهن معارضه صحیحه- و ذلک أن نکیر أبی بکر لذلک- و دفعها و الاحتجاج علیها- و یکفیهم و یغنیهم عن تکلف نکیر آخر- و لم ینکر على أبی بکر ما رواه منکر فیستغنوا بإنکاره- . قلنا أول ما یبطل هذا السؤال- أن أبا بکر لم ینکر علیها ما أقامت علیه- بعد احتجاجها من التظلم و التألم- و التعنیف و التبکیت- و قولها على ما روی و الله لأدعون الله علیک- و لا أکلمک أبدا و ما جرى هذا المجرى- فقد کان یجب أن ینکره غیره- و من المنکر الغضب على المنصف- و بعد فإن کان إنکار أبی بکر مقنعا و مغنیا- عن إنکار غیره من المسلمین- فإنکار فاطمه حکمه و مقامها على التظلم منه- مغن عن نکیر غیرها- و هذا واضح
الفصل الثالث فی أن فدک هل صح کونها نحله رسول الله ص لفاطمه ع أم لا
نذکر فی هذا الفصل ما حکاه المرتضى- عن قاضی القضاه فی المغنی و ما اعترض به علیه- ثم نذکر ما عندنا فی ذلک- . قال المرتضى حاکیا عن قاضی القضاه- و مما عظمت الشیعه القول فی أمر فدک- قالوا و قد روى أبو سعید الخدری أنه لما أنزلت- وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ- أعطى رسول الله ص فاطمه ع فدک- ثم فعل عمر بن عبد العزیز مثل ذلک فردها على ولدها- قالوا و لا شک أن أبا بکر أغضبها- إن لم یصح کل الذی روی فی هذا الباب- و قد کان الأجمل أن یمنعهم التکرم مما ارتکبوا منها- فضلا عن الدین- ثم ذکروا أنها استشهدت أمیر المؤمنین ع و أم أیمن- فلم یقبل شهادتهما- هذا مع ترکه أزواج النبی ص فی حجرهن- و لم یجعلها صدقه- و صدقهن فی ذلک أن ذلک لهن و لم یصدقها- .
قال و الجواب عن ذلک- أن أکثر ما یروون فی هذا الباب غیر صحیح- و لسنا ننکر صحه ما روی من ادعائها فدک- فأما أنها کانت فی یدها فغیر مسلم- بل إن کانت فی یدها لکان الظاهر أنها لها- فإذا کانت فی جمله الترکه فالظاهر أنها میراث- و إذا کان کذلک فغیر جائز لأبی بکر قبول دعواها- لأنه لا خلاف فی أن العمل على الدعوى لا یجوز- و إنما یعمل على مثل ذلک إذا علمت صحته بمشاهده- أو ما جرى مجراها أو حصلت بینه أو إقرار- ثم إن البینه لا بد منها- و إن أمیر المؤمنین ع لما خاصمه الیهودی حاکمه- و أن أم سلمه التی یطبق على فضلها- لو ادعت نحلا ما قبلت دعواها- .
ثم قال و لو کان أمیر المؤمنین ع هو الوالی- و لم یعلم صحه هذه الدعوى- ما الذی کان یجب أن یعمل- فإن قلتم یقبل الدعوى فالشرع بخلاف ذلک- و إن قلتم یلتمس البینه- فهو الذی فعله أبو بکر- . ثم قال و أما قول أبی بکر- رجل مع الرجل و امرأه مع المرأه- فهو الذی یوجبه الدین- و لم یثبت أن الشاهد فی ذلک کان أمیر المؤمنین ع- بل الروایه المنقوله أنه شهد لها- مولى لرسول الله ص مع أم أیمن- . قال و لیس لأحد أن یقول- فلما ذا ادعت و لا بینه معها- لأنه لا یمتنع أن تجوز- أن یحکم أبو بکر بالشاهد و الیمین- أو تجوز عند شهاده من شهد لها أن تذکر غیره فیشهد- لا و هذا هو الموجب على ملتمس الحق- و لا عیب علیها فی ذلک- و لا على أبی بکر فی التماس البینه- و إن لم یحکم لها لما لم یتم و لم یکن لها خصم- لأن الترکه صدقه على ما ذکرنا- و کان لا یمکن أن یعول فی ذلک على یمین أو نکول- و لم یکن فی الأمر إلا ما فعله- قال و قد أنکر أبو علی ما قاله السائل- من أنها لما ردت فی دعوى النحله ادعته إرثا- و قال بل کان طلبت الإرث قبل ذلک- فلما سمعت منه الخبر کفت و ادعت النحله- .
قال فأما فعل عمر بن عبد العزیز- فلم یثبت أنه رده على سبیل النحله- بل عمل فی ذلک ما عمله عمر بن الخطاب- بأن أقره فی ید أمیر المؤمنین ع- لیصرف غلاتها فی المواضع- التی کان یجعلها رسول الله ص فیه- فقام بذلک مده ثم ردها إلى عمر فی آخر سنته- و کذلک فعل عمر بن عبد العزیز- و لو ثبت أنه فعل بخلاف ما فعل السلف- لکان هو المحجوج بفعلهم و قولهم- و أحد ما یقوی ما ذکرناه- أن الأمر لما انتهى إلى أمیر المؤمنین ع- ترک فدک على ما کان و لم یجعله میراثا لولد فاطمه- و هذا یبین أن الشاهد کان غیره- لأنه لو کان هو الشاهد لکان الأقرب أن یحکم بعلمه- على أن الناس اختلفوا فی الهبه إذا لم تقبض- فعند بعضهم تستحق بالعقد- و عند بعضهم أنها إذا لم تقبض یصیر وجودها کعدمها- فلا یمتنع من هذا الوجه- أن یمتنع أمیر المؤمنین ع من ردها- و إن صح عنده عقد الهبه- و هذا هو الظاهر- لأن التسلیم لو کان وقع لظهر أنه کان فی یدها- و لکان ذلک کافیا فی الاستحقاق- فأما حجر أزواج النبی ص- فإنما ترکت فی أیدیهن لأنها کانت لهن- و نص الکتاب یشهد بذلک- و قوله وَ قَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَّ- و روی فی الأخبار أن النبی ص- قسم ما کان له من الحجر على نسائه و بناته- و یبین صحه ذلک أنه لو کان میراثا أو صدقه- لکان أمیر المؤمنین ع لما أفضى الأمر إلیه یغیره- .
قال و لیس لأحد أن یقول- إنما لم یغیر ذلک لأن الملک قد صار له فتبرع به- و ذلک أن الذی یحصل له لیس- إلا ربع میراث فاطمه ع- و هو الثمن من میراث رسول الله ص- فقد کان یجب أن ینتصف لأولاد العباس- و أولاد فاطمه منهن فی باب الحجر- و یأخذ هذا الحق منهن- فترکه ذلک یدل على صحه ما قلناه- و لیس یمکنهم بعد ذلک إلا التعلق بالتقیه- و قد سبق الکلام فیها- .
قال و مما یذکرونه أن فاطمه ع- لغضبها على أبی بکر و عمر أوصت ألا یصلیا علیها- و أن تدفن سرا منهما فدفنت لیلا- و هذا کما ادعوا روایه رووها عن جعفر بن محمد ع و غیره- أن عمر ضرب فاطمه ع بالسوط- و ضرب الزبیر بالسیف- و أن عمر قصد منزلها و فیه علی ع- و الزبیر و المقداد و جماعه ممن تخلف عن أبی بکر- و هم مجتمعون هناک- فقال لها ما أحد بعد أبیک أحب إلینا منک- و ایم الله لئن اجتمع هؤلاء النفر عندک- لنحرقن علیهم- فمنعت القوم من الاجتماع- .
