۵۹ و قال لما قتل الخوارج
و قیل له یا أمیر المؤمنین هلک القوم بأجمعهم: کَلَّا وَ اللَّهِ إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِی أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَ قَرَارَاتِ النِّسَاءِ- وَ کُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ- حَتَّى یَکُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلَّابِینَ نجم ظهر و طلع- قرارات النساء کنایه لطیفه عن الأرحام- . و من الکنایات اللطیفه الجاریه هذا المجرى- قوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ یعنی الجماع- . و قوله تعالى إِنَّ هذا أَخِی لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَهً- . و قوله شَهِدَ عَلَیْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ- یعنی الفروج-: و قول رسول الله ص للحادی- یا أنجشه رفقا بالقواریریعنی النساءالکنایه و الرموز و التعریض مع ذکر مثل منهاو الکنایه إبدال لفظه یستحى من ذکرها- أو یستهجن ذکرها أو یتطیر بها- و یقتضی الحال رفضها لأمر من الأمور- بلفظه لیس فیها ذلک المانع- و من هذا الباب قول إمرئ القیس-
سموت إلیها بعد ما نام أهلها
سمو حباب الماء حالا على حال
فقالت لک الویلات إنک فاضحی
أ لست ترى السمار و الناس أحوالی
فلما تنازعنا الحدیث و أسمحت
هصرت بغصن ذی شماریخ میال
فصرنا إلى الحسنى و رق کلامنا
و رضت فذلت صعبه أی إذلال
قوله فصرنا إلى الحسنى- کنایه عن الرفث و مقدمات الجماع- . و قال ابن قتیبه تمازح معاویه و الأحنف- فما رئی مازحان أوقر منهما- قال
معاویه یا أبا بحر ما الشیء الملفف فی البجاد- فقال السخینه یا أمیر المؤمنین- و إنما کنى معاویه عن رمی بنی تمیم بالنهم و حب الأکل- بقول القائل
إذا ما مات میت من تمیم
فسرک أن یعیش فجیء بزاد
بخبز أو بتمر أو بسمن
أو الشیء الملفف فی البجاد
تراه یطوف فی الآفاق حرصا
لیأکل رأس لقمان بن عاد
و أراد الشاعر وطب اللبن- فقال الأحنف هو السخینه یا أمیر المؤمنین- لأن قریشا کانت تعیر بأکل السخینه قبل الإسلام- لأن أکثر زمانها کان زمان قحط- و السخینه ما یسخن بالنار و یذر علیه دقیق- و غلب ذلک على قریش حتى سمیت سخینه- قال حسان
زعمت سخینه أن ستغلب ربها
و لیغلبن مغالب الغلاب
فعبر کل واحد من معاویه و الأحنف عما أراده- بلفظ غیر مستهجن و لا مستقبح- و علم کل واحد منهما مراد صاحبه- و لم یفهم الحاضرون ما دار بینهما- و هذا من باب التعریض و هو قریب من الکنایه- . و من کنایات الکتاب العزیز أیضا قوله تعالى- وَ أَوْرَثَکُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِیارَهُمْ- وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها- کنى بذلک عن مناکح النساء- . و منها قوله تعالى- نِساؤُکُمْ حَرْثٌ لَکُمْ فَأْتُوا حَرْثَکُمْ أَنَّى شِئْتُمْ- کنى عن مواقع النسل بمواقع الحرث- .
و مما ورد فی الأخبار النبویه فی هذا الباب- الخبر الذی فیه- أن المرأه قالت للرجل القاعد منها مقعد القابله- لا یحل لک أن تفض الخاتم إلا بحقه- فقام عنها و ترکها- . و قد أخذ الصاحب بن عباد هذه اللفظه- فقال لأبی العلاء الأسدی الأصفهانی- و قد دخل بزوجه له بکر-
قلبی على الجمره یا أبا العلا
فهل فتحت الموضع المقفلا
و هل فضضت الکیس عن ختمه
و هل کحلت الناظر الأحولا
و أنشد الفرزدق فی سلیمان بن عبد الملک شعرا قال فیه-
دفعن إلی لم یطمثن قبلی
و هن أصح من بیض النعام
فبتن بجانبی مصرعات
و بت أفض أغلاق الختام
فاستنکر سلیمان ذلک و کان غیورا جدا- و قال له قد أقررت بالزنا فلأجلدنک- فقال یا أمیر المؤمنین إنی شاعر- و إن الله یقول فی الشعراء- وَ أَنَّهُمْ یَقُولُونَ ما لا یَفْعَلُونَ- و قد قلت ما لم أفعل قال سلیمان نجوت بها- .و من الأخبار النبویه أیضا: قوله ع فی الشهاده على الزنا- حتى تشاهد المیل فی المکحله: و منها قوله ع للمرأه التی استفتته- فی الذی استخلت له و لم یستطع جماعها- لا حتى تذوقی عسیلته و یذوق عسیلتک- .
و منها قول المرأه التی شکت إلى عائشه زوجها- أنه یطمح بصره إلى غیرها- إنی عزمت على أن أقید الجمل إشاره إلى ربطه- .
و منها قول عمر یا رسول الله هلکت- قال و ما أهلکک قال حولت رحلی- فقال ع أقبل و أدبر و اتق الحیضه- ففهم ص ما أراد- . و رأى عبد الله بن سلام على إنسان ثوبا معصفرا- فقال لو أن ثوبک فی تنور أهلک لکان خیرا لک- فذهب الرجل فأحرق ثوبه فی تنور أهله- و ظن أنه أراد الظاهر و لم یرد ابن سلام ذلک- و إنما أراد لو صرف ثمنه فی دقیق- یخبزه فی تنور أهله- .
و من ذلک قوله ص: إیاکم و خضراء الدمن- و الدمن جمع دمنه- و هی المزبله فیها البعر تنبت نباتا أخضر- و کنى بذلک عن المرأه الحسناء فی منبت السوء- . و من ذلک قولهم إیاک و عقیله الملح- لأن الدره تکون فی الماء الملح- و مرادهم النهی عن المرأه الحسناء و أهلها أهل سوء- . و من ذلک قولهم لبس له جلد النمر- و قلب له ظهر المجن- و قال أبو نواس
لا أذود الطیر عن شجر
قد بلوت المر من ثمره
و قد فسر قوم قوله تعالى- وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِراماً- فقالوا أراد و إذا عبروا عن اللفظ بما یقبح ذکره- کنوا عنه- فسمى التعبیر عن الشیء مرورا به- و سمى الکنایه عنه کرما- . و من ذلک أن بنت أعرابیه صرخت- و قالت لسعتنی العقرب- فقالت أمها أین- فقالت موضع لا یضع الراقی فیه أنفه- کنت بذلک عن السوأه- . و من هذا الباب قوله سبحانه- مَا الْمَسِیحُ ابْنُ مَرْیَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ- وَ أُمُّهُ صِدِّیقَهٌ کانا یَأْکُلانِ الطَّعامَ- قال کثیر من المفسرین هو کنایه عن الغائط- لأنه یکون من الطعام فکنی عنه- إذا هو منه مسبب- کما کنوا عن السمه بالنار- فقالوا ما نار تلک أی ما سمتها- و منه قول الشاعر
قد وسموا آبالهم بالنار
و النار قد تشفی من الأوار
و هذا من أبیات المعانی یقول هم أهل عز و منعه- فسقى راعیهم إبلهم بالسمات التی على الإبل- و علم المزاحمون له فی الماء- أنه لا طاقه لهم بمنازعتهم علیه لعزهم- فکانت السمات سببا لسقیها- و الأوار العطش- فکنى سبحانه بقوله یَأْکُلانِ الطَّعامَ- عن إتیان الغائط- لما کان أکل الطعام سببا له- کما کنى الشاعر بالنار عن السمه- لما کانت النار سبب السمه- .
و من هذا الباب قوله سبحانه- وَ کَیْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُکُمْ إِلى بَعْضٍ- کنى بالإفضاء عن الجماع- .
و من الأحادیث النبویه: من کشف قناع امرأه وجب علیه مهرها
– کنى عن الدخول بها بکشف القناع- لأنه یکشف فی تلک الحاله غالبا- . و العرب تقول فی الکنایه عن العفه- ما وضعت مومسه عنده قناعا- و من حدیث عائشه کان رسول الله ص یصیب من رءوس نسائه و هو صائم- کنت بذلک عن القبله- . و من ذلک قوله تعالى- هُنَّ لِباسٌ لَکُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ- کنى بذلک عن الجماع و المخالطه- . و قال النابغه الجعدی-
إذا ما الضجیع ثنى عطفها
تثنت فکانت علیه لباسا
و قد کنت العرب عن المرأه بالریحان و بالسرحه- قال ابن الرقیات
لا أشم الریحان إلا بعینی
کرما إنما تشم الکلاب
أی أقنع من النساء بالنظر و لا أرتکب منهن محرما- . و قال حمید بن ثور الهلالی-
أبى الله إلا أن سرحه مالک
على کل أفنان العضاه تروق
فیا طیب ریاها و برد ظلالها
إذا حان من حامی النهار ودیق
و هل أنا إن عللت نفسی بسرحه
من السرح مسدود علی طریق
و السرحه الشجره- . و قال أعرابی و کنى عن امرأتین-
أیا نخلتی أود إذا کان فیکما
جنى فانظرا من تطعمان جناکما
و یا نخلتی أود إذا هبت الصبا
و أمسیت مقرورا ذکرت ذراکما
و من الأخبار النبویه قوله ع: من کان یؤمن بالله و الیوم الآخر- فلا یسقین ماءه زرع غیره- أراد النهی عن نکاح الحبائل- لأنه إذا وطئها فقد سقى ماءه زرع غیره- .
و قال ص لخوات بن جبیر- ما فعل جملک یا خوات یمازحه- فقال قیده الإسلام یا رسول الله- لأن خواتا فی الجاهلیه کان یغشى البیوت- و یقول شرد جملی و أنا أطلبه- و إنما یطلب النساء و الخلوه بهن- و خوات هذا هو صاحب ذات النحیین- . و من کنایات القرآن العزیز قوله تعالى- وَ لا یَأْتِینَ بِبُهْتانٍ یَفْتَرِینَهُ بَیْنَ أَیْدِیهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ- کنى بذلک عن الزنا- لأن الرجل یکون فی تلک الحال- بین یدی المرأه و رجلیها- . و منه فی الحدیث إذا قعد الرجل بین شعبها الأربع- .
