خطبه ۵۹ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(قال لما قتل الخوارج)

۵۹ و قال لما قتل الخوارج

و قیل له یا أمیر المؤمنین هلک القوم بأجمعهم: کَلَّا وَ اللَّهِ إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِی أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَ قَرَارَاتِ النِّسَاءِ- وَ کُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ- حَتَّى یَکُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلَّابِینَ نجم ظهر و طلع- قرارات النساء کنایه لطیفه عن الأرحام- . و من الکنایات اللطیفه الجاریه هذا المجرى- قوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ یعنی الجماع- . و قوله تعالى إِنَّ هذا أَخِی لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَهً- . و قوله شَهِدَ عَلَیْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ- یعنی الفروج-: و قول رسول الله ص للحادی- یا أنجشه رفقا بالقواریریعنی النساءالکنایه و الرموز و التعریض مع ذکر مثل منهاو الکنایه إبدال لفظه یستحى من ذکرها- أو یستهجن ذکرها أو یتطیر بها- و یقتضی الحال رفضها لأمر من الأمور- بلفظه لیس فیها ذلک المانع- و من هذا الباب قول إمرئ القیس-

سموت إلیها بعد ما نام أهلها
سمو حباب الماء حالا على حال‏

فقالت لک الویلات إنک فاضحی‏
أ لست ترى السمار و الناس أحوالی‏

فلما تنازعنا الحدیث و أسمحت
هصرت بغصن ذی شماریخ میال‏

فصرنا إلى الحسنى و رق کلامنا
و رضت فذلت صعبه أی إذلال‏

قوله فصرنا إلى الحسنى- کنایه عن الرفث و مقدمات الجماع- . و قال ابن قتیبه تمازح معاویه و الأحنف- فما رئی مازحان أوقر منهما- قال‏

معاویه یا أبا بحر ما الشی‏ء الملفف فی البجاد- فقال السخینه یا أمیر المؤمنین- و إنما کنى معاویه عن رمی بنی تمیم بالنهم و حب الأکل- بقول القائل

إذا ما مات میت من تمیم
فسرک أن یعیش فجی‏ء بزاد

بخبز أو بتمر أو بسمن‏
أو الشی‏ء الملفف فی البجاد

تراه یطوف فی الآفاق حرصا
لیأکل رأس لقمان بن عاد

و أراد الشاعر وطب اللبن- فقال الأحنف هو السخینه یا أمیر المؤمنین- لأن قریشا کانت تعیر بأکل السخینه قبل الإسلام- لأن أکثر زمانها کان زمان قحط- و السخینه ما یسخن بالنار و یذر علیه دقیق- و غلب ذلک على قریش حتى سمیت سخینه- قال حسان

زعمت سخینه أن ستغلب ربها
و لیغلبن مغالب الغلاب‏

فعبر کل واحد من معاویه و الأحنف عما أراده- بلفظ غیر مستهجن و لا مستقبح- و علم کل واحد منهما مراد صاحبه- و لم یفهم الحاضرون ما دار بینهما- و هذا من باب التعریض و هو قریب من الکنایه- . و من کنایات الکتاب العزیز أیضا قوله تعالى- وَ أَوْرَثَکُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِیارَهُمْ- وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها- کنى بذلک عن مناکح النساء- . و منها قوله تعالى- نِساؤُکُمْ حَرْثٌ لَکُمْ فَأْتُوا حَرْثَکُمْ أَنَّى شِئْتُمْ- کنى عن مواقع النسل بمواقع الحرث- .

و مما ورد فی الأخبار النبویه فی هذا الباب- الخبر الذی فیه- أن المرأه قالت للرجل القاعد منها مقعد القابله- لا یحل لک أن تفض الخاتم إلا بحقه- فقام عنها و ترکها- . و قد أخذ الصاحب بن عباد هذه اللفظه- فقال لأبی العلاء الأسدی الأصفهانی- و قد دخل بزوجه له بکر-

قلبی على الجمره یا أبا العلا
فهل فتحت الموضع المقفلا

و هل فضضت الکیس عن ختمه‏
و هل کحلت الناظر الأحولا

و أنشد الفرزدق فی سلیمان بن عبد الملک شعرا قال فیه-

دفعن إلی لم یطمثن قبلی
و هن أصح من بیض النعام‏

فبتن بجانبی مصرعات‏
و بت أفض أغلاق الختام‏

فاستنکر سلیمان ذلک و کان غیورا جدا- و قال له قد أقررت بالزنا فلأجلدنک- فقال یا أمیر المؤمنین إنی شاعر- و إن الله یقول فی الشعراء- وَ أَنَّهُمْ یَقُولُونَ ما لا یَفْعَلُونَ- و قد قلت ما لم أفعل قال سلیمان نجوت بها- .و من الأخبار النبویه أیضا: قوله ع فی الشهاده على الزنا- حتى تشاهد المیل فی المکحله: و منها قوله ع للمرأه التی استفتته- فی الذی استخلت له و لم یستطع جماعها- لا حتى تذوقی عسیلته و یذوق عسیلتک- .

و منها قول المرأه التی شکت إلى عائشه زوجها- أنه یطمح بصره إلى غیرها- إنی عزمت على أن أقید الجمل إشاره إلى ربطه- .
و منها قول عمر یا رسول الله هلکت- قال و ما أهلکک قال حولت رحلی- فقال ع أقبل و أدبر و اتق الحیضه- ففهم ص ما أراد- . و رأى عبد الله بن سلام على إنسان ثوبا معصفرا- فقال لو أن ثوبک فی تنور أهلک لکان خیرا لک- فذهب الرجل فأحرق ثوبه فی تنور أهله- و ظن أنه أراد الظاهر و لم یرد ابن سلام ذلک- و إنما أراد لو صرف ثمنه فی دقیق- یخبزه فی تنور أهله- .

و من ذلک قوله ص: إیاکم و خضراء الدمن- و الدمن جمع دمنه- و هی المزبله فیها البعر تنبت نباتا أخضر- و کنى بذلک عن المرأه الحسناء فی منبت السوء- . و من ذلک قولهم إیاک و عقیله الملح- لأن الدره تکون فی الماء الملح- و مرادهم النهی عن المرأه الحسناء و أهلها أهل سوء- . و من ذلک قولهم لبس له جلد النمر- و قلب له ظهر المجن- و قال أبو نواس

لا أذود الطیر عن شجر
قد بلوت المر من ثمره‏

و قد فسر قوم قوله تعالى- وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِراماً- فقالوا أراد و إذا عبروا عن اللفظ بما یقبح ذکره- کنوا عنه- فسمى التعبیر عن الشی‏ء مرورا به- و سمى الکنایه عنه کرما- . و من ذلک أن بنت أعرابیه صرخت- و قالت لسعتنی العقرب- فقالت أمها أین- فقالت موضع لا یضع الراقی فیه أنفه- کنت بذلک عن السوأه- . و من هذا الباب قوله سبحانه- مَا الْمَسِیحُ ابْنُ مَرْیَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ- وَ أُمُّهُ صِدِّیقَهٌ کانا یَأْکُلانِ الطَّعامَ- قال کثیر من المفسرین هو کنایه عن الغائط- لأنه یکون من الطعام فکنی عنه- إذا هو منه مسبب- کما کنوا عن السمه بالنار- فقالوا ما نار تلک أی ما سمتها- و منه قول الشاعر

قد وسموا آبالهم بالنار
و النار قد تشفی من الأوار

و هذا من أبیات المعانی یقول هم أهل عز و منعه- فسقى راعیهم إبلهم بالسمات التی على الإبل- و علم المزاحمون له فی الماء- أنه لا طاقه لهم بمنازعتهم علیه لعزهم- فکانت السمات سببا لسقیها- و الأوار العطش- فکنى سبحانه بقوله یَأْکُلانِ الطَّعامَ- عن إتیان الغائط- لما کان أکل الطعام سببا له- کما کنى الشاعر بالنار عن السمه- لما کانت النار سبب السمه- .

و من هذا الباب قوله سبحانه- وَ کَیْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى‏ بَعْضُکُمْ إِلى‏ بَعْضٍ- کنى بالإفضاء عن الجماع- .
و من الأحادیث النبویه: من کشف قناع امرأه وجب علیه مهرها
– کنى عن الدخول بها بکشف القناع- لأنه یکشف فی تلک الحاله غالبا- . و العرب تقول فی الکنایه عن العفه- ما وضعت مومسه عنده قناعا- و من حدیث عائشه کان رسول الله ص یصیب من رءوس نسائه و هو صائم- کنت بذلک عن القبله- . و من ذلک قوله تعالى- هُنَّ لِباسٌ لَکُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ- کنى بذلک عن الجماع و المخالطه- . و قال النابغه الجعدی-

إذا ما الضجیع ثنى عطفها
تثنت فکانت علیه لباسا

و قد کنت العرب عن المرأه بالریحان و بالسرحه- قال ابن الرقیات

لا أشم الریحان إلا بعینی
کرما إنما تشم الکلاب‏

أی أقنع من النساء بالنظر و لا أرتکب منهن محرما- . و قال حمید بن ثور الهلالی-

أبى الله إلا أن سرحه مالک
على کل أفنان العضاه تروق‏

فیا طیب ریاها و برد ظلالها
إذا حان من حامی النهار ودیق‏

و هل أنا إن عللت نفسی بسرحه
من السرح مسدود علی طریق‏

و السرحه الشجره- . و قال أعرابی و کنى عن امرأتین-

أیا نخلتی أود إذا کان فیکما
جنى فانظرا من تطعمان جناکما

و یا نخلتی أود إذا هبت الصبا
و أمسیت مقرورا ذکرت ذراکما

و من الأخبار النبویه قوله ع: من کان یؤمن بالله و الیوم الآخر- فلا یسقین ماءه زرع غیره- أراد النهی عن نکاح الحبائل- لأنه إذا وطئها فقد سقى ماءه زرع غیره- .

و قال ص لخوات بن جبیر- ما فعل جملک یا خوات یمازحه- فقال قیده الإسلام یا رسول الله- لأن خواتا فی الجاهلیه کان یغشى البیوت- و یقول شرد جملی و أنا أطلبه- و إنما یطلب النساء و الخلوه بهن- و خوات هذا هو صاحب ذات النحیین- . و من کنایات القرآن العزیز قوله تعالى- وَ لا یَأْتِینَ بِبُهْتانٍ یَفْتَرِینَهُ بَیْنَ أَیْدِیهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ- کنى بذلک عن الزنا- لأن الرجل یکون فی تلک الحال- بین یدی المرأه و رجلیها- . و منه فی الحدیث إذا قعد الرجل بین شعبها الأربع- .

و قد فسر قوم قوله تعالى وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَهَ الْحَطَبِ- عن النمیمه- و العرب تقول لمن ینم و یشی- یوقد بین الناس الحطب الرطب- . و قال الشاعر یذکر امرأه-

من البیض لم تصطد على خیل لامه
و لم تمش بین الناس بالحطب الرطب‏

أی لم تؤخذ على أمر تلام علیه- و لم تفسد بین الحی بالکذب و النمیمه- . و مما ورد نظیر ممازحه معاویه و الأحنف- من التعریضات- أن أبا غسان المسمعی مر بأبی غفار السدوسی- فقال یا غفار ما فعل الدرهمان- فقال لحقا بالدرهم أراد بالدرهمین قول الأخطل-

فإن تبخل سدوس بدرهمیها
فإن الریح طیبه قبول‏

و أراد الآخر قول بشار-

و فی جحدر لؤم و فی آل مسمع
صلاح و لکن درهم القوم کوکب‏

و کان محمد بن عقال المجاشعی عند یزید بن مزید الشیبانی- و عنده سیوف تعرض علیه- فدفع سیفا منها إلى ید محمد- فقال کیف ترى هذا السیف- فقال نحن أبصر بالتمر منا بالسیوف- أراد یزید قول جریر فی الفرزدق-

بسیف أبی رغوان سیف مجاشع
ضربت و لم تضرب بسیف ابن ظالم‏

ضربت به عند الإمام فأرعشت‏
یداک و قالوا محدث غیر صارم‏

و أراد محمد قول مروان بن أبی حفصه-

لقد أفسدت أسنان بکر بن وائل
من التمر ما لو أصلحته لمارها

و قال محمد بن عمیر بن عطاء التمیمی لشریک النمیری- و على یده صقر- لیس فی الجوارح أحب إلی من البازی- فقال شریک إذا کان یصید القطا- أراد محمد قول جریر

أنا البازی المطل على نمیر
أتیح من السماء لها انصبابا

و أراد شریک قول الطرماح-

تمیم بطرق اللؤم أهدى من القطا
و لو سلکت سبل المکارم ضلت‏

و دخل عبد الله بن ثعلبه المحاربی- على عبد الملک بن یزید الهلالی- و هو یومئذ والی أرمینیه- فقال له ما ذا لقینا اللیله من شیوخ محارب- منعونا النوم بضوضائهم و لغطهم- فقال عبد الله بن ثعلبه إنهم أصلح الله الأمیر- أضلوا اللیله برقعا فکانوا یطلبونه- أراد عبد الملک قول الشاعر-

تکش بلا شی‏ء شیوخ محارب
و ما خلتها کانت تریش و لا تبری‏

ضفادع فی ظلماء لیل تجاوبت‏
فدل علیها صوتها حیه البحر

و أراد عبد الله قول القائل-

لکل هلالی من اللؤم برقع
و لابن یزید برقع و جلال‏

و روى أبو بکر بن درید فی کتاب الأمالی- عن أبی حاتم عن العتبی عن أبیه- أنه عرض على معاویه فرس- و عنده عبد الرحمن بن الحکم بن أبی العاص- فقال کیف ترى هذا الفرس یا أبا مطرف- قال أراه أجش هزیما- قال معاویه أجل لکنه لا یطلع على الکنائن- قال یا أمیر المؤمنین- ما استوجبت منک هذا الجواب کله- قال قد عوضتک عنه عشرین ألفا- . قال أبو بکر بن درید- أراد عبد الرحمن التعریض بمعاویه- بما قاله النجاشی فی أیام صفین-

و نجا ابن حرب سابح ذو علاله
أجش هزیم و الرماح دوانی‏

إذا قلت أطراف الرماح تنوشه‏
مرته له الساقان و القدمان‏

فلم یحتمل معاویه منه هذا المزاح- و قال لکنه لا یطلع على الکنائن- لأن عبد الرحمن کان یتهم بنساء إخوته- . و روى ابن درید أیضا فی کتاب الأمالی- عن أبی حاتم النخعی- أن النجاشی دخل على معاویه- فقال له کیف قلت و نجا ابن حرب سابح- و قد علمت أن الخیل لا تجری بمثلی فرارا- قال إنما عنیت عتبه أخاک و عتبه جالس- فلم یقل معاویه و لا عتبه شیئا- .

و ورد إلى البصره غلام من بنی فقعس- کان یجلس فی المربد فینشد شعرا و یجمع الناس إلیه- فذکر ذلک للفرزدق فقال لأسوءنه- فجاء إلیه فسمع شیئا من شعره فحسده علیه- فقال ممن أنت قال من بنی فقعس- قال کیف ترکت القنان- فقال مقابل لصاف- فقال یا غلام هل أنجدت أمک قال بل أنجد أبی- . قال أبو العباس المبرد أراد الفرزدق قول الشاعر-

ضمن القنان لفقعس سوآتها
إن القنان لفقعس لمعمر

و القنان جبل فی بلاد فقعس- یرید أن هذا الجبل یستر سوآتهم- و أراد الغلام قول أبی المهوش-

و إذا یسرک من تمیم خله
فلما یسوءک من تمیم أکثر

أکلت أسید و الهجیم و دارم‏
أیر الحمار و خصیتیه العنبر

قد کنت أحسبهم أسود خفیه
فإذا لصاف یبیض فیه الحمر

و لصاف جبل فی بلاد بنی تمیم- و أراد بقوله هل أنجدت أمک- أی إن کانت‏

أنجدت فقد أصابها أبی فخرجت تشبهنی- فقال بل أنجد أبی یرید بل أبی أصاب أمک فوجدها بغیا- . قال عبد الله بن سوار- کنا على مائده إسحاق بن عیسى بن علی الهاشمی- فأتینا بحریره قد عملت بالسکر و السمن و الدقیق- فقال معد بن غیلان العبدی یا حبذا السخینه- ما أکلت أیها الأمیر سخینه ألذ من هذه- فقال إلا أنها تولد الریاح فی الجوف کثیرا- فقال إن المعایب لا تذکر على الخوان- . أراد معد ما کانت العرب تعیر به قریشا فی الجاهلیه- من أکل السخینه- و قد قدمنا ذکره- و أراد إسحاق بن عیسى ما یعیر به عبد القیس من الفسو- قال الشاعر

و عبد القیس مصفر لحاها
کان فساءها قطع الضباب‏

و کان سنان بن أحمس النمیری- یسایر الأمیر عمر بن هبیره الفزاری و هو على بغله له- فتقدمت البغله على فرس الأمیر- فقال اغضض بغلتک یا سنان- فقال أیها الأمیر إنها مکتوبه فضحک الأمیر- أراد عمر بن هبیره قول جریر-

فغض الطرف إنک من نمیر
فلا کعبا بلغت و لا کلابا

و أراد سنان قول ابن داره-

لا تأمنن فزاریا خلوت به
على قلوصک و اکتبها بأسیار

و کانت فزاره تعیر بإتیان الإبل- و لذلک قال الفرزدق یهجو عمر بن هبیره هذا- و یخاطب یزید بن عبد الملک-

أمیر المؤمنین و أنت بر
تقی لست بالجشع الحریص‏

أ أطعمت العراق و رافدیه‏
فزاریا أحذ ید القمیص‏

تفنق بالعراق أبو المثنى
و علم قومه أکل الخبیص‏

و لم یک قبلها راعی مخاض‏
لتأمنه على ورکی قلوص‏

الرافدان دجله و الفرات- و أحذ ید القمیص کنایه عن السرقه و الخیانه- و تفنق تنعم و سمن و جاریه فنق أی سمینه- . و البیت الآخر کنایه عن إتیان الإبل- الذی کانوا یعیرون به- . و روى أبو عبیده عن عبد الله بن عبد الأعلى قال- کنا نتغدى مع الأمیر عمر بن هبیره- فأحضر طباخه جام خبیص- فکرهه للبیت المذکور السابق- إلا أن جلده أدرکه- فقال ضعه یا غلام قاتل الله الفرزدق- لقد جعلنی أرى الخبیص فأستحی منه- . قال المبرد و قد یسیر البیت فی واحد- و یرى أثره علیه أبدا- کقول أبی العتاهیه فی عبد الله بن معن بن زائده-

فما تصنع بالسیف
إذا لم تک قتالا

فکسر حلیه السیف‏
و صغها لک خلخالا

و کان عبد الله بن معن إذا تقلد السیف و رأى من یرمقه- بان أثره علیه فظهر الخجل منه- . و مثل ذلک ما یحکى أن جریرا قال- و الله لقد قلت فی بنی تغلب بیتا- لو طعنوا بعدها بالرماح فی أستاههم ما حکوها- و هو

و التغلبی إذا تنحنح للقرى
حک استه و تمثل الأمثالا

و حکى أبو عبیده عن یونس قال- قال عبد الملک بن مروان یوما و عنده رجال- هل تعلمون أهل بیت قیل فیهم شعر- ودوا لو أنهم افتدوا منه بأموالهم- فقال أسماء بن خارجه الفزاری نحن یا أمیر المؤمنین- قال و ما هو قال قول الحارث بن ظالم المری-

و ما قومی بثعلبه بن سعد
و لا بفزاره الشعر الرقابا

فو الله یا أمیر المؤمنین- إنی لألبس العمامه الصفیقه- فیخیل لی أن شعر قفای قد بدا منها- .و قال هانئ بن قبیصه النمیری- نحن یا أمیر المؤمنین- قال و ما هو قال قول جریر-

فغض الطرف إنک من نمیر
فلا کعبا بلغت و لا کلابا

کان النمیری یا أمیر المؤمنین إذا قیل له ممن أنت- قال من نمیر- فصار یقول بعد هذا البیت من عامر بن صعصعه- . و مثل ذلک ما یروى أن النجاشی لما هجا بنی العجلان- بقوله

إذا الله عادى أهل لؤم و قله
فعادى بنی العجلان رهط ابن مقبل‏

قبیله لا یغدرون بذمه
و لا یظلمون الناس حبه خردل‏

و لا یردون الماء إلا عشیه
إذا صدر الوراد عن کل منهل‏

و ما سمی العجلان إلا لقوله‏
خذ القعب فاحلب أیها العبد و اعجل‏

فکان الرجل منهم إذا سئل عن نسبه یقول من بنی کعب- و ترک أن یقول عجلانی- . و کان عبد الملک بن عمیر القاضی یقول- و الله إن التنحنح و السعال لیأخذنی و أنا فی الخلاء- فأرده حیاء من قول القائل-

إذا ذات دل کلمته لحاجه
فهم بأن یقضى تنحنح أو سعل‏

و من التعریضات اللطیفه ما روی- أن المفضل بن محمد الضبی بعث بأضحیه هزیل إلى شاعر- فلما لقیه سأله عنها فقال کانت قلیله الدم- فضحک المفضل و قال مهلا یا أبا فلان- أراد الشاعر قول القائل-

و لو ذبح الضبی بالسیف لم تجد
من اللؤم للضبی لحما و لا دما

و روى ابن الأعرابی فی الأمالی قال- رأى عقال بن شبه بن عقال المجاشعی- على إصبع ابن عنبس وضحا- فقال ما هذا البیاض على إصبعک یا أبا الجراح- فقال سلح النعامه یا ابن أخی- أراد قول جریر

فضح العشیره یوم یسلح قائما
سلح النعامه شبه بن عقال‏

و کان شبه بن عقال قد برز یوم الطوانه- مع العباس بن الولید بن عبد الملک إلى رجل من الروم- فحمل علیه الرومی فنکص و أحدث- فبلغ ذلک جریرا بالیمامه فقال فیه ذلک- . و لقی الفرزدق مخنثا یحمل قماشه- کأنه یتحول من دار إلى دار- فقال أین راحت عمتنا- فقال قد نفاها الأغر یا أبا فراس- یرید قول جریر فی الفرزدق-

نفاک الأغر ابن عبد العزیز
و حقک تنفى من المسجد

و ذلک أن الفرزدق ورد المدینه- و الأمیر علیها عمر بن عبد العزیز- فأکرمه حمزه بن عبد الله بن الزبیر و أعطاه- و قعد عنه عبد الله بن عمرو بن عفان و قصر به- فمدح الفرزدق حمزه بن عبد الله و هجا عبد الله فقال-

ما أنتم من هاشم فی سرها
فاذهب إلیک و لا بنی العوام‏

قوم لهم شرف البطاح و أنتم‏
وضر البلاط موطئوا الأقدام‏

فلما تناشد الناس ذلک بعث إلیه عمر بن عبد العزیز- فأمره أن یخرج عن المدینه- و قال له إن وجدتک فیها بعد ثلاث عاقبتک- فقال الفرزدق ما أرانی إلا کثمود حین قیل لهم- تَمَتَّعُوا فِی دارِکُمْ ثَلاثَهَ أَیَّامٍ- فقال جریر یهجوه-

نفاک الأغر ابن عبد العزیز
و حقک تنفى من المسجد

و سمیت نفسک أشقى ثمود
فقالوا ضللت و لم تهتد

و قد أجلوا حین حل العذاب
ثلاث لیال إلى الموعد

وجدنا الفرزدق بالموسمین‏
خبیث المداخل و المشهد

و حکى أبو عبیده- قال بینا نحن على أشراف الکوفه وقوف- إذ جاء أسماء بن خارجه الفزاری فوقف- و أقبل ابن مکعبر الضبی فوقف متنحیا عنه- فأخذ أسماء خاتما کان فی یده فصه فیروز أزرق- فدفعه إلى غلامه- و أشار إلیه أن یدفعه إلى ابن مکعبر- فأخذ ابن مکعبر شسع نعله فربطه بالخاتم- و أعاده إلى أسماء فتمازحا- و لم یفهم أحد من الناس ما أرادا- أراد أسماء بن خارجه قول الشاعر-

لقد زرقت عیناک یا ابن مکعبر
کذا کل ضبی من اللؤم أزرق‏

و أراد ابن مکعبر قول الشاعر-

لا تأمنن فزاریا خلوت به
على قلوصک و اکتبها بأسیار

و کانت فزاره تعیر بإتیان الإبل- و عیرت أیضا بأکل جردان الحمار- لأن رجلا منهم کان فی سفر فجاع- فاستطعم قوما فدفعوا إلیه جردان الحمار- فشواه و أکله- فأکثرت الشعراء ذکرهم بذلک- و قال الفرزدق

جهز إذا کنت مرتادا و منتجعا
إلى فزاره عیرا تحمل الکمرا

إن الفزاری لو یعمى فیطعمه‏
أیر الحمار طبیب أبرأ البصرا

إن الفزاری لا یشفیه من قرم
أطایب العیر حتى ینهش الذکرا

و فی کتب الأمثال أنه اصطحب ثلاثه- فزاری و تغلبی و مری- و کان اسم التغلبی مرقمه- فصادوا حمارا و غاب عنهما الفزاری لحاجه- فقالوا نخبأ له جردانه نضحک منه- و أکلوا سائره- فلما جاء دفعا إلیه الجردان و قالا هذا نصیبک- فنهسه فإذا هو صلب- فعرف أنهم عرضوا له بما تعاب به فزاره- فاستل سیفه و قال لتأکلانه- و دفعه إلى مرقمه فأبى أن یأکله فضربه فقتله- فقال المری طاح مرقمه- قال و أنت إن لم تلقمه فأکله- . و ذکر أبو عبیده- أن إنسانا قال لمالک بن أسماء بن خارجه الفزاری- اقض دینی أیها الأمیر فإن علی دینا- قال ما لک عندی إلا ما ضرب به الحمار بطنه- فقال له عبید بن أبی محجن-بارک الله لکم یا بنی فزاره فی أیر الحمار- إن جعتم أکلتموه و إن أصابکم غرم قضیتموه به- . و یحکى أن بنی فزاره و بنی هلال بن عامر بن صعصعه- تنافروا إلى أنس بن مدرک الخثعمی و تراضوا به- فقالت بنو هلال أکلتم یا بنی فزاره أیر الحمار- فقالت بنو فزاره و أنتم مدرتم الحوض بسلحکم- فقضى أنس لبنی فزاره على بنی هلال- فأخذ الفزاریون منهم مائه بعیر- کانوا تخاطروا علیها- و فی مادر یقول الشاعر-

لقد جللت خزیا هلال بن عامر
بنی عامر طرا بسلحه مادر

فأف لکم لا تذکروا الفخر بعدها
بنی عامر أنتم شرار المعاشر

و ذکر أبو العباس محمد بن یزید المبرد- فی کتاب الکامل- أن قتیبه بن مسلم لما فتح سمرقند- أفضى إلى أثاث لم یر مثله- و آلات لم یسمع مثلها- فأراد أن یری الناس عظیم ما فتح الله علیه- و یعرفهم أقدار القوم الذین ظهر علیهم- فأمر بدار ففرشت- و فی صحنها قدور یرتقى إلیها بالسلالیم- فإذا بالحضین بن المنذر بن الحارث بن وعله الرقاشی- قد أقبل و الناس جلوس على مراتبهم- و الحضین شیخ کبیر- فلما رآه عبد الله بن مسلم- قال لأخیه قتیبه ائذن لی فی معاتبته- قال لا ترده فإنه خبیث الجواب- فأبى عبد الله إلا أن یأذن له- و کان عبد الله یضعف- و کان قد تسور حائطا إلى امرأه قبل ذلک- فأقبل على الحضین- فقال أ من الباب دخلت یا أبا ساسان- قال أجل أسن عمک عن تسورالحیطان- قال أ رأیت هذه القدور- قال هی أعظم من ألا ترى- قال ما أحسب بکر بن وائل رأى مثلها- قال أجل و لا عیلان- و لو رآها سمی شبعان و لم یسم عیلان- فقال عبد الله أ تعرف یا أبا ساسان الذی یقول-

عزلنا و أمرنا و بکر بن وائل
تجر خصاها تبتغی من تحالف‏

فقال أعرفه و أعرف الذی یقول-

فأدى الغرم من نادى مشیرا
و من کانت له أسرى کلاب‏

و خیبه من یخیب على غنی‏
و باهله بن أعصر و الرباب‏

فقال أ فتعرف الذی یقول-

کأن فقاح الأزد حول ابن مسمع
و قد عرقت أفواه بکر بن وائل‏

قال نعم و أعرف الذی یقول-

قوم قتیبه أمهم و أبوهم
لو لا قتیبه أصبحوا فی مجهل‏

قال أما الشعر فأراک ترویه- فهل تقرأ من القرآن شیئا قال نعم- أقرأ الأکثر الأطیب- هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِینٌ مِنَ الدَّهْرِ- لَمْ یَکُنْ شَیْئاً مَذْکُوراً-فأغضبه فقال و الله لقد بلغنی- أن امرأه الحضین حملت إلیه و هی حبلى من غیره- قال فما تحرک الشیخ عن هیأته الأولى- بل قال على رسله- و ما یکون تلد غلاما على فراشی- فیقال فلان ابن الحضین کما یقال عبد الله بن مسلم- فأقبل قتیبه على عبد الله و قال له لا یبعد الله غیرک- .

و غرضنا من هذه الحکایه الأدبیه المستحسنه- قول الحضین تعریضا بفاحشه عبد الله- أجل أسن عمک عن تسور الحیطان- . و یحکى أن أبا العیناء أهدى إلى أبی علی البصیر- و قد ولد له مولود حجرا- یذهب فی ذلک إلىقوله ع الولد للفراش و للعاهر الحجر- فاستخرج أبو علی ذلک بفطنته و ذکائه- ثم ولد بعد أیام لأبی العیناء مولود- فقال له فی أی وقت ولد لک- قال وقت السحر فقال اطرد قیاسه- و خرج فی الوقت الذی یخرج فیه أمثاله یعنى السؤال- یعرض بأن أبا العیناء شحاذ- و أن ولده خرج یشبهه- . و من التعریضات و الرموز بالفعل دون القول- ما ذکره مؤرج بن عمرو السدوسی فی کتاب الأمثال- أن الأحوص بن جعفر الکلابی أتاه آت من قومه- فقال أن رجلا لا نعرفه جاءنا- فلما دنا منا حیث نراه نزل عن راحلته- فعلق على شجره وطبا من لبن- و وضع فی بعض أغصانها حنظله- و وضع صره من تراب و حزمه من شوک- ثم أثار راحلته فاستوى علیها و ذهب- و کان أیام حرب تمیم و قیس عیلان- فنظر الأحوص فی ذلک فعی به- فقال أرسلوا إلى قیس بن زهیر- فأتوا قیسا فجاءوا به إلیه-

فقال له أ لم تک أخبرتنی أنه لا یرد علیک أمر- إلا عرفت ما فیه ما لم تر نواصی الخیل- قال ما خبرک فأعلمه- فقال قد بین الصبح لذی عینین- هذا رجل قد أخذت علیه العهود ألا یکلمکم- و لا یرسل إلیکم- و أنه قد جاء فأنذرکم- أما الحنظله فإنه یخبرکم أنه قد أتاکم بنو حنظله- و أما الصره من التراب- فإنه یزعم أنهم عدد کثیر- و أما الشوک فیخبرکم أن لهم شوکه- و أما الوطب فإنه یدلکم على قرب القوم و بعدهم- فذوقوه فإن کان حلیبا فالقوم قریب- و إن کان قارصا فالقوم بعید- و إن کان المسیخ لا حلوا و لا حامضا- فالقوم لا قریب و لا بعید- فقاموا إلى الوطب فوجدوه حلیبا- فبادروا الاستعداد- و غشیتهم الخیل فوجدتهم مستعدین- . و من الکنایات بل الرموز الدقیقه- ما حکی أن قتیبه بن مسلم دخل على الحجاج- و بین یدیه کتاب قد ورد إلیه من عبد الملک- و هو یقرؤه و لا یعلم معناه و هو مفکر- فقال ما الذی أحزن الأمیر- قال کتاب ورد من أمیر المؤمنین لا أعلم معناه- فقال إن رأى الأمیر إعلامی به فناوله إیاه- و فیه أما بعد فإنک سالم و السلام- . فقال قتیبه ما لی إن استخرجت لک ما أراد به- قال ولایه خراسان- قال إنه ما یسرک أیها الأمیر و یقر عینک- إنما أراد قول الشاعر-

یدیروننی عن سالم و أدیرهم
و جلده بین العین و الأنف سالم‏

أی أنت عندی مثل سالم عند هذا الشاعر- فولاه خراسان- . حکى الجاحظ فی کتاب البیان و التبیین- قال خطب الولید بن عبد الملک فقال-

أمیر المؤمنین عبد الملک قال- إن الحجاج جلده ما بین عینی و أنفی- ألا و إنی أقول إن الحجاج جلده وجهی کله- . و على ذکر هذا البیت حکی- أن رجلا کان یسقی جلساءه شرابا صرفا غیر ممزوج- و کان یحتاج إلى المزج لقوته فجعل یغنی لهم-

یدیروننی عن سالم و أدیرهم
و جلده بین العین و الأنف سالم‏

فقال له واحد منهم یا أبا فلان- لو نقلت ما من غنائک إلى شرابک- لصلح غناؤنا و نبیذنا جمیعا- . و یشبه حکایه قتیبه و الحجاج- کتاب عبد الملک إلى الحجاج- جوابا عن کتاب کتبه إلیه- یغلظ فیه أمر الخوارج- و یذکر فیه حال قطری و غیره و شده شوکتهم- فکتب إلیه عبد الملک- أوصیک بما أوصى به البکری زیدا و السلام- . فلم یفهم الحجاج ما أراد عبد الملک- فاستعلم ذلک من کثیر من العلماء بأخبار العرب- فلم یعلموه- فقال من جاءنی بتفسیره فله عشره آلاف درهم- و ورد رجل من أهل الحجاز یتظلم من بعض العمال- فقال له قائل أ تعلم ما أوصى به البکری زیدا- قال نعم أعلمه- فقیل له فأت الأمیر فأخبره و لک عشره آلاف درهم- فدخل علیه فسأله فقال نعم أیها الأمیر- إنه یعنى قوله

أقول لزید لا تترتر فإنهم
یرون المنایا دون قتلک أو قتلی‏

فإن وضعوا حربا فضعها و إن أبوا
فعرضه نار الحرب مثلک أو مثلی‏

و إن رفعوا الحرب العوان التی ترى
فشب وقود النار بالحطب الجزل‏

فقال الحجاج أصاب أمیر المؤمنین فیما أوصانی- و أصاب البکری فیما أوصى به زیدا- و أصبت أیها الأعرابی و دفع إلیه الدراهم- .و کتب إلى المهلب- أن أمیر المؤمنین أوصانی بما أوصى به البکری زیدا- و أنا أوصیک بذلک و بما أوصى به الحارث بن کعب بنیه- . فنظر المهلب فی وصیه الحارث بن کعب فإذا فیها- یا بنی کونوا جمیعا و لا تکونوا شیعا فتفرقوا- و بزوا قبل أن تبزوا- الموت فی قوه و عز خیر من الحیاه فی ذل و عجز- . فقال المهلب صدق البکری و أصاب- و صدق الحارث و أصاب- . و اعلم أن کثیرا مما ذکرناه داخل فی باب التعریض- و خارج عن باب الکنایه- و إنما ذکرناه لمشابهه الکنایه- و کونهما کالنوعین تحت جنس عام- و سنذکر کلاما کلیا فیهما- إذا انتهینا إلى آخر الفصل إن شاء الله- . و من الکنایات قول أبی نواس-

و ناظره إلی من النقاب
تلاحظنی بطرف مستراب‏

کشفت قناعها فإذا عجوز
مموهه المفارق بالخضاب‏

فما زالت تجشمنی طویلا
و تأخذ فی أحادیث التصابی‏

تحاول أن یقوم أبو زیاد
و دون قیامه شیب الغراب‏

أتت بجرابها تکتال فیه
فقامت و هی فارغه الجراب‏

و الکنایه فی البیت الأخیر و هی ظاهره- و منها قول أبی تمام-

ما لی رأیت ترابکم بئس الثرى
ما لی أرى أطوادکم تتهدم‏

فکنى ببئس الثرى عن تنکر ذات بینهم- و بتهدم الأطواد عن خفه حلومهم و طیش عقولهم- . و منها قول أبی الطیب-

و شر ما قنصته راحتی قنص
شهب البزاه سواء فیه و الرخم‏

کنى بذلک عن سیف الدوله- و أنه یساوی بینه و بین غیره من أراذل الشعراء- و خاملیهم فی الصله و القرب- . و قال الأقیشر لرجل ما أراد الشاعر بقوله-
و لقد غدوت بمشرف یافوخه
مثل الهراوه ماؤه یتفصد

أرن یسیل من المراح لعابه‏
و یکاد جلد إهابه یتقدد

قال إنه یصف فرسا فقال حملک الله على مثله- و هذان البیتان من لطیف الکنایه و رشیقها- و إنما عنى العضو- . و قریب من هذه الکنایه قول سعید بن عبد الرحمن بن حسان- و هو غلام یختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب- ولد هشام بن عبد الملک- و قد جمشه عبد الصمد فأغضبه- فدخل إلى هشام فقال له-

إنه و الله لو لا أنت لم
ینج منی سالما عبد الصمد

فقال هشام و لم ذلک- قال

إنه قد رام منی خطه
لم یرمها قبله منی أحد

قال هشام و ما هی ویحک- قال

رام جهلا بی و جهلا بأبی
یدخل الأفعى إلى بیت الأسد

فضحک هشام و قال لو ضربته لم أنکر علیک- . و من هذا الباب قول أبی نواس-

إذا ما کنت جار أبی حسین
فنم و یداک فی طرف السلاح‏

فإن له نساء سارقات‏
إذا ما بتن أطراف الرماح‏

سرقن و قد نزلت علیه عضوی
فلم أظفر به حتى الصباح‏

فجاء و قد تخدش جانباه‏
یئن إلى من ألم الجراح‏

و الکنایه فی قوله أطراف الرماح- و فی قوله فی طرف السلاح- . و من الکنایه الحسنه قول الفرزدق یرثی امرأته- و قد ماتت بجمع-

و جفن سلاح قد رزئت فلم أنح
علیه و لم أبعث علیه البواکیا

و فی جوفه من دارم ذو حفیظه
لو أن المنایا أخطأته لیالیا

أخذه الرضی رحمه الله تعالى فقال یرثی امرأه-

إن لم تکن نصلا فغمد نصول
غالته أحداث الزمان بغول‏

أو لم تکن بأبی شبول ضیغم‏
تدمى أظافره فأم شبول‏

و من الکنایات ما یروى- أن رجلا من خواص کسرى أحب الملک امرأته- فکان یختلف إلیها سرا و تختلف إلیه- فعلم بذلک فهجرها و ترک فراشها- فأخبرت کسرى فقال له یوما- بلغنی أن لک عینا عذبه و أنک لا تشرب منها- فقال بلغنی أیها الملک أن الأسد یردها فخفته- فترکتها له- فاستحسن ذلک منه و وصله- . و من الکنایات الحسنه قول حاتم-

و ما تشتکینی جارتی غیر أننی
إذا غاب عنها بعلها لا أزورها

سیبلغها خیری و یرجع بعلها
إلیها و لم یسبل على ستورها

فکنى بإسبال الستر عن الفعل لأنه یقع عنده غالبا- . فأماقول عمر من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب علیه المهر- فیمکن أن یکنى بذلک عن الجماع نفسه- و یمکن أن یکنى به عن الخلوه فقط- و هو مذهب أبی حنیفه- و هو الظاهر من اللفظ لأمرین- أحدهما قوله أغلق بابا- فإنه لو أراد الکنایه لم یحسن التردید بأو- و ثانیهما أنه قد کان مقررا عندهم- أن الجماع نفسه یوجب کمال المهر- فلم یکن به حاجه إلى ذکر ذلک- . و یشبه قول حاتم فی الکنایه المقدم- ذکرها قول بشار بن بشر-

و إنی لعف عن زیاره جارتی
و إنی لمشنوء إلى اغتیابها

و لم أک طلابا أحادیث سرها
و لا عالما من أی حوک ثیابها

إذا غاب عنها بعلها لم أکن لها
زءورا و لم تنبح علی کلابها

و قال الأخطل فی ضد ذلک یهجو رجلا و یرمیه بالزنا-

سبنتى یظل الکلب یمضغ ثوبه
له فی دیار الغانیات طریق‏

السبنتى النمر یرید أنه جری‏ء وقح- و أن الکلب لأنسه به- و کثره اختلافه إلى جاراته یعرفه- و یمضغ ثوبه یطلب ما یطعمه- و العفیف ینکره الکلب و لا یأنس به- ثم أکد ذلک- بأنه قد صار له بکثره تردده إلى دیار النساء- طریق معروف- . و من جید الکنایه عن العفه قول عقیل بن علفه المری-

و لست بسائل جارات بیتی
أ غیاب رجالک أم شهود

و لا ملق لذی الودعات سوطی
ألاعبه و ریبته أرید

و من جید ذلک و مختاره قول مسکین الدارمی-

ناری و نار الجار واحده
و إلیه قبلی تنزل القدر

ما ضر جارا لی أجاوره‏
ألا یکون لبابه ستر

أعمى إذا ما جارتی برزت
حتى یواری جارتی الخدر

و العرب تکنی عن الفرج بالإزار- فتقول هو عفیف الإزار و بالذیل- فتقول هو طاهر الذیل- و إنما کنوا بهما- لأن الذیل و الإزار لا بد من رفعهما عند الفعل- و قد کنوا بالإزار عن الزوجه فی قول الشاعر-

أ لا أبلغ أبا بشر رسولا
فدا لک من أخی ثقه إزاری‏

یرید به زوجتی أو کنى بالإزار هاهنا عن نفسه- . و قال زهیر-

الحافظون ذمام عهدهم
و الطیبون معاقد الأزر

الستر دون الفاحشات و لا
یلقاک دون الخیر من ستر

و یقولون فی الکنایه عن العفیف- ما وضعت مومسه عنده قناعها- و لا رفع عن مومسه ذیلا- . و قد أحسن ابن طباطبا فی قوله-

فطربت طربه فاسق متهتک
و عففت عفه ناسک متحرج‏

الله یعلم کیف کانت عفتی‏
ما بین خلخال هناک و دملج‏

و من الکنایه عن العفه قول ابن میاده-

و ما نلت منها محرما غیر أننی
أقبل بساما من الثغر أفلجا

و ألثم فاها آخذا بقرونها
و أترک حاجات النفوس تحرجا

فکنى عن الفعل نفسه بحاجات النفوس- کما کنى أبو نواس عنه بذلک العمل فی قوله-

مر بنا و العیون ترمقه
تجرح منه مواضع القبل‏

أفرغ فی قالب الجمال فما
یصلح إلا لذلک العمل‏

و کما کنى عنه ابن المعتز بقوله-

و زارنی فی ظلام اللیل مستترا
یستعجل الخطو من خوف و من حذر

و لاح ضوء هلال کاد یفضحه‏
مثل القلامه قد قصت من الظفر

فقمت أفرش خدی فی الطریق له
ذلا و أسحب أذیالی على الأثر

فکان ما کان مما لست أذکره‏
فظن خیرا و لا تسأل عن الخبر

و مما تطیروا من ذکره فکنوا عنه قولهم مات- فإنهم عبروا عنه بعبارات مختلفه- داخله فی باب الکنایه- نحو قولهم لعق إصبعه- و قالوا اصفرت أنامله- لأن اصفرار الأنامل من صفات الموتى- قال الشاعر

فقربانی بأبی أنتما
من وطنی قبل اصفرار البنان‏

و قبل منعای إلى نسوه
منزلها حران و الرقتان‏

و قال لبید-

و کل أناس سوف تدخل بینهم
دویهیه تصفر منها الأنامل‏

یعنی الموت- . و یقولون فی الکنایه عنه صک لفلان على أبی یحیى- و أبو یحیى کنیه الموت کنی عنه بضده- کما کنوا عن الأسود بالأبیض- و قال الخوارزمی

سریعه موت العاشقین کأنما
یغار علیهم من هواها أبو یحیى‏

و کنى رسول الله ص عنه بهاذم اللذات-
فقال أکثروا من ذکر هاذم اللذات

و قال أبو العتاهیه

رأیت المنایا قسمت بین أنفس
و نفسی سیأتی بینهن نصیبها

فیا هاذم اللذات ما منک مهرب‏
تحاذر نفسی منک ما سیصیبها

و قالوا حلقت به العنقاء و حلقت به عنقاء مغرب- قال

فلو لا دفاعی الیوم عنک لحلقت
بشلوک بین القوم عنقاء مغرب‏

و قالوا فیه زل الشراک عن قدمه- قال

لا یسلمون العداه جارهم
حتى یزل الشراک عن قدمه‏

أی حتى یموت فیستغنی عن لبس النعل- . فأما قولهم زلت نعله- فیکنى به تاره عن غلطه و خطئه- و تاره عن سوء حاله و اختلال أمره بالفقر- و هذا المعنى الأخیر أراده الشاعر بقوله-

سأشکر عمرا ما تراخت منیتی
أیادی لم تمنن و إن هی جلت‏

فتى غیر محجوب الغنى عن صدیقه
و لا مظهر الشکوى إذا النعل زلت‏

رأى خلتی من حیث یخفى مکانها
فکانت قذى عینیه حتى تجلت‏

و یقولون فیه شالت نعامته- قال

یا لیت أمی قد شالت نعامتها
أیما إلى جنه أیما إلى نار

لیست بشبعى و لو أوردتها هجرا
و لا بریا و لو حلت بذی قار

أی لا یشبعها کثره التمر و لو نزلت هجر- و هجر کثیره النخل- و لا تروى و لو نزلت ذا قار و هو موضع کثیر الماء- . قال ابن درید- و النعامه خط باطن القدم فی هذه الکنایه- . و یقال أیضا للقوم قد تفرقوا بجلاء عن منازلهم- شالت نعامتهم- و ذلک لأن النعامه خفیفه الطیران عن وجه الأرض- کأنهم خفوا عن منزلهم- . و قال ابن السکیت- یقال لمن یغضب ثم یسکن شالت نعامته ثم وقعت- و قالوا أیضا فی الکنایه عن الموت- مضى لسبیله و استأثر الله به و نقله إلى جواره- و دعی فأجاب و قضى نحبه- و النحب النذر- کأنهم رأوا أن الموت لما کان حتما فی الأعناق- کان نذرا- . و قالوا فی الدعاء علیه اقتضاه الله بذنبه- إشاره إلى هذا- و قالوا ضحا ظله و معناه صار ظله شمسا- و إذا صار الظل شمسا فقد عدم صاحبه- . و یقولون أیضا خلى فلان مکانه- و أنشد ثعلب للعتبی فی السری بن عبد الله-

کان الذی یأتی السری لحاجه
أباح إلیه بالذی جاء یطلب‏

إذا ما ابن عبد الله خلى مکانه‏
فقد حلقت بالجود عنقاء مغرب‏

و قال درید بن الصمه-

فإن یک عبد الله خلى مکانه
فما کان وقافا و لا طائش الید

و کثیر ممن لا یفهم یعتقد- أنه أراد بقوله خلى مکانه فر- و لو کان کذلک لکان هجاء- . و یقولون وقع فی حیاض غتیم و هو اسم للموت- . و یقولون طار من ماله الثمین یریدون الثمن- یقال ثمن و ثمین و سبع و سبیع- و ذلک لأن المیت ترث زوجته من ماله الثمن غالبا- قال الشاعر یذکر جوده بماله و یخاطب امرأته-

فلا و أبیک لا أولى علیها
لتمنع طالبا منها الیمین‏

فإنی لست منک و لست منی‏
إذا ما طار من مالی الثمین‏

أی إذا مت فأخذت ثمنک من ترکتی- . و قالوا لحق باللطیف الخبیر- قال

و من الناس من یحبک حبا
ظاهر الود لیس بالتقصیر

فإذا ما سألته ربع فلس‏
ألحق الود باللطیف الخبیر

و قال أبو العلاء-

لا تسل عن عداک أین استقروا
لحق القوم باللطیف الخبیر

و یقولون قرض رباطه أی کاد یموت جهدا و عطشا- . و قالوا فی الدعاء علیه لا عد من نفره- أی إذا عد قومه فلا عد معهم- و إنما یکون کذلک إذا مات- قال إمرؤ القیس

فهو لا تنمی رمیته
ما له لا عد من نفره‏

و هذا إنما یرید به وصفه و التعجب منه- لا أنه یدعو علیه حقیقه- کما تقول لمن یجید الطعن شلت یده ما أحذقه- . و قالوا فی الکنایه عن الدفن أضلوه و أضلوا به- قال الله تعالى وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِی الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِی خَلْقٍ جَدِیدٍ- أی إذا دفنا فی الأرض- . و قال المخبل السعدی-

أضلت بنو قیس بن سعد عمیدها
و سیدها فی الدهر قیس بن عاصم‏

و یقولون للمقتول رکب الأشقر کنایه عن الدم- و إلیه أشار الحارث بن هشام المخزومی فی شعره- الذی یعتذر به عن فراره یوم بدر- عن أخیه أبی جهل بن هشام حین قتل-

الله یعلم ما ترکت قتالهم
حتى علوا فرسی بأشقر مزبد

و علمت أنی إن أقاتل واحدا
أقتل و لا یضرر عدوی مشهدی‏

فصددت عنهم و الأحبه فیهم‏
طمعا لهم بعقاب یوم مرصد

أراد بدم أشقر- فحذف الموصوف و أقام الصفه مقامه کنایه عنه- و العرب تقیم الصفه مقام الموصوف کثیرا- کقوله تعالى وَ حَمَلْناهُ عَلى‏ ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ- أی على سفینه ذات ألواح- و کقول عنتره

تمکو فریصته کشدق الأعلم‏

أی کشدق الإنسان الأعلم أو البعیر الأعلم- . و یقولون ترک فلان بجعجاع أی قتل- قال أبو قیس بن الأسلت-

من یذق الحرب یجد طعمها
مرا و تترکه بجعجاع‏

أی تترکه قتیلا مخلى بالفضاء- . و مما کنوا عنه قولهم للمقید هو محمول على الأدهم- و الأدهم القید- قال الشاعر

أوعدنی بالسجن و الأداهم
رجلی و رجلی شثنه المناسم‏

و قال الحجاج للغضبان بن القبعثرى- لأحملنک على الأدهم- فتجاهل علیه و قال- مثل الأمیر حمل على الأدهم و الأشهب- .و قد کنوا عن القید أیضا بالأسمر- أنشد ابن عرفه لبعضهم

فما وجد صعلوک بصنعاء موثق
بساقیه من سمر القیود کبول‏

قلیل الموالی مسلم بجریره
له بعد نومات العیون غلیل‏

یقول له البواب أنت معذب
غداه غد أو رائح فقتیل‏

بأکثر من وجدی بکم یوم راعنی‏
فراق حبیب ما إلیه سبیل‏

و هذا من لطیف شعر العرب و تشبیهها- . و من کنایاتهم عنه رکب ردعه- و أصله فی السهم یرمى به فیرتدع نصله فیه- یقال ارتدع السهم إذا رجع النصل فی السنخ متجاوزا- فقولهم رکب ردعه أی وقص فدخل عنقه فی صدره- قال الشاعر و هو من شعر الحماسه-

تقول و صکت صدرها بیمینها
أ بعلی هذا بالرحا المتقاعس‏

فقلت لها لا تعجلی و تبینی‏
بلای إذا التفت علی الفوارس‏

أ لست أرد القرن یرکب ردعه
و فیه سنان ذو غرارین یابس‏

لعمر أبیک الخیر إنی لخادم‏
لضیفی و إنی إن رکبت لفارس‏

و أنشد الجاحظ فی کتاب البیان و التبیین- لبعض الخوارج-

و مسوم للموت یرکب ردعه
بین الأسنه و القنا الخطار

یدنو و ترفعه الرماح کأنه‏
شلو تنشب فی مخالب ضاری‏

فثوى صریعا و الرماح تنوشه
إن الشراه قصیره الأعمار

و قد تطیرت العرب من لفظه البرص فکنوا عنه بالوضح- فقالوا جذیمه الوضاح یریدون الأبرص- و کنی عنه بالأبرش أیضا- و کل أبیض عند العرب وضاح و یسمون اللبن وضحا- یقولون ما أکثر الوضح عند بنی فلان- . و مما تفاءلوا به قولهم للفلاه التی یظن فیها الهلاک مفازه- اشتقاقا من الفوز و هو النجاه- و قال بعض المحدثین

أحب الفأل حین رأى کثیرا
أبوه عن اقتناء المجد عاجز

فسماه لقلته کثیرا
کتلقیب المهالک بالمفاوز

فأما من قال إن المفازه مفعله من فوز الرجل أی هلک- فإنه یخرج هذه اللفظه من باب الکنایات- . و من هذا تسمیتهم اللدیغ سلیما- قال

کأنی من تذکر ما ألاقی
إذا ما أظلم اللیل البهیم‏

سلیم مل منه أقربوه‏
و أسلمه المجاور و الحمیم‏

و قال أبو تمام فی الشیب

شعله فی المفارق استودعتنی
فی صمیم الأحشاء ثکلا صمیما

تستثیر الهموم ما اکتن منها
صعدا و هی تستثیر الهموما

دقه فی الحیاه تدعى جلالا
مثلما سمی اللدیغ سلیما

غره بهمه ألا إنما کنت‏
أغرا أیام کنت بهیما

حلمتنی زعمتم و أرانی
قبل هذا التحلیم کنت حلیما

و من هذا قولهم للأعور ممتع- کأنهم أرادوا أنه قد متع ببقاء إحدى عینیه- و لم یحرم ضوءهما معا- . و من کنایاتهم على العکس- قولهم للأسود یا أبا البیضاء- و للأسود أیضا یا کافور- و للأبیض یا أبا الجون و للأقرع یا أبا الجعد- . و سموا الغراب أعور لحده بصره- قال ابن میاده

إلا طرقتنا أم عمرو و دونها
فیاف من البیداء یعشى غرابها

خص الغراب بذلک لحده نظره أی فکیف غیره- . و مما جاء فی تحسین اللفظ ما روی- أن المنصور کان فی بستان داره و الربیع بین یدیه- فقال له ما هذه الشجره- فقال وفاق یا أمیر المؤمنین- و کانت شجره خلاف- فاستحسن منه ذلک- . و مثل هذا استحسان الرشید قول عبد الملک بن صالح- و قد أهدی إلیه باکوره فاکهه فی أطباق خیزران- بعثت إلى أمیر المؤمنین فی أطباق قضبان- تحمل من جنایا باکوره بستانه ما راج و أینع- فقال الرشید لمن حضر ما أحسن ما کنى عن اسم أمنا- .

و یقال إن عبد الملک سبق بهذه الکنایه- و إن الهادی قال لابن دأب و فی یده عصا ما جنس هذه- فقال من أصول القنا یعنی الخیزران- و الخیزران أم الهادی و الرشید معا- . و شبیه بذلک ما یقال إن الحسن بن سهل- کان فی یده ضغث من أطراف الأراک- فسأله المأمون عنه ما هذه- فقال محاسنک یا أمیر المؤمنین- تجنبا لأن یقول مساوئک و هذا لطیف- . و من الکنایات اللطیفه أن عبد الملک بعث الشعبی- إلى أخیه عبد العزیز بن مروان- و هو أمیر مصر یومئذ- لیسبر أخلاقه و سیاسته و یعود إلیه فیخبره بحاله- فلما عاد سأله فقال- وجدته أحوج الناس إلى بقائک یا أمیر المؤمنین- و کان عبد العزیز یضعف- . و من الألفاظ التی جاءت عن رسول الله ص- من باب الکنایات-قوله ص بعثت إلى الأسود و الأحمر- یرید إلى العرب و العجم- فکنى عن العرب بالسود و عن العجم بالحمر- و العرب تسمى العجمی أحمر- لأن الشقره تغلب علیه- .