قال و نحن لا نصدق هذه الروایات و لا نجوزها- و أما أمر الصلاه فقد روی أن أبا بکر- هو الذی صلى على فاطمه ع و کبر علیها أربعا- و هذا أحد ما استدل به کثیر من الفقهاء- فی التکبیر على المیت- و لا یصح أیضا أنها دفنت لیلا- و إن صح ذلک فقد دفن رسول الله ص لیلا- و دفن عمر ابنه لیلا- و قد کان أصحاب رسول الله ص- یدفنون بالنهار و یدفنون باللیل- فما فی هذا مما یطعن به- بل الأقرب فی النساء- أن دفنهن لیلا أستر و أولى بالسنه- .
ثم حکى عن أبی علی تکذیب ما روی من الضرب بالسوط- قال و المروی عن جعفر بن محمد ع أنه کان یتولاهما- و یأتی القبر فیسلم علیهما- مع تسلیمه على رسول الله ص- روى ذلک عباد بن صهیب و شعبه بن الحجاج- و مهدی بن هلال و الدراوردی و غیرهم- و قد روى عن أبیه محمد بن علی ع- و عن علی بن الحسین مثل ذلک- فکیف یصح ما ادعوه- و هل هذه الروایه إلا کروایتهم- على أن علی بن أبی طالب ع هو إسرافیل- و الحسن میکائیل و الحسین جبرائیل- و فاطمه ملک الموت- و آمنه أم النبی ص لیله القدر- فإن صدقوا ذلک أیضا قیل لهم- فعمر بن الخطاب کیف یقدر على ضرب ملک الموت- و إن قالوا لا نصدق ذلک- فقد جوزوا رد هذه الروایات- و صح أنه لا یجوز التعویل على هذا الخبر-و إنما یتعلق بذلک من غرضه الإلحاد کالوراق-
و ابن الراوندی- لأن غرضهم القدح فی الإسلام- . و حکى عن أبی علی أنه قال و لم صار غضبها- إن ثبت کأنه غضب رسول الله ص من حیث قال فمن أغضبها فقد أغضبنی أولى من أن یقال- فمن أغضب أبا بکر و عمر فقد نافق و فارق الدین- لأنه روی عنه ع قال حب أبی بکر و عمر إیمان و بغضهما نفاق- و من یورد مثل هذا فقصده الطعن فی الإسلام- و أن یتوهم الناس أن أصحاب النبی ص نافقوا- مع مشاهده الأعلام- لیضعفوا دلاله العلم فی النفوس- . قال و أما حدیث الإحراق فلو صح لم یکن طعنا على عمر- لأن له أن یهدد من امتنع من المبایعه- إراده للخلاف على المسلمین لکنه غیر ثابت- انتهى کلام قاضی القضاه- .
قال المرتضى نحن نبتدئ فندل على أن فاطمه ع- ما ادعت من نحل فدک إلا ما کانت مصیبه فیه- و إن مانعها و مطالبها بالبینه متعنت- عادل عن الصواب- لأنها لا تحتاج إلى شهاده و بینه- ثم نعطف على ما ذکره على التفصیل فنتکلم علیه- . أما الذی یدل على ما ذکرناه- فهو أنها کانت معصومه من الغلط- مأمونا منها فعل القبیح- و من هذه صفته لا یحتاج فیما یدعیه إلى شهاده و بینه فإن قیل دللوا على الأمرین قلنا بیان الأول قوله تعالى- إِنَّما یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ- وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً- و الآیه تتناول جماعه منهم فاطمهع- بما تواترت الأخبار فی ذلک- و الإراده هاهنا دلاله على وقوع الفعل للمراد- و أیضا فیدل على ذلک قوله ع فاطمه بضعه منی من آذاها فقد آذانی- و من آذانی فقد آذى الله عز و جل- و هذا یدل على عصمتها- لأنها لو کانت ممن تقارف الذنوب- لم یکن من یؤذیها مؤذیا له على کل حال- بل کان متى فعل المستحق من ذمها أو إقامه الحد علیها- إن کان الفعل یقتضیه سارا له و مطیعا- على أنا لا نحتاج أن ننبه هذا الموضع- على الدلاله على عصمتها- بل یکفی فی هذا الموضع العلم بصدقها فیما ادعته- و هذا لا خلاف فیه بین المسلمین- لأن أحدا لا یشک أنها لم تدع ما ادعته کاذبه- و لیس بعد ألا تکون کاذبه إلا أن تکون صادقه- و إنما اختلفوا فی هل یجب مع العلم بصدقها- تسلم ما ادعته بغیر بینه أم لا یجب ذلک-
قال الذی یدل على الفصل الثانی- أن البینه إنما تراد لیغلب فی الظن صدق المدعی- أ لا ترى أن العداله معتبره فی الشهادات- لما کانت مؤثره فی غلبه الظن لما ذکرناه- و لهذا جاز أن یحکم الحاکم بعلمه من غیر شهاده- لأن علمه أقوى من الشهاده- و لهذا کان الإقرار أقوى من البینه- من حیث کان أغلب فی تأثیر غلبه الظن- و إذا قدم الإقرار على الشهاده لقوه الظن عنده- فأولى أن یقدم العلم على الجمیع- و إذا لم یحتج مع الإقرار إلى شهاده- لسقوط حکم الضعیف مع القوی- لا یحتاج أیضا مع العلم إلى ما یؤثر الظن- من البینات و الشهادات- . و الذی یدل على صحه ما ذکرناه أیضا- أنه لا خلاف بین أهل النقل- فی أن أعرابیا نازع النبی ص فی ناقه- فقال ع هذه لی و قد خرجت إلیک من ثمنها- فقال الأعرابی من یشهد لک بذلک- فقال خزیمه بن ثابت أنا أشهد بذلک- فقال النبی ص من أین علمت و ما حضرت ذلک- قال لا و لکن علمت ذلک- من حیث علمت أنک رسول الله- فقال قد أجزت شهادتک و جعلتها شهادتین- فسمی ذا الشهادتین- .
و هذه القصه شبیهه لقصه فاطمه ع- لأن خزیمه اکتفى فی العلم بأن الناقه له ص- و شهد بذلک من حیث علم لأنه رسول الله ص- و لا یقول إلا حقا و أمضى النبی ص ذلک له- من حیث لم یحضر الابتیاع و تسلیم الثمن- فقد کان یجب على من علم- أن فاطمه ع لا تقول إلا حقا- ألا یستظهر علیها بطلب شهاده أو بینه- هذا و قد روی أن أبا بکر لما شهد أمیر المؤمنین ع- کتب بتسلیم فدک إلیها- فاعترض عمر قضیته و خرق ما کتبه- .
روى إبراهیم بن السعید الثقفی عن إبراهیم بن میمون قال حدثنا عیسى بن عبد الله بن محمد بن علی بن أبی طالب ع عن أبیه عن جده عن علی ع قال جاءت فاطمه ع إلى أبی بکر و قالت- إن أبی أعطانی فدک و علی و أم أیمن یشهدان- فقال ما کنت لتقولی على أبیک إلا الحق قد أعطیتکها- و دعا بصحیفه من أدم فکتب لها فیها- فخرجت فلقیت عمر- فقال من أین جئت یا فاطمه- قالت جئت من عند أبی بکر- أخبرته أن رسول الله ص أعطانی فدک- و أن علیا و أم أیمن یشهدان لی بذلک- فأعطانیها و کتب لی بها- فأخذ عمر منها الکتاب- ثم رجع إلى أبی بکر فقال- أعطیت فاطمه فدک و کتبت بها لها قال نعم- فقال إن علیا یجر إلى نفسه- و أم أیمن امرأه- و بصق فی الکتاب فمحاه و خرقه- .