و قد فسر قوم قوله تعالى وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَهَ الْحَطَبِ- عن النمیمه- و العرب تقول لمن ینم و یشی- یوقد بین الناس الحطب الرطب- . و قال الشاعر یذکر امرأه-
من البیض لم تصطد على خیل لامه
و لم تمش بین الناس بالحطب الرطب
أی لم تؤخذ على أمر تلام علیه- و لم تفسد بین الحی بالکذب و النمیمه- . و مما ورد نظیر ممازحه معاویه و الأحنف- من التعریضات- أن أبا غسان المسمعی مر بأبی غفار السدوسی- فقال یا غفار ما فعل الدرهمان- فقال لحقا بالدرهم أراد بالدرهمین قول الأخطل-
فإن تبخل سدوس بدرهمیها
فإن الریح طیبه قبول
و أراد الآخر قول بشار-
و فی جحدر لؤم و فی آل مسمع
صلاح و لکن درهم القوم کوکب
و کان محمد بن عقال المجاشعی عند یزید بن مزید الشیبانی- و عنده سیوف تعرض علیه- فدفع سیفا منها إلى ید محمد- فقال کیف ترى هذا السیف- فقال نحن أبصر بالتمر منا بالسیوف- أراد یزید قول جریر فی الفرزدق-
بسیف أبی رغوان سیف مجاشع
ضربت و لم تضرب بسیف ابن ظالم
ضربت به عند الإمام فأرعشت
یداک و قالوا محدث غیر صارم
و أراد محمد قول مروان بن أبی حفصه-
لقد أفسدت أسنان بکر بن وائل
من التمر ما لو أصلحته لمارها
و قال محمد بن عمیر بن عطاء التمیمی لشریک النمیری- و على یده صقر- لیس فی الجوارح أحب إلی من البازی- فقال شریک إذا کان یصید القطا- أراد محمد قول جریر
أنا البازی المطل على نمیر
أتیح من السماء لها انصبابا
و أراد شریک قول الطرماح-
تمیم بطرق اللؤم أهدى من القطا
و لو سلکت سبل المکارم ضلت
و دخل عبد الله بن ثعلبه المحاربی- على عبد الملک بن یزید الهلالی- و هو یومئذ والی أرمینیه- فقال له ما ذا لقینا اللیله من شیوخ محارب- منعونا النوم بضوضائهم و لغطهم- فقال عبد الله بن ثعلبه إنهم أصلح الله الأمیر- أضلوا اللیله برقعا فکانوا یطلبونه- أراد عبد الملک قول الشاعر-
تکش بلا شیء شیوخ محارب
و ما خلتها کانت تریش و لا تبری
ضفادع فی ظلماء لیل تجاوبت
فدل علیها صوتها حیه البحر
و أراد عبد الله قول القائل-
لکل هلالی من اللؤم برقع
و لابن یزید برقع و جلال
و روى أبو بکر بن درید فی کتاب الأمالی- عن أبی حاتم عن العتبی عن أبیه- أنه عرض على معاویه فرس- و عنده عبد الرحمن بن الحکم بن أبی العاص- فقال کیف ترى هذا الفرس یا أبا مطرف- قال أراه أجش هزیما- قال معاویه أجل لکنه لا یطلع على الکنائن- قال یا أمیر المؤمنین- ما استوجبت منک هذا الجواب کله- قال قد عوضتک عنه عشرین ألفا- . قال أبو بکر بن درید- أراد عبد الرحمن التعریض بمعاویه- بما قاله النجاشی فی أیام صفین-
و نجا ابن حرب سابح ذو علاله
أجش هزیم و الرماح دوانی
إذا قلت أطراف الرماح تنوشه
مرته له الساقان و القدمان
فلم یحتمل معاویه منه هذا المزاح- و قال لکنه لا یطلع على الکنائن- لأن عبد الرحمن کان یتهم بنساء إخوته- . و روى ابن درید أیضا فی کتاب الأمالی- عن أبی حاتم النخعی- أن النجاشی دخل على معاویه- فقال له کیف قلت و نجا ابن حرب سابح- و قد علمت أن الخیل لا تجری بمثلی فرارا- قال إنما عنیت عتبه أخاک و عتبه جالس- فلم یقل معاویه و لا عتبه شیئا- .
و ورد إلى البصره غلام من بنی فقعس- کان یجلس فی المربد فینشد شعرا و یجمع الناس إلیه- فذکر ذلک للفرزدق فقال لأسوءنه- فجاء إلیه فسمع شیئا من شعره فحسده علیه- فقال ممن أنت قال من بنی فقعس- قال کیف ترکت القنان- فقال مقابل لصاف- فقال یا غلام هل أنجدت أمک قال بل أنجد أبی- . قال أبو العباس المبرد أراد الفرزدق قول الشاعر-
ضمن القنان لفقعس سوآتها
إن القنان لفقعس لمعمر
و القنان جبل فی بلاد فقعس- یرید أن هذا الجبل یستر سوآتهم- و أراد الغلام قول أبی المهوش-
و إذا یسرک من تمیم خله
فلما یسوءک من تمیم أکثر
أکلت أسید و الهجیم و دارم
أیر الحمار و خصیتیه العنبر
قد کنت أحسبهم أسود خفیه
فإذا لصاف یبیض فیه الحمر
و لصاف جبل فی بلاد بنی تمیم- و أراد بقوله هل أنجدت أمک- أی إن کانت
أنجدت فقد أصابها أبی فخرجت تشبهنی- فقال بل أنجد أبی یرید بل أبی أصاب أمک فوجدها بغیا- . قال عبد الله بن سوار- کنا على مائده إسحاق بن عیسى بن علی الهاشمی- فأتینا بحریره قد عملت بالسکر و السمن و الدقیق- فقال معد بن غیلان العبدی یا حبذا السخینه- ما أکلت أیها الأمیر سخینه ألذ من هذه- فقال إلا أنها تولد الریاح فی الجوف کثیرا- فقال إن المعایب لا تذکر على الخوان- . أراد معد ما کانت العرب تعیر به قریشا فی الجاهلیه- من أکل السخینه- و قد قدمنا ذکره- و أراد إسحاق بن عیسى ما یعیر به عبد القیس من الفسو- قال الشاعر
و عبد القیس مصفر لحاها
کان فساءها قطع الضباب
و کان سنان بن أحمس النمیری- یسایر الأمیر عمر بن هبیره الفزاری و هو على بغله له- فتقدمت البغله على فرس الأمیر- فقال اغضض بغلتک یا سنان- فقال أیها الأمیر إنها مکتوبه فضحک الأمیر- أراد عمر بن هبیره قول جریر-
فغض الطرف إنک من نمیر
فلا کعبا بلغت و لا کلابا
و أراد سنان قول ابن داره-
لا تأمنن فزاریا خلوت به
على قلوصک و اکتبها بأسیار
و کانت فزاره تعیر بإتیان الإبل- و لذلک قال الفرزدق یهجو عمر بن هبیره هذا- و یخاطب یزید بن عبد الملک-
أمیر المؤمنین و أنت بر
تقی لست بالجشع الحریص
أ أطعمت العراق و رافدیه
فزاریا أحذ ید القمیص
تفنق بالعراق أبو المثنى
و علم قومه أکل الخبیص
و لم یک قبلها راعی مخاض
لتأمنه على ورکی قلوص
الرافدان دجله و الفرات- و أحذ ید القمیص کنایه عن السرقه و الخیانه- و تفنق تنعم و سمن و جاریه فنق أی سمینه- . و البیت الآخر کنایه عن إتیان الإبل- الذی کانوا یعیرون به- . و روى أبو عبیده عن عبد الله بن عبد الأعلى قال- کنا نتغدى مع الأمیر عمر بن هبیره- فأحضر طباخه جام خبیص- فکرهه للبیت المذکور السابق- إلا أن جلده أدرکه- فقال ضعه یا غلام قاتل الله الفرزدق- لقد جعلنی أرى الخبیص فأستحی منه- . قال المبرد و قد یسیر البیت فی واحد- و یرى أثره علیه أبدا- کقول أبی العتاهیه فی عبد الله بن معن بن زائده-
فما تصنع بالسیف
إذا لم تک قتالا
فکسر حلیه السیف
و صغها لک خلخالا
و کان عبد الله بن معن إذا تقلد السیف و رأى من یرمقه- بان أثره علیه فظهر الخجل منه- . و مثل ذلک ما یحکى أن جریرا قال- و الله لقد قلت فی بنی تغلب بیتا- لو طعنوا بعدها بالرماح فی أستاههم ما حکوها- و هو
و التغلبی إذا تنحنح للقرى
حک استه و تمثل الأمثالا
و حکى أبو عبیده عن یونس قال- قال عبد الملک بن مروان یوما و عنده رجال- هل تعلمون أهل بیت قیل فیهم شعر- ودوا لو أنهم افتدوا منه بأموالهم- فقال أسماء بن خارجه الفزاری نحن یا أمیر المؤمنین- قال و ما هو قال قول الحارث بن ظالم المری-
و ما قومی بثعلبه بن سعد
و لا بفزاره الشعر الرقابا
فو الله یا أمیر المؤمنین- إنی لألبس العمامه الصفیقه- فیخیل لی أن شعر قفای قد بدا منها- .و قال هانئ بن قبیصه النمیری- نحن یا أمیر المؤمنین- قال و ما هو قال قول جریر-
فغض الطرف إنک من نمیر
فلا کعبا بلغت و لا کلابا
کان النمیری یا أمیر المؤمنین إذا قیل له ممن أنت- قال من نمیر- فصار یقول بعد هذا البیت من عامر بن صعصعه- . و مثل ذلک ما یروى أن النجاشی لما هجا بنی العجلان- بقوله
إذا الله عادى أهل لؤم و قله
فعادى بنی العجلان رهط ابن مقبل
قبیله لا یغدرون بذمه
و لا یظلمون الناس حبه خردل
و لا یردون الماء إلا عشیه
إذا صدر الوراد عن کل منهل
و ما سمی العجلان إلا لقوله
خذ القعب فاحلب أیها العبد و اعجل
فکان الرجل منهم إذا سئل عن نسبه یقول من بنی کعب- و ترک أن یقول عجلانی- . و کان عبد الملک بن عمیر القاضی یقول- و الله إن التنحنح و السعال لیأخذنی و أنا فی الخلاء- فأرده حیاء من قول القائل-
إذا ذات دل کلمته لحاجه
فهم بأن یقضى تنحنح أو سعل
و من التعریضات اللطیفه ما روی- أن المفضل بن محمد الضبی بعث بأضحیه هزیل إلى شاعر- فلما لقیه سأله عنها فقال کانت قلیله الدم- فضحک المفضل و قال مهلا یا أبا فلان- أراد الشاعر قول القائل-
و لو ذبح الضبی بالسیف لم تجد
من اللؤم للضبی لحما و لا دما
و روى ابن الأعرابی فی الأمالی قال- رأى عقال بن شبه بن عقال المجاشعی- على إصبع ابن عنبس وضحا- فقال ما هذا البیاض على إصبعک یا أبا الجراح- فقال سلح النعامه یا ابن أخی- أراد قول جریر
فضح العشیره یوم یسلح قائما
سلح النعامه شبه بن عقال
و کان شبه بن عقال قد برز یوم الطوانه- مع العباس بن الولید بن عبد الملک إلى رجل من الروم- فحمل علیه الرومی فنکص و أحدث- فبلغ ذلک جریرا بالیمامه فقال فیه ذلک- . و لقی الفرزدق مخنثا یحمل قماشه- کأنه یتحول من دار إلى دار- فقال أین راحت عمتنا- فقال قد نفاها الأغر یا أبا فراس- یرید قول جریر فی الفرزدق-
نفاک الأغر ابن عبد العزیز
و حقک تنفى من المسجد
و ذلک أن الفرزدق ورد المدینه- و الأمیر علیها عمر بن عبد العزیز- فأکرمه حمزه بن عبد الله بن الزبیر و أعطاه- و قعد عنه عبد الله بن عمرو بن عفان و قصر به- فمدح الفرزدق حمزه بن عبد الله و هجا عبد الله فقال-
ما أنتم من هاشم فی سرها
فاذهب إلیک و لا بنی العوام
قوم لهم شرف البطاح و أنتم
وضر البلاط موطئوا الأقدام