قال ابن قتیبه خطب إلى عقیل بن علفه المری ابنته- هشام بن إسماعیل المخزومی- و کان والی المدینه و خال هشام بن عبد الملک فرده- لأنه کان أبیض شدید البیاض- و کان عقیل أعرابیا جافیا غیورا مفرط الغیره- و قال

رددت صحیفه القرشی لما
أبت أعراقه إلا احمرارا

فرده لأنه توسم فیه أن بعض أعراقه ینزع إلى العجم- لما رأى من بیاض لونه و شقرته- . و منه قول جریر یذکر العجم-

یسموننا الأعراب و العرب اسمنا
و أسماؤهم فینا رقاب المزاود

و إنما یسمونهم رقاب المزاود لأنها حمراء- . و من کنایاتهم تعبیرهم عن المفاخره بالمساجله- و أصلها من السجل و هی الدلو الملی‏ء- کان الرجلان یستقیان- فأیهما غلب صاحبه کان الفوز و الفخر له- قال الفضل بن العباس بن عتبه- بن أبی لهب بن عبد المطلب-

و أنا الأخضر من یعرفنی
أخضر الجلده من بیت العرب‏

من یساجلنی یساجل ماجدا
یملأ الدلو إلى عقد الکرب‏

برسول الله و ابنی عمه
و بعباس بن عبد المطلب‏

و یقال إن الفرزدق مر بالفضل- و هو ینشد من یساجلنی- فقال أنا أساجلک‏و نزع ثیابه- فقال الفضل برسول الله و ابن عمه- فلبس الفرزدق ثیابه- و قال أعض الله من یساجلک- بما نفت المواسی من بظر أمه- و رواها أبو بکر بن درید بما أبقت المواسی- . و قد نزل القرآن العزیز- على مخرج کلام العرب فی المساجله- فقال تبارک و تعالى- فَإِنَّ لِلَّذِینَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ- الذنوب الدلو و المراد ما ذکرناه- . و قال المبرد المراد بقوله و أنا الأخضر- أی الأسمر و الأسود- و العرب کانت تفتخر بالسمره و السواد- و کانت تکره الحمره و الشقره- و تقول إنهما من ألوان العجم- . و قال ابن درید- مراده أن بیتی ربیع أبدا مخصب کثیر الخیر- لأن الخصب مع الخضره- و قال الشاعر

قوم إذا اخضرت نعالهم
یتناهقون تناهق الحمر

أی إذا أعشبت الأرض اخضرت نعالهم من وطئهم إیاها- فأغار بعضهم على بعض- و التناهق هاهنا أصواتهم حین ینادون للغاره- و یدعو بعضهم بعضا- و نظیر هذا البیت قول الآخر-

قوم إذا نبت الربیع لهم
نبتت عداوتهم مع البقل‏

أی إذا أخصبوا و شبعوا غزا بعضهم بعضا- و مثله قول الآخر

یا ابن هشام أهلک الناس اللبن
فکلهم یغدو بسیف و قرن‏

أی تسفهوا لما رأوا من کثره اللبن و الخصب- فأفسدوا فی الأرض و أغار بعضهم على بعض- و القرن الجعبه- .و قیل لبعضهم- متى یخاف من شر بنی فلان فقال إذا ألبنوا- . و من الکنایات الداخله فی باب الإیماء قول الشاعر-

فتى لا یرى قد القمیص بخصره
و لکنما یوهی القمیص عواتقه‏

لما کان سلامه القمیص من الخرق- فی موضع الخصر تابعا لدقه الخصر- و وهنه فی الکاهل تابعا لعظم الکاهل- ذکر ما دل بهما على دقه خصر هذا الممدوح و عظم کاهله- و منه قول مسلم بن الولید-

فرعاء فی فرعها لیل على قمر
على قضیب على حقف النقا الدهس‏

کأن قلبی وشاحاها إذا خطرت‏
و قلبها قلبها فی الصمت و الخرس‏

تجری محبتها فی قلب عاشقها
مجرى السلامه فی أعضاء منتکس‏

فلما کان قلق الوشاح تابعا لدقه الخصر- ذکره دالا به علیه- . و من هذا الباب قول القائل-

إذا غرد المکاء فی غیر روضه
فویل لأهل الشاء و الحمرات‏

أومأ بذلک إلى الجدب لأن المکاء یألف الریاض- فإذا أجدبت الأرض سقط فی غیر روضه و غرد- فالویل حینئذ لأهل الشاء و الحمر- . و منه قول القائل-

لعمری لنعم الحی حی بنی کعب
إذا جعل الخلخال فی موضع القلب‏

القلب السوار- یقول نعم الحی هؤلاء إذا ریع الناس و خافوا- حتى إن المرأه لشده خوفها تلبس الخلخال مکان السوار- فاختصر الکلام اختصارا شدیدا- . و منه قول الأفوه الأودی-

إن بنی أود هم ما هم
للحرب أو للجدب عام الشموس‏

أشار إلى الجدب و قله السحب و المطر- أی الأیام التی کلها أیام شمس و صحو- لا غیم فیها و لا مطر- . فقد ذکرنا من الکنایات و التعریضات- و ما یدخل فی ذلک و یجری مجراه من باب الإیماء و الرمز- قطعه صالحه- و سنذکر شیئا آخر من ذلک فیما بعد إن شاء الله تعالى- إذا مررنا فی شرح کلامه ع بما یقتضیه و یستدعیه

حقیقه الکنایه و التعریض و الفرق بینهما

و قد کنا وعدنا أن نذکر کلاما کلیا- فی حقیقه الکنایه و التعریض و الفرق بینهما- فنقول الکنایه قسم من أقسام المجاز- و هو إبدال لفظه عرض فی النطق بها- مانع بلفظه لا مانع عن النطق بها- کقوله ع قرارات النساء- لما وجد الناس قد تواضعوا- على استهجان لفظه أرحام النساء- . و أما التعریض فقد یکون بغیر اللفظ- کدفع أسماء بن خارجه الفص الفیروز الأزرق- من یده إلى ابن معکبر الضبی ادکارا له بقول الشاعر-

کذا کل ضبی من اللؤم أزرق‏

فالتعریض إذا هو التنبیه بفعل أو لفظ- على معنى اقتضت الحال العدول عن التصریح به- . و أنا أحکی هاهنا کلام نصر الله بن محمد بن الأثیر الجزری- فی کتابه المسمى بالمثل السائر فی الکنایه و التعریض- و أذکر ما عندی فیه قال- خلط أرباب هذه الصناعه الکنایه بالتعریض- و لم یفصلوا بینهما- فقال ابن سنان إن قول إمرئ القیس-

فصرنا إلى الحسنى و رق کلامنا
و رضت فذلت صعبه أی إذلال‏

من باب الکنایه و الصحیح أنه من باب التعریض- . قال و قد قال الغانمی و العسکری و ابن حمدون- و غیرهم نحو ذلک- و مزجوا أحد القسمین بالآخر- . قال و قد حد قوم الکنایه- فقالوا هی اللفظ الدال على الشی‏ء- بغیر الوضع الحقیقی- بوصف جامع بین الکنایه و المکنى عنه کاللمس و الجماع- فإن الجماع اسم لموضوع حقیقی و اللمس کنایه عنه- و بینهما وصف جامع إذ الجماع لمس و زیاده- فکان دالا علیه بالوضع المجازی- . قال و هذا الحد فاسد- لأنه یجوز أن یکون حدا للتشبیه و المشبه- فإن التشبیه هو اللفظ الدال على الوضع الحقیقی- الجامع بین المشبه و المشبه به فی صفه من الأوصاف- أ لا ترى إذا قلنا زید أسد- کان ذلک لفظا دالا على غیر الوضع الحقیقی- بوصف جامع بین زید و الأسد- و ذلک الوصف هو الشجاعه- . قال و أما أصحاب أصول الفقه- فقالوا فی حد الکنایه إنها اللفظ المحتمل- و معناه أنها اللفظ الذی یحتمل الدلاله على المعنى- و على خلافه- .

و هذا منقوض بالألفاظ المفرده المشترکه- و بکثیر من الأقوال المرکبه المحتمله للشی‏ء و خلافه- و لیست بکنایات- . قال و عندی أن الکنایات لا بد أن یتجاذبها جانبا- حقیقه و مجاز- و متى أفردت جاز حملها على الجانبین معا- أ لا ترى أن اللمس فی قوله سبحانه أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ-یجوز حمله على الحقیقه و المجاز- و کل منهما یصح به المعنى و لا یختل- و لهذا قال الشافعی- إن ملامسه المرأه تنقض الوضوء و الطهاره- .

و ذهب غیره إلى أن المراد باللمس فی الآیه الجماع- و هو الکنایه المجازیه- فکل موضع یرد فیه الکنایه فسبیله هذا السبیل- و لیس التشبیه بهذه الصوره- و لا غیره من أقسام المجاز- لأنه لا یجوز حمله إلا على جانب المجاز خاصه- و لو حمل على جانب الحقیقه لاستحال المعنى- أ لا ترى أنا إذا قلنا زید أسد- لم یصح أن یحمل إلا على الجهه المجازیه- و هی التشبیه بالأسد فی شجاعته- و لا یجوز حمله على الجهه الحقیقیه- لأن زیدا لا یکون سبعا ذا أنیاب و مخالب- فقد صار إذن حد الکنایه أنها اللفظ الدال على معنى- یجوز حمله على جانبی الحقیقه و المجاز- بوصف جامع بین الحقیقه و المجاز- . قال و الدلیل على ذلک أن الکنایه فی أصل الوضع- أن تتکلم بشی‏ء و ترید غیره یقال کنیت بکذا عن کذا- فهی تدل على ما تکلمت به- و على ما أردته من غیره- فلا یخلو إما أن یکون فی لفظ- تجاذبه جانبا حقیقه و حقیقه- أو فی لفظ تجاذبه جانبا مجاز و مجاز- أو فی لفظ لا یتجاذبه أمر- و لیس لنا قسم رابع- . و الثانی باطل لأن ذاک هو اللفظ المشترک- فإن أطلق من غیر قرینه مخصصه کان مبهما غیر مفهوم- و إن کان معه قرینه صار مخصصا لشی‏ء بعینه- و الکنایه أن تتکلم بشی‏ء و ترید غیره- و ذلک مخالف للفظ المشترک إذا أضیف إلیه القرینه- لأنه یختص بشی‏ء واحد بعینه- و لا یتعداه إلى غیره- و الثالث باطل أیضا- لأن المجاز لا بد له من حقیقه ینقل عنها- لأنه فرع علیها- .

و ذلک اللفظ الدال على المجاز- إما أن یکون للحقیقه شرکه فی الدلاله علیه- أو لا یکون لها شرکه فی الدلاله علیه- کان اللفظ الواحد قد دل على ثلاثه أشیاء- أحدها الحقیقه و الآخران المجازان- . و هذا مخالف لأصل الوضع- لأن أصل الوضع أن تتکلم بشی‏ء و أنت ترید غیره- و هاهنا یکون قد تکلمت بشی‏ء و أنت ترید شیئین غیرین- و إن لم یکن للحقیقه شرکه فی الدلاله- کان ذلک مخالفا لأصل الوضع أیضا- إذ أصل الوضع أن تتکلم بشی‏ء و أنت ترید غیره- فیکون الذی تکلمت به دالا على غیره- و إذا أخرجت الحقیقه عن أن یکون لها شرکه فی الدلاله- لم یکن الذی تکلمت به- و هذا محال- فثبت إذن أن الکنایه هی أن تتکلم بالحقیقه- و أنت ترید المجاز- . قال و هذا مما لم یسبقنی إلیه أحد- . ثم قال قد یأتی من الکلام ما یجوز أن یکون کنایه- و یجوز أن یکون استعاره- و یختلف ذلک باختلاف النظر إلیه بمفرده- و النظر إلى ما بعده- کقول نصر بن سیار فی أبیاته المشهوره- التی یحرض بها على بنی أمیه عند خروج أبی مسلم-

أرى خلل الرماد و میض جمر
و یوشک أن یکون له ضرام‏

فإن النار بالزندین توری‏
و إن الحرب أولها کلام‏

أقول من التعجب لیت شعری
أ أیقاظ أمیه أم نیام‏

فالبیت الأول لو ورد بمفرده لکان کنایه- لأنه لا یجوز حمله على جانبی الحقیقه و المجاز- فإذا نظرنا إلى الأبیات بجملتها- کان البیت الأول المذکور استعاره لا کنایه- . ثم أخذ فی الفرق بین الکنایه و التعریض- فقال التعریض هو اللفظ الدال على الشی‏ء- من طریق المفهوم- لا بالوضع الحقیقی و لا بالمجازی- فإنک إذا قلت لمن تتوقع معروفه و صلته بغیر طلب- أنا محتاج و لا شی‏ء فی یدی- و أنا عریان و البرد قد آذانی- فإن هذا و أشباهه تعریض بالطلب- و لیس اللفظ موضوعا للطلب لا حقیقه و لا مجازا- و إنما یدل علیه من طریق المفهوم- بخلاف قوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ- و على هذا ورد تفسیر التعریض فی خطبه النکاح- کقولک للمرأه أنت جمیله أو إنک خلیه و أنا عزب- فإن هذا و شبهه لا یدل على طلب النکاح- بالحقیقه و لا بالمجاز- و التعریض أخفى من الکنایه- لأن دلاله الکنایه وضعیه من جهه المجاز- و دلاله التعریض من جهه المفهوم المرکب- و لیست وضعیه- و إنما یسمى التعریض تعریضا لأن المعنى فیه یفهم من عرض اللفظ المفهوم- أی من جانبه- .

قال و اعلم أن الکنایه تشتمل على اللفظ المفرد- و اللفظ المرکب- فتأتی على هذا مره و على هذا أخرى- و أما التعریض فإنه یختص باللفظ المرکب- و لا یأتی فی اللفظ المفرد البته- لأنه لا یفهم المعنى فیه من جهه الحقیقه- و لا من جهه المجاز- بل من جهه التلویح و الإشاره- و هذا أمر لا یستقل به اللفظ المفرد- و یحتاج فی الدلاله علیه إلى اللفظ المرکب- . قال فقد ظهر فیما قلنا فی البیت- الذی ذکره ابن سنان مثال الکنایه- و مثال التعریض هو بیت إمرئ القیس- لأن غرض الشاعر منه أن یذکر الجماع- إلا أنه لم یذکره بل ذکر کلاما آخر- ففهم الجماع من عرضه- لأن المصیر إلى الحسنى و رقه الکلام- لا یدلان على الجماع لا حقیقه و لا مجازا- . ثم ذکر أن من باب الکنایه قوله سبحانه- أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِیَهٌ بِقَدَرِها- فَاحْتَمَلَ السَّیْلُ زَبَداً رابِیاً- وَ مِمَّا یُوقِدُونَ عَلَیْهِ فِی النَّارِ… الآیه- قال کنى بالماء عن العلم و بالأودیه عن القلوب- و بالزبد عن الضلال- . قال و قد تحقق ما اخترعناه و قدرناه من هذه الآیه- لأنه یجوز حملها على جانب الحقیقه- کما یجوز حملها على جانب المجاز- . قال و قد أخطأ الفراء- حیث زعم أن قوله سبحانه و تعالى- وَ إِنْ کانَ مَکْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ- کنایه عن أمر النبی ص و أنه کنى عنه بالجبال- قال و وجه الخطأ أنه لا یجوز- أن یتجاذب اللفظ هاهنا جانبا الحقیقه و المجاز- لأن مکرهم لم یکن لتزول منه الجبال الحقیقیه- فالآیه إذا من باب المجاز لا من باب الکنایه- .

قال و من الکنایات المستحسنهقوله ع للحادی بالنساء یا أنجشه رفقا بالقواریر- . و قول امرأه لرجل قعد منها مقعد القابله- لا یحل لک أن تفض الخاتم إلا بحقه- . و قول بدیل بن ورقاء الخزاعی لرسول الله ص- إن قریشا قد نزلت على ماء الحدیبیه- معها العوذ المطافیل و إنهم صادوک عن البیت- . قال فهذه کنایه عن النساء و الصبیان- لأن العوذ المطافیل- الإبل الحدیثات النتاج و معها أولادها- .

و من الکنایه ما ورد فی شهاده الزنا- أن یشهد علیه برؤیه المیل فی المکحله- .و منها قول عمر لرسول الله ص هلکت یا رسول الله قال و ما أهلکک- قال حولت رحلی البارحه- قال أشار بذلک إلى الإتیان فی غیر المأتی- . و منها قول ابن سلام لمن رأى علیه ثوبا معصفرا- لو أن ثوبک فی تنور أهلک لکان خیرا لک- . قال و من الکنایات المستقبحه قول الرضی یرثی امرأه-إن لم تکن نصلا فغمد نصول‏- لأن الوهم یسبق فی هذا الموضع إلى ما یقبح- و إنما سرقه من قول الفرزدق فی امرأته- و قد ماتت بجمع-

و جفن سلاح قد رزئت فلم أنح
علیه و لم أبعث علیه البواکیا

و فی جوفه من دارم ذو حفیظه
لو أن المنایا أخطأته لیالیا

فأخذه الرضی فأفسده و لم یحسن تصریفه- . قال فأما أمثله التعریض فکثیره- منها قوله تعالى فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ- ما نَراکَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا- وَ ما نَراکَ اتَّبَعَکَ إِلَّا الَّذِینَ هُمْ أَراذِلُنا بادِیَ الرَّأْیِ- وَ ما نَرى‏ لَکُمْ عَلَیْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّکُمْ کاذِبِینَ- فقوله ما نَراکَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا تعریض- بأنهم أحق بالنبوه- و أن الله تعالى لو أراد أن یجعلها فی واحد من البشر- لجعلها فیهم- فقالوا هب إنک واحد من الملأ و موازیهم فی المنزله- فما جعلک أحق بالنبوه منهم- أ لا ترى إلى قوله وَ ما نَرى‏ لَکُمْ عَلَیْنا مِنْ فَضْلٍ- . هذه خلاصه ما ذکره ابن الأثیر فی هذا الباب- . و اعلم أنا قد تکلمنا علیه فی کثیر من هذا الموضع- فی کتابنا الذی أفردناه للنقض علیه- و هو الکتاب المسمى بالفلک الدائر على المثل السائر- فقلنا أولا أنه اختار حد الکنایه- و شرع یبرهن على التحدید و الحدود لا یبرهن علیها- و لا هی من باب الدعاوی التی تحتاج إلى الأدله- لأن من وضع لفظ الکنایه لمفهوم مخصوص- لا یحتاج إلى دلیل- کمن وضع لفظ الجدار للحائط لا یحتاج إلى دلیل- .

ثم یقال له لم قلت- إنه لا بد من أن یتردد لفظ الکنایه- بین محملی حقیقه و مجاز- و لم لا یتردد بین مجازین- و ما استدللت به على ذلک لا معنى له…- . أما أولا فلأنک أردت أن تقول- إما أن تکون للفظه الداله على المجازین شرکه- فی الدلاله على الحقیقه- أو لا یکون لها فی الدلاله على الحقیقه شرکه- لأن کلامک هکذا یقتضی- و لا ینتظم إلا إذا قلت هکذا فلم تقله- و قلت إما أن یکون للحقیقه شرکه- فیاللفظ الدال على المجازین- و هذا قلب للکلام الصحیح و عکس له- .

و أما ثانیا فلم قلت- إنه لا یکون للفظه الداله على المجازین شرکه- فی الدلاله على الحقیقه التی هی أصل لهما- فأما قولک هذا- فیقتضی أن یکون الإنسان متکلما بشی‏ء- و هو یرید شیئین غیره- و أصل الوضع أن یتکلم بشی‏ء و هو یرید غیره- فلیس معنى قولهم الکنایه أن تتکلم بشی‏ء- و أنت ترید غیره- أنک ترید شیئا واحدا غیره- کلا لیس هذا هو المقصود- بل المقصود أن تتکلم بشی‏ء و أنت ترید ما هو مغایر له- و إن أردت شیئا واحدا- أو شیئین أو ثلاثه أشیاء أو ما زاد- فقد أردت ما هو مغایر له- لأن کل مغایر لما دل علیه ظاهر لفظک- فلیس فی لفظه غیر ما یقتضی الوحده و الإفراد- .

و أما ثالثا فلم لا یجوز- أن یکون للفظ الدال على المجازین شرکه- فی الدلاله على الحقیقه أصلا- بل یدل على المجازین فقط- فأما قولک إذا خرجت الحقیقه- عن أن یکون لها فی ذلک شرکه- لم یکن الذی تکلمت به دالا على ما تکلمت به- و هو محال- و مرادک بهذا الکلام المقلوب- أنه إذا خرجت اللفظه- عن أن یکون لها شرکه- فی الدلاله على الحقیقه- التی هی موضوعه لها فی الأصل- لم یکن ما تکلم به الإنسان دالا- على ما تکلم به و هو حقیقه- و لا دالا أیضا على ما تکلم به و هو مجاز- لأنه إذا لم یدل على الحقیقه و هی الأصل- لم یجز أن یدل على المجاز الذی هو الفرع- لأن انتفاء الدلاله على الأصل- یوجب انتفاء الدلاله على الفرع- و هکذا یجب أن یتأول استدلاله- و إلا لم یکن له معنى محصل- لأن اللفظ هو الدال على مفهوماته- و لیس المفهوم دالا على اللفظ- و لا له شرکه فی الدلاله علیه- و لا على مفهوم آخر- یعترض اللفظ بتقدیر انتقال اللفظ- اللهم إلا أن یکون دلاله عقلیه- و کلامنا فی الألفاظ و دلالتها- .

فإذا أصلحنا کلامه على ما ینبغی- قلنا له فی الاعتراض علیه- لم قلت إنه إذا خرج اللفظ- عن أن یکون له شرکه فی الدلاله على الحقیقه- لم یکن ما تکلم به الإنسان دالا على ما تکلم به- و لم لا یجوز أن یکون للحقیقه مجازان- قد کثر استعمالهما حتى نسیت تلک الحقیقه- فإذا تکلم الإنسان بذلک اللفظ- کان دالا به على أحد ذینک المجازین- و لا یکون له تعرض ما بتلک الحقیقه- فلا یکون الذی تکلم به غیر دال على ما تکلم به- لأن حقیقه تلک اللفظه قد صارت ملغاه منسیه- فلا یکون عدم إرادتها موجبا- أن یکون اللفظ الذی یتکلم به المتکلم- غیر دال على ما تکلم به- لأنها قد خرجت بترک الاستعمال- عن أن تکون هی ما تکلم به المتکلم- . ثم یقال إنک منعت أن یکون قولنا زید أسد کنایه- و قلت لأنه لا یجوز أن یحمل أحد هذا اللفظ- على أن زیدا هو السبع ذو الأنیاب و المخالب- و منعت من قول الفراء إن الجبال فی قوله- لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ- کنایه عن دعوه محمد ص و شریعته- لأن أحدا لا یعتقد و لا یتصور- أن مکر البشر یزیل الجبال الحقیقیه عن أماکنها- و منعت من قول من قال إن قول الشاعر-

و لو سکتوا أثنت علیک الحقائب‏

من باب الکنایه- لأن أحدا لا یتصور أن الحقائب و هی جمادات تثنی و تشکر- . و قلت لا بد أن یصح حمل لفظ الکنایه- على محملی الحقیقه و المجاز- ثم قلت إن‏قول عبد الله بن سلام لصاحب الثوب المعصفر- لو أنک جعلت ثوبک فی تنور أهلک کنایه- و قول الرضی فی امرأه ماتتإن لم تکن نصلا فغمد نصول‏- کنایه و إن کانت مستقبحه-و قول النبی ص یا أنجشه رفقا بالقواریر- و هو یحدو بالنساء کنایه- فهل یجیز عاقل قط أو یتصور فی الأذهان- أن تکون المرأه غمدا للسیف- و هل یحمل أحد قط قوله للحادی رفقا بالقواریر- على أنه یمکن أن یکون نهاه عن العنف بالزجاج- أو یحمل أحد قط قول ابن سلام- على أنه أراد إحراق الثوب بالنار- أو یحمل قط أحد قوله المیل فی المکحله على حقیقتها- أو یحمل قط أحد قوله لا یحل لک فض الخاتم على حقیقته- و هل یشک عاقل قط فی أن هذه الألفاظ- لیست دائره بین المحملین- دوران اللمس و الجماع و المصافحه- و هذه مناقضه ظاهره و لا جواب عنها- إلا بإخراج هذه المواضع من باب الکنایه- أو بحذف ذلک الشرط الذی اشترطته فی حد الکنایه- .

فأما ما ذکره حکایه عن غیره فی حد الکنایه- بأنها اللفظ الدال على الشی‏ء بغیر الوضع الحقیقی- بوصف جامع بین الکنایه و المکنى عنه- و قوله هذا الحد هو حد التشبیه- فلا یجوز أن یکون حد الکنایه- . فلقائل أن یقول إذا قلنا زید أسد- کان ذلک لفظا دالا على غیر الوضع الحقیقی- و ذلک المدلول هو بعینه- الوصف المشترک بین المشبه و المشبه به- أ لا ترى أن المدلول هو الشجاعه- و هی المشترک بین زید و الأسد- و أصحاب الحد قالوا فی حدهم- الکنایه هی اللفظ الدال على الشی‏ء- بغیر الوضع الحقیقی- باعتبار وصف جامع بینهما- فجعلوا المدلول أمرا و الوصف الجامع أمرا آخر- باعتباره وقت الدلاله- أ لا ترى أن لفظ لامَسْتُمُ یدل على الجماع- الذی لم یوضع لفظ لامَسْتُمُ له- و إنما یدل علیه باعتبار أمر آخر- هو کون الملامسه مقدمه الجماع و مفضیه إلیه فقد تغایر إذن حد التشبیه و حد الکنایه- و لم یکن أحدهما هو الآخر- .

فأما قوله إن الکنایه قد تکون بالمفردات- و التعریض لا یکون بالمفردات فدعوى- و ذلک أن اللفظ المفرد لا ینتظم منه فائده- و إنما تفید الجمله المرکبه من مبتدأ و خبر- أو من فعل و فاعل- و الکنایه و التعریض فی هذا الباب سواء- و أقل ما یمکن أن یقید فی الکنایه قولک لامست هندا- و کذلک أقل ما یمکن أن یفید فی التعریض أنا عزب- کما قد ذکره هو فی أمثله التعریض- فإن قال أردت أنه قد یقال- اللمس یصلح أن یکنى به عن الجماع- و اللمس لفظ مفرد- قیل له و قد یقال- التعزب یصلح أن یعرض به فی طلب النکاح- .

فأما قوله إن بیت نصر بن سیار- إذا نظر إلیه لمفرده صلح أن یکون کنایه- و إنما یخرجه عن کونه کنایه- ضم الأبیات التی بعده إلیه- و یدخله فی باب الاستعاره- فلزم علیه أن یخرج قول عمر حولت رحلی عن باب الکنایه- بما انضم إلیه من قوله هلکت-و بما أجابه رسول الله ص من قوله أقبل و أدبر و اتق الدبر و الحیضه- و بقرینه الحال- و کان یجب إلا تذکر هذه اللفظه فی أمثله الکنایات- .

فأما بیت إمرئ القیس فلا وجه لإسقاطه- من باب الکنایه- و إدخاله فی باب‏ التعریض- إلا فیما اعتمد علیه- من أن من شرط الکنایه أن یتجاذبها جانبا حقیقه و مجاز- و قد بینا بطلان اشتراط ذلک فبطل ما یتفرع علیه- . و أما قول بدیل بن ورقاء معها العوذ المطافیل- فإنه لیس بکنایه عن النساء و الأولاد کما زعم- بل أراد به الإبل و نتاجها-

فإن کتب السیر کلها متفقه- على أن قریشا- لم یخرج معها فی سنه الحدیبیه نساؤها و أولادها- و لم یحارب رسول الله ص قوما- أحضروا معهم نساءهم و أولادهم- إلا هوازن یوم حنین- و إذا لم یکن لهذا الوجه حقیقه و لا وجود- فقد بطل حمل اللفظ علیه- . فأما ما زرى به على الرضی رحمه الله تعالى من قوله-إن لم تکن نصلا فغمد نصول‏- و قوله هذا مما یسبق الوهم فیه إلى ما یستقبح- و استحسانه شعر الفرزدق- و قوله إن الرضی أخذه منه فأساء الأخذ- فالوهم الذی یسبق إلى بیت الرضی- یسبق مثله إلى بیت الفرزدق- لأنه قد جعل هذه المرأه جفن السلاح- فإن کان الوهم یسبق هناک إلى قبیح- فهاهنا أیضا یسبق إلى مثله- .

و أما الآیه التی مثل بها على التعریض- فإنه قال إن قوله تعالى ما نَراکَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا- تعریض بأنهم أحق بالنبوه منه- و لم یبین ذلک و إنما قال فحوى الکلام أنهم قالوا له- هب إنک واحد من الملإ و موازیهم فی المنزله- فما جعلک أحق بالنبوه منهم- أ لا ترى إلى قوله وَ ما نَرى‏ لَکُمْ عَلَیْنا مِنْ فَضْلٍ- و هذا الکلام لا یقتضی ما ادعاه أولا من التعریض- لأنه ادعى أن قوله ما نَراکَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا- تعریض بأنهم أحق بالنبوه منه- و ما قرره به یقتضی مساواته لهم- و لا یقتضی کونهم أحق بالنبوه منه- فبطل دعوى الأحقیه- التی زعم أن التعریض إنما کان بها- .

فأما قوله تعالى أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً- فَسالَتْ أَوْدِیَهٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّیْلُ زَبَداً- و قوله إن هذا من باب الکنایه- و إنه تعالى کنى به عن العلم و الضلال و قلوب البشر فبعید- و الحکیم سبحانه لا یجوز أن یخاطب قوما بلغتهم- فیعمی علیهم- و أن یصطلح هو نفسه على ألفاظ لا یفهمون المراد بها- و إنما یعلمها هو وحده- أ لا ترى أنه لا یجوز أن یحمل قوله تعالى- وَ لَقَدْ زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنْیا بِمَصابِیحَ- وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّیاطِینِ- على أنه أراد أنا زینا رءوس البشر- بالحواس الباطنه و الظاهره المجعوله فیها- و جعلناها بالقوى الفکریه و الخیالیه- المرکبه فی الدماغ- راجمه و طارده للشبه المضله- و إن من حمل کلام الحکیم سبحانه على ذلک- فقد نسبه إلى الإلغاز و التعمیه- و ذلک یقدح فی حکمته تعالى- و المراد بالآیه المقدم ذکرها ظاهرها- و المتکلف لحملها على غیرها سخیف العقل- و یؤکد ذلک قوله تعالى- وَ مِمَّا یُوقِدُونَ عَلَیْهِ فِی النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْیَهٍ- أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ- أ فترى الحکیم سبحانه یقول- إن للذهب و الفضه زبدا مثل الجهل و الضلال- و یبین ذلک قوله کَذلِکَ یَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ- فضرب سبحانه الماء الذی یبقى فی الأرض- فینتفع به الناس- و الزبد الذی یعلو فوق الماء- فیذهب جفاء مثلا للحق و الباطل- کما صرح به سبحانه فقال- کَذلِکَ یَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ- و لو کانت هذه الآیه من باب الکنایات- و قد کنى سبحانه بالأودیه عن القلوب- و بالماء الذی أنزله من السماء عن العلم- و بالزبد عن الضلال- لما جعل تعالى هذه الألفاظ أمثالا- فإن الکنایه خارجه عن باب المثل- و لهذا لا تقول إن قوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ- من باب المثل- و لهذا أفرد هذا الرجل فی کتابه بابا آخر- غیر باب الکنایه سماه باب المثل- و جعلهما قسمین متغایرین فی علم البیان- و الأمر فی هذاالموضع واضح- و لکن هذا الرجل کان یحب هذه الترهات- و یذهب وقته فیها- و قد استقصینا فی مناقضته و الرد علیه- فی کتابنا الذی أشرنا إلیه- . فأما قوله ع- کلما نجم منهم قرن قطع فاستعاره حسنه- یرید کلما ظهر منهم قوم استؤصلوا- فعبر عن ذلک بلفظه قرن- کما یقطع قرن الشاه إذا نجم- و قد صح إخباره ع عنهم أنهم لم یهلکوا بأجمعهم- فی وقعه النهروان- و أنها دعوه سیدعو إلیها قوم لم یخلقوا بعد- و هکذا وقع و صح إخباره ع أیضا- أنه سیکون آخرهم لصوصا سلابین- فإن دعوه الخوارج اضمحلت و رجالها فنیت- حتى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطاع طریق- متظاهرین بالفسوق و الفساد فی الأرض

مقتل الولید بن طریف الخارجی و رثاء أخته له

فممن انتهى أمره منهم إلى ذلک- الولید بن طریف الشیبانی- فی أیام الرشید بن المهدی- فأشخص إلیه یزید بن مزید الشیبانی فقتله- و حمل رأسه إلى الرشید و قالت أخته ترثیه- و تذکر أنه کان من أهل التقى و الدین- على قاعده شعراء الخوارج و لم یکن الولید کما زعمت-

أیا شجر الخابور ما لک مورقا
کأنک لم تجزع على ابن طریف‏

فتى لا یحب الزاد إلا من التقى‏
و لا المال إلا من قنا و سیوف‏

و لا الذخر إلا کل جرداء شطبه
و کل رقیق الشفرتین خفیف‏

فقدناک فقدان الربیع و لیتنا
فدیناک من ساداتنا بألوف‏

 و قال مسلم بن الولید یمدح یزید بن مزید- و یذکر قتله الولید-

و المارق ابن طریف قد دلفت له
بعارض للمنایا مسبل هطل‏

لو أن شیئا بکى مما أطاف به‏
فاز الولید بقدح الناضل الخصل‏

ما کان جمعهم لما لقیتهم
إلا کرجل جراد ریع منجفل‏

فاسلم یزید فما فی الملک من أود
إذا سلمت و لا فی الدین من خلل‏

خروج ابن عمرو الخثعمی و أمره مع محمد بن یوسف الطائیثم خرج فی أیام المتوکل ابن عمرو الخثعمی بالجزیره- فقطع الطریق و أخاف السبیل و تسمى بالخلافه- فحاربه أبو سعید محمد بن یوسف الطائی الثغری الصامتی- فقتل کثیرا من أصحابه- و أسر کثیرا منهم و نجا بنفسه هاربا- فمدحه أبو عباده البحتری و ذکر ذلک فقال-

کنا نکفر من أمیه عصبه
طلبوا الخلافه فجره و فسوقا

و نلوم طلحه و الزبیر کلیهما
و نعنف الصدیق و الفاروقا

و نقول تیم أقربت و عدیها
أمرا بعیدا حیث کان سحیقا

و هم قریش الأبطحون إذا انتموا
طابوا أصولا فی العلا و عروقا

حتى غدت جشم بن بکر تبتغی
إرث النبی و تدعیه حقوقا

جاءوا براعیهم لیتخذوا به‏
عمدا إلى قطع الطریق طریقا

عقدوا عمامته برأس قناته
و رأوه برا فاستحال عقوقا

و أقام ینفذ فی الجزیره حکمه‏
و یظن وعد الکاذبین صدوقا

حتى إذا ما الحیه الذکر انکفى
من أرزن حربا یمج حریقا

غضبان یلقى الشمس منه بهامه
یعشى العیون تألقا و بروقا

أوفى علیه فظل من دهش
یظن البر بحرا و الفضاء مضیقا

غدرت أمانیه به و تمزقت‏
عنه غیابه سکره تمزیقا

طلعت جیادک من ربا الجودی قد
حملن من دفع المنون وسوقا

فدعا فریقا من سیوفک حتفهم‏
و شددت فی عقد الحدید فریقا

و مضى ابن عمرو قد أساء بعمره
ظنا ینزق مهره تنزیقا

فاجتاز دجله خائضا و کأنها
قعب على باب الکحیل أریقا

لو خاضها عملیق أو عوج إذا
ما جوزت عوجا و لا عملیقا

لو لا اضطراب الخوف فی أحشائه‏
رسب العباب به فمات غریقا

لو نفسته الخیل لفته ناظر
ملأ البلاد زلازلا و فتوقا

لثنى صدور الخیل تکشف کربه
و لوى رماح الخط تفرج ضیقا

و لبکرت بکر و راحت تغلب
فی نصر دعوته إلیه طروقا

حتى یعود الذئب لیثا ضیغما
و الغصن ساقا و القراره نیقا

هیهات مارس فلیقا متیقظا
قلقا إذا سکن البلید رشیقا

مستسلفا جعل الغبوق صبوحه‏
و مرى صبوح غد فکان غبوقا

 و هذه القصیده من ناصع شعر البحتری و مختاره

ذکر جماعه ممن کان یرى رأی الخوارج

و قد خرج بعد هذین جماعه من الخوارج بأعمال کرمان- و جماعه أخرى من أهل عمان لا نباهه لهم- و قد ذکرهم أبو إسحاق الصابی فی الکتاب التاجی- و کلهم بمعزل عن طرائق سلفهم- و إنما وکدهم و قصدهم إخافه السبیل- و الفساد فی الأرض و اکتساب الأموال من غیر حلها- و لا حاجه لنا إلى الإطاله بذکرهم- و من المشهورین برأی الخوارج- الذین تم بهم صدق قول أمیر المؤمنین ع- إنهم نطف فی أصلاب الرجال و قرارات النساء- عکرمه مولى ابن عباس و مالک بن أنس الأصبحی الفقیه- یروى عنه أنه کان یذکر علیا ع و عثمان و طلحه و الزبیر- فیقول و الله ما اقتتلوا إلا على الثرید الأعفر- .

و منهم المنذر بن الجارود العبدی- و منهم یزید بن أبی مسلم مولى الحجاج- . و روی أن الحجاج أتی بامرأه من الخوارج- و بحضرته مولاه یزید بن أبی مسلم- و کان یستسر برأی الخوارج- فکلم الحجاج المرأه فأعرضت عنه- فقال لها یزید الأمیر ویلک یکلمک- فقالت بل الویل لک أیها الفاسق الردی‏ء- و الردی‏ء عند الخوارج- هو الذی یعلم الحق من قولهم و یکتمه- . و منهم صالح بن عبد الرحمن صاحب دیوان العراق- . و ممن ینسب إلى هذا الرأی من السلف- جابر بن زید و عمرو بن دینار و مجاهد- . و ممن ینسب إلیه بعد هذه الطبقه- أبو عبیده معمر بن المثنى التیمی- یقال إنه کان یرى رأی الصفریه- .

و منهم الیمان بن رباب و کان على رأی البیهسیه- و عبد الله بن یزید و محمد بن حرب و یحیى بن کامل- و هؤلاء إباضیه- . و قد نسب إلى هذا المذهب أیضا من قبل- أبو هارون العبدی و أبو الشعثاء و إسماعیل بن سمیع و هبیره بن بریم- .
و زعم ابن قتیبه أن ابن هبیره کان من غلاه الشیعه- . و نسب أبو العباس محمد بن یزید المبرد- إلى رأی الخوارج- لإطنابه فی کتاب المعروف ب الکامل فی ذکرهم- و ظهور المیل منه إلیهم

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۵ 

بازدیدها: ۲۶۹

خطبه ۵۸ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

الجزء الخامس

تتمه الخطب و الأوامر

بسم الله الرحمن الرحیم- و الحمد لله رب العالمین- و الصلاه و السلام على خیر خلقه محمد و آله أجمعین

۵۸ و قال ع لما عزم على حرب الخوارج- و قیل له إن القوم قد عبروا جسر النهروان

مَصَارِعُهُمْ دُونَ النُّطْفَهِ- وَ اللَّهِ لَا یُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَهٌ وَ لَا یَهْلِکُ مِنْکُمْ عَشَرَهٌ قال الرضی رحمه الله یعنى بالنطفه ماء النهر- و هی أفصح کنایه عن الماء و إن کان کثیرا جما- و قد أشرنا إلى ذلک فیما تقدم عند مضی ما أشبهه هذا الخبر من الأخبار التی تکاد تکون متواتره- لاشتهاره و نقل الناس کافه له- و هو من معجزاته و أخباره المفصله عن الغیوب- . و الأخبار على قسمین- أحدهما الأخبار المجمله و لا إعجاز فیها- نحو أن یقول الرجل لأصحابه- إنکم‏ ستنصرون على هذه الفئه التی تلقونها غدا- فإن نصر جعل ذلک حجه له عند أصحابه و سماها معجزه- و إن لم ینصر قال لهم- تغیرت نیاتکم و شککتم فی قولی فمنعکم الله نصره- و نحو ذلک من القول- و لأنه قد جرت العاده أن الملوک و الرؤساء- یعدون أصحابهم بالظفر و النصر و یمنونهم الدول- فلا یدل وقوع ما یقع من ذلک على إخبار عن غیب- یتضمن إعجاز- .

و القسم الثانی فی الأخبار المفصله عن الغیوب- مثل هذا الخبر- فإنه لا یحتمل التلبیس- لتقییده بالعدد المعین فی أصحابه و فی الخوارج- و وقوع الأمر بعد الحرب بموجبه- من غیر زیاده و لا نقصان- و ذلک أمر إلهی عرفه من جهه رسول الله ص- و عرفه رسول الله ص من جهه الله سبحانه- و القوه البشریه تقصر عن إدراک مثل هذا- و لقد کان له من هذا الباب ما لم یکن لغیره- .

و بمقتضى ما شاهد الناس من معجزاته و أحواله- المنافیه لقوى البشر- غلا فیه من غلا- حتى نسب إلى أن الجوهر الإلهی حل فی بدنه- کما قالت النصارى فی عیسى ع- و قد أخبره النبی ص بذلک-فقال یهلک فیک رجلان محب غال و مبغض قالوقال له تاره أخرى و الذی نفسی بیده- لو لا أنی أشفق أن یقول طوائف من أمتی فیک- ما قالت النصارى فی ابن مریم- لقلت الیوم فیک مقالا- لا تمر بملإ من الناس- إلا أخذوا التراب من تحت قدمیک للبرکهذکر الخبر عن ظهور الغلاهو أول من جهر بالغلو فی أیامه عبد الله بن سبإ- قام إلیه و هو یخطب فقال له- أنت أنت و جعل یکررها- فقال له ویلک من أنا فقال أنت الله- فأمر بأخذه و أخذ قوم کانوا معه على رأیه- .

و روى أبو العباس أحمد بن عبید الله عن عمار الثقفی عن علی بن محمد بن سلیمان النوفلی عن أبیه و عن غیره من مشیخته أن علیا قال یهلک فی رجلان- محب مطر یضعنی غیر موضعی و یمدحنی بما لیس فی- و مبغض مفتر یرمینی بما أنا منه بری‏ء- . و قال أبو العباس و هذا تأویل الحدیث- المروی عن النبی ص فیه- و هوقوله إن فیک مثلا من عیسى ابن مریم- أحبته النصارى فرفعته فوق قدره- و أبغضته الیهود حتى بهتت أمه- .

قال أبو العباس- و قد کان علی عثر على قوم خرجوا من محبته- باستحواذ الشیطان علیهم- إلى أن کفروا بربهم و جحدوا ما جاء به نبیهم- و اتخذوه ربا و إلها- و قالوا أنت خالقنا و رازقنا- فاستتابهم و توعدهم فأقاموا على قولهم- فحفر لهم حفرا دخن علیهم فیها طمعا فی رجوعهم- فأبوا فحرقهم بالنارو قال‏

أ لا ترون قد حفرت حفرا
إنی إذا رأیت أمرا منکرا
وقدت ناری و دعوت قنبرا

و روى أصحابنا فی کتب المقالات- أنه لما حرقهم صاحوا إلیه- الآن ظهر لنا ظهورا بینا أنک أنت الإله- لأن ابن عمک الذی أرسلته
قال لا یعذب بالنار إلا رب النار

و روى أبو العباس عن محمد بن سلیمان بن حبیب المصیصی عن علی بن محمد النوفلی عن أبیه و مشیخته أن علیا مر بهم و هم یأکلون فی شهر رمضان نهارا- فقال أ سفر أم مرضى- قالوا و لا واحده منهما- قال أ فمن أهل الکتاب أنتم قالوا لا- قال فما بال الأکل فی شهر رمضان نهارا- قالوا أنت أنت لم یزیدوه على ذلک- ففهم مرادهم فنزل عن فرسه- فألصق خده بالتراب- ثم قال ویلکم إنما أنا عبد من عبید الله- فاتقوا الله و ارجعوا إلى الإسلام- فأبوا فدعاهم مرارا فأقاموا على أمرهم- فنهض عنهم ثم قال شدوهم وثاقا- و علی بالفعله و النار و الحطب- ثم أمر بحفر بئرین فحفرتا- فجعل إحداهما سربا و الأخرى مکشوفه- و ألقى الحطب فی المکشوفه و فتح بینهما فتحا- و ألقى النار فی الحطب فدخن علیهم- و جعل یهتف بهم و یناشدهم- ارجعوا إلى الإسلام فأبوا فأمر بالحطب و النار- و ألقى علیهم فاحترقوا
فقال الشاعر-

لترم بی المنیه حیث شاءت
إذا لم ترم بی فی الحفرتین‏

إذا ما حشتا حطبا بنار
فذاک الموت نقدا غیر دین‏

 قال فلم یبرح واقفا علیهم حتى صاروا حمما- . قال أبو العباس- ثم إن جماعه من أصحاب علی منهم عبد الله بن عباس- شفعوا فی عبد الله بن سبإ خاصه- و قالوا یا أمیر المؤمنین إنه قد تاب فاعف عنه- فأطلقه بعد أن اشترط علیه ألا یقیم بالکوفه- فقال أین أذهب قال المدائن فنفاه إلى المدائن-فلما قتل أمیر المؤمنین ع أظهر مقالته- و صارت له طائفه و فرقه یصدقونه و یتبعونه- و قال لما بلغه قتل علی- و الله لو جئتمونا بدماغه فی سبعین صره- لعلمنا أنه لم یمت- و لا یموت حتى یسوق العرب بعصاه- فلما بلغ ابن عباس ذلک- قال لو علمنا أنه یرجع لما تزوجنا نساءه- و لا قسمنا میراثه- . قال أصحاب المقالات- و اجتمع إلى عبد الله بن سبإ بالمدائن جماعه- على هذا القول- منهم عبد الله بن صبره الهمدانی- و عبد الله بن عمرو بن حرب الکندی- و آخرون غیرهما و تفاقم أمرهم- .

و شاع بین الناس قولهم- و صار لهم دعوه یدعون إلیها- و شبهه یرجعون إلیها و هی ما ظهر و شاع بین الناس- من إخباره بالمغیبات حالا بعد حال- فقالوا إن ذلک لا یمکن أن یکون إلا من الله تعالى- أو ممن حلت ذات الإله فی جسده- و لعمری إنه لا یقدر على ذلک- إلا بإقدار الله تعالى إیاه علیه- و لکن لا یلزم من إقداره إیاه علیه أن یکون هو الإله- أو تکون ذات الإله حاله فیه- و تعلق بعضهم بشبهه ضعیفه- نحو قول عمر و قد فقأ علی عین إنسان ألحد فی الحرم- ما أقول فی ید الله فقأت عینا فی حرم الله- و نحوقول علی و الله ما قلعت باب خیبر بقوه جسدانیه- بل بقوه إلهیهو نحوقول رسول الله ص لا إله إلا الله وحده- صدق وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده- و الذی هزم الأحزاب هو علی بن أبی طالب- لأنه قتل بارعهم و فارسهم عمرا لما اقتحموا الخندق- فأصبحوا صبیحه تلک اللیله هاربین مفلولین- من غیر حرب سوى قتل فارسهم- و قد أومأ بعض شعراء الإمامیه إلى هذه المقاله- فجعلها من فضائله- و ذلک قوله

إذا کنتم ممن یروم لحاقه
فهلا برزتم نحو عمرو و مرحب‏

و کیف فررتم یوم أحد و خیبر
و یوم حنین مهربا بعد مهرب‏

أ لم تشهدوا یوم الإخاء و بیعه
الغدیر و کل حضر غیر غیب‏

فکیف غدا صنو النفیلی ویحه
أمیرا على صنو النبی المرجب‏

و کیف علا من لا یطأ ثوب أحمد
على من علا من أحمد فوق منکب‏

إمام هدى ردت له الشمس جهره
فصلى أداء عصره بعد مغرب‏

و من قبله أفنى سلیمان خیله‏
رجاء فلم یبلغ بها نیل مطلب‏

یجل عن الأفهام کنه صفاته
و یرجع عنها الذهن رجعه أخیب‏

فلیس بیان القول عنه بکاشف‏
غطاء و لا فصل الخطاب بمعرب‏

و حق لقبر ضم أعضاء حیدر
و غودر منه فی صفیح مغیب

یکون ثراه سر قدس ممنع
و حصباؤه من نور وحی محجب‏

و تغشاه من نور الإله غمامه
تغادیه من قدس الجلال بصیب‏

و تنقض أسراب النجوم عواکفا
على حجرتیه کوکب بعد کوکب‏

فلولاک لم ینج ابن متى و لا خبا
سعیر لإبراهیم بعد تلهب‏

و لا فلق البحر ابن عمران
بالعصا و لا فرت الأحزاب عن أهل یثرب‏

و لا قبلت من عابد صلواته‏
و لا غفر الرحمن زله مذنب‏

و لم یغل فیک المسلمون جهاله
و لکن لسر فی علاک مغیب‏

و قالوا أیضا إن بکریا و شیعیا تجادلا- و احتکما إلى بعض أهل الذمه- ممن لا هوى له مع أحد الرجلین فی التفضیل- فأنشدهما

کم بین من شک فی عقیدته
و بین من قیل إنه الله‏

طرق الإخبار عن الغیوب

فأما الإخبار عن الغیوب- فلمعترض أن یقول قد یقع الإخبار عن الغیوب- من طریق النجوم- فإن المنجمین قد اتفقوا- على أن شکلا من أشکال الطالع إذا وقع لمولود- اقتضى أن یکون صاحبه متمکنا من الإخبار عن الغیوب- . و قد یقع الإخبار عن الغیوب من الکهان- کما یحکى عن سطیح و شق و سواد بن قارب و غیرهم- .

و قد یقع الإخبار عن الغیوب لأصحاب زجر الطیر و البهائم- کما یحکى عن بنی لهب فی الجاهلیه- . و قد یقع الإخبار عن الغیوب للقافه- کما یحکى عن بنی مدلج- . و قد یخبر أرباب النیرنجات- و أرباب السحر و الطلسمات بالمغیبات- و قد یقع الإخبار عن الغیوب- لأرباب النفس الناطقه القویه الصافیه- التی تتصل مادتها الروحانیه- على ما تقوله الفلاسفه- و قد یقع الإخبار عن الغیوب بطریق المنامات الصادقه- على ما رآه أکثر الناس و قد وردت الشریعه نصا به- .

و قد یقع الإخبار عن الغیوب بأمر صناعی یشبه الطبیعی- کما رأیناه عن أبی البیان و ابنه- . و قد یقع الإخبار عن الغیوب- بواسطه إعلام ذلک الغیب إنسانا آخر- لنفسه بنفس ذلک المخبر اتحاد أو کالاتحاد- و ذلک کما یحکی أبو البرکات بن ملکا الطبیب- فی کتاب المعتبر- قال و المرأه العمیاء التی رأیناها ببغداد- و تکررت مشاهدتنا لها منذ مده مدیده- قدرها ما یقارب ثلاثین سنه- و هی على ذلک إلى الآن تعرض علیها الخبایا- فتدل علیها بأنواعها و أشکالها و مقادیرها- و أعدادها غریبها و مألوفها دقیقهاو جلیلها- تجیب على أثر السؤال من غیر توقف- و لا استعانه بشی‏ء من الأشیاء- إلا أنها کانت تلتمس أن ترى الذی یسأل عنه أبوها- أو یسمعه فی بعض الأوقات دون بعض- و عند قوم دون قوم- فیتصور فی أمرها أن الذی تقوله بإشاره من أبیها- و کان الذی تقوله یبلغ من الکثره- إلى ما یزید على عشرین کلمه- إذا قیل بصریح الکلام الذی هو الطریق الأخصر- و إنما کان أبوها یقول إذا رأى ما یراه من أشیاء کثیره- مختلفه الأنواع و الأشکال فی مده واحده کلمه واحده- و أقصاه کلمتان و هی التی یکررها فی کل قول- و مع کل ما یسمع و یرى- سلها و سلها تخبرک أو قولی له أو قولی یا صغیره- .

قال أبو البرکات و لقد عاندته یوما- و حاققته فی ألا یتکلم البته- و أریته عده أشیاء- فقال لفظه واحده فقلت له الشرط أملک- فاغتاظ و احتد طیشه عن أن یملک نفسه- فباح بخبیئته- قال و مثلک یظن أننی أشرت إلى هذا کله بهذه اللفظه- فاسمع الآن ثم التفت إلیها- و أخذ یشیر بإصبعه إلى شی‏ء و هو یقول تلک الکلمه- و هی تقول هذا کذا و هذا کذا- على الاتصال من غیر توقف- و هو یقول تلک الکلمه لا زیاده علیها- و هی لفظه واحده بلحن واحد و هیئه واحده- حتى ضجرنا و اشتد تعجبنا- و رأینا أن هذه الإشاره لو کانت تتضمن هذه الأشیاء- لکانت أعجب من کل ما تقوله العمیاء- .

قال أبو البرکات و من عجیب ما شاهدناه من أمرها- أن أباها کان یغلط فی شی‏ء یعتقده على خلاف ما هو به- فتخبر هی عنه على معتقد أبیها کان نفسها هی نفسه- . قال أبو البرکات- و رأیناها تقول ما لا یعلمه أبوها- من خبیئه فی الخبیئه التی اطلع علیها أبوها- فکانت تطلع على ما قد علمه أبوها- و على ما لم یعلمه أبوها و هذا أعجب و أعجب- .

قال أبو البرکات و حکایاتها أکثر من أن تعد- و عند کل أحد من الناس من حدیثها ما لیس عند الآخر- لأنها کانت تقول من ذلک على الاتصال- لشخص شخص جوابا بحسب السؤال- . قال و ما زلت أقول- إن من یأتی بعدنا لا یصدق ما رأیناه منها- فإن قلت لی أرید- أن تفیدنی العله فی معرفه المغیبات هذه- قلت لک العله التی تصلح فی جواب لم- فی نسبه المحمول إلى الموضوع- تکون الحد الأوسط فی القیاس و هذه- فالعله الفاعله الموجبه لذلک فیها- هی نفسها بقوتها و خاصتها- فما الذی أقوله فی هذا- و هل لی أن أجعل ما لیس بعله عله- .

و اعلم أنا لا ننکر أن یکون فی نوع البشر- أشخاص یخبرون عن الغیوب- و لکن کل ذلک مستند إلى البارئ سبحانه- بإقداره و تمکینه و تهیئه أسبابه- فإن کان المخبر عن الغیوب ممن یدعی النبوه- لم یجز أن یکون ذلک إلا بإذن الله سبحانه و تمکینه- و أن یرید به تعالى استدلال المکلفین- على صدق مدعى النبوه- لأنه لو کان کاذبا- لکان یجوز أن یمکن الله تعالى الجن من تعلیمه ذلک- إضلالا للمکلفین- و کذلک لا یجوز أن یمکن سبحانه الکاذب- فی ادعاء النبوه من الإخبار عن الغیب- بطریق السحر و تسخیر الکواکب و الطلسمات- و لا بالزجر و لا بالقیافه- و لا بغیر ذلک من الطرق المذکوره- لما فیه من استفساد البشر و إغوائهم- . و أما إذا لم یکن المخبر عن الغیوب مدعیا للنبوه- نظر فی حاله- فإن کان ذلک من الصالحین الأتقیاء- نسب ذلک إلى أنه کرامه أظهرها الله تعالى على یده- إبانه له و تمییزامن غیره- کما فی حق علی ع- و إن لم یکن کذلک أمکن أن یکون ساحرا أو کاهنا- أو نحو ذلک- . و بالجمله فصاحب هذه الخاصیه أفضل- و أشرف ممن لا تکون فیه من حیث اختصاصه بها- فإن کان للإنسان العاری منها مزیه أخرى- یختص بها توازیها أو تزید علیها- فنرجع إلى التمییل و الترجیح بینهما- و إلا فالمختص بهذه الخاصیه أرجح- و أعظم من الخالی منها على جمیع الأحوال

شرح‏ نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۵ 

بازدیدها: ۵۷

خطبه ۵۷ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(قسمت دوم)

عبد ربه الصغیر

و منهم عبد ربه الصغیر- أحد موالی قیس بن ثعلبه- . لما اختلفت الخوارج على قطری- بایعه منهم جمع کثیر- و کان قطری قد عزم على أن یبایع للمقعطر العبدی- و یخلع نفسه فجعله أمیر الجیش فی الحرب- قبل أن یعهد إلیه بالخلافه فکرهه القوم و أبوه- و قال صالح بن مخراق عنهم و عن نفسه- ابغ لنا غیر المقعطر فقال لهم قطری- إنی أرى طول العهد قد غیرکم و أنتم بصدد عدو- فاتقوا الله و أقبلوا على شأنکم و استعدوا للقاء القوم- فقال صالح إن الناس قبلنا قد سألوا عثمان بن عفان- أن یعزل سعید بن العاصی عنهم ففعل- و یجب على الإمام أن یعفی الرعیه مما کرهت- فأبى قطری أن یعزل المقعطر فقال له القوم- فإنا قد خلعناک و بایعنا عبد ربه الصغیر- و کان عبد ربه هذا معلم کتاب- و کان عبد ربه الکبیر بائع رمان- و کلاهما من موالی قیس بن ثعلبه- فانفصل إلى عبد ربه الصغیر أکثر من شطرهم- و جلهم الموالی و العجم- و کان منهم هناک ثمانیه آلاف و هم القراء- ثم ندم صالح بن مخراق و قال لقطری- هذه نفخه من نفخات الشیطان فأعفنا من المقعطر- و سر بنا إلى عدونا و عدوک- فأبى قطری إلا للمقعطر- و حمل فتى من الشراه على صالح بن مخراق- فطعنه فأنفذه و أوجره الرمح- . فنشبت الحرب بینهم فتهایجوا- ثم انحاز کل قوم إلى صاحبهم- فلما کان الغد اجتمعوا فاقتتلوا- فأجلت الحرب عن ألفی قتیل- فلما کان الغد عاودوا الحرب- فلم ینتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب عن المدینه-

فأقام عبد ربه بها- و صار قطری خارجا من‏ مدینه جیرفت بإزائهم- فقال له عبیده بن هلال یا أمیر المؤمنین- إن أقمت لم آمن هذه العبید علیک- إلا أن تخندق على نفسک- فخندق على باب المدینه و جعل یناوشهم- و ارتحل المهلب و کان منهم على لیله- و رسول الحجاج معه یستحثه فقال له أصلح الله الأمیر- عاجلهم قبل أن یصطلحوا- فقال المهلب إنهم لن یصطلحوا- و لکن دعهم فإنهم سیصیرون إلى حال لا یفلحون معها- ثم دس رجلا من أصحابه- فقال ائت عسکر قطری- فقل إنی لم أزل أرى قطریا یصیب الرأی- حتى نزل منزله هذا فظهر خطؤه- أ یقیم بین المهلب و عبد ربه- یغادیه القتال هذا و یراوحه هذا- فنمی الکلام إلى قطری- فقال صدق تنحوا بنا عن هذا الموضع- فإن اتبعنا المهلب قاتلناه- و إن أقام على عبد ربه رأیتم فیه ما تحبون- . فقال له الصلت بن مره یا أمیر المؤمنین- إن کنت إنما ترید الله فأقدم على القوم- و إن کنت إنما ترید الدنیا- فأعلم أصحابک حتى یستأمنوا ثم قال-

قل للمحلین قد قرت عیونکم
بفرقه القوم و البغضاء و الهرب‏

کنا أناسا على دین فغیرنا
طول الجدال و خلط الجد باللعب‏

ما کان أغنى رجالا قل جیشهم
عن الجدال و أغناهم عن الخطب‏

إنی لأهونکم فی الأرض مضطربا
ما لی سوى فرسی و الرمح من نشب‏

ثم قال أصبح المهلب یرجو منا ما کنا نطمع منه فیه- . و ارتحل قطری و بلغ ذلک المهلب- فقال لهزیم بن أبی طحمه المجاشعی- إنی لا آمن أن یکون کاذبا بترک موضعه- اذهب فتعرف الخبر- فمضى الهزیم فی اثنی عشر فارسا- فلم یر فی المعسکر إلا عبدا و علجا مریضین- فسألهما عن قطری و أصحابه- فقالا مضوا یرتادون غیر هذا المنزل- فرجع هزیم إلى المهلب فأخبره- فارتحل حتى نزل خندق قطری- فجعل یقاتل عبد ربه أحیانا بالغداه و أحیانا بالعشی- فقال رجل من سدوس یقال له المعتق و کان فارسا-

لیت الحرائر بالعراق شهدننا
و رأیننا بالسفح ذی الأجبال‏

فنکحن أهل الجد من فرساننا
و الضاربین جماجم الأبطال‏

و وجه المهلب یزید ابنه إلى الحجاج- یخبره بأنه قد نزل منزل قطری- و أنه مقیم على عبد ربه- و یسأله أن یوجه فی أثر قطری رجلا جلدا- فسر بذلک الحجاج سرورا أظهره- ثم کتب إلى المهلب یستحثه لمناجزه القوم مع عبید بن موهب- . أما بعد فإنک تتراخى عن الحرب- حتى تأتیک رسلی فیرجعون بعذرک- و ذلک أنک تمسک حتى تبرأ الجراح- و تنسى القتلى و تحمل الکال ثم تلقاهم- فتحمل منهم ثقل ما یحتملون منک من وحشه القتل- و ألم الجراح- و لو کنت تلقاهم بذلک الجد- لکان الداء قد حسم و القرن قد قصم- و لعمری ما أنت و القوم سواء- لأن من ورائک رجالا و أمامک أموالا- و لیس للقوم إلا ما نعهد- و لا یدرک الوجیف بالدبیب- و لا الظفر بالتعذیر- . فلما ورد علیه الکتاب قال لأصحابه- یا قوم إن الله قد أراحکم من أمور أربعه- قطری بن الفجاءه و صالح بن مخراق- و عبیده بن هلال و سعد بن الطلائع- و إنما بین أیدیکم عبد ربه الصغیر فی خشار من خشار الشیطان- تقتلونهم إن شاء الله تعالى- .

فکانوا یتغادون القتال و یتراوحون- فتصیبهم الجراح ثم یتحاجزون- فکأنما انصرفوا عن مجلس کانوا یتحدثون فیه- یضحک بعضهم إلى بعض- فقال عبید بن موهب للمهلب قد بان عذرک- فاکتب فإنی مخبر الأمیر- . فکتب إلى الحجاج- أما بعد فإنی لم أعط رسلک على قول الحق أجرا- و لم أحتج منهم عن المشاهده إلى تلقین- ذکرت إنی أجم القوم- و لا بد من وقت راحه یستریح فیه الغالب- و یحتال فیه المغلوب- و ذکرت أن فی الجمام ما ینسی القتلى و تبرأ منه الجراح- هیهات أن ینسى ما بیننا و بینهم- تأبى ذلک قتلى لم تجن- و قروح لم تتقرب و نحن و القوم على حاله- و هم یرقبون منا حالات- إن طمعوا حاربوا و إن ملوا وقفوا- و إن یئسوا انصرفوا و علینا أن نقاتلهم إذا قاتلوا- و نتحرز إذا وقفوا و نطلب إذا هربوا- فإن ترکتنی و الرأی کان القرن مقصوما- و الداء بإذن الله محسوما- و إن أعجلتنی لم أطعک و لم أعصک- و جعلت وجهی إلى بابک- و أعوذ بالله من سخط الله و مقت الناس- . قال و لما اشتد الحصار على عبد ربه قال لأصحابه- لا تفتقروا إلى من ذهب عنکم من الرجال- فإن المسلم لا یفتقر مع الإسلام إلى غیره- و المسلم إذا صح توحیده عز بربه- و قد أراحکم الله من غلظه قطری- و عجله صالح بن مخراق و نخوته و اختلاط عبیده بن هلال- و وکلکم إلى بصائرکم- فالقوا عدوکم بصبر و نیه و انتقلوا عن منزلکم هذا- فمن قتل منکم قتل شهیدا- و من سلم من القتل فهو المحروم- .