و قد روی هذا المعنى من طرق مختلفه على وجوه مختلفه- فمن أراد الوقوف علیها و استقصاءها- أخذها من مواضعها- . و لیس لهم أن یقولوا إنها أخبار آحاد- لأنها و إن کانت کذلک- فأقل أحوالها أن توجب الظن- و تمنع من القطع على خلاف معناها- و لیس لهم أن یقولوا کیف یسلم إلیها فدک- و هو یروی عن الرسول أن ما خلفه صدقه- و ذلک لأنه لا تنافی بین الأمرین- لأنه إنما سلمها على ما وردت به الروایه- على سبیل النحل- فلما وقعت المطالبه بالمیراث روى الخبر فی معنى المیراث- فلا اختلاف بین الأمرین- .
فأما إنکار صاحب الکتاب لکون فدک فی یدها- فما رأیناه اعتمد فی إنکار ذلک على حجه- بل قال لو کان ذلک فی یدها لکان الظاهر أنها لها- و الأمر على ما قال- فمن أین أنه لم یخرج عن یدها- على وجه یقتضی الظاهر خلافه- و قد روی من طرق مختلفه- غیر طریق أبی سعید الذی ذکره صاحب الکتاب- أنه لما نزل قوله تعالى- وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ- دعا النبی ص فاطمه ع فأعطاها فدک- و إذا کان ذلک مرویا فلا معنى لدفعه بغیر حجه- .
و قوله لا خلاف أن العمل على الدعوى لا یجوز صحیح- و قد بینا أن قولها کان معلوما صحته- و إنما قوله إنما یعمل على ذلک متى علم صحته بشهاده- أو ما یجری مجراها- أو حصلت بینه أو إقرار- فیقال له إما علمت بمشاهده فلم یکن هناک- و إما بینه فقد کانت على الحقیقه- لأن شهاده أمیر المؤمنین ع- من أکبر البینات و أعدلها- و لکن على مذهبک أنه لم تکن هناک بینه- فمن أین زعمت أنه لم یکن هناک علم- و إن لم یکن عن مشاهده- فقد أدخلت ذلک فی جمله الأقسام- .
فإن قال لأن قولها بمجرده لا یکون جهه للعلم- قیل له لم قلت ذلک أو لیس قد دللنا على أنها معصومه- و أن الخطأ مأمون علیها ثم لو لم یکن کذلک- لکان قولها فی تلک القضیه معلوما صحته على کل حال- لأنها لو لم تکن مصیبه لکانت مبطله عاصیه فیما ادعته- إذ الشبهه لا تدخل فی مثله- و قد أجمعت الأمه- على أنها لم یظهر منها بعد رسول الله ص معصیه- بلا شک و ارتیاب- بل أجمعوا على أنها لم تدع إلا الصحیح- و إن اختلفوا فمن قائل یقول مانعها مخطئ- و آخر یقول هو أیضا مصیب- لفقد البینه و إن علم صدقها- . و أما قوله إنه لو حاکم غیره لطولب بالبینه- فقد تقدم فی هذا المعنى ما یکفی- و قصه خزیمه بن ثابت- و قبول شهادته تبطل هذا الکلام- .
و أما قوله إن أمیر المؤمنین ع حاکم یهودیا- على الوجه الواجب فی سائر الناس- فقد روی ذلک إلا أن أمیر المؤمنین لم یفعل من ذلک- ما کان یجب علیه أن یفعله- و إنما تبرع به و استظهر بإقامه الحجه فیه- و قد أخطأ من طالبه ببینه کائنا من کان- فأما اعتراضه بأم سلمه- فلم یثبت من عصمتها ما ثبت من عصمه فاطمه ع- فلذلک احتاجت فی دعواها إلى بینه- فأما إنکاره و ادعاؤه أنه لم یثبت- أن الشاهد فی ذلک کان أمیر المؤمنین- فلم یزد فی ذلک إلا مجرد الدعوى و الإنکار- و الأخبار مستفیضه بأنه ع شهد لها- فدفع ذلک بالزیغ لا یغنی شیئا- و قوله إن الشاهد لها مولى لرسول الله ص- هو المنکر الذی لیس بمعروف- .
و أما قوله- إنها جوزت أن یحکم أبو بکر بالشاهد و الیمین فطریف- مع قوله فیما بعد إن الترکه صدقه و لا خصم فیها- فتدخل الیمین فی مثلها- أ فترى أن فاطمه لم تکن تعلم من الشریعه هذا المقدار- الذی نبه صاحب الکتاب علیه- و لو لم تعلمه ما کان أمیر المؤمنین ع- و هو أعلم الناس بالشریعه یوافقها علیه- .
و قوله إنها جوزت عند شهاده من شهد لها- أن یتذکر غیرهم فیشهد باطل- لأن مثلها لا یتعرض للظنه و التهمه- و یعرض قوله للرد- و قد کان یجب أن تعلم من یشهد لها ممن لا یشهد- حتى تکون دعواها على الوجه- الذی یجب معه القبول و الإمضاء- و من هو دونها فی الرتبه و الجلاله- و الصیانه من أفناء الناس- لا یتعرض لمثل هذه الخطه و یتورطها- للتجویز الذی لا أصل له و لا أماره علیه- . فأما إنکار أبی علی- لأن یکون النحل قبل ادعاء المیراث- و عکسه الأمر فیه- فأول ما فیه أنا لا نعرف له غرضا صحیحا فی إنکار ذلک- لأن کون أحد الأمرین قبل الآخر- لا یصحح له مذهبا- فلا یفسد على مخالفه مذهبا- .
ثم إن الأمر فی أن الکلام فی النحل کان المتقدم ظاهرا- و الروایات کلها به وارده- و کیف یجوز أن تبتدئ بطلب المیراث- فیما تدعیه بعینه نحلا- أ و لیس هذا یوجب أن تکون قد طالبت بحقها- من وجه لا تستحقه منه مع الاختیار- و کیف یجوز ذلک و المیراث یشرکها فیه غیرها- و النحل تنفرد به- و لا ینقلب مثل ذلک علینا- من حیث طالبت بالمیراث بعد النحل- لأنها فی الابتداء طالبت بالنحل- و هو الوجه الذی تستحق فدک منه- فلما دفعت عنه طالبت ضروره بالمیراث- لأن للمدفوع عن حقه- أن یتوصل إلى تناوله بکل وجه و سبب- و هذا بخلاف قول أبی علی- لأنه أضاف إلیها ادعاء الحق من وجه لا تستحقه منه و هی مختاره- .