فلما تناشد الناس ذلک بعث إلیه عمر بن عبد العزیز- فأمره أن یخرج عن المدینه- و قال له إن وجدتک فیها بعد ثلاث عاقبتک- فقال الفرزدق ما أرانی إلا کثمود حین قیل لهم- تَمَتَّعُوا فِی دارِکُمْ ثَلاثَهَ أَیَّامٍ- فقال جریر یهجوه-
نفاک الأغر ابن عبد العزیز
و حقک تنفى من المسجد
و سمیت نفسک أشقى ثمود
فقالوا ضللت و لم تهتد
و قد أجلوا حین حل العذاب
ثلاث لیال إلى الموعد
وجدنا الفرزدق بالموسمین
خبیث المداخل و المشهد
و حکى أبو عبیده- قال بینا نحن على أشراف الکوفه وقوف- إذ جاء أسماء بن خارجه الفزاری فوقف- و أقبل ابن مکعبر الضبی فوقف متنحیا عنه- فأخذ أسماء خاتما کان فی یده فصه فیروز أزرق- فدفعه إلى غلامه- و أشار إلیه أن یدفعه إلى ابن مکعبر- فأخذ ابن مکعبر شسع نعله فربطه بالخاتم- و أعاده إلى أسماء فتمازحا- و لم یفهم أحد من الناس ما أرادا- أراد أسماء بن خارجه قول الشاعر-
لقد زرقت عیناک یا ابن مکعبر
کذا کل ضبی من اللؤم أزرق
و أراد ابن مکعبر قول الشاعر-
لا تأمنن فزاریا خلوت به
على قلوصک و اکتبها بأسیار
و کانت فزاره تعیر بإتیان الإبل- و عیرت أیضا بأکل جردان الحمار- لأن رجلا منهم کان فی سفر فجاع- فاستطعم قوما فدفعوا إلیه جردان الحمار- فشواه و أکله- فأکثرت الشعراء ذکرهم بذلک- و قال الفرزدق
جهز إذا کنت مرتادا و منتجعا
إلى فزاره عیرا تحمل الکمرا
إن الفزاری لو یعمى فیطعمه
أیر الحمار طبیب أبرأ البصرا
إن الفزاری لا یشفیه من قرم
أطایب العیر حتى ینهش الذکرا
و فی کتب الأمثال أنه اصطحب ثلاثه- فزاری و تغلبی و مری- و کان اسم التغلبی مرقمه- فصادوا حمارا و غاب عنهما الفزاری لحاجه- فقالوا نخبأ له جردانه نضحک منه- و أکلوا سائره- فلما جاء دفعا إلیه الجردان و قالا هذا نصیبک- فنهسه فإذا هو صلب- فعرف أنهم عرضوا له بما تعاب به فزاره- فاستل سیفه و قال لتأکلانه- و دفعه إلى مرقمه فأبى أن یأکله فضربه فقتله- فقال المری طاح مرقمه- قال و أنت إن لم تلقمه فأکله- . و ذکر أبو عبیده- أن إنسانا قال لمالک بن أسماء بن خارجه الفزاری- اقض دینی أیها الأمیر فإن علی دینا- قال ما لک عندی إلا ما ضرب به الحمار بطنه- فقال له عبید بن أبی محجن-بارک الله لکم یا بنی فزاره فی أیر الحمار- إن جعتم أکلتموه و إن أصابکم غرم قضیتموه به- . و یحکى أن بنی فزاره و بنی هلال بن عامر بن صعصعه- تنافروا إلى أنس بن مدرک الخثعمی و تراضوا به- فقالت بنو هلال أکلتم یا بنی فزاره أیر الحمار- فقالت بنو فزاره و أنتم مدرتم الحوض بسلحکم- فقضى أنس لبنی فزاره على بنی هلال- فأخذ الفزاریون منهم مائه بعیر- کانوا تخاطروا علیها- و فی مادر یقول الشاعر-
لقد جللت خزیا هلال بن عامر
بنی عامر طرا بسلحه مادر
فأف لکم لا تذکروا الفخر بعدها
بنی عامر أنتم شرار المعاشر
و ذکر أبو العباس محمد بن یزید المبرد- فی کتاب الکامل- أن قتیبه بن مسلم لما فتح سمرقند- أفضى إلى أثاث لم یر مثله- و آلات لم یسمع مثلها- فأراد أن یری الناس عظیم ما فتح الله علیه- و یعرفهم أقدار القوم الذین ظهر علیهم- فأمر بدار ففرشت- و فی صحنها قدور یرتقى إلیها بالسلالیم- فإذا بالحضین بن المنذر بن الحارث بن وعله الرقاشی- قد أقبل و الناس جلوس على مراتبهم- و الحضین شیخ کبیر- فلما رآه عبد الله بن مسلم- قال لأخیه قتیبه ائذن لی فی معاتبته- قال لا ترده فإنه خبیث الجواب- فأبى عبد الله إلا أن یأذن له- و کان عبد الله یضعف- و کان قد تسور حائطا إلى امرأه قبل ذلک- فأقبل على الحضین- فقال أ من الباب دخلت یا أبا ساسان- قال أجل أسن عمک عن تسورالحیطان- قال أ رأیت هذه القدور- قال هی أعظم من ألا ترى- قال ما أحسب بکر بن وائل رأى مثلها- قال أجل و لا عیلان- و لو رآها سمی شبعان و لم یسم عیلان- فقال عبد الله أ تعرف یا أبا ساسان الذی یقول-
عزلنا و أمرنا و بکر بن وائل
تجر خصاها تبتغی من تحالف
فقال أعرفه و أعرف الذی یقول-
فأدى الغرم من نادى مشیرا
و من کانت له أسرى کلاب
و خیبه من یخیب على غنی
و باهله بن أعصر و الرباب
فقال أ فتعرف الذی یقول-
کأن فقاح الأزد حول ابن مسمع
و قد عرقت أفواه بکر بن وائل
قال نعم و أعرف الذی یقول-
قوم قتیبه أمهم و أبوهم
لو لا قتیبه أصبحوا فی مجهل
قال أما الشعر فأراک ترویه- فهل تقرأ من القرآن شیئا قال نعم- أقرأ الأکثر الأطیب- هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِینٌ مِنَ الدَّهْرِ- لَمْ یَکُنْ شَیْئاً مَذْکُوراً-فأغضبه فقال و الله لقد بلغنی- أن امرأه الحضین حملت إلیه و هی حبلى من غیره- قال فما تحرک الشیخ عن هیأته الأولى- بل قال على رسله- و ما یکون تلد غلاما على فراشی- فیقال فلان ابن الحضین کما یقال عبد الله بن مسلم- فأقبل قتیبه على عبد الله و قال له لا یبعد الله غیرک- .
و غرضنا من هذه الحکایه الأدبیه المستحسنه- قول الحضین تعریضا بفاحشه عبد الله- أجل أسن عمک عن تسور الحیطان- . و یحکى أن أبا العیناء أهدى إلى أبی علی البصیر- و قد ولد له مولود حجرا- یذهب فی ذلک إلىقوله ع الولد للفراش و للعاهر الحجر- فاستخرج أبو علی ذلک بفطنته و ذکائه- ثم ولد بعد أیام لأبی العیناء مولود- فقال له فی أی وقت ولد لک- قال وقت السحر فقال اطرد قیاسه- و خرج فی الوقت الذی یخرج فیه أمثاله یعنى السؤال- یعرض بأن أبا العیناء شحاذ- و أن ولده خرج یشبهه- . و من التعریضات و الرموز بالفعل دون القول- ما ذکره مؤرج بن عمرو السدوسی فی کتاب الأمثال- أن الأحوص بن جعفر الکلابی أتاه آت من قومه- فقال أن رجلا لا نعرفه جاءنا- فلما دنا منا حیث نراه نزل عن راحلته- فعلق على شجره وطبا من لبن- و وضع فی بعض أغصانها حنظله- و وضع صره من تراب و حزمه من شوک- ثم أثار راحلته فاستوى علیها و ذهب- و کان أیام حرب تمیم و قیس عیلان- فنظر الأحوص فی ذلک فعی به- فقال أرسلوا إلى قیس بن زهیر- فأتوا قیسا فجاءوا به إلیه-
فقال له أ لم تک أخبرتنی أنه لا یرد علیک أمر- إلا عرفت ما فیه ما لم تر نواصی الخیل- قال ما خبرک فأعلمه- فقال قد بین الصبح لذی عینین- هذا رجل قد أخذت علیه العهود ألا یکلمکم- و لا یرسل إلیکم- و أنه قد جاء فأنذرکم- أما الحنظله فإنه یخبرکم أنه قد أتاکم بنو حنظله- و أما الصره من التراب- فإنه یزعم أنهم عدد کثیر- و أما الشوک فیخبرکم أن لهم شوکه- و أما الوطب فإنه یدلکم على قرب القوم و بعدهم- فذوقوه فإن کان حلیبا فالقوم قریب- و إن کان قارصا فالقوم بعید- و إن کان المسیخ لا حلوا و لا حامضا- فالقوم لا قریب و لا بعید- فقاموا إلى الوطب فوجدوه حلیبا- فبادروا الاستعداد- و غشیتهم الخیل فوجدتهم مستعدین- . و من الکنایات بل الرموز الدقیقه- ما حکی أن قتیبه بن مسلم دخل على الحجاج- و بین یدیه کتاب قد ورد إلیه من عبد الملک- و هو یقرؤه و لا یعلم معناه و هو مفکر- فقال ما الذی أحزن الأمیر- قال کتاب ورد من أمیر المؤمنین لا أعلم معناه- فقال إن رأى الأمیر إعلامی به فناوله إیاه- و فیه أما بعد فإنک سالم و السلام- . فقال قتیبه ما لی إن استخرجت لک ما أراد به- قال ولایه خراسان- قال إنه ما یسرک أیها الأمیر و یقر عینک- إنما أراد قول الشاعر-
یدیروننی عن سالم و أدیرهم
و جلده بین العین و الأنف سالم
أی أنت عندی مثل سالم عند هذا الشاعر- فولاه خراسان- . حکى الجاحظ فی کتاب البیان و التبیین- قال خطب الولید بن عبد الملک فقال-
أمیر المؤمنین عبد الملک قال- إن الحجاج جلده ما بین عینی و أنفی- ألا و إنی أقول إن الحجاج جلده وجهی کله- . و على ذکر هذا البیت حکی- أن رجلا کان یسقی جلساءه شرابا صرفا غیر ممزوج- و کان یحتاج إلى المزج لقوته فجعل یغنی لهم-
یدیروننی عن سالم و أدیرهم
و جلده بین العین و الأنف سالم
فقال له واحد منهم یا أبا فلان- لو نقلت ما من غنائک إلى شرابک- لصلح غناؤنا و نبیذنا جمیعا- . و یشبه حکایه قتیبه و الحجاج- کتاب عبد الملک إلى الحجاج- جوابا عن کتاب کتبه إلیه- یغلظ فیه أمر الخوارج- و یذکر فیه حال قطری و غیره و شده شوکتهم- فکتب إلیه عبد الملک- أوصیک بما أوصى به البکری زیدا و السلام- . فلم یفهم الحجاج ما أراد عبد الملک- فاستعلم ذلک من کثیر من العلماء بأخبار العرب- فلم یعلموه- فقال من جاءنی بتفسیره فله عشره آلاف درهم- و ورد رجل من أهل الحجاز یتظلم من بعض العمال- فقال له قائل أ تعلم ما أوصى به البکری زیدا- قال نعم أعلمه- فقیل له فأت الأمیر فأخبره و لک عشره آلاف درهم- فدخل علیه فسأله فقال نعم أیها الأمیر- إنه یعنى قوله
أقول لزید لا تترتر فإنهم
یرون المنایا دون قتلک أو قتلی
فإن وضعوا حربا فضعها و إن أبوا
فعرضه نار الحرب مثلک أو مثلی
و إن رفعوا الحرب العوان التی ترى
فشب وقود النار بالحطب الجزل
فقال الحجاج أصاب أمیر المؤمنین فیما أوصانی- و أصاب البکری فیما أوصى به زیدا- و أصبت أیها الأعرابی و دفع إلیه الدراهم- .و کتب إلى المهلب- أن أمیر المؤمنین أوصانی بما أوصى به البکری زیدا- و أنا أوصیک بذلک و بما أوصى به الحارث بن کعب بنیه- . فنظر المهلب فی وصیه الحارث بن کعب فإذا فیها- یا بنی کونوا جمیعا و لا تکونوا شیعا فتفرقوا- و بزوا قبل أن تبزوا- الموت فی قوه و عز خیر من الحیاه فی ذل و عجز- . فقال المهلب صدق البکری و أصاب- و صدق الحارث و أصاب- . و اعلم أن کثیرا مما ذکرناه داخل فی باب التعریض- و خارج عن باب الکنایه- و إنما ذکرناه لمشابهه الکنایه- و کونهما کالنوعین تحت جنس عام- و سنذکر کلاما کلیا فیهما- إذا انتهینا إلى آخر الفصل إن شاء الله- . و من الکنایات قول أبی نواس-