قال- و ورد فی ذلک الوقت على المهلب- عبید بن أبی ربیعه بن أبی الصلت الثقفی من عند الحجاج- یستحثه بالقتال و معه أمینان- فقال للمهلب خالفت وصیه الأمیر و آثرت المدافعه و المطاوله- فقال له المهلب و الله ما ترکت جهدا- . فلما کان العشی خرجت الأزارقه- و قد حملوا حریمهم و أموالهم و خف متاعهم لینتقلوا- فقال المهلب لأصحابه الزموا مصافکم- و أشرعوا رماحکم و دعوهم و الذهاب- فقال له عبیده بن أبی ربیعه هذا لعمری أیسر علیک- فغضب و قال للناس ردوهم عن وجههم- و قال لبنیه تفرقوا فی الناس- و قال لعبیده بن أبی ربیعه کن مع یزید- فخذه بالمحاربه أشد الأخذ- و قال لأحد الأمینین کن مع المغیره- و لا ترخص له فی الفتور- . فاقتتلوا قتالا شدیدا حتى عقرت الخیل- و صرع الفرسان و قتلت الرجاله- و جعلت الخوارج تقاتل عن القدح یؤخذ منها- و السوط و العلف و الحشیش أشد قتال- . و سقط رمح لرجل من مراد من الخوارج- فقاتلوا علیه حتى کثر الجراح و القتل- و ذلک مع المغرب و المرادی یرتجز و یقول-

اللیل لیل فیه ویل ویل
قد سال بالقوم الشراه السیل‏
إن جاز للأعداء فینا قول‏

فلما عظم الخطب فی ذلک الرمح- بعث المهلب إلى المغیره- خل لهم عن الرمح علیهم لعنه الله- فخلوا لهم عنه و مضت الخوارج- فنزلت على أربعه فراسخ من جیرفت فدخلها المهلب- و أمر بجمع ما کان لهم من متاع و ما خلفوه من دقیق- و جثم علیه و هو و الثقفی و الأمینان- ثم اتبعهم فوجدهم قد نزلوا على ماء و عین- لا یشرب منها أحد إلا قوی- یأتی الرجل بالدلو قد شدها فی طرف رمحه فیستقی بها- و هناک قریه فیها أهلها فغاداهم القتال- و ضم الثقفی إلى ابنه یزید و أحد الأمینین إلى المغیره- فاقتتل القوم إلى نصف النهار- . و قال المهلب لأبی علقمه العبدی و کان شجاعا- و کان عاتیا هازلا أمددنا یا أبا علقمه بخیل الیحمد- و قل لهم فلیعیرونا جماجمهم ساعه- فقال أیها الأمیر إن جماجمهم لیست بفخار فتعار- و لا أعناقهم کرادی فتنبت- . و قال لحبیب بن أوس کر على القوم فلم یفعل و قال-

یقول لی الأمیر بغیر علم
تقدم حین جد به المراس‏

فما لی إن أطعتک من حیاه
و ما لی غیر هذا الرأس رأس‏

و قال لمعن بن المغیره بن أبی صفره احمل فقال- لا إلا أن تزوجنی ابنتک أم مالک- فقال قد زوجتک فحمل على الخوارج فکشفهم و طعن فیهم- و قال

لیت من یشتری الحیاه بمال
ملکه کان عندنا فیرانا

نصل الکر عند ذاک بطعن
إن للموت عندنا ألوانا

 قوله ملکه أی تزویجا و نکاحا- . قال ثم جال الناس جوله عند حمله حملها علیهم الخوارج- فالتفت المهلب فقال للمغیره ابنه- ما فعل الأمین الذی کان معک- قال قتل و هرب الثقفی- فقال لیزید ما فعل عبید بن أبی ربیعه- قال لم أره منذ کانت الجوله- فقال الأمین الآخر للمغیره أنت قتلت صاحبی- فلما کان العشی رجع الثقفی- فقال رجل من بنی عامر بن صعصعه-

ما زلت یا ثقفی تخطب بیننا
و تغمنا بوصیه الحجاج‏

حتى إذا ما الموت أقبل زاخرا
و سقى لنا صرفا بغیر مزاج‏

ولیت یا ثقفی غیر مناظر
تنساب بین أحزه و فجاج‏

لیست مقارعه الکماه لدى الوغى‏
شرب المدامه فی إناء زجاج‏

فقال المهلب للأمین الآخر- ینبغی أن تتوجه مع ابنی حبیب فی ألف رجل- حتى تبیتوا عسکرهم فقال- ما ترید أیها الأمیر إلا أن تقتلنی کما فعلت بصاحبی- فضحک المهلب و قال ذاک إلیک و لم یکن للقوم خنادق- فکان کل حذرا من صاحبه- غیر أن الطعام و العده مع المهلب- و هو فی زهاء ثلاثین ألفا- فلما أصبح أشرف على واد- فإذا هو برجل معه رمح مکسور مخضوب بالدم و هو ینشد-

و إنی لأعفی ذا الخمار و صنعتی
إذا راح أطواء بنی الأصاغر

أخادعهم عنه لیغبق دونهم
و أعلم غیر الظن أنی مغاور

کأنی و أبدان السلاح عشیه
یمر بنا فی بطن فیحان طائر

 فقال له أ تمیمی أنت قال نعم قال أ حنظلی قال نعم- قال أ یربوعی قال نعم قال أ من آل نویره قال نعم- أنا ولد مالک بن نویره قال قد عرفتک بالشعر- . قال أبو العباس و ذو الخمار فرس مالک بن نویره- . قال فمکثوا أیاما یتحاربون و دوابهم مسرجه- و لا خنادق لهم حتى ضعف الفریقان- فلما کان اللیله التی قتل فی صبیحتها عبد ربه- جمع أصحابه فقال یا معشر المهاجرین- إن قطریا و عبیده هربا طلبا للبقاء- و لا سبیل إلى البقاء فالقوا عدوکم غدا- فإن غلبوکم على الحیاه فلا یغلبنکم على الموت- فتلقوا الرماح بنحورکم و السیوف بوجوهکم- و هبوا أنفسکم لله فی الدنیا یهبها لکم فی الآخره- . فلما أصبحوا غادوا المهلب- فاقتتلوا قتالا شدیدا أنسى ما کان قبله- و قال رجل من الأزد من أصحاب المهلب- من یبایعنی على الموت فبایعه أربعون رجلا من الأزد- فصرع بعضهم و قتل بعضهم و جرح بعضهم- .
و قال عبد الله بن رزام الحارثی للمهلب احملوا- فقال المهلب أعرابی مجنون- و کان من أهل نجران فحمل وحده- فاخترق القوم حتى خرج من ناحیه أخرى- ثم کر ثانیه ففعل فعلته الأولى و تهایج الناس- فترجلت الخوارج و عقروا دوابهم- فناداهم عمرو القنا- و لم یترجل هو و لا أصحابه و هم زهاء أربعمائه فقال- موتوا على ظهور دوابکم کراما و لا تعقروها فقالوا- إنا إذا کنا على الدواب ذکرنا الفرار فاقتتلوا- و نادى المهلب بأصحابه الأرض الأرض- و قال لبنیه تفرقوا فی الناس لیروا وجوهکم- و نادت الخوارج ألا إن العیال لمن غلب- فصبر بنو المهلب- و قاتل یزید بین یدی أبیه قتالا شدیدا أبلى فیه-

فقال له أبوه یا بنی- إنی أرى موطنا لا ینجو فیه إلا من صبر- و ما مر بی یوم مثل هذا منذ مارست الحروب- . و کسرت الخوارج أجفان سیوفها و تجاولوا- فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقتولا- . فهرب عمرو القنا و أصحابه و استأمن قوم- و أجلت الحرب عن أربعه آلاف- قتیل و جریح من الخوارج و مأسور- و أمر المهلب أن یدفع کل جریح إلى عشیرته- و ظفر بعسکرهم فحوى ما فیه ثم انصرف إلى جیرفت- فقال الحمد لله الذی ردنا إلى الخفض و الدعه- فما کان عیشنا ذلک العیش- . ثم نظر المهلب إلى قوم فی عسکره و لم یعرفهم فقال- ما أشد عاده السلاح ناولنی درعی فلبسها ثم قال- خذوا هؤلاء فلما صیرهم إلیه قال ما أنتم قالوا- جئنا لنطلب غرتک للفتک بک فأمر بهم فقتلوا

طرف من أخبار المهلب و بینه

و وجه کعب بن معدان الأشقری و مره بن بلید الأزدی- فوردا على الحجاج فلما طلعا علیه تقدم کعب فأنشده-یا حفص إنی عدانی عنکم السفر فقال الحجاج أ شاعر أم خطیب قال شاعر- فأنشده القصیده فأقبل علیه الحجاج و قال- خبرنی عن بنی المهلب قال المغیره سیدهم و فارسهم- و کفى بیزید فارسا شجاعا و جوادهم و سخیهم قبیصه- و لا یستحی الشجاع أن یفر من مدرک- و عبد الملک سم ناقع و حبیب موت ذعاف- و محمد لیث غاب و کفاک بالفضل نجده- فقال له فکیف خلفت جماعه الناس قال خلفتهم بخیر- قد أدرکوا ما أملوا و أمنوا ما خافوا قال- فکیف کان بنو المهلب فیهم قال- کانوا حماه السرح فإذا ألیلوا ففرسان البیات-

قال فأیهم کان أنجد قال کانوا کالحلقه المفرغه- لا یدرى أین طرفاها- قال فکیف کنتم أنتم و عدوکم قال- کنا إذا أخذنا عفونا و إذا أخذوا یئسنا منهم- و إذا اجتهدنا و اجتهدوا طمعنا فیهم- قال الحجاج إن العاقبه للمتقین فکیف أفلتکم قطری- قال کدناه و ظن أن قد کادنا بأن صرنا منه إلى التی نحب- قال فهلا اتبعتموه قال- کان حرب الحاضر آثر عندنا من اتباع الفل- قال فکیف کان المهلب لکم و کنتم له- قال کان لنا منه شفقه الوالد و له منا بر الولد- قال فکیف کان اغتباط الناس به- قال نشأ فیهم الأمن و شملهم النفل- قال أ کنت أعددت لی هذا الجواب قال- لا یعلم الغیب إلا الله قال هکذا و الله تکون الرجال- المهلب کان أعلم بذلک حیث بعثک- . هذه روایه أبی العباس- . و روى أبو الفرج فی الأغانی- أن کعبا لما أوفده المهلب إلى الحجاج- أنشده قصیدته التی أولها-

یا حفص إنی عدانی عنکم السفر
و قد سهرت و آذى عینی السهر

 یذکر فیها حروب المهلب مع الخوارج- و یصف وقائعه فیهم فی بلد و هی طویله و من جملتها-

کنا نهون قبل الیوم شأنهم
حتى تفاقم أمر کان یحتقر

لما وهنا و قد حلوا بساحتنا
و استنفر الناس تارات فما نفروا

نادى امرؤ لا خلاف فی عشیرته
عنه و لیس به عن مثله قصر

خبوا کمینهم بالسفح إذ نزلوا
بکازرون فما عزوا و لا نصروا

باتت کتائبنا تردی مسمومه
حول المهلب حتى نور القمر

هناک ولوا خزایا بعد ما هزموا
و حال دونهم الأنهار و الجدر

تأبى علینا حزازات النفوس فما
نبقی علیهم و لا یبقون إن قدروا

فضحک الحجاج و قال إنک لمنصف یا کعب- ثم قال له کیف کانت حالکم مع عدوکم- قال کنا إذا لقیناهم بعفونا و عفوهم یئسنا منهم- و إذا لقیناهم بجدنا وجدهم طمعنا فیهم- قال فکیف کان بنو المهلب قال- حماه الحریم نهارا و فرسان اللیل تیقظا- قال فأین السماع من العیان قال السماع دون العیان- قال‏صفهم لی رجلا رجلا قال- المغیره فارسهم و سیدهم نار ذاکیه و صعده عالیه- و کفى بیزید فارسا شجاعا لیث غاب و بحر جم العباب- و جوادهم قبیصه لیث المغار و حامی الذمار- و لا یستحی الشجاع أن یفر من مدرک و کیف لا یفر من مدرک- و کیف لا یفر من الموت الحاضر و الأسد الخادر- و عبد الملک سم ناقع و سیف قاطع- و حبیب الموت الذعاف طود شامخ و بحر باذح- و أبو عیینه البطل الهمام و السیف الحسام- و کفاک بالمفضل نجده لیث هدار و بحر مواز- و محمد لیث غاب و حسام ضراب- قال فأیهم أفضل- قال هم کالحلقه المفرغه لا یعرف طرفاها- قال فکیف جماعه الناس قال- على أحسن حال أرضاهم العدل و أغناهم النفل- قال فکیف رضاهم بالمهلب قال- أحسن رضا لا یعدمون منه إشفاق الوالد- و لا یعدم منهم بر الولد و ذکر تمام الحدیث- .

و قال إن الحجاج أمر له بعشرین ألف درهم- و حمله على فرس و أوفده على عبد الملک- فأمر له بعشرین ألفا أخرى- . قال أبو الفرج- و کعب الأشقری من شعراء المهلب و مادحیه- و هو شاعر مجید- قال عبد الملک بن مروان للشعراء- تشبهوننی مره بالأسد و مره بالبازی- ألا قلتم کما قال کعب الأشقری للمهلب و ولده-

براک الله حین براک بحرا
و فجر منک أنهارا غزارا

بنوک السابقون إلى المعالی
إذا ما أعظم الناس الخطارا

کأنهم نجوم حول بدر
تکمل إذ تکمل فاستدارا

ملوک ینزلون بکل ثغر
إذا ما الهام یوم الروع طارا

رزان فی الخطوب ترى علیهم‏
من الشیخ الشمائل و النجارا

نجوم یهتدى بهم إذا ما
أخو الغمرات فی الظلماء حارا

قال أبو الفرج و هذا الشعر من قصیده لکعب- یمدح بها المهلب و یذکر الخوارج و منها-

سلوا أهل الأباطح من قریش
عن المجد المؤثل أین صارا

لقوم الأزد فی الغمرات أمضى
و أوفى ذمه و أعز جارا

هم قادوا الجیاد على وجاها
من الأمصار یقذفن المهارا

إلى کرمان یحملن المنایا
بکل ثنیه یوقدن نارا

شوازب ما أصبنا الثار حتى‏
رددناها مکلمه مرارا

غداه ترکن مصرع عبد رب
نثرن علیه من رهج غبارا

و یوم الزحف بالأهواز ظلنا
نروی منهم الأسل الحرارا

فقرت أعین کانت حزینا
قلیلا نومها إلا غرارا

و لو لا الشیخ بالمصرین ینفی‏
عدوهم لقد نزلوا الدیارا

و لکن قارع الأبطال حتى
أصابوا الأمن و احتلوا القرارا

إذا وهنوا و حل بهم عظیم
یدق العظم کان لهم جبارا

و مبهمه یحید الناس عنها
تشب الموت شد لها إزارا

شهاب تنجلی الظلماء عنه
یرى فی کل مظلمه منارا

براک الله حین براک بحرا
و فجر منک أنهارا غزارا

 الأبیات المتقدمه- . قال أبو الفرج و حدثنی محمد بن خلف وکیع بإسناد ذکره- أن الحجاج لما کتب إلى المهلب- یأمره بمناجزه الخوارج حینئذ و یستبطئه و یضعفه- و یعجزه من تأخیره أمرهم و مطاولته لهم- قال المهلب لرسوله قل له- إنما البلاء أن یکون الأمر لمن یملکه لا لمن یعرفه- فإن کنت نصبتنی لحرب هؤلاء القوم- على أن أدبرها کما أرى فإذا أمکنتنی فرصه انتهزتها- و إن لم تمکنی توقفت فأنا أدبر ذلک بما یصلحه- و إن أردت أن أعمل برأیک و أنا حاضر و أنت غائب- فإن کان صوابا فلک و إن کان خطأ فعلی- فابعث من رأیت مکانی- و کتب من فوره بذلک إلى عبد الملک- فکتب عبد الملک إلى الحجاج- لا تعارض المهلب فیما یراه و لا تعجله و دعه یدبر أمره- . قال و قام کعب الأشقری إلى المهلب- فأنشده بحضره رسول الحجاج-

إن ابن یوسف غره من أمرکم
خفض المقام بجانب الأمصار

لو شهد الصفین حیث تلاقیا
ضاقت علیه رحیبه الأقطار

من أرض سابور الجنود و خیلنا
مثل القداح بریتها بشفار

من کل صندید یرى بلبانه
وقع الظبات مع القنا الخطار

لرأى معاوده الرباع غنیمه
أزمان کان محالف الإقتار

فدع الحروب لشیبها و شبابها
و علیک کل غریره معطار

 فبلغت أبیاته الحجاج- فکتب إلى المهلب یأمره بإشخاص کعب الأشقری إلیه- فأعلم المهلب کعبا بذلک- و أوفده إلى عبد الملک من لیلته- و کتب إلیه یستوهبه منه- فقدم کعب على عبد الملک برساله المهلب- فاستنطقه فأعجبه و أوفده إلى الحجاج- و کتب إلیه یقسم علیه أن یصفح- و یعفو عما بلغه من شعره فلما دخل قال إیه یا کعب-

لرأی معاوده الرباع غنیمه

فقال أیها الأمیر- و الله لوددت فی بعض ما شاهدته من تلک الحروب- و ما أوردناه المهلب من خطرها- أن أنجو منها و أکون حجاما أو حائکا قال أولى لک- لو لا قسم أمیر المؤمنین ما نفعک ما تقول- الحق بصاحبک و رده إلى المهلب- . قال أبو العباس و کان کتاب المهلب إلى الحجاج- الذی بشره فیه بالظفر و النصر- بسم الله الرحمن الرحیم- الحمد لله الکافی بالإسلام فقد ما سواه- الحاکم بألا ینقطع المزید من فضله- حتى ینقطع الشکر من عباده أما بعد-فقد کان من أمرنا ما قد بلغک- و کنا نحن و عدونا على حالین مختلفین- یسرنا منهم أکثر مما یسوءنا- و یسوءهم منا أکثر مما یسرهم على اشتداد شوکتهم- فقد کان علا أمرهم حتى ارتاعت له الفتاه- و نوم به الرضیع- فانتهزت الفرصه منهم فی وقت إمکانها- و أدنیت السواد من السواد حتى تعارفت الوجوه- فلم نزل کذلک حتى بلغ الکتاب أجله- فقطع دابر القوم الذین ظلموا- و الحمد لله رب العالمین- .

فکتب إلیه الحجاج- أما بعد فقد فعل الله بالمسلمین خیرا- و أراحهم من بأس الجلاد و ثقل الجهاد- و لقد کنت أعلم بما قبلک- فالحمد لله رب العالمین- فإذا ورد علیک کتابی فأقسم فی المجاهدین فیئهم- و نفل الناس على قدر بلائهم- و فضل من رأیت تفضیله- و إن کانت بقیت من القوم بقیه- فخلف خیلا تقوم بإزائهم- و استعمل على کرمان من رأیت- و ول الخیل شهما من ولدک- و لا ترخص لأحد فی اللحاق بمنزله دون أن تقدم بهم علی- و عجل القدوم إن شاء الله- . فولى المهلب یزید ابنه کرمان و قال له یا بنی- إنک الیوم لست کما کنت- إنما لک من کرمان ما فضل عن الحجاج- و لن تحتمل إلا على ما احتمل علیه أبوک- فأحسن إلى من تبعک- و إن أنکرت من إنسان شیئا فوجه إلی- و تفضل على قومک إن شاء الله- .ثم قدم المهلب على الحجاج فأجلسه إلى جانبه- و أظهر بره و إکرامه و قال یا أهل العراق- أنتم عبید قن للمهلب- ثم قال أنت و الله کما لقیط-

فقلدوا أمرکم لله درکم
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

لا یطعم النوم إلا ریث یبعثه‏
هم یکاد حشاه یقصم الضلعا

لا مترفا إن رخاء العیش ساعده
و لا إذا عض مکروه به خشعا

ما زال یحلب هذا الدهر أشطره‏
یکون متبعا طورا و متبعا

حتى استمرت على شرر مریرته
مستحکم الرأی لا قحما و لا ضرعا

 و روى أنه قام إلیه رجل فقال أصلح الله الأمیر- و الله لکأنی أسمع الساعه قطریا و هو یقول لأصحابه- المهلب و الله کما قال لقیط الأیادی ثم أنشد هذا الشعر- فسر الحجاج حتى امتلأ سرورا- فقال المهلب أما و الله ما کنا أشد من عدونا و لا أحد- و لکن دمغ الحق الباطل- و قهرت الجماعه الفتنه و العاقبه للمتقین- و کان ما کرهناه من المطاوله خیرا لنا- مما أحببناه من المعاجله- .

فقال الحجاج صدقت- اذکر لی القوم الذین أبلوا و صف لی بلاءهم- فأمر الناس فکتبوا ذلک إلى الحجاج- فقال لهم المهلب ما ذخر الله لکم خیر لکم- من عاجل الدنیا إن شاء الله- فذکرهم المهلب على مراتبهم فی البلاء- و تفاضلهم فی الغناء و قدم بنیه- المغیره و یزید و مدرکا و حبیبا- و قبیصه و المفضل و عبد الملک و محمدا- و قال و الله لو واحد یقدمهم فی البلاء لقدمته علیهم- و لو لا أن أظلمهم لآخرتهم- فقال الحجاج صدقت و ما أنت أعلم بهم منی- و إن حضرت و غبت إنهم لسیوف من سیوف الله- ثم ذکر معن بن المغیره و الرقاد و أشباههما- . فقال الحجاج من الرقاد- فدخل رجل طویل أجنأ- فقال المهلب هذا فارس العرب- فقال الرقاد للحجاج أیها الأمیر- إنی کنت أقاتل مع غیر المهلب فکنت کبعض الناس- فلما صرت مع من یلزمنی الصبر- و یجعلنی أسوه نفسه و ولده و یجازینی على البلاء- صرت أنا و أصحابی فرسانا- . فأمر الحجاج بتفضیل قوم على قوم على قدر بلائهم- و زاد ولد المهلب ألفین ألفین- و فعل بالرقاد و بجماعه شبیها بذلک- . و قال یزید بن حبناء من الأزارقه-

دعی اللوم إن العیش لیس بدائم
و لا تعجلی باللوم یا أم عاصم‏

فإن عجلت منک الملامه فاسمعی‏
مقاله معنی بحقک عالم‏

و لا تعذلینا فی الهدیه إنما
تکون الهدایا من فضول المغانم‏

و لیس بمهد من یکون نهاره
جلادا و یمسی لیله غیر نائم‏

یرید ثواب الله یوما بطعنه‏
غموس کشدق العنبری بن سالم‏

أبیت و سربالی دلاص حصینه
و مغفرها و السیف فوق الحیازم‏

حلفت برب الواقفین عشیه
لدى عرفات حلفه غیر آثم‏

لقد کان فی القوم الذین لقیتهم
بسابور شغل عن بزوز اللطائم‏

توقد فی أیدیهم زاعبیه
و مرهفه تفری شئون الجماجم‏

و قال المغیره الحنظلی من أصحاب المهلب-

إنی امرؤ کفنی ربی و أکرمنی
عن الأمور التی فی غبها وخم‏

و إنما أنا إنسان أعیش کما
عاشت رجال و عاشت قبلها أمم‏

ما عاقنی عن قفول الجند إذ قفلوا
عی بما صنعوا حولی و لا صمم‏

و لو أردت قفولا ما تجهمنی‏
إذن الأمیر و لا الکتاب إذ رقموا

إن المهلب إن أشتق لرؤیته
أو أمتدحه فإن الناس قد علموا

أنه الأریب الذی ترجى نوافله‏
و المستنیر الذی تجلى به الظلم‏

و القائل الفاعل المیمون طائره
أبو سعید إذا ما عدت النعم‏

أزمان کرمان إذ غص الحدید بهم‏
و إذ تمنى رجال أنهم هزموا

و قال حبیب بن عوف من قواد المهلب-

أبا سعید جزاک الله صالحه
فقد کفیت و لم تعنف على أحد

داویت بالحلم أهل الجهل فانقمعوا
و کنت کالوالد الحانی على الولد

و قال عبیده بن هلال الخارجی یذکر رجلا من أصحابه-

یهوی فترفعه الرماح کأنه
شلو تنشب فی مخالب ضار

یهوی صریعا و الرماح تنوشه‏
إن الشراه قصیره الأعمار

شبیب بن یزید الشیبانی

و منهم شبیب بن یزید الشیبانی- و کان فی ابتداء أمره یصحب صالح بن مسرح- أحد الخوارج الصفریه- و کان ناسکا مصفر الوجه صاحب عباده- و له أصحاب یقرئهم القرآن و یفقههم و یقص علیهم- و یقدم الکوفه فیقیم بها الشهر و الشهرین- و کان بأرض الموصل و الجزیره- و کان إذا فرغ من التحمید و الصلاه على النبی ص- ذکر أبا بکر فأثنى علیه و ثنى بعمر- ثم ذکر عثمان و ما کان من أحداثه- ثم علیا ع و تحکیمه الرجال فی دین الله- و یتبرأ من عثمان و علی- ثم‏ یدعو إلى مجاهده أئمه الضلال و قال- تیسروا یا إخوانی للخروج من دار الفناء إلى دار البقاء- و اللحاق بإخواننا المؤمنین- الذین باعوا الدنیا بالآخره- و لا تجزعوا من القتل فی الله- فإن القتل أیسر من الموت و الموت نازل بکم- مفرق بینکم و بین آبائکم و إخوانکم- و أبنائکم و حلائلکم و دنیاکم- و إن اشتد لذلک جزعکم- ألا فبیعوا أنفسکم طائعین و أموالکم تدخلوا الجنه- و أشباه هذا من الکلام- .

و کان فیمن یحضره من أهل الکوفه سوید و البطین- فقال یوما لأصحابه ما ذا تنتظرون- ما یزید أئمه الجور إلا عتوا و علوا- و تباعدا من الحق و جراءه على الرب- فراسلوا إخوانکم حتى یأتوکم- و ننظر فی أمورنا ما نحن صانعون- و أی وقت إن خرجنا نحن خارجون- . فبینا هو کذلک- إذ أتاه المحلل بن وائل بکتاب من شبیب بن یزید- و قد کتب إلى صالح- أما بعد فقد أردت الشخوص- و قد کنت دعوتنی إلى أمر أستجیب لک- فإن کان ذلک من شأنک- فإنک شیخ المسلمین- و لم یعدل بک منا أحد- و إن أردت تأخیر ذلک أعلمنی- فإن الآجال غادیه و رائحه- و لا آمن أن تخترمنی المنیه- و لما أجاهد الظالمین فیا له غبنا و یا له فضلا- جعلنا الله و إیاکم ممن یرید الله بعلمه- و رضوانه و النظر إلى وجهه- و مرافقه الصالحین فی دار السلام و السلام علیک- .

فأجابه صالح بجواب جمیل یقول فیه- إنه لم یمنعنی من الخروج- مع ما أنا فیه من الاستعداد إلا انتظارک- فأقدم علینا ثم اخرج بنا- فإنک ممن لا تقضى الأمور دونه و السلام علیک- . فلما ورد کتابه على شبیب- دعا القراء من أصحابه فجمعهم إلیه- منهم أخوه مصاد بن یزید و المحلل بن وائل- و الصقر بن حاتم و إبراهیم بن حجر و جماعه مثلهم- ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرح- و هو بدارات أرض الموصل- فبث صالح رسله و واعدهم بالخروج- فی هلال صفر لیله الأربعاء سنه ست و تسعین- . فاجتمع بعضهم إلى بعض- و اجتمعوا عنده تلک اللیله- فحدث فروه بن لقیط قال- إنی لمعهم تلک اللیله عند صالح- و کان رأیی استعراض الناس- لما رأیت من المکر و الفساد فی الأرض فقمت إلیه- فقلت یا أمیر المؤمنین کیف ترى السیره فی هؤلاء الظلمه- أ نقتلهم قبل الدعاء أم ندعوهم قبل القتال- فإنی أخبرک برأیی فیهم قبل أن تخبرنی بذلک- إنا نخرج على قوم طاغین- قد ترکوا أمر الله أو راضین بذلک- فأرى أن نضع السیف فقال لا بل ندعوهم- و لعمری لا یجیبک إلا من یرى رأیک- و لیقاتلنک من یزری علیک و الدعاء أقطع لحجتهم- و أبلغ فی الحجه علیهم لک- فقلت‏ و کیف ترى فیمن قاتلنا فظفرنا به- و ما تقول فی دمائهم و أموالهم فقال- إن قتلنا و غنمنا فلنا- و إن تجاوزنا و عفونا فموسع علینا- . ثم قال صالح لأصحابه لیلته تلک- اتقوا الله عباد الله- و لا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس- إلا أن یکونوا قوما یریدونکم و ینصبون لکم- فإنکم إنما خرجتم غضبا لله حیث انتهکت محارمه- و عصی فی الأرض و سفکت الدماء بغیر حقها- و أخذت الأموال غصبا- فلا تعیبوا على قوم أعمالا ثم تعملونها- فإن کل ما أنتم عاملون أنتم عنه مسئولون- و إن عظمکم رجاله- و هذه دواب لمحمد بن مروان فی هذا الرستاق- و ابدءوا بها فاحملوا علیها راجلکم- و تقووا بها على عدوکم- .

ففعلوا ذلک و تحصن منهم أهل دارا- . و بلغ خبرهم محمد بن مروان و هو یومئذ أمیر الجزیره- فاستخف بأمرهم- و بعث إلیهم عدی بن عمیره فی خمسمائه- و کان صالح فی مائه و عشره- فقال عدی أصلح الله‏ الأمیر- تبعثنی إلى رأس الخوارج منذ عشرین سنه- و معه رجال سموا لی کانوا یعازوننا- و إن الرجل منهم خیر من مائه فارس فی خمسمائه- فقال له إنی أزیدک خمسمائه فسر إلیهم فی ألف فارس- . فسار من حران فی ألف رجل و کأنما یساقون إلى الموت- و کان عدی رجلا ناسکا- فلما نزل دوغان نزل بالناس- و أنفذ إلى صالح بن مسرح رجلا دسه إلیه فقال- إن عدیا بعثنی إلیک یسألک أن تخرج عن هذا البلد- و تأتی بلدا آخر فتقاتل أهله فإنی للقتال کاره- فقال له صالح ارجع إلیه فقل له إن کنت ترى رأینا- فأرنا من ذلک ما نعرف ثم نحن مدلجون عنک- و إن کنت على رأی الجبابره و أئمه السوء رأینا رأینا- فإما بدأنا بک و إلا رحلنا إلى غیرک- .

فانصرف إلیه الرسول فأبلغه فقال له عدی- ارجع إلیه فقل له إنی و الله لا أرى رأیک- و لکنی أکره قتالک و قتال غیرک من المسلمین- . فقال صالح لأصحابه ارکبوا فرکبوا و احتبس الرجل عنده- و مضى بأصحابه حتى أتى عدیا فی سوق دوغان- و هو قائم یصلی الضحى فلم یشعر إلا بالخیل طالعه علیهم- فلما دنا صالح منهم رآهم على غیر تعبئه و قد تنادوا- و بعضهم یجول فی بعض- فأمر شبیبا فحمل علیهم فی کتیبه- ثم أمر سویدا فحمل فی کتیبه فکانت هزیمتهم-و أتى عدی بدابته فرکبها و مضى على وجهه- و احتوى صالح على عسکره و ما فیه- و ذهب فل عدی حتى لحقوا بمحمد بن مروان فغضب- ثم دعا بخالد بن جزء السلمی فبعثه فی ألف و خمسمائه- و دعا الحارث بن جعونه فی ألف و خمسمائه و قال لهما- اخرجا إلى هذه الخارجه القلیله الخبیثه- و عجلا الخروج و أغذا السیر- فأیکما سبق فهو الأمیر على صاحبه- فخرجا و أغذا فی السیر و جعلا یسألان عن صالح فقیل لهما- توجه نحو آمد فاتبعاه حتى انتهیا إلیه بأمد- فنزلا لیلا و خندقا و هما متساندان- کل واحد منهما على حدته- فوجه صالح شبیبا إلى الحارث بن جعونه فی شطر أصحابه- و توجه هو نحو خالد السلمی- فاقتتلوا أشد قتال اقتتله قوم- حتى حجز بینهم اللیل و قد انتصف بعضهم من بعض- .

فتحدث بعض أصحاب صالح قال- کنا إذا حملنا علیهم استقبلنا رجالهم بالرماح- و نضحنا رماتهم بالنبل- و خیلهم تطاردنا فی خلال ذلک- فانصرفنا عند اللیل و قد کرهناهم و کرهونا- فلما رجعنا و صلینا و تروحنا و أکلنا من الکسر- دعانا صالح و قال یا أخلائی ما ذا ترون- فقال شبیب إنا إن قاتلنا هؤلاء القوم- و هم معتصمون بخندقهم لم ننل منهم طائلا- و الرأی أن نرحل عنهم- فقال صالح و أنا أرى ذلک- فخرجوا من تحت لیلتهم- حتى قطعوا أرض الجزیره و أرض الموصل- و مضوا حتى قطعوا أرض الدسکره- فلما بلغ ذلک الحجاج- سرح علیهم الحارث بن عمیره فی ثلاثه آلاف-فسار و خرج صالح نحو جلولاء و خانقین- و اتبعه الحارث حتى انتهى إلى قریه یقال لها المدبج- و صالح یومئذ فی تسعین رجلا- فعبى الحارث بن عمیره أصحابه میمنه و میسره- و جعل صالح أصحابه ثلاثه کرادیس و هو فی کردوس- و شبیب فی میمنه فی کردوس- و سوید بن سلیم فی کردوس فی میسرته- فی کل کردوس منهم ثلاثون رجلا- فلما شد علیهم الحارث بن عمیره انکشف سوید بن سلیم- و ثبت صالح فقتل و ضارب شبیب حتى صرع عن فرسه- فوقع بین رجاله فجاء حتى انتهى إلى موقف صالح- فوجده قتیلا فنادى إلى یا معشر المسلمین فلاذوا به-

فقال لأصحابه لیجعل کل رجل منکم ظهره إلى ظهر صاحبه- و لیطاعن عدوه إذا قدم علیه- حتى ندخل هذا الحصن و نرى رأینا- . ففعلوا ذلک حتى دخلوا الحصن- و هم سبعون رجلا مع شبیب- و أحاط بهم الحارث بن عمیره ممسیا- و قال لأصحابه أحرقوا الباب فإذا صار جمرا فدعوه- فإنهم لا یقدرون على الخروج حتى نصبح فنقتلهم- ففعلوا ذلک بالباب ثم انصرفوا إلى معسکرهم- . فقال شبیب لأصحابه یا هؤلاء ما تنتظرون- فو الله إن صبحوکم غدوه إنه لهلاککم- فقالوا له مرنا بأمرک فقال لهم إن اللیل أخفى للویل- بایعونی إن شئتم أو بایعوا من شئتم منکم- ثم اخرجوا بنا حتى نشد علیهم فی عسکرهم- فإنهم آمنون منکم و إنی أرجو أن ینصرکم الله علیهم- قالوا ابسط یدک فبایعوه فلما جاءواإلى الباب- وجدوه جمرا فأتوه باللبود فبلوها بالماء- ثم ألقوها علیه و خرجوا- فلم یشعر الحارث بن عمیره- إلا و شبیب و أصحابه یضربونهم بالسیوف- فی جوف عسکرهم- فضارب الحارث حتى صرع و احتمله أصحابه- و انهزموا و خلوا لهم المعسکر و ما فیه- و مضوا حتى نزلوا المدائن- و کان ذلک الجیش أول جیش هزمه شبیب

دخول شبیب الکوفه و أمره مع الحجاج

ثم ارتفع فی أدانی أرض الموصل- ثم ارتفع إلى نحو آذربیجان یجبی الخراج- و کان سفیان بن أبی العالیه قد أمر- أن یحارب صاحب طبرستان فأمر بالقفول نحو شبیب- و أن یصالح صاحب طبرستان فصالحه فأقبل فی ألف فارس- و قد ورد علیه کتاب من الحجاج- . أما بعد فأقم بالدسکره فیمن معک- حتى یأتیک جیش الحارث بن عمیره- قاتل صالح بن مسرح ثم سر إلى شبیب حتى تناجزه- . ففعل سفیان ذلک و نزل إلى الدسکره حتى أتوه- و خرج مرتحلا فی طلب شبیب فارتفع شبیب عنهم- کأنه یکره قتالهم و لقاءهم- و قد أکمن لهم أخاه مصادا فی خمسین رجلا فی هضم من الأرض- فلما رأوا شبیبا جمع أصحابه- و مضى فی سفح من الجبل‏مشرقا قالوا- هرب عدو الله و اتبعوه- فقال لهم عدی بن عمیره الشیبانی أیها الناس- لا تعجلوا علیهم حتى نضرب فی الأرض و نستبرئها- فإن یکونوا أکمنوا کمینا حذرناه- و إلا کان طلبهم بین أیدینا لن یفوتنا- فلم یسمعوا منه فأسرعوا فی آثارهم- . فلما رأى شبیب أنهم قد جازوا الکمین عطف علیهم- فحمل من أمامهم و خرج الکمین من ورائهم- فلم یقاتل أحد و إنما کانت الهزیمه- و ثبت سفیان بن أبی العالیه فی مائتی رجل- فقاتل قتالا شدیدا حتى انتصف من شبیب- فقال سوید بن سلیم لأصحابه- أ منکم أحد یعرف أمیر القوم ابن أبی العالیه- فقال له شبیب أنا من أعرف الناس به- أ ما ترى صاحب الفرس الأغر الذی دونه المرامیه- فإنه هو فإن کنت تریده فأمهله قلیلا- .

ثم قال یا قعنب اخرج فی عشرین فأتهم من ورائهم- فخرج قعنب فی عشرین فارتفع علیهم- فلما رأوه یرید أن یأتیهم من ورائهم- جعلوا ینتقصون و یتسللون- و حمل سوید بن سلیم على سفیان بن أبی العالیه یطاعنه- فلم تصنع رماحهما شیئا ثم اضطربا بسیفهما- ثم اعتنق کل واحد منهما صاحبه- فوقعا إلى الأرض یعترکان ثم تحاجزا و حمل علیهم شبیب- فانکشف من کان مع سفیان- و نزل غلام له یقال له غزوان عن برذونه- و قال لسفیان ارکب یا مولای فرکب سفیان- و أحاط به أصحاب شبیب- فقاتل دونه غزوان حتى قتل و کان معه رایته- و أقبل سفیان منهزما حتى انتهىإلى بابل مهروذ- فنزل بها و کتب إلى الحجاج- و کان الحجاج أمر سوره بن أبجر أن یلحق بسفیان- فکاتب سوره سفیان و قال له انتظرنی- فلم یفعل و عجل نحو الخوارج- فلما عرف الحجاج خبر سفیان و قرأ کتابه- قال للناس من صنع کما صنع هذا- و أبلى کما أبلى فقد أحسن- ثم کتب إلیه یعذره و یقول- إذا خف علیک الوجع فأقبل مأجورا إلى أهلک- و کتب إلى سوره بن أبجر- .

أما بعد یا ابن أم سوره- فما کنت خلیقا أن تجترئ على ترک عهدی و خذلان جندی- فإذا أتاک کتابی فابعث رجلا ممن معک- صلیبا إلى المدائن فلینتخب من جندها خمسمائه رجل- ثم لیقدم بهم علیک ثم سر بهم- حتى تلقى هذه المارقه و احزم أمرک و کد عدوک- فإن أفضل أمر الحروب حسن المکیده و السلام- . فلما أتى سوره کتاب الحجاج- بعث عدی بن عمیر إلى المدائن و کان بها ألف فارس- فانتخب منهم خمسمائه- ثم رحل بهم حتى قدم على سوره ببابل مهروذ-

فخرج بهم فی طلب شبیب- و خرج شبیب یجول فی جوخى و سوره فی طلبه- فجاء شبیب إلى المدائن فتحصن منه أهلها- فانتهب المدائن الأولى و أصاب دواب من دواب الجند- و قتل من ظهر له و لم یدخل البیوت- ثم أتى فقیل له هذا سوره قد أقبل إلیک- فخرج فی أصحابه حتى انتهى إلى النهروان- فنزلوا به و توضئوا و صلوا- ثم أتوا مصارع إخوانهم الذین قتلهم علی بن أبی طالب- فاستغفروا لهم و تبرءوا من علی و أصحابه- و بکوا فأطالوا البکاء ثم عبروا جسر النهروان- فنزلوا جانبه الشرقی- و جاء سوره حتى نزل بنفطرانا و جاءته عیونه- فأخبروه بمنزل شبیب بالنهروان- فدعا سوره رءوس أصحابه فقال لهم- إن الخوارج قلما یلقون فی صحراء أو على ظهر إلا انتصفوا- و قد حدثت أنهم لا یزیدون على مائه رجل- و قد رأیت أن انتخبکم و أسیر فی ثلاثمائه رجل منکم- من أقویائکم و شجعانکم فأبیتهم- فإنهم آیسون من بیاتکم- و إنی و الله أرجو أن یصرعهم الله- مصارع إخوانهم فی النهروان من قبل- فقالوا اصنع ما أحببت- .

فاستعمل على عسکره حازم بن قدامه- و انتخب ثلاثمائه من شجعان أصحابه- ثم أقبل بهم حتى قرب من النهروان- و بات و قد أذکى الحرس ثم بیتهم- فلما دنا أصحاب سوره منهم نذروا بهم- فاستووا على خیولهم و تعبوا تعبیتهم- فلما انتهى إلیهم سوره و أصحابه أصابوهم و قد نذروا- فحمل علیهم سوره فصاح شبیب بأصحابه- فحمل علیهم‏حتى ترکوا له العرصه- و حمل شبیب و جعل یضرب و یقول-
من ینک العیر ینک نیاکا

 فرجع سوره مفلولا قد هزم فرسانه و أهل القوه من أصحابه- و أقبل نحو المدائن و تبعه شبیب- حتى انتهى سوره إلى بیوت المدائن- و انتهى شبیب إلیهم و قد دخل الناس البیوت- و خرج ابن أبی عصیفیر و هو أمیر المدائن یومئذ فی جماعه- فلقیهم فی شوارع المدائن- و رماهم الناس بالنبل و الحجاره من فوق البیوت- . ثم سار شبیب إلى تکریت- فبینا ذلک الجند بالمدائن إذ أرجف الناس فقالوا- هذا شبیب قد أقبل یرید أن یبیت أهل المدائن- فارتحل عامه الجند فلحقوا بالکوفه- و إن شبیبا بتکریت- فلما أتى الحجاج الخبر قال قبح الله سوره- ضیع العسکر و خرج یبیت الخوارج و الله لأسوءنه- .

ثم دعا الحجاج بالجزل و هو عثمان بن سعید فقال له- تیسر للخروج إلى هذه المارقه- فإذا لقیتهم فلا تعجل عجله الخرق النزق- و لا تحجم إحجام الوانی الفرق أ فهمت قال نعم- أصلح الله الأمیر قد فهمت قال- فاخرج و عسکر بدیر عبد الرحمن حتى یخرج الناس إلیک- فقال أصلح الله الأمیر- لا تبعث معی أحدا من الجند المهزوم المفلول- فإن الرعب قد دخل قلوبهم- و قد خشیت ألا ینفعک و المسلمین منهم أحد- قال ذلک لک و لا أراک إلا قد أحسنت الرأی و وفقت- ثم دعا أصحاب الدواوین فقال- اضربوا على الناس البعث- و أخرجوا أربعه آلاف من الناس و عجلوا- فجمعت العرفاء و جلس أصحاب الدواوین- و ضربوا البعث فأخرجوا أربعه آلاف- فأمرهم باللحاق بالعسکر- ثم نودی فیهم بالرحیل فارتحلوا و نادى منادی الحجاج- أن برئت الذمه من رجل أصبناه من بعث الجزل متخلفا- . فمضى بهم الجزل- و قد قدم بین یدیه عیاض بن أبی لینه الکندی على مقدمته- فخرج حتى أتى المدائن فأقام بها ثلاثا- ثم خرج و بعث إلیه ابن أبی عصیفیر بفرس- و برذون و ألفی درهم- و وضع للناس من الحطب و العلف ما کفاهم ثلاثه أیام- و أصاب الناس ما شاءوا من ذلک- .

ثم إن الجزل خرج بالناس أثر شبیب- فطلبه فی أرض جوخى فجعل شبیب یریه الهیبه- فیخرج من رستاق إلى رستاق- و من طسوج إلى طسوج و لا یقیم له-یرید بذلک أن یفرق الجزل أصحابه- و یتعجل إلیه فیلقاه فی عدد یسیر على غیر تعبئه- فجعل الجزل لا یسیر إلا على تعبئه- و لا ینزل إلا خندق على نفسه و أصحابه- فلما طال ذلک على شبیب دعا یوما أصحابه- و هم مائه و ستون رجلا هو فی أربعین- و مصاد أخوه فی أربعین- و سوید بن سلیم فی أربعین- و المحلل بن وائل فی أربعین- و قد أتته عیونه فأخبرته- أن الجزل بن سعید قد نزل ببئر سعید- فقال لأخیه و للأمراء الذین ذکرناهم- إنی أرید أن أبیت اللیله هذا العسکر- فأتهم أنت یا مصاد من قبل حلوان- و سآتیهم أنا من أمامهم من قبل الکوفه- و ائتهم أنت یا سوید من قبل المشرق- و ائتهم أنت یا محلل من قبل المغرب- و لیلج کل امرئ منکم على الجانب الذی یحمل علیه- و لا تقلعوا عنهم حتى یأتیکم أمری- .

قال فروه بن لقیط- و کنت أنا فی الأربعین الذین کانوا معه- فقال لجماعتنا تیسروا و لیسر کل امرئ منکم مع أمیره- و لینظر ما یأمره به أمیره فلیتبعه- فلما قضمت دوابنا و ذلک أول ما هدأت العیون- خرجنا حتى انتهینا إلى دیر الخراره- فإذا القوم علیهم مسلحه ابن أبی لینه- فما هو إلا أن رآهم مصاد أخو شبیب- حتى حمل علیهم فی أربعین رجلا- و کان شبیب أراد أن یرتفع علیهم- حتى یأتیهم من ورائهم کما أمره- .

فلما لقی هؤلاء قاتلهم فصبروا له ساعه و قاتلوه- ثم إنا دفعنا إلیهم جمیعا فهزمناهم- و أخذوا الطریق الأعظم- و لیس بینهم و بین عسکرهم بدیر یزدجرد إلا نحو میل- فقال لنا شبیب ارکبوا معاشر المسلمین أکتافهم- حتى تدخلوا معهم عسکرهم إن استطعتم- فاتبعناهم ملظین بهم ملحین علیهم- ما نرفه عنهم و هم منهزمون ما لهم همه إلا عسکرهم- .

فمنعهم أصحابهم أن یدخلوا علیهم و رشقوهم بالنبل- و کانت لهم عیون قد أتتهم فأخبرتهم بمکاننا- و کان الجزل قد خندق علیهم و تحرز- و وضع هذه المسلحه الذین لقیناهم بدیر الخراره- و وضع مسلحه أخرى مما یلی حلوان- . فلما اجتمعت المسالح و رشقوهم بالنبل- و منعونا من خندقهم رأى شبیب أنه لا یصل إلیهم- فقال لأصحابه سیروا و دعوهم- فلما سار عنهم أخذ على طریق حلوان- حتى کان منهم على سبعه أمیال- قال لأصحابه انزلوا فاقضموا دوابکم و قیلوا و تروحوا- فصلوا رکعتین ثم ارکبوا ففعلوا ذلک- ثم أقبل بهم راجعا إلى عسکر الکوفه و قال- سیروا على تعبیتکم التی عبأتکم علیها أول اللیل- و أطیفوا بعسکرهم کما أمرتکم فأقبلنا معه- و قد أدخل أهل العسکر مسالحهم إلیهم و أمنوا- فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر الخیل- فانتهینا إلیهم قبیل الصبح و أحطنا بعسکرهم- و صحنا بهم من کل ناحیه فقاتلونا و رمونا بالنبل- فقال شبیب لأخیه مصاد- و کان یقاتلهم من الجانب‏ الذی یلی الکوفه- خل لهم سبیل [طریق‏]- الکوفه فخلى لهم- و قاتلناهم من تلک الوجوه الثلاثه الأخرى إلى الصبح- ثم سرنا و ترکناهم لأنا لم نظفر بهم- فلما سار شبیب سار الجزل فی أثره یطلبه- و جعل لا یسیر إلا على تعبیه و ترتیب- و لا ینزل إلا على خندق- و أما شبیب فضرب فی أرض جوخى و ترک الجزل- فطال أمره على الحجاج- فکتب إلى الجزل کتابا قرئ على الناس و هو- أما بعد فإنی بعثتک فی فرسان أهل المصر و وجوه الناس- و أمرتک باتباع هذه المارقه- و ألا تقلع عنها حتى تقتلها و تفنیها- فجعلت التعریس فی القرى- و التخییم فی الخنادق أهون علیک من المضی- لمناهضتهم و مناجزتهم و السلام- .

قال فشق کتاب الحجاج على الجزل- و أرجف الناس بأمره و قالوا سیعزله فما لبث الناس- أن بعث الحجاج سعید بن المجالد أمیرا بدله و عهد إلیه- إذا لقی المارقه أن یزحف إلیهم و لا یناظرهم- و لا یطاولهم و لا یصنع صنع الجزل- و کان الجزل یومئذ قد انتهى فی طلب شبیب إلى النهروان- و قد لزم عسکره و خندق علیهم- فجاء سعید حتى دخل عسکر أهل الکوفه أمیرا- فقام فیهم خطیبا فحمد الله و أثنى علیه ثم قال- یا أهل الکوفه إنکم قد عجزتم و وهنتم- و أغضبتم علیکم أمیرکم- أنتم فی طلب هذه الأعاریب العجف منذ شهرین- قد أخربوا بلادکم و کسروا خراجکم- و أنتم‏ حذرون فی جوف هذه الخنادق لا تزایلونها- إلا أن یبلغکم أنهم قد ارتحلوا عنکم- و نزلوا بلدا سوى بلدکم اخرجوا على اسم الله إلیهم- .

ثم خرج و خرج الناس معه- فقال له الجزل ما ترید أن تصنع قال- أقدم على شبیب و أصحابه فی هذه الخیل- فقال له الجزل أقم أنت فی جماعه الناس- فارسهم و راجلهم و لا تفرق أصحابک و دعنی أصحر له- فإن ذلک خیر لک و شر لهم- . فقال سعید بل تقف أنت فی الصف و أنا أصحر له- فقال الجزل إنی بری‏ء من رأیک هذا- سمع الله و من حضر من المسلمین- فقال سعید هو رأیی إن أصبت فیه فالله وفقنی- و إن أخطأت فیه فأنتم برآء- . فوقف الجزل فی صف أهل الکوفه و قد أخرجهم من الخندق- و جعل على میمنتهم عیاض بن أبی لینه الکندی- و على میسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حمید الراسبی- و وقف الجزل فی جماعتهم- و استقدم سعید بن مجالد فخرج و أخرج الناس معه- و قد أخذ شبیب إلى براز الروز فنزل قطفتا- و أمر دهقانها أن یشوی لهم غنما و یعد لهم غداء ففعل- و أغلق مدینه قطفتا- و لم یفرغ الدهقان من طعامه حتى أحاط بها ابن مجالد- فصعد الدهقان ثم نزل و قد تغیر لونه- فقال شبیب ما بالک قال قد جاءک جمع عظیم- قال أ بلغ شواؤک قال لا قال دعه یبلغ- ثم أشرف الدهقان إشرافه أخرى- ثم نزل فقال قد أحاطوا بالجوسق قال هات شواءک- فجعل یأکل غیر مکترث بهم و لا فزع- فلما فرغ قال لأصحابه قوموا إلى الصلاه و قام فتوضأ- فصلى بأصحابه صلاه الأولى و لبس درعه و تقلد سیفه- و أخذ عموده الحدید ثم قال أسرجوا لی بغلتی-

فقال أخوه أ فی مثل هذا الیوم ترکب بغله- قال نعم أسرجوها فرکبها- ثم قال یا فلان أنت على المیمنه- و أنت یا فلان على المیسره- و أنت یا مصاد یعنی أخاه على القلب- و أمر الدهقان ففتح الباب فی وجوههم- . فخرج إلیهم و هو یحکم و حمل حمله عظیمه- فجعل سعید و أصحابه یرجعون القهقرى- حتى صار بینهم و بین الدیر میل- و شبیب یصیح أتاکم الموت الزؤام فاثبتوا- و سعید یصیح یا معشر همدان إلی إلی أنا ابن ذی مران- فقال شبیب لمصاد ویحک استعرضهم استعراضا- فإنهم قد تقطعوا و إنی حامل على أمیرهم- و أثکلنیک الله إن لم أثکله ولده- ثم حمل على سعید فعلاه بالعمود- فسقط میتا و انهزم أصحابه- و لم یقتل یومئذ من الخوارج إلا رجل واحد- .

و انتهى قتل سعید إلى الجزل فناداهم- أیها الناس إلی إلی و صاح عیاض بن أبی لینه- أیها الناس إن یکن أمیرکم هذا القادم هلک- فهذا أمیرکم المیمون النقیبه أقبلوا إلیه- فمنهم من أقبل إلیه و منهم من رکب فرسه منهزما- و قاتل الجزل یومئذ قتالا شدیدا حتى صرع- و حامى عنه خالد بن نهیک و عیاض بن أبی لینه- حتى استنقذاه مرتثا- و أقبل الناس منهزمین حتى دخلوا الکوفه- و أتی بالجزل جریحا حتى دخل المدائن فکتب إلى الحجاج- أما بعد فإنی أخبر الأمیر أصلحه الله- أنی خرجت فیمن قبلی من الجند الذی وجهنی فیه إلى عدوه- و قد کنت حفظت عهد الأمیر إلی فیهم و رأیه- فکنت أخرج إلى المارقین إذا رأیت الفرصه- و أحبس الناس عنهم إذا خشیت الورطه- فلم أزل کذلک أدیر الأمر و أرفق فی التدبیر- و قد أرادنی العدو بکل مکیده- فلم یصب منی غره حتى قدم علی سعید بن مجالد- فأمرته بالتؤده و نهیته عن العجله- و أمرته ألا یقاتلهم إلا فی جماعه الناس عامه- فعصانی و تعجل إلیهم فی الخیل- فأشهدت الله علیه و أهل المصرین- إنی بری‏ء من رأیه الذی رأى- و إنی لا أهوى الذی صنع فمضى فقتل تجاوز الله عنه- و دفع الناس إلی فنزلت و دعوتهم إلى نفسی- و رفعت رایتی و قاتلت حتى صرعت- فحملنی أصحابی من بین القتلى- فما أفقت إلا و أنا على أیدیهم على رأس میل من المعرکه- و أنا الیوم بالمدائن- و فی جراحات قد یموت الإنسان من دونها- و قد یعافى من مثلها- فلیسأل الأمیر أصلحه الله عن نصیحتی له و لجنده- و عن مکایدتی عدوه و عن موقفی یوم البأس- فإنه سیبین له عند ذلک أنی صدقته و نصحت له و السلام- .

فکتب إلیه الحجاج‏أما بعد- فقد أتانی کتابک و قرأته- و فهمت کل ما ذکرته فیه من أمر سعید و أمر نفسک- و قد صدقتک فی نصیحتک لأمیرک و حیطتک على أهل مصرک- و شدتک على عدوک و قد رضیت عجله سعید و تؤدتک- فأما عجلته فإنها أفضت به إلى الجنه- و أما تؤدتک فإنها ما لم تدع الفرصه إذا أمکنت حزم- و قد أحسنت و أصبت و أجرت- و أنت عندی من أهل السمع و الطاعه و النصیحه- و قد أشخصت إلیک حیان بن أبجر الطبیب لیداویک- و یعالج جراحاتک- و قد بعثت إلیک بألفی درهم نفقه تصرفها فی حاجتک- و ما ینوبک و السلام- .

و بعث عبد الله بن أبی عصیفیر والی المدائن إلى الجزل- بألف درهم و کان یعوده و یتعاهده بالألطاف و الهدایا- . و أما شبیب فأقبل حتى قطع دجله عند الکرخ- و أخذ بأصحابه نحو الکوفه- و بلغ الحجاج مکانه بحمام أعین- فبعث إلیه سوید بن عبد الرحمن السعدی- فجهزه بألفی فارس منتخبین و قال له- اخرج إلى شبیب فالقه و لا تتبعه- فخرج بالناس بالسبخه و بلغه أن شبیبا قد أقبل- فسار نحوه کأنما یساق إلى الموت هو و أصحابه- و أمر الحجاج عثمان بن قطن فعسکر بالناس فی السبخه- و نادى ألا برئت الذمه من رجل من هذا الجند- بات اللیله بالکوفه- و لم یخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخه- فبینا سوید بن عبد الرحمن یسیر فی الألفین الذین معه- و هو یعبیهم و یحرضهم إذ قیل له‏ قد غشیک شبیب- فنزل و نزل معه جل أصحابه و قدم رایته- فأخبر أن شبیبا لما علم بمکانه ترکه- و وجد مخاضه فعبر الفرات- یرید الکوفه من غیر الوجه الذی سوید بن عبد الرحمن به- ثم قیل أ ما تراهم فنادى فی أصحابه فرکبوا فی آثارهم- فأتى شبیب دار الرزق فنزلها- و قیل له إن أهل الکوفه بأجمعهم معسکرون- فلما بلغهم مکان شبیب ماج الناس بعضهم إلى بعض- و جالوا و هموا بدخول الکوفه حتى قیل- هذا سوید بن عبد الرحمن فی آثارهم قد لحقهم- و هو یقاتلهم فی الخیل- و مضى شبیب حتى أخذ على شاطئ الفرات- ثم أخذ على الأنبار ثم دخل دقوقاء- ثم ارتفع إلى أدانی آذربیجان- .