و أما إنکاره أن یکون عمر بن عبد العزیز- رد فدک على وجه النحل- و ادعاؤه أنه فعل فی ذلک ما فعله عمر بن الخطاب- من إقرارها فی ید أمیر المؤمنین ع- لیصرف غلاتها فی وجوهها- فأول ما فیه أنا لا نحتج علیه بفعل عمر بن عبد العزیز- على أی وجه وقع- لأن فعله لیس بحجه- و لو أردنا الاحتجاج بهذا الجنس من الحجج- لذکرنا فعل المأمون- فإنه رد فدک بعد أن جلس مجلسا مشهورا- حکم فیه بین خصمین نصبهما- أحدهما لفاطمه و الآخر لأبی بکر- و ردها بعد قیام الحجه و وضوح الأمر و مع ذلک فإنه قد أنکر من فعل عمر بن عبد العزیز- ما هو معروف مشهور بلا خلاف بین أهل النقل فیه- و قد روى محمد بن زکریا الغلابی عن شیوخه- عن أبی المقدام هشام بن زیاد مولى آل عثمان-
قال لما ولی عمر بن عبد العزیز رد فدک على ولد فاطمه- و کتب إلى والیه على المدینه- أبی بکر بن عمرو بن حزم یأمره بذلک- فکتب إلیه إن فاطمه قد ولدت فی آل عثمان- و آل فلان و فلان فعلى من أرد منهم- فکتب إلیه أما- بعد فإنی لو کتبت إلیک- آمرک أن تذبح شاه لکتبت إلی أ جماء أم قرناء- أو کتبت إلیک أن تذبح بقره لسألتنی ما لونها- فإذا ورد علیک کتابی هذا فاقسمها فی ولد فاطمه ع- من علی ع و السلام- . قال أبو المقدام فنقمت بنو أمیه ذلک- على عمر بن عبد العزیز و عاتبوه فیه- و قالوا له هجنت فعل الشیخین- و خرج إلیه عمر بن قیس فی جماعه من أهل الکوفه- فلما عاتبوه على فعله قال- إنکم جهلتم و علمت و نسیتم و ذکرت- إن أبا بکر محمد بن عمرو بن حزم حدثنی عن أبیه عن جده- أن رسول الله ص قال فاطمه بضعه منی یسخطها ما یسخطنی- و یرضینی ما أرضاها- و إن فدک کان صافیه على عهد أبی بکر و عمر-
ثم صار أمرها إلى مروان- فوهبها لعبد العزیز أبی- فورثتها أنا و إخوتی عنه- فسألتهم أن یبیعونی حصتهم منها- فمن بائع و واهب حتى استجمعت لی- فرأیت أن أردها على ولد فاطمه- قالوا فإن أبیت إلا هذا فأمسک الأصل- و اقسم الغله ففعل- . و أما ما ذکره من ترک أمیر المؤمنین ع فدک- لما أفضى الأمر إلیه- و استدلاله بذلک على أنه لم یکن الشاهد فیها- فالوجه فی ترکه ع رد فدک- هو الوجه فی إقراره أحکام القوم- و کفه عن نقضها و تغییرها و قد بینا ذلک فیما سبق- و ذکرنا أنه کان فی انتهاء الأمر إلیه- فی بقیه من التقیه قویه- . فأما استدلاله على أن حجر أزواج النبی ص- کانت لهن بقوله تعالى- وَ قَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَّ- فمن عجیب الاستدلال- لأن هذه الإضافه لا تقتضی الملک- بل العاده جاریه فیها أن تستعمل من جهه السکنى- و لهذا یقال هذا بیت فلان و مسکنه- و لا یراد بذلک الملک و قد قال تعالى- لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُیُوتِهِنَّ وَ لا یَخْرُجْنَ- إِلَّا أَنْ یَأْتِینَ بِفاحِشَهٍ مُبَیِّنَهٍ- و لا شبهه فی أنه تعالى- أراد منازل الرجال التی یسکنون فیها زوجاتهم- و لم یرد بهذه الإضافه الملک- . فأما ما رواه من أن رسول الله ص- قسم حجره على نسائه و بناته- فمن أین له إذا کان الخبر صحیحا- أن هذه القسمه على وجه التملیک- دون الإسکان و الإنزال- و لو کان قد ملکهن ذلک- لوجب أن یکون ظاهرا مشهورا- . فأما الوجه فی ترک أمیر المؤمنین لما صار الأمر إلیه فی یده- منازعه الأزواج فی هذه الحجر فهو ما تقدم و تکرر- .
و أما قوله إن أبا بکر هو الذی صلى على فاطمه و کبر أربعا- و إن کثیرا من الفقهاء- یستدلون به فی التکبیر على المیت- و هو شیء ما سمع إلا منه- و إن کان تلقاه عن غیره فممن یجری مجراه فی العصبیه- و إلا فالروایات المشهوره و کتب الآثار و السیر- خالیه من ذلک- و لم یختلف أهل النقل- فی أن علیا ع هو الذی صلى على فاطمه- إلا روایه نادره شاذه- وردت بأن العباس رحمه الله صلى علیها- . و روى الواقدی بإسناده فی تاریخه عن الزهری- قال سألت ابن عباس-متى دفنتم فاطمه ع- قال دفناها بلیل بعد هدأه- قال قلت فمن صلى علیها قال علی- . و روى الطبری عن الحارث بن أبی أسامه- عن المدائنی عن أبی زکریا العجلانی- أن فاطمه ع عمل لها نعش قبل وفاتها- فنظرت إلیه فقالت سترتمونی سترکما الله- .
قال أبو جعفر محمد بن جریر- و الثبت فی ذلک أنها زینب لأن فاطمه دفنت لیلا- و لم یحضرها إلا علی و العباس و المقداد و الزبیر- . و روى القاضی أبو بکر أحمد بن کامل- بإسناده فی تاریخه عن الزهری- قال حدثنی عروه بن الزبیر أن عائشه أخبرته- أن فاطمه عاشت بعد رسول الله ص سته أشهر- فلما توفیت دفنها علی لیلا و صلى علیها- و ذکر فی کتابه هذا- أن علیا و الحسن و الحسین ع دفنوها لیلا- و غیبوا قبرها- . و روى سفیان بن عیینه- عن عمرو بن عبید عن الحسن بن محمد بن الحنفیه- أن فاطمه دفنت لیلا- . و روى عبد الله بن أبی شیبه عن یحیى بن سعید القطان- عن معمر عن الزهری مثل ذلک- .
و قال البلاذری فی تاریخه- إن فاطمه ع لم تر متبسمه بعد وفاه النبی ص- و لم یعلم أبو بکر و عمر بموتها- . و الأمر فی هذا أوضح و أشهر- من أن نطنب فی الاستشهاد علیه- و نذکر الروایات فیه-فأما قوله و لا یصح أنها دفنت لیلا و إن صح- فقد دفن فلان و فلان لیلا- فقد بینا أن دفنها لیلا فی الصحه أظهر من الشمس- و أن منکر ذلک کالدافع للمشاهدات- و لم یجعل دفنها لیلا بمجرده هو الحجه- لیقال لقد دفن فلان و فلان لیلا- بل یقع الاحتجاج بذلک- على ما وردت به الروایات المستفیضه الظاهره التی هی کالتواتر- أنها أوصت بأن تدفن لیلا- حتى لا یصلی الرجلان علیها- و صرحت بذلک و عهدت فیه عهدا- بعد أن کانا استأذنا علیها فی مرضها لیعوداها- فأبت أن تأذن لهما- فلما طالت علیهما المدافعه- رغبا إلى أمیر المؤمنین ع فی أن یستأذن لهما- و جعلاها حاجه إلیه- و کلمها ع فی ذلک و ألح علیها- فأذنت لهما فی الدخول- ثم أعرضت عنهما عند دخولهما و لم تکلمهما- فلما خرجا قالت لأمیر المؤمنین ع- هل صنعت ما أردت قال نعم- قالت فهل أنت صانع ما آمرک به قال نعم- قالت فإنی أنشدک الله- ألا یصلیا على جنازتی و لا یقوما على قبری- .
و روى أنه عفى قبرها و علم علیه- و رش أربعین قبرا فی البقیع- و لم یرش قبرها حتى لا یهتدى إلیه- و أنهما عاتباه على ترک إعلامهما بشأنها- و إحضارهما الصلاه علیها- فمن هاهنا احتججنا بالدفن لیلا- و لو کان لیس غیر الدفن باللیل- من غیر ما تقدم علیه و ما تأخر عنه- لم یکن فیه حجه- .