و ناظره إلی من النقاب
تلاحظنی بطرف مستراب
کشفت قناعها فإذا عجوز
مموهه المفارق بالخضاب
فما زالت تجشمنی طویلا
و تأخذ فی أحادیث التصابی
تحاول أن یقوم أبو زیاد
و دون قیامه شیب الغراب
أتت بجرابها تکتال فیه
فقامت و هی فارغه الجراب
و الکنایه فی البیت الأخیر و هی ظاهره- و منها قول أبی تمام-
ما لی رأیت ترابکم بئس الثرى
ما لی أرى أطوادکم تتهدم
فکنى ببئس الثرى عن تنکر ذات بینهم- و بتهدم الأطواد عن خفه حلومهم و طیش عقولهم- . و منها قول أبی الطیب-
و شر ما قنصته راحتی قنص
شهب البزاه سواء فیه و الرخم
کنى بذلک عن سیف الدوله- و أنه یساوی بینه و بین غیره من أراذل الشعراء- و خاملیهم فی الصله و القرب- . و قال الأقیشر لرجل ما أراد الشاعر بقوله-
و لقد غدوت بمشرف یافوخه
مثل الهراوه ماؤه یتفصد
أرن یسیل من المراح لعابه
و یکاد جلد إهابه یتقدد
قال إنه یصف فرسا فقال حملک الله على مثله- و هذان البیتان من لطیف الکنایه و رشیقها- و إنما عنى العضو- . و قریب من هذه الکنایه قول سعید بن عبد الرحمن بن حسان- و هو غلام یختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب- ولد هشام بن عبد الملک- و قد جمشه عبد الصمد فأغضبه- فدخل إلى هشام فقال له-
إنه و الله لو لا أنت لم
ینج منی سالما عبد الصمد
فقال هشام و لم ذلک- قال
إنه قد رام منی خطه
لم یرمها قبله منی أحد
قال هشام و ما هی ویحک- قال
رام جهلا بی و جهلا بأبی
یدخل الأفعى إلى بیت الأسد
فضحک هشام و قال لو ضربته لم أنکر علیک- . و من هذا الباب قول أبی نواس-
إذا ما کنت جار أبی حسین
فنم و یداک فی طرف السلاح
فإن له نساء سارقات
إذا ما بتن أطراف الرماح
سرقن و قد نزلت علیه عضوی
فلم أظفر به حتى الصباح
فجاء و قد تخدش جانباه
یئن إلى من ألم الجراح
و الکنایه فی قوله أطراف الرماح- و فی قوله فی طرف السلاح- . و من الکنایه الحسنه قول الفرزدق یرثی امرأته- و قد ماتت بجمع-
و جفن سلاح قد رزئت فلم أنح
علیه و لم أبعث علیه البواکیا
و فی جوفه من دارم ذو حفیظه
لو أن المنایا أخطأته لیالیا
أخذه الرضی رحمه الله تعالى فقال یرثی امرأه-
إن لم تکن نصلا فغمد نصول
غالته أحداث الزمان بغول
أو لم تکن بأبی شبول ضیغم
تدمى أظافره فأم شبول
و من الکنایات ما یروى- أن رجلا من خواص کسرى أحب الملک امرأته- فکان یختلف إلیها سرا و تختلف إلیه- فعلم بذلک فهجرها و ترک فراشها- فأخبرت کسرى فقال له یوما- بلغنی أن لک عینا عذبه و أنک لا تشرب منها- فقال بلغنی أیها الملک أن الأسد یردها فخفته- فترکتها له- فاستحسن ذلک منه و وصله- . و من الکنایات الحسنه قول حاتم-
و ما تشتکینی جارتی غیر أننی
إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
سیبلغها خیری و یرجع بعلها
إلیها و لم یسبل على ستورها
فکنى بإسبال الستر عن الفعل لأنه یقع عنده غالبا- . فأماقول عمر من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب علیه المهر- فیمکن أن یکنى بذلک عن الجماع نفسه- و یمکن أن یکنى به عن الخلوه فقط- و هو مذهب أبی حنیفه- و هو الظاهر من اللفظ لأمرین- أحدهما قوله أغلق بابا- فإنه لو أراد الکنایه لم یحسن التردید بأو- و ثانیهما أنه قد کان مقررا عندهم- أن الجماع نفسه یوجب کمال المهر- فلم یکن به حاجه إلى ذکر ذلک- . و یشبه قول حاتم فی الکنایه المقدم- ذکرها قول بشار بن بشر-
و إنی لعف عن زیاره جارتی
و إنی لمشنوء إلى اغتیابها
و لم أک طلابا أحادیث سرها
و لا عالما من أی حوک ثیابها
إذا غاب عنها بعلها لم أکن لها
زءورا و لم تنبح علی کلابها
و قال الأخطل فی ضد ذلک یهجو رجلا و یرمیه بالزنا-
سبنتى یظل الکلب یمضغ ثوبه
له فی دیار الغانیات طریق
السبنتى النمر یرید أنه جریء وقح- و أن الکلب لأنسه به- و کثره اختلافه إلى جاراته یعرفه- و یمضغ ثوبه یطلب ما یطعمه- و العفیف ینکره الکلب و لا یأنس به- ثم أکد ذلک- بأنه قد صار له بکثره تردده إلى دیار النساء- طریق معروف- . و من جید الکنایه عن العفه قول عقیل بن علفه المری-
و لست بسائل جارات بیتی
أ غیاب رجالک أم شهود
و لا ملق لذی الودعات سوطی
ألاعبه و ریبته أرید
و من جید ذلک و مختاره قول مسکین الدارمی-
ناری و نار الجار واحده
و إلیه قبلی تنزل القدر
ما ضر جارا لی أجاوره
ألا یکون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتی برزت
حتى یواری جارتی الخدر
و العرب تکنی عن الفرج بالإزار- فتقول هو عفیف الإزار و بالذیل- فتقول هو طاهر الذیل- و إنما کنوا بهما- لأن الذیل و الإزار لا بد من رفعهما عند الفعل- و قد کنوا بالإزار عن الزوجه فی قول الشاعر-
أ لا أبلغ أبا بشر رسولا
فدا لک من أخی ثقه إزاری
یرید به زوجتی أو کنى بالإزار هاهنا عن نفسه- . و قال زهیر-
الحافظون ذمام عهدهم
و الطیبون معاقد الأزر
الستر دون الفاحشات و لا
یلقاک دون الخیر من ستر
و یقولون فی الکنایه عن العفیف- ما وضعت مومسه عنده قناعها- و لا رفع عن مومسه ذیلا- . و قد أحسن ابن طباطبا فی قوله-
فطربت طربه فاسق متهتک
و عففت عفه ناسک متحرج
الله یعلم کیف کانت عفتی
ما بین خلخال هناک و دملج
و من الکنایه عن العفه قول ابن میاده-
و ما نلت منها محرما غیر أننی
أقبل بساما من الثغر أفلجا
و ألثم فاها آخذا بقرونها
و أترک حاجات النفوس تحرجا
فکنى عن الفعل نفسه بحاجات النفوس- کما کنى أبو نواس عنه بذلک العمل فی قوله-
مر بنا و العیون ترمقه
تجرح منه مواضع القبل
أفرغ فی قالب الجمال فما
یصلح إلا لذلک العمل
و کما کنى عنه ابن المعتز بقوله-
و زارنی فی ظلام اللیل مستترا
یستعجل الخطو من خوف و من حذر
و لاح ضوء هلال کاد یفضحه
مثل القلامه قد قصت من الظفر
فقمت أفرش خدی فی الطریق له
ذلا و أسحب أذیالی على الأثر
فکان ما کان مما لست أذکره
فظن خیرا و لا تسأل عن الخبر
و مما تطیروا من ذکره فکنوا عنه قولهم مات- فإنهم عبروا عنه بعبارات مختلفه- داخله فی باب الکنایه- نحو قولهم لعق إصبعه- و قالوا اصفرت أنامله- لأن اصفرار الأنامل من صفات الموتى- قال الشاعر
فقربانی بأبی أنتما
من وطنی قبل اصفرار البنان
و قبل منعای إلى نسوه
منزلها حران و الرقتان
و قال لبید-
و کل أناس سوف تدخل بینهم
دویهیه تصفر منها الأنامل
یعنی الموت- . و یقولون فی الکنایه عنه صک لفلان على أبی یحیى- و أبو یحیى کنیه الموت کنی عنه بضده- کما کنوا عن الأسود بالأبیض- و قال الخوارزمی
سریعه موت العاشقین کأنما
یغار علیهم من هواها أبو یحیى
و کنى رسول الله ص عنه بهاذم اللذات-
فقال أکثروا من ذکر هاذم اللذات
و قال أبو العتاهیه
رأیت المنایا قسمت بین أنفس
و نفسی سیأتی بینهن نصیبها
فیا هاذم اللذات ما منک مهرب
تحاذر نفسی منک ما سیصیبها
و قالوا حلقت به العنقاء و حلقت به عنقاء مغرب- قال
فلو لا دفاعی الیوم عنک لحلقت
بشلوک بین القوم عنقاء مغرب
و قالوا فیه زل الشراک عن قدمه- قال
لا یسلمون العداه جارهم
حتى یزل الشراک عن قدمه
أی حتى یموت فیستغنی عن لبس النعل- . فأما قولهم زلت نعله- فیکنى به تاره عن غلطه و خطئه- و تاره عن سوء حاله و اختلال أمره بالفقر- و هذا المعنى الأخیر أراده الشاعر بقوله-
سأشکر عمرا ما تراخت منیتی
أیادی لم تمنن و إن هی جلت
فتى غیر محجوب الغنى عن صدیقه
و لا مظهر الشکوى إذا النعل زلت
رأى خلتی من حیث یخفى مکانها
فکانت قذى عینیه حتى تجلت
و یقولون فیه شالت نعامته- قال
یا لیت أمی قد شالت نعامتها
أیما إلى جنه أیما إلى نار
لیست بشبعى و لو أوردتها هجرا
و لا بریا و لو حلت بذی قار
أی لا یشبعها کثره التمر و لو نزلت هجر- و هجر کثیره النخل- و لا تروى و لو نزلت ذا قار و هو موضع کثیر الماء- . قال ابن درید- و النعامه خط باطن القدم فی هذه الکنایه- . و یقال أیضا للقوم قد تفرقوا بجلاء عن منازلهم- شالت نعامتهم- و ذلک لأن النعامه خفیفه الطیران عن وجه الأرض- کأنهم خفوا عن منزلهم- . و قال ابن السکیت- یقال لمن یغضب ثم یسکن شالت نعامته ثم وقعت- و قالوا أیضا فی الکنایه عن الموت- مضى لسبیله و استأثر الله به و نقله إلى جواره- و دعی فأجاب و قضى نحبه- و النحب النذر- کأنهم رأوا أن الموت لما کان حتما فی الأعناق- کان نذرا- . و قالوا فی الدعاء علیه اقتضاه الله بذنبه- إشاره إلى هذا- و قالوا ضحا ظله و معناه صار ظله شمسا- و إذا صار الظل شمسا فقد عدم صاحبه- . و یقولون أیضا خلى فلان مکانه- و أنشد ثعلب للعتبی فی السری بن عبد الله-
کان الذی یأتی السری لحاجه
أباح إلیه بالذی جاء یطلب
إذا ما ابن عبد الله خلى مکانه
فقد حلقت بالجود عنقاء مغرب
و قال درید بن الصمه-
فإن یک عبد الله خلى مکانه
فما کان وقافا و لا طائش الید
و کثیر ممن لا یفهم یعتقد- أنه أراد بقوله خلى مکانه فر- و لو کان کذلک لکان هجاء- . و یقولون وقع فی حیاض غتیم و هو اسم للموت- . و یقولون طار من ماله الثمین یریدون الثمن- یقال ثمن و ثمین و سبع و سبیع- و ذلک لأن المیت ترث زوجته من ماله الثمن غالبا- قال الشاعر یذکر جوده بماله و یخاطب امرأته-