و خرج الحجاج من الکوفه إلى البصره حیث بعد شبیب- و استخلف على الکوفه عروه بن المغیره بن شعبه- فما شعر الناس إلا بکتاب من مادارست- دهقان بابل مهروز إلى عروه بن المغیره بن شعبه- أن تاجرا من تجار الأنبار من أهل بلادی-أتانی یذکر أن شبیبا یرید- أن یدخل الکوفه فی أول هذا الشهر المستقبل- و أحببت إعلامک ذلک لترى رأیک- و إنی لم ألبث بعد ذلک إذ جاءنی اثنان من جیرانی- فحدثانی أن شبیبا قد نزل خانیجار- . فأخذ عروه کتابه فأدرجه- و سرح به إلى الحجاج إلى البصره- فلما قرأ الحجاج أقبل جادا إلى الکوفه- و أقبل شبیب یسیر- حتى انتهى إلى قریه حربى على شاطئ دجله فعبرها- و قال لأصحابه یا هؤلاء إن الحجاج لیس بالکوفه- و لیس دون أخذها شی‏ء إن شاء الله فسیروا بنا- فخرج یبادر الحجاج إلى الکوفه- و کتب عروه إلى الحجاج- إن شبیبا قد أقبل مسرعا یرید الکوفه فالعجل العجل- . فطوى الحجاج المنازل مسابقا لشبیب إلى الکوفه- فسبقه و نزلها صلاه العصر- و نزل شبیب السبخه صلاه العشاء الآخره- فأصاب هو و أصحابه من الطعام شیئا یسیرا- ثم رکبوا خیولهم- فدخل شبیب الکوفه فی أصحابه حتى انتهى إلى السوق- و شد حتى ضرب باب القصر بعموده- فحدث جماعه أنهم رأوا- أثر ضربه شبیب بالعمود بباب القصر- ثم أقبل حتى وقف عند باب المصطبه و أنشد-

و کأن حافرها بکل ثنیه
فرق یکیل به شحیح معدم‏

ثم أقحم هو و أصحابه المسجد الجامع- و لا یفارقه قوم یصلون فیه فقتل منهم جماعه- و مر هو بدار حوشب و کان هو على شرطه الحجاج- فوقف على بابه فی جماعه فقالوا- إن الأمیر یعنون الحجاج یدعو حوشبا- و قد أخرج میمون غلامه برذونه لیرکب- فکأنه أنکرهم فظنوا أنه قد اتهمهم- فأراد أن یدخل إلى صاحبه فقالوا له- کما أنت حتى یخرج صاحبک إلیک- فسمع حوشب الکلام فأنکر القوم- و ذهب لینصرف فعجلوا نحوه فأغلق الباب دونه- فقتلوا غلامه میمونا و أخذوا برذونه- و مضوا حتى مروا بالجحاف بن نبیط الشیبانی- من رهط حوشب فقال له سوید انزل إلینا فقال- ما تصنع بنزولی فقال انزل- إنی لم أقضک ثمن البکره التی ابتعتها منک بالبادیه- فقال الجحاف بئس ساعه القضاء هذه- و بئس المکان لقضاء الدین هذا- ویحک أ ما ذکرت أداء أمانتک إلا و اللیل مظلم- و أنت على متن فرسک- قبح الله یا سوید دینا لا یصلح- و لا یتم إلا بقتل الأنفس و سفک الدماء- ثم مروا بمسجد بنی ذهل- فلقوا ذهل بن الحارث و کان یصلی فی مسجد قومه- فیطیل الصلاه إلى اللیل- فصادفوه منصرفا إلى منزله فقتلوه- ثم خرجوا متوجهین نحو الردمه- و أمر الحجاج المنادی یا خیل الله ارکبی و أبشری- و هو فوق باب القصر و هناک مصباح مع غلام له قائم- .

و کان أول من جاء من الناس عثمان بن قطن- و معه موالیه و ناس من أهله و قال- أعلموا الأمیر مکانی أنا عثمان بن قطن فلیأمرنی بأمره- فناداه الغلام صاحب المصباح- قف مکانک حتى یأتیک أمر الأمیر- و جاء الناس من کل جانب و بات عثمان مکانه- فیمن اجتمع إلیه من الناس حتى أصبح- .

و قد کان عبد الملک بن مروان بعث- محمد بن موسى بن طلحه على سجستان و کتب له عهده علیها و کتب إلى الحجاج- إذا قدم علیک محمد بن موسى الکوفه- فجهز معه ألفی رجل و عجل سراحه إلى سجستان- . فلما قدم الکوفه جعل یتجهز- فقال له أصحابه و نصحاؤه تعجل أیها الرجل إلى عملک- فإنک لا تدری ما یحدث- و عرض أمر شبیب حینئذ و دخوله الکوفه- فقیل للحجاج إن محمد بن موسى إن سار إلى سجستان- مع نجدته و صهره لأمیر المؤمنین عبد الملک- فلجأ إلیه أحد ممن تطلبه منعک منه قال فما الحیله- قالوا أن تذکر له أن شبیبا فی طریقه و قد أعیاک- و أنک ترجو أن یریح الله منه على یده- فیکون له ذکر ذلک و شهرته- .

فکتب إلیه الحجاج إنک عامل على کل بلد مررت به- و هذا شبیب فی طریقک تجاهده و من معه- و لک أجره و ذکره و صیته- ثم تمضی إلى عملک فاستجاب له- . و بعث الحجاج بشر بن غالب الأسدی فی ألفی رجل- و زیاد بن قدامه فی ألفین- و أبا الضریس مولى تمیم فی ألف من الموالی- و أعین صاحب حمام أعین مولى لبشر بن مروان فی ألف- و جماعه غیرهم فاجتمعت تلک الأمراء فی أسفل الفرات- و ترک شبیب الوجه الذی فیه جماعه هؤلاء القواد- و أخذ نحو القادسیه- فوجه الحجاج زحر بن قیس‏ فی جریده خیل نقاوه- عدتها ألف و ثمانمائه فارس و قال له- اتبع شبیبا حتى تواقعه حیثما أدرکته- فخرج زحر بن قیس حتى انتهى إلى السیلحین- و بلغ شبیبا مسیره إلیه فأقبل نحوه فالتقیا- و قد جعل زحر على میمنته عبد الله بن کناز و کان شجاعا- و على میسرته عدی بن عدی بن عمیره الکندی- و جمع شبیب خیله کلها کبکبه واحده- ثم اعترض بها الصف یوجف وجیفا- حتى انتهى إلى زحر بن قیس فنزل زحر- فقاتل حتى صرع و انهزم أصحابه و ظن أنه قد قتل- .

فلما کان اللیل و أصابه البرد قام یمشی حتى دخل قریه- فبات بها و حمل منها إلى الکوفه- و بوجهه أربع عشره ضربه فمکث أیاما- ثم أتى الحجاج و على وجهه و جراحه القطن- فأجلسه معه على السریر- و قال أصحاب شبیب لشبیب-و هم یظنون أنهم قد قتلوا زحرا قد هزمنا جندهم- و قتلنا أمیرا من أمرائهم عظیما- فانصرف بنا الآن موفورین فقال لهم- إن قتلکم هذا الرجل و هزیمتکم هذا الجند- قد أرعب هؤلاء الأمراء فاقصدوا بنا قصدهم- فو الله لئن نحن قتلناهم- ما دون قتل الحجاج و أخذ الکوفه شی‏ء- فقالوا له نحن طوع لأمرک و رأیک فانقض بهم جادا- حتى أتى ناحیه عین التمر و استخبر عن القوم- فعرف اجتماعهم فی روذبار فی أسفل الفرات- على رأس أربعه و عشرین فرسخا من الکوفه- . و بلغ الحجاج مسیر شبیب إلیهم- فبعث إلیهم إن جمعکم قتال- فأمیر الناس زائده بن قدامه- .

فانتهى إلیهم شبیب و فیهم سبعه أمراء- على جماعتهم زائده بن قدامه- و قد عبى کل أمیر أصحابه على حده و هو واقف فی أصحابه- فأشرف شبیب على الناس و هو على فرس أغر کمیت- فنظر إلى تعبیتهم ثم رجع إلى أصحابه- و أقبل فی ثلاث کتائب یزحف بها- حتى إذا دنا من الناس مضت کتیبه فیها سوید بن سلیم- .فوقفت بإزاء میمنه زائده بن قدامه- و فیها زیاد بن عمرو العتکی- و مضت کتیبه فیها مصاد أخو شبیب- فوقفت بإزاء المیسره و فیها بشر بن غالب الأسدی- و جاء شبیب فی کتیبه حتى وقف مقابل القوم فی القلب- فخرج زائده بن قدامه یسیر فی الناس- بین المیمنه و المیسره یحرض الناس و یقول عباد الله- إنکم الطیبون الکثیرون- و قد نزل بکم الخبیثون القلیلون- فاصبروا جعلت لکم الفداء- إنما هی حملتان أو ثلاث ثم هو النصر لیس دونه شی‏ء- أ لا ترونهم و الله لا یکونون مائتی رجل- إنما هم أکله رأس و هم السراق المراق- إنما جاءوکم لیهریقوا دماءکم و یأخذوا فیئکم- فلا یکونوا على أخذه أقوى منکم على منعه- و هم قلیل و أنتم کثیر و هم أهل فرقه و أنتم أهل جماعه- غضوا الأبصار و استقبلوهم بالأسنه- و لا تحملوا علیهم حتى آمرکم- .

ثم انصرف إلى موقفه- فحمل سوید بن سلیم على زیاد بن عمرو العتکی فکشف صفه- و ثبت زیاد قلیلا ثم ارتفع سوید عنهم یسیرا- ثم کر علیهم ثانیه- . فقال فروه بن لقیط الخارجی اطعنا ذلک الیوم ساعه- فصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن یزولوا- و قاتل زیاد بن عمرو قتالا شدیدا- و لقد رأیت سوید بن سلیم یومئذ- و إنه لأشد العرب قتالا و أشجعهم- و هو واقف لا یعرض لهم ثم ارتفعنا عنهم- فإذا هم یتقوضون فقال بعض أصحابنا لبعض- أ لا ترونهم یتقوضون احملوا علیهم فأرسل إلینا شبیب- خلوهم لا تحملوا علیهم حتى یخفوا فترکناهم قلیلا- ثم حملنا علیهم الثالثه فانهزموا- فنظرت إلى زیاد بن عمرو و إنه لیضرب بالسیوف- و ما من سیف یضرب به‏ إلا نبا عنه- و لقد اعتوره أکثر من عشرین سیفا و هو مجفف- فما ضره شی‏ء منها ثم انهزم- .

و انتهینا إلى محمد بن موسى بن طلحه أمیر سجستان- عند المغرب و هو قائم فی أصحابه- فقاتلناه قتالا شدیدا و صبر لنا- . ثم إن مصادا حمل على بشر بن غالب فی المیسره فصبر- و کرم و أبلى و نزل معه رجال من أهل البصره نحو خمسین- فضاربوا بأسیافهم حتى قتلوا- ثم انهزم أصحابه فشددنا على أبی الضریس فهزمناه- ثم انتهینا إلى موقف أعین ثم شددنا على أعین- فهزمناهم حتى انتهینا إلى زائده بن قدامه- فلما انتهوا إلیه نزل و نادى یا أهل الإسلام الأرض الأرض- ألا لا یکونون على کفرهم أصبر منکم على إیمانکم- فقاتلوا عامه اللیل إلى السحر- . ثم إن شبیبا شد على زائده بن قدامه فی جماعه من أصحابه- فقتله و قتل ربضه حوله من أهل الحفاظ- و نادى شبیب فی أصحابه ارفعوا السیف- و ادعوهم إلى البیعه فدعوهم عند الفجر إلى البیعه- .

قال عبد الرحمن بن جندب- فکنت فیمن تقدم فبایعه بالخلافه- و هو واقف على‏فرس أغر کمیت و خیله واقفه دونه- و کل من جاء لیبایعه ینزع سیفه عن عاتقه و یؤخذ سلاحه- ثم یدنو من شبیب فیسلم علیه بإمره المؤمنین ثم یبایع- فإنا کذلک إذ أضاء الفجر- و محمد بن موسى بن طلحه فی أقصى العسکر مع أصحابه- و کان الحجاج قد جعل موقفه آخر الناس- و زائده بن قدامه بین یدیه- و مقام محمد بن موسى مقام الأمیر على الجماعه کلها- فأمر محمد مؤذنه فأذن فلما سمع شبیب الأذان قال- ما هذا قیل هذا ابن طلحه لم یبرح- قال ظننت أن حمقه و خیلاءه سیحملانه على هذا- نحوا هؤلاء عنا و انزلوا بنا فلنصل فنزل و أذن هو- ثم استقدم فصلى بأصحابه و قرأ- وَیْلٌ لِکُلِّ هُمَزَهٍ لُمَزَهٍ- و أَ رَأَیْتَ الَّذِی یُکَذِّبُ بِالدِّینِ ثم سلم و رکب- و أرسل إلى محمد بن موسى بن طلحه- إنک امرؤ مخدوع قد اتقى بک الحجاج المنیه- و أنت لی جار بالکوفه- و لک حق فانطلق لما أمرت به و لک الله ألا أسوءک- فأبى محاربته فأعاد علیه الرسول فأبى إلا قتاله-

فقال له شبیب کأنی بأصحابک لو التقت- حلقتا البطان قد أسلموک- و صرعت مصرع أمثالک فأطعنی و انصرف‏لشأنک- فإنی أنفس بک عن القتل- فأبى و خرج بنفسه و دعا إلى البراز فبرز له البطین- ثم قعنب بن سوید و هو یأبى إلا شبیبا- فقالوا لشبیب إنه قد رغب عنا إلیک قال- فما ظنکم بمن یرغب عن الأشراف ثم برز له- و قال له أنشدک الله یا محمد فی دمک فإن لک جوارا- فأبى إلا قتاله فحمل علیه بعموده الحدید- و کان فیه اثنا عشر رطلا- فهشم رأسه و بیضه کانت علیه فقتله- و نزل إلیه فکفنه و دفنه- و تتبع ما غنم الخوارج من عسکره- فبعث به إلى أهله و اعتذر إلى أصحابه و قال- هو جاری بالکوفه و لی أن أهب ما غنمت- فقال له أصحابه ما دون الکوفه الآن أحد یمنعک- فنظر فإذا أصحابه قد فشا فیهم الجراح- فقال لیس علیکم أکثر مما قد فعلتم- .

و خرج بهم على نفر- ثم خرج بهم نحو بغداد یطلب خانیجار- و بلغ الحجاج أن شبیبا قد أخذ نحو نفر- فظن أنه یرید المدائن و هی باب الکوفه- و من أخذ المدائن کان ما فی یدیه من أرض الکوفه أکثر- فهال ذلک الحجاج و بعث إلى عثمان بن قطن- فسرحه إلى المدائن- و ولاه منبرها و الصلاه و معونه جوخى کلها و خراج الأستان- فجاء مسرعا حتى نزل المدائن- و عزل الحجاج ابن أبی عصیفیر عن المدائن- و کان الجزل مقیما بها یداوی جراحاته- و کان ابن أبی عصیفیر یعوده و یکرمه و یلطفه- فلما قدم عثمان بن قطن لم یکن یتعاهده و لا یلطفه بشی‏ء- فکان الجزل یقول- اللهم زد ابن أبی عصیفیر فضلا و کرما- و زد عثمان بن قطن ضیقا و بخلا- .ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث- فقال له انتخب الناس- فأخرج ستمائه من قومه من کنده- و أخرج من سائر الناس سته آلاف- و استحثه الحجاج على الشخوص- فخرج بعسکره بدیر عبد الرحمن- فلما استتموا هناک- کتب إلیهم الحجاج کتابا قرئ علیهم- .

أما بعد فقد اعتدتم عاده الأذلاء- و ولیتم الدبر یوم الزحف دأب الکافرین- و قد صفحت عنکم مره بعد مره و تاره بعد أخرى- و إنی أقسم بالله قسما صادقا- لئن عدتم لذلک لأوقعن بکم إیقاعا- یکون أشد علیکم من هذا العدو الذی- تنهزمون منه فی بطون الأودیه و الشعاب- و تستترون منه بأثناء الأنهار و الواد الجبال- فلیخف من کان له معقول على نفسه- و لا یجعل علیها سبیلا فقد أعذر من أنذر و السلام- . و ارتحل عبد الرحمن بالناس حتى مر بالمدائن- فنزل بها یوما لیشتری أصحابه منها حوائجهم- ثم نادى فی الناس بالرحیل- و أقبل حتى دخل على عثمان بن قطن مودعا- ثم أتى الجزل عائدا- فسأله عن جراحته و حادثه- فقال الجزل یا ابن عم- إنک تسیر إلى فرسان العرب- و أبناء الحرب و أحلاس الخیل- و الله لکأنما خلقوا من ضلوعها- ثم ربوا على ظهورها ثم هم أسد الأجم- الفارس منهم أشد من مائه- إن لم یبدأ به بدأ هو و إن هجهج أقدم- و إنی قد قاتلتهم و بلوتهم- فإذا أصحرت لهم انتصفوا منی و کان لهم الفضل علی- و إذا خندقت أو قاتلت فی مضیق نلت منهم ما أحب- و کانت لی علیهم- فلا تلقهم و أنت تستطیع إلا و أنت فی تعبیه أو خندق- ثم ودعه و قال له هذه فرسی الفسیفساء خذها فیها لا تجارى- فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبیب- فلما دنا منه ارتفع شبیب عنه إلى دقوقاء و شهرزور- فخرج عبد الرحمن فی طلبه- حتى إذا کان على تخوم تلک الأرض أقام- و قال إنما هو فی أرض الموصل- فلیقاتل أمیر الموصل و أهلها عن بلادهم أو فلیدعوا- .

و بلغ ذلک الحجاج فکتب إلیه أما بعد- فاطلب شبیبا و اسلک فی أثره أین سلک حتى تدرکه- فتقتله أو تنفیه عن الأرض- فإنما السلطان سلطان أمیر المؤمنین- و الجند جنده و السلام- . فلما قرأ عبد الرحمن کتاب الحجاج خرج فی طلب شبیب- فکان شبیب یدعه- حتى إذا دنا منه لیبیته فیجده قد خندق و حذر- فیمضی و یترکه فیتبعه عبد الرحمن- فإذا بلغ شبیبا أنه قد تحمل و سار یطلبه کر فی الخیل نحوه- فإذا انتهى إلیه وجده قد صف خیله و رجالته المرامیه- فلا یصیب له غره و لا غفله فیمضی و یدعه- . و لما رأى شبیب أنه لا یصیب غرته و لا یصل إلیه- صار یخرج کلما دنا منه عبد الرحمن- حتى ینزل على مسیره عشرین فرسخا- ثم یقیم فی أرض غلیظه وعره- فیجی‏ء عبد الرحمن فی ثقله و خیله- حتى إذا دنا من شبیب ارتحل- فسار عشرین أو خمسه عشر فرسخا فنزل منزلا غلیظا خشنا- ثم یقیم حتى یبلغ عبد الرحمن ذلک المنزل ثم یرتحل- فعذب العسکر و شق علیهم و أحفى دوابهم- و لقوا منه کل بلاء- .

فلم یزل عبد الرحمن یتبعه- حتى صار إلى خانقین و جلولاء- ثم أقبل على تامرا فصار إلى البت- و نزل على تخوم الموصل- لیس بینه و بین الکوفه إلا نهر حولایا- و جاء عبد الرحمن حتى نزل بشرقی حولایا- و هم فی راذان الأعلى من أرض جوخى و نزل فی عواقیل من النهر- و نزلها عبد الرحمن حیث نزلها و هی تعجبه- یرى أنها مثل الخندق الحصین- . فأرسل شبیب إلى عبد الرحمن- أن هذه الأیام أیام عید لنا و لکم- فإن رأیتم أن توادعونا حتى تمضی هذه الأیام فعلتم- فأجابه عبد الرحمن إلى ذلک- و لم یکن شی‏ء أحب إلى عبد الرحمن- من المطاوله و الموادعه- فکتب عثمان بن قطن إلى الحجاج- أما بعد فإنی أخبر الأمیر أصلحه الله- أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد حفر جوخى کلها- علیه خندقا واحدا و خلى شبیبا و کسر خراجها- فهو یأکل أهلها و السلام- . فکتب إلیه الحجاج- قد فهمت ما ذکرت و قد لعمری فعل عبد الرحمن- فسر إلى الناس فأنت أمیرهم- و عاجل المارقه حتى تلقاهم- فإن الله إن شاء ناصرک علیهم و السلام- .

و بعث الحجاج على المدائن مطرف بن المغیره بن شعبه- و خرج عثمان حتى قدم على‏ عبد الرحمن و من معه- و هم معسکرون على نهر حولایا قریبا من البت- و ذلک یوم الترویه عشاء- فنادى فی الناس و هو على تلعه- أیها الناس اخرجوا إلى عدوکم فوثبوا إلیه و قالوا- ننشدک الله هذا المساء قد غشینا- و الناس لم یوطنوا أنفسهم على القتال- فبت اللیله ثم اخرج على تعبیه فجعل یقول- لأناجزنهم اللیله و لتکونن الفرصه لی أو لهم- فأتاه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث- فأخذ بعنان بغلته و ناشده الله لما نزل- و قال له عقیل بن شداد السلونی- إن الذی تریده من مناجزتهم الساعه أنت فاعله غدا- و هو خیر لک و للناس- إن هذه ساعه ریح قد اشتدت مساء فانزل ثم أبکر بنا غدوه- .

فنزل و سفت علیه الریح و شق علیه الغبار- فاستدعى صاحب الخراج علوجا فبنوا له قبه- فبات فیها ثم أصبح فخرج بالناس- فاستقبلتهم ریح شدیده و غبره فصاح الناس إلیه- و قالوا ننشدک الله ألا تخرج بنا فی هذا الیوم- فإن الریح علینا فأقام ذلک الیوم- . و کان شبیب یخرج إلیهم- فلما رآهم لا یخرجون إلیه أقام- فلما کان الغد خرج عثمان یعبئ الناس على أرباعهم- و سألهم من کان على میمنتکم و میسرتکم فقالوا- خالد بن نهیک بن قیس الکندی على میسرتنا- و عقیل بن شداد السلونی على میمنتنا- فدعاهما و قال لهما قفا فی مواقفکما التی کنتما بها- فقد ولیتکما المجنبتین فاثبتا و لا تفرا- فو الله لا أزول حتى تزول نخیل راذان عن أصولها- فقالا نحن و الله الذی لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل- فقال لهما جزاکما الله خیرا- ثم أقام حتى صلى بالناس الغداه ثم خرج بالخیل- فنزل یمشی فی الرجال- و خرج شبیب و معه یومئذ مائه و أحد و ثمانون رجلا- فقطع إلیهم النهر و کان هو فی میمنه أصحابه- و جعل على المیسره سوید بن سلیم- و جعل فی القلب مصادا أخاه و زحفوا- و کان عثمان بن قطن یقول لأصحابه فیکثر- قل لن‏ینفعکم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل- و إذا لا تمتعون إلا قلیلا- . ثم قال شبیب لأصحابه- إنی حامل على میسرتهم مما یلی النهر- فإذا هزمتها فلیحمل صاحب میسرتی على میمنتهم- و لا یبرح صاحب القلب حتى یأتیه أمری- ثم حمل فی میمنه أصحابه مما یلی النهر- على میسره عثمان بن قطن فانهزموا- و نزل عقیل بن شداد مع طائفه من أهل الحفاظ- فقاتل حتى قتل و قتلوا معه- .

و دخل شبیب عسکرهم- و حمل سوید بن سلیم فی میسره شبیب- على میمنه عثمان بن قطن فهزمها- و علیها خالد بن نهیک الکندی فنزل خالد- و قاتل قتالا شدیدا فحمل علیه شبیب من ورائه- فلم ینثن حتى علاه بالسیف فقتله و مشى عثمان بن قطن- و قد نزلت معه العرفاء و الفرسان- و أشراف الناس نحو القلب- و فیه أخو شبیب فی نحو من ستین رجلا- فلما دنا منهم عثمان شد علیهم فی الأشراف و أهل الصبر- فضربهم مصاد و أصحابه حتى فرقوا بینهم- و حمل شبیب من ورائهم بالخیل- فما شعروا إلا و الرماح فی أکتافهم تکبهم لوجوههم- و عطف علیهم سوید بن سلیم أیضا فی خیله- و قاتل عثمان فأحسن القتال- .

ثم إن الخوارج شدوا علیهم فأحاطوا بعثمان- و حمل علیه مصاد أخو شبیب- فضربه ضربه بالسیف فاستدار لها و سقط و قال- و کان أمر الله قدرا مقدورا- فقتل و قتل معه العرفاء و وجوه الناس- و قتل من کنده یومئذ مائه و عشرون رجلا- و قتل من سائر الناس نحو ألف- و وقع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى الأرض- فعرفه‏ابن أبی سبره فنزل و أرکبه و صار ردیفا له- و قال له عبد الرحمن ناد فی الناس- ألحقوا بدیر ابن أبی مریم فنادى بذلک- و انطلقا ذاهبین و أمر شبیب أصحابه- فرفعوا عن الناس السیف و دعاهم إلى البیعه- فأتاه من بقی من الرجال فبایعوه- و بات عبد الرحمن بدیر الیعار فأتاه فارسان لیلا- فخلا به أحدهما یناجیه طویلا- و قام الآخر قریبا منهما ثم مضیا و لم یعرفا- فتحدث الناس أن المناجی له کان شبیبا- و أن الذی کان یرقبهما کان مصادا أخاه- و اتهم عبد الرحمن بمکاتبه شبیب من قبل- .

ثم خرج عبد الرحمن آخر اللیل- فسار حتى أتى دیر ابن أبی مریم- فإذا هو بالناس قبله قد سبقوه- و قد وضع لهم ابن أبی سبره صبر الشعیر و ألقت- کأنها القصور و نحر لهم من الجزور ما شاءوا- و اجتمع الناس إلى عبد الرحمن فقالوا له- إن علم شبیب بمکانک أتاک فکنت له غنیمه- قد تفرق الناس عنک و قتل خیارهم- فالحق أیها الرجل بالکوفه- . فخرج و خرج معه الناس- حتى دخل الکوفه مستترا من الحجاج- إلى أن أخذ له الأمان بعد ذلک- .

ثم إن شبیبا اشتد علیه الحر و على أصحابه- فأتى ماه بهراذان فصیف بها ثلاثه أشهر- و أتاه ناس ممن کان یطلب الدنیا و الغنیمه کثیر- و لحق به ناس ممن کان یطلبهم‏ الحجاج بمال و تبعه- فمنهم رجل یقال له الحر بن عبد الله بن عوف- کان قتل دهقانین من أهل نهر درقیط کانا أساءا إلیه- و لحق بشبیب حتى شهد معه مواطنه إلى أن هلک- و له مقام عند الحجاج و کلام سلم به من القتل- و هو أن الحجاج بعد هلاک شبیب- أمن کل من خرج إلیه ممن کان یطلبهم الحجاج بمال أو تبعه- فخرج إلیه الحر فیمن خرج- فجاء أهل الدهقانین یستعدون علیه الحجاج فأحضره- و قال یا عدو الله قتلت رجلین من أهل الخراج فقال- قد کان أصلحک الله منی ما هو أعظم من هذا قال و ما هو- قال خروجی عن الطاعه و فراقی الجماعه- ثم إنک أمنت کل من خرج علیک و هذا أمانی و کتابک لی- . فقال الحجاج قد لعمری فعلت- ذلک أولى لک و خلى سبیله- .

ثم لما باخ الحر و سکن عن شبیب- خرج من ماه نهروان فی نحو من ثمانمائه رجل- فأقبل نحو المدائن و علیها المطرف بن المغیره بن شعبه- فجاء حتى نزل قناطر حذیفه بن الیمان- فکتب ماذراسب و هو عظیم بابل مهروذ إلى الحجاج- یخبره خبر شبیب و قدومه إلى قناطر حذیفه- فقام الحجاج فی الناس و خطبهم و قال- أیها الناس لتقاتلن عن بلادکم و فیئکم- أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع و أسمع- و أصبر على البلاء منکم- فیقاتلون عدوکم و یأکلون فیئکم یعنی جند الشام- .

فقام إلیه الناس من کل جانب یقولون بل نحن نقاتلهم- و نغیث الأمیر لیندبنا إلیهم فإنا حیث یسره- .و قام إلیه زهره بن حویه- و هو یومئذ شیخ کبیر لا یستتم قائما حتى یؤخذ بیده فقال- أصلح الله الأمیر- إنک إنما تبعث الناس متقطعین- فاستنفر إلیهم الناس کافه- و ابعث علیهم رجلا متینا شجاعا مجربا- یرى الفرار هضما و عارا و الصبر مجدا و کرما- فقال الحجاج فأنت ذاک فاخرج- . فقال أصلح الله الأمیر- إنما یصلح لهذا الموقف رجل یحمل الرمح و الدرع- و یهز السیف و یثبت على متن الفرس و أنا لا أطیق ذلک- قد ضعفت و ضعف بصرى- و لکن ابعثنی مع أمیر تعتمده- فأکون فی عسکره و أشیر علیه برأیی- .

فقال جزاک الله عن الإسلام و الطاعه خیرا- لقد نصحت و صدقت و أنا مخرج الناس کافه- ألا فسیروا أیها الناس- . فانصرف الناس یتجهزون و ینتشرون- و لا یدرون من أمیرهم- . و کتب الحجاج إلى عبد الملک- أما بعد فإنی أخبر أمیر المؤمنین أکرمه الله- أن شبیبا قد شارف المدائن و إنما یرید الکوفه- و قد عجز أهل العراق عن قتاله فی مواطن کثیره- فی کلها تقتل أمراؤهم و یفل خیولهم و أجنادهم- فإن رأى أمیر المؤمنین أن یبعث إلی جندا من جند الشام- لیقاتلوا عدوهم و یأکلوا بلادهم فعل إن شاء الله- . فلما أتى عبد الملک کتابه- بعث إلیه سفیان بن الأبرد فی أربعه آلاف- و بعث إلیه حبیب بن عبد الرحمن الحکمی من مذحج فی ألفین- و سرحهم نحوه حین أتاه الکتاب- .

و قد کان الحجاج بعث- إلى عتاب بن ورقاء الریاحی لیأتیه- و کان على خیل الکوفه مع المهلب- و دعا الحجاج أشراف أهل الکوفه- منهم زهره بن حویه و قبیصه بن والق فقال- من ترون أن أبعث على هذا الجیش قالوا- رأیک أیها الأمیر أفضل قال- إنی قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء- و هو قادم علیکم اللیله فیکون هو الذی یسیر بالناس- فقال زهره بن حویه أصلح الله الأمیر رمیتهم بحجرهم- لا و الله لا یرجع إلیک حتى یظفر أو یقتل- .

فقال قبیصه بن والق- و إنی مشیر علیک أیها الأمیر برأی اجتهدته- نصیحه لک و لأمیر المؤمنین و لعامه المسلمین- إن الناس قد تحدثوا أن جیشا قد وصل إلیک من الشام- لأن أهل الکوفه قد هزموا- و هان علیهم الفرار و العار من الهزیمه- فکأنما قلوبهم فی صدور قوم آخرین- فإن رأیت أن تبعث إلى الجیش الذی- قد أمددت به من أهل الشام فلیأخذوا حذرهم- و لا یثبتوا بمنزل إلا و هم یرون أنهم یبیتون فعلت- فإن فعلت فإنک إنما تحارب حولا قلبا محلالا مظعانا- إن شبیبا بینا هو فی أرض إذا هو فی أخرى- و لا آمن أن یأتیهم و هم غارون- فإن یهلکوا یهلک العراق کله- . فقال الحجاج لله أبوک ما أحسن ما رأیت- و ما أصح ما أشرت به- فبعث إلى الجیش الوارد علیه من الشام کتابا قرءوه- و قد نزلوا هیت و هو- أما بعد فإذا حاذیتم هیت- فدعوا طریق الفرات و الأنبار و خذوا على عین التمر- حتى تقدموا الکوفه إن شاء الله- . فأقبل القوم سراعا- و قدم عتاب بن ورقاء فی اللیله التی- قال الحجاج إنه فیها قادم فأمره الحجاج- فخرج بالناس و عسکر بحمام أعین- و أقبل شبیب حتى انتهى‏إلى کلواذا فقطع منها دجله- و أقبل حتى نزل بهرسیر- و صار بینه و بین مطرف بن المغیره بن شعبه جسر دجله- فقطع مطرف الجسر و رأى رأیا صالحا کاد به شبیبا- حتى حبسه عن وجهه و ذلک أنه بعث إلیه- أن ابعث إلی رجالا من فقهاء أصحابک و قرائهم- و أظهر له أنه یرید أن یدارسهم القرآن-

و ینظر فیما یدعون إلیه فإن وجد حقا اتبعه- فبعث إلیه شبیب رجالا فیهم قعنب و سوید و المحلل- و وصاهم ألا یدخلوا السفینه حتى یرجع رسوله من عند مطرف- و أرسل إلى مطرف- أن ابعث إلی من أصحابک و وجوه فرسانک بعده أصحابی- لیکونوا رهنا فی یدی حتى ترد على أصحابی- فقال مطرف لرسوله القه و قل له- کیف آمنک الآن على أصحابی إذ أبعثهم إلیک- و أنت لا تأمننی على أصحابک- فأبلغه الرسول فقال قل له- قد علمت أنا لا نستحل الغدر فی دیننا- و أنتم قوم غدر تستحلون الغدر و تفعلونه- فبعث إلیه مطرف جماعه من وجوه أصحابه- فلما صاروا فی ید شبیب سرح إلیه أصحابه- فعبروا إلیه فی السفینه فأتوه- فمکثوا أربعه أیام یتناظرون و لم یتفقوا على شی‏ء- فلما تبین لشبیب أن مطرفا کاده و أنه غیر متابع له- تعبى للمسیر و جمع إلیه أصحابه و قال لهم- إن هذا الثقفی قطعنی عن رأیی منذ أربعه أیام- و ذلک أنی هممت أن أخرج فی جریده من الخیل- حتى ألقى هذا الجیش المقبل من الشام- و أرجو أن أصادف غرتهم قبل أن یحذروا- و کنت ألقاهم منقطعین عن المصر- لیس علیهم أمیر کالحجاج یستندون إلیه- و لا لهم مصر کالکوفه یعتصمون به- و قد جاءنی عیون أن أوائلهم قد دخلوا عین التمر- فهم الآن قد شارفوا الکوفه- و جاءنی أیضا عیون من نحو عتاب- أنه نزل بحمام أعین بجماعه أهل الکوفه و أهل البصره- فما أقرب ما بیننا و بینهم- فتیسروا بنا للمسیر إلى عتاب- .

و کان عتاب حینئذ قد أخرج معه خمسین ألفا من المقاتله- و هددهم الحجاج إن هربوا کعاده أهل الکوفه و توعدهم- و عرض شبیب أصحابه بالمدائن- فکانوا ألف رجل فخطبهم و قال یا معشر المسلمین- إن الله عز و جل کان ینصرکم و أنتم مائه و مائتان- و الیوم فأنتم مئون و مئون- ألا و إنی مصل الظهر ثم سائر بکم إن شاء الله- . فصلى الظهر ثم نادى فی الناس فتخلف عنه بعضهم- . قال فروه بن لقیط فلما جاز ساباط و نزلنا معه- قص علینا و ذکرنا بأیام الله- و زهدنا فی الدنیا و رغبنا فی الآخره- ثم أذن مؤذنه فصلى بنا العصر- ثم أقبل حتى أشرف على عتاب بن ورقاء- فلما رأى جیش عتاب نزل من ساعته و أمر مؤذنه- فأذن ثم تقدم فصلى بأصحابه صلاه المغرب- و خرج عتاب بالناس کلهم فعبأهم- و کان قد خندق على نفسه مذ یوم نزل- .

و جعل على میمنته محمد بن عبد الرحمن- بن سعید بن قیس الهمدانی قال له- یا ابن أخی إنک شریف فاصبر و صابر فقال- أما أنا فو الله لأقاتلن ما ثبت معی إنسان- . و قال لقبیصه بن والق التغلبی اکفنی المیسره فقال- أنا شیخ کبیر غایتی أن أثبت تحت رایتی- أ ما ترانی لا أستطیع القیام إلا أن أقام- و أخی نعیم بن علیم ذو غناء- فابعثه على المیسره فبعثه علیها- و بعث حنظله بن الحارث الریاحی ابن عمه- و شیخ‏أهل بیته على الرجاله و بعث معه ثلاثه صفوف- صف فیه الرجاله و معهم السیوف- و صف هم أصحاب الرماح و صف فیه المرامیه- . ثم سار عتاب بین المیمنه و المیسره- یمر بأهل رایه رایه فیحرض من تحتها على الصبر- و من کلامه یومئذ إن أعظم الناس نصیبا من الجنه الشهداء- و لیس الله لأحد أمقت منه لأهل البغی- أ لا ترون عدوکم هذا یستعرض المسلمین بسیفه- لا یرى ذلک إلا قربه لهم- فهم شرار أهل الأرض و کلاب أهل النار فلم یجبه أحد- فقال أین القصاص یقصون على الناس و یحرضونهم- فلم یتکلم أحد فقال أین من یروی شعر عنتره- فیحرک الناس فلم یجبه أحد و لا رد علیه کلمه- فقال لا حول و لا قوه إلا بالله- و الله لکأنی بکم و قد تفرقتم عن عتاب- و ترکتموه تسفی فی استه الریح- ثم أقبل حتى جلس فی القلب- و معه زهره بن حویه و عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث- .

و أقبل شبیب فی ستمائه- و قد تخلف عنه من الناس أربعمائه فقال- إنه لم یتخلف عنی إلا من لا أحب أن أراه معی- فبعث سوید بن سلیم فی مائتین إلى المیسره- و بعث المحلل بن وائل فی مائتین إلى القلب- و مضى هو فی مائتین إلى المیمنه- و ذلک بین المغرب و العشاء الآخره حین أضاء القمر- فناداهم لمن هذه الرایات قالوا رایات همدان- . فقال رایات طالما نصرت الحق و طالما نصرت الباطل- لها فی کل نصیب أنا أبو المدله اثبتوا إن شئتم- ثم حمل علیهم و هم على مسناه أمام الخندق ففضهم- و ثبت أصحاب رایات قبیصه بن والق- .

فجاء شبیب فوقف علیه و قال لأصحابه- مثل هذا قوله تعالى- وَ اتْلُ عَلَیْهِمْ‏ نَبَأَ الَّذِی آتَیْناهُ آیاتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها- فَأَتْبَعَهُ الشَّیْطانُ فَکانَ مِنَ الْغاوِینَ- . ثم حمل على المیسره ففضها و صمد نحو القلب- و عتاب جالس على طنفسه هو و زهره بن حویه- فغشیهم شبیب فانفض الناس عن عتاب و ترکوه- فقال عتاب یا زهره- هذا یوم کثر فیه العدد و قل فیه الغناء- لهفی على خمسمائه فارس من وجوه الناس- أ لا صابر لعدوه أ لا مواس بنفسه- فمضى الناس على وجوههم- فلما دنا منه شبیب- وثب إلیه فی عصابه قلیله صبرت معه- فقال له بعضهم إن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد هرب- و انصفق معه ناس کثیر فقال- أما إنه قد فر قبل الیوم- و ما رأیت مثل ذلک الفتى ما یبالی ما صنع- ثم قاتلهم ساعه و هو یقول- ما رأیت کالیوم قط موطنا لم أبل بمثله- أقل ناصرا و لا أکثرها ربا خاذلا- فرآه رجل من بنی تغلب من أصحاب شبیب- و کان أصاب دما فی قومه و التحق بشبیب فقال- إنی لأظن هذا المتکلم عتاب بن ورقاء فحمل علیه فطعنه- فوقع و قتل و وطئت الخیل زهره بن حویه- فأخذ یذبب بسیفه و هو شیخ کبیر لا یستطیع أن ینهض- فجاءه الفضل بن عامر الشیبانی فقتله- و انتهى إلیه شبیب فوجده صریعا فعرفه فقال- من قتل هذا قال الفضل أنا قتلته- فقال شبیب هذا زهره بن حویه- أما و الله لئن کنت قتلت على ضلاله- لرب یوم من أیام المسلمین قد حسن فیه بلاؤک- و عظم فیه غناؤک- و لرب خیل للمشرکین هزمتها و سریه لهم ذعرتها- و مدینه لهم فتحتها- ثم کان فی علم الله أن تقتل ناصرا للظالمین- .

و قتل یومئذ وجوه العرب من عسکر العراق فی المعرکه- و استمکن شبیب من أهل العسکر فقال- ارفعوا عنهم السیف و دعاهم إلى البیعه- فبایعه الناس عامه من ساعتهم- و احتوى على جمیع ما فی العسکر- و بعث إلى أخیه و هو بالمدائن- فأتاه فأقام بموضع المعرکه یومین- و دخل سفیان بن الأبرد الکلبی- و حبیب بن عبد الرحمن فیمن معهما إلى الکوفه- فشدوا ظهر الحجاج و استغنى بهم عن أهل العراق- و وصلته أخبار عتاب و عسکره فصعد المنبر فقال- یا أهل الکوفه لا أعز الله من أراد بکم العز- و لا نصر من أراد منکم النصر- اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا- و الحقوا بالحیره فانزلوا مع الیهود و النصارى- و لا یقاتلن معنا إلا من لم یشهد قتال عتاب بن ورقاء- .

و خرج شبیب یرید الکوفه فانتهى إلى سورا فقال لأصحابه- أیکم یأتینی برأس عاملها- فانتدب إلیه قطین و قعنب و سوید- و رجلان من أصحاب شبیب فکانوا خمسه- و ساروا حتى انتهوا إلى دار الخراج و العمال فیها- فقالوا أجیبوا الأمیر فقال الناس أی أمیر- قالوا أمیر قد خرج من قبل الحجاج- یرید هذا الفاسق شبیبا- فاغتر بذلک عامل سورا فخرج إلیهم- فلما خالطهم شهروا السیوف- و حکموا و خبطوه بها حتى قتلوه- و قبضوا ما وجدوا فی دار الخراج من مال و لحقوا بشبیب- . فلما رأى شبیب البدر قال أتیتمونا بفتنه المسلمین- هلم یا غلام الحربه فخرق بها البدر- و أمر أن تنخس الدواب التی کانت البدر علیها- فمرت رائحه و المال یتناثر من البدر- حتى وردت الصراه فقال- إن کان بقی شی‏ء فاقذفوه فی الماء- .

و قال سفیان بن الأبرد للحجاج- ابعثنی إلى شبیب أستقبله قبل أن یرد الکوفه- فقال لا ما أحب أن نفترق حتى ألقاه فی جماعتکم- و الکوفه فی ظهرنا و أقبل شبیب حتى نزل حمام أعین- و دعا الحجاج الحارث بن معاویه- بن أبی زرعه بن مسعود الثقفی- فوجهه فی ناس لم یکونوا شهدوا یوم عتاب- فخرج فی ألف رجل حتى انتهى إلى شبیب- لیدفعه عن الکوفه- فلما رآه شبیب حمل علیه فقتله و فل أصحابه- فجاءوا حتى دخلواالکوفه- و بعث شبیب البطین فی عشره فوارس- یرتادون له منزلا على شاطئ الفرات فی دار الرزق- فوجه الحجاج حوشب بن یزید فی جمع من أهل الکوفه- فأخذوا بأفواه السکک- فقاتلهم البطین فلم یقو علیهم- فبعث إلى شبیب فأمده بفوارس من أصحابه- فعقروا فرس حوشب و هزموه فنجا بنفسه- و مضى البطین إلى دار الرزق فی أصحابه- و نزل شبیب بها و لم یوجه إلیه الحجاج أحدا- فابتنى مسجدا فی أقصى السبخه- و أقام ثلاثا لم یوجه إلیه الحجاج أحدا- و لا یخرج إلیه من أهل الکوفه و لا من أهل الشام أحد- و کانت امرأته غزاله نذرت- أن تصلی فی مسجد الکوفه رکعتین- تقرأ فیهما بالبقره و آل عمران- .

فجاء شبیب مع امرأته حتى أوفت بنذرها فی المسجد- و أشیر على الحجاج أن یخرج بنفسه إلیه- فقال لقتیبه بن مسلم إنی خارج فاخرج أنت- فارتد لی معسکرا فخرج و عاد فقال- وجدت المدى سهلا- فسر أیها الأمیر على اسم الله و الطائر المیمون- فخرج الحجاج بنفسه و مر على مکان فیه کناسه و أقذار- فقال ألقوا لی هنا بساطا فقیل له إن الموضع قذر- فقال ما تدعونی إلیه أقذر- الأرض تحته طیبه و السماء فوقه طیبه- .

و وقف هناک و أخرج مولى له یعرف بأبی الورد- و علیه تجفاف و أحاط به غلمان کثیر- و قیل هذا الحجاج فحمل علیه شبیب فقتله- و قال إن یکن الحجاج فقد أرحت الناس منه- و دلف الحجاج نحوه حینئذ و على میمنته مطر بن ناجیه- و على میسرته خالد بن عتاب بن ورقاء- و هو فی زهاء أربعه آلاف فقیل له- أیها الأمیر لا نعرف‏ شبیبا بمکانک فتنکر و أخفى مکانه- و تشبه به مولى آخر للحجاج فی هیئته و زیه- فحمل علیه شبیب فضربه بالعمود فقتله- و یقال إنه قال لما سقط أخ بالخاء المعجمه- فقال شبیب قاتل الله ابن أم الحجاج- اتقى الموت بالعبید- و ذلک أن العرب تقول عند التأوه أح بالحاء المهمله- .

ثم تشبه بالحجاج أعین صاحب حمام أعین و لبس لبسته- فحمل علیه شبیب فقتله- فقال الحجاج علی بالبغل لأرکبه فأتی ببغل محجل- و قیل أیها الأمیر أصلحک الله- إن الأعاجم کانت تتطیر أن ترکب مثل هذا البغل- فی مثل هذا الیوم فقال أدنوه منی فإنه أغر محجل- و هذا یوم أغر محجل فرکبه- ثم سار فی الناس یمینا و شمالا ثم قال- اطرحوا لی عباءه فطرحت له فنزل فجلس علیها ثم قال- ائتونی بکرسی فأتی به فقام فجلس علیه- ثم نادى أهل الشام فقال- یا أهل الشام یا أهل السمع و الطاعه- لا یغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقکم- غضوا الأبصار و اجثوا على الرکب- و استقبلوا القوم بأطراف الأسنه- فجثوا على الرکب و کأنهم حره سوداء- . و منذ هذا الوقت رکدت ریح شبیب- و أذن الله تعالى فی إدبار أمره و انقضاء أیامه فأقبل- حتى إذا دنا من أهل الشام عبى أصحابه ثلاثه کرادیس- کتیبه معه و کتیبه مع سوید بن سلیم- و کتیبه مع المحلل بن وائل- و قال لسوید احمل علیهم فی خیلک- فحمل علیهم فثبتوا له حتى إذا غشی أطراف أسنتهم- وثبوا فی وجهه فقاتلهم طویلا فصبروا له ثم طاعنوه- قدما قدما حتى ألحقوه بأصحابه- .

فلما رأى شبیب صبرهم نادى یا سوید- احمل فی خیلک فی هذه الرایات الأخرى- لعلک تزیل أهلها فتأتی الحجاج من ورائه- و نحمل نحن علیه من أمامه- فحمل سوید على تلک الرایات و هی بین جدران الکوفه- فرمى بالحجاره من سطوح البیوت- و من أفواه السکک فانصرف و لم یظفروا- .و رماه عروه بن المغیره بن شعبه بالسهام- و قد کان الحجاج جعله فی ثلاثمائه رام من أهل الشام- ردءا له کی لا یؤتى من ورائه فصاح شبیب فی أصحابه- . یا أهل الإسلام إنما شریتم لله- و من یکن شراؤه لله لم یضره ما أصابه من ألم و أذى- لله أبوکم الصبر الصبر- شده کشداتکم الکریمه فی مواطنکم المشهوره- . فشدوا شده عظیمه- فلم یزل أهل الشام عن مراکزهم- فقال شبیب الأرض دبوا دبیبا تحت تراسکم- حتى إذا صارت أسنه أصحاب الحجاج فوقها- فأذلقوها صعدا و ادخلوا تحتها- و اضربوا سوقهم و أقدامهم و هی الهزیمه بإذن الله- فأقبلوا یدبون دبیبا تحت الحجف- صمدا صمدا نحو أصحاب الحجاج- .

فقال خالد بن عتاب بن ورقاء أیها الأمیر- أنا موتور و لا أتهم فی نصیحتی- فأذن لی حتى آتیهم من ورائهم- فأغیر على معسکرهم و ثقلهم فقال افعل ذلک- فخرج فی جمع من موالیه و شاکریته و بنی عمه- حتى صار من ورائهم فالتقى بمصاد أخی شبیب فقتله- و قتل غزاله امرأه شبیب و ألقى النار فی معسکرهم- و التفت شبیب و الحجاج فشاهدا النار- فأما الحجاج فکبر و کبر أصحابه- و أما شبیب فوثب هو- و کل راجل من أصحابه على خیولهم مرعوبین- فقال الحجاج لأصحابه شدوا علیهم- فقد أتاهم ما أرعبهم فشدوا علیهم فهزموهم- و تخلف شبیب فی خاصه الناس حتى خرج من الجسر- و تبعه خیل الحجاج و غشیه النعاس- فجعل یخفق برأسه و الخیل تطلبه- .
قال أصغر الخارجی کنت معه ذلک الیوم- فقلت یا أمیر المؤمنین التفت‏ فانظر من خلفک- فالتفت غیر مکترث و جعل یخفق برأسه- قال و دنوا منا فقلت یا أمیر المؤمنین- قد دنا القوم منک- فالتفت و الله ثانیه غیر مکترث بهم و جعل یخفق برأسه- و بعث الحجاج خیلا ترکض تقول- دعوه یذهب فی حرق الله فترکوه و انصرفوا عنه- .

و مضى شبیب بأصحابه حتى قطعوا جسر المدائن- فدخلوا دیرا هناک و خالد بن عتاب یقفوهم- فحصرهم فی الدیر فخرج شبیب إلیه- فهزمه و أصحابه نحوا من فرسخین- حتى ألقى خالد نفسه فی دجله هو و أصحابه بخیولهم- فمر به شبیب فرآه فی دجله و لواؤه فی یده فقال- قاتله الله فارسا و قاتل فرسه- فرس هذا أشد الناس قوه- و فرسه أقوى فرس فی الأرض و انصرف- فقیل له بعد انصرافه- إن الفارس الذی رأیت هو خالد بن عتاب بن ورقاء فقال- معرق فی الشجاعه لو علمت لأقحمت خلفه و لو دخل النار- . ثم دخل الحجاج الکوفه بعد هزیمه شبیب فصعد المنبر- و قال و الله ما قوتل شبیب قط قبل الیوم ولى هاربا- و ترک امرأته یکسر فی استها القصب- .

ثم دعا حبیب بن عبد الرحمن- فبعثه فی أثره فی ثلاثه آلاف من أهل الشام و قال- احذر بیاته و حیثما لقیته فنازله- فإن الله تعالى قد فل حده و قصم نابه- فخرج حبیب فی أثره حتى نزل الأنبار- و بعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبیب- من جاءنا منکم فهو آمن- فکان کل من لیست له بصیره فی دین الخوارج- ممن هزه القتال و کرهه ذلک الیوم یجی‏ء فیؤمن- و قبل ذلک کان الحجاج نادى یوم هزم شبیب- من جاءنا فهو آمن- فتفرق عن شبیب ناس کثیر من أصحابه- .

و بلغ شبیبا منزل حبیب بن عبد الرحمن بالأنبار- فأقبل بأصحابه حتى دنا منه- فقال یزید السکسکی- کنت مع أهل الشام بالأنبار لیله جاءنا شبیب- فبیتنا فلما أمسینا جمعنا حبیب بن عبد الرحمن- فجعلنا أرباعا و جعل على کل ربع أمیرا- و قال لنا لیحم کل ربع منکم جانبه- فإن قتل هذا الربع فلا یعنهم الربع الآخر- فإنه بلغنی أن الخوارج منکم قریب- فوطنوا أنفسکم على أنکم مبیتون فمقاتلون- قال فما زلنا على تعبیتنا- حتى جاءنا شبیب تلک اللیله فبیتنا- فشد على ربع منا فصابرهم طویلا- فما زالت قدم إنسان منهم- ثم ترکهم و أقبل إلى ربع آخر- فقاتلهم طویلا فلم یظفر بشی‏ء- ثم طاف بنا یحمل علینا ربعا ربعا- حتى ذهب ثلاثه أرباع اللیل- و لصق بنا حتى قلنا لا یفارقنا- ثم ترجل فنازلنا راجلا نزالا طویلا هو و أصحابه- فسقطت و الله بیننا و بینهم الأیدی و الأرجل- و فقئت الأعین و کثرت القتلى- فقتلنا منهم نحو ثلاثین و قتلوا منا نحو مائه- و ایم الله لو کانوا أکثر من مائتی رجل لأهلکونا- ثم فارقونا و قد مللناهم و ملونا و کرهناهم و کرهونا- و لقد رأیت الرجل منا یضرب الرجل منهم بالسیف- فما یضره من الإعیاء و الضعف- و لقد رأیت الرجل منا یقاتل جالسا- ینفخ بسیفه ما یستطیع أن یقوم من الإعیاء و البهر- حتى رکب شبیب و قال لأصحابه الذین نزلوا معه- ارکبوا و توجه بهم منصرفا عنا- . فقال فروه بن لقیط الخارجی- و کان شهد معه مواطنه کلها قال لنا لیلتئذ- و قد رأى‏بنا کآبه ظاهره و جراحات شدیده- ما أشد هذا الذی بنا لو کنا نطلب الدنیا- و ما أیسر هذا فی طاعه الله و ثوابه- فقال أصحابه صدقت یا أمیر المؤمنین- .

قال فروه بن لقیط- و سمعته تلک اللیله یحدث سوید بن سلیم و یقول له- لقد قتلت منهم أمس رجلین من أشجع الناس- خرجت عشیه أمس طلیعه لکم- فلقیت منهم ثلاثه نفر دخلوا قریه- یشترون منها حوائجهم فاشترى أحدهم حاجته- و خرج قبل أصحابه فخرجت معه فقال لی- أراک لم تشتر علفا فقلت إن لی رفقاء قد کفونی ذلک- ثم قلت له أین ترى عدونا هذا نزل فقال- بلغنی أنه قد نزل قریبا منا- و ایم الله لوددت أنی لقیت شبیبهم هذا- قلت أ فتحب ذلک قال إی و الله- قلت فخذ حذرک فأنا و الله شبیب- و انتضیت السیف فخر و الله میتا- فقلت له ارتفع ویحک و ذهبت أنظر فإذا هو قد مات- فانصرفت راجعا فاستقبلت الآخر خارجا من القریه فقال- أین تذهب هذه الساعه التی- یرجع فیها الناس إلى معسکرهم- فلم أکلمه و مضیت فنفرت بی فرسی و ذهبت تتمطر- فإذا به فی أثری حتى لحقنی فعطفت علیه و قلت- ما بالک قال أظنک و الله من عدونا قلت أجل و الله- قال إذا لا تبرح حتى أقتلک أو تقتلنی- فحملت علیه و حمل علی فاضطربنا بسیفینا ساعه- فو الله ما فضلته فی شده نفس و لا إقدام- إلا أن سیفی کان أقطع من سیفه فقتلته- . و بلغ شبیبا أن جند الشام الذی مع حبیب- حملوا معهم حجرا و حلفوا لا یفرون حتى یفر هذا الحجر- فأراد أن یکذبهم فعمد إلى أربعه أفراس- و ربط فی أذنابها ترسه
فی ذنب کل فرس ترسین- ثم ندب ثمانیه نفر من أصحابه- و غلاما له یقال له حیان کان شجاعا فاتکا- و أمره أن یحمل معه إداوه من ماء- ثم سار لیلا حتى أتى ناحیه من عسکر أهل الشام-

فأمر أصحابه أن یکونوا فی نواحی العسکر الأربع- و أن یکون مع کل رجلین فرس- ثم یلبسوها الحدید حتى تجد حره ثم یخلوها فی العسکر- و واعدهم تلعه قریبه من العسکر و قال- من نجا منکم فإن موعده التلعه- فکره أصحابه الإقدام على ما أمرهم- فنزل بنفسه حتى صنع بالخیل ما أمرهم به- حتى دخلت فی العسکر و دخل هو یتلوها- و یشد خلفها شدا محکما فتفرقت فی نواحی العسکر- و اضطرب الناس فضرب بعضهم بعضا و ماجوا- و نادى حبیب بن عبد الرحمن ویحکم إنها مکیده- فالزموا الأرض حتى یتبین لکم الأمر ففعلوا- و حصل شبیب بینهم فلزم الأرض معهم حتى رآهم قد سکنوا- و قد أصابته ضربه عمود أوهنته- .

فلما هدأ الناس و رجعوا إلى مراکزهم خرج فی غمارهم- حتى أتى التلعه فإذا مولاه حیان فقال- أفرغ ویحک على رأسی من هذه الإداوه- فلما مد رأسه لیصب علیه من الماء هم حیان بضرب عنقه- و قال لنفسه لا أجد مکرمه لی- و لا ذکرا أرفع من هذا فی هذه الخلوه- و هو أمانی من الحجاج فأخذته الرعده حین هم بما هم به- فلما أبطأ علیه قال له ویحک ما انتظارک بحلها- ناولنیها و تناول السکین من موزجه فخرقها به- ثم ناوله إیاها فأفرغ علیه من الماء- فکان حیان بعد ذلک یقول- لقد هممت فأخذتنی الرعده فجبنت عنه- و ما کنت أعهد نفسی جبانا- . ثم إن الحجاج أخرج الناس إلى شبیب- و قسم فیهم أموالا عظیمه و أعطى الجرحى و کل ذی بلاء- و أمر سفیان بن الأبرد أن یسیر بهم- فشق ذلک على حبیب‏ بن عبد الرحمن و قال- تبعث سفیان إلى رجل قد فللته و قتلت فرسانه- و کان شبیب قد أقام بکرمان حتى جبر- و استراش هو و أصحابه فمضى سفیان بالرجال- و استقبله شبیب بدجیل الأهواز و علیه جسر معقود- فعبر إلى سفیان فوجده قد نزل بالرجال- و جعل مهاصر بن صیفی على خیله- و بشر بن حسان الفهری على میمنته- و عمر بن هبیره الفزاری على میسرته- و أقبل شبیب فی ثلاثه کرادیس هو فی کتیبه- و سوید بن سلیم فی کتیبه و قعنب فی کتیبه- و خلف المحلل فی عسکره- فلما حمل سوید و هو فی میمنته على میسره سفیان- و قعنب و هو فی میسرته على میمنه سفیان- حمل هو على سفیان ثم اضطربوا ملیا- حتى رجعت الخوارج إلى مکانها الذی کانوا فیه- .

فقال یزید السکسکی و کان من أصحاب سفیان یومئذ- کر علینا شبیب و أصحابه أکثر من ثلاثین کره- و لا یزول من صفنا أحد- فقال لنا سفیان لا تحملوا علیهم متفرقین- و لکن لتزحف علیهم الرجال زحفا ففعلنا- و ما زلنا نطاعنهم حتى اضطررناهم إلى الجسر- فقاتلونا علیه أشد قتال یکون لقوم قط- ثم نزل شبیب و نزل معه نحو مائه رجل- فما هو إلا أن نزلوا حتى أوقعوا بنا- من الضرب و الطعن شیئا ما رأینا مثله قط و لا ظنناه یکون- فلما رأى سفیان أنه لا یقدر علیهم و لا یأمن ظفرهم- دعا الرماه فقال ارشقوهم بالنبل و ذلک عند المساء- و کان الالتقاء ذلک الیوم نصف النهار فرشقهم أصحابه- و قد کان سفیان صفهم على حده و علیهم أمیر- فلما رشقوهم شدوا علیهم- فشددنا نحن و شغلناهم عنهم- فلما رأوا ذلک رکب شبیب و أصحابه- و کروا على أصحاب النبل کره شدیده- صرعوا منهم فیها أکثر من ثلاثین رامیا- ثم عطف علینا یطاعننا بالرماح- حتى اختلط الظلام ثم انصرف عنا- فقال سفیان بن الأبرد لأصحابه‏ یا قوم دعوهم لا تتبعوهم- یا قوم دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم قال- فکففنا عنهم و لیس شی‏ء أحب إلینا من أن ینصرفوا عنا- . قال فروه بن لقیظ الخارجی- فلما انتهینا إلى الجسر قال شبیب- اعبروا معاشر المسلمین- فإذا أصبحنا باکرناهم إن شاء الله تعالى- قال فعبرنا أمامه و تخلف فی آخرنا- و أقبل یعبر الجسر و تحته حصان جموح- و بین یدیه فرس أنثى ماذیانه- فنزا حصانه علیها و هو على الجسر فاضطربت الماذیانه- و زل حافر فرس شبیب عن حرف السفینه- فسقط فی الماء فسمعناه یقول لما سقط- لیقضی الله أمرا کان مفعولا- و اغتمس فی الماء ثم ارتفع فقال- ذلک تقدیر العزیز العلیم- ثم اغتمس فی الماء فلم یرتفع- .