و أما حکایته عن أبی علی إنکار ضرب الرجل لها- و قوله إن جعفر بن محمد و أباه و جده کانوا یتولونهما- فکیف لا ینکر أبو علی ذلک- و اعتقاده فیهما اعتقاده- و قد کنا نظن أن مخالفینا یقتنعون- أن ینسبوا إلى أئمتنا الکف عن القوم و الإمساک- و ما ظننا أنهم یحملون أنفسهم- على أن ینسبوا إلیهم الثناء و الولاء-و قد علم کل أحد أن أصحاب هؤلاء الساده المختصین بهم- قد رووا عنهم ضد ما روى شعبه بن الحجاج و فلان و فلان- و قولهم هما أول من ظلمنا حقنا و حمل الناس على رقابنا- و قولهم أنهما أصفیا بإنائنا و اضطجعا بسبلنا- و جلسا مجلسا نحن أحق به منهما- إلى غیر ذلک من فنون التظلم و الشکایه- و هو طویل متسع- و من أراد استقصاء ذلک فلینظر فی کتاب المعرفه- لأبی إسحاق إبراهیم بن سعید الثقفی- فإنه قد ذکر عن رجل من أهل البیت- بالأسانید النیره ما لا زیاده علیه- ثم لو صح ما ذکره شعبه لجاز أن یحمل على التقیه- . و أما ذکره إسرافیل و میکائیل- فما کنا نظن أن مثله یذکر ذلک- و هذا من أقوال الغلاه- الذین ضلوا فی أمیر المؤمنین ع و أهل البیت- و لیسوا من الشیعه و لا من المسلمین- فأی عیب علینا فیما یقولونه- ثم إن جماعه من مخالفینا قد غلوا فی أبی بکر و عمر- و رووا روایات مختلفه فیهما- تجری مجرى ما ذکره فی الشناعه- و لا یلزم العقلاء و ذوی الألباب من المخالفین عیب من ذلک- . و أما معارضه ما روی فی فاطمه ع- بما روی فی أن حبهما إیمان و بغضهما نفاق- فالخبر الذی رویناه مجمع علیه- و الخبر الآخر مطعون فیه- فکیف یعارض ذلک بهذا- .
و أما قوله إنما قصد من یورد هذه الأخبار- تضعیف دلاله الأعلام فی النفوس- من حیث أضاف النفاق إلى من شاهدها- فتشنیع فی غیر موضعه- و استناد إلى ما لا یجدی نفعا- لأن من شاهد الأعلام لا یضعفها و لا یوهن دلیلها- و لا یقدح فی کونها حجه- لأن الأعلام لیست ملجئه إلى العلم- و لا موجبه لحصوله على کل حال- و إنما تثمر العلم لمن أمعن النظر فیها- من الوجه الذی تدل منه- فمن عدل عن ذلک لسوء اختیاره- لا یکون عدوله مؤثرا فی دلالتها- فکم قد عدل من العقلاء و ذوی الأحلام الراجحه- و الألباب الصحیحه عن تأمل هذه الأعلام و إصابه الحق منها- و لم یکن ذلک عندنا و عند صاحب الکتاب- قادحا فی دلاله الأعلام- على أن هذا القول یوجب أن ینفی الشک و النفاق- عن کل من صحب النبی ص- و عاصره و شاهد أعلامه کأبی سفیان و ابنه- و عمرو بن العاص و فلان و فلان- ممن قد اشتهر نفاقهم و ظهر شکهم فی الدین- و ارتیابهم باتفاق بیننا و بینه- و إن کانت إضافه النفاق إلى هؤلاء- لا تقدح فی دلاله الأعلام فکذلک القول فی غیرهم- . فأما قوله إن حدیث الإحراق لم یصح- و لو صح لساغ لعمر مثل ذلک- فقد بینا أن خبر الإحراق قد رواه غیر الشیعه- .
و قوله إنه یسوغ مثل ذلک- فکیف یسوغ إحراق بیت علی و فاطمه ع- و هل فی ذلک عذر یصغى إلیه أو یسمع- و إنما یکون علی و أصحابه خارقین للإجماع- و مخالفین للمسلمین- لو کان الإجماع قد تقرر و ثبت- و لیس بمتقرر و لا ثابت مع خلاف علی وحده- فضلا عن أن یوافقه على ذلک غیره- و بعد فلا فرق بین أن یهدد بالإحراق لهذه العله- و بین أن یضرب فاطمه ع لمثلها- فإن إحراق المنازل أعظم من ضرب سوط أو سوطین- فلا وجه لامتعاض المخالف من حدیث الضرب- إذا کان عنده مثل هذا الاعتذار قلت أما الکلام فی عصمه فاطمه ع- فهو بفن الکلام أشبه- و للقول فیه موضع غیر هذا- .
و أما قول المرتضى- إذا کانت صادقه لم یبق حاجه إلى من یشهد لها- فلقائل أنیقول لم قلت ذلک- و لم زعمت أن الحاجه إلى البینه- إنما کانت لزیاده غلبه الظن- و لم لا یجوز أن یکون الله تعالى یعبد بالبینه- لمصلحه یعلمها- و إن کان المدعی لا یکذب- أ لیس قد تعبد الله تعالى بالعده فی العجوز- التی قد أیست من الحمل- و إن کان أصل وضعها لاستبراء الرحم- . و أما قصه خزیمه بن ثابت- فیجوز أن یکون الله تعالى قد علم- أن مصلحه المکلفین فی تلک الصوره- أن یکتفى بدعوى النبی ص وحدها- و یستغنى فیها عن الشهاده- . و لا یمتنع أن یکون غیر تلک الصوره مخالفا لها- و إن کان المدعی لا یکذب- و یبین ذلک أن مذهب المرتضى- جواز ظهور خوارق العادات على أیدی الأئمه و الصالحین- و لو قدرنا أن واحدا من أهل الصلاح و الخیر ادعى دعوى- و قال بحضره جماعه من الناس من جملتهم القاضی- اللهم إن کنت صادقا فأظهر علی معجزه خارقه للعاده- فظهرت علیه لعلمنا أنه صادق- و مع ذلک لا تقبل دعواه إلا ببینه- . و سألت علی بن الفارقی مدرس المدرسه الغربیه ببغداد- فقلت له أ کانت فاطمه صادقه قال نعم- قلت فلم لم یدفع إلیها أبو بکر فدک و هی عنده صادقه- فتبسم ثم قال کلاما لطیفا مستحسنا- مع ناموسه و حرمته و قله دعابته- قال لو أعطاها الیوم فدک بمجرد دعواها- لجاءت إلیه غدا و ادعت لزوجها الخلافه- و زحزحته عن مقامه- و لم یکن یمکنه الاعتذار و الموافقه بشیء- لأنه یکون قد أسجل على نفسه أنها صادقه فیها تدعی- کائنا ما کان من غیر حاجه إلى بینه و لا شهود- و هذا کلام صحیح- و إن کان أخرجه مخرج الدعابه و الهزل- .
فأما قول قاضی القضاه- لو کان فی یدها لکان الظاهر أنها لها- و اعتراض المرتضى علیه بقوله- إنه لم یعتمد فی إنکار ذلک على حجه- بل قال لو کانت فی یدها لکان الظاهر إنها لها- و الأمر على ما قال- فمن أین أنها لم تخرج عن یدها على وجه- کما أن الظاهر یقتضی خلافه- فإنه لم یجب عما ذکره قاضی القضاه- لأن معنى قوله إنها لو کانت فی یدها أی متصرفه فیها- لکانت الید حجه فی الملکیه- لأن الید و التصرف حجه لا محاله- فلو کانت فی یدها تتصرف فیها و فی ارتفاقها- کما یتصرف الناس فی ضیاعهم و أملاکهم- لما احتاجت إلى الاحتجاج بآیه المیراث- و لا بدعوى النحل لأن الید حجه- فهلا قالت لأبی بکر هذه الأرض فی یدی- و لا یجوز انتزاعها منی إلا بحجه- و حینئذ کان یسقط احتجاج أبی بکر بقوله- نحن معاشر الأنبیاء لا نورث- لأنها ما تکون قد ادعتها میراثا لیحتج علیها بالخبر- و خبر أبی سعید فی قوله فأعطاها فدک- یدل على الهبه لا على القبض و التصرف- و لأنه یقال أعطانی فلان کذا فلم أقبضه- و لو کان الإعطاء هو القبض و التصرف- لکان هذا الکلام متناقضا- .