فلا و أبیک لا أولى علیها
لتمنع طالبا منها الیمین
فإنی لست منک و لست منی
إذا ما طار من مالی الثمین
أی إذا مت فأخذت ثمنک من ترکتی- . و قالوا لحق باللطیف الخبیر- قال
و من الناس من یحبک حبا
ظاهر الود لیس بالتقصیر
فإذا ما سألته ربع فلس
ألحق الود باللطیف الخبیر
و قال أبو العلاء-
لا تسل عن عداک أین استقروا
لحق القوم باللطیف الخبیر
و یقولون قرض رباطه أی کاد یموت جهدا و عطشا- . و قالوا فی الدعاء علیه لا عد من نفره- أی إذا عد قومه فلا عد معهم- و إنما یکون کذلک إذا مات- قال إمرؤ القیس
فهو لا تنمی رمیته
ما له لا عد من نفره
و هذا إنما یرید به وصفه و التعجب منه- لا أنه یدعو علیه حقیقه- کما تقول لمن یجید الطعن شلت یده ما أحذقه- . و قالوا فی الکنایه عن الدفن أضلوه و أضلوا به- قال الله تعالى وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِی الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِی خَلْقٍ جَدِیدٍ- أی إذا دفنا فی الأرض- . و قال المخبل السعدی-
أضلت بنو قیس بن سعد عمیدها
و سیدها فی الدهر قیس بن عاصم
و یقولون للمقتول رکب الأشقر کنایه عن الدم- و إلیه أشار الحارث بن هشام المخزومی فی شعره- الذی یعتذر به عن فراره یوم بدر- عن أخیه أبی جهل بن هشام حین قتل-
الله یعلم ما ترکت قتالهم
حتى علوا فرسی بأشقر مزبد
و علمت أنی إن أقاتل واحدا
أقتل و لا یضرر عدوی مشهدی
فصددت عنهم و الأحبه فیهم
طمعا لهم بعقاب یوم مرصد
أراد بدم أشقر- فحذف الموصوف و أقام الصفه مقامه کنایه عنه- و العرب تقیم الصفه مقام الموصوف کثیرا- کقوله تعالى وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ- أی على سفینه ذات ألواح- و کقول عنتره
تمکو فریصته کشدق الأعلم
أی کشدق الإنسان الأعلم أو البعیر الأعلم- . و یقولون ترک فلان بجعجاع أی قتل- قال أبو قیس بن الأسلت-
من یذق الحرب یجد طعمها
مرا و تترکه بجعجاع
أی تترکه قتیلا مخلى بالفضاء- . و مما کنوا عنه قولهم للمقید هو محمول على الأدهم- و الأدهم القید- قال الشاعر
أوعدنی بالسجن و الأداهم
رجلی و رجلی شثنه المناسم
و قال الحجاج للغضبان بن القبعثرى- لأحملنک على الأدهم- فتجاهل علیه و قال- مثل الأمیر حمل على الأدهم و الأشهب- .و قد کنوا عن القید أیضا بالأسمر- أنشد ابن عرفه لبعضهم
فما وجد صعلوک بصنعاء موثق
بساقیه من سمر القیود کبول
قلیل الموالی مسلم بجریره
له بعد نومات العیون غلیل
یقول له البواب أنت معذب
غداه غد أو رائح فقتیل
بأکثر من وجدی بکم یوم راعنی
فراق حبیب ما إلیه سبیل
و هذا من لطیف شعر العرب و تشبیهها- . و من کنایاتهم عنه رکب ردعه- و أصله فی السهم یرمى به فیرتدع نصله فیه- یقال ارتدع السهم إذا رجع النصل فی السنخ متجاوزا- فقولهم رکب ردعه أی وقص فدخل عنقه فی صدره- قال الشاعر و هو من شعر الحماسه-
تقول و صکت صدرها بیمینها
أ بعلی هذا بالرحا المتقاعس
فقلت لها لا تعجلی و تبینی
بلای إذا التفت علی الفوارس
أ لست أرد القرن یرکب ردعه
و فیه سنان ذو غرارین یابس
لعمر أبیک الخیر إنی لخادم
لضیفی و إنی إن رکبت لفارس
و أنشد الجاحظ فی کتاب البیان و التبیین- لبعض الخوارج-
و مسوم للموت یرکب ردعه
بین الأسنه و القنا الخطار
یدنو و ترفعه الرماح کأنه
شلو تنشب فی مخالب ضاری
فثوى صریعا و الرماح تنوشه
إن الشراه قصیره الأعمار
و قد تطیرت العرب من لفظه البرص فکنوا عنه بالوضح- فقالوا جذیمه الوضاح یریدون الأبرص- و کنی عنه بالأبرش أیضا- و کل أبیض عند العرب وضاح و یسمون اللبن وضحا- یقولون ما أکثر الوضح عند بنی فلان- . و مما تفاءلوا به قولهم للفلاه التی یظن فیها الهلاک مفازه- اشتقاقا من الفوز و هو النجاه- و قال بعض المحدثین
أحب الفأل حین رأى کثیرا
أبوه عن اقتناء المجد عاجز
فسماه لقلته کثیرا
کتلقیب المهالک بالمفاوز
فأما من قال إن المفازه مفعله من فوز الرجل أی هلک- فإنه یخرج هذه اللفظه من باب الکنایات- . و من هذا تسمیتهم اللدیغ سلیما- قال
کأنی من تذکر ما ألاقی
إذا ما أظلم اللیل البهیم
سلیم مل منه أقربوه
و أسلمه المجاور و الحمیم
و قال أبو تمام فی الشیب
شعله فی المفارق استودعتنی
فی صمیم الأحشاء ثکلا صمیما
تستثیر الهموم ما اکتن منها
صعدا و هی تستثیر الهموما
دقه فی الحیاه تدعى جلالا
مثلما سمی اللدیغ سلیما
غره بهمه ألا إنما کنت
أغرا أیام کنت بهیما
حلمتنی زعمتم و أرانی
قبل هذا التحلیم کنت حلیما
و من هذا قولهم للأعور ممتع- کأنهم أرادوا أنه قد متع ببقاء إحدى عینیه- و لم یحرم ضوءهما معا- . و من کنایاتهم على العکس- قولهم للأسود یا أبا البیضاء- و للأسود أیضا یا کافور- و للأبیض یا أبا الجون و للأقرع یا أبا الجعد- . و سموا الغراب أعور لحده بصره- قال ابن میاده
إلا طرقتنا أم عمرو و دونها
فیاف من البیداء یعشى غرابها
خص الغراب بذلک لحده نظره أی فکیف غیره- . و مما جاء فی تحسین اللفظ ما روی- أن المنصور کان فی بستان داره و الربیع بین یدیه- فقال له ما هذه الشجره- فقال وفاق یا أمیر المؤمنین- و کانت شجره خلاف- فاستحسن منه ذلک- . و مثل هذا استحسان الرشید قول عبد الملک بن صالح- و قد أهدی إلیه باکوره فاکهه فی أطباق خیزران- بعثت إلى أمیر المؤمنین فی أطباق قضبان- تحمل من جنایا باکوره بستانه ما راج و أینع- فقال الرشید لمن حضر ما أحسن ما کنى عن اسم أمنا- .
و یقال إن عبد الملک سبق بهذه الکنایه- و إن الهادی قال لابن دأب و فی یده عصا ما جنس هذه- فقال من أصول القنا یعنی الخیزران- و الخیزران أم الهادی و الرشید معا- . و شبیه بذلک ما یقال إن الحسن بن سهل- کان فی یده ضغث من أطراف الأراک- فسأله المأمون عنه ما هذه- فقال محاسنک یا أمیر المؤمنین- تجنبا لأن یقول مساوئک و هذا لطیف- . و من الکنایات اللطیفه أن عبد الملک بعث الشعبی- إلى أخیه عبد العزیز بن مروان- و هو أمیر مصر یومئذ- لیسبر أخلاقه و سیاسته و یعود إلیه فیخبره بحاله- فلما عاد سأله فقال- وجدته أحوج الناس إلى بقائک یا أمیر المؤمنین- و کان عبد العزیز یضعف- . و من الألفاظ التی جاءت عن رسول الله ص- من باب الکنایات-قوله ص بعثت إلى الأسود و الأحمر- یرید إلى العرب و العجم- فکنى عن العرب بالسود و عن العجم بالحمر- و العرب تسمى العجمی أحمر- لأن الشقره تغلب علیه- .
قال ابن قتیبه خطب إلى عقیل بن علفه المری ابنته- هشام بن إسماعیل المخزومی- و کان والی المدینه و خال هشام بن عبد الملک فرده- لأنه کان أبیض شدید البیاض- و کان عقیل أعرابیا جافیا غیورا مفرط الغیره- و قال
رددت صحیفه القرشی لما
أبت أعراقه إلا احمرارا
فرده لأنه توسم فیه أن بعض أعراقه ینزع إلى العجم- لما رأى من بیاض لونه و شقرته- . و منه قول جریر یذکر العجم-
یسموننا الأعراب و العرب اسمنا
و أسماؤهم فینا رقاب المزاود
و إنما یسمونهم رقاب المزاود لأنها حمراء- . و من کنایاتهم تعبیرهم عن المفاخره بالمساجله- و أصلها من السجل و هی الدلو الملیء- کان الرجلان یستقیان- فأیهما غلب صاحبه کان الفوز و الفخر له- قال الفضل بن العباس بن عتبه- بن أبی لهب بن عبد المطلب-
و أنا الأخضر من یعرفنی
أخضر الجلده من بیت العرب
من یساجلنی یساجل ماجدا
یملأ الدلو إلى عقد الکرب
برسول الله و ابنی عمه
و بعباس بن عبد المطلب
و یقال إن الفرزدق مر بالفضل- و هو ینشد من یساجلنی- فقال أنا أساجلکو نزع ثیابه- فقال الفضل برسول الله و ابن عمه- فلبس الفرزدق ثیابه- و قال أعض الله من یساجلک- بما نفت المواسی من بظر أمه- و رواها أبو بکر بن درید بما أبقت المواسی- . و قد نزل القرآن العزیز- على مخرج کلام العرب فی المساجله- فقال تبارک و تعالى- فَإِنَّ لِلَّذِینَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ- الذنوب الدلو و المراد ما ذکرناه- . و قال المبرد المراد بقوله و أنا الأخضر- أی الأسمر و الأسود- و العرب کانت تفتخر بالسمره و السواد- و کانت تکره الحمره و الشقره- و تقول إنهما من ألوان العجم- . و قال ابن درید- مراده أن بیتی ربیع أبدا مخصب کثیر الخیر- لأن الخصب مع الخضره- و قال الشاعر
قوم إذا اخضرت نعالهم
یتناهقون تناهق الحمر
أی إذا أعشبت الأرض اخضرت نعالهم من وطئهم إیاها- فأغار بعضهم على بعض- و التناهق هاهنا أصواتهم حین ینادون للغاره- و یدعو بعضهم بعضا- و نظیر هذا البیت قول الآخر-
قوم إذا نبت الربیع لهم
نبتت عداوتهم مع البقل
أی إذا أخصبوا و شبعوا غزا بعضهم بعضا- و مثله قول الآخر
یا ابن هشام أهلک الناس اللبن
فکلهم یغدو بسیف و قرن
أی تسفهوا لما رأوا من کثره اللبن و الخصب- فأفسدوا فی الأرض و أغار بعضهم على بعض- و القرن الجعبه- .و قیل لبعضهم- متى یخاف من شر بنی فلان فقال إذا ألبنوا- . و من الکنایات الداخله فی باب الإیماء قول الشاعر-
فتى لا یرى قد القمیص بخصره
و لکنما یوهی القمیص عواتقه
لما کان سلامه القمیص من الخرق- فی موضع الخصر تابعا لدقه الخصر- و وهنه فی الکاهل تابعا لعظم الکاهل- ذکر ما دل بهما على دقه خصر هذا الممدوح و عظم کاهله- و منه قول مسلم بن الولید-