هکذا روى أکثر الناس و قال قوم- إنه کان مع شبیب رجال کثیر بایعوه فی الوقائع التی- کان یهزم الجیش فیها- و کانت بیعتهم إیاه على غیر بصیره- و قد کان أصاب عشائرهم و ساداتهم فهم منه موتورون- فلما تخلف فی أخریات الناس یومئذ- قال بعضهم لبعض هل لکم أن نقطع به الجسر- فندرک ثارنا الساعه فقالوا هذا هو الرأی- فقطعوا الجسر فمالت به السفینه- ففزع حصانه و نفر فسقط فی الماء و غرق- . و الروایه الأولى أشهر- فحدث قوم من أصحاب سفیان قالوا- سمعنا صوت الخوارج یقولون غرق أمیر المؤمنین- فعبرنا إلى عسکرهم فإذا هو لیس فیه صافر و لا أثر- فنزلنا فیه و طلبنا شبیبا- حتى استخرجناه من الماء و علیه الدرع- فیزعم الناس أنهم‏شقوا بطنه و أخرجوا قلبه- فکان مجتمعا صلبا کالصخره- و أنه کان یضرب به الأرض فینبو و یثب قامه الإنسان- . و یحکى أن أم شبیب کانت لا تصدق أحدا نعاه إلیها- و قد کان قیل لها مرارا إنه قد قتل فلا تقبل- فلما قیل لها إنه قد غرق بکت- فقیل لها فی ذلک فقالت رأیت فی المنام حین ولدته- أنه خرج من فرجی نار ملأت الآفاق ثم سقطت فی ماء فخمدت- فعلمت أنه لا یهلک إلا بالغرق

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۴

بازدیدها: ۱۵۲

خطبه ۵۷ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(قسمت اول)

۵۷ و من کلام له ع کلم به الخوارج- :

أَصَابَکُمْ حَاصِبٌ وَ لَا بَقِیَ مِنْکُمْ آبِرٌ- أَ بَعْدَ إِیمَانِی بِاللَّهِ وَ جِهَادِی مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص- أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِی بِالْکُفْرِ- لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ مَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِینَ- فَأُوبُوا شَرَّ مَآبٍ وَ ارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الْأَعْقَابِ- أَمَا إِنَّکُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِی ذُلًّا شَامِلًا وَ سَیْفاً قَاطِعاً- وَ أَثَرَهً یَتَّخِذُهَا الظَّالِمُونَ فِیکُمْ سُنَّهً قال الرضی رحمه الله- قوله ع و لا بقی منکم آبر یروى على ثلاثه أوجه- أحدها أن یکون کما ذکرناه آبر بالراء- من قولهم رجل آبر للذی یأبر النخل أی یصلحه- . و یروى آثر بالثاء بثلاث نقط- یراد به الذی یأثر الحدیث- أی یرویه و یحکیه و هو أصح الوجوه عندی- کأنه ع قال لا بقی منکم مخبر- . و یروى آبز بالزای المعجمه و هو الواثب- و الهالک أیضا یقال له آبزالحاصب الریح الشدیده التی تثیر الحصباء- و هو صغار الحصى و یقال لها أیضا حصبه- قال لبید

جرت علیها إذ خوت من أهلها
أذیالها کل عصوف حصبه‏

فأما التفسیرات التی فسر بها الرضی رحمه الله- تعالى قوله ع آبر فیمکن أن یزاد فیها- فیقال یجوز أن یرید بقوله و لا بقی منکم آبر- أی نمام یفسد ذات البین- و المئبره النمیمه و أبر فلان أی نم- و الآبر أیضا من یبغی القوم الغوائل خفیه- مأخوذ من أبرت الکلب إذا أطعمته الإبره فی الخبز- و فی الحدیث المؤمن کالکلب المأبور – و یجوز أن یکون أصله هابر- أی من یضرب بالسیف فیقطع- و أبدلت الهاء همزه کما قالوا فی آل أهل- و إن صحت الروایه الأخرى آثر بالثاء بثلاث نقط- فیمکن أن یرید به ساجی باطن خف البعیر- و کانوا یسجون باطن الخف بحدیده لیقتص أثره- رجل آثر و بعیر مأثور- . و قوله ع فأوبوا شر مآب أی ارجعوا شر مرجع- و الأعقاب جمع عقب بکسر القاف و هو مؤخر القدم- و هذا کله دعاء علیهم- قال لهم أولا أصابکم حاصب و هذا من دعاء العرب- قال تمیم بن أبی مقبل-

فإذا خلت من أهلها و قطینها
فأصابها الحصباء و السفان‏

 ثم قال لهم ثانیا لا بقی منکم مخبر- ثم قال لهم ثالثا ارجعوا شر مرجع- ثم قال لهم رابعا عودوا على أثر الأعقاب- و هو مأخوذ من قوله تعالى- وَ نُرَدُّعَلى‏ أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ- و المراد انعکاس حالهم و عودهم من العز إلى الذل- و من الهدایه إلى الضلال- . و قوله ع و أثره یتخذها الظالمون فیکم سنه- فالأثره هاهنا الاستبداد علیهم بالفی‏ء و الغنائم- و اطراح جانبهم- و قال النبی ص للأنصار ستلقون بعدی أثره فاصبروا حتى تلقونی

أخبار الخوارج و ذکر رجالهم و حروبهم

و اعلم أن الخوارج على أمیر المؤمنین ع- کانوا أصحابه و أنصاره فی الجمل و صفین قبل التحکیم- و هذه المخاطبه لهم و هذا الدعاء علیهم- و هذا الإخبار عن مستقبل حالهم و قد وقع ذلک- فإن الله تعالى سلط على الخوارج بعده الذل الشامل- و السیف القاطع و الأثره من السلطان- و ما زالت حالهم تضمحل- حتى أفناهم الله تعالى و أفنى جمهورهم- و لقد کان لهم من سیف المهلب بن أبی صفره- و بنیه الحتف القاضی و الموت الزؤام- . و نحن نذکر من أخبار الخوارج و حروبهم هاهنا طرفا

عروه بن حدیر

فمنهم عروه بن حدیر أحد بنی ربیعه بن حنظله من بنی تمیم- و یعرف بعروه بن أدیه و أدیه جده له جاهلیه- و کان له أصحاب و و أتباع و شیعه- فقتله زیاد فی خلافه معاویه صبرا

نجده بن عویمر الحنفی

و منهم نجده بن عویمر الحنفی کان من رؤسائهم- و له مقاله مفرده من مقاله الخوارج‏ و له أتباع و أصحاب- و إلیهم أشار الصلتان العبدی بقوله-

أرى أمه شهرت سیفها
و قد زید فی سوطها الأصبحی‏

بنجدیه أو حرریه
و أزرق یدعو إلى أزرقی‏

فملتنا أننا مسلمون
على دین صدیقنا و النبی‏

أشاب الصغیر و أفنى‏
الکبیر مر الغداه و کر العشی‏

إذا لیله أهرمت یومها
أتى بعد ذلک یوم فتی‏

نروح و نغدو لحاجاتنا
و حاجه من عاش لا تنقضی‏

تموت مع المرء حاجاته
و تبقى له حاجه ما بقی‏

و کان نجده یصلی بمکه بحذاء عبد الله بن الزبیر فی جمعه [فی کل جمعه]- و عبد الله یطلب الخلافه- فیمسکان عن القتال من أجل الحرم- . و قال الراعی یخاطب عبد الملک-

إنی حلفت على یمین بره
لا أکذب الیوم الخلیفه قیلا

ما إن أتیت أبا خبیب وافدا
یوما أرید لبیعتی تبدیلا

و لما أتیت نجیده بن عویمر
أبغی الهدى فیزیدنی تضلیلا

من نعمه الرحمن لا من حیلتی‏
أنى أعد له علی فضولا

 و استولى نجده على الیمامه و عظم أمره- حتى ملک الیمن و الطائف و عمان و البحرین- و وادی تمیم و عامر- ثم إن أصحابه نقموا علیه أحکاما أحدثها فی مذهبهم- منها قوله إن‏ المخطئ بعد الاجتهاد معذور- و إن الدین أمران معرفه الله و معرفه رسوله- و ما سوى ذلک فالناس معذورون بجهله- إلى أن تقوم علیهم الحجه- فمن استحل محرما من طریق الاجتهاد فهو معذور- حتى أن من تزوج أخته أو أمه مستحلا لذلک بجهاله- فهو معذور و مؤمن- فخلعوه و جعلوا اختیار الإمام إلیه- فاختار لهم أبا فدیک أحد بنی قیس بن ثعلبه- فجعله رئیسهم- ثم إن أبا فدیک أنفذ إلى نجده بعد من قتله- ثم تولاه بعد قتله طوائف من أصحابه بعد أن تفرقوا علیه- و قالوا قتل مظلوما

المستورد بن سعد التمیمی

و منهم المستورد بن سعد أحد بنی تمیم- کان ممن شهد یوم النخیله- و نجا بنفسه فیمن نجا من سیف علی ع- ثم خرج بعد ذلک بمده على المغیره بن شعبه- و هو والی الکوفه لمعاویه بن أبی سفیان- فی جماعه من الخوارج- فوجه المغیره إلیه معقل بن قیس الریاحی- فلما تواقفا دعاه المستورد إلى المبارزه- و قال له علام تقتل الناس بینی و بینک- فقال معقل النصف سألت فأقسم علیه أصحابه- فقال ما کنت لآبى علیه فخرج إلیه فاختلفا ضربتین- خر کل واحد منهما من ضربه صاحبه قتیلا- . و کان المستورد ناسکا کثیر الصلاه- و له آداب و حکم مأثاره

حوثره الأسدی

و منهم حوثره الأسدی خرج على معاویه فی عام الجماعه فی عصابه من الخوارج- فبعث إلیه معاویه جیشا من أهل الکوفه- فلما نظر حوثره إلیهم قال لهم یا أعداء الله- أنتم بالأمس تقاتلون معاویه لتهدوا سلطانه- و أنتم الیوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه- فلماالتحمت الحرب قتل حوثره- قتله رجل من طیئ و فضت جموعه

قریب بن مره و زحاف الطائی

و منهم قریب بن مره الأزدی و زحاف الطائی- کانا عابدین مجتهدین من أهل البصره- فخرجا فی أیام معاویه فی إماره زیاد- و اختلف الناس أیهما کان الرئیس فاعترضا الناس- فلقیا شیخا ناسکا من بنی ضبیعه- من ربیعه بن نزار فقتلاه- و کان یقال له رؤبه الضبعی و تنادى الناس- فخرج رجل من بنی قطیعه من الأزد و فی یده السیف- فناداه الناس من ظهور البیوت الحروریه أنج بنفسک- فنادوه لسنا حروریه نحن الشرط فوقف فقتلوه- فبلغ أبا بلال مرداس بن أدیه خبرهما- فقال قریب لا قربه الله و زحاف لا عفا الله عنه- رکباها عشواء مظلمه یرید اعتراضهما الناس- ثم جعلا لا یمران بقبیله إلا قتلا من وجدا- حتى مرا على بنی علی بن سود من الأزد- و کانوا رماه کان فیهم مائه یجیدون الرمی- فرموهم رمیا شدیدا- فصاحوا یا بنی علی البقیا لا رماء بیننا- فقال رجل من بنی علی بن سود-

لا شی‏ء للقوم سوى السهام
مشحوذه فی غلس الظلام‏

فعرد عنهم الخوارج و خافوا الطلب- و اشتقوا مقبره بنی یشکر حتى نفذوا إلى مزینه- ینتظرون من یلحق بهم من مضر و غیرها- فجاءهم ثمانون و خرجت إلیهم بنو طاحیه من بنو سود- و قبائل من مزینه و غیرها- فاستقتلت الخوارج و حاربت حتى قتلت عن آخرها- و قتل قریب و زحاف- .

أبو بلال مرداس بن أدیه

و منهم أبو بلال مرداس بن أدیه- و هو أخو عروه بن حدیر الذی ذکرناه أولا- خرج فی أیام عبید الله بن زیاد- و أنفذ إلیه ابن زیاد عباس بن أخضر المازنی- فقتله و قتل أصحابه و حمل رأسه إلى ابن زیاد- و کان أبو بلال عابدا ناسکا شاعرا- و من قدماء أصحابنا من یدعیه- لما کان یذهب إلیه من العدل و إنکار المنکر- و من قدماء الشیعه من یدعیه أیضا

نافع بن الأزرق الحنفی

و منهم نافع بن الأزرق الحنفی- و کان شجاعا مقدما فی فقه الخوارج- و إلیه تنسب الأزارقه- و کان یفتی بأن الدار دار کفر و أنهم جمیعا فی النار- و کل من فیها کافر إلا من أظهر إیمانه- و لا یحل للمؤمنین أن یجیبوا داعیا منهم إلى الصلاه- و لا أن یأکلوا من ذبائحهم و لا أن یناکحوهم- و لا یتوارث الخارجی و غیره- و هم مثل کفار العرب و عبده الأوثان- لا یقبل منهم إلا الإسلام أو السیف- و القعد بمنزلتهم و التقیه لا تحل- لأن الله تعالى یقول إِذا فَرِیقٌ مِنْهُمْ یَخْشَوْنَ النَّاسَ- کَخَشْیَهِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْیَهً- و قال فیمن کان على خلافهم- یُجاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ لا یَخافُونَ لَوْمَهَ لائِمٍ- فتفرق عنه جماعه من الخوارج منهم نجده بن عامر- و احتج نجده بقول الله تعالى- وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَکْتُمُ إِیمانَهُ- فسار نجده و أصحابه إلى الیمامه- و أضاف نافع إلى مقالته التی قدمناها- استحلاله الغدر بأمانته لمن خالفه فکتب نجده إلیه-

أما بعد فإن عهدی بک و أنت للیتیم کالأب الرحیم- و للضعیف کالأخ البر تعاضد قوى المسلمین- و تصنع للأخرق منهم لا تأخذک فی الله لومه لائم و لا ترى معونه ظالم- کذلک کنت أنت و أصحابک- أ و لا تتذکر قولک- لو لا أنی أعلم أن للإمام العادل مثل أجر رعیته- ما تولیت أمر رجلین من المسلمین- فلما شریت نفسک فی طاعه ربک ابتغاء مرضاته- و أصبت من الحق فصه و صبرت على مره- تجرد لک الشیطان- و لم یکن أحد أثقل علیه وطأه منک و من أصحابک- فاستمالک و استهواک و أغواک فغویت- و أکفرت الذین عذرهم الله تعالى فی کتابه- من قعده المسلمین و ضعفتهم- قال الله عز و جل و قوله الحق و وعده الصدق- لَیْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى‏- وَ لا عَلَى الَّذِینَ لا یَجِدُونَ ما یُنْفِقُونَ حَرَجٌ- إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ- ثم سماهم تعالى أحسن الأسماء- فقال ما عَلَى الْمُحْسِنِینَ مِنْ سَبِیلٍ- ثم استحللت قتل الأطفال- و قد نهى رسول الله ص عن قتلهم-

و قال الله جل ثناؤه وَ لا تَزِرُ وازِرَهٌ وِزْرَ أُخْرى‏- و قال سبحانه فی القعده خیرا- فقال وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِینَ عَلَى الْقاعِدِینَ أَجْراً عَظِیماً- فتفضیله المجاهدین على القاعدین- لا یدفع منزله من هو دون المجاهدین- أ و ما سمعت قوله تعالى- لا یَسْتَوِی الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ غَیْرُ أُولِی الضَّرَرِ- فجعلهم من المؤمنین- و فضل علیهم المجاهدین بأعمالهم- ثم إنک لا تؤدی أمانه إلى من خالفک- و الله تعالى قد أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها- فاتق الله فی نفسک و اتق یوما لا یجزى فیه والد عن ولده- و لا مولود هو جاز عن والده شیئا- فإن الله بالمرصاد و حکمه العدل و قوله الفصل و السلام-

فکتب إلیه نافع- أما بعد أتانی کتابک تعظنی فیه- و تذکرنی و تنصح لی و تزجرنی- و تصف ما کنت علیه من الحق- و ما کنت أوثره من الصواب- و أنا أسأل الله أن یجعلنی من القوم- الذین یستمعون القول فیتبعون أحسنه- . و عبت علی ما دنت به- من إکفار القعده و قتل الأطفال- و استحلال الأمانه من المخالفین- و سأفسر لک إن شاء الله- . أما هؤلاء القعده- فلیسوا کمن ذکرت ممن کان على عهد رسول الله ص- لأنهم کانوا بمکه مقهورین محصورین- لا یجدون إلى الهرب سبیلا- و لا إلى الاتصال بالمسلمین طریقا- و هؤلاء قد تفقهوا فی الدین و قرءوا القرآن- و الطریق لهم نهج واضح- و قد عرفت ما قال الله تعالى فیمن کان مثلهم- إذ قالوا کُنَّا مُسْتَضْعَفِینَ فِی الْأَرْضِ- فقال أَ لَمْ تَکُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَهً فَتُهاجِرُوا فِیها- و قال سبحانه فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ- وَ کَرِهُوا أَنْ یُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ- و قال وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِیُؤْذَنَ لَهُمْ- فخبر بتعذیرهم و أنهم کذبوا الله و رسوله- ثم قال سَیُصِیبُ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ- فانظر إلى أسمائهم و سماتهم- . و أما الأطفال فإن نوحا نبی الله کان أعلم بالله منی و منک- و قد قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْکافِرِینَ دَیَّاراً- إِنَّکَ إِنْ تَذَرْهُمْ یُضِلُّوا عِبادَکَ- وَ لا یَلِدُوا إِلَّا فاجِراً کَفَّاراً- فسماهم بالکفر و هم أطفال و قبل أن یولدوا- فکیف کان ذلک‏ فی قوم نوح و لا تقوله فی قومنا- و الله تعالى یقول- أَ کُفَّارُکُمْ خَیْرٌ مِنْ أُولئِکُمْ أَمْ لَکُمْ بَراءَهٌ فِی الزُّبُرِ- و هؤلاء کمشرکی العرب لا یقبل منهم جزیه- و لیس بیننا و بینهم إلا السیف أو الإسلام- .

و أما استحلال أمانات من خالفنا- فإن الله تعالى أحل لنا أموالهم- کما أحل دماءهم لنا فدماؤهم حلال طلق- و أموالهم فی‏ء للمسلمین فاتق الله و راجع نفسک- فإنه لا عذر لک إلا بالتوبه- و لن یسعک خذلاننا- و القعود عنا و ترک ما نهجناه لک من مقالتنا- و السلام على من أقر بالحق و عمل به- . و کتب إلى من بالبصره من المحکمه- أما بعد فإن الله اصطفى لکم الدین- فلا تموتن إلا و أنتم مسلمون- إنکم لتعلمون أن الشریعه واحده و الدین واحد- ففیم المقام بین أظهر الکفار ترون الظلم لیلا و نهارا- و قد ندبکم الله عز و جل إلى الجهاد-

فقال وَ قاتِلُوا الْمُشْرِکِینَ کَافَّهً- و لم یجعل لکم فی التخلف عذرا فی حال من الأحوال- فقال انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا- و إنما عذر الضعفاء و المرضى- و الذین لا یجدون ما ینفقون- و من کانت إقامته لعله- ثم فضل علیهم مع ذلک المجاهدین- فقال لا یَسْتَوِی الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ غَیْرُ أُولِی الضَّرَرِ- وَ الْمُجاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ- فلا تغتروا و تطمئنوا إلى الدنیا- فإنها غراره مکاره لذتها نافده و نعیمها بائد- حفت بالشهوات اغترارا و أظهرت حبره و أضمرت عبره- فلیس آکل منها أکله تسره- و لا شارب منها شربه تؤنقه إلا و دنا بها درجه إلى أجله- و تباعد بها مسافه من أمله- و إنما جعلها الله دار المتزود منها- إلى النعیم المقیم و العیش السلیم- فلیس یرضى بها حازم دارا و لا حکیم قرارا- فاتقوا الله و تزودوا فإن خیر الزاد التقوى- و السلام على من اتبع الهدى- .

فلما أظهر نافع مقالته هذه و انفرد عن الخوارج بها- أقام فی أصحابه بالأهواز یستعرض الناس و یقتل الأطفال- و یأخذ الأموال و یجبی الخراج- و فشا عماله بالسواد فارتاع لذلک أهل البصره- و اجتمع منهم عشره آلاف إلى الأحنف- و سألوه أن یؤمر علیهم أمیرا یحمیهم من الخوارج و یجاهد بهم- فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب- و هو المسمى ببه- فسأله أن یؤمر علیهم- و ببه یومئذ أمیر البصره من قبل ابن الزبیر- فأمر علیهم مسلم بن عبیس بن کریز و کان دینا شجاعا- فلما خرج بهم من جسر البصره أقبل علیهم- و قال أیها الناس إنی ما خرجت لامتیار ذهب و لا فضه- و إنی لأحارب قوما إن ظفرت بهم- فما وراءهم إلا السیوف و الرماح- فمن کان شأنه الجهاد فلینهض- و من أحب الحیاه فلیرجع- .

فرجع نفر یسیر و مضى الباقون معه- فلما صاروا بدولاب خرج إلیهم نافع و أصحابه- فاقتتلوا قتالا شدیدا حتى تکسرت الرماح- و عقرت الخیل و کثر الجراح و القتل- و تضاربوا بالسیوف و العمد- فقتل ابن عبیس أمیر أهل البصره- و قتل نافع بن الأزرق أمیر الخوارج- و ادعى قتله سلامه الباهلی- و کان نافع قد استخلف عبید الله بن بشیر- بن الماحوز السلیطی الیربوعی- و استخلف ابن عبیس الربیع- بن عمرو الأجذم الغدانی الیربوعی- فکان الرئیسان من بنی یربوع- فاقتتلوا بعد قتل ابن عبیس و نافع- قتالا شدیدا نیفا و عشرین یوما- حتى قال الربیع لأصحابه إنی رأیت البارحه- کأن یدی‏ التی أصیبت بکابل انحطت من السماء- فاستشلتنی- فلما کان الغد قاتلهم إلى اللیل ثم عاودهم القتال- فقتل فتدافع أهل البصره الرایه- حتى خافوا العطب إذ لم یکن لهم رئیس- ثم أجمعوا على الحجاج بن رباب الحمیری فأباها- فقیل له أ لا ترى رؤساء العرب قد اختاروک من بینهم- فقال إنها مشئومه لا یأخذها أحد إلا قتل- ثم أخذها فلم یزل یقاتل القوم بدولاب- – حتى التقى بعمران بن الحارث الراسبی- و ذلک بعد أن اقتتلوا زهاء شهر- فاختلفا ضربتین فخرا میتین- . و قام حارثه بن بدر الغدانی بأمر أهل البصره بعده- و ثبت بإزاء الخوارج یناوشهم القتال مناوشه خفیفه- و یزجی الأوقات انتظارا- لقدوم أمیر من قبل ببه یلی حرب الخوارج- و هذه الحرب تسمى حرب دولاب- و هی من حروب الخوارج المشهوره- انتصف فیها الخوارج من المسلمین- و انتصف المسلمون منهم- فلم یکن فیها غالب و لا مغلوب

عبید الله بن بشیر بن الماحوز الیربوعی

و منهم عبید الله بن بشیر بن الماحوز الیربوعی- قام بأمر الخوارج یوم دولاب بعد قتل نافع بن الأزرق- و قام بأمر أهل البصره عمر بن عبید الله بن معمر التیمی- ولاه عبد الله بن الزبیر ذلک- و لقیه کتابه بالإماره و هو یرید الحج- و قد صار إلى بعض الطریق فرجع فأقام بالبصره- و ولى أخاه عثمان بن عبید الله بن معمر محاربه الأزارقه- فخرج إلیهم فی اثنی عشر ألفا- فلقیه أهل البصره الذین کانوا فی وجه الأزارقه- و معهم حارثه بن بدر الغدانی- یقوم بأمرهم عن غیر ولایه- و کان ابن الماحوز حینئذ فی سوق الأهواز- فلما عبرعثمان إلیهم دجیلا- نهضت إلیه الخوارج- فقال عثمان لحارثه ما الخوارج إلا ما أرى- فقال حارثه حسبک بهؤلاء قال لا جرم- لا أتغدى حتى أناجزهم- فقال حارثه إن هؤلاء القوم لا یقاتلون بالتعسف- فأبق على نفسک و جندک- فقال أبیتم یا أهل العراق إلا جبنا- و أنت یا حارثه ما علمک بالحرب- أنت و الله بغیر هذا أعلم یعرض له بالشراب- و کان حارثه بن بدر صاحب شراب فغضب حارثه فاعتزل- و حاربهم عثمان یومه إلى أن غربت الشمس- فأجلت الحرب عنه قتیلا و انهزم الناس- و أخذ حارثه بن بدر الرایه و صاح بالناس- أنا حارثه بن بدر فثاب إلیه قوم فعبر بهم دجیلا- و بلغ قتل عثمان البصره- فقال شاعر من بنی تمیم-

مضى ابن عبیس صابرا غیر عاجز
و أعقبنا هذا الحجازی عثمان‏

فأرعد من قبل اللقاء ابن معمر
و أبرق و البرق الیمانی خوان‏

فضحت قریشا غثها و سمینها
و قیل بنو تیم بن مره عزلان‏

فلو لا ابن بدر للعراقین لم یقم‏
بما قام فیه للعراقین إنسان‏

إذا قیل من حامی الحقیقه أومأت
إلیه معد بالأکف و قحطان‏

 و وصل الخبر إلى عبد الله بن الزبیر بمکه- فکتب إلى عمر بن عبید الله بن معمر بعزله- و ولى الحارث بن عبد الله بن أبی ربیعه المخزومی- المعروف بالقباع البصره فقدمها- فکتب إلیه حارثه بن بدر یسأله الولایه و المدد- فأراد تولیته- فقال له رجل من بکر بن‏ وائل- إن حارثه لیس بذلک إنما هو صاحب شراب- و کان حارثه مستهترا بالشراب معاقرا للخمر- و فیه یقول رجل من قومه-

أ لم تر أن حارثه بن بدر
یصلی و هو أکفر من حمار

أ لم تر أن للفتیان حظا
و حظک فی البغایا و العقار

فکتب إلیه القباع تکفى حربهم إن شاء الله- فأقام حارثه یدافعهم حتى تفرق أصحابه عنه- و بقی فی خف منهم- فأقام بنهر تیری فعبرت إلیه الخوارج- فهرب من تخلف معه من أصحابه- و خرج یرکض حتى أتى دجیلا فجلس فی سفینه- و اتبعه جماعه من أصحابه فکانوا معه فیها- و وافاه رجل من بنی تمیم علیه سلاحه و الخوارج وراءه- و قد توسط حارثه دجیلا- فصاح به یا حارثه لیس مثلی یضیع- فقال للملاح قرب فقرب إلى جرف و لا فرضه هناک- فطفر بسلاحه فی السفینه فساخت بالقوم جمیعا- و هلک حارثه- .

و روى أبو الفرج الأصفهانی فی کتاب الأغانی الکبیر- أن حارثه لما عقدوا له الرئاسه و سلموا إلیه الرایه- أمرهم بالثبات و قال لهم إذا فتح الله علیکم- فللعرب زیاده فریضتین و للموالی زیاده فریضه- و ندب الناس- فالتقوا و لیس بأحد منهم طرق قد فشت فیهم الجراحات- و ما تطأ الخیل إلا على القتلى فبینا هم کذلک- إذ أقبل جمع‏ من الشراه من جهه الیمامه- یقول المکثر إنهم مائتان و المقلل إنهم أربعون- فاجتمعوا و هم مریحون مع أصحابهم- فصاروا کوکبه واحده- فلما رآهم حارثه بن بدر رکض برایته منهزما- و قال لأصحابه

کرنبوا و دولبوا
أو حیث شئتم فاذهبوا

 و قال

أیر الحمار فریضه لعبیدکم
و الخصیتان فریضه الأعراب‏

 قال کرنبوا أی اطلبوا کرنبى- و هی قریه قریبه من الأهواز و دولبوا اطلبوا دولاب- و هی ضیعه بینها و بین الأهواز أربعه فراسخ- . قال فتتابع الناس على أثره منهزمین و تبعتهم الخوارج- فألقى الناس أنفسهم فی الماء- فغرق منهم بدجیل الأهواز خلق کثیر

الزبیر بن علی السلیطی و ظهور أمر المهلب

و منهم الزبیر بن علی السلیطی التمیمی- کان على مقدمه ابن الماحوز- و کان ابن الماحوز یخاطب بالخلافه- و یخاطب الزبیر بالإماره- و وصل الزبیر بعد هلاک حارثه بن بدر- و هرب أصحابه إلى البصره فخافه الناس خوفا شدیدا- و ضج أهل البصره إلى الأحنف فأتى القباع- فقال أصلح الله الأمیر- إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا و فیئنا- فلم یبق إلا أن یحصرنا فی بلدنا حتى نموت هزالا- قال فسموا إلى رجلا یلی الحرب- فقال الأحنف لا أرى لها رجلا إلا المهلب بن أبی صفره- فقال أ و هذا رأی‏ جمیع أهل البصره- اجتمعوا إلی فی غد لأنظر- و جاء الزبیر حتى نزل على البصره و عقد الجسر لیعبر إلیها- فخرج أکثر أهل البصره إلیه- و انضم إلى الزبیر جمیع کور الأهواز و أهلها رغبه و رهبه- فوافاه البصریون فی السفن و على الدواب- فاسودت بهم الأرض-

فقال الزبیر لما رآهم أبى قومنا إلا کفرا و قطع الجسر- و أقام الخوارج بإزائهم و اجتمع الناس عند القباع- و خافوا الخوارج خوفا شدیدا و کانوا ثلاث فرق- سمى قوم المهلب و سمى قوم مالک بن مسمع- و سمى قوم زیاد بن عمرو بن أشرف العتکی- فاختبر القباع ما عند مالک و زیاد- فوجدهما متثاقلین عن الحرب و عاد إلیه من أشار بهما- و قالوا قد رجعنا عن رأینا ما نرى لها إلا المهلب- فوجه إلیه القباع فأتاه فقال له یا أبا سعید- قد ترى ما قد رهقنا من هذا العدو- و قد أجمع أهل مصرک علیک- و قال له الأحنف یا أبا سعید أنا و الله ما آثرناک- و لکنا لم نر من یقوم مقامک- .

ثم قال القباع و أومأ إلى الأحنف- أن هذا الشیخ لم یسمک إلا إیثارا للدین و البقیا- و کل من فی مصرک ماد عینه إلیک- راج أن یکشف الله عنه هذه الغمه بک- فقال المهلب لا حول و لا قوه إلا بالله- إنی عند نفسی لدون ما وصفتم و لست آبى ما دعوتم إلیه- لکن لی شروطا أشترطها- قالوا قل قال على أن أنتخب من أحببت- قال الأحنف ذاک لک قال و لی إمره کل بلد أغلب علیه- قالوا لک ذلک قال و لی فی‏ء کل بلد أظفر به- قال الأحنف لیس ذاک لک و لا لنا إنما هو فی‏ء للمسلمین- فإن سلبتهم إیاه کنت علیهم کعدوهم- و لکن لک أن تعطی أصحابک- من فی‏ء کل بلد تغلب علیه ما أحببت- و تنفق منه على محاربه عدوک- فما فضل عنکم کان للمسلمین- فقال المهلب لا حول و لا قوه إلا بالله فمن لی بذلک- قال الأحنف نحن و أمیرک و جماعه أهل مصرک قال قد قبلت- فکتبوا بینهم بذلک کتابا- و وضع على یدی الصلت بن حریث بن جابر الجعفی-

و انتخب المهلب من جمیع الأخماس- فبلغت نخبته اثنی عشر ألفا و نظروا فی بیت المال-فلم یکن إلا مائتی ألف درهم- فعجزت فبعث المهلب إلى التجار- فقال إن تجاراتکم منذ حول- قد فسدت بانقطاع مواد الأهواز و فارس عنکم- فهلموا فبایعونی و اخرجوا معی أوفکم حقوقکم- فبایعوه و تاجروه- فأخذ منهم من المال ما أصلح به عسکره- و اتخذ لأصحابه الخفاتین و الرانات المحشوه بالصوف- ثم نهض و کان أکثر أصحابه رجاله- حتى إذا صار بحذاء القوم أمر بسفن فأصلحت و أحضرت- فما ارتفع النهار حتى فرغ منها- ثم أمر الناس بالعبور- و أمر علیهم ابنه المغیره فخرج الناس- فلما قاربوا الشط خاضت إلیهم الخوارج- فحاربوهم و حاربهم المغیره- و نضحهم بالسهام حتى تنحوا- و صار هو و أصحابه على الشط فحاربوا الخوارج فکشفوهم و شغلوهم حتى عقد المهلب الجسر و عبر- و الخوارج منهزمون- فنهى الناس عن اتباعهم- ففی ذلک یقول شاعر من الأزد-

إن العراق و أهله لم یخبروا
مثل المهلب فی الحروب فسلموا

أمضى و أیمن فی اللقاء نقیبه
و أقل تهلیلا إذا ما أحجموا

 و أبلى مع المغیره یومئذ عطیه بن عمرو العنبری- من فرسان تمیم و شجعانهم- و من شعر عطیه

یدعى رجال للعطاء و إنما
یدعى عطیه للطعان الأجرد

و قال فیه شاعر من بنی تمیم-

و ما فارس إلا عطیه فوقه
إذا الحرب أبدت عن نواجذها الفما

به هزم الله الأزارق بعد ما
أباحوا من المصرین حلا و محرما

 فأقام المهلب أربعین لیله یجبی الخراج بکور دجله- و الخوارج بنهر تیرى- و الزبیر بن علی منفرد بعسکره عن عسکر ابن الماحوز- فقضى المهلب التجار و أعطى أصحابه-فأسرع الناس إلیه رغبه فی مجاهده العدو- و طمعا فی الغنائم و التجارات- فکان فیمن أتاه محمد بن واسع الأزدی- و عبد الله بن رباح و معاویه بن قره المزنی- و کان یقول لو جاءت الدیلم من هاهنا- و الحروریه من هاهنا لحاربت الحروریه- و جاءه أبو عمران الجونی- و کان یروى عن کعب- أن قتیل الحروریه یفضل قتیل غیرهم بعشره أبواب- . ثم أتى المهلب إلى نهر تیرى- فتنحوا عنه إلى الأهواز- و أقام المهلب یجبی ما حوالیه من الکور- و قد دس الجواسیس إلى عسکر الخوارج- یأتونه بأخبارهم و من فی عسکرهم- و إذا حشوه ما بین قصاب و حداد و داعر- فخطب المهلب الناس و ذکر لهم ذلک- و قال أ مثل هؤلاء یغلبونکم على فیئکم- و لم یزل مقیما حتى فهمهم- و أحکم أمرهم و قوى أصحابه- و کثرت الفرسان فی عسکره- و تتام أصحابه عشرین ألفا- .

ثم مضى یؤم کور الأهواز- فاستخلف أخاه المعارک بن أبی صفره على نهر تیرى- و جعل المغیره على مقدمته فسار حتى قاربهم- فناوشهم و ناوشوه فانکشف عن المغیره بعض أصحابه- و ثبت المغیره نفسه بقیه یومه و لیلته یوقد النیران- ثم غاداهم فإذا القوم قد أوقدوا النیران فی بقیه متاعهم- و ارتحلوا عن سوق الأهواز فدخلها المغیره- و قد جاءت أوائل خیل المهلب فأقام بسوق الأهواز- و کتب بذلک إلى الحارث القباع کتابا یقول فیه- . أما بعد فإنا مذ خرجنا نؤم العدو- فی نعم من فضل الله متصله علینا- و نقم متتابعه علیهم نقدم و یحجمون- و نحل و یرتحلون إلى أن حللنا سوق الأهواز- و الحمد لله رب العالمین الذی من عنده النصر- و هو العزیز الحکیم-فکتب إلیه الحارث- هنیئا لک أخا الأزد الشرف فی الدنیا و الأجر فی الآخره- إن شاء الله- .

فقال المهلب لأصحابه ما أجفى أهل الحجاز- أ ما ترونه عرف اسمی و کنیتی و اسم أبی- قالوا و کان المهلب یبث الأحراس فی الأمن- کما یبثهم فی الخوف و یذکی العیون فی الأمصار- کما یذکیها فی الصحاری و یأمر أصحابه بالتحرز- و یخوفهم البیات- و إن بعد منه العدو- و یقول احذروا أن تکادوا کما تکیدون- و لا تقولوا هزمناهم و غلبناهم و القوم خائفون وجلون- فإن الضروره تفتح باب الحیله- .

ثم قام فیهم خطیبا فقال أیها الناس- قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج- و أنهم إن قدروا علیکم فتنوکم فی دینکم و سفکوا دماءکم- فقاتلوهم على ما قاتلهم علیه أولکم علی بن أبی طالب- لقد لقیهم الصابر المحتسب مسلم بن عبیس- و العجل المفرط عثمان بن عبید الله- و المعصی المخالف حارثه بن بدر فقتلوا جمیعا و قتلوا- فالقوهم بحد و جد فإنما هم مهنتکم و عبیدکم- و عار علیکم و نقص فی أحسابکم- و أدیانکم أن یغلبکم هؤلاء على فیئکم- و یطئوا حریمکم- .

ثم سار یریدهم و هم بمناذر الصغرى- فوجه عبید الله بن بشیر بن الماحوز رئیس الخوارج رجلا- یقال له واقد- مولى لآل أبی صفره من سبی الجاهلیه فی خمسین رجلا- فیهم صالح بن مخراق إلى نهر تیرى- و بها المعارک بن أبی صفره فقتلوه و صلبوه- فنمی‏ الخبر إلى المهلب فوجه ابنه المغیره- فدخل نهر تیرى و قد خرج واقد منها- فاستنزل عمه فدفنه و سکن الناس- و استخلف بها و رجع إلى أبیه- و قد نزل بسولاف و الخوارج بها فواقعهم- و جعل على بنی تمیم الحریش بن هلال-

فخرج رجل من أصحاب المهلب یقال له عبد الرحمن الإسکاف- فجعل یحض الناس و یهون أمر الخوارج- و یختال بین الصفین- فقال رجل من الخوارج لأصحابه- یا معشر المهاجرین هل لکم فی قتله فیها الجنه- فحمل جماعه منهم على الإسکاف فقاتلهم وحده فارسا- ثم کبا به فرسه فقاتلهم راجلا قائما و بارکا- ثم کثرت به الجراحات فذبب بسیفه- ثم جعل یحثو فی وجوههم التراب- و المهلب غیر حاضر فقتل- ثم حضر المهلب فأعلم فقال للحریش و لعطیه العنبری- أ سلمتما سید أهل العراق- لم تعیناه و لم تستنقذاه حسدا له- لأنه رجل من الموالی و وبخهما- . و حمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فقلته- فحمل علیه المهلب فطعنه فقتله- و مال الخوارج بأجمعهم على العسکر- فانهزم الناس و قتل منهم سبعون رجلا- و ثبت المهلب و ابنه المغیره یومئذ و عرف مکانه- . و یقال حاص المهلب یومئذ حیصه- و یقول الأزد بل کان یرد المنهزمه و یحمی أدبارهم- و بنو تمیم تزعم أنه فر- و قال شاعرهم

بسولاف أضعت دماء قومی
و طرت على مواشکه درور

و قال آخر من بنی تمیم-

تبعنا الأعور الکذاب طوعا
یزجی کل أربعه حمارا

فیا ندمى على ترکی عطائی
معاینه و أطلبه ضمارا

إذا الرحمن یسر لی قفولا
فحرق فی قرى سولاف نارا

 قوله الأعور الکذاب یعنی به المهلب- کانت عینه عارت بسهم أصابها- و سموه الکذاب لأنه کان فقیها- و کان یتأول ما ورد فی الأثر- من أن کل کذب یکتب کذبا إلا ثلاثه- الکذب فی الصلح بین رجلین- و کذب الرجل لامرأته بوعد- و کذب الرجل فی الحرب بتوعد و تهدد-
قالوا و جاء عنه ص إنما أنت رجل فخذل عنا ما استطعت و قال إنما الحرب خدعه – فکان المهلب ربما صنع الحدیث- لیشد به من أمر المسلمین ما ضعف- و یضعف به من أمر الخوارج ما اشتد- و کان حی من الأزد یقال لهم الندب- إذا رأوا المهلب رائحا إلیهم قالوا راح لیکذب- و فیه یقول رجل منهم-

أنت الفتى کل الفتى
لو کنت تصدق ما تقول‏

 فبات المهلب فی ألفین فلما أصبح رجع بعض المنهزمه- فصاروا فی أربعه آلاف فخطب أصحابه- فقال و الله ما بکم من قله- و ما ذهب عنکم إلا أهل الجبن و الضعف و الطبع و الطمع- فإن یمسسکم قرح فقد مس القوم قرح مثله- فسیروا إلى عدوکم على برکه الله- . فقام إلیه الحریش بن هلال- فقال أنشدک الله أیها الأمیر أن تقاتلهم إلا أن یقاتلوک- فإن فی أصحابک جراحا و قد أثخنتهم هذه الجوله- . فقبل منه و مضى المهلب فی عشره- فأشرف على عسکر الخوارج فلم یر منهم أحدا یتحرک- فقال له الحریش ارتحل عن هذا المنزل فارتحل- فعبر دجیلا و صار إلى عاقول لا یؤتى إلا من جهه واحده- فأقام به و أقام الناس ثلاثا مستریحین- . و فی یقوم سولاف یقول ابن قیس الرقیات-

أ لا طرقت من آل میه طارقه
على أنها معشوقه الدل عاشقه‏

تراءت و أرض السوس بینی و بینها
و رستاق سولاف حمته الأزارقه‏

إذا نحن شئنا صادفتنا عصابه
حروریه فیها من الموت بارقه‏

أجازت عیلنا العسکرین کلیهما
فباتت لنا دون اللحاف معانقه‏

فأقام المهلب فی ذلک العاقول ثلاثه أیام ثم ارتحل- و الخوارج بسلى و سلبرى فنزل قریبا منهم- فقال ابن الماحوز لأصحابه- ما تنتظرون بعدوکم و قد هزمتموهم بالأمس- و کسرتم حدهم- فقال له واقد مولى أبی صفره- یا أمیر المؤمنین إنما تفرق عنهم أهل الضعف و الجبن- و بقی أهل النجده و القوه- فإن أصبتهم لم یکن ظفرا هینا- لأنی أراهم لا یصابون حتى یصیبوا- و إن غلبوا ذهب الدین- فقال أصحابه نافق واقد فقال ابن الماحوز لا تعجلوا على أخیکم- فإنه إنما قال هذا نظرا لکم- .

ثم وجه الزبیر بن علی إلى عسکر المهلب- لینظر ما حالهم فأتاهم فی مائتین فحزرهم و رجع- و أمر المهلب أصحابه بالتحارس- حتى إذا أصبح رکب إلیهم فی تعبئه- فالتقوا بسلى و سلبرى فتصافوا- فخرج من الخوارج مائه فارس- فرکزوا رماحهم بین الصفین و اتکئوا علیها- و أخرج إلیهم المهلب أعدادهم ففعلوا مثل ما فعلوا- لا یرعون إلا الصلاه- حتى إذا أمسوا رجع کل قوم إلى معسکرهم- ففعلوا هکذا ثلاثه أیام- .

ثم إن الخوارج تطاردوا لهم فی الیوم الثالث- فحمل علیهم هؤلاء الفرسان فجالوا ساعه- ثم إن رجلا من الخوارج حمل على رجل فطعنه- فحمل علیه المهلب فطعنه فحمل الخوارج بأجمعهم- کما صنعوا یوم سولاف فضعضعوا الناس- و فقد المهلب و ثبت المغیره فی جمع أکثرهم أهل عمان- . ثم نجم المهلب فی مائه و قد انغمس کماه فی الدم- و على رأسه قلنسوه مربعه فوق المغفر- محشوه قزا و قد تمزقت- و إن حشوها لیتطایر و هو یلهث و ذلک فی وقت الظهر- فلم یزل یحاربهم حتى أتى اللیل- و کثر القتلى فی الفریقین فلما کان الغد غاداهم- و قد کان وجه بالأمس رجلا- من طاحیه بن سود بن مالک بن فهم- من الأزد من ثقاته و أصحابه یرد المنهزمین- فمر به عامر بن مسمع فرده- فقال إن الأمیر أذن لی فی الانصراف فبعث إلى المهلب فأعلمه- فقال دعه فلا حاجه لی فی مثله من أهل الجبن و الضعف- ثم غاداهم المهلب فی ثلاثه آلاف- و قد تفرق عنه أکثر الناس-

و قال لأصحابه ما بکم من قله- أ یعجز أحدکم أن یلقی رمحه ثم یتقدم فیأخذه- ففعل ذلک رجل من کنده و اتبعه قوم- ثم قال المهلب لأصحابه أعدوا مخالی فیها حجاره- و ارموا بها فی وقت الغفله- فإنها تصد الفارس و تصرع الراجل- ففعلوا ثم أمر منادیا ینادی فی أصحابه- یأمرهم بالجد و الصبر و یطمعهم فی العدو- ففعل ذلک حتى مر ببنی العدویه- من بنی مالک بن حنظله فنادى فیهم فضربوه- فدعا المهلب بسیدهم و هو معاویه بن عمرو- فجعل یرکله برجله فقال أصلح الله الأمیر- اعفنی من أم کیسان و الأزد تسمى الرکبه أم کیسان- ثم حمل المهلب و حملوا و اقتتلوا قتالا شدیدا- فجهد الخوارج و نادى مناد منهم- ألا إن المهلب قد قتل-فرکب المهلب برذونا وردا- و أقبل یرکض بین الصفین- و إن إحدى یدیه لفی القباء و ما یشعر لها- و هو یصیح أنا المهلب- فسکن الناس بعد أن کانوا قد ارتاعوا- و ظنوا أن أمیرهم قد قتل- و کل الناس مع العصر فصاح المهلب بابنه المغیره تقدم- ففعل و صاح بذکوان مولاه قدم رایتک ففعل-

فقال له رجل من ولده إنک تغرر بنفسک فزبره و زجره- و صاح یا بنی سلمه آمرکم فتعصوننی- فتقدم و تقدم الناس فاجتلدوا أشد جلاد- حتى إذا کان مع المساء قتل ابن الماحوز- و انصرف الخوارج و لم یشعر المهلب بقتله- فقال لأصحابه ابغوا لی رجلا جلدا یطوف فی القتلى- فأشاروا علیه برجل من جرم- و قالوا إنا لم نر قط رجلا أشد منه- فجعل یطوف و معه النیران- فجعل إذا مر بجریح من الخوارج- قال کافر و رب الکعبه فأجهز علیه- و إذا مر بجریح من المسلمین أمر بسقیه و حمله- و أقام المهلب یأمرهم بالاحتراس حتى إذا کان فی نصف اللیل- وجه رجلا من الیحمد فی عشره- فصاروا إلى عسکر الخوارج- فإذا هم قد تحملوا إلى أرجان- فرجع إلى المهلب فأعلمه-

فقال لهم أنا الساعه أشد خوفا احذروا البیات- . و یروى عن شعبه بن الحجاج- أن المهلب قال لأصحابه یوما- إن هؤلاء الخوارج قد یئسوا من ناحیتکم- إلا من جهه البیات- فإن یکن ذلک فاجعلوا شعارکم- حم لا ینصرون- فإن رسول الله ص کان یأمر بها- . و یروى أنه کان شعار أصحاب علی بن أبی طالب ع- . فلما أصبح القوم غدوا على القتلى- فأصابوا ابن الماحوز قتیلا- ففی ذلک یقول رجل من الخوارج-

بسلى و سلبرى مصارع فتیه
کرام و عقرى من کمیت و من ورد

و قال آخر

بسلى و سلبرى جماجم فتیه
کرام و صرعى لم توسد خدودها

و قال رجل من موالی المهلب- لقد صرعت یومئذ بحجر واحد ثلاثه- رمیت به رجلا فصرعته- ثم رمیت به رجلا فأصبت به أصل أذنه فصرعته- ثم أخذت الحجر و صرعت به ثالثا- و فی ذلک یقول رجل من الخوارج-

أتانا بأحجار لیقتلنا بها
و هل یقتل الأبطال ویحک بالحجر

و قال رجل من أصحاب المهلب فی یوم سلى و سلبرى- و قتل ابن الماحوز-

و یوم سلى و سلبرى أحاط بهم
منا صواعق لا تبقی و لا تذر

حتى ترکنا عبید الله منجدلا
کما تجدل جذع مال منقعر

 و یروى أن رجلا من الخوارج یوم سلى- حمل على رجل من أصحاب المهلب فطعنه- فلما خالطه الرمح صاح یا أمتاه- فصاح به المهلب لا کثر الله منک فی المسلمین- فضحک الخارجی و قال-

أمک خیر لک منی صاحبا
تسقیک محضا و تعل رائبا

و کان المغیره بن المهلب إذا نظر إلى الرماح- قد تشاجرت فی وجهه- نکس على‏قربوس السرج و حمل من تحتها- فبرأها بسیفه و أثر فی أصحابها- فتحومیت المیمنه من أجله- و کان أشد ما تکون الحرب استعارا أشد ما یکون تبسما- و کان المهلب یقول ما شهد معی حربا قط- إلا رأیت البشرى فی وجهه- . و قال رجل من الخوارج فی هذا الیوم-

فإن تک قتلى یوم سلى تتابعت
فکم غادرت أسیافنا من قماقم‏

غداه نکر المشرقیه فیهم‏
بسولاف یوم المأزق المتلاحم‏

 فکتب المهلب- إلى الحارث بن عبد الله بن أبی ربیعه القباع- . أما بعد فإنا لقینا الأزارقه المارقه بحد و جد- فکانت فی الناس جوله- ثم ثاب أهل الحفاظ و الصبر بنیات صادقه- و أبدان شداد و سیوف حداد- فأعقب الله خیر عاقبه- و جاوز بالنعمه مقدار الأمل- فصاروا دریئه رماحنا و ضرائب سیوفنا- و قتل الله أمیرهم ابن الماحوز- و أرجو أن یکون آخر هذه النعمه کأولها و السلام- .

فکتب إلیه القباع- قد قرأت کتابک یا أخا الأزد- فرأیتک قد وهب لک شرف الدنیا و عزها- و ذخر لک إن شاء الله ثواب الآخره و أجرها- و رأیتک أوثق حصون المسلمین- و هادأرکان المشرکین و ذا الرئاسه و أخا السیاسه- فاستدم الله بشکره یتمم علیکم نعمه و السلام- . و کتب إلیه أهل البصره یهنئونه و لم یکتب إلیه الأحنف- و لکن قال اقرءوا علیه السلام و قولوا- إنا لک على ما فارقتک علیه- فلم یزل یقرأ الکتب و ینظر فی تضاعیفها- و یلتمس کتاب الأحنف فلا یراه- فلما لم یره قال لأصحابه أ ما کتب أبو بحر- فقال له الرسول إنه حملنی إلیک رساله فأبلغه- فقال هذا أحب إلی من هذه الکتب- .

و اجتمعت الخوارج بأرجان فبایعوا الزبیر بن علی- و هو من بنی سلیط بن یربوع من رهط ابن الماحوز- فرأى فیهم انکسارا شدیدا و ضعفا بینا- فقال لهم اجتمعوا فاجتمعوا- فحمد الله و أثنى علیه و صلى على محمد رسوله ص- ثم أقبل علیهم فقال إن البلاء للمؤمنین تمحیص و أجر- و هو على الکافرین عقوبه و خزی- و إن یصب منکم أمیر المؤمنین- فما صار إلیه خیر مما خلف- و قد أصبتم منهم مسلم بن عبیس- و ربیعا الأجذم و الحجاج بن رباب و حارثه بن بدر- و أشجیتم المهلب و قتلتم أخاه المعارک- و الله یقول لإخوانکم المؤمنین- إِنْ یَمْسَسْکُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ- وَ تِلْکَ الْأَیَّامُ نُداوِلُها بَیْنَ النَّاسِ- فیوم سلى کان لکم بلاء و تمحیصا- و یوم سولاف کان لهم عقوبه و نکالا- فلا تغلبن علی الشکر فی حینه و الصبر فی وقته- و ثقوا بأنکم المستخلفون فی الأرض و العاقبه للمتقین- .

ثم تحمل للمحاربه نحو المهلب فنفحهم المهلب نفحه- فرجعوا و أکمنوا للمهلب فی غمض من غموض الأرض- یقرب من عسکره مائه فارس لیغتالوه- فسار المهلب‏ یوما یطیف بعسکره و یتفقد سواده- فوقف على جبل- فقال إن من التدبیر لهذه المارقه- أن تکون قد أکمنت فی سفح هذا الجبل کمینا- فبعث المهلب عشره فوارس فاطلعوا على المائه- فلما علموا بهم قطعوا القنطره- و نجوا و انکشفت الشمس- فصاحوا یا أعداء الله- لو قامت القیامه لجددنا و نحن فی جهادکم- . ثم یئس الزبیر من ناحیه المهلب- فضرب إلى ناحیه أصبهان- ثم کر راجعا إلى أرجان و قد جمع جموعا- و کان المهلب یقول کأنی بالزبیر و قد جمع لکم- فلا ترهبوهم فتنخب قلوبکم- و لا تغفلوا الاحتراس فیطمعوا فیکم- فجاءوه من أرجان فلقوه مستعدا آخذا بأفواه الطرق- فحاربهم فظهر علیهم ظهورا بینا- ففی ذلک یقول رجل من بنی یربوع-

سقى الله المهلب کل غیث
من الوسمی ینتحر انتحارا

فما وهن المهلب یوم جاءت‏
عوابس خیلهم تبغی الغوارا

 و قال المهلب یومئذ- ما وقفت فی مضیق من الحرب إلا رأیت أمامی رجالا- من بنی الهجیم بن عمرو بن تمیم یجالدون- و کان لحاهم أذناب العقاعق- و کانوا صبروا معه فی غیر مواطن- . و قال رجل من أصحاب المهلب من بنی تمیم-

ألا یا من لصب مستهام
قریح القلب قد مل المزونا

لهان على المهلب ما لقینا
إذا ما راح مسرورا بطینا

یجر السابری و نحن شعث
کأن جلودنا کسیت طحینا

و حمل یومئذ الحارث بن هلال على قیس الإکاف- و کان من أنجد فرسان الخوارج فطعنه فدق صلبه- و قال

قیس الإکاف غداه الروع یعلمنی
ثبت المقام إذا لاقیت أقرانی‏

و قد کان بعض جیش المهلب یوم سلى و سلبرى- صاروا إلى البصره- فذکروا أن المهلب قد أصیب- فهم أهل البصره بالنقله إلى البادیه- حتى ورد کتابه بظفره فأقام الناس- و تراجع من کان ذهب منهم- فعند ذلک قال الأحنف البصره بصره المهلب- و قدم رجل من کنده یعرف بابن أرقم فنعى ابن عم له- و قال إنی رأیت رجلا من الخوارج- و قد مکن رمحه من صلبه- فلم ینشب أن قدم المنعی سالما فقیل له ذلک- فقال صدق ابن أرقم- لما أحسست برمحه بین کتفی صحت به البقیه- فرفعه و تلا بَقِیَّتُ اللَّهِ خَیْرٌ لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ- و وجه المهلب بعقب هذه الوقعه رجلا من الأزد- برأس عبید الله بن بشیر بن الماحوز- إلى الحارث بن عبد الله- فلما صار بکربج دینار لقیته إخوه عبید الله- حبیب و عبد الملک و علی بنو بشیر بن الماحوز-

فقالوا ما الخبر و هو لا یعرفهم- فقال قتل الله ابن الماحوز المارق و هذا رأسه معی- فوثبوا علیه فقتلوه و صلبوه- و دفنوا رأس أخیهم عبید الله- فلما ولی الحجاج دخل علیه علی بن بشیر و کان وسیما جسیما- فقال من هذا فخبره فقتله و وهب ابنه الأزهر و ابنته لأهل الأزدی المقتول- و کانت زینب بنت بشیر لهم مواصله فوهبوهما لها- . قال أبو العباس محمد بن یزید المبرد فی کتاب الکامل- و لم یزل المهلب یقاتل الخوارج فی ولایه الحارث القباع- حتى عزل و ولی مصعب بن الزبیر- فکتب إلى المهلب أن أقدم علی و استخلف ابنک المغیره- ففعل بعد أن جمع الناس و قال لهم- إنی قد استخلفت المغیره علیکم- و هو أبو صغیرکم رقه و رحمه- و ابن کبیرکم طاعه و برا و تبجیلا- و أخو مثله مواساه و مناصحه- فلتحسن له طاعتکم و لیلن له جانبکم- فو الله ما أردت صوابا قط إلا سبقنی إلیه- .

ثم مضى إلى مصعب- فکتب مصعب إلى المغیره بولایته- و کتب إلیه أنک إن لم تکن کأبیک- فإنک کاف لما ولیت- فشمر و ائتزر و جد و اجتهد- . ثم شخص المصعب إلى المزار- فقتل أحمر بن شمیط ثم أتى الکوفه فقتل المختار- و قال للمهلب- أشر علی برجل أجعله بینی و بین عبد الملک- فقال له اذکر واحدا من ثلاثه- محمد بن عمیر بن عطارد الدارمی- أو زیاد بن عمرو بن الأشرف العتکی- أو داود بن قحذم- قال أ و تکفینی أنت قال أکفیک إن شاء الله- فشخص فولاه الموصل فخرج إلیها- و صار مصعب إلى البصره لینفر إلى أخیه بمکه- فشاور الناس فیمن یستکفیه‏ أمر الخوارج- فقال قوم ول عبد الله بن أبی بکره- و قال قوم ول عمر بن عبید الله بن معمر-

و قال قوم لیس لهم إلا المهلب فاردده إلیهم- و بلغت المشوره الخوارج فأداروا الأمر بینهم- فقال قطری بن الفجاءه المازنی- و لم یکن أمروه علیهم بعد- إن جاءکم عبد الله بن أبی بکره- أتاکم سید سمح کریم جواد مضیع لعسکره- و إن جاءکم عمر بن عبید الله أتاکم فارس شجاع- بطل جاد یقاتل لدینه و لملکه- و بطبیعه لم أر مثلها لأحد فقد شهدته فی وقائع- فما نودی فی القوم لحرب إلا کان أول فارس- حتى یشد على قرنه و یضربه- و إن رد المهلب فهو من قد عرفتموه- إذا أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر- یمده إذا أرسلتموه و یرسله إذا مددتموه- لا یبدؤکم إلا أن تبدءوه- إلا أن یرى فرصه فینتهزها- فهو اللیث المبر و الثعلب الرواغ و البلاء المقیم- .

فولى مصعب علیهم عمر بن عبید الله بن معمر ولاه فارس- و الخوارج بأرجان یومئذ- و علیهم الزبیر بن علی السلیطی- فشخص إلیهم فقاتلهم- و ألح علیهم حتى أخرجهم منها- فألحقهم بأصبهان- فلما بلغ المهلب أن مصعبا ولى حرب الخوارج عمر بن عبید الله- قال رماهم بفارس العرب و فتاها فجمع الخوارج له- و أعدوا و استعدوا ثم أتوا سابور- فسار إلیهم حتى نزل منهم على أربعه فراسخ- فقال له مالک بن أبی حسان الأزدی- إن المهلب کان یذکی العیون- و یخاف البیات و یرتقب الغفله- و هو على أبعد من هذه المسافه منهم- .