فأما تعجب المرتضى من قول أبی علی- إن دعوى الإرث کانت متقدمه على دعوى النحل- و قوله إنا لا نعرف له غرضا فی ذلک- فإنه لا یصح له بذلک مذهب- و لا یبطل على مخالفیه مذهب- فإن المرتضى لم یقف على مراد الشیخ أبی علی فی ذلک- و هذا شیء یرجع إلى أصول الفقه- فإن أصحابنا استدلوا- على جواز تخصیص الکتاب بخبر الواحد بإجماع الصحابه- لأنهم أجمعوا على تخصیص قوله تعالى- یُوصِیکُمُ اللَّهُ فِی أَوْلادِکُمْ
بروایه أبی بکر عن النبی ص لا نورث ما ترکناه صدقه
– قالوا و الصحیح فی الخبر أن فاطمه ع- طالبت بعد ذلک بالنحل لا بالمیراث- فلهذا قال الشیخ أبو علی- إن دعوى المیراث تقدمت على دعوى النحل- و ذلک لأنه ثبت أن فاطمه- انصرفت عن ذلک المجلس غیر راضیه و لا موافقه لأبی بکر- فلو کانت دعوى الإرث متأخره- و انصرفت عن سخط- لم یثبت الإجماع على تخصیص الکتاب بخبر الواحد- أما إذا کانت دعوى الإرث متقدمه فلما روى لها الخبر- أمسکت و انتقلت إلى النزاع من جهه أخرى- فإنه یصح حینئذ الاستدلال بالإجماع- على تخصیص الکتاب بخبر الواحد- .
فأما أنا فإن الأخبار عندی متعارضه- یدل بعضها على أن دعوى الإرث متأخره- و یدل بعضها على أنها متقدمه- و أنا فی هذا الموضع متوقف- . و ما ذکره المرتضى من أن الحال تقتضی- أن تکون البدایه بدعوى النحل فصحیح- و أما إخفاء القبر و کتمان الموت و عدم الصلاه- و کل ما ذکره المرتضى فیه فهو الذی یظهر و یقوى عندی- لأن الروایات به أکثر و أصح من غیرها- و کذلک القول فی موجدتها و غضبها- فأما المنقول عن رجال أهل البیت فإنه یختلف- فتاره و تاره و على کل حال- فمیل أهل البیت إلى ما فیه نصره أبیهم و بیتهم- .
و قد أخل قاضی القضاه بلفظه حکاها عن الشیعه- فلم یتکلم علیها و هی لفظه جیده- قال قد کان الأجمل أن یمنعهم التکرم- مما ارتکبا منها فضلا عن الدین- و هذا الکلام لا جواب عنه- و لقد کان التکرم و رعایه حق رسول الله ص- و حفظ عهده یقتضی أن تعوض ابنته بشیء یرضیها- إن لم یستنزل المسلمون عن فدک- و تسلم إلیها تطییبا لقلبها- و قد یسوغ للإمام أن یفعل ذلک- من غیر مشاوره المسلمین إذا رأى المصلحه فیه- و قد بعد العهد الآن بیننا و بینهم- و لا نعلم حقیقه ما کان و إلى الله نرجع الأمور
وَ لَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَیْتُ الطَّرِیقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ- وَ لُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَ نَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ- وَ لَکِنْ هَیْهَاتَ أَنْ یَغْلِبَنِی هَوَایَ- وَ یَقُودَنِی جَشَعِی إِلَى تَخَیُّرِ الْأَطْعِمَهِ- وَ لَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ بِالْیَمَامَهِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِی الْقُرْصِ- وَ لَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ- أَوْ أَبِیتَ مِبْطَاناً وَ حَوْلِی بُطُونٌ غَرْثَى- وَ أَکْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَکُونَ کَمَا قَالَ الْقَائِلُ-
وَ حَسْبُکَ عَاراً أَنْ تَبِیتَ بِبِطْنَهٍ
وَ حَوْلَکَ أَکْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ
أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِی بِأَنْ یُقَالَ- هَذَا أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ- وَ لَا أُشَارِکُهُمْ فِی مَکَارِهِ الدَّهْرِ- أَوْ أَکُونَ أُسْوَهً لَهُمْ فِی جُشُوبَهِ الْعَیْشِ- فَمَا خُلِقْتُ لِیَشْغَلَنِی أَکْلُ الطَّیِّبَاتِ- کَالْبَهِیمَهِ الْمَرْبُوطَهِ هَمُّهَا عَلَفُهَا- أَوِ الْمُرْسَلَهِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا- تَکْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وَ تَلْهُو عَمَّا یُرَادُ بِهَا- أَوْ أُتْرَکَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً- أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَهِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِیقَ الْمَتَاهَهِ قد روی و لو شئت لاهتدیت إلى هذا العسل المصفى- و لباب هذا البر المنقى فضربت هذا بذاک- حتى ینضج وقودا و یستحکم معقودا- .
و روی و لعل بالمدینه یتیما تربا یتضور سغبا- أ أبیت مبطانا و حولی بطون غرثى- إذن یحضرنی یوم القیامه و هم من ذکر و أنثى- . و روی بطون غرثى- بإضافه بطون إلى غرثى- . و القمح الحنطه- . و الجشع أشد الحرص- . و المبطان الذی لا یزال عظیم البطن من کثره الأکل- فأما المبطن فالضامر البطن- و أما البطین فالعظیم البطن لا من الأکل- و أما البطن فهو الذی لا یهمه إلا بطنه- و أما المبطون فالعلیل البطن- و بطون غرثى جائعه و البطنه الکظه- و ذلک أن یمتلئ الإنسان من الطعام امتلاء شدیدا- و کان یقال ینبغی للإنسان أن یجعل وعاء بطنه أثلاثا- فثلث للطعام و ثلث للشراب و ثلث للنفس- .
و التقمم أکل الشاه ما بین یدیها بمقمتها أی بشفتها- و کل ذی ظلف کالثور و غیره فهو ذو مقمه- . و تکترش من أعلافها تملأ کرشها من العلف- . قوله أو أجر حبل الضلاله- منصوب بالعطف على یشغلنی- و کذلک أترک و یقال أجررته رسنه إذا أهملته- . و الاعتساف السلوک فی غیر طریق واضح- . و المتاهه الأرض یتاه فیها أی یتحیر- . و فی قوله لو شئت لاهتدیت- شبه من قول عمر- لو نشاء لملأنا هذا الرحاب من صلائق و صناب- و قد ذکرناه فیما تقدم- . و هذا البیت من أبیات منسوبه- إلى حاتم بن عبد الله الطائی الجواد و أولها-
أیا ابنه عبد الله و ابنه مالک
و یا ابنه ذی الجدین و الفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتمسی له
أکیلا فإنی لست آکله وحدی
قصیا بعیدا أو قریبا فإننی
أخاف مذمات الأحادیث من بعدی
کفى بک عارا أن تبیت ببطنه
و حولک أکباد تحن إلى القد
و إنی لعبد الضیف ما دام نازلا
و ما من خلالی غیرها شیمه العبد
وَ کَأَنِّی بِقَائِلِکُمْ یَقُولُ- إِذَا کَانَ هَذَا قُوتَ ابْنِ أَبِی طَالِبٍ- فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الْأَقْرَانِ- وَ مُنَازَلَهِ الشُّجْعَانِ- أَلَا وَ إِنَّ الشَّجَرَهَ الْبَرِّیَّهَ أَصْلَبُ عُوداً- وَ الرَّوَاتِعَ الْخَضِرَهَ أَرَقُّ جُلُوداً- وَ النَّابِتَاتِ الْعِذْیَهَ أَقْوَى وَقُوداً وَ أَبْطَأُ خُمُوداً- . وَ أَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ کَالضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ- وَ الذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ- وَ اللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِی لَمَا وَلَّیْتُ عَنْهَا- وَ لَوْ أَمْکَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَیْهَا- وَ سَأَجْهَدُ فِی أَنْ أُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ الْمَعْکُوسِ- وَ الْجِسْمِ الْمَرْکُوسِ- حَتَّى تَخْرُجَ الْمَدَرَهُ مِنْ بَیْنِ حَبِّ الْحَصِیدِ الشجره البریه التی تنبت فی البر الذی لا ماء فیه- فهی أصلب عودا من الشجره التی تنبت فی الأرض الندیه- و إلیه وقعت الإشاره بقوله- و الرواتع الخضره أرق جلودا- .