فرعاء فی فرعها لیل على قمر
على قضیب على حقف النقا الدهس
کأن قلبی وشاحاها إذا خطرت
و قلبها قلبها فی الصمت و الخرس
تجری محبتها فی قلب عاشقها
مجرى السلامه فی أعضاء منتکس
فلما کان قلق الوشاح تابعا لدقه الخصر- ذکره دالا به علیه- . و من هذا الباب قول القائل-
إذا غرد المکاء فی غیر روضه
فویل لأهل الشاء و الحمرات
أومأ بذلک إلى الجدب لأن المکاء یألف الریاض- فإذا أجدبت الأرض سقط فی غیر روضه و غرد- فالویل حینئذ لأهل الشاء و الحمر- . و منه قول القائل-
لعمری لنعم الحی حی بنی کعب
إذا جعل الخلخال فی موضع القلب
القلب السوار- یقول نعم الحی هؤلاء إذا ریع الناس و خافوا- حتى إن المرأه لشده خوفها تلبس الخلخال مکان السوار- فاختصر الکلام اختصارا شدیدا- . و منه قول الأفوه الأودی-
إن بنی أود هم ما هم
للحرب أو للجدب عام الشموس
أشار إلى الجدب و قله السحب و المطر- أی الأیام التی کلها أیام شمس و صحو- لا غیم فیها و لا مطر- . فقد ذکرنا من الکنایات و التعریضات- و ما یدخل فی ذلک و یجری مجراه من باب الإیماء و الرمز- قطعه صالحه- و سنذکر شیئا آخر من ذلک فیما بعد إن شاء الله تعالى- إذا مررنا فی شرح کلامه ع بما یقتضیه و یستدعیه
حقیقه الکنایه و التعریض و الفرق بینهما
و قد کنا وعدنا أن نذکر کلاما کلیا- فی حقیقه الکنایه و التعریض و الفرق بینهما- فنقول الکنایه قسم من أقسام المجاز- و هو إبدال لفظه عرض فی النطق بها- مانع بلفظه لا مانع عن النطق بها- کقوله ع قرارات النساء- لما وجد الناس قد تواضعوا- على استهجان لفظه أرحام النساء- . و أما التعریض فقد یکون بغیر اللفظ- کدفع أسماء بن خارجه الفص الفیروز الأزرق- من یده إلى ابن معکبر الضبی ادکارا له بقول الشاعر-
کذا کل ضبی من اللؤم أزرق
فالتعریض إذا هو التنبیه بفعل أو لفظ- على معنى اقتضت الحال العدول عن التصریح به- . و أنا أحکی هاهنا کلام نصر الله بن محمد بن الأثیر الجزری- فی کتابه المسمى بالمثل السائر فی الکنایه و التعریض- و أذکر ما عندی فیه قال- خلط أرباب هذه الصناعه الکنایه بالتعریض- و لم یفصلوا بینهما- فقال ابن سنان إن قول إمرئ القیس-
فصرنا إلى الحسنى و رق کلامنا
و رضت فذلت صعبه أی إذلال
من باب الکنایه و الصحیح أنه من باب التعریض- . قال و قد قال الغانمی و العسکری و ابن حمدون- و غیرهم نحو ذلک- و مزجوا أحد القسمین بالآخر- . قال و قد حد قوم الکنایه- فقالوا هی اللفظ الدال على الشیء- بغیر الوضع الحقیقی- بوصف جامع بین الکنایه و المکنى عنه کاللمس و الجماع- فإن الجماع اسم لموضوع حقیقی و اللمس کنایه عنه- و بینهما وصف جامع إذ الجماع لمس و زیاده- فکان دالا علیه بالوضع المجازی- . قال و هذا الحد فاسد- لأنه یجوز أن یکون حدا للتشبیه و المشبه- فإن التشبیه هو اللفظ الدال على الوضع الحقیقی- الجامع بین المشبه و المشبه به فی صفه من الأوصاف- أ لا ترى إذا قلنا زید أسد- کان ذلک لفظا دالا على غیر الوضع الحقیقی- بوصف جامع بین زید و الأسد- و ذلک الوصف هو الشجاعه- . قال و أما أصحاب أصول الفقه- فقالوا فی حد الکنایه إنها اللفظ المحتمل- و معناه أنها اللفظ الذی یحتمل الدلاله على المعنى- و على خلافه- .
و هذا منقوض بالألفاظ المفرده المشترکه- و بکثیر من الأقوال المرکبه المحتمله للشیء و خلافه- و لیست بکنایات- . قال و عندی أن الکنایات لا بد أن یتجاذبها جانبا- حقیقه و مجاز- و متى أفردت جاز حملها على الجانبین معا- أ لا ترى أن اللمس فی قوله سبحانه أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ-یجوز حمله على الحقیقه و المجاز- و کل منهما یصح به المعنى و لا یختل- و لهذا قال الشافعی- إن ملامسه المرأه تنقض الوضوء و الطهاره- .
و ذهب غیره إلى أن المراد باللمس فی الآیه الجماع- و هو الکنایه المجازیه- فکل موضع یرد فیه الکنایه فسبیله هذا السبیل- و لیس التشبیه بهذه الصوره- و لا غیره من أقسام المجاز- لأنه لا یجوز حمله إلا على جانب المجاز خاصه- و لو حمل على جانب الحقیقه لاستحال المعنى- أ لا ترى أنا إذا قلنا زید أسد- لم یصح أن یحمل إلا على الجهه المجازیه- و هی التشبیه بالأسد فی شجاعته- و لا یجوز حمله على الجهه الحقیقیه- لأن زیدا لا یکون سبعا ذا أنیاب و مخالب- فقد صار إذن حد الکنایه أنها اللفظ الدال على معنى- یجوز حمله على جانبی الحقیقه و المجاز- بوصف جامع بین الحقیقه و المجاز- . قال و الدلیل على ذلک أن الکنایه فی أصل الوضع- أن تتکلم بشیء و ترید غیره یقال کنیت بکذا عن کذا- فهی تدل على ما تکلمت به- و على ما أردته من غیره- فلا یخلو إما أن یکون فی لفظ- تجاذبه جانبا حقیقه و حقیقه- أو فی لفظ تجاذبه جانبا مجاز و مجاز- أو فی لفظ لا یتجاذبه أمر- و لیس لنا قسم رابع- . و الثانی باطل لأن ذاک هو اللفظ المشترک- فإن أطلق من غیر قرینه مخصصه کان مبهما غیر مفهوم- و إن کان معه قرینه صار مخصصا لشیء بعینه- و الکنایه أن تتکلم بشیء و ترید غیره- و ذلک مخالف للفظ المشترک إذا أضیف إلیه القرینه- لأنه یختص بشیء واحد بعینه- و لا یتعداه إلى غیره- و الثالث باطل أیضا- لأن المجاز لا بد له من حقیقه ینقل عنها- لأنه فرع علیها- .
و ذلک اللفظ الدال على المجاز- إما أن یکون للحقیقه شرکه فی الدلاله علیه- أو لا یکون لها شرکه فی الدلاله علیه- کان اللفظ الواحد قد دل على ثلاثه أشیاء- أحدها الحقیقه و الآخران المجازان- . و هذا مخالف لأصل الوضع- لأن أصل الوضع أن تتکلم بشیء و أنت ترید غیره- و هاهنا یکون قد تکلمت بشیء و أنت ترید شیئین غیرین- و إن لم یکن للحقیقه شرکه فی الدلاله- کان ذلک مخالفا لأصل الوضع أیضا- إذ أصل الوضع أن تتکلم بشیء و أنت ترید غیره- فیکون الذی تکلمت به دالا على غیره- و إذا أخرجت الحقیقه عن أن یکون لها شرکه فی الدلاله- لم یکن الذی تکلمت به- و هذا محال- فثبت إذن أن الکنایه هی أن تتکلم بالحقیقه- و أنت ترید المجاز- . قال و هذا مما لم یسبقنی إلیه أحد- . ثم قال قد یأتی من الکلام ما یجوز أن یکون کنایه- و یجوز أن یکون استعاره- و یختلف ذلک باختلاف النظر إلیه بمفرده- و النظر إلى ما بعده- کقول نصر بن سیار فی أبیاته المشهوره- التی یحرض بها على بنی أمیه عند خروج أبی مسلم-
أرى خلل الرماد و میض جمر
و یوشک أن یکون له ضرام
فإن النار بالزندین توری
و إن الحرب أولها کلام
أقول من التعجب لیت شعری
أ أیقاظ أمیه أم نیام
فالبیت الأول لو ورد بمفرده لکان کنایه- لأنه لا یجوز حمله على جانبی الحقیقه و المجاز- فإذا نظرنا إلى الأبیات بجملتها- کان البیت الأول المذکور استعاره لا کنایه- . ثم أخذ فی الفرق بین الکنایه و التعریض- فقال التعریض هو اللفظ الدال على الشیء- من طریق المفهوم- لا بالوضع الحقیقی و لا بالمجازی- فإنک إذا قلت لمن تتوقع معروفه و صلته بغیر طلب- أنا محتاج و لا شیء فی یدی- و أنا عریان و البرد قد آذانی- فإن هذا و أشباهه تعریض بالطلب- و لیس اللفظ موضوعا للطلب لا حقیقه و لا مجازا- و إنما یدل علیه من طریق المفهوم- بخلاف قوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ- و على هذا ورد تفسیر التعریض فی خطبه النکاح- کقولک للمرأه أنت جمیله أو إنک خلیه و أنا عزب- فإن هذا و شبهه لا یدل على طلب النکاح- بالحقیقه و لا بالمجاز- و التعریض أخفى من الکنایه- لأن دلاله الکنایه وضعیه من جهه المجاز- و دلاله التعریض من جهه المفهوم المرکب- و لیست وضعیه- و إنما یسمى التعریض تعریضا لأن المعنى فیه یفهم من عرض اللفظ المفهوم- أی من جانبه- .
قال و اعلم أن الکنایه تشتمل على اللفظ المفرد- و اللفظ المرکب- فتأتی على هذا مره و على هذا أخرى- و أما التعریض فإنه یختص باللفظ المرکب- و لا یأتی فی اللفظ المفرد البته- لأنه لا یفهم المعنى فیه من جهه الحقیقه- و لا من جهه المجاز- بل من جهه التلویح و الإشاره- و هذا أمر لا یستقل به اللفظ المفرد- و یحتاج فی الدلاله علیه إلى اللفظ المرکب- . قال فقد ظهر فیما قلنا فی البیت- الذی ذکره ابن سنان مثال الکنایه- و مثال التعریض هو بیت إمرئ القیس- لأن غرض الشاعر منه أن یذکر الجماع- إلا أنه لم یذکره بل ذکر کلاما آخر- ففهم الجماع من عرضه- لأن المصیر إلى الحسنى و رقه الکلام- لا یدلان على الجماع لا حقیقه و لا مجازا- . ثم ذکر أن من باب الکنایه قوله سبحانه- أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِیَهٌ بِقَدَرِها- فَاحْتَمَلَ السَّیْلُ زَبَداً رابِیاً- وَ مِمَّا یُوقِدُونَ عَلَیْهِ فِی النَّارِ… الآیه- قال کنى بالماء عن العلم و بالأودیه عن القلوب- و بالزبد عن الضلال- . قال و قد تحقق ما اخترعناه و قدرناه من هذه الآیه- لأنه یجوز حملها على جانب الحقیقه- کما یجوز حملها على جانب المجاز- . قال و قد أخطأ الفراء- حیث زعم أن قوله سبحانه و تعالى- وَ إِنْ کانَ مَکْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ- کنایه عن أمر النبی ص و أنه کنى عنه بالجبال- قال و وجه الخطأ أنه لا یجوز- أن یتجاذب اللفظ هاهنا جانبا الحقیقه و المجاز- لأن مکرهم لم یکن لتزول منه الجبال الحقیقیه- فالآیه إذا من باب المجاز لا من باب الکنایه- .