فقال عمر اسکت خلع الله قلبک- أ تراک تموت قبل أجلک و أقام هناک- فلما کان ذات لیله بیته الخوارج- فخرج إلیهم فحاربهم حتى أصبح- فلم یظفروا منه بشی‏ء- فأقبل على مالک بن أبی حسان فقال کیف رأیت- فقال قد سلم الله- و لم یکونوا یطمعون فی مثلها من المهلب- فقال أما إنکم لو ناصحتمونی مناصحتکم المهلب- لرجوت أن أنفی هذا العدو و لکنکم تقولون- قرشی حجازی بعید الدار خیره لغیرنا- فتقاتلون معی تعذیرا- ثم زحف إلى الخوارج من غد ذلک الیوم- فقاتلهم قتالا شدیدا حتى ألجأهم إلى قنطره- فتکاثف الناس علیها حتى سقطت- فأقام حتى أصلحها ثم عبر- و تقدم ابنه عبید الله بن عمر- و أمه من بنی سهم بن عمرو بن هصیص بن کعب- فقاتلهم حتى قتل-

فقال قطری للخوارج لا تقاتلوا عمر الیوم- فإنه موتور قد قتلتم ابنه- و لم یعلم عمر بقتل ابنه حتى أفضى إلى القوم- و کان مع ابنه النعمان بن عباد- فصاح به عمر یا نعمان أین ابنی- قال أحتسبه فقد استشهد صابرا مقبلا غیر مدبر- فقال إنا لله و إنا إلیه راجعون- ثم حمل على الخوارج حمله لم یر مثلها- و حمل أصحابه بحملته- فقتلوا فی وجههم ذلک تسعین رجلا من الخوارج- و حمل على قطری فضربه على جبینه ففلقه- و انهزمت الخوارج و انتهبها- فلما استقروا و رأى ما نزل بهم- قال أ لم أشر علیکم بالانصراف- فجعلوه حینئذ من وجوههم حتى خرجوا من فارس- و تلقاهم فی ذلک الوقت الفزر بن مهزم العبدی- فسألوه عن خبره و أرادوا قتله- فأقبل على قطری و قال إنی مؤمن مهاجر- فسأله عن أقاویلهم فأجاب إلیها- فخلوا عنه ففی ذلک یقول فی کلمه له-

فشدوا وثاقی ثم ألجوا خصومتی
إلى قطری ذی الجبین المفلق‏

و حاججتهم فی دینهم فحججتهم‏
و ما دینهم غیر الهوى و التخلق‏

ثم رجعوا و تکانفوا و عادوا إلى ناحیه أرجان- فسار إلیهم عمر بن عبید الله و کتب إلى مصعب-أما بعد فإنی لقیت الأزارقه- فرزق الله عز و جل عبید الله بن عمر الشهاده- و وهب له السعاده و رزقنا بعد علیهم الظفر- فتفرقوا شذر مذر و بلغنی عنهم عوده فیممتهم- و بالله أستعین و علیه أتوکل- . فسار إلیهم و معه عطیه بن عمرو و مجاعه بن سعر فالتقوا- فألح علیهم عمر حتى أخرجهم و انفرد من أصحابه- فعمد إلى أربعه عشر رجلا من مذکوریهم و شجعانهم- و فی یده عمود فجعل لا یضرب رجلا منهم ضربه إلا صرعه- فرکض إلیه قطری على فرس طمر و عمر على مهر- فاستعلاه قطری بقوه فرسه حتى کاد یصرعه فبصر به مجاعه- فأسرع إلیه فصاحت الخوارج- یا أبا نعامه إن عدو الله قد رهقک- فانحط قطری على قربوسه و طعنه مجاعه- و على قطری درعان فهتکهما و أسرع السنان فی رأس قطری- فکشط جلده و نجا و ارتحل القوم إلى أصفهان- فأقاموا برهه ثم رجعوا إلى الأهواز- و قد ارتحل عمر بن عبید الله إلى إصطخر- فأمر مجاعه فجبى الخراج أسبوعا فقال له کم جبیت- قال تسعمائه ألف فقال هی لک- . و قال یزید بن الحکم لمجاعه-

و دعاک دعوه مرهق فأجبته
عمر و قد نسی الحیاه و ضاعا

فرددت عادیه الکتیبه عن فتى‏
قد کاد یترک لحمه أوزاعا

قال ثم عزل مصعب بن الزبیر- و ولى عبد الله بن الزبیر العراق ابنه- حمزهبن عبد الله بن الزبیر فمکث قلیلا- ثم أعید مصعب إلى العراق و الخوارج بأطراف أصبهان- و الوالی علیها عتاب بن ورقاء الریاحی- فأقام الخوارج هناک یجبون شیئا من القرى- ثم أقبلوا إلى الأهواز من ناحیه فارس- فکتب مصعب إلى عمر بن عبید الله ما أنصفتنا- أقمت بفارس تجبی الخراج- و مثل هذا العدو یجتاز بک لا تحاربه- و الله لو قاتلت ثم هزمت لکان أعذر لک- . و خرج مصعب من البصره یریدهم- و أقبل عمر بن عبید الله یریدهم- فتنحى الخوارج إلى السوس- ثم أتوا إلى المدائن و بسطوا فی القتل- فجعلوا یقتلون النساء و الصبیان- حتى أتوا المذار فقتلوا أحمر طیئ و کان شجاعا- و کان من فرسان عبید الله بن الحر و فی ذلک یقول الشاعر-

ترکتم فتى الفتیان أحمر طیئ
بساباط لم یعطف علیه خلیل‏

ثم خرجوا عامدین إلى الکوفه فلما خالطوا سوادها- و والیها الحارث القباع تثاقل عن الخروج و کان جبانا- فذمره إبراهیم بن الأشتر و لامه الناس- فخرج متحاملا حتى أتى النخیله ففی ذلک یقول الشاعر-

إن القباع سار سیرا نکرا
یسیر یوما و یقیم عشرا

 و جعل یعد الناس بالخروج و لا یخرج- و الخوارج یعیثون حتى أخذوا امرأه- فقتلوا أباها بین یدیها و کانت جمیله- ثم أرادوا قتلها فقالت أ تقتلون من ینشأ فی الحلیه- و هو فی الخصام غیر مبین- فقال قائل منهم دعوها فقالوا قد فتنتک- ثم قدموها فقتلوها- .و قربوا امرأه أخرى و هم بإزاء القباع- و الجسر معقود بینهم فقطعه القباع و هو فی سته آلاف- و المرأه تستغیث به و هی تقبل و تقول علام تقتلوننی- فو الله ما فسقت و لا کفرت و لا زنیت- و الناس یتفلتون إلى القتال و القباع یمنعهم- . فلما خاف أن یعصوه أمر عند ذاک بقطع الجسر- فأقام بین دبیرى و دباها خمسه أیام و الخوارج بقربه- و هو یقول للناس فی کل یوم إذا لقیتم العدو غدا- فأثبتوا أقدامکم و اصبروا- فإن أول الحرب الترامی- ثم إشراع الرماح ثم السله- فثکلت رجلا أمه فر من الزحف- . فقال بعضهم لما أکثر علیهم- أما الصفه فقد سمعناها فمتى یقع الفعل- . و قال الراجز-

إن القباع سار سیرا ملسا
بین دباها و دبیرى خمسا

 و أخذ الخوارج حاجتهم و کان شأن القباع التحصن منهم- ثم انصرفوا و رجع إلى الکوفه- و ساروا من فورهم إلى أصبهان- فبعث عتاب بن ورقاء الریاحی إلى الزبیر بن علی- أنا ابن عمک- و لست أراک تقصد فی انصرافک من کل حرب غیری- فبعث إلیه الزبیر- إن أدنى الفاسقین و أبعدهم فی الحق سواء- . فأقام الخوارج یغادون عتاب بن ورقاء القتال- و یراوحونه حتى طال علیهم المقام- و لم یظفروا بکبیر شی‏ء فلما کثر علیهم ذلک انصرفوا- لا یمرون بقریه بین أصبهان و الأهواز إلا استباحوها- و قتلوا من فیها و شاور المصعب الناس فیهم- فأجمع رأیهم على‏المهلب فبلغ الخوارج مشاورتهم-

فقال لهم قطری إن جاءکم عتاب بن ورقاء فهو فاتک- یطلع فی أول المقنب و لا یظفر بکثیر- و إن جاءکم عمر بن عبید الله ففارس یقدم- إما علیه و إما له- و إن جاءکم المهلب فرجل لا یناجزکم حتى تناجزوه- و یأخذ منکم و لا یعطیکم- فهو البلاء الملازم و المکروه الدائم- . و عزم مصعب على توجیه المهلب- و أن یشخص هو لحرب عبد الملک- فلما أحس به الزبیر خرج إلى الری- و بها یزید بن الحارث بن رویم فحاربه ثم حصره- فلما طال علیه الحصار خرج إلیه فکان الظفر للخوارج- فقتل یزید بن الحارث بن رویم- و نادى یزید ابنه حوشبا ففر عنه و عن أمه لطیفه- و کان علی بن أبی طالب ع دخل على الحارث بن رویم- یعود ابنه یزید فقال عندی جاریه لطیفه الخدمه أبعث بها إلیک- فسماها یزید لطیفه- فقتلت مع بعلها یزید یومئذ و قال الشاعر-

مواقفنا فی کل یوم کریهه
أسر و أشفى من مواقف حوشب‏

دعاه أبوه و الرماح شوارع‏
فلم یستجب بل راغ ترواغ ثعلب‏

و لو کان شهم النفس أو ذا حفیظه
رأى ما رأى فی الموت عیسى بن مصعب‏

و قال آخر-

نجا حلیلته و أسلم شیخه
نصب الأسنه حوشب بن یزید

قال ثم انحط الزبیر على أصفهان- فحصر بها عتاب بن ورقاء سبعه أشهر- و عتاب یحاربه فی بعضهن- فلما طال به الحصار قال لأصحابه ما تنتظرون- و الله ما تؤتون من قله و إنکم لفرسان عشائرکم- و لقد حاربتموهم مرارا فانتصفتم منهم- و ما بقی مع هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائرکم- فیموت أحدکم فیدفنه أخوه- ثم یموت أخوه فلا یجد من یدفنه فقاتلوا القوم- و بکم قوه من قبل أن یضعف أحدکم عن أن یمشی إلى قرنه- . فلما أصبح صلى بهم الصبح- ثم خرج إلى الخوارج و هم غارون- و قد نصب لواء لجاریه له یقال لها یاسمین- فقال من أراد البقاء فلیلحق بلواء یاسمین- و من أراد الجهاد فلیخرج معی- فخرج فی ألفین و سبعمائه فارس- فلم یشعر بهم الخوارج حتى غشوهم- فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج منهم مثله- فعقروا منهم خلقا کثیرا و قتل الزبیر بن علی- و انهزمت الخوارج فلم یتبعهم عتاب- ففی ذلک یقول القائل-

و یوم بجی تلافیته
و لو لاک لاصطلم العسکر

– . و قال آخر-
خرجت من المدینه مستمیتا
و لم أک فی کتیبه یاسمینا

أ لیس من الفضائل أن قومی
غدوا مستلئمین مجاهدینا

قال و تزعم الرواه أنهم فی أیام حصارهم کانوا یتواقفون- و یحمل بعضهم على بعض- و ربما کانت مواقفه بغیر حرب- و ربما اشتدت الحرب بینهم- و کان رجل من أصحاب عتاب- یقال له شریح و یکنى أبا هریره- إذا تحاجز القوم مع المساء- نادى بالخوارج و الزبیر بن علی-

یا ابن أبی الماحوز و الأشرار
کیف ترون یا کلاب النار

شد أبی هریره الهرار
یهرکم باللیل و النهار

أ لم تروا جیا على المضمار
تمسی من الرحمن فی جوار

فغاظهم ذلک فکمن له عبیده بن هلال- فضربه بالسیف و احتمله أصحابه- و ظنت الخوارج أنه قد قتل- فکانوا إذا تواقفوا نادوهم ما فعل الهرار- فیقولون ما به من بأس حتى أبل من علته فخرج إلیهم- فقال یا أعداء الله أ ترون بی بأسا فصاحوا به- قد کنا نرى أنک قد لحقت بأمک الهاویه- إلى النار الحامیه

قطری بن الفجاءه المازنی

و منهم قطری بن الفجاءه المازنی قال أبو العباس- لما قتل الزبیر بن علی أدارت الخوارج أمرها- فأرادوا تولیه عبیده بن هلال فقال- أدلکم على من هو خیر لکم منی- من یطاعن فی قبل و یحمی فی دبر- علیکم‏بقطری بن الفجاءه المازنی فبایعوه- و قالوا یا أمیر المؤمنین امض بنا إلى فارس فقال- إن بفارس عمر بن عبید الله بن معمر- و لکن نسیر إلى الأهواز- فإن خرج مصعب من البصره دخلناها- فأتوا الأهواز ثم ترفعوا عنها على إیذج- و کان المصعب قد عزم على الخروج إلى باجمیرا- و قال لأصحابه إن قطریا لمطل علینا- و إن خرجنا عن البصره دخلها فبعث إلى المهلب فقال- اکفنا هذا العدو فخرج إلیهم المهلب- فلما أحس به قطری یمم نحو کرمان- و أقام المهلب بالأهواز ثم کر علیه قطری و قد استعد- و کانت الخوارج فی حالاتهم أحسن عده- ممن یقاتلهم بکثره السلاح و کثره الدواب- و حصانه الجنن فحاربهم المهلب- فدفعهم فصاروا إلى رامهرمز- و کان الحارث بن عمیره الهمدانی قد صار إلى المهلب- مراغما لعتاب بن ورقاء و یقال- إنه لم یرضه عن قتله الزبیر بن علی- و کان الحارث بن عمیره هو الذی قتله و خاض إلیه أصحابه- ففی ذلک یقول أعشى همدان-

إن المکارم أکملت أسبابها
لابن اللیوث الغر من همدان‏

للفارس الحامی الحقیقه معلما
زاد الرفاق و فارس الفرسان‏

الحارث بن عمیره اللیث الذی
یحمی العراق إلى قرى نجران‏

ود الأزراق لو یصاب بطعنه
و یموت من فرسانهم مائتان‏

قال أبو العباس و خرج مصعب إلى باجمیرا- ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسکن- و لم یأت المهلب و أصحابه- فتواقفوا یوما برامهرمز على الخندق- فناداهم الخوارج ما تقولون فی مصعب قالوا إمام هدى- قالوا فما تقولون فی عبد الملک قالوا ضال مضل- فلما کان بعد یومین أتى المهلب قتل المصعب- و إن أهل العراق قد اجتمعوا على عبد الملک- و ورد علیه کتاب عبد الملک بولایته- فلما تواقفوا ناداهم الخوارج- ما تقولون فی المصعب قالوا لا نخبرکم- قالوا فما تقولون فی عبد الملک قالوا إمام هدى- قالوا یا أعداء الله بالأمس ضال مضل و الیوم إمام هدى- یا عبید الدنیا علیکم لعنه الله- . و روى أبو الفرج الأصفهانی فی کتاب الأغانی الکبیر- قال کان الشراه و المسلمون فی حرب المهلب و قطری- یتواقفون و یتساءلون بینهم عن أمر الدین و غیر ذلک- على أمان و سکون لا یهیج بعضهم بعضا- فتواقف یوما عبیده بن هلال الیشکری- و أبو حزابه التمیمی-

فقال عبیده یا أبا حزابه إنی أسألک عن أشیاء- أ فتصدقنی عنها فی الجواب- قال نعم إن ضمنت لی مثل ذلک قال قد فعلت- قال فسل عما بدا لک قال ما تقولون فی أئمتکم- قال یبیحون الدم الحرام قال ویحک- فکیف فعلهم فی المال قال یحبونه من غیر حله- و ینفقونه فی غیر وجهه- قال فکیف فعلهم فی الیتیم- قال یظلمونه ماله و یمنعونه حقه و ینیکون أمه- قال ویحک یا أبا حزابه أ مثل هؤلاء تتبع- قال قد أجبتک فاسمع سؤالی و دع عتابی على رأیی-قال سل قال أی الخمر أطیب خمر السهل أم خمر الجبل- قال ویحک أ مثلی یسأل عن هذا قال- قد أوجبت على نفسک أن تجیب قال- أما إذ أبیت فإن خمر الجبل أقوى و أسکر- و خمر السهل أحسن و أسلس- قال فأی الزوانی أفره أ زوانی رامهرمز أم زوانی أرجان- قال ویحک إن مثلی لا یسأل عن هذا- قال لا بد من الجواب أو تغدر- . قال أما إذ أبیت فزوانی رامهرمز أرق أبشارا- و زوانی أرجان أحسن أبدانا- قال فأی الرجلین أشعر جریر أم الفرزدق- قال علیک و علیهما لعنه الله قال لا بد أن تجیب- قال أیهما الذی یقول-

و طوى الطراد مع القیاد بطونها
طی التجار بحضرموت برودا

 قال جریر قال فهو أشعرهما- . قال أبو الفرج و قد کان الناس تجادلوا- فی أمر جریر و الفرزدق فی عسکر المهلب- حتى تواثبوا و صاروا إلیه محکمین له فی ذلک- فقال أ تریدون أن أحکم بین هذین الکلبین المتهارشین- فیمضغانی ما کنت لأحکم بینهما- و لکنی أدلکم على من یحکم بینهما- ثم یهون علیه سبابهما- علیکم بالشراه فاسألوهم إذا تواقفتم- فلما تواقفوا سأل أبو حزابه عبیده بن هلال عن ذلک- فأجابه بهذا الجواب- . و روى أبو الفرج أن امرأه من الخوارج- کانت مع قطری بن الفجاءه یقال لها أم حکیم- و کانت من أشجع الناس و أجملهم وجها- و أحسنهم بالدین تمسکا- و خطبهاجماعه منهم فردتهم و لم تجبهم- فأخبر من شاهدها فی الحرب- أنها کانت تحمل على الناس و ترتجز فتقول-

أحمل رأسا قد سئمت حمله
و قد مللت دهنه و غسله‏
أ لا فتى یحمل عنی ثقله‏

 و الخوارج یفدونها بالآباء و الأمهات- فما رأینا قبلها و لا بعدها مثلها- . و روى أبو الفرج قال- کان عبیده بن هلال إذا تکاف الناس ناداهم- لیخرج إلی بعضکم فیخرج إلیه فتیان من عسکر المهلب- فیقول لهم أیما أحب إلیکم- أقرأ علیکم القرآن أم أنشدکم الشعر- فیقولون له أما القرآن فقد عرفناه مثل معرفتک- و لکن تنشدنا فیقول یا فسقه- قد و الله علمت أنکم تختارون الشعر على القرآن- ثم لا یزال ینشدهم و یستنشدهم حتى یملوا و یفترقوا- . قال أبو العباس- و ولى خالد بن عبد الله بن أسید فقدم فدخل البصره- فأراد عزل المهلب فأشیر علیه بألا یفعل- و قیل له إنما أمن أهل هذا المصر- لأن المهلب بالأهواز و عمر بن عبید الله بفارس- فقد تنحى عمر و إن نحیت المهلب لم تأمن على البصره- فأبى إلا عزله فقدم المهلب البصره- و خرج خالد إلى الأهواز فاستصحبه- فلما صار بکربج دینار لقیه قطری- فمنعه حط أثقاله و حاربه ثلاثین یوما- . ثم أقام قطری بإزائه و خندق على نفسه-

فقال المهلب لخالد إن قطریا لیس‏ بأحق بالخندق منک- فعبر دجیلا إلى شق نهر تیرى- و اتبعه قطری فصار إلى مدینه نهر تیرى- فبنى سورها و خندق علیها- فقال المهلب لخالد خندق على نفسک- فإنی لا آمن البیات- فقال یا أبا سعید الأمر أعجل من ذاک- فقال المهلب لبعض ولده إنی أرى أمرا ضائعا- ثم قال لزیاد بن عمرو خندق علینا- فخندق المهلب على نفسه و أمر بسفنه ففرغت- و أبى خالد أن یفرغ سفنه- فقال المهلب لفیروز حصین صر معنا- فقال یا أبا سعید إن الحزم ما تقول- غیر إنی أکره أن أفارق أصحابی- قال فکن بقربنا قال أما هذه فنعم- . و قد کان عبد الملک کتب إلى بشر بن مروان یأمره- أن یمد خالدا بجیش کثیف- أمیره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ففعل- فقدم علیه عبد الرحمن- فأقام قطری یغادیهم القتال و یراوحهم أربعین یوما- فقال المهلب لمولى أبی عیینه سر إلى ذلک الناوس- فبت علیه کل لیله فمتى أحسست خبرا للخوارج- أو حرکه أو صهیل خیل فأعجل إلینا- .

فجاءه لیله فقال قد تحرک القوم- فجلس المهلب بباب الخندق- و أعد قطری سفنا فیها حطب و أشعلها نارا- و أرسلها على سفن خالد و خرج فی أدبارها حتى خالطهم- لا یمر برجل إلا قتله و لا بدابه إلا عقرها- و لا بفسطاط إلا هتکه- فأمر المهلب یزید ابنه فخرج فی مائه فارس فقاتل- و أبلی عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث یومئذ بلاء حسنا- و خرج فیروز حصین فی موالیه- فلم یزل یرمیهم بالنشاب هو و من معه فأثر أثرا جمیلا- و صرع یزید بن المهلب یومئذ- و صرع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث- فحامى عنهما أصحابهما حتى رکبا- و سقط فیروز حصین فی‏ الخندق- فأخذ بیده رجل من الأزد فاستنقذه- فوهب له فیروز عشره آلاف- و أصبح عسکر خالد کأنه حره سوداء- فجعل لا یرى إلا قتیلا أو جریحا- فقال للمهلب یا أبا سعید کدنا نفتضح- فقال خندق على نفسک فإن لم تفعل عادوا إلیک- فقال اکفنی أمر الخندق- فجمع له الأحماس فلم یبق شریف إلا عمل فیه- فصاح بهم الخوارج و الله لو لا هذا الساحر المزونی- لکان الله قد دمر علیکم- و کانت الخوارج تسمى المهلب الساحر- لأنهم کانوا یدبرون الأمر- فیجدون المهلب قد سبق إلى نقض تدبیرهم- . و قال أعشى همدان لابن الأشعث- یذکره بلاء القحطانیه عنده فی کلمه طویله-

و یوم أهوازک لا تنسه
لیس الثنا و الذکر بالبائد

 ثم مضى قطری إلى کرمان و انصرف خالد إلى البصره- و أقام قطری بکرمان شهرا ثم عمد لفارس- فخرج خالد إلى الأهواز و ندب الناس للرحیل- فجعلوا یطلبون المهلب- فقال خالد ذهب المهلب بحظ هذا المصر- إنی قد ولیت أخی قتال الأزارقه- . فولى أخاه عبد العزیز- و استخلف المهلب على الأهواز فی ثلاثمائه- و مضى عبد العزیز و الخوارج بدرابجرد- و هو فی ثلاثین ألفا فجعل عبد العزیز یقول فی طریقه- یزعم أهل البصره أن هذا الأمر لا یتم إلا بالمهلب سیعلمون- . قال صقعب بن یزید فلما خرج عبد العزیز عن الأهواز- جاءنی کردوس‏ حاجب المهلب فدعانی- فجئت إلى المهلب و هو فی سطح و علیه ثیاب هرویه-

فقال یا صقعب أنا ضائع کأنی أنظر إلى هزیمه عبد العزیز- و أخشى أن توافینی الأزارقه و لا جند معی- فابعث رجلا من قبلک یأتینی بخبرهم سابقا إلی به- فوجهت رجلا من قبلی یقال له عمران بن فلان- و قلت له اصحب عسکر عبد العزیز- و اکتب إلی بخبر یوم فیوم- فجعلت أورده على المهلب- فلما قاربهم عبد العزیز وقف وقفه- فقال له الناس هذا منزل- فینبغی أن تنزل فیه أیها الأمیر- حتى نطمئن ثم نأخذ أهبتنا- فقال کلا الأمر قریب فنزل الناس عن غیر أمره- فلم یستتم النزول- حتى ورد علیه سعد الطلائع فی خمسمائه فارس- کأنهم خیط ممدود- فناهضهم عبد العزیز فواقفوه ساعه- ثم انهزموا عنه مکیده و اتبعهم-

فقال له الناس لا تتبعهم فإنا على غیر تعبیه فأبى- فلم یزل فی آثارهم حتى اقتحموا عقبه- فاقتحمها وراءهم و الناس ینهونه و یأبى- و کان قد جعل على بنی تمیم عبس بن طلق الصریمی- الملقب عبس الطعان- و على بکر بن وائل مقاتل بن مسمع- و على شرطته رجلا من بنی ضبیعه بن ربیعه بن نزار- فنزلوا عن العقبه و نزل خلفهم- و کان لهم فی بطن العقبه کمین- فلما صاروا من ورائها خرج علیهم الکمین- و عطف سعد الطلائع فترجل عبس بن طلق- فقتل و قتل مقاتل بن مسمع- و قتل الضبیعی صاحب شرطه عبد العزیز- و انحاز عبد العزیز و اتبعهم الخوارج فرسخین- یقتلونهم کیف شاءوا- و کان عبد العزیز قد أخرج معه أم حفص- بنت المنذر بن الجارود امرأته- فسبوا النساء یومئذ و أخذوا أسارى لا تحصى- فقذفوهم فی غار بعد أن شدوهم وثاقا- ثم سدوا علیهم بابه حتى ماتوا فیه- .

و قال بعض من حضر ذلک الیوم- رأیت عبد العزیز- و إن ثلاثین رجلا لیضربونه‏ بسیوفهم- فما تحیک فی جنبه- و نودی على السبی یومئذ- فغولی بأم حفص فبلغ بها رجل سبعین ألفا- و کان ذلک الرجل من مجوس کانوا أسلموا- و لحقوا بالخوارج- ففرضوا لکل رجل منهم خمسمائه- فکاد ذلک الرجل یأخذ أم حفص- فشق ذلک على قطری و قال- ما ینبغی لرجل مسلم أن یکون عنده سبعون ألفا- إن هذه لفتنه- فوثب علیها أبو الحدید العبدی فقتلها- فأتی به قطری- فقال مهیم یا أبا الحدید- فقال یا أمیر المؤمنین- رأیت المؤمنین تزایدوا فی هذه المشرکه- فخشیت علیهم الفتنه- فقال قطری أحسنت- فقال رجل من الخوارج-

کفانا فتنه عظمت و جلت
بحمد الله سیف أبی الحدید

إهاب المسلمون بها و قالوا
على فرط الهوى هل من مزید

فزاد أبو الحدید بنصل سیف
رقیق الحد فعل فتى رشید

و کان العلاء بن مطرف السعدی- ابن عم عمرو القنا- و کان یحب أن یلقاه فی صدر مبارزه- فلحقه عمرو القنا یومئذ و هو منهزم- فضحک منه و قال متمثلا-

تمنانی لیلقانی لقیط
أعام لک ابن صعصعه بن سعد

ثم صاح به أنج یا أبا المصدی- و کان العلاء بن مطرف قد حمل معه امرأتین-إحداهما من بنی ضبه یقال لها أم جمیل- و الأخرى بنت عمه- یقال لها فلانه بنت عقیل فطلق الضبیه- و حملها أولا و تخلص بابنه عمه- فقال فی ذلک-

أ لست کریما إذ أقول لفتیتی
قفوا فاحملوها قبل بنت عقیل‏

و لو لم یکن عودی نضارا لأصبحت‏
تجر على المتنین أم جمیل‏

قال الصقعب بن یزید- و بعثنی المهلب لآتیه بالخبر- فصرت إلى قنطره أربک- على فرس اشتریته بثلاثه آلاف درهم- فلم أحس خبرا- فسرت مهجرا إلى أن أمسیت- فلما أمسینا و أظلمنا- سمعت کلام رجل عرفته من الجهاضم- فقلت ما وراءک قال الشر- قلت فأین عبد العزیز قال أمامک- فلما کان آخر اللیل- إذا أنا بزهاء خمسین فارسا معهم لواء- فقلت لواء من هذا قالوا لواء عبد العزیز- فتقدمت إلیه فسلمت علیه- و قلت أصلح الله الأمیر- لا یکبرن علیک ما کان- فإنک کنت فی شر جند و أخبثه- قال لی أ و کنت معنا قلت لا- و لکن کأنی شاهد أمرک- ثم أقبلت إلى المهلب و ترکته- فقال لی ما وراءک- قلت ما یسرک هزم الرجل و فل جیشه- فقال ویحک- و ما یسرنی من هزیمه رجل من قریش- و فل جیش من المسلمین- قلت قد کان ذلک ساءک أو سرک- فوجه رجلا إلى خالد یخبره بسلامه أخیه- قال الرجل فلما خبرت خالدا- قال کذبت و لؤمت- و دخل رجل من قریش فکذبنی- فقال لی خالد- و الله لقد هممت أن أضرب عنقک- فقلت أصلح الله الأمیر- إن کنت کاذبا فاقتلنی- و إن کنت صادقا فأعطنی مطرف هذا المتکلم- فقال خالد لبئس ما أخطرت به دمک- فما برحت حتى دخل علیه بعض الفل- و قدم عبد العزیز سوق الأهواز- فأکرمه المهلب و کساه- و قدم معه على خالد- و استخلف المهلب ابنه حبیبا- و قال له‏ تجسس الأخبار- فإن أحسست بخیل الأزارقه قریبا منک- فانصرف إلى البصره على نهر تیرى- فلما أحس حبیب بهم- دخل البصره و أعلم خالدا بدخوله- فغضب و خاف حبیب منه- فاستتر فی بنی عامر بن صعصعه- و تزوج هناک فی استتاره الهلالیه- و هی أم ابنه عباد بن حبیب- و قال الشاعر لخالد یفیل رأیه-

بعثت غلاما من قریش فروقه
و تترک ذا الرأی الأصیل المهلبا

أبى الذم و اختار الوفاء و أحکمت‏
قواه و قد ساس الأمور و جربا

و قال الحارث بن خالد المخزومی-

فر عبد العزیز إذ راء عیسى
و ابن داود نازلا قطریا

عاهد الله إن نجا ملمنایا
لیعودن بعدها حرمیا

یسکن الخل و الصفاح فغورینا
مرارا و مره نجدیا

حیث لا یشهد القتال و لا
یسمع یوما لکر خیل دویا

و کتب خالد إلى عبد الملک بعذر عبد العزیز- و قال للمهلب- ما ترى أمیر المؤمنین صانعا بی- قال یعزلک قال أ تراه قاطعا رحمی- قال نعم قد أتته هزیمه أمیه أخیک- ففعل یعنی هرب أمیه من سجستان- فکتب عبد الملک إلى خالد-أما بعد فإنی کنت حددت لک حدا فی أمر المهلب- فلما ملکت أمرک نبذت طاعتی وراءک- و استبددت برأیک- فولیت المهلب الجبایه و ولیت أخاک حرب الأزارقه- فقبح الله هذا رأیا- أ تبعث غلاما غرا لم یجرب الأمور و الحروب للحرب- و تترک سیدا شجاعا مدبرا حازما- قد مارس الحروب ففلج فشغلته بالجبایه- أما لو کافأتک على قدر ذنبک- لأتاک من- نکیری ما لا بقیه لک معه- و لکن تذکرت رحمک فکفتنی عنک- و قد جعلت عقوبتک عزلک و السلام- قال و ولى بشر بن مروان الإماره و هو بالکوفه- و کتب إلیه- أما بعد فإنک أخو أمیر المؤمنین- یجمعک و إیاه مروان بن الحکم- و إن خالدا لا مجتمع له مع أمیر المؤمنین دون أمیه- فانظر المهلب بی أبی صفره- فوله حرب الأزارقه- فإنه سید بطل مجرب- و امدده من أهل الکوفه بثمانیه آلاف رجل و السلام- فشق على بشر ما أمره به فی المهلب- و قال و الله لأقتلنه فقال له موسى بن نصیر- أیها الأمیر إن للمهلب حفاظا و وفاء و بلاء- .

و خرج بشر بن مروان یرید البصره- فکتب موسى بن نصیر و عکرمه بن ربعی- إلى المهلب أن یتلقاه لقاء لا یعرفه به- فتلقاه المهلب على بغل- و سلم علیه فی غمار الناس- فلما جلس بشر مجلسه قال ما فعل أمیرکم المهلب- قالوا قد تلقاک أیها الأمیر و هو شاک- فهم بشر أن یولی حرب الأزارقه- عمر بن عبید الله بن معمر- و شد عزمه أسماءبن خارجه- و قال له إنما ولاک أمیر المؤمنین لترى رأیک- فقال له عکرمه بن ربعی- اکتب إلى أمیر المؤمنین فأعلمه عله المهلب- فکتب إلیه بذلک- و أن بالبصره من یغنی غناءه- و وجه بالکتاب مع وفد أوفدهم إلیه- رئیسهم عبد الله بن حکیم المجاشعی- فلما قرأ عبد الملک الکتاب خلا بعبد الله- فقال له إن لک دینا و رأیا و حزما- فمن لقتال هؤلاء الأزارقه- قال المهلب قال إنه علیل- قال لیست علته بمانعه-

فقال عبد الملک- لقد أراد بشر أن یفعل ما فعل خالد- فکتب إلیه یعزم علیه أن یولی المهلب الحرب- فوجه إلیه فقال أنا علیل- و لا یمکننی الاختلاف فأمر بشر بحمل الدواوین إلیه- فجعل ینتخب فعزم علیه بشر بالخروج- فاقتطع أکثر نخبته- ثم عزم علیه ألا یقیم بعد ثالثه- و قد أخذت الخوارج الأهواز- و خلفوها وراء ظهورهم و صاروا بالفرات- فخرج المهلب حتى صار إلى شهار طاق- فأتاه شیخ من بنی تمیم- فقال أصلح الله الأمیر- إن سنی ما ترى فهبنی لعیالی- فقال على أن تقول للأمیر إذا خطب فحثکم على الجهاد- کیف تحثنا على الجهاد- و أنت تحبس عنه أشرافنا- و أهل النجده منا- ففعل الشیخ ذلک فقال له بشر- و ما أنت و ذاک- ثم أعطى المهلب رجلا ألف درهم- على أن یأتی بشرا فیقول له- أیها الأمیر أعن المهلب بالشرطه و المقاتله- ففعل الرجل ذلک- فقال له بشر و ما أنت و ذاک-

فقال نصیحه حضرتنی للأمیر و المسلمین- و لا أعود إلى مثلها- فأمده بشر بالشرطه و المقاتله- و کتب إلى خلیفته على الکوفه- أن یعقد لعبد الرحمن بن مخنف على ثمانیه آلاف- من کل ربع ألفین و یوجه بهم مددا للمهلب-فلما أتاه الکتاب- بعث إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدی یعقد له- و اختار من کل ربع ألفین- فکان على ربع أهل المدینه- بشر بن جریر بن عبد الله البجلی- و على ربع تمیم و همدان- محمد بن عبد الرحمن بن سعید بن قیس الهمدانی- و على ربع کنده- محمد بن إسحاق بن الأشعث بن قیس الکندی- و على ربع مذحج- و أسد زحر بن قیس المذحجی- فقدموا على بشر بن مروان- فخلا بعبد الرحمن بن مخنف- و قال له قد عرفت رأیی فیک و ثقتی بک- فکن عند ظنی بک- و انظر إلى هذا المزونی- فخالفه فی أمره و أفسد علیه رأیه- .

فخرج عبد الرحمن و هو یقول- ما أعجب ما طلب منی هذا الغلام- یأمرنی أن أصغر شأن شیخ من مشایخ أهلی- و سید من ساداتهم فلحق بالمهلب- . فلما أحس الأزارقه بدنو المهلب منهم- انکشفوا عن الفرات- فأتبعهم المهلب إلى سوق الأهواز فنفاهم عنها- ثم اتبعهم إلى رامهرمز فهزمهم عنها فدخلوا فارس- و أبلى یزید ابنه فی وقائعه هذه بلاء شدیدا- تقدم فیه و هو ابن إحدى و عشرین سنه- . فلما صار القوم إلى فارس- وجه إلیهم ابنه المغیره- فقال له عبد الرحمن بن صالح أیها الأمیر- إنه لیس لک برأی قتل هذه الأکلب- و لئن و الله قتلتهم لتقعدن فی بیتک- و لکن طاولهم و کل بهم- فقال لیس هذا من الوفاء- فلم یلبث برامهرمز إلا شهرا- حتى أتاه موت بشر بن مروان- .

فاضطرب الجند على ابن مخنف- فوجه إلى إسحاق بن الأشعث و ابن زحر- فاستحلفهما ألا یبرحا فحلفا له و لم یفیا- و جعل الجند من أهل الکوفه یتسللون- حتى اجتمعوا بسوق الأهواز- و أراد أهل البصره الانسلال من المهلب- فخطبهم فقال إنکم لستم کأهل الکوفه- إنما تذبون عن مصرکم و أموالکم و حرمکم- . فأقام منهم قوم و تسلل منهم قوم کثیر- .

و کان خالد بن عبد الله خلیفه بشر بن مروان- فوجه مولى له بکتاب منه إلى من بالأهواز- یحلف بالله مجتهدا- لئن لم یرجعوا إلى مراکزهم- و انصرفوا عصاه لا یظفر بأحد إلا قتله- فجاءهم مولاه فجعل یقرأ علیهم الکتاب- و لا یرى فی وجوههم قبولا- فقال إنی أرى وجوها ما القبول من شأنها- فقال له ابن زحر أیها العبد- اقرأ ما فی الکتاب و انصرف إلى صاحبک- فإنک لا تدری ما فی أنفسنا- و جعلوا یستحثونه بقراءته ثم قصدوا قصد الکوفه- فنزلوا النخیله- و کتبوا إلى خلیفه بشر- یسألونه أن یأذن لهم فی دخول الکوفه فأبى فدخلوها بغیر إذن- .

فلم یزل المهلب و من معه من قواده و ابن مخنف- فی عدد قلیل فلم یلبثوا أن ولی الحجاج العراق- . فدخل الکوفه قبل البصره- و ذلک فی سنه خمس و سبعین- فخطبهم الخطبه المشهوره و تهددهم- ثم نزل فقال لوجوه أهلها- ما کانت الولاه تفعل بالعصاه- قالوا کانت تضرب و تحبس فقال- و لکن لیس لهم عندی إلا السیف- إن المسلمین لو لم یغزوا المشرکین لغزاهم المشرکون- و لو ساغت المعصیه لأهلها- ما قوتل عدو و لا جبی فی‏ء و لا عز دین- . ثم جلس لتوجیه الناس- فقال قد أجلتکم ثلاثا- و أقسم بالله لا یتخلف أحد- من‏ أصحاب ابن مخنف بعدها إلا قتلته- ثم قال لصاحب حرسه و لصاحب شرطته- إذا مضت ثلاثه أیام فاشحذا سیوفکما- فجاءه عمیر بن ضابئ البرجمی بابنه- فقال أصلح الله الأمیر- إن هذا أنفع لکم منی- و هو أشد بنی تمیم أبدانا- و أجمعهم سلاحا و أربطهم جأشا- و أنا شیخ کبیر علیل- و استشهد جلساءه- فقال له الحجاج إن عذرک لواضح و إن ضعفک لبین- و لکنی أکره أن یجترئ بک الناس علی- و بعد فأنت ابن ضابئ صاحب عثمان- و أمر به فقتل فاحتمل الناس- و إن أحدهم لیتبع بزاده و سلاحه- ففی ذلک یقول عبد الله بن الزبیر الأسدی-

أقول لعبد الله یوم لقیته
أرى الأمر أمسى منصبا متشعبا

تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ
عمیرا و إما أن تزور المهلبا

هما خطتا خسف نجاؤک منهما
رکوبک حولیا من الثلج أشهبا

فما إن أرى الحجاج یغمد سیفه
مدى الدهر حتى یترک الطفل أشیبا

فأضحى و لو کانت خراسان دونه‏
رآها مکان السوق أو هی أقربا

 و هرب سوار بن المضرب السعدی من الحجاج و قال-

أ قاتلی الحجاج إن لم أزر له
دراب و أترک عند هند فؤادیا

فی قصیده مشهوره له- . فخرج الناس عن الکوفه- و أتى الحجاج البصره- فکان أشد علیهم إلحاحا- و قد کان أتاهم خبره بالکوفه- فتحمل الناس قبل قدومه- و أتاه رجل من بنی یشکر و کان شیخا أعور- یجعل على عینه العوراء صوفه- فکان یلقب ذا الکرسفه فقال-أصلح الله الأمیر إن بی فتقا- و قد عذرنی بشر بن مروان و قد رددت العطاء- فقال إنک عندی لصادق- ثم أمر به فضربت عنقه- ففی ذلک یقول کعب الأشقری أو الفرزدق-

لقد ضرب الحجاج بالمصر ضربه
تقرقر منها بطن کل عریف‏

و یروى عن أبی البئر- قال إنا لنتغدى معه یوما- إذ جاءه رجل من بنی سلیم برجل یقوده- فقال أصلح الله الأمیر إن هذا عاص- فقال له الرجل أنشدک الله أیها الأمیر فی دمی- فو الله ما قبضت دیوانا قط- و لا شهدت عسکرا قط- و إنی لحائک أخذت من تحت الحف- فقال اضربوا عنقه فلما أحس بالسیف سجد- فلحقه السیف و هو ساجد- فأمسکنا عن الأکل فأقبل علینا- و قال ما لی أراکم قد صفرت أیدیکم- و اصفرت وجوهکم- و حد نظرکم من قتل رجل واحد- ألا إن العاصی یجمع خلالا- یخل بمرکزه و یعصی أمیره و یغر المسلمین- و هو أجیر لهم و إنما یأخذ الأجره لما یعمل- و الوالی مخیر فیه إن شاء قتل و إن شاء عفا- .

ثم کتب إلى المهلب- أما بعد فإن بشرا استکره نفسه علیک- و أراک غناه عنک- و أنا أریک حاجتی إلیک- فأرنی الجد فی قتال عدوک- و من خفته على المعصیه ممن قبلک فاقتله-فإنی قاتل من قبلی- و من کان عندی ممن هرب عنک فأعلمنی مکانه- فإنی أرى أن آخذ السمی بالسمی و الولی بالولی- . فکتب إلیه المهلب- لیس قبلی إلا مطیع- و إن الناس إذا خافوا العقوبه کبروا الذنب- و إذا أمنوا العقوبه صغروا الذنب- و إذا یئسوا من العفو أکفرهم ذلک- فهب لی هؤلاء الذین سمیتهم عصاه- فإنهم فرسان أبطال- أرجو أن یقتل الله بهم العدو و نادم على ذنبه- . فلما رأى المهلب کثره الناس عنده- قال الیوم قوتل هذا العدو- . و لما رأى ذلک قطری قال لأصحابه- انهضوا بنا نرید السردن فنتحصن فیها- فقال عبیده بن هلال أو تأتی سابور- فتأخذ منها ما نرید و تصیر إلى کرمان- فأتوا سابور- و خرج المهلب فی آثارهم فأتى أرجان- و خاف أن یکونوا قد تحصنوا بالسردن و لیست بمدینه- و لکنها جبال محدقه منیعه فلم یصب بها أحدا- فخرج فعسکر بکازرون و استعدوا لقتاله فخندق على نفسه- و وجه إلى عبد الرحمن‏ بن مخنف خندق على نفسک- فوجه إلیه خنادقنا سیوفنا- فوجه المهلب إلیه إنی لا آمن علیک البیات- فقال ابنه جعفر- ذاک أهون علینا من ضرطه جمل- فأقبل المهلب على ابنه المغیره- فقال لم یصیبوا الرأی و لم یأخذوا بالوثیقه- .

فلما أصبح القوم عاودوه الحرب- فبعث إلى ابن مخنف یستمده- فأمده بجماعه جعل علیهم ابنه جعفرا- فجاءوا و علیهم أقبیه بیض جدد- فأبلوا یومئذ حتى عرف مکانهم المهلب- و أبلى بنوه یومئذ کبلاء الکوفیین أو أشد- . ثم أتى رئیس من الخوارج- یقال له صالح بن مخراق- و هو ینتخب قوما من جله العسکر حتى بلغ أربعمائه- فقال لابنه المغیره- ما أراه یعد هؤلاء إلا للبیات- . و انکشفت الخوارج و الأمر للمهلب علیهم- و قد کثر فیهم الجراح و القتل- و قد کان الحجاج یتفقد العصاه و یوجه الرجال- و کان یحبسهم نهارا و یفتح الحبس لیلا- فیتسلل الرجال إلى ناحیه المهلب- و کان الحجاج لا یعلم فإذا رأى إسراعهم تمثل-

إن لها لسائقا عشنزرا
إذا وثبن وثبه تغشمرا

ثم کتب الحجاج إلى المهلب یستحثه- أما بعد فإنه قد بلغنی- أنک قد أقبلت على جبایه الخراج- و ترکت قتال العدو- و إنی ولیتک و أنا أرى مکان عبد الله بن حکیم المجاشعی- و عباد بن الحصین الحبطی- و اخترتک و أنت من أهل عمان ثم رجل من الأزد- فالقهم یوم کذا فی مکان کذا- و إلا أشرعت إلیک صدر الرمح- .

فشاور المهلب بنیه- فقالوا أیها الأمیر- لا تغلظ علیه فی الجواب- . فکتب إلیه- ورد إلی کتابک- تزعم أنی أقبلت على جبایه الخراج- و ترکت قتال العدو و من عجز عن جبایه الخراج- فهو عن قتال العدو أعجز- و زعمت أنک ولیتنی- و أنت ترى مکان عبد الله بن حکیم و عباد بن الحصین- و لو ولیتهما لکانا مستحقین لذلک- لفضلهما و غنائهما و بطشهما- و زعمت أنک اخترتنی و أنا رجل من الأزد- و لعمری إن شرا من الأزد لقبیله تنازعتها ثلاث قبائل- لم تستقر فی واحده منهن- و زعمت أنی إن لم ألقهم یوم کذا فی مکان کذا- أشرعت إلى صدر الرمح- لو فعلت لقلبت لک ظهر المجن و السلام- .

قال ثم کانت الوقعه بینه و بین الخوارج عقیب هذا الکتاب- . فلما انصرف الخوارج تلک اللیله- قال لابنه المغیره إنی أخاف البیات على بنی تمیم- فانهض إلیهم فکن فیهم فأتاهم المغیره- فقال له الحریش بن هلال یا أبا حاتم- أ یخاف الأمیر أن یؤتى من ناحیتنا- قل له فلیبت آمنا فإنا کافوه ما قبلنا إن شاء الله- . فلما انتصف اللیل و قد رجع المغیره إلى أبیه- سرى صالح بن مخراق فی القوم الذین کان أعدهم للبیات- إلى ناحیه بنی تمیم و معه عبیده بن هلال و هو یقول-

إنی لمذک للشراه نارها
و مانع ممن أتاها دارها
و غاسل بالسیف عنها عارها

فوجد بنی تمیم أیقاظا متحارسین- و خرج إلیهم الحریش بن هلال و هو یقول-

وجدتمونا وقرا أنجادا
لا کشفا میلا و لا أوغادا

ثم حمل على الخوارج- فرجعوا عنه فاتبعهم ثم صاح بهم- إلى أین یا کلاب النار- فقالوا إنما أعدت لک و لأصحابک- فقال الحریش کل مملوک لی حر إن لم تدخلوا النار- ما دخلها مجوسی فیما بین سفوان و خراسان- . ثم قال بعضهم لبعض نأتی عسکر ابن مخنف- فإنه لا خندق علیه- و قد بعث فرسانهم الیوم مع المهلب- و قد زعموا أنا أهون علیهم من ضرطه جمل- فأتوهم فلم یشعر ابن مخنف و أصحابه- إلا و قد خالطوهم فی عسکرهم- . و کان ابن مخنف شریفا- و فیه یقول رجل من بنی عامر لرجل یعاتبه- و یضرب بابن مخنف المثل-

تروح و تغدو کل یوم معظما
کأنک فینا مخنف و ابن مخنف‏

 فترجل عبد الرحمن تلک اللیله یجالدهم- حتى قتل و قتل معه سبعون رجلا من القراء- فیهم نفر من أصحاب علی بن أبی طالب- و نفر من أصحاب ابن مسعود و بلغ الخبر المهلب- و جعفر بن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب- فجاءهم مغیثا فقاتل حتى ارتث- و وجه المهلب إلیهم ابنه حبیبا فکشفهم ثم جاء المهلب- حتى صلى على عبد الرحمن بن مخنف و أصحابه- و صار جنده فی جند المهلب- فضمهم إلى ابنه حبیب- فعیرهم البصریون و سموا جعفرا خضفه الجمل- .و قال رجل منهم لجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف-

ترکت أصحابکم تدمى نحورهم
و جئت تسعى إلینا خضفه الجمل‏

فلام المهلب أهل البصره- و قال بئسما قلتم و الله ما فروا و لا جبنوا- و لکنهم خالفوا أمیرهم- أ فلا تذکرون فرارکم بدولاب عنی- و فرارکم بدارس عن عثمان- . و وجه الحجاج البراء بن قبیصه إلى المهلب- یستحثه فی مناجزه القوم- و کتب إلیه إنک تحب بقاءهم لتأکل بهم- فقال المهلب لأصحابه حرکوهم- فخرج فرسان من أصحابه- فخرج إلیهم من الخوارج جمع کثیر- فاقتتلوا إلى اللیل- فقال لهم الخوارج ویلکم أ ما تملون- فقالوا لا حتى تملوا- فقالوا فمن أنتم قالوا تمیم-

فقالت الخوارج و نحن تمیم أیضا- فلما أمسوا افترقوا- فلما کان الغد خرج عشره من أصحاب المهلب- و خرج إلیهم من الخوارج عشره- و احتفر کل واحد منهم حفیره- و أثبت قدمیه فیها- کلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه- فاجتره و قام مکانه حتى أعتموا- فقال لهم الخوارج ارجعوا- فقالوا بل ارجعوا أنتم- قالوا لهم ویلکم من أنتم- قالوا تمیم قالوا و نحن‏تمیم أیضا- فرجع البراء بن قبیصه إلى الحجاج- فقال له مهیم قال- رأیت أیها الأمیر قوما لا یعین علیهم إلا الله- . و کتب المهلب جواب الحجاج- إنی منتظر بهم إحدى ثلاث- موتا ذریعا أو جوعا مضرا أو اختلافا من أهوائهم- . و کان المهلب لا یتکل فی الحراسه على أحد- کان یتولى ذلک بنفسه و یستعین علیه بولده- و بمن یحل محلهم فی الثقه عنده- . قال أبو حرمله العبدی یهجو المهلب و کان فی عسکره-

عدمتک یا مهلب من أمیر
أ ما تندى یمینک للفقیر

بدولاب أضعت دماء قومی‏
و طرت على مواشکه درور

فقال له المهلب ویحک- و الله إنی لاقیکم بنفسی و ولدی- قال جعلنی الله فداء الأمیر- فذاک الذی نکره منک ما کلنا یحب الموت- قال ویحک و هل عنه من محیص- قال لا و لکنا نکره التعجیل- و أنت تقدم علیه إقداما- قال المهلب ویلک أ ما سمعت قول الکلحبه الیربوعی-

فقلت لکأس ألجمیها فإنما
نزلنا الکثیب من زرود لنفزعا

فقال بلى قد سمعت و لکن قولی أحب إلی منه-

و لما وقفتم غدوه و عدوکم
إلى مهجتی ولیت أعداءکم ظهری‏

و طرت و لم أحفل ملامه جاهل‏
یساقی المنایا بالردینیه السمر

فقال المهلب- بئس حشو الکتیبه أنت و الله یا أبا حرمله- إن شئت أذنت لک فانصرفت إلى أهلک- قال بل أقیم معک أیها الأمیر- فوهب له المهلب و أعطاه فقال یمدحه-

یرى حتما علیه أبو سعید
جلاد القوم فی أولى النفیر

إذا نادى الشراه أبا سعید
مشى فی رفل محکمه القتیر

قال و کان المهلب یقول- ما یسرنی أن فی عسکری ألف شجاع مکان بیهس بن صهیب- فیقال له أیها الأمیر بیهس لیس بشجاع- فیقول أجل و لکنه سدید الرأی محکم العقل- و ذو الرأی حذر سئول- فأنا آمن أن یغتفل- و لو کان مکانه ألف شجاع- لخلت أنهم ینشامون حیث یحتاج إلیهم- . قال و مطرت السماء مطرا شدیدا و هم بسابور- و بین المهلب و بین الشراه عقبه- فقال المهلب من یکفینا أمر هذه العقبه اللیله- فلم یقم أحد فلبس المهلب سلاحه- و قام إلى العقبه و اتبعه ابنه المغیره- فقال رجل من أصحابه- دعانا الأمیر إلى ضبط العقبه- و الحظ فی ذلک لنا فلم نطعه- و لبس سلاحه و اتبعه جماعه من العسکر فصاروا إلیه- فإذا المهلب و المغیره و لا ثالث لهما- فقالوا انصرف أیها الأمیر- فنحن نکفیک إن شاء الله- فلما أصبحوا إذا هم بالشراه على العقبه- فخرج إلیهم غلام من أهل عمان على فرس- فجعل یحمل و فرسه تزلق- و یلقاه مدرک فی جماعه معه- حتى ردوهم عن العقبه- فلما کان یوم النحر و المهلب على المنبر یخطب الناس- إذ الشراه قد أکبوا-

فقال المهلب سبحان الله- أ فی مثل هذا الیوم یا مغیره اکفنیهم- فخرج إلیهم المغیره- و أمامه سعد بن نجد القردوسی- و کان سعد مقدما فی شجاعته- و کان الحجاج إذا ظن برجل أن نفسه قد أعجبته قال له- لو کنت سعد بن نجد القردوسی ما عدا- فخرج أمام المغیره و مع المغیره جماعه من فرسان المهلب فالتقوا- و أمام الخوارج غلام جامع السلاح- مدید القامه کریه الوجه شدید الحمله صحیح الفروسیه- فأقبل یحمل على الناس و یرتجز فیقول-

نحن صبحناکم غداه النحر
بالخیل أمثال الوشیج تجری‏

 فخرج إلیه سعد بن نجد القردوسی من الأزد- فتجاولا ساعه ثم طعنه سعد فقتله و التقى الناس- فصرع المغیره یومئذ- فحامى علیه سعد بن نجد و دینار السجستانی و جماعه من الفرسان- حتى رکب و انکشف الناس عند سقطه المغیره- حتى صاروا إلى المهلب فقالوا- قتل المغیره فأتاه دینار السجستانی فأخبره بسلامته- فأعتق کل مملوک کان بحضرته- .

قال و وجه الحجاج الجراح بن عبد الله إلى المهلب- یستبطئه فی مناجزه القوم و کتب إلیه- أما بعد فإنک جبیت الخراج بالعلل- و تحصنت بالخنادق و طاولت القوم- و أنت أعز ناصرا و أکثر عددا- و ما أظن بک مع هذا معصیه و لا جبنا- و لکنک اتخذتهم أکلا- و کان بقاؤهم أیسر علیک من قتالهم- فناجزهم و إلا أنکرتنی و السلام- . فقال المهلب للجراح یا أبا عقبه- و الله ما ترکت حیله إلا احتلتها و لا مکیده إلا أعملتها- و ما العجب من إبطاء النصره و تراخی الظفر- و لکن العجب أن یکون الرأی لمن یملکه دون من یبصره- . ثم ناهضهم ثلاثه أیام یغادیهم القتال- فلا یزالون کذلک إلى العصر- و ینصرف أصحابه و بهم قرح و بالخوارج قرح و قتل- فقال له الجراح قد أعذرت- . فکتب المهلب إلى الحجاج- أتانی کتابک تستبطئنی فی لقاء القوم- على أنک لا تظن بی معصیه و لا جبنا- و قد عاتبتنی معاتبه الجبان- و أوعدتنی وعید العاصی- فسل الجراح و السلام- .

فقال الحجاج للجراح کیف رأیت أخاک- قال و الله أیها الأمیر ما رأیت مثله قط- و لا ظننت أن أحدا یبقى على مثل ما هو علیه- و لقد شهدت أصحابه أیاما ثلاثه یغدون إلى الحرب- ثم ینصرفون عنها و هم یتطاعنون بالرماح- و یتجالدون بالسیوف‏ و یتخابطون بالعمد- ثم یروحون کأن لم یصنعوا شیئا- رواح قوم تلک عادتهم و تجارتهم- . فقال الحجاج- لشد ما مدحته أبا عقبه فقال الحق أولى- . و کانت رکب الناس قدیما من الخشب- فکان الرجل یضرب رکابه فینقطع- فإذا أراد الضرب أو الطعن لم یکن له معتمد- فأمر المهلب بضرب الرکب من الحدید- فهو أول من أمر بطبعها- و فی ذلک یقول عمران بن عصام العنزی-

ضربوا الدراهم فی إمارتهم
و ضربت للحدثان و الحرب‏

حلقا ترى منها مرافقهم‏
کمناکب الجماله الجرب‏

قال و کتب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الریاحی- من بنی ریاح بن یربوع و هو والی أصفهان- یأمره بالمسیر إلى المهلب- و أن یضم إلیه جند عبد الرحمن بن مخنف- فکل بلد یدخلانه من فتوح أهل البصره- فالمهلب أمیر الجماعه فیه- و أنت على أهل الکوفه- فإذا دخلتم بلدا فتحه أهل الکوفه- فأنت أمیر الجماعه و المهلب على أهل البصره- . فقدم عتاب فی إحدى جمادیین- من سنه ست و سبعین على المهلب و هو بسابور- و هی من فتوح أهل البصره- فکان المهلب أمیر الناس- و عتاب على أصحاب ابن مخنف- و الخوارج بأیدیهم کرمان- و هم بإزاء المهلب بفارس یحاربونه من جمیع النواحی- .

قال و وجه الحجاج إلى المهلب رجلین- یستحثانه لمناجزه القوم- أحدهما یقال له زیاد بن عبد الرحمن- من بنی عامر بن صعصعه- و الآخر من آل أبی عقیل من رهط الحجاج- فضم المهلب زیادا إلى ابنه حبیب- و ضم الثقفی إلى ابنه یزید و قال لهما- خذا یزید و حبیبا بالمناجزه و غادوا الخوارج- فاقتتلوا أشد قتال- فقتل زیاد بن عبد الرحمن العامری و فقد الثقفی- ثم باکروهم فی الیوم الثانی- و قد وجد الثقفی فدعا به المهلب و دعا بالغداء- فجعل النبل یقع قریبا منهم و یتجاوزهم- و الثقفی یعجب من أمر المهلب فقال الصلتان العبدی-

ألا یا أصبحانی قبل عوق العوائق
و قبل اختراط القوم مثل العقائق‏

غداه حبیب فی الحدید یقودنا
یخوض المنایا فی ظلال الخوافق‏

حرون إذا ما الحرب طار شرارها
و هاج عجاج النقع فوق المفارق‏

فمن مبلغ الحجاج أن أمینه‏
زیادا أطاحته رماح الأزارق‏

 فلم یزل عتاب بن ورقاء مع المهلب ثمانیه أشهر- حتى ظهر شبیب بن یزید- فکتب الحجاج إلى عتاب یأمره بالمصیر إلیه- لیوجهه إلى شبیب- و کتب إلى المهلب یأمره أن یرزق الجند- فرزق أهل البصره و أبى أن یرزق أهل الکوفه- فقال له عتاب ما أنا ببارح حتى ترزق أهل الکوفه- فأبى فجرت بینهما غلظه فقال له عتاب- قد کان یبلغنی أنک شجاع فرأیتک جبانا- و کان یبلغنی أنک جواد فرأیتک بخیلا- فقال له المهلب یا ابن اللخناء- فقال له عتاب لکنک معم مخول- .