ثم قال و النابتات العذیه التی تنبت عذیا- و العذی بسکون الذال الزرع لا یسقیه إلا ماء المطر- و هو یکون أقل أخذا من الماء من النبت سقیا- قال ع إنها تکون أقوى وقودا- مما یشرب الماء السائح أو ماء الناضح- و أبطأ خمودا و ذلک لصلابه جرمها- . ثم قال و أنا من رسول الله ص- کالضوء من الضوء و الذراع من العضد-و ذلک لأن الضوء الأول یکون عله فی الضوء الثانی- أ لا ترى أن الهواء المقابل للشمس- یصیر مضیئا من الشمس- فهذا الضوء هو الضوء الأول ثم إنه یقابل وجه الأرض فیضیء وجه الأرض منه- فالضوء الذی على وجه الأرض هو الضوء الثانی- و ما دام الضوء الأول ضعیفا فالضوء الثانی ضعیف- فإذا ازداد الجو إضاءه- ازداد وجه الأرض إضاءه- لأن المعلول یتبع العله- فشبه ع نفسه بالضوء الثانی- و شبه رسول الله ص بالضوء الأول- و شبه منبع الأضواء و الأنوار سبحانه- و جلت أسماؤه بالشمس التی توجب الضوء الأول- ثم الضوء الأول یوجب الضوء الثانی- و هاهنا نکته- و هی أن الضوء الثانی یکون أیضا عله لضوء ثالث- و ذلک أن الضوء الحاصل على وجه الأرض- و هو الضوء الثانی- إذا أشرق على جدار مقابل ذلک الجدار- قریبا منه مکان مظلم- فإن ذلک المکان یصیر مضیئا بعد أن کان مظلما- و إن کان لذلک المکان المظلم باب- و کان داخل البیت مقابل ذلک الباب جدار- کان ذلک الجدار أشد إضاءه من باقی البیت- ثم ذلک الجدار إن کان فیه ثقب إلى موضع آخر- کان ما یحاذی ذلک البیت- أشد إضاءه مما حوالیه- و هکذا لا تزال الأضواء- یوجب بعضها بعضا على وجه الانعکاس بطریق العلیه- و بشرط المقابله و لا تزال تضعف درجه درجه- إلى أن تضمحل و یعود الأمر إلى الظلمه- و هکذا عالم العلوم- و الحکم المأخوذه من أمیر المؤمنین ع- لا تزال تضعف کما انتقلت من قوم إلى قوم- إلى أن یعود الإسلام غریبا کما بدأ- بموجب الخبر النبوی الوارد فی الصحاح- . و أما قوله و الذراع من العضد- فلأن الذراع فرع على العضد و العضد أصل- أ لا ترى أنه لا یمکن أن یکون ذراع إلا إذا کان عضد- و یمکن أن یکون عضد لا ذراع له- و لهذا قال الراجز لولده-
یا بکر بکرین و یا خلب الکبد
أصبحت منی کذراع من عضد
فشبه ع بالنسبه إلى رسول الله ص بالذراع- الذی العضد أصله و أسه- و المراد من هذا التشبیه- الإبابه عن شده الامتزاج و الاتحاد و القرب بینهما- فإن الضوء الثانی شبیه بالضوء الأول- و الذراع متصل بالعضد اتصالا بینا- و هذه المنزله قد أعطاه إیاها رسول الله ص- فی مقامات کثیره نحو قوله فی قصه براءه قد أمرت أن لا یؤدی عنی إلا أنا أو رجل منیو قولهلتنتهن یا بنی ولیعه- أو لأبعثن إلیکم رجلا منی- أو قال عدیل نفسی- و قد سماه الکتاب العزیز نفسه- فقال وَ نِساءَنا وَ نِساءَکُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَکُمْ و قد قال له لحمک مختلط بلحمی- و دمک مسوط بدمی و شبرک و شبری واحد- .
فإن قلت أما قوله- لو تظاهرت العرب علی لما ولیت عنها فمعلوم- فما الفائده فی قوله- و لو أمکنت الفرصه من رقابها لسارعت إلیها- و هل هذا مما یفخر به الرؤساء و یعدونه منقبه- و إنما المنقبه أن لو أمکنته الفرصه تجاوز و عفا- . قلت غرضه أن یقرر فی نفوس أصحابه- و غیرهم من العرب أنه یحارب على حق- و أن حربه لأهل الشام کالجهاد أیام رسول الله ص- و أن من یجاهد الکفار یجب علیه أن یغلظ علیهم- و یستأصل شأفتهم- أ لا ترى أن رسول الله ص لما جاهد بنی قریظه- و ظفر لم یبق و لم یعف- و حصد فی یوم واحد رقاب ألف إنسان صبرا فی مقام واحد- لما علم فی ذلک من إعزاز الدین و إذلال المشرکین- فالعفو له مقام و الانتقام له مقام- .
قوله و سأجهد فی أن أطهر الأرض- الإشاره فی هذا إلى معاویه- سماه شخصا معکوسا و جسما مرکوسا- و المراد انعکاس عقیدته و أنها لیست عقیده هدى- بل هی معاکسه للحق و الصواب- و سماه مرکوسا من قولهم ارتکس فی الضلال- و الرکس رد الشیء مقلوبا قال تعالى- وَ اللَّهُ أَرْکَسَهُمْ بِما کَسَبُوا أی قلبهم- و ردهم إلى کفرهم- فلما کان تارکا للفطره التی کل مولود یولد علیها- کان مرتکسا فی ضلاله- و أصحاب التناسخ یفسرون هذا بتفسیر آخر- قالوا الحیوان على ضربین منتصب و منحن- فالمنتصب الإنسان- و المنحنی ما کان رأسه منکوسا إلى جهه الأرض- کالبهائم و السباع- .