قال و من الکنایات المستحسنهقوله ع للحادی بالنساء یا أنجشه رفقا بالقواریر- . و قول امرأه لرجل قعد منها مقعد القابله- لا یحل لک أن تفض الخاتم إلا بحقه- . و قول بدیل بن ورقاء الخزاعی لرسول الله ص- إن قریشا قد نزلت على ماء الحدیبیه- معها العوذ المطافیل و إنهم صادوک عن البیت- . قال فهذه کنایه عن النساء و الصبیان- لأن العوذ المطافیل- الإبل الحدیثات النتاج و معها أولادها- .
و من الکنایه ما ورد فی شهاده الزنا- أن یشهد علیه برؤیه المیل فی المکحله- .و منها قول عمر لرسول الله ص هلکت یا رسول الله قال و ما أهلکک- قال حولت رحلی البارحه- قال أشار بذلک إلى الإتیان فی غیر المأتی- . و منها قول ابن سلام لمن رأى علیه ثوبا معصفرا- لو أن ثوبک فی تنور أهلک لکان خیرا لک- . قال و من الکنایات المستقبحه قول الرضی یرثی امرأه-إن لم تکن نصلا فغمد نصول- لأن الوهم یسبق فی هذا الموضع إلى ما یقبح- و إنما سرقه من قول الفرزدق فی امرأته- و قد ماتت بجمع-
و جفن سلاح قد رزئت فلم أنح
علیه و لم أبعث علیه البواکیا
و فی جوفه من دارم ذو حفیظه
لو أن المنایا أخطأته لیالیا
فأخذه الرضی فأفسده و لم یحسن تصریفه- . قال فأما أمثله التعریض فکثیره- منها قوله تعالى فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ- ما نَراکَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا- وَ ما نَراکَ اتَّبَعَکَ إِلَّا الَّذِینَ هُمْ أَراذِلُنا بادِیَ الرَّأْیِ- وَ ما نَرى لَکُمْ عَلَیْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّکُمْ کاذِبِینَ- فقوله ما نَراکَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا تعریض- بأنهم أحق بالنبوه- و أن الله تعالى لو أراد أن یجعلها فی واحد من البشر- لجعلها فیهم- فقالوا هب إنک واحد من الملأ و موازیهم فی المنزله- فما جعلک أحق بالنبوه منهم- أ لا ترى إلى قوله وَ ما نَرى لَکُمْ عَلَیْنا مِنْ فَضْلٍ- . هذه خلاصه ما ذکره ابن الأثیر فی هذا الباب- . و اعلم أنا قد تکلمنا علیه فی کثیر من هذا الموضع- فی کتابنا الذی أفردناه للنقض علیه- و هو الکتاب المسمى بالفلک الدائر على المثل السائر- فقلنا أولا أنه اختار حد الکنایه- و شرع یبرهن على التحدید و الحدود لا یبرهن علیها- و لا هی من باب الدعاوی التی تحتاج إلى الأدله- لأن من وضع لفظ الکنایه لمفهوم مخصوص- لا یحتاج إلى دلیل- کمن وضع لفظ الجدار للحائط لا یحتاج إلى دلیل- .
ثم یقال له لم قلت- إنه لا بد من أن یتردد لفظ الکنایه- بین محملی حقیقه و مجاز- و لم لا یتردد بین مجازین- و ما استدللت به على ذلک لا معنى له…- . أما أولا فلأنک أردت أن تقول- إما أن تکون للفظه الداله على المجازین شرکه- فی الدلاله على الحقیقه- أو لا یکون لها فی الدلاله على الحقیقه شرکه- لأن کلامک هکذا یقتضی- و لا ینتظم إلا إذا قلت هکذا فلم تقله- و قلت إما أن یکون للحقیقه شرکه- فیاللفظ الدال على المجازین- و هذا قلب للکلام الصحیح و عکس له- .
و أما ثانیا فلم قلت- إنه لا یکون للفظه الداله على المجازین شرکه- فی الدلاله على الحقیقه التی هی أصل لهما- فأما قولک هذا- فیقتضی أن یکون الإنسان متکلما بشیء- و هو یرید شیئین غیره- و أصل الوضع أن یتکلم بشیء و هو یرید غیره- فلیس معنى قولهم الکنایه أن تتکلم بشیء- و أنت ترید غیره- أنک ترید شیئا واحدا غیره- کلا لیس هذا هو المقصود- بل المقصود أن تتکلم بشیء و أنت ترید ما هو مغایر له- و إن أردت شیئا واحدا- أو شیئین أو ثلاثه أشیاء أو ما زاد- فقد أردت ما هو مغایر له- لأن کل مغایر لما دل علیه ظاهر لفظک- فلیس فی لفظه غیر ما یقتضی الوحده و الإفراد- .
و أما ثالثا فلم لا یجوز- أن یکون للفظ الدال على المجازین شرکه- فی الدلاله على الحقیقه أصلا- بل یدل على المجازین فقط- فأما قولک إذا خرجت الحقیقه- عن أن یکون لها فی ذلک شرکه- لم یکن الذی تکلمت به دالا على ما تکلمت به- و هو محال- و مرادک بهذا الکلام المقلوب- أنه إذا خرجت اللفظه- عن أن یکون لها شرکه- فی الدلاله على الحقیقه- التی هی موضوعه لها فی الأصل- لم یکن ما تکلم به الإنسان دالا- على ما تکلم به و هو حقیقه- و لا دالا أیضا على ما تکلم به و هو مجاز- لأنه إذا لم یدل على الحقیقه و هی الأصل- لم یجز أن یدل على المجاز الذی هو الفرع- لأن انتفاء الدلاله على الأصل- یوجب انتفاء الدلاله على الفرع- و هکذا یجب أن یتأول استدلاله- و إلا لم یکن له معنى محصل- لأن اللفظ هو الدال على مفهوماته- و لیس المفهوم دالا على اللفظ- و لا له شرکه فی الدلاله علیه- و لا على مفهوم آخر- یعترض اللفظ بتقدیر انتقال اللفظ- اللهم إلا أن یکون دلاله عقلیه- و کلامنا فی الألفاظ و دلالتها- .
فإذا أصلحنا کلامه على ما ینبغی- قلنا له فی الاعتراض علیه- لم قلت إنه إذا خرج اللفظ- عن أن یکون له شرکه فی الدلاله على الحقیقه- لم یکن ما تکلم به الإنسان دالا على ما تکلم به- و لم لا یجوز أن یکون للحقیقه مجازان- قد کثر استعمالهما حتى نسیت تلک الحقیقه- فإذا تکلم الإنسان بذلک اللفظ- کان دالا به على أحد ذینک المجازین- و لا یکون له تعرض ما بتلک الحقیقه- فلا یکون الذی تکلم به غیر دال على ما تکلم به- لأن حقیقه تلک اللفظه قد صارت ملغاه منسیه- فلا یکون عدم إرادتها موجبا- أن یکون اللفظ الذی یتکلم به المتکلم- غیر دال على ما تکلم به- لأنها قد خرجت بترک الاستعمال- عن أن تکون هی ما تکلم به المتکلم- . ثم یقال إنک منعت أن یکون قولنا زید أسد کنایه- و قلت لأنه لا یجوز أن یحمل أحد هذا اللفظ- على أن زیدا هو السبع ذو الأنیاب و المخالب- و منعت من قول الفراء إن الجبال فی قوله- لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ- کنایه عن دعوه محمد ص و شریعته- لأن أحدا لا یعتقد و لا یتصور- أن مکر البشر یزیل الجبال الحقیقیه عن أماکنها- و منعت من قول من قال إن قول الشاعر-
و لو سکتوا أثنت علیک الحقائب
من باب الکنایه- لأن أحدا لا یتصور أن الحقائب و هی جمادات تثنی و تشکر- . و قلت لا بد أن یصح حمل لفظ الکنایه- على محملی الحقیقه و المجاز- ثم قلت إنقول عبد الله بن سلام لصاحب الثوب المعصفر- لو أنک جعلت ثوبک فی تنور أهلک کنایه- و قول الرضی فی امرأه ماتتإن لم تکن نصلا فغمد نصول- کنایه و إن کانت مستقبحه-و قول النبی ص یا أنجشه رفقا بالقواریر- و هو یحدو بالنساء کنایه- فهل یجیز عاقل قط أو یتصور فی الأذهان- أن تکون المرأه غمدا للسیف- و هل یحمل أحد قط قوله للحادی رفقا بالقواریر- على أنه یمکن أن یکون نهاه عن العنف بالزجاج- أو یحمل أحد قط قول ابن سلام- على أنه أراد إحراق الثوب بالنار- أو یحمل قط أحد قوله المیل فی المکحله على حقیقتها- أو یحمل قط أحد قوله لا یحل لک فض الخاتم على حقیقته- و هل یشک عاقل قط فی أن هذه الألفاظ- لیست دائره بین المحملین- دوران اللمس و الجماع و المصافحه- و هذه مناقضه ظاهره و لا جواب عنها- إلا بإخراج هذه المواضع من باب الکنایه- أو بحذف ذلک الشرط الذی اشترطته فی حد الکنایه- .
فأما ما ذکره حکایه عن غیره فی حد الکنایه- بأنها اللفظ الدال على الشیء بغیر الوضع الحقیقی- بوصف جامع بین الکنایه و المکنى عنه- و قوله هذا الحد هو حد التشبیه- فلا یجوز أن یکون حد الکنایه- . فلقائل أن یقول إذا قلنا زید أسد- کان ذلک لفظا دالا على غیر الوضع الحقیقی- و ذلک المدلول هو بعینه- الوصف المشترک بین المشبه و المشبه به- أ لا ترى أن المدلول هو الشجاعه- و هی المشترک بین زید و الأسد- و أصحاب الحد قالوا فی حدهم- الکنایه هی اللفظ الدال على الشیء- بغیر الوضع الحقیقی- باعتبار وصف جامع بینهما- فجعلوا المدلول أمرا و الوصف الجامع أمرا آخر- باعتباره وقت الدلاله- أ لا ترى أن لفظ لامَسْتُمُ یدل على الجماع- الذی لم یوضع لفظ لامَسْتُمُ له- و إنما یدل علیه باعتبار أمر آخر- هو کون الملامسه مقدمه الجماع و مفضیه إلیه فقد تغایر إذن حد التشبیه و حد الکنایه- و لم یکن أحدهما هو الآخر- .
فأما قوله إن الکنایه قد تکون بالمفردات- و التعریض لا یکون بالمفردات فدعوى- و ذلک أن اللفظ المفرد لا ینتظم منه فائده- و إنما تفید الجمله المرکبه من مبتدأ و خبر- أو من فعل و فاعل- و الکنایه و التعریض فی هذا الباب سواء- و أقل ما یمکن أن یقید فی الکنایه قولک لامست هندا- و کذلک أقل ما یمکن أن یفید فی التعریض أنا عزب- کما قد ذکره هو فی أمثله التعریض- فإن قال أردت أنه قد یقال- اللمس یصلح أن یکنى به عن الجماع- و اللمس لفظ مفرد- قیل له و قد یقال- التعزب یصلح أن یعرض به فی طلب النکاح- .
فأما قوله إن بیت نصر بن سیار- إذا نظر إلیه لمفرده صلح أن یکون کنایه- و إنما یخرجه عن کونه کنایه- ضم الأبیات التی بعده إلیه- و یدخله فی باب الاستعاره- فلزم علیه أن یخرج قول عمر حولت رحلی عن باب الکنایه- بما انضم إلیه من قوله هلکت-و بما أجابه رسول الله ص من قوله أقبل و أدبر و اتق الدبر و الحیضه- و بقرینه الحال- و کان یجب إلا تذکر هذه اللفظه فی أمثله الکنایات- .