فغضبت بکر بن وائل للمهلب للحلف- و وثب نعیم بن هبیره- ابن أخی مصقله بن هبیره على عتاب فشتمه- و قد کان المهلب کارها للحلف- فلما رأى نصره بکر بن وائل له سره و اغتبط به- فلم یزل یؤکده و غضبت تمیم البصره لعتاب- و غضبت أزد الکوفه للمهلب- فلما رأى ذلک المغیره مشى بین أبیه و بین عتاب- و قال لعتاب یا أبا ورقاء- إن الأمیر یصیر إلى کل ما تحب- و سأل أباه أن یرزق أهل الکوفه- ففعل فصلح الأمر فکانت تمیم قاطبه و عتاب بن ورقاء- یحمدون المغیره بن المهلب- و کان عتاب یقول إنی لأعرف فضله على أبیه- . و قال رجل من الأزد من بنی أیاد بن سود-

ألا أبلغ أبا ورقاء عنا
فلو لا أننا کنا غضابا

على الشیخ المهلب إذ جفانا
للاقت خیلکم منا ضرابا

قال و کان المهلب یقول لبنیه- لا تبدءوا الخوارج بقتال حتى یبدءوکم و یبغوا علیکم- فإنهم إذا بغوا علیکم نصرتم علیهم- . فشخص عتاب إلى الحجاج فی سنه سبع و سبعین- فوجهه إلى شبیب فقتله شبیب- . و أقام المهلب على حربهم- فلما انقضى من مقامه ثمانیه عشر شهرا- اختلفوا و افترقت کلمتهم- و کان سبب اختلافهم أن رجلا حدادا من الأزارقه- کان یعمل نصالا مسمومه فیرمی بها أصحاب المهلب- فرفع ذلک إلى المهلب- فقال أنا أکفیکموه إن شاء الله- فوجه رجلا من أصحابه بکتاب و ألف درهم إلى عسکر قطری- فقال له ألق هذا الکتاب فی العسکر و الدراهم- و احذر على نفسک و کان الحداد یقال له أبزى- فمضى الرجل و کان فی الکتاب- أما بعد فإن نصالک قد وصلت إلی- و قد وجهت إلیک بألف درهم- فاقبضها و زدنا من هذه النصال- .

فوقع الکتاب إلى قطری فدعا بأبزى- فقال ما هذا الکتاب قال لا أدری- قال فما هذه الدراهم قال لا أعلم- فأمر به فقتل- فجاءه عبد ربه الصغیر مولى بنی قیس بن ثعلبه- فقال له أ قتلت رجلا على غیر ثقه و لا تبین- قال قطری فما حال هذه الألف- قال یجوز أن یکون أمرها کذبا- و یجوز أن یکون حقا فقال قطری- إن قتل رجل فی صلاح الناس غیر منکر- و للإمام أن یحکم بما رآه صلاحا- و لیس للرعیه أن تعترض علیه- فتنکر له عبد ربه فی جماعه معه و لم یفارقوه- . و بلغ ذلک المهلب فدس إلیهم رجلا نصرانیا- جعل له جعلا یرغب فی مثله- و قال له إذا رأیت قطریا فاسجد له- فإذا نهاک فقل إنما سجدت لک- ففعل ذلک النصرانی- فقال قطری إنما السجود لله تعالى-

فقال ما سجدت إلا لک فقال رجل من الخوارج- إنه قد عبدک من دون الله و تلا- إِنَّکُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ- أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ- فقال قطری- إن النصارى قد عبدوا عیسى ابن مریم- فما ضر عیسى ذلک شیئا- فقام رجل من الخوارج إلى النصرانی فقتله- فأنکر قطری ذلک علیه- و أنکر قوم من الخوارج إنکاره- . و بلغ المهلب ذلک- فوجه إلیهم رجلا یسألهم فأتاهم الرجل- فقال أ رأیتم رجلین خرجا مهاجرین إلیکم- فمات أحدهما فی الطریق و بلغ الآخر إلیکم- فامتحنتموه فلم یجز المحنه ما تقولون فیهما- فقال بعضهم أما المیت فمؤمن من أهل الجنه- و أما الذی لم یجز المحنه فکافر حتى یجیز المحنه- . و قال قوم آخرون- بل هما کافران حتى یجیز المحنه فکثر الاختلاف- . و خرج قطری إلى حدود إصطخر فأقام شهرا- و القوم فی اختلافهم ثم أقبل- فقال‏ لهم صالح بن مخراق یا قوم- إنکم أقررتم عین عدوکم- و أطمعتموه فیکم بما یظهر من خلافکم- فعودوا إلى سلامه القلوب و اجتماع الکلمه- . و خرج عمرو القنا و هو من بنی سعد بن زید مناه بن تمیم- فنادى یا أیها المحلون- هل لکم فی الطراد فقد طال عهدی به ثم قال-

أ لم تر أنا مذ ثلاثین لیله
جدیب و أعداء الکتاب على خفض‏

فتهایج القوم و أسرع بعضهم إلى بعض- و کانت الوقعه و أبلى یومئذ المغیره بن المهلب- و صار فی وسط الأزارقه فجعلت الرماح تحطه و ترفعه- و اعتورت رأسه السیوف و علیه ساعد حدید- فوضع یده على رأسه فلم یعمل السیف فیه شیئا- و استنقذه فرسان من الأزد بعد أن صرع- و کان الذی صرعه عبیده بن هلال- بن یشکر بن بکر بن وائل و کان یقول یومئذ-

أنا ابن خیر قومه هلال
شیخ على دین أبی بلال‏
و ذاک دینی آخر اللیالی‏

فقال رجل للمغیره- کنا نعجب کیف تصرع و الآن نعجب کیف تنجو- و قال المهلب لبنیه- إن سرحکم لغار و لست آمنهم علیه- أ فوکلتم به أحدا قالوا لا فلم یستتم الکلام حتى أتاه آت- فقال إن صالح بن مخراق قد أغار على السرح- فشق على المهلب و قال- کل أمر لا إلیه بنفسی فهو ضائع و تذمر علیهم- فقال له بشر بن المغیره أرح نفسک- فإن کنت إنما ترید مثلک- فو الله ما یعدل خیرنا شسع نعلک-فقال خذوا علیهم الطریق- فبادر بشر بن المغیره و مدرک و المفضل ابنا المهلب- فسبق بشر إلى الطریق- فإذا رجل أسود من الأزارقه- یشل السرح و هو یقول-

نحن قمعناکم بشل السرح
و قد نکانا القرح بعد القرح‏

 و لحقه المفضل و مدرک فصاحا برجل من طیئ- اکفنا الأسود فاعتوره الطائی و بشر بن المغیره فقتلاه- و أسرا رجلا من الأزارقه من همدان- و استردا السرح- . قال و کان عیاش الکندی شجاعا بئیسا فأبلی یومئذ- فلما مات على فراشه بعد ذلک- قال المهلب لا وألت نفس الجبان بعد عیاش- و قال المهلب ما رأیت تالله کهؤلاء القوم- کلما انتقص منهم یزید فیهم- . و وجه الحجاج رجلین إلى المهلب یستحثانه بالقتال- أحدهما من کلب و الآخر من سلیم- فقال المهلب متمثلا بشعر لأوس بن حجر-

و مستعجب مما یرى من أناتنا
و لو زبنته الحرب لم یترمرم‏

فقال المهلب لیزید ابنه حرک القوم- فحرکهم فتهایجوا- و ذلک فی قریه من قرى إصطخر- فحمل رجل من الخوارج على رجل- من أصحاب المهلب و طعنه- فشک فخذه بالسرج- فقال المهلب للسلمی و الکلبی- کیف یقاتل قوم هذا طعنهم- و حمل‏یزید علیهم- و قد جاء الرقاد و هو من فرسان المهلب- و هو أحد بنی مالک بن ربیعه على فرس له أدهم- و به نیف و عشرون جراحه و قد وضع علیها القطن- فلما حمل یزید ولى الجمع و حماهم فارسان منهم- فقال یزید لقیس الخشنی مولى العتیک من لهذین- قال أنا فحمل علیهما- فعطف علیه أحدهما فطعنه قیس فصرعه- و حمل علیه الآخر فتعانقا- فسقطا جمیعا إلى الأرض- فصاح قیس الخشنی اقتلونا جمیعا- فحملت خیل هؤلاء و خیل هؤلاء فحجزوا بینهما- فإذا معانق قیس امرأه فقام قیس مستحییا- فقال له یزید یا أبا بشر- أما أنت فبارزتها على أنها رجل- فقال أ رأیت لو قتلت أ ما کان یقال قتلته امرأه- و أبلى یومئذ ابن المنجب السدوسی- فقال غلام له یقال له خلاج- و الله لوددنا أنا فضضنا عسکرهم حتى نصیر إلى مستقرهم- فاستلب مما هناک جاریتین- فقال له مولاه ابن المنجب- و کیف تمنیت ویحک اثنتین- فقال لأعطیک إحداهما و آخذ الأخرى- فقال ابن المنجب-

أ خلاج إنک لن تعانق طفله
شرقا بها الجادی کالتمثال‏

حتى تلاقی فی الکتیبه معلما
عمرو القنا و عبیده بن هلال‏

و ترى المقعطر فی الفوارس مقدما
فی عصبه نشطوا على الضلال‏

أو أن یعلمک المهلب غزوه
و ترى جبالا قد دنت لجبال‏

قال و کان بدر بن الهذیل من أصحاب المهلب شجاعا- و کان لحانه کان إذا أحس بالخوارج ینادی- یا خیل الله ارکبی و إلیه یشیر القائل-

و إذا طلبت إلى المهلب حاجه
عرضت توابع دونه و عبید

العبد کردس و بدر مثله‏
و علاج باب الأحمرین شدید

قال و کان بشر بن المغیره بن أبی صفره- أبلى یومئذ بلاء حسنا عرف مکانه فیه- و کانت بینه و بین المهلب جفوه- فقال لبنیه یا بنی عم- إنی قد قصرت عن شکاه العاتب- و جاوزت شکاه المستعتب- حتى کأنی لا موصول و لا محروم- فاجعلوا لی فرجه أعیش بها- و هبونی امرأ رجوتم نصره أو خفتم لسانه- فرجعوا له و وصلوه و کلموا فیه المهلب فوصله- . و ولى الحجاج کردما فارس- و وجهه إلیها و الحرب قائمه- فقال رجل من أصحاب المهلب-

و لو رآها کردم لکردما
کردمه العیر أحس الضیغما

فکتب المهلب إلى الحجاج یسأله- أن یتجافى له عن إصطخر و دارابجرد لأرزاق الجند ففعل- و قد کان قطری هدم مدینه إصطخر- لأن أهلها کانوا یکاتبون المهلب بأخباره- و أراد مثل ذلک بمدینه فسا- فاشتراها منه آزاذ مرد بن الهربذ بمائه ألف درهم-فلم یهدمها فواقعه وجه المهلب فهزمه- فنفاه إلى کرمان و اتبعه المغیره ابنه- و قد کان دفع إلیه سیفا وجه به الحجاج إلى المهلب- و أقسم علیه أن یتقلده فدفعه إلى المغیره بعد ما تقلده- فرجع به المغیره إلیه و قد دماه فسر المهلب- و قال ما یسرنی أن یکون کنت دفعته إلى غیرک من ولدی- و قال له اکفنی جبایه خراج هاتین الکورتین و ضم إلیه الرقاد- فجعلا یجبیان و لا یعطیان الجند شیئا- ففی ذلک یقول رجل من بنی تمیم فی کلمه له-

و لو علم ابن یوسف ما نلاقی
من الآفات و الکرب الشداد

لفاضت عینه جزعا علینا
و أصلح ما استطاع من الفساد

ألا قل للأمیر جزیت خیرا
أرحنا من مغیره و الرقاد

فما رزق الجنود بهم قفیزا
و قد ساست مطامیر الحصاد

أی وقع فیها السوس- . قال ثم حاربهم المهلب بالسیرجان- حتى نفاهم عنها إلى جیرفت و اتبعهم و نزل قریبا منهم- . ثم اختلفت کلمه الخوارج- و کان سبب ذلک أن عبیده بن هلال اتهم بامرأه رجل نجار- رأوه یدخل مرارا إلیها بغیر إذن- فأتى قطریا فذکروا ذلک له- فقال لهم إن عبیده من الدین بحیث علمتم- و من الجهاد بحیث رأیتم- فقالوا إنا لا نقار على الفاحشه فقال‏ انصرفوا- ثم بعث إلى عبیده فأخبره- و قال له أنا لا أقار على الفاحشه-

فقال بهتونی یا أمیر المؤمنین فما ترى- قال إنی جامع بینک و بینهم- فلا تخضع خضوع المذنب- و لا تتطاول تطاول البری‏ء فجمع بینهم فتکلموا- فقام عبیده فقال بسم الله الرحمن الرحیم- إِنَّ الَّذِینَ جاؤُ بِالْإِفْکِ عُصْبَهٌ مِنْکُمْ… حتى تلا الآیات- فبکوا و قاموا إلیه فاعتنقوه- و قالوا استغفر لنا ففعل- فقال عبد ربه الصغیر مولى بنی قیس بن ثعلبه- و الله لقد خدعکم فتابع عبد ربه منهم ناس کثیر- و لم یظهروا و لم یجدوا على عبیده فی إقامه الحد ثبتا- . و کان قطری قد استعمل رجلا من الدهاقین- فظهرت له أموال کثیره فأتوا قطریا فقالوا- إن عمر بن الخطاب لم یکن یقار عماله على مثل هذا-

فقال قطری إنی استعملته و له ضیاع و تجارات- فأوغر ذلک صدورهم و بلغ المهلب ذلک- فقال اختلافهم أشد علیهم منی- ثم قالوا لقطری أ لا تخرج بنا إلى عدونا- فقال لا ثم خرج فقالوا قد کذب و ارتد فاتبعوه یوما- فأحس بالشر و دخل دارا مع جماعه من أصحابه- فاجتمعوا علیه و صاحوا اخرج إلینا یا دابه- فخرج إلیهم فقال أ رجعتم بعدی کفارا- قالوا أ و لست دابه قال الله تعالى- وَ ما مِنْ دَابَّهٍ فِی الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها- و لکنک قد کفرت بقولک- أنا قد رجعنا کفارا فتب إلى الله فشاور عبیده فی ذلک- فقال له إن تبت لم یقبلوا منک- فقل إنی استفهمت فقلت أ رجعتم بعدی کفارا- فقال لهم ذلک فقبلوا منه فرجع إلى منزله

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۴

بازدیدها: ۲۱۷

خطبه ۵۶ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۵۶ و من کلام له ع لأصحابه

أَمَا إِنَّهُ سَیَظْهَرُ عَلَیْکُمْ بَعْدِی رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ- مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ یَأْکُلُ مَا یَجِدُ وَ یَطْلُبُ مَا لَا یَجِدُ- فَاقْتُلُوهُ وَ لَنْ تَقْتُلُوهُ- أَلَا وَ إِنَّهُ سَیَأْمُرُکُمْ بِسَبِّی وَ الْبَرَاءَهِ مِنِّی- فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِی فَإِنَّهُ لِی زَکَاهٌ وَ لَکُمْ نَجَاهٌ- وَ أَمَّا الْبَرَاءَهُ فَلَا تَتَبَرَّءُوا مِنِّی- فَإِنِّی وُلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَهِ وَ سَبَقْتُ إِلَى الْإِیمَانِ وَ الْهِجْرَهِ مندحق البطن بارزها- و الدحوق من النوق التی یخرج رحمها عند الولاده- و سیظهر سیغلب و رحب البلعوم واسعه- . و کثیر من الناس یذهب إلى أنه ع عنى زیادا- و کثیر منهم یقول إنه عنى الحجاج- و قال قوم إنه عنى المغیره بن شعبه- و الأشبه عندی أنه عنى معاویه- لأنه کان موصوفا بالنهم و کثره الأکل و کان بطینا- یقعد بطنه إذا جلس على فخذیه- و کان معاویه جوادا بالمال و الصلات و بخیلا على الطعام- یقال إنه مازح أعرابیا على طعامه- و قد قدم بین یدیه خروف- فأمعن الأعرابی فی أکله فقال له- ما ذنبه إلیک أ نطحک أبوه- فقال الأعرابی و ما حنوک علیه أ أرضعتک أمه- . و قال لأعرابی یأکل بین یدیه و قد استعظم أکله- أ لا أبغیک سکینا فقال‏ کل امرئ سکینه فی رأسه فقال- ما اسمک قال لقیم قال منها أتیت- . کان معاویه یأکل فیکثر ثم یقول ارفعوا- فو الله ما شبعت و لکن مللت و تعبت- . تظاهرت الأخبار-أن رسول الله ص دعا على معاویه لما بعث إلیه یستدعیه- فوجده یأکل ثم بعث فوجده یأکل- فقال اللهم لا تشبع بطنه- قال الشاعر-

و صاحب لی بطنه کالهاویه
کأن فی أحشائه معاویه

و فی هذا الفصل مسائل- الأولى فی تفسیر قوله ع فاقتلوه و لن تقتلوه فنقول- إنه لا تنافی بین الأمر بالشی‏ء و الإخبار عن أنه لا یقع- کما أخبر الحکیم سبحانه- عن أن أبا لهب لا یؤمن و أمره بالإیمان و کما قال تعالى- فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ- ثم قال وَ لا یَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً- و أکثر التکلیفات على هذا المنهاج

مسأله کلامیه فی الأمر بالشی‏ء مع العلم بأنه لا یقع

و اعلم أن أهل العدل و المجبره لم یختلفوا- فی أنه تعالى قد یأمر بما یعلم أنه لا یقع- أو یخبر عن أنه لا یقع و إنما اختلفوا- هل یصح أن یرید ما یعلم أنه لا یقع أو یخبر عنه أنه لا یقع- فقال أصحابنا یصح ذلک و قال المجبره لا یصح- لأن إراده ما یعلم المرید أنه لا یقع قضیه متناقضه- لأن تحت قولنا أراد- مفهوم أن ذلک المراد مما یمکن حصوله- لأن إراده المحال ممتنعه- و تحت قولنا إنه یعلم أنه لا یقع- مفهوم أن ذلک المراد مما لا یمکن حصوله- لأنا قد فرضنا أنه لا یقع- و ما لا یقع لا یمکن حصوله مع فرض کونه لا یقع- فقال لهم أصحابنا هذا یلزمکم فی الأمر- لأنکم قد أجزتم أن یأمر بما یعلم أنه لا یقع- فقالوا فی الجواب نحن عندنا أنه یأمر بما لا یرید- فإذا أمر بما یعلم أنه لا یقع أو یخبر عن أنه لا یقع- کان ذلک الأمر أمرا عاریا عن الإراده- و المحال إنما نشأ من إراده ما علم المرید أنه لا یقع- و هاهنا لا إراده- .

فقیل لهم هب أنکم ذهبتم- إلى أن الأمر قد یعرى من الإراده مع کونه أمرا- أ لستم تقولون أن الأمر یدل على الطلب- و الطلب شی‏ء آخر غیر الإراده- و تقولون إن ذلک الطلب قائم بذات البارئ- فنحن نلزمکم فی الطلب القائم بذات البارئ- الذی لا یجوز أن یعرى الأمر منه ما ألزمتمونا فی الإراده- . و نقول لکم- کیف یجوز أن یطلب الطالب ما یعلم أنه لا یقع- أ لیس تحت قولنا طلب مفهوم- أن ذلک المطلوب مما یمکن وقوعه- فالحال فی الطلب کالحال فی الإراده حذو النعل بالنعل- و لنا فی هذا الموضع أبحاث دقیقه- ذکرناها فی کتبنا الکلامیه
فصل فیما روی من سب معاویه و حزبه لعلی المسأله الثانیه فی قوله ع- یأمرکم بسبی و البراءه منی-

فنقول إن معاویه أمر الناس بالعراق و الشام- و غیرهما بسب علی ع و البراءه منه- . و خطب بذلک على منابر الإسلام- و صار ذلک سنه فی أیام بنی أمیه- إلى أن قام عمر بن عبد العزیز رضی الله تعالى عنه فأزاله- و ذکر شیخنا أبو عثمان الجاحظ- أن معاویه کان یقول فی آخر خطبه الجمعه- اللهم إن أبا تراب ألحد فی دینک- و صد عن سبیلک‏ فالعنه لعنا وبیلا و عذبه عذابا ألیما- و کتب بذلک إلى الآفاق- فکانت هذه الکلمات- یشار بها على المنابر إلى خلافه عمر بن عبد العزیز- . و ذکر أبو عثمان أیضا- أن هشام بن عبد الملک لما حج خطب بالموسم- فقام إلیه إنسان فقال یا أمیر المؤمنین- إن هذا یوم کانت الخلفاء تستحب فیه لعن أبی تراب- فقال اکفف فما لهذا جئنا- . و ذکر المبرد فی الکامل أن خالد بن عبد الله القسری- لما کان أمیر العراق فی خلافه هشام- کان یلعن علیا ع على المنبر فیقول- اللهم العن علی بن أبی طالب بن عبد المطلب بن هاشم- صهر رسول الله ص على ابنته و أبا الحسن و الحسین- ثم یقبل على الناس فیقول هل کنیت- .

و روى أبو عثمان أیضا- أن قوما من بنی أمیه قالوا لمعاویه یا أمیر المؤمنین- إنک قد بلغت ما أملت فلو کففت عن لعن هذا الرجل- فقال لا و الله حتى یربو علیه الصغیر- و یهرم علیه الکبیر و لا یذکر له ذاکر فضلا- . و قال أبو عثمان أیضا- و ما کان عبد الملک مع فضله و أناته و سداده و رجحانه- ممن یخفى علیه فضل علی ع- و أن لعنه على رءوس الأشهاد و فی أعطاف الخطب- و على صهوات المنابر مما یعود علیه نقصه- و یرجع إلیه وهنه لأنهما جمیعا من بنی عبد مناف- و الأصل واحد و الجرثومه منبت لهما- و شرف علی ع و فضله عائد علیه و محسوب له- و لکنه أراد تشیید الملک و تأکید ما فعله الأسلاف- و أن یقرر فی أنفس الناس- أن بنی هاشم لا حظ لهم فی هذا الأمر- و أن سیدهم الذی به یصولون و بفخره یفخرون-هذا حاله و هذا مقداره- فیکون من ینتمی إلیه و یدلی به عن الأمر أبعد- و عن الوصول إلیه أشحط و أنزح- .

و روى أهل السیره- أن الولید بن عبد الملک فی خلافته ذکر علیا ع- فقال لعنه الله بالجر کان لص ابن لص- . فعجب الناس من لحنه فیما لا یلحن فیه أحد- و من نسبته علیا ع إلى اللصوصیه- و قالوا ما ندری أیهما أعجب و کان الولید لحانا- . و أمر المغیره بن شعبه- و هو یومئذ أمیر الکوفه من قبل معاویه- حجر بن عدی أن یقوم فی الناس- فلیلعن علیا ع فأبى ذلک فتوعده- فقام فقال أیها الناس- إن أمیرکم أمرنی أن ألعن علیا فالعنوه- فقال أهل الکوفه لعنه الله- و أعاد الضمیر إلى المغیره بالنیه و القصد- . و أراد زیاد أن یعرض أهل الکوفه أجمعین- على البراءه من علی ع- و لعنه و أن یقتل کل من امتنع من ذلک و یخرب منزله- فضربه الله ذلک الیوم بالطاعون- فمات لا رحمه الله بعد ثلاثه أیام- و ذلک فی خلافه معاویه- . و کان الحجاج لعنه الله یلعن علیا ع و یأمر بلعنه- و قال له متعرض به یوما و هو راکب أیها الأمیر- إن أهلی عقونی فسمونی علیا فغیر اسمی- و صلنی بما أتبلغ به فإنی فقیر- فقال للطف ما توصلت به قد سمیتک کذا- و ولیتک العمل الفلانی فاشخص إلیه- . فأما عمر بن عبد العزیز رضی الله عنه فإنه قال- کنت غلاما أقرأ القرآن على بعض ولد عتبه بن مسعود- فمر بی یوما و أنا ألعب مع الصبیان- و نحن نلعن علیا- .

فکره ذلک و دخل المسجد- فترکت الصبیان و جئت إلیه لأدرس علیه وردی- فلما رآنی قام فصلى- و أطال فی الصلاه شبه المعرض عنی- حتى أحسست منه بذلک- فلما انفتل من صلاته کلح فی وجهی- فقلت له ما بال الشیخ- فقال لی یا بنی أنت اللاعن علیا منذ الیوم قلت نعم- قال فمتى علمت أن الله سخط على أهل بدر- بعد أن رضی عنهم- فقلت یا أبت و هل کان علی من أهل بدر- فقال ویحک و هل کانت بدر کلها إلا له- فقلت لا أعود فقال الله أنک لا تعود- قلت نعم فلم ألعنه بعدها- ثم کنت أحضر تحت منبر المدینه- و أبی یخطب یوم الجمعه و هو حینئذ أمیر المدینه- فکنت أسمع أبی یمر فی خطبه تهدر شقاشقه- حتى یأتی إلى لعن علی ع فیجمجم- و یعرض له من الفهاهه و الحصر ما الله عالم به- فکنت أعجب من ذلک- فقلت له یوما یا أبت أنت أفصح الناس و أخطبهم- فما بالی أراک أفصح خطیب یوم حفلک- حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألکن علیا- فقال یا بنی إن من ترى تحت منبرنا من أهل الشام و غیرهم- لو علموا من فضل هذا الرجل- ما یعلمه أبوک لم یتبعنا منهم أحد- فوقرت کلمته فی صدری- مع ما کان قاله لی معلمی أیام صغری- فأعطیت الله عهدا- لئن کان لی فی هذا الأمر نصیب لأغیرنه- فلما من الله علی بالخلافه أسقطت ذلک و جعلت مکانه- إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبى‏- وَ یَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ وَ الْبَغْیِ- یَعِظُکُمْ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ- و کتب به إلى الآفاق فصار سنه- . و قال کثیر بن عبد الرحمن یمدح عمر و یذکر قطعه السب-

ولیت فلم تشتم علیا و لم تخف
بریا و لم تقبل إساءه مجرم‏

و کفرت بالعفو الذنوب مع الذی‏
أتیت فأضحى راضیا کل مسلم‏

ألا إنما یکفی الفتى بعد زیغه
من الأود البادی ثقاف المقوم‏

و ما زلت تواقا إلى کل غایه
بلغت بها أعلى العلاء المقدم‏

فلما أتاک الأمر عفوا و لم یکن
لطالب دنیا بعده من تکلم‏

ترکت الذی یفنى لأن کان بائدا
و آثرت ما یبقى برأی مصمم‏

و قال الرضی أبو الحسن رحمه الله تعالى-

یا ابن عبد العزیز لو بکت العین
فتى من أمیه لبکیتک‏

غیر أنی أقول أنک قد طبت‏
و إن لم یطب و لم یزک بیتک‏

أنت نزهتنا عن السب و القذف
فلو أمکن الجزاء جزیتک‏

و لو أنی رأیت قبرک لاستحییت‏
من أن أرى و ما حییتک‏

و قلیل أن لو بذلت دماء
البدن صرفا على الذرا و سقیتک‏

دیر سمعان فیک مأوى أبی حفص‏
بودی لو أننی آویتک‏

دیر سمعان لا أغبک غیث
خیر میت من آل مروان میتک‏

أنت بالذکر بین عینی و قلبی‏
إن تدانیت منک أو إن نأیتک‏

و إذا حرک الحشا خاطر منک
توهمت أننی قد رأیتک‏

و عجیب أنی قلیت بنی مروان‏
طرا و أننی ما قلیتک‏

قرب العدل منک لما نأى الجور
بهم فاجتویتهم و اجتبیتک‏

فلو أنی ملکت دفعا لما نابک‏
من طارق الردى لفدیتک‏

و روى ابن الکلبی عن أبیه- عن عبد الرحمن بن السائب- قال قال الحجاج یوما لعبد الله بن هانئ- و هو رجل من بنی أود حی من قحطان- و کان شریفا فی قومه- قد شهد مع الحجاج مشاهده کلها- و کان من أنصاره و شیعته- و الله ما کافأتک بعد- ثم أرسل إلى أسماء بن خارجه سید بنی فزاره- أن زوج عبد الله بن هانئ بابنتک- فقال لا و الله و لا کرامه فدعا بالسیاط- فلما رأى الشر قال نعم أزوجه- ثم بعث إلى سعید بن قیس الهمدانی رئیس الیمانیه- زوج ابنتک من عبد الله بن أود-

فقال و من أود لا و الله لا أزوجه و لا کرامه- فقال علی بالسیف- فقال دعنی حتى أشاور أهلی فشاورهم- فقالوا زوجه و لا تعرض نفسک لهذا الفاسق فزوجه- فقال الحجاج لعبد الله- قد زوجتک بنت سید فزاره و بنت سید همدان- و عظیم کهلان و ما أود هناک- فقال لا تقل أصلح الله الأمیر ذاک- فإن لنا مناقب لیست لأحد من العرب- قال و ما هی- قال ما سب أمیر المؤمنین عبد الملک فی ناد لنا قط- قال منقبه و الله- قال و شهد منا صفین مع أمیر المؤمنین معاویه سبعون رجلا- ما شهد منا مع أبی تراب إلا رجل واحد- و کان و الله ما علمته امرأ سوء- قال منقبه و الله- قال و منا نسوه نذرن- إن قتل الحسین بن علی- أن تنحر کل واحده عشر قلائص ففعلن- قال منقبه و الله- قال و ما منا رجل عرض علیه شتم أبی تراب و لعنه- إلا فعل و زاد ابنیه حسنا و حسینا و أمهما فاطمه- قال منقبه و الله- قال و ما أحد من العرب له من الصباحه و الملاحه ما لنا- فضحک الحجاج- و قال أما هذه یا أبا هانئ فدعها- و کان عبد الله دمیما شدید الأدمه مجدورا- فی رأسه عجر مائل الشدق- أحول قبیح الوجه شدید الحول- . و کان عبد الله بن الزبیر یبغض علیا ع- و ینتقصه و ینال من عرضه- .

و روى عمر بن شبه و ابن الکلبی و الواقدی- و غیرهم من رواه السیر- أنه مکث أیام ادعائه الخلافه أربعین جمعه- لا یصلی فیها على النبی ص- و قال لا یمنعنی من ذکره إلا أن تشمخ رجال بآنافها- . و فی روایه محمد بن حبیب و أبی عبیده معمر بن المثنى- أن له أهیل سوء ینغضون رءوسهم عند ذکره- . و روى سعید بن جبیر أن عبد الله بن الزبیر- قال لعبد الله بن عباس- ما حدیث أسمعه عنک- قال و ما هو قال تأنیبی و ذمی-فقال إنی سمعت رسول الله ص یقول- بئس المرء المسلم یشبع و یجوع جارهفقال ابن الزبیر- إنی لأکتم بغضکم أهل هذا البیت منذ أربعین سنه- و ذکر تمام الحدیث- .

و روى عمر بن شبه أیضا عن سعید بن جبیر- قال خطب عبد الله بن الزبیر فنال من علی ع- فبلغ ذلک محمد بن الحنفیه- فجاء إلیه و هو یخطب- فوضع له کرسی فقطع علیه خطبته- و قال یا معشر العرب شاهت الوجوه- أ ینتقص علی و أنتم حضور- إن علیا کان ید الله على أعداء الله- و صاعقه من أمره أرسله على الکافرین و الجاحدین لحقه- فقتلهم بکفرهم فشنئوه و أبغضوه- و أضمروا له الشنف و الحسد- و ابن عمه ص حی بعد لم یمت- فلما نقله الله إلى جواره و أحب له ما عنده- أظهرت له رجال أحقادها و شفت أضغانها- فمنهم من ابتز حقه و منهم من ائتمر به لیقتله- و منهم من شتمه و قذفه بالأباطیل- فإن یکن لذریته و ناصری دعوته دوله تنشر عظامهم- و تحفر على أجسادهم و الأبدان منهم یومئذ بالیه- بعد أن تقتل الأحیاء منهم و تذل رقابهم- فیکون الله عز اسمه قد عذبهم بأیدینا و أخزاهم- و نصرنا علیهم و شفا صدورنا منهم- إنه و الله ما یشتم علیا إلا کافر- یسر شتم رسول الله ص- و یخاف أن یبوح به-فیکنی بشتم علی ع عنه- أما إنه قد تخطت المنیه منکم من امتد عمره- و سمعقول رسول الله ص فیه لا یحبک إلا مؤمن و لا یبغضک إلا منافقوَ سَیَعْلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَیَّ مُنْقَلَبٍ یَنْقَلِبُونَ فعاد ابن الزبیر إلى خطبته- و قال عذرت بنی الفواطم یتکلمون- فما بال ابن أم حنیفه- فقال محمد یا ابن أم رومان- و ما لی لا أتکلم- و هل فاتنی من الفواطم إلا واحده- و لم یفتنی فخرها- لأنها أم أخوی- أنا ابن فاطمه بنت عمران بن عائذ بن مخزوم- جده رسول الله ص- و أنا ابن فاطمه بنت أسد بن هاشم- کافله رسول الله ص و القائمه مقام أمه- أما و الله لو لا خدیجه بنت خویلد- ما ترکت فی بنی أسد بن عبد العزى عظما إلا هشمته- ثم قام فانصرف

فصل فی ذکر الأحادیث الموضوعه فی ذم علی

و ذکر شیخنا أبو جعفر الإسکافی رحمه الله تعالى- و کان من المتحققین بموالاه علی ع و المبالغین فی تفضیله- و إن کان القول بالتفضیل عاما شائعا فی البغدادیین من أصحابنا کافه- إلا أن أبا جعفر أشدهم فی ذلک قولا- و أخلصهم فیه اعتقادا- أن معاویه وضع قوما من الصحابه و قوما من التابعین- على روایه أخبار قبیحه فی علی ع- تقتضی الطعن فیه و البراءه منه- و جعل لهم على ذلک جعلا یرغب فی مثله- فاختلقوا ما أرضاه- منهم أبو هریره و عمرو بن العاص و المغیره بن شعبه- و من التابعین عروه بن الزبیر- .

روى الزهری أن عروه بن الزبیر حدثه قال حدثتنی عائشه قالت کنت عندرسول الله إذ أقبل العباس و علی- فقال یا عائشه إن هذین یموتان على غیر ملتی أو قال دینی- .

و روى عبد الرزاق عن معمر- قال کان عند الزهری حدیثان عن عروه عن عائشه فی علی ع- فسألته عنهما یوما- فقال ما تصنع بهما و بحدیثهما الله أعلم بهما- إنی لأتهمهما فی بنی هاشم- . قال فأما الحدیث الأول فقد ذکرناه- و أما الحدیث الثانی فهو أن عروه زعم أن عائشه حدثته-قالت کنت عند النبی ص- إذ أقبل العباس و علی- فقال یا عائشه- إن سرک أن تنظری إلى رجلین من أهل النار- فانظری إلى هذین قد طلعا- فنظرت فإذا العباس و علی بن أبی طالب- .

و أما عمرو بن العاص- فروی عنه الحدیث الذی أخرجه البخاری و مسلم- فی صحیحیهما مسندا متصلا بعمرو بن العاص-قال سمعت رسول الله ص یقول إن آل أبی طالب لیسوا لی بأولیاء- إنما ولیی الله و صالح المؤمنینو أما أبو هریره: فروی عنه الحدیث- الذی معناه أن علیا ع خطب ابنه أبی جهل- فی حیاه رسول الله ص فأسخطه فخطب على المنبر- و قال لاها الله- لا تجتمع ابنه ولی الله و ابنه عدو الله أبی جهل- إن فاطمه بضعه منی یؤذینی ما یؤذیها- فإن کان علی یرید ابنه أبی جهل- فلیفارق ابنتی و لیفعل ما یرید- أو کلاما هذا معناه- و الحدیث مشهور من روایه الکرابیسی- . قلت- هذا الحدیث أیضا مخرج فی صحیحی مسلم و البخاری- عن المسور بن مخرمه الزهری- و قد ذکره المرتضى فی کتابه- المسمى تنزیه الأنبیاء و الأئمه- و ذکر أنه روایه حسین الکرابیسی- و أنه مشهور بالانحراف عن أهل البیت ع- و عداوتهم و المناصبه لهم فلا تقبل روایته- . و لشیاع هذا الخبر و انتشاره ذکره مروان بن أبی حفصه- فی قصیده یمدح بها الرشید- و یذکر فیها ولد فاطمه ع- و ینحی علیهم و یذمهم- و قد بالغ حین ذم علیا ع و نال منه و أولها-

سلام على جمل و هیهات من جمل
و یا حبذا جمل و إن صرمت حبلی‏

یقول فیها

علی أبوکم کان أفضل منکم
أباه ذوو الشورى و کانوا ذوی الفضل‏

و ساء رسول الله إذ ساء بنته‏
بخطبته بنت اللعین أبی جهل‏

فذم رسول الله صهر أبیکم
على منبر بالمنطق الصادع الفضل‏

و حکم فیها حاکمین أبوکم‏
هما خلعاه خلع ذی النعل للنعل‏

و قد باعها من بعده الحسن ابنه
فقد أبطلت دعواکم الرثه الحبل‏

و خلیتموها و هی فی غیر أهلها
و طالبتموها حین صارت إلى أهل‏

و قد روی هذا الخبر على وجوه مختلفه- و فیه زیادات متفاوته- فمن الناس من یروی فیه- مهما ذممنا من صهر- فإنا لم نذم صهر أبی العاص بن الربیع- و من الناس من یروی فیه- ألا إن بنی المغیره أرسلوا إلى علی- لیزوجوه کریمتهم و غیر ذلک- . و عندی أن هذا الخبر لو صح- لم یکن على أمیر المؤمنین فیه غضاضه و لا قدح- لأن‏الأمه مجمعه على أنه لو نکح ابنه أبی جهل- مضافا إلى نکاح فاطمه ع لجاز- لأنه داخل تحت عموم الآیه المبیحه للنساء الأربع- فابنه أبی جهل المشار إلیها کانت مسلمه- لأن هذه القصه کانت بعد فتح مکه- و إسلام أهلها طوعا و کرها- و رواه الخبر موافقون على ذلک- فلم یبق إلا أنه إن کان هذا الخبر صحیحا- فإن رسول الله ص لما رأى فاطمه ع قد غارت- و أدرکها ما یدرک النساء- عاتب علیا ع عتاب الأهل- و کما یستثبت الوالد رأی الولد- و یستعطفه إلى رضا أهله و صلح زوجته- و لعل الواقع کان بعض هذا الکلام فحرف و زید فیه- و لو تأملت أحوال النبی ص مع زوجاته- و ما کان یجری بینه و بینهن من الغضب تاره- و الصلح أخرى و السخط تاره و الرضا أخرى- حتى بلغ الأمر إلى الطلاق مره- و إلى الإیلاء مره و إلى الهجر و القطیعه مره- و تدبرت ما ورد فی الروایات الصحیحه- مما کن یلقینه ع به و یسمعنه إیاه- لعلمت أن الذی عاب الحسده و الشائنون علیا ع به- بالنسبه إلى تلک الأحوال قطره من البحر المحیط- و لو لم یکن إلا قصه ماریه- و ما جرى بین رسول الله ص- و بین تینک الامرأتین من الأحوال و الأقوال- حتى أنزل فیهما قرآن یتلى فی المحاریب- و یکتب فی المصاحف- و قیل لهما ما لا یقال للإسکندر ملک الدنیا لو کان حیا- منابذا لرسول الله ص- وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَیْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِیلُ- وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمَلائِکَهُ بَعْدَ ذلِکَ ظَهِیرٌ- ثم أردف بعد ذلک بالوعید و التخویف- عَسى‏ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَکُنَّ الآیات بتمامها- ثم ضرب لهما مثلا امرأه نوح و امرأه لوط- اللتین خانتا بعلیهما- فَلَمْ یُغْنِیا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَیْئاً و تمام الآیه معلوم-

فهل ما روی فی الخبر- من تعصب فاطمه على علی ع‏ و غیرتها- من تعریض بنی المغیره له بنکاح عقیلتهم- إذا قویس إلى هذه الأحوال و غیرها- مما کان یجری إلا کنسبه التأفیف إلى حرب البسوس- و لکن صاحب الهوى و العصبیه لا علاج له- . ثم نعود إلى حکایه کلام شیخنا- أبی جعفر الإسکافی رحمه الله تعالى- قال أبو جعفر و روى الأعمش- قال لما قدم أبو هریره العراق مع معاویه عام الجماعه- جاء إلى مسجد الکوفه- فلما رأى کثره من استقبله من الناس جثا على رکبتیه- ثم ضرب صلعته مرارا- و قال یا أهل العراق- أ تزعمون أنی أکذب على الله و على رسوله- و أحرق نفسی بالنار-و الله لقد سمعت رسول الله ص یقول إن لکل نبی حرما و إن حرمی بالمدینه- ما بین عیر إلى ثور- فمن أحدث فیها حدثا- فعلیه لعنه الله و الملائکه و الناس أجمعین و أشهد بالله أن علیا أحدث فیها- فلما بلغ معاویه قوله- أجازه و أکرمه و ولاه أماره المدینه- . قلت أما قوله ما بین عیر إلى ثور- فالظاهر أنه غلط من الراوی- لأن ثورا بمکه و هو جبل یقال له ثور أطحل- و فیه الغار الذی دخله النبی ص و أبو بکر-

و إنما قیل أطحل- لأن أطحل بن عبد مناف بن أد بن طابخه- بن إلیاس بن مضر بن نزار بن عدنان کان یسکنه- و قیل اسم الجبل أطحل- فأضیف ثور إلیه و هو ثور بن عبد مناف- و الصواب ما بین عیر إلى أحد- . فأما قول أبی هریره- أن علیا ع أحدث فی المدینه- فحاش لله کان علی ع أتقى لله من ذلک- و الله لقد نصر عثمان نصرا- لو کان المحصور جعفر بن أبی طالب لم یبذل له إلا مثله- . قال أبو جعفر- و أبو هریره مدخول عند شیوخنا غیر مرضی الروایه- ضربه عمربالدره- و قال قد أکثرت من الروایه- و أحر بک أن تکون کاذبا على رسول الله ص- . و روى سفیان الثوری عن منصور- عن إبراهیم التیمی قال- کانوا لا یأخذون عن أبی هریره إلا ما کان من ذکر جنه أو نار- .

و روى أبو أسامه عن الأعمش- قال کان إبراهیم صحیح الحدیث- فکنت إذا سمعت الحدیث أتیته فعرضته علیه- فأتیته یوما بأحادیث من حدیث أبی صالح- عن أبی هریره- فقال دعنی من أبی هریره- إنهم کانوا یترکون کثیرا من حدیثه- .

و قد روی عن علی ع أنه قال- ألا إن أکذب الناس- أو قال أکذب الأحیاء- على رسول الله ص أبو هریره الدوسی- . و روى أبو یوسف- قال قلت لأبی حنیفه- الخبر یجی‏ء عن رسول الله ص- یخالف قیاسنا ما تصنع به- قال إذا جاءت به الرواه الثقات- عملنا به و ترکنا الرأی- فقلت ما تقول فی روایه أبی بکر و عمر- فقال ناهیک بهما- فقلت علی و عثمان قال کذلک- فلما رآنی أعد الصحابه- قال و الصحابه کلهم عدول ما عدا رجالا- ثم عد منهم أبا هریره و أنس بن مالک- .

و روى سفیان الثوری- عن عبد الرحمن بن القاسم- عن عمر بن عبد الغفار- أن أبا هریره لما قدم الکوفه مع معاویه- کان یجلس بالعشیات بباب کنده- و یجلس الناس إلیه فجاء شاب من الکوفه فجلس إلیه- فقال یا أبا هریره أنشدک الله- أ سمعت رسول الله ص یقول لعلی بن أبی طالب اللهم وال من والاه و عاد من عاداه فقال اللهم نعم قال فأشهد بالله لقد والیت عدوه و عادیت ولیه ثم قام عنه- .

و روت الرواه- أن أبا هریره کان یؤاکل الصبیان فی الطریق- و یلعب معهم و کان یخطب و هو أمیر المدینه- فیقول الحمد لله الذی جعل الدین قیاما- و أبا هریره إماما یضحک الناس بذلک- و کان یمشی و هو أمیر المدینه فی السوق- فإذا انتهى إلى رجل یمشی أمامه- ضرب برجلیه الأرض- و یقول الطریق الطریق- قد جاء الأمیر یعنی نفسه- . قلت قد ذکر ابن قتیبه هذا کله- فی کتاب المعارف فی ترجمه أبی هریره- و قوله فیه حجه لأنه غیر متهم علیه- . قال أبو جعفر- و کان المغیره بن شعبه یلعن علیا ع لعنا صریحا- على منبر الکوفه- و کان بلغه عن علی ع فی أیام عمر- أنه قال لئن رأیت المغیره لأرجمنه بأحجاره- یعنی واقعه الزناء بالمرأه التی شهد علیه فیها أبو بکره- و نکل زیاد عن الشهاده- فکان یبغضه لذاک و لغیره من أحوال اجتمعت فی نفسه- .

قال و قد تظاهرت الروایه عن عروه بن الزبیر- أنه کان یأخذه الزمع عند ذکر علی ع- فیسبه و یضرب بإحدى یدیه على الأخرى- و یقول و ما یغنی أنه لم یخالف إلى ما نهی عنه- و قد أراق من دماء المسلمین ما أراق- . قال و قد کان فی المحدثین من یبغضه ع- و یروی فیه الأحادیث المنکره منهم حریز بن عثمان- کان یبغضه و ینتقصه- و یروی فیه أخبارا مکذوبه-

و قد روى‏ المحدثون أن حریزا رؤی فی المنام بعد موته- فقیل له ما فعل الله بک- قال کاد یغفر لی لو لا بغض علی- . قلت- قد روى أبو بکر أحمد بن عبد العزیز الجوهری- فی کتاب السقیفه- قال حدثنی أبو جعفر بن الجنید- قال حدثنی إبراهیم بن الجنید- قال حدثنی محفوظ بن المفضل بن عمر- قال حدثنی أبو البهلول یوسف بن یعقوب- قال حدثنا حمزه بن حسان- و کان مولى لبنی أمیه- و کان مؤذنا عشرین سنه و حج غیر حجه- و أثنى أبو البهلول علیه خیرا- قال حضرت حریز بن عثمان- و ذکر علی بن أبی طالب- فقال ذاک الذی أحل حرم رسول الله ص حتى کاد یقع- . قال محفوظ- قلت لیحیی بن صالح الوحاظی- قد رویت عن مشایخ من نظراء حریز- فما بالک لم تحمل عن حریز- قال إنی أتیته فناولنی کتابا فإذا فیه- حدثنی فلان عن فلان إن النبی ص- لما حضرته الوفاه أوصى أن تقطع ید علی بن أبی طالب ع – فرددت الکتاب و لم أستحل أن أکتب عنه شیئا- .

قال أبو بکر و حدثنی أبو جعفر- قال حدثنی إبراهیم- قال حدثنی محمد بن عاصم صاحب الخانات- قال قال لنا حریز بن عثمان- أنتم یا أهل العراق تحبون علی بن أبی طالب ع و نحن نبغضه- قالوا لم قال لأنه قتل أجدادی- . قال محمد بن عاصم و کان حریز بن عثمان نازلا علینا- . قال أبو جعفر رحمه الله تعالى- و کان المغیره بن شعبه صاحب دنیا- یبیع دینه بالقلیل النزر منها- و یرضی معاویه بذکر علی بن أبی طالب ع- قال یوما فی مجلس معاویه- إن علیا لم ینکحه رسول الله ابنته حبا- و لکنه أراد أن یکافئ بذلک إحسان أبی طالب إلیه- .

قال و قد صح عندنا- أن المغیره لعنه على منبر العراق مرات لا تحصى- و یروى أنه لما مات و دفنوه- أقبل رجل راکب ظلیما- فوقف قریبا منه ثم قال-

أ من رسم دار من مغیره تعرف
علیها زوانی الإنس و الجن تعزف‏

فإن کنت قد لاقیت فرعون بعدنا
و هامان فاعلم أن ذا العرش منصف‏

قال فطلبوه فغاب عنهم و لم یروا أحدا- فعلموا أنه من الجن- . قال فأما مروان بن الحکم فأحقر و أقل- من أن یذکر فی الصحابه الذین- قد غمصناهم و أوضحنا سوء رأینا فیهم- لأنه کان مجاهرا بالإلحاد هو و أبوه الحکم بن أبی العاص- و هما الطریدان اللعینان- کان أبوه عدو رسول الله ص یحکیه فی مشیه- و یغمز علیه عینه و یدلع له لسانه- و یتهکم به و یتهانف علیه- هذا و هو فی قبضته و تحت یده- و فی دار دعوته بالمدینه- و هو یعلم أنه قادر على قتله أی وقت شاء من لیل أو نهار- فهل یکون هذا إلا من شانئ شدید البغضه و مستحکم العداوه- حتى أفضى أمره إلى أن طرده رسول الله ص عن المدینه- و سیره إلى الطائف- . و أما مروان ابنه فأخبث عقیده- و أعظم إلحادا و کفرا- و هو الذی خطب یوم- وصل إلیه رأس الحسین ع إلى المدینه- و هو یومئذ أمیرها و قد حمل الرأس على یدیه فقال-

یا حبذا بردک فی الیدین
و حمره تجری على الخدین‏
کأنما بت بمسجدین‏

ثم رمى بالرأس نحو قبر النبی و قال- یا محمد یوم بیوم بدر- و هذا القول مشتق من الشعر الذی تمثل به یزید بن معاویه- و هو شعر ابن الزبعری یوم وصل الرأس إلیه- . و الخبر مشهور- . قلت هکذا قال شیخنا أبو جعفر- و الصحیح أن مروان لم یکن أمیر المدینه یومئذ- بل کان أمیرها عمرو بن سعید بن العاص- و لم یحمل إلیه الرأس- و إنما کتب إلیه عبید الله بن زیاد- یبشره بقتل الحسین ع- فقرأ کتابه على المنبر و أنشد الرجز المذکور- و أومأ إلى القبر قائلا یوم بیوم بدر- فأنکر علیه قوله قوم من الأنصار- .

ذکر ذلک أبو عبیده فی کتاب المثالب- . قال و روى الواقدی- أن معاویه لما عاد من العراق إلى الشام- بعد بیعه الحسن ع و اجتماع الناس إلیه خطب فقال- أیها الناس إن رسول الله ص قال لی إنک ستلی الخلافه من بعدی- فاختر الأرض المقدسه فإن فیها الأبدال- و قد اخترتکم فالعنوا أبا تراب فلعنوه- فلما کان من الغد کتب کتابا- ثم جمعهم فقرأه علیهم و فیه- هذا کتاب کتبه أمیر المؤمنین معاویه- صاحب وحی الله الذی بعث محمدا نبیا- و کان أمیا لا یقرأ و لا یکتب- فاصطفى له من أهله وزیرا کاتبا أمینا- فکان الوحی ینزل على محمد و أنا أکتبه- و هو لا یعلم ما أکتب- فلم یکن بینی و بین الله أحد من خلقه- فقال له الحاضرون کلهم صدقت یا أمیر المؤمنین- .

قال أبو جعفر و قد روی- أن معاویه بذل لسمره بن جندب مائه ألف درهم- حتى یروی أن هذه الآیه نزلت فی علی بن أبی طالب- وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ یُعْجِبُکَ قَوْلُهُ فِی الْحَیاهِ الدُّنْیا- وَ یُشْهِدُ اللَّهَ عَلى‏ ما فِی قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ- وَ إِذا تَوَلَّى سَعى‏ فِی الْأَرْضِ لِیُفْسِدَ فِیها- وَ یُهْلِکَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لا یُحِبُّ الْفَسادَ- و أن الآیه الثانیه نزلت فی ابن ملجم و هی قوله تعالى- وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ- فلم یقبل فبذل له مائتی ألف درهم فلم یقبل- فبذل له ثلاثمائه ألف فلم یقبل- فبذل له أربعمائه ألف فقبل و روى ذلک- . قال و قد صح أن بنی أمیه منعوا من إظهار فضائل علی ع- و عاقبوا على ذلک الراوی له- حتى أن الرجل إذا روى عنه حدیثا- لا یتعلق بفضله بل بشرائع الدین لا یتجاسر على ذکر اسمه- فیقول عن أبی زینب- .

و روى عطاء عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال- وددت أن أترک- فأحدث بفضائل علی بن أبی طالب ع یوما إلى اللیل- و أن عنقی هذه ضربت بالسیف- .قال فالأحادیث الوارده فی فضله- لو لم تکن فی الشهره و الاستفاضه- و کثره النقل إلى غایه بعیده- لانقطع نقلها للخوف و التقیه من بنی مروان- مع طول المده و شده العداوه- . و لو لا أن لله تعالى فی هذا الرجل سرا یعلمه من یعلمه- لم یرو فی فضله حدیث و لا عرفت له منقبه- أ لا ترى أن رئیس قریه لو سخط على واحد من أهلها- و منع الناس أن یذکروه بخیر و صلاح لخمل ذکره و نسی اسمه- و صار و هو موجود معدوما و هو حی میتا- هذه خلاصه ما ذکره شیخنا أبو جعفر رحمه الله تعالى- فی هذا المعنى فی کتاب التفضیل

فصل فی ذکر المنحرفین عن علی

و ذکر جماعه من شیوخنا البغدادیین- أن عده من الصحابه و التابعین و المحدثین- کانوا منحرفین عن علی ع قائلین فیه السوء- و منهم من کتم مناقبه و أعان أعداءه- میلا مع الدنیا و إیثارا للعاجله- فمنهم أنس بن مالکناشد علی ع الناس فی رحبه القصر- أو قال رحبه الجامع بالکوفه- أیکم سمع رسول الله ص یقول- من کنت مولاه فعلی مولاه- فقام اثنا عشر رجلا فشهدوا بها- و أنس بن مالک فی القوم لم یقم فقال له یا أنس- ما یمنعک أن تقوم فتشهد و لقد حضرتها- فقال یا أمیر المؤمنین کبرت و نسیتفقال اللهم إن کان کاذبا فارمه بها بیضاء- لا تواریها الغمامه- قال طلحه بن عمیر فو الله- لقد رأیت الوضح به بعد ذلک أبیض بین عینیه- .

و روى عثمان بن مطرف أن رجلا سأل أنس بن مالک فی آخر عمره- عن علی بن أبی طالب- فقال إنی آلیت ألا أکتم حدیثا سئلت عنه- فی علی بعد یوم الرحبه- ذاک رأس المتقین یوم القیامه سمعته و الله من نبیکم- .

و روى أبو إسرائیل عن الحکم عن أبی سلیمان المؤذن أن علیا ع نشد الناس من سمع رسول الله ص یقول- من کنت مولاه فعلی مولاه- فشهد له قوم و أمسک زید بن أرقم فلم یشهد و کان یعلمها- فدعا علی ع علیه بذهاب البصر فعمی- فکان یحدث الناس بالحدیث بعد ما کف بصره- . قالوا و کان الأشعث بن قیس الکندی- و جریر بن عبد الله البجلی یبغضانه- و هدم علی ع دار جریر بن عبد الله- . قال إسماعیل بن جریر هدم علی دارنا مرتین- .

و روى الحارث بن حصین أن رسول الله ص دفع إلى جریر بن عبد الله نعلین نعاله- و قال احتفظ بهما فإن ذهابهما ذهاب دینک- فلما کان یوم الجمل ذهبت إحداهما- فلما أرسله علی ع إلى معاویه ذهبت الأخرى- ثم فارق علیا و اعتزل الحرب- . و روى أهل السیره أن الأشعث خطب إلى علی ع ابنته فزبره-و قال یا ابن الحائک أ غرک ابن أبی قحافه- .

و روى أبو بکر الهذلی عن الزهری عن عبید الله بن عدی بن الخیار بن نوفل بن عبد مناف قال قام الأشعث إلى علی ع فقال- إن الناس یزعمون أن رسول الله ص عهد إلیک عهدا- لم یعهده إلى غیرک- فقال إنه عهد إلی ما فی قراب سیفی لم یعهد إلی غیر ذلک- فقال الأشعث هذه إن قلتها فهی علیک لا لک- دعها ترحل عنک- فقال له و ما علمک بما علی مما لی- منافق ابن کافر حائک ابن حائک- إنی لأجد منک بنه الغزل- ثم التفت إلى عبید الله بن عدی بن الخیار فقال یا عبید الله إنک لتسمع خلافا و ترى عجبا ثم أنشد-

أصبحت هزءا لراعی الضأن أتبعه
ما ذا یریبک منی راعی الضأن‏

و قد ذکرنا فی بعض الروایات المتقدمات- أن سبب قوله هذه علیک لا لک أمر آخر- و الروایات تختلف- . و روى یحیى بن عیسى الرملی عن الأعمش- أن جریرا و الأشعث خرجا إلى جبان الکوفه- فمر بهما ضب یعدو و هما فی ذم علی ع فنادیاه- یا أبا حسل هلم‏یدک نبایعک بالخلافه- فبلغ علیا ع قولهما-فقال أما إنهما یحشران یوم القیامه و إمامهما ضب و کان أبو مسعود الأنصاری منحرفا عنه ع-روى شریک عن عثمان بن أبی زرعه عن زید بن وهب قال تذاکرنا القیام إذا مرت الجنازه عند علی ع- فقال أبو مسعود الأنصاری قد کنا نقوم- فقال علی ع ذاک و أنتم یومئذ یهود-.

و روى شعبه عن عبید بن الحسن عن عبد الرحمن بن معقل قال حضرت علیا ع- و قد سأله رجل عن امرأه توفی عنها زوجها و هی حامل فقال- تتربص أبعد الأجلین فقال رجل فإن أبا مسعود یقول- وضعها انقضاء عدتها فقال علی ع إن فروجا لا یعلم- فبلغ قوله أبا مسعود فقال بلى- و الله إنی لأعلم أن الآخر شر- .

و روى المنهال عن نعیم بن دجاجه قال کنت جالسا عند علی ع إذ جاء أبو مسعود- فقال علی ع جاءکم فروج فجاء فجلس- فقال له علی ع بلغنی أنک تفتی الناس- قال نعم و أخبرهم أن الآخر شر- قال فهل سمعت من رسول الله ص شیئا- قال نعم سمعته یقول لا یأتی على الناس سنه مائه- و على الأرض عین تطرف- قال أخطأت استک الحفره و غلطت فی أول ظنک- إنما عنى من حضره یومئذ و هل الرخاء إلا بعد المائه-.

و روى جماعه من أهل السیر أن علیا ع کان یقول عن کعب الأحبار إنه لکذابو کان کعب منحرفا عن علی ع- و کان النعمان بن بشیر الأنصاری منحرفا عنه و عدوا له- و خاض الدماء مع معاویه خوضا- و کان من أمراء یزید ابنه حتى قتل و هو على حاله- . و قد روی أن عمران بن الحصین کان من المنحرفین عنه ع- و أن علیا سیره إلى المدائن و ذلک أنه کان یقول- إن مات علی فلا أدری ما موته- و إن قتل فعسى أنی إن قتل رجوت له- . و من الناس من یجعل عمران فی الشیعه- . و کان سمره بن جندب من شرطه زیاد-

روى عبد الملک بن حکیم عن الحسن قال- جاء رجل من أهل خراسان إلى البصره- فترک مالا کان معه فی بیت المال و أخذ براءه- ثم دخل المسجد فصلى رکعتین- فأخذه سمره بن جندب و اتهمه برأی الخوارج- فقدمه فضرب عنقه و هو یومئذ على شرطه زیاد- فنظروا فیما معه فإذا البراءه بخط بیت المال- فقال أبو بکره یا سمره- أ ما سمعت الله تعالى یقول قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَکَّى- وَ ذَکَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى- فقال أخوک أمرنی بذلک- . و روى الأعمش عن أبی صالح قال قیل لنا- قد قدم رجل من أصحاب رسول الله ص- فأتیناه فإذا هو سمره بن جندب- و إذا عند إحدى رجلیه خمر و عند الأخرى ثلج- فقلنا ما هذا قالوا به النقرس و إذا قوم قد أتوه- فقالوا یا سمرهما تقول لربک غدا- تؤتى بالرجل فیقال لک هو من الخوارج فتأمر بقتله- ثم تؤتى بآخر فیقال لک لیس الذی قتلته بخارجی- ذاک فتى وجدناه ماضیا فی حاجته فشبه علینا- و إنما الخارجی هذا فتأمر بقتل الثانی- فقال سمره و أی بأس فی ذلک- إن کان من أهل الجنه مضى إلى الجنه- و إن کان من أهل النار مضى إلى النار- .