قالوا و إلى ذلک وقعت الإشاره بقوله- أَ فَمَنْ یَمْشِی مُکِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى- أَمَّنْ یَمْشِی سَوِیًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ- . قالوا فأصحاب الشقاوه- تنتقل أنفسهم عند الموت إلى الحیوان المکبوب- و أصحاب السعاده تنتقل أنفسهم إلى الحیوان المنتصب- و لما کان معاویه عنده ع من أهل الشقاوه- سماه معکوسا و مرکوسا رمزا إلى هذا المعنى- . قوله حتى تخرج المدره من بین حب الحصید- أی حتى یتطهر الدین و أهله منه- و ذلک لأن الزراع یجتهدون فی إخراج المدر- و الحجر و الشوک و العوسج و نحو ذلک- من بین الزرع کی تفسد منابته- فیفسد الحب الذی یخرج منه- فشبه معاویه بالمدر و نحوه من مفسدات الحب- و شبه الدین بالحب الذی هو ثمره الزرع: وَ مِنْ هَذَا الْکِتَابِ وَ هُوَ آخِرُهُ- إِلَیْکِ عَنِّی یَا دُنْیَا فَحَبْلُکِ عَلَى غَارِبِکِ- قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِکِ- وَ أَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِکِ- وَ اجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِی مَدَاحِضِکِ-أَیْنَ الْقُرُونُ الَّذِینَ غَرَرْتِهِمْ بِمَدَاعِبِکِ- أَیْنَ الْأُمَمُ الَّذِینَ فَتَنْتِهِمْ بِزَخَارِفِکِ- فَهَا هُمْ رَهَائِنُ الْقُبُورِ وَ مَضَامِینُ اللُّحُودِ- وَ اللَّهِ لَوْ کُنْتِ شَخْصاً مَرْئِیّاً وَ قَالَباً حِسِّیّاً- لَأَقَمْتُ عَلَیْکِ حُدُودَ اللَّهِ فِی عِبَادٍ غَرَرْتِهِمْ بِالْأَمَانِیِّ- وَ أُمَمٍ أَلْقَیْتِهِمْ فِی الْمَهَاوِی- وَ مُلُوکٍ أَسْلَمْتِهِمْ إِلَى التَّلَفِ- وَ أَوْرَدْتِهِمْ مَوَارِدَ الْبَلَاءِ إِذْ لَا وِرْدَ وَ لَا صَدَرَ- هَیْهَاتَ مَنْ وَطِئَ دَحْضَکِ زَلِقَ- وَ مَنْ رَکِبَ لُجَجَکِ غَرِقَ- وَ مَنِ ازْوَرَّ عَنْ حَبَائِلِکِ وُفِّقَ- وَ السَّالِمُ مِنْکِ لَا یُبَالِی إِنْ ضَاقَ بِهِ مُنَاخُهُ- وَ الدُّنْیَا عِنْدَهُ کَیَوْمَ حَانَ انْسِلَاخُهُ إلیک عنی أی ابعدی- و حبلک على غاربک کنایه من کنایات الطلاق- أی اذهبی حیث شئت- لأن الناقه إذا ألقی حبلها على غاربها- فقد فسح لها أن ترعى حیث شاءت- و تذهب أین شاءت لأنه إنما یردها زمامها- فإذا ألقی حبلها على غاربها فقد أهملت- . و الغارب ما بین السنام و العنق- و المداحض المزالق- . و قیل إن فی النسخه التی بخط الرضی رضی الله عنه- غررتیهم بالیاء- و کذلک فتنتیهم و ألقیتیهم- و أسلمتیهم و أوردتیهم- و الأحسن حذف الیاء- و إذا کانت الروایه وردت بها- فهی من إشباع الکسره کقوله-
أ لم یأتیک و الأنباء تنمی
بما فعلت لبون بنی زیاد
و مضامین اللحود أی الذین تضمنتهم- و فی الحدیث نهى عن بیع المضامین و الملاقیح- و هی ما فی أصلاب الفحول و بطون الإناث- .ثم قال لو کنت أیتها الدنیا إنسانا محسوسا- کالواحد من البشر لأقمت علیک الحد کما فعلت بالناس- . ثم شرح أفعالها فقال- منهم من غررت- و منهم من ألقیت فی مهاوی الضلال و الکفر- و منهم من أتلفت و أهلکت- . ثم قال و من وطئ دحضک زلق- مکان دحض أی مزله- . ثم قال لا یبالی من سلم منک إن ضاق مناخه- لا یبالی بالفقر و لا بالمرض- و لا بالحبوس و السجون و غیر ذلک من أنواع المحن- لأن هذا کله حقیر لا اعتداد به- فی جنب السلامه من فتنه الدنیا- .
قال و الدنیا عند من قد سلم منها- کیوم قرب انقضاؤه و فناؤه: اعْزُبِی عَنِّی فَوَاللَّهِ لَا أَذِلُّ لَکِ فَتَسْتَذِلِّینِی- وَ لَا أَسْلَسُ لَکِ فَتَقُودِینِی- وَ ایْمُ اللَّهِ یَمِیناً أَسْتَثْنِی فِیهَا بِمَشِیئَهِ اللَّهِ- لَأَرُوضَنَّ نَفْسِی رِیَاضَهً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ- إِذَا قَدَرْتُ عَلَیْهِ مَطْعُوماً- وَ تَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً- وَ لَأَدَعَنَّ مُقْلَتِی کَعَیْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِینُهَا- مُسْتَفْرِغَهً دُمُوعَهَا- أَ تَمْتَلِئُ السَّائِمَهُ مِنْ رِعْیِهَا فَتَبْرُکَ- وَ تَشْبَعُ الرَّبِیضَهُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ- وَ یَأْکُلُ عَلِیٌّ مِنْ زَادِهِ فَیَهْجَعَ- قَرَّتْ إِذاً عَیْنُهُ إِذَا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنِینَ الْمُتَطَاوِلَهِ- بِالْبَهِیمَهِ الْهَامِلَهِ وَ السَّائِمَهِ الْمَرْعِیَّهِ- طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا- وَ عَرَکَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا وَ هَجَرَتْ فِی اللَّیْلِ غُمْضَهَا- حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْکَرَى عَلَیْهَا افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا- وَ تَوَسَّدَتْ کَفَّهَا- فِی مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُیُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ- وَ تَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ- وَ هَمْهَمَتْ بِذِکْرِ رَبِّهِمْ شِفَاهُهُمْ- وَ تَقَشَّعَتْ بِطُولِ اسْتِغْفَارِهِمْ ذُنُوبُهُمْ- أُولئِکَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- فَاتَّقِ اللَّهَ یَا ابْنَ حُنَیْفٍ وَ لْتَکْفُفْ أَقْرَاصُکَ- لِیَکُونَ مِنَ النَّارِ خَلَاصُکَ اعزبی ابعدی یقال عزب الرجل بالفتح أی بعد- و لا أسلس لک بفتح اللام أی لا أنقاد لک- سلس الرجل بالکسر یسلس فهو بین السلس- أی سهل قیاده- .
ثم حلف و استثنى بالمشیئه أدبا- کما أدب الله تعالى رسوله ص- لیروضن نفسه أی یدربها بالجوع- و الجوع هو أصل الریاضه عند الحکماء و أرباب الطریقه- . قال حتى أهش إلى القرص- أی إلى الرغیف و أقنع من الإدام بالملح- . و نضب معینها فنی ماؤها- . ثم أنکر على نفسه فقال- أ تشبع السائمه من رعیها بکسر الراء- و هو الکلأ و الربیضه- جماعه من الغنم أو البقر تربض فی أماکنها- و أنا أیضا مثلها أشبع و أنام- . لقد قرت عینی إذا حیث أشابه البهائم- بعد الجهاد و السبق و العباده و العم و الجد فی السنین المتطاوله- . قوله و عرکت بجنبها بؤسها- أی صبرت على بؤسها و المشقه التی تنالها- یقال قد عرک فلان بجنبه الأذى- أی أغضى عنه و صبر علیه- .
قوله افترشت أرضها- أی لم یکن لها فراش إلا الأرض- . و توسدت کفها لم یکن لها وساده إلا الکف- . و تجافت عن مضاجعهم جنوبهم- لفظ الکتاب العزیز- تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ- . و همهمت تکلمت کلاما خفیا- . و تقشعت ذنوبهم- زالت و ذهبت کما یتقشع السحاب- . قوله و لتکفف أقراصک- إنما هو نهی لابن حنیف أن یکف عن الأقراص- و إن کان اللفظ یقتضی أن تکف الأقراص عن ابن حنیف- و قد رواها قوم بالنصب- قالوا فاتق الله یا ابن حنیف و لتکفف أقراصک- لترجو بها من النار خلاصک- و التاء هاهنا للأمر عوض الیاء- و هی لغه لا بأس بها- و قد قیل إن رسول الله ص قرأ- فبذلک فلتفرحوا بالتاء
شرح نهج البلاغه(ابن أبی الحدید) ج ۱۶
بازدیدها: ۳۳۲