فأما بیت إمرئ القیس فلا وجه لإسقاطه- من باب الکنایه- و إدخاله فی باب التعریض- إلا فیما اعتمد علیه- من أن من شرط الکنایه أن یتجاذبها جانبا حقیقه و مجاز- و قد بینا بطلان اشتراط ذلک فبطل ما یتفرع علیه- . و أما قول بدیل بن ورقاء معها العوذ المطافیل- فإنه لیس بکنایه عن النساء و الأولاد کما زعم- بل أراد به الإبل و نتاجها-
فإن کتب السیر کلها متفقه- على أن قریشا- لم یخرج معها فی سنه الحدیبیه نساؤها و أولادها- و لم یحارب رسول الله ص قوما- أحضروا معهم نساءهم و أولادهم- إلا هوازن یوم حنین- و إذا لم یکن لهذا الوجه حقیقه و لا وجود- فقد بطل حمل اللفظ علیه- . فأما ما زرى به على الرضی رحمه الله تعالى من قوله-إن لم تکن نصلا فغمد نصول- و قوله هذا مما یسبق الوهم فیه إلى ما یستقبح- و استحسانه شعر الفرزدق- و قوله إن الرضی أخذه منه فأساء الأخذ- فالوهم الذی یسبق إلى بیت الرضی- یسبق مثله إلى بیت الفرزدق- لأنه قد جعل هذه المرأه جفن السلاح- فإن کان الوهم یسبق هناک إلى قبیح- فهاهنا أیضا یسبق إلى مثله- .
و أما الآیه التی مثل بها على التعریض- فإنه قال إن قوله تعالى ما نَراکَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا- تعریض بأنهم أحق بالنبوه منه- و لم یبین ذلک و إنما قال فحوى الکلام أنهم قالوا له- هب إنک واحد من الملإ و موازیهم فی المنزله- فما جعلک أحق بالنبوه منهم- أ لا ترى إلى قوله وَ ما نَرى لَکُمْ عَلَیْنا مِنْ فَضْلٍ- و هذا الکلام لا یقتضی ما ادعاه أولا من التعریض- لأنه ادعى أن قوله ما نَراکَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا- تعریض بأنهم أحق بالنبوه منه- و ما قرره به یقتضی مساواته لهم- و لا یقتضی کونهم أحق بالنبوه منه- فبطل دعوى الأحقیه- التی زعم أن التعریض إنما کان بها- .
فأما قوله تعالى أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً- فَسالَتْ أَوْدِیَهٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّیْلُ زَبَداً- و قوله إن هذا من باب الکنایه- و إنه تعالى کنى به عن العلم و الضلال و قلوب البشر فبعید- و الحکیم سبحانه لا یجوز أن یخاطب قوما بلغتهم- فیعمی علیهم- و أن یصطلح هو نفسه على ألفاظ لا یفهمون المراد بها- و إنما یعلمها هو وحده- أ لا ترى أنه لا یجوز أن یحمل قوله تعالى- وَ لَقَدْ زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنْیا بِمَصابِیحَ- وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّیاطِینِ- على أنه أراد أنا زینا رءوس البشر- بالحواس الباطنه و الظاهره المجعوله فیها- و جعلناها بالقوى الفکریه و الخیالیه- المرکبه فی الدماغ- راجمه و طارده للشبه المضله- و إن من حمل کلام الحکیم سبحانه على ذلک- فقد نسبه إلى الإلغاز و التعمیه- و ذلک یقدح فی حکمته تعالى- و المراد بالآیه المقدم ذکرها ظاهرها- و المتکلف لحملها على غیرها سخیف العقل- و یؤکد ذلک قوله تعالى- وَ مِمَّا یُوقِدُونَ عَلَیْهِ فِی النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْیَهٍ- أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ- أ فترى الحکیم سبحانه یقول- إن للذهب و الفضه زبدا مثل الجهل و الضلال- و یبین ذلک قوله کَذلِکَ یَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ- فضرب سبحانه الماء الذی یبقى فی الأرض- فینتفع به الناس- و الزبد الذی یعلو فوق الماء- فیذهب جفاء مثلا للحق و الباطل- کما صرح به سبحانه فقال- کَذلِکَ یَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ- و لو کانت هذه الآیه من باب الکنایات- و قد کنى سبحانه بالأودیه عن القلوب- و بالماء الذی أنزله من السماء عن العلم- و بالزبد عن الضلال- لما جعل تعالى هذه الألفاظ أمثالا- فإن الکنایه خارجه عن باب المثل- و لهذا لا تقول إن قوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ- من باب المثل- و لهذا أفرد هذا الرجل فی کتابه بابا آخر- غیر باب الکنایه سماه باب المثل- و جعلهما قسمین متغایرین فی علم البیان- و الأمر فی هذاالموضع واضح- و لکن هذا الرجل کان یحب هذه الترهات- و یذهب وقته فیها- و قد استقصینا فی مناقضته و الرد علیه- فی کتابنا الذی أشرنا إلیه- . فأما قوله ع- کلما نجم منهم قرن قطع فاستعاره حسنه- یرید کلما ظهر منهم قوم استؤصلوا- فعبر عن ذلک بلفظه قرن- کما یقطع قرن الشاه إذا نجم- و قد صح إخباره ع عنهم أنهم لم یهلکوا بأجمعهم- فی وقعه النهروان- و أنها دعوه سیدعو إلیها قوم لم یخلقوا بعد- و هکذا وقع و صح إخباره ع أیضا- أنه سیکون آخرهم لصوصا سلابین- فإن دعوه الخوارج اضمحلت و رجالها فنیت- حتى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطاع طریق- متظاهرین بالفسوق و الفساد فی الأرض
مقتل الولید بن طریف الخارجی و رثاء أخته له
فممن انتهى أمره منهم إلى ذلک- الولید بن طریف الشیبانی- فی أیام الرشید بن المهدی- فأشخص إلیه یزید بن مزید الشیبانی فقتله- و حمل رأسه إلى الرشید و قالت أخته ترثیه- و تذکر أنه کان من أهل التقى و الدین- على قاعده شعراء الخوارج و لم یکن الولید کما زعمت-
أیا شجر الخابور ما لک مورقا
کأنک لم تجزع على ابن طریف
فتى لا یحب الزاد إلا من التقى
و لا المال إلا من قنا و سیوف
و لا الذخر إلا کل جرداء شطبه
و کل رقیق الشفرتین خفیف
فقدناک فقدان الربیع و لیتنا
فدیناک من ساداتنا بألوف
و قال مسلم بن الولید یمدح یزید بن مزید- و یذکر قتله الولید-
و المارق ابن طریف قد دلفت له
بعارض للمنایا مسبل هطل
لو أن شیئا بکى مما أطاف به
فاز الولید بقدح الناضل الخصل
ما کان جمعهم لما لقیتهم
إلا کرجل جراد ریع منجفل
فاسلم یزید فما فی الملک من أود
إذا سلمت و لا فی الدین من خلل
خروج ابن عمرو الخثعمی و أمره مع محمد بن یوسف الطائیثم خرج فی أیام المتوکل ابن عمرو الخثعمی بالجزیره- فقطع الطریق و أخاف السبیل و تسمى بالخلافه- فحاربه أبو سعید محمد بن یوسف الطائی الثغری الصامتی- فقتل کثیرا من أصحابه- و أسر کثیرا منهم و نجا بنفسه هاربا- فمدحه أبو عباده البحتری و ذکر ذلک فقال-
کنا نکفر من أمیه عصبه
طلبوا الخلافه فجره و فسوقا
و نلوم طلحه و الزبیر کلیهما
و نعنف الصدیق و الفاروقا
و نقول تیم أقربت و عدیها
أمرا بعیدا حیث کان سحیقا
و هم قریش الأبطحون إذا انتموا
طابوا أصولا فی العلا و عروقا
حتى غدت جشم بن بکر تبتغی
إرث النبی و تدعیه حقوقا
جاءوا براعیهم لیتخذوا به
عمدا إلى قطع الطریق طریقا
عقدوا عمامته برأس قناته
و رأوه برا فاستحال عقوقا
و أقام ینفذ فی الجزیره حکمه
و یظن وعد الکاذبین صدوقا
حتى إذا ما الحیه الذکر انکفى
من أرزن حربا یمج حریقا
غضبان یلقى الشمس منه بهامه
یعشى العیون تألقا و بروقا
أوفى علیه فظل من دهش
یظن البر بحرا و الفضاء مضیقا
غدرت أمانیه به و تمزقت
عنه غیابه سکره تمزیقا
طلعت جیادک من ربا الجودی قد
حملن من دفع المنون وسوقا
فدعا فریقا من سیوفک حتفهم
و شددت فی عقد الحدید فریقا
و مضى ابن عمرو قد أساء بعمره
ظنا ینزق مهره تنزیقا
فاجتاز دجله خائضا و کأنها
قعب على باب الکحیل أریقا
لو خاضها عملیق أو عوج إذا
ما جوزت عوجا و لا عملیقا
لو لا اضطراب الخوف فی أحشائه
رسب العباب به فمات غریقا
لو نفسته الخیل لفته ناظر
ملأ البلاد زلازلا و فتوقا
لثنى صدور الخیل تکشف کربه
و لوى رماح الخط تفرج ضیقا
و لبکرت بکر و راحت تغلب
فی نصر دعوته إلیه طروقا
حتى یعود الذئب لیثا ضیغما
و الغصن ساقا و القراره نیقا
هیهات مارس فلیقا متیقظا
قلقا إذا سکن البلید رشیقا
مستسلفا جعل الغبوق صبوحه
و مرى صبوح غد فکان غبوقا
و هذه القصیده من ناصع شعر البحتری و مختاره
ذکر جماعه ممن کان یرى رأی الخوارج
و قد خرج بعد هذین جماعه من الخوارج بأعمال کرمان- و جماعه أخرى من أهل عمان لا نباهه لهم- و قد ذکرهم أبو إسحاق الصابی فی الکتاب التاجی- و کلهم بمعزل عن طرائق سلفهم- و إنما وکدهم و قصدهم إخافه السبیل- و الفساد فی الأرض و اکتساب الأموال من غیر حلها- و لا حاجه لنا إلى الإطاله بذکرهم- و من المشهورین برأی الخوارج- الذین تم بهم صدق قول أمیر المؤمنین ع- إنهم نطف فی أصلاب الرجال و قرارات النساء- عکرمه مولى ابن عباس و مالک بن أنس الأصبحی الفقیه- یروى عنه أنه کان یذکر علیا ع و عثمان و طلحه و الزبیر- فیقول و الله ما اقتتلوا إلا على الثرید الأعفر- .
و منهم المنذر بن الجارود العبدی- و منهم یزید بن أبی مسلم مولى الحجاج- . و روی أن الحجاج أتی بامرأه من الخوارج- و بحضرته مولاه یزید بن أبی مسلم- و کان یستسر برأی الخوارج- فکلم الحجاج المرأه فأعرضت عنه- فقال لها یزید الأمیر ویلک یکلمک- فقالت بل الویل لک أیها الفاسق الردیء- و الردیء عند الخوارج- هو الذی یعلم الحق من قولهم و یکتمه- . و منهم صالح بن عبد الرحمن صاحب دیوان العراق- . و ممن ینسب إلى هذا الرأی من السلف- جابر بن زید و عمرو بن دینار و مجاهد- . و ممن ینسب إلیه بعد هذه الطبقه- أبو عبیده معمر بن المثنى التیمی- یقال إنه کان یرى رأی الصفریه- .
و منهم الیمان بن رباب و کان على رأی البیهسیه- و عبد الله بن یزید و محمد بن حرب و یحیى بن کامل- و هؤلاء إباضیه- . و قد نسب إلى هذا المذهب أیضا من قبل- أبو هارون العبدی و أبو الشعثاء و إسماعیل بن سمیع و هبیره بن بریم- .
و زعم ابن قتیبه أن ابن هبیره کان من غلاه الشیعه- . و نسب أبو العباس محمد بن یزید المبرد- إلى رأی الخوارج- لإطنابه فی کتاب المعروف ب الکامل فی ذکرهم- و ظهور المیل منه إلیهم
شرح نهج البلاغه(ابن أبی الحدید) ج ۵
بازدیدها: ۲۶۹