و روى واصل مولى أبی عیینه عن جعفر بن محمد بن علی ع عن آبائه قال کان لسمره بن جندب نخل فی بستان رجل من الأنصار- فکان یؤذیه فشکا الأنصاری ذلک إلى رسول الله ص- فبعث إلى سمره فدعاه فقال له- بع نخلک من هذا و خذ ثمنه قال لا أفعل- قال فخذ نخلا مکان نخلک قال لا أفعل- قال فاشتر منه بستانه قال لا أفعل- قال فاترک لی هذا النخل و لک الجنه قال لا أفعل- فقال ص للأنصاری اذهب فاقطع نخله فإنه لا حق له فیه- .

و روى شریک قال أخبرنا عبد الله بن سعد عن حجر بن عدی- قال قدمت المدینه فجلست إلى أبی هریره فقال- ممن أنت قلت من أهل البصره قال- ما فعل سمره بن جندب قلت هو حی قال- ما أحد أحب إلی طول حیاه منه قلت و لم ذاک-قال إن رسول الله ص قال لی و له و لحذیفه بن الیمان- آخرکم موتا فی النار- فسبقنا حذیفه و أنا الآن أتمنى أن أسبقه- قال فبقی سمره بن جندب حتى شهد مقتل الحسین-.

و روى أحمد بن بشیر عن مسعر بن کدام قال- کان سمره بن جندب أیام مسیرالحسین ع إلى الکوفه- على شرطه عبید الله بن زیاد- و کان یحرض الناس على الخروج إلى الحسین ع و قتاله- . و من المنحرفین عنه المبغضین له عبد الله بن الزبیر- و قد ذکرناه آنفا- کان علی ع یقول ما زال الزبیر منا أهل البیت حتى نشأ ابنه عبد الله- فأفسده- . و عبد الله هو الذی حمل الزبیر على الحرب- و هو الذی زین لعائشه مسیرها إلى البصره- و کان سبابا فاحشا یبغض بنی هاشم- و یلعن و یسب علی بن أبی طالب ع- و کان علی ع یقنت فی صلاه الفجر و فی صلاه المغرب- و یلعن معاویه و عمر و المغیره و الولید بن عقبه- و أبا الأعور و الضحاک بن قیس و بسر بن أرطاه- و حبیب بن مسلمه و أبا موسى الأشعری و مروان بن الحکم- و کان هؤلاء یقنتون علیه و یلعنونه- .

و روى شیخنا أبو عبد الله البصری المتکلم رحمه الله تعالى- عن نصر بن عاصم اللیثی عن أبیه قال- أتیت مسجد رسول الله ص و الناس یقولون- نعوذ بالله من غضب الله و غضب رسوله فقلت ما هذا- قالوا معاویه قام الساعه- فأخذ بید أبی سفیان فخرجا من المسجد-
فقال رسول الله ص لعن الله التابع و المتبوع- رب یوم لأمتی من معاویه ذی الأستاه- قالوا یعنی الکبیر العجز- . و قال روى العلاء بن حریز القشیری أن رسول الله ص قال لمعاویه- لتتخذن یا معاویه البدعه سنه و القبح حسنا- أکلک کثیر و ظلمک عظیم قال و روى الحارث بن حصیره عن أبی صادق عن ربیعه بن ناجذ قال قال‏علی ع نحن و آل أبی سفیان قوم تعادوا فی الأمر- و الأمر یعود کما بدا- .

قلت و قد ذکرنا نحن فی تلخیص نقض السفیانیه- ما فیه کفایه فی هذا الباب- . و روى صاحب کتاب الغارات عن أبی صادق عن جندب بن عبد الله قال ذکر المغیره بن شعبه عند علی ع و جده مع معاویه- قال و ما المغیره- إنما کان إسلامه لفجره و غدره غدرها بنفر من قومه- فتک بهم و رکبها منهم فهرب منهم- فأتى النبی ص کالعائذ بالإسلام- و الله ما رأى أحد علیه منذ ادعى الإسلام خضوعا و لا خشوعا- ألا و إنه یکون من ثقیف فراعنه قبل یوم القیامه- یجانبون الحق و یسعرون نیران الحرب- و یوازرون الظالمین- ألا إن ثقیفا قوم غدر لا یوفون بعهد- یبغضون العرب کأنهم لیسوا منهم- و لرب صالح قد کان منهم- فمنهم عروه بن مسعود و أبو عبید بن مسعود- المستشهد یوم قس الناطف- و إن الصالح فی ثقیف لغریب – .

قال شیخنا أبو القاسم البلخی- من المعلوم الذی لا ریب فیه لاشتهار الخبر به- و إطباق الناس علیه- أن الولید بن عقبه بن أبی معیط کان یبغض علیا و یشتمه- و أنه هو الذی لاحاه فی حیاه رسول الله ص و نابذه- و قال له أنا أثبت منک جنانا و أحد سنانا- فقال له علی ع اسکت یا فاسق فأنزل الله تعالى فیهما- أَ فَمَنْ کانَ مُؤْمِناً کَمَنْ کانَ فاسِقاً لا یَسْتَوُونَ- الآیات المتلوه- و سمی الولید بحسب ذلک فی حیاه رسول الله ص الفاسق- فکان لا یعرف إلا بالولید الفاسق- .

و هذه الآیه من الآیات التی- نزل فیها القرآن بموافقه علی ع- کما نزل فی مواضع بموافقه عمر- و سماه الله تعالى فاسقا فی آیه أخرى و هو قوله تعالى- إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا و سبب نزولها مشهور- و هو کذبه على بنی المصطلق- و ادعاؤه أنهم منعوا الزکاه و شهروا السیف- حتى أمر النبی ص بالتجهز للمسیر إلیهم- فأنزل الله تعالى فی تکذیبه- و براءه ساحه القوم هذه الآیه- . و کان الولید مذموما معیبا عند رسول الله ص- یشنؤه و یعرض عنه- و کان الولید یبغض رسول الله ص أیضا و یشنؤه- و أبوه عقبه بن أبی معیط هو العدو الأزرق بمکه- و الذی کان یؤذی رسول الله ص فی نفسه و أهله- و أخباره فی ذلک مشهوره- فلما ظفر به یوم بدر ضرب عنقه- و ورث ابنه الولید الشنئان و البغضه لمحمد و أهله- فلم یزل علیهما إلى أن مات- .

قال الشیخ أبو القاسم- و هو أحد الصبیه الذین قال أبو عقبه فیهم- و قد قدم لیضرب عنقه من للصبیه یا محمد- فقال: النار اضربوا عنقه- . قال و للولید شعر یقصد فیه الرد على رسول الله ص حیث قال إن تولوها علیا تجدوه هادیا مهدیا – قال و ذلک أن علیا ع لما قتل- قصد بنوه أن یخفوا قبره خوفا من بنی أمیه- أن یحدثوا فی قبره حدثا- فأوهموا الناس فی موضع قبره تلک اللیله- و هی لیله دفنه إیهامات مختلفه- فشدوا على جمل تابوتا موثقا بالحبال- یفوح منه روائح الکافور- و أخرجوه من الکوفه فی سواد اللیل صحبه ثقاتهم- یوهمون أنهم یحملونه إلى المدینه- فیدفنونه عند فاطمه ع- و أخرجوا بغلا و علیه جنازه مغطاه-یوهمون أنهم یدفنونه بالحیره و حفروا حفائر عده- منها بالمسجد و منها برحبه القصر قصر الإماره- و منها فی حجره من دور آل جعده بن هبیره المخزومی- و منها فی أصل دار عبد الله بن یزید القسری- بحذاء باب الوراقین مما یلی قبله المسجد- و منها فی الکناسه و منها فی الثویه- فعمی على الناس موضع قبره- و لم یعلم دفنه على الحقیقه إلا بنوه- و الخواص المخلصون من أصحابه- فإنهم خرجوا به ع وقت السحر- فی اللیله الحادیه و العشرین من شهر رمضان- فدفنوه على النجف بالموضع المعروف بالغری- بوصاه منه ع إلیهم فی ذلک و عهد کان عهد به إلیهم- و عمی موضع قبره على الناس- و اختلفت الأراجیف فی صبیحه ذلک الیوم اختلافا شدیدا- و افترقت الأقوال فی موضع قبره الشریف و تشعبت- و ادعى قوم أن جماعه من طیئ وقعوا على جمل فی تلک اللیله- و قد أضله أصحابه ببلادهم و علیه صندوق فظنوا فیه مالا- فلما رأوا ما فیه خافوا أن یطلبوا به- فدفنوا الصندوق بما فیه و نحروا البعیر و أکلوه- و شاع ذلک فی بنی أمیه و شیعتهم و اعتقدوه حقا- فقال الولید بن عقبه من أبیات یذکره ع فیها-

فإن یک قد ضل البعیر بحمله
فما کان مهدیا و لا کان هادیا

و روى الشیخ أبو القاسم البلخی أیضا- عن جریر بن عبد الحمید عن مغیره الضبی قال- مر ناس بالحسن بن علی ع- و هم یریدون عیاده الولید بن عقبه و هو فی عله له شدیده- فأتاه الحسن ع معهم عائدا- فقال للحسن أتوب إلى الله تعالى- مما کان بینی و بین جمیع الناس- إلا ما کان بینی و بین أبیک فإنی لا أتوب منه- . قال شیخنا أبو القاسم البلخی- و أکد بغضه له ضربه إیاه الحد فی ولایه عثمان- و عزله عن الکوفه- .

و قد اتفقت الأخبار الصحیحه- التی لا ریب فیها عند المحدثین- على أن النبی ص قال لا یبغضک إلا منافق و لا یحبک إلا مؤمنقال و روى حبه العرنی عن علی ع أنه قال إن الله عز و جل أخذ میثاق کل مؤمن على حبی- و میثاق کل منافق على بغضی- فلو ضربت وجه المؤمن بالسیف ما أبغضنی- و لو صببت الدنیا على المنافق ما أحبنی-.

و روى عبد الکریم بن هلال عن أسلم المکی عن أبی الطفیل قال سمعت علیا ع و هو یقول لو ضربت خیاشیم المؤمن بالسیف ما أبغضنی- و لو نثرت على المنافق ذهبا و فضه ما أحبنی- إن الله أخذ میثاق المؤمنین بحبی- و میثاق المنافقین ببغضی- فلا یبغضنی مؤمن و لا یحبنی منافق أبدا- .

قال الشیخ أبو القاسم البلخی- و قد روى کثیر من أرباب الحدیث- عن جماعه من الصحابه قالوا- ما کنا نعرف المنافقین على عهد رسول الله ص- إلا ببغض علی بن أبی طالب- . ذکر إبراهیم بن هلال صاحب کتاب الغارات- فیمن فارق علیا ع و التحق بمعاویه یزید بن حجیه التیمی- من بنی تیم بن ثعلبه بن بکر بن وائل- و کان ع قد استعمله على الری و دستبنی- فکسر الخوارج و احتجن المال لنفسه- فحبسه علی ع و جعل معه سعدا مولاه- فقرب یزید رکائبه و سعد نائم فالتحق بمعاویه و قال-

خادعت سعدا و ارتمت بی رکائبی
إلى الشام و اخترت الذی هو أفضل‏

و غادرت سعدا نائما فی عباءه
و سعد غلام مستهام مضلل‏

ثم خرج حتى أتى الرقه و کذلک کان یصنع من یفارق علیا ع- یبدأ بالرقه حتى یستأذن معاویه فی القدوم علیه- و کانت الرقه و الرها و قرقیسیا و حران من حیز معاویه- و علیها الضحاک بن قیس- و کانت هیت و عانات و نصیبین و دارا- و آمد و سنجار من حیز علی ع و علیها الأشتر- و کانا یقتتلان فی کل شهر- . و قال یزید بن حجیه و هو بالرقه یهجو علیا ع-

یا طول لیلی بالرقات لم أنم
من غیر عشق صبت نفسی و لا سقم‏

لکن لذکر أمور جمه طرقت‏
أخشى على الأصل منها زله القدم‏

أخشى علیا علیهم أن یکون لهم
مثل العقور الذی عفى على إرم‏

و بعد ذلک ما لا نذکره- . قال إبراهیم بن هلال- و قد کان زیاد بن خصفه التیمی قال لعلی ع یوم- هرب یزید بن حجیه- ابعثنی یا أمیر المؤمنین فی أثره أرده إلیک- فبلغ قوله یزید بن حجیه فقال فی ذلک-

أبلغ زیادا أننی قد کفیته
أموری و خلیت الذی هو عاتبه‏

و باب شدید موثق قد فتحته‏
علیک و قد أعیت علیک مذاهبه‏

هبلت أ ما ترجو غنائی و مشهدی
إذ الخصم لم یوجد له من یجاذبه‏

فأقسم لو لا أن أمک أمنا
و أنک مولى ما طفقت أعاتبه‏

و أقسم لو أدرکتنی ما رددتنی‏
کلانا قد اصطفت إلیه جلائبه‏

قال ابن هلال و کتب إلى العراق شعرا یذم فیه علیا ع- و یخبره أنه من أعدائه فدعا علیه- و قال لأصحابه عقیب الصلاه- ارفعوا أیدیکم فادعوا علیه فدعا علیه و أمن أصحابه- .قال أبو الصلت التیمی کان دعاؤه علیه اللهم إن یزید بن حجیه هرب بمال المسلمین- و لحق بالقوم الفاسقین- فاکفنا مکره و کیده و اجزه جزاء الظالمین- .

قال و رفع القوم أیدیهم یؤمنون- و کان فی المسجد عفاق بن شرحبیل- بن أبی رهم التیمی شیخا کبیرا- و کان یعد ممن شهد على حجر بن عدی حتى قتله معاویه- فقال عفاق على من یدعو القوم- قالوا على یزید بن حجیه فقال- تربت أیدیکم أ على أشرافنا تدعون- فقاموا إلیه فضربوه حتى کاد یهلک- و قام زیاد بن خصفه و کان من شیعه علی ع- فقال دعوا لی ابن عمی- فقال علی ع دعوا للرجل ابن عمه فترکه الناس- فأخذ زیاد بیده فأخرجه من المسجد- و جعل یمشی معه یمسح التراب عن وجهه- و عفاق یقول و الله لا أحبکم ما سعیت و مشیت- و الله لا أحبکم ما اختلفت الدره و الجره- و زیاد یقول ذلک أضر لک ذلک شر لک- . و قال زیاد بن خصفه یذکر ضرب الناس عفاقا-

دعوت عفاقا للهدى فاستغشنی
و ولى فریا قوله و هو مغضب‏

و لو لا دفاعی عن عفاق و مشهدی‏
هوت بعفاق عوض عنقاء مغرب‏

أنبئه أن الهدى فی اتباعنا
فیأبى و یضریه المراء فیشغب‏

فإن لا یشایعنا عفاق فإننا
على الحق ما غنى الحمام المطرب‏

سیغنی الإله عن عفاق و سعیه
إذا بعثت للناس جأواء تحرب‏

قبائل من حیی معد و مثلها
یمانیه لا تنثنی حین تندب‏

لهم عدد مثل التراب و طاعه
تود و بأس فی الوغى لا یؤنب‏

فقال له عفاق لو کنت شاعرا لأجبتک- و لکنی أخبرکم عن ثلاث خصال کن منکم- و الله ما أرى أن تصیبوا بعدهن شیئا مما یسرکم- . أما واحده فإنکم سرتم إلى أهل الشام- حتى إذا دخلتم علیهم بلادهم قاتلتموهم- فلما ظن القوم أنکم لهم قاهرون رفعوا المصاحف- فسخروا بکم فردوکم عنهم- فلا و الله لا تدخلونها بمثل ذلک الجد- و الحد و العدد الذی دخلتم به أبدا- . و أما الثانیه فإنکم بعثتم حکما و بعث القوم حکما- فأما حکمکم فخلعکم و أما حکمهم فأثبتهم- فرجع صاحبهم یدعى أمیر المؤمنین- و رجعتم متلاعنین متباغضین- فو الله لا یزال القوم فی علاء و لا تزالون فی سفال- . و أما الثالثه فإنه خالفکم قراؤکم و فرسانکم- فعدوتم علیهم فذبحتموهم بأیدیکم- فو الله لا تزالون بعدها متضعضعین- . قال و کان یمر علیهم بعد فیقول- اللهم إنی منهم بری‏ء و لابن عفان ولی- فیقولون اللهم إنا لعلی أولیاء- و من ابن عفان برآء و منک یا عفاق- .

قال فأخذ لا یقلع- فدعوا رجلا منهم له سجاعه کسجاعه الکهان فقالوا- ویحک أ ما تکفینا بسجعک و خطبک هذا- فقال کفیتکم فمر عفاق علیهم فقال کما کان یقول- فلم یمهله أن قال له اللهم اقتل عفاقا- فإنه أسر نفاقا و أظهر شقاقا و بین فراقا و تلون أخلاقا- . فقال عفاق ویحکم من سلط علی هذا- قال الله بعثنی إلیک و سلطنی علیک- لأقطع لسانک و أنصل سنامک و أطرد شیطانک- . قال فلم یک یمر علیهم بعد إنما یمر على مزینه- . و ممن فارقه ع عبد الله بن عبد الرحمن بن مسعود- بن أوس بن إدریس بن معتب الثقفی- شهد مع علی ع صفین- و کان فی أول أمره مع معاویه ثم صار إلى علی ع- ثم رجع بعد إلى معاویه و کان علی ع یسمیه الهجنع- و الهجنع الطویل- . و منهم القعقاع بن شور- استعمله علی ع على کسکر فنقم منه أمورا- منها أنه تزوج امرأه فأصدقها مائه ألف درهم- فهرب إلى معاویه- . و منهم النجاشی الشاعر من بنی الحارث بن کعب- کان شاعر أهل العراق بصفین- و کان علی ع یأمره بمحاربه شعراء أهل الشام- مثل کعب بن جعیل و غیره- فشرب الخمر بالکوفه فحده علی ع- فغضب و لحق بمعاویه و هجا علیا ع- .

حدث ابن الکلبی عن عوانه قال- خرج النجاشی فی أول یوم من شهر رمضان- فمر بأبی سمال الأسدی و هو قاعد بفناء داره فقال له- أین ترید قال أردت الکناسه- فقال هل لک فی رءوس و ألیات- قد وضعت فی التنور من أول اللیل- فأصبحت قد أینعت و قد تهرأت- قال ویحک فی أول یوم من رمضان- قال دعنا مما لا نعرف قال ثم مه- قال أسقیک من شراب کالورس یطیب النفس- و یجرى فی العرق و یزید فی الطرق- یهضم الطعام و یسهل للفدم الکلام- فنزل فتغدیا ثم أتاه بنبیذ فشرباه- فلما کان آخر النهار علت أصواتهما- و لهما جار من شیعه علی ع فأتاه فأخبره بقصتهما- فأرسل إلیهما قوما فأحاطوا بالدار- فأما أبو سمال فوثب إلى دور بنی أسد فأفلت- و أخذ النجاشی فأتی ع به فلما أصبح أقامه فی سراویل- فضربه ثمانین ثم زاده عشرین سوطا- فقال یا أمیر المؤمنین أما الحد فقد عرفته فما هذه العلاوه- قال لجراءتک على الله و إفطارک فی شهر رمضان- ثم أقامه فی سراویله للناس فجعل الصبیان یصیحون به- خرئ النجاشی خرئ النجاشی- و جعل یقول کلا إنها یمانیه وکاؤها شعر- . قال و مر به هند بن عاصم السلولی فطرح علیه مطرفا- فجعل الناس یمرون به و یطرحون علیه المطارف- حتى اجتمعت علیه مطارف کثیره فمدح بنی سلول فقال-

إذا الله حیا صالحا من عباده
تقیا فحیا الله هند بن عاصم‏

و کل سلولی إذا ما دعوته‏
سریع إلى داعی العلا و المکارم‏

هم البیض أقداما و دیباج أوجه
جلوها إذا اسودت وجوه الملائم‏

و لا یأکل الکلب السروق نعالهم‏
و لا یبتغی المخ الذی فی الجماجم‏

ثم لحق معاویه و هجا علیا ع فقال-

أ لا من مبلغ عنی علیا
بأنی قد أمنت فلا أخاف‏

عمدت لمستقر الحق لما
رأیت أمورکم فیها اختلاف‏

و روى عبد الملک بن قریب الأصمعی عن ابن أبی الزناد قال- دخل النجاشی على معاویه و قد أذن للناس عامه- فقال لحاجبه ادع النجاشی و النجاشی بین یدیه- و لکن اقتحمته عینه فقال- ها أنا ذا النجاشی بین یدیک یا أمیر المؤمنین- إن الرجال لیست بأجسامها- إنما لک من الرجل أصغراه قلبه و لسانه- قال ویحک أنت القائل-

و نجا ابن حرب سابح ذو علاله
أجش هزیم و الرماح دوانی‏

إذا قلت أطراف الرماح تنوشه‏
مرته به الساقان و القدمان‏

ثم ضرب بیده إلى ثدیه- فقال ویحک إن مثلی لا تعدو به الخیل- فقال یا أمیر المؤمنین إنی لم أعنک إنما عنیت عتبه- . و روى صاحب کتاب الغارات- أن علیا ع لما حد النجاشی غضبت الیمانیه لذلک- و کان أخصهم به طارق بن عبد الله بن کعب النهدی- فدخل علیه فقال یا أمیر المؤمنین- ما کنا نرى أن أهل المعصیه و الطاعه- و أهل الفرقه و الجماعه عند ولاه العدل- و معادن الفضل سیان فی الجزاء- حتى رأینا ما کان من صنیعک بأخی الحارث-فأوغرت صدورنا و شتت أمورنا- و حملتنا على الجاده التی کنا نرى- أن سبیل من رکبها النار-
فقال علی ع وَ إِنَّها لَکَبِیرَهٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِینَ- یا أخا نهد- و هل هو إلا رجل من المسلمین انتهک حرمه من حرم الله- فأقمنا علیه حدا کان کفارته- إن الله تعالى یقول- وَ لا یَجْرِمَنَّکُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى‏ أَلَّا تَعْدِلُوا- اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‏-

قال فخرج طارق من عنده فلقیه الأشتر فقال یا طارق- أنت القائل لأمیر المؤمنین- أوغرت صدورنا و شتت أمورنا- قال طارق نعم أنا قائلها- قال و الله ما ذاک کما قلت- إن صدورنا له لسامعه و إن أمورنا له لجامعه- فغضب طارق و قال ستعلم یا أشتر أنه غیر ما قلت- فلما جنه اللیل همس هو و النجاشی إلى معاویه- فلما قدما علیه دخل آذنه فأخبره بقدومهما- و عنده وجوه أهل الشام- منهم عمرو بن مره الجهنی و عمرو بن صیفی و غیرهما- فلما دخلا نظر إلى طارق- و قال مرحبا بالمورق غصنه- و المعرق أصله المسود غیر المسود- من رجل کانت منه هفوه و نبوه باتباعه صاحب الفتنه- و رأس الضلاله و الشبهه- الذی اغترز فی رکاب الفتنه حتى استوى على رجلها- ثم أوجف فی عشوه ظلمتها و تیه ضلالتها- و اتبعه رجرجه من الناس- و أشبابه من الحثاله لا أفئده لهم- أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها- .

فقام طارق فقال یا معاویه إنی متکلم فلا یسخطک- ثم قال و هو متکئ على سیفه- إن المحمود على کل حال رب علا فوق عباده- فهم منه بمنظر و مسمع- بعث فیهم‏ رسولا منهم- یتلو کتابا لم یکن من قبله و لا یخطه بیمینه- إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ- فعلیه السلام من رسول کان بالمؤمنین برا رحیما- أما بعد فإن ما کنا نوضع- فیما أوضعنا فیه بین یدی إمام تقی عادل- مع رجال من أصحاب رسول الله ص أتقیاء مرشدین- ما زالوا منارا للهدى و معالم للدین- خلفا عن سلف مهتدین أهل دین لا دنیا کل الخیر فیهم- و اتبعهم من الناس ملوک و أقیال- و أهل بیوتات و شرف- لیسوا بناکثین و لا قاسطین- فلم یکن رغبه من رغب عنهم و عن صحبتهم إلا لمراره الحق- حیث جرعوها و لوعورته حیث سلکوها- و غلبت علیهم دنیا مؤثره و هو متبع- و کان أمر الله قدرا مقدورا- و قد فارق الإسلام قبلنا جبله بن الأیهم فرارا من الضیم- و أنفا من الذله فلا تفخرن یا معاویه- إن شددنا نحوک الرحال و أوضعنا إلیک الرکاب- أقول قولی هذا- و أستغفر الله العظیم لی و لجمیع المسلمین- . فعظم على معاویه ما سمعه و غضب لکنه أمسک- و قال یا عبد الله إنا لم نرد بما قلناه أن نوردک مشرع ظمأ- و لا أن نصدرک عن مکرع ری و لکن القول- قد یجری بصاحبه إلى غیر ما ینطوی علیه من الفعل- ثم أجلسه معه على سریره- و دعا له بمقطعات و برود فصبها علیه- و أقبل نحوه بوجهه یحدثه حتى قام- .

و قام معه عمرو بن مره و عمرو بن صیفی الجهنیان- فأقبلا علیه بأشد العتاب و أمضه- یلومانه فی خطبته و ما واجه به معاویه- . فقال طارق و الله ما قمت بما سمعتماه حتى خیل لی- أن بطن الأرض خیر لی من ظهرها عند سماعی- ما أظهر من العیب و النقص- لمن هو خیر منه فی الدنیا و الآخره- و ما زهت به نفسه و ملکه عجبه- و عاب أصحاب رسول الله ص و استنقصهم- فقمت مقاما أوجب الله علی فیه إلا أقول إلا حقا- و أی خیر فیمن لا ینظر ما یصیر إلیه غدا-فبلغ علیا ع قوله-فقال لو قتل النهدی یومئذ لقتل شهیدا- .

و قال معاویه للهیثم بن الأسود أبی العریان- و کان عثمانیا و کانت امرأته علویه الرأی- تکتب بأخبار معاویه فی أعنه الخیل- و تدفعها إلى عسکر علی ع بصفین فیدفعونها إلیه- فقال معاویه بعد التحکیم یا هیثم- أهل العراق کانوا أنصح لعلی فی صفین أم أهل الشام لی- فقال أهل العراق قبل أن یضربوا بالبلاء- کانوا أنصح لصاحبهم قال کیف قلت ذلک- قال لأن القوم ناصحوه على الدین- و ناصحک أهل الشام على الدنیا- و أهل الدین أصبر و هم أهل بصیره- و إنما أهل الدنیا أهل طمع ثم و الله- ما لبث أهل العراق أن نبذوا الدین وراء ظهورهم- و نظروا إلى الدنیا فالتحقوا بک- .

فقال معاویه فما الذی یمنع الأشعث أن یقدم علینا- فیطلب ما قبلنا- قال إن الأشعث یکرم نفسه أن یکون رأسا فی الحرب- و ذنبا فی الطمع- . و من المفارقین لعلی ع أخوه عقیل بن أبی طالب- قدم على أمیر المؤمنین بالکوفه یسترفده- فعرض علیه عطاءه فقال إنما أرید من بیت المال- فقال تقیم إلى یوم الجمعه فلما صلى ع الجمعه- قال له ما تقول فیمن خان هؤلاء أجمعین- قال بئس الرجل- قال فإنک أمرتنی أن أخونهم و أعطیک- فلما خرج من عنده شخص إلى معاویه- فأمر له یوم قدومه بمائه ألف درهم- و قال له یا أبا یزید أنا خیر لک أم علی- قال وجدت علیا أنظر لنفسه منه لی- و وجدتک أنظر لی منک لنفسک- . و قال معاویه لعقیل إن فیکم یا بنی هاشم لینا- قال أجل إن فینا لینا من غیرضعف و عزا من غیر عنف- و إن لینکم یا معاویه غدر و سلمکم کفر- فقال معاویه و لا کل هذا یا أبا یزید- .

و قال الولید بن عقبه لعقیل فی مجلس معاویه- غلبک أخوک یا أبا یزید على الثروه- قال نعم و سبقنی و إیاک إلى الجنه- قال أما و الله إن شدقیه لمضمومان من دم عثمان- فقال و ما أنت و قریش- و الله ما أنت فینا إلا کنطیح التیس- فغضب الولید و قال- و الله لو أن أهل الأرض اشترکوا فی قتله لأرهقوا صعودا- و إن أخاک لأشد هذه الأمه عذابا فقال صه- و الله إنا لنرغب بعبد من عبیده- عن صحبه أبیک عقبه بن أبی معیط- . و قال معاویه یوما و عنده عمرو بن العاص- و قد أقبل عقیل لأضحکنک من عقیل- فلما سلم قال معاویه مرحبا برجل عمه أبو لهب- فقال عقیل و أهلا برجل عمته- حماله الحطب فی جیدها حبل من مسد- لأن امرأه أبی لهب أم جمیل بنت حرب بن أمیه- .

قال معاویه یا أبا یزید ما ظنک بعمک أبی لهب- قال إذا دخلت النار فخذ على یسارک- تجده مفترشا عمتک حماله الحطب- أ فناکح فی النار خیر أم منکوح قال- کلاهما شر و الله- . و ممن فارقه ع حنظله الکاتب خرج هو- و جریر بن عبد الله البجلی من الکوفه إلى قرقیسیا- و قالا لا نقیم ببلده یعاب فیها عثمان- .و ممن فارقه وائل بن حجر الحضرمی- و خبره مذکور فی قصه بسر بن أرطاه- . و روى صاحب کتاب الغارات- عن إسماعیل بن حکیم عن أبی مسعود الجریری قال کان ثلاثه من أهل البصره یتواصلون على بغض علی ع- مطرف بن عبد الله بن الشخیر- و العلاء بن زیاد و عبد الله بن شفیق- . قال صاحب کتاب الغارات و کان مطرف عابدا ناسکا-

و قد روى هشام بن حسان عن ابن سیرین- أن عمار بن یاسر دخل على أبی مسعود و عنده ابن الشخیر- فذکر علیا بما لا یجوز أن یذکر به- فقال عمار یا فاسق و إنک لهاهنا- فقال أبو مسعود أذکرک الله یا أبا الیقظان فی ضیفی- . قال و أکثر مبغضیه ع أهل البصره کانوا عثمانیه- و کانت فی أنفسهم أحقاد یوم الجمل- و کان هو ع قلیل التألف للناس شدیدا فی دین الله- لا یبالی مع علمه بالدین و اتباعه الحق من سخط و من رضی- .

قال و قد روى یونس بن أرقم عن یزید بن أرقم عن أبی ناجیه مولى أم هانئ قال کنت عند علی ع فأتاه رجل علیه زی السفر- فقال یا أمیر المؤمنین- إنی أتیتک من بلده ما رأیت لک بها محبا- قال من أین أتیت قال من البصره- قال أما إنهم لو یستطیعون أن یحبونی لأحبونی- إنی و شیعتی فی میثاق الله لا یزاد فینا رجل- و لا ینقص إلى یوم القیامه- .

و روى أبو غسان البصری قال- بنى عبید الله بن زیاد أربعه مساجد بالبصره- تقوم على بغض علی بن أبی طالب و الوقیعه فیه- مسجد بنی عدی و مسجد بنی مجاشع-و مسجد کان فی العلافین على فرضه البصره و مسجد فی الأزد- . و مما قیل عنه إنه یبغض علیا ع و یذمه- الحسن بن أبی الحسن البصری أبو سعید-.

و روى عنه حماد بن سلمه أنه قال- لو کان علی یأکل الحشف بالمدینه- لکان خیرا له مما دخل فیه- و رواه عنه أنه کان من المخذلین عن نصرته- .

و روی عنه أن علیا ع رآه و هو یتوضأ للصلاه و کان ذا وسوسه- فصب على أعضائه ماء کثیرا فقال له- أرقت ماء کثیرا یا حسن فقال- ما أراق أمیر المؤمنین من دماء المسلمین أکثر- قال أ و ساءک ذلک قال نعم قال فلا زلت مسوأ- . قالوا فما زال الحسن عابسا قاطبا مهموما إلى أن مات- . فأما أصحابنا فإنهم یدفعون ذلک عنه- و ینکرونه و یقولون- إنه کان من محبی علی بن أبی طالب ع و المعظمین له- . و روى أبو عمر بن عبد البر المحدث فی کتابه المعروف- بالاستیعاب فی معرفه الصحاب- أن إنسانا سأل الحسن عن علی ع فقال- کان و الله سهما صائبا من مرامی الله على عدوه- و ربانی هذه الأمه و ذا فضلها و ذا سابقتها- و ذا قرابتها من رسول الله ص- لم یکن بالنؤمه عن أمر الله- و لا بالملومه فی دین الله و لا بالسروقه لمال الله- أعطى القرآن عزائمه ففاز منه بریاض مونقه- ذلک علی بن أبی طالب یا لکع- .

و روى الواقدی قال: سئل الحسن عن علی ع- و کان یظن به الانحراف عنه و لم یکن کما یظن فقال- ما أقول فیمن جمع الخصال الأربع- ائتمانه على براءهو ما قال له الرسول فی غزاه تبوک- فلو کان غیر النبوه شی‏ء یفوته لاستثناه-و قول النبی ص الثقلان کتاب الله و عترتی
– و إنه لم یؤمر علیه أمیر قط و قد أمرت الأمراء على غیره- .

و روى أبان بن عیاش قال سألت الحسن البصری عن علی ع- فقال ما أقول فیه کانت له السابقه- و الفضل و العلم و الحکمه و الفقه و الرأی- و الصحبه و النجده و البلاء و الزهد و القضاء و القرابه- إن علیا کان فی أمره علیا رحم الله علیا و صلى علیه- فقلت یا أبا سعید أ تقول صلى علیه لغیر النبی- فقال ترحم على المسلمین إذا ذکروا- و صل على النبی و آله و علی خیر آله- فقلت أ هو خیر من حمزه و جعفر قال نعم- قلت و خیر من فاطمه و ابنیها قال نعم- و الله إنه خیر آل محمد کلهم و من یشک أنه خیر منهم-و قد قال رسول الله ص و أبوهما خیر منهماو لم یجر علیه اسم شرک و لا شرب خمر-و قد قال رسول الله ص لفاطمه ع زوجتک خیر أمتی- فلو کان فی أمته خیر منه لاستثناه- و لقد آخى رسول الله ص بین أصحابه فآخى بین علی و نفسه- فرسول الله ص خیر الناس نفسا و خیرهم أخا- فقلت یا أبا سعید- فما هذا الذی یقال عنک إنک قلته فی علی فقال- یا ابن أخی احقن دمی من هؤلاء الجبابره- و لو لا ذلک لشالت بی الخشب- .

قال شیخنا أبو جعفر الإسکافی رحمه الله تعالى- و وجدته أیضا فی کتاب الغارات لإبراهیم بن هلال الثقفی- و قد کان بالکوفه من فقهائها من یعادی علیا و یبغضه- مع غلبه التشیع على الکوفه فمنهم مره الهمدانی- .

و روى أبو نعیم الفضل بن دکین عن فطر بن خلیفه قال- سمعت مره یقول- لأن یکون علی جملا یستقى علیه أهله خیر له مما کان علیه- . و روى إسماعیل بن بهرام عن إسماعیل بن محمد- عن عمرو بن مره قال قیل لمره الهمدانی- کیف تخلفت عن علی قال سبقنا بحسناته- و ابتلینا بسیئاته- . قال إسماعیل بن بهرام- و قد روینا عنه أنه قال أشد فحشا من هذا- و لکنا نتورع عن ذکره- . و روى الفضل بن دکین عن الحسن بن صالح- قال لم یصل أبو صادق على مره الهمدانی- .

قال الفضل بن دکین و سمعت- أن أبا صادق قال فی أیام حیاه مره- و الله لا یظلنی و إیاه سقف بیت أبدا- . قال و لما مات لم یحضره عمرو بن شرحبیل- قال لا أحضره لشی‏ء کان فی قلبه على علی بن أبی طالب- . قال إبراهیم بن هلال فحدثنا المسعودی- عن عبد الله بن نمیر بهذا الحدیث قال- ثم کان عبد الله بن نمیر یقول و کذلک أنا- و الله لو مات رجل فی نفسه شی‏ء على علی ع لم أحضره- و لم أصل علیه- . و منهم الأسود بن یزید و مسروق بن الأجدع روى سلمه بن کهیل- أنهما کانا یمشیان إلى بعض أزواج رسول الله ص- فیقعان فی علی ع فأما الأسود فمات على ذلک- و أما مسروق فلم یمت حتى کان لا یصلى لله تعالى صلاه-إلا صلى بعدها على علی بن أبی طالب ع- لحدیث سمعه من عائشه فی فضله- .

و روى أبو نعیم الفضل بن دکین عن عبد السلام بن حرب- عن لیث بن أبی سلیم قال- کان مسروق یقول کان علی کحاطب لیل- قال فلم یمت مسروق حتى رجع عن رأیه هذا- . و روى سلمه بن کهیل قال- دخلت أنا و زبید الیمامی على امرأه مسروق بعد موته- فحدثتنا قالت کان مسروق و الأسود بن یزید- یفرطان فی سب علی بن أبی طالب- ثم ما مات مسروق حتى سمعته یصلی علیه- و أما الأسود فمضى لشأنه- . قال فسألناها لم ذلک قالت شی‏ء سمعه من عائشه- ترویه عن النبی ص فیمن أصاب الخوارج- . و روى أبو نعیم عن عمرو بن ثابت عن أبی إسحاق قال ثلاثه لا یؤمنون على علی بن أبی طالب مسروق و مره و شریح- . و روی أن الشعبی رابعهم- . و روی عن هیثم عن مجالد عن الشعبی- أن مسروقا ندم على إبطائه عن علی بن أبی طالب ع- .

و روى الأعمش عن إبراهیم التیمی قال قال علی ع لشریح و قد قضى قضیه نقم علیه أمرها- و الله لأنفینک إلى بانقیا شهرین تقضی بین الیهود- قال ثم قتل علی ع و مضى دهر- فلما قام المختار بن أبی عبید قال لشریح- ما قال لک أمیر المؤمنین ع یوم کذا- قال إنه قال لی کذا قال- فلا و الله لا تقعد حتى تخرج إلى بانقیا تقضی بین الیهود- فسیره إلیها فقضى بین الیهود شهرین- .و منهم أبو وائل شقیق بن سلمه کان عثمانیا یقع فی علی ع- و یقال إنه کان یرى رأی الخوارج- و لم یختلف فی أنه خرج معهم- و أنه عاد إلى علی ع منیبا مقلعا- . روى خلف بن خلیفه قال قال أبو وائل- خرجنا أربعه آلاف فخرج إلینا علی- فما زال یکلمنا حتى رجع منا ألفان- . و روى صاحب کتاب الغارات عن عثمان بن أبی شیبه- عن الفضل بن دکین عن سفیان الثوری قال- سمعت أبا وائل یقول شهدت صفین و بئس الصفوف کانت- .

قال و قد روى أبو بکر بن عیاش عن عاصم بن أبی النجود قال- کان أبو وائل عثمانیا و کان زر بن حبیش علویا- . و من المبغضین القالین أبو برده بن أبی موسى الأشعری- ورث البغضه له لا عن کلاله- . و روى عبد الرحمن بن جندب قال قال أبو برده لزیاد- أشهد أن حجر بن عدی قد کفر بالله کفره أصلع- قال عبد الرحمن إنما عنى بذلک- نسبه الکفر إلى علی بن أبی طالب ع لأنه کان أصلع- . قال و قد روى عبد الرحمن المسعودی- عن ابن عیاش المنتوف قال رأیت أبا برده- قال لأبی العادیه الجهنی قاتل عمار بن یاسر- أ أنت قتلت عمار بن یاسر قال نعم- قال ناولنی یدک فقبلها و قال لا تمسک النار أبدا- .

و روى أبو نعیم عن هشام بن المغیره عن الغضبان بن یزید- قال رأیت أبا برده قال لأبی العادیه قاتل عمار بن یاسر- مرحبا بأخی هاهنا فأجلسه إلى جانبه- . و من المنحرفین عنه ع أبو عبد الرحمن السلمی القارئ- روى صاحب کتاب الغارات عن عطاء بن السائب قال- قال رجل لأبی عبد الرحمن السلمی- أنشدک بالله إن سألتک لتخبرنی قال نعم- فلما أکد علیه قال- بالله هل أبغضت علیا إلا یوم قسم المال فی الکوفه- فلم یصلک و لا أهل بیتک منه بشی‏ء قال- أما إذ أنشدتنی بالله فلقد کان کذلک- .

قال و روى أبو عمر الضریر عن أبی عوانه قال- کان بین عبد الرحمن بن عطیه- و بین أبی عبد الرحمن السلمی شی‏ء فی أمر علی ع- فأقبل أبو عبد الرحمن على حیان فقال هل تدری ما جرأ صاحبک على الدماء یعنی علیا- قال و ما جرأه لا أبا لغیرک-قال حدثنا أن رسول الله ص قال لأهل بدر- اعملوا ما شئتم فقد غفرت لکم- أو کلاما هذا معناه- . و کان عبد الله بن عکیم عثمانیا- و کان عبد الرحمن بن أبی لیلى علویا- فروى موسى الجهنی عن ابنه عبد الله بن عکیم قالت- تحدثا یوما فسمعت أبی یقول لعبد الرحمن- أما إن صاحبک لو صبر لأتاه الناس- . و کان سهم بن طریف عثمانیا و کان علی بن ربیعه علویا- فضرب أمیر الکوفه على الناس بعثا- و ضرب على سهم بن طریف معهم-

فقال سهم لعلی بن ربیعه- اذهب إلى الأمیر فکلمه فی أمری لیعفینی- فأتى علی بن ربیعه الأمیر فقال أصلحک الله-إن سهما أعمى فأعفه قال قد أعفیته- فلما التقیا قال قد أخبرت الأمیر أنک أعمى- و إنما عنیت عمى القلب- . و کان قیس بن أبی حازم یبغض علیا ع- روى وکیع عن إسماعیل بن أبی خالد عن قیس بن أبی حازم- قال أتیت علیا ع لیکلم لی عثمان فی حاجه- فأبى فأبغضته- . قلت و شیوخنا المتکلمون رحمهم الله- یسقطون روایته عن النبی ص إنکم لترون ربکم کما ترون القمر لیله البدر- و یقولون إنه کان یبغض علیا ع فکان فاسقا- و نقلوا عنهأنه قال سمعت علیا ع یخطب على المنبر و یقول انفروا إلى بقیه الأحزاب- فدخل بغضه فی قلبی- . و کان سعید بن المسیب منحرفا عنه ع- و جبهه عمر بن علی ع فی وجهه بکلام شدید- .

روى عبد الرحمن بن الأسود عن أبی داود الهمدانی- قال شهدت سعید بن المسیب- و أقبل عمر بن علی بن أبی طالب ع- فقال له سعید یا ابن أخی- ما أراک تکثر غشیان مسجد رسول الله ص- کما یفعل إخوتک و بنو أعمامک- فقال عمر یا ابن المسیب- أ کلما دخلت المسجد أجی‏ء فأشهدک- فقال سعید ما أحب أن تغضب-سمعت أباک یقول إن لی من الله مقاما- لهو خیر لبنی عبد المطلب مما على الأرض من شی‏ءفقال عمر و أنا سمعت أبی یقول ما کلمه حکمهفی قلب منافق فیخرج من الدنیا- حتى یتکلم بها- فقال سعید یا ابن أخی جعلتنی منافقا- قال هو ما أقول لک ثم انصرف- . و کان الزهری من المنحرفین عنه ع- .

و روى جریر بن عبد الحمید عن محمد بن شیبه قال شهدت مسجد المدینه- فإذا الزهری و عروه بن الزبیر جالسان یذکران علیا ع- فنالا منه فبلغ ذلک علی بن الحسین ع- فجاء حتى وقف علیهما فقال- أما أنت یا عروه فإن أبی حاکم أباک إلى الله- فحکم لأبی على أبیک- و أما أنت یا زهری فلو کنت بمکه لأریتک کبر أبیک- .

و قد روی من طرق کثیره- أن عروه بن الزبیر کان یقول- لم یکن أحد من أصحاب رسول الله ص یزهو- إلا علی بن أبی طالب و أسامه بن زید- . و روى عاصم بن أبی عامر البجلی عن یحیى بن عروه قال- کان أبی إذا ذکر علیا نال منه- . و قال لی مره یا بنی- و الله ما أحجم الناس عنه إلا طلبا للدنیا- لقد بعث إلیه أسامه بن زید أن ابعث إلی بعطائی- فو الله إنک لتعلم أنک لو کنت فی فم أسد لدخلت معک- فکتب إلیه أن هذا المال لمن جاهد علیه- و لکن لی مالا بالمدینه فأصب منه ما شئت- . قال یحیى فکنت أعجب من وصفه إیاه بما وصفه به- و من عیبه له و انحرافه عنه- . و کان زید بن ثابت عثمانیا شدیدا فی ذلک- و کان عمرو بن ثابت عثمانیا- من أعداء علی ع و مبغضیه- و عمرو بن ثابت هو الذی روى عن أبی أیوب الأنصاری حدیث- سته أیام من شوال- .

روی عن عمرو أنه کان یرکب- و یدور القرى بالشام و یجمع أهلها و یقول- أیها الناس إن علیا کان رجلا منافقا- أراد أن ینخس برسول الله ص لیله العقبه فالعنوه- فیلعنه أهل تلک القریه- ثم یسیر إلى القریه الأخرى فیأمرهم بمثل ذلک- و کان فی أیام معاویه- . و کان مکحول من المبغضین له ع- روى زهیر بن معاویه عن الحسن بن الحر قال- لقیت مکحولا فإذا هو مطبوع یعنی مملوءا بغضا لعلی ع- فلم أزل به حتى لان و سکن- .

و روى المحدثون عن حماد بن زید أنه قال- أرى أن أصحاب علی أشد حبا له من أصحاب العجل لعجلهم- و هذا کلام شنیع- . و روی عن شبابه بن سوار أنه ذکر عنده ولد علی ع- و طلبهم الخلافه فقال و الله لا یصلون إلیها أبدا- و الله ما استقامت لعلی و لا فرح بها یوما- فکیف تصیر إلى ولده هیهات هیهات- لا و الله لا یذوق طعم الخلافه من رضی بقتل عثمان- . و قال شیخنا أبو جعفر الإسکافی- کان أهل البصره کلهم یبغضونه- و کثیر من أهل الکوفه و کثیر من أهل المدینه- و أما أهل مکه فکلهم کانوا یبغضونه قاطبه- و کانت قریش کلها على خلافه- و کان جمهور الخلق مع بنی أمیه علیه- .

و روى عبد الملک بن عمیر عن عبد الرحمن بن أبی بکره قال سمعت علیا ع و هو یقول ما لقی أحد من الناس ما لقیت ثم بکى ع
و روى الشعبی عن شریح بن هانئ قال قال علی ع اللهم إنی أستعدیک‏ على قریش- فإنهم قطعوا رحمی و أصغوا إنائی- و صغروا عظیم منزلتی و أجمعوا على منازعتیو روى جابر عن أبی الطفیل قال سمعت علیا ع یقول اللهم إنی أستعدیک على قریش- فإنهم قطعوا رحمی و غصبونی حقی- و أجمعوا على منازعتی أمرا کنت أولى به- ثم قالوا إن من الحق أن نأخذه و من الحق أن تترکهو روى المسیب بن نجبه الفزاری قال قال علی ع من وجدتموه من بنی أمیه فی ماء فغطوا على صماخه- حتى یدخل الماء فی فیه- .

و روى عمرو بن دینار عن ابن أبی ملیکه- عن المسور بن مخرمه قال- لقی عبد الرحمن بن عوف عمر بن الخطاب فقال- أ لم نکن نقرأ من جمله القرآن- قاتلوهم فی آخر الأمر کما قاتلتموهم فی أوله قال بلى- و لکن ذاک إذا کان الأمراء بنی أمیه و الوزراء بنی مخزوم- .
و روى أبو عمر النهدی قال سمعت علی بن الحسین یقول ما بمکه و المدینه عشرون رجلا یحبناو روى سفیان الثوری عن عمرو بن مره عن أبی البختری قال أثنى رجل على علی بن أبی طالب فی وجهه و کان یبغضه- فقال علی أنا دون ما تقول و فوق ما فی نفسک

و روى أبو غسان النهدی قال دخل قوم من الشیعه على علی ع فی الرحبه- و هو على حصیر خلق فقال ما جاء بکم- قالوا حبک یا أمیر المؤمنین- قال أما إنه من أحبنی رآنی حیث یحب أن یرانی- و من أبغضنی رآنی حیث یکره أن یرانی ثم قال- ما عبد الله أحد قبلی إلا نبیه ع- و لقد هجم أبو طالب علینا و أنا و هو ساجدان- فقال أ و فعلتموها ثم قال لی و أنا غلام ویحک- انصر ابن عمک ویحک لا تخذله-و جعل یحثنی على مؤازرته و مکانفته- فقال له رسول الله ص أ فلا تصلی أنت معنا یا عم فقال- لا أفعل یا ابن أخی لا تعلونی استی ثم انصرف
و روى جعفر بن الأحمر عن مسلم الأعور عن حبه العرنی قال قال علی ع من أحبنی کان معی- أما إنک لو صمت الدهر کله و قمت اللیل کله- ثم قتلت بین الصفا و المروه- أو قال بین الرکن و المقام- لما بعثک الله إلا مع هواک بالغا ما بلغ- إن فی جنه ففی جنه و إن فی نار ففی نارو روى جابر الجعفی عن علی ع أنه قال من أحبنا أهل البیت فلیستعد عده للبلاءو روى أبو الأحوص عن أبی حیان عن علی ع یهلک فی رجلان محب غال و مبغض

قالو روى حماد بن صالح عن أیوب عن کهمس أن علیا ع قال یهلک فی ثلاثه اللاعن و المستمع المقر و حامل الوزر- و هو الملک المترف الذی یتقرب إلیه بلعنتی- و یبرأ عنده من دینی و ینتقص عنده حسبی- و إنما حسبی حسب رسول الله ص و دینی دینه- و ینجو فی ثلاثه من أحبنی و من أحب محبی و من عادى عدوی- فمن أشرب قلبه بغضی أو ألب على بغضی أو انتقصنی- فلیعلم أن الله عدوه و خصمه و الله عدو للکافرین و روى محمد بن الصلت عن محمد بن الحنفیه قال من أحبنا نفعه الله بحبنا و لو کان أسیرا بالدیلمو روى أبو صادق عن ربیعه بن ناجد عن علی ع قال قال لی رسول الله ص- إن فیک لشبها من عیسى ابن مریم- أحبته النصارى حتى أنزلته بالمنزله التی لیست له- و أبغضته الیهود حتى بهتت أمه

و روى صاحب کتاب الغارات حدیث البراءه- على غیر الوجه المذکور فی کتاب نهج البلاغه-قال أخبرنا یوسف بن کلیب المسعودی عن یحیى بن سلیمان العبدی عن أبی مریم الأنصاری عن محمد بن علی الباقر ع قال خطب علی ع على منبر الکوفه فقال سیعرض علیکم سبی و ستذبحون علیه- فإن عرض علیکم سبی فسبونی- و إن عرض علیکم البراءه منی فإنی على دین محمد ص- و لم یقل فلا تبرءوا منی

و قال أیضا حدثنی أحمد بن مفضل قال حدثنی الحسن بن صالح عن جعفر بن محمد ع قال قال علی ع و الله لتذبحن على سبی و أشار بیده إلى حلقه ثم قال- فإن أمروکم بسبی فسبونی- و إن أمروکم أن تبرءوا منی فإنی على دین محمد ص- و لم ینههم عن إظهار البراءه
و روى شیخنا أبو القاسم البلخی رحمه الله تعالى- عن سلمه بن کهیل عن المسیب بن نجبه قال بینا علی ع یخطب إذ قام أعرابی فصاح وا مظلمتاه- فاستدناه علی ع فلما دنا قال له- إنما لک مظلمه واحده و أنا قد ظلمت عدد المدر و الوبر

قال و فی روایه عباد بن یعقوب إنه دعاه فقال له ویحک- و أنا و الله مظلوم أیضا هات فلندع على من ظلمناو روى سدیر الصیرفی عن أبی جعفر محمد بن علی قال اشتکى علی ع شکاه فعاده أبو بکر و عمر و خرجا من عنده- فأتیا النبی ص فسألهما من أین جئتما قالا عدنا علیا- قال کیف رأیتماه قال رأیناه یخاف علیه مما به فقال- کلا إنه لن یموت حتى یوسع غدرا و بغیا- و لیکونن فی هذه الأمه عبره یعتبر به الناس من بعده

و روى عثمان بن سعید عن عبد الله بن الغنوی أن علیا ع خطب بالرحبه فقال أیها الناس- إنکم قد أبیتم إلا أن أقولها و رب السماء و الأرض- إن من عهد النبی الأمی إلی أن الأمه ستغدر بک بعدی

و روى هیثم بن بشیر عن إسماعیل بن سالم: مثله- و قد روى أکثر أهل الحدیث هذا الخبر- بهذا اللفظ أو بقریب منه- .

و روى أبو جعفر الإسکافی أیضا أن النبی ص دخل على فاطمه ع فوجد علیا نائما- فذهبت تنبهه فقال دعیه فرب سهر له بعدی طویل- و رب جفوه لأهل بیتی من أجله شدیده- فبکت فقال لا تبکی فإنکما معی- و فی موقف الکرامه عندی

و روى الناس کافه أن رسول الله ص قال له- هذا ولیی و أنا ولیه عادیت من عاداه و سالمت من سالمه- أو نحو هذا اللفظ- .

و روى أیضا محمد بن عبید الله بن أبی رافع عن زید بن علی بن الحسین ع قال قال رسول الله ص لعلی ع- عدوک عدوی و عدوی عدو الله عز و جل

و روى یونس بن حباب عن أنس بن مالک قال کنا مع رسول الله ص و علی بن أبی طالب معنا- فمررنا بحدیقه فقال علی یا رسول الله- أ لا ترى ما أحسن هذه الحدیقه فقال- إن حدیقتک فی الجنه أحسن منها- حتى مررنا بسبع حدائق یقول علی ما قال- و یجیبه رسول الله ص بما أجابه- ثم إن رسول الله ص وقف فوقفنا- فوضع رأسه على رأس علی و بکى- فقال علی ما یبکیک یا رسول الله قال- ضغائن فی صدور قوم لا یبدونها لک حتى یفقدونی-

فقال یا رسول الله- أ فلا أضع سیفی على عاتقی فأبید خضراءهم قال بل تصبر- قال فإن صبرت قال تلاقی جهدا- قال أ فی سلامه من دینی قال نعم قال فإذا لا أبالی

و روى جابر الجعفی عن محمد بن علی ع قال قال علی ع ما رأیت منذ بعث الله محمدا ص رخاء- لقد أخافتنی قریش صغیرا و أنصبتنی کبیرا- حتى قبض الله رسوله فکانت الطامه الکبرى- وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ‏

و روى صاحب کتاب الغارات عن الأعمش عن أنس بن مالک قال سمعت رسول الله ص یقول سیظهر على الناس رجل من أمتی- عظیم السرم واسع البلعوم- یأکل و لا یشبع یحمل وزر الثقلین یطلب الإماره یوما- فإذا أدرکتموه فابقروا بطنه- قال و کان فی ید رسول الله ص قضیب- قد وضع طرفه فی بطن معاویه- . قلت هذا الخبر مرفوع- مناسب لما قاله علی ع فی نهج البلاغه- و مؤکد لاختیارنا أن المراد به معاویه- دون ما قاله کثیر من الناس إنه زیاد و المغیره- .

و روى جعفر بن سلیمان الضبعی عن أبی هارون العبدی عن أبی سعید الخدری قال ذکر رسول الله ص یوما لعلی ما یلقى بعده من العنت- فأطال فقال له ع أنشدک الله و الرحم یا رسول الله- لما دعوت الله أن یقبضنی إلیه قبلک- قال کیف أسأله فی أجل مؤجل- قال یا رسول الله فعلام أقاتل من أمرتنی بقتاله- قال على الحدث فی الدین

و روى الأعمش عن عمار الدهنی عن أبی صالح الحنفی عن علی ع قال‏قال لنا یوما لقد رأیت اللیله رسول الله ص فی المنام- فشکوت إلیه ما لقیت حتى بکیت- فقال لی انظر فنظرت فإذا جلامید- و إذا رجلان مصفدان- قال الأعمش هما معاویه و عمرو بن العاص- قال فجعلت أرضخ رءوسهما ثم تعود- ثم أرضخ ثم تعود حتى انتبهت

و روى نحو هذا الحدیث عمرو بن مره عن أبی عبد الله بن سلمه عن علی ع قال رأیت اللیله رسول الله ص فشکوت إلیه فقال- هذه جهنم فانظر من فیها- فإذا معاویه و عمرو بن العاص معلقین بأرجلهما منکسین- ترضخ رءوسهما بالحجاره أو قال تشدخ

و روى قیس بن الربیع عن یحیى بن هانئ المرادی عن رجل من قومه یقال له ریاد بن فلان قال کنا فی بیت مع علی ع نحن شیعته و خواصه- فالتفت فلم ینکر منا أحدا فقال- إن هؤلاء القوم سیظهرون علیکم- فیقطعون أیدیکم و یسملون أعینکم- فقال رجل منا و أنت حی یا أمیر المؤمنین قال- أعاذنی الله من ذلک فالتفت فإذا واحد یبکی- فقال له یا ابن الحمقاء- أ ترید اللذات فی الدنیا و الدرجات فی الآخره- إنما وعد الله الصابرین

 و روى زراره بن أعین عن أبیه عن أبی جعفر محمد بن علی ع قال کان علی ع إذا صلى الفجر- لم یزل معقبا إلى أن تطلع الشمس- فإذا طلعت اجتمع إلیه الفقراء و المساکین- و غیرهم من الناس فیعلمهم الفقه و القرآن- و کان له وقت یقوم فیه من مجلسه ذلک- فقام یوما فمر برجل فرماه بکلمه هجر قال- لم یسمه محمد بن علی ع- فرجع عوده على بدئه حتى صعد المنبر- و أمر فنودی الصلاه جامعه فحمد الله و أثنى علیه- و صلى على نبیه ثم قال أیها الناس- إنه لیس شی‏ء أحب إلى الله- و لا أعم نفعا من‏حلم إمام و فقهه- و لا شی‏ء أبغض إلى الله و لا أعم ضررا من جهل إمام و خرقه- ألا و إنه من لم یکن له من نفسه واعظ- لم یکن له من الله حافظ- ألا و إنه من أنصف من نفسه لم یزده الله إلا عزا- ألا و إن الذل فی طاعه الله أقرب- إلى الله من التعزز فی معصیته- ثم قال أین المتکلم آنفا فلم یستطع الإنکار- فقال ها أنا ذا یا أمیر المؤمنین فقال- أما إنی لو أشاء لقلت فقال- إن تعف و تصفح فأنت أهل ذلک- قال قد عفوت و صفحت- فقیل لمحمد بن علی ع ما أراد أن یقول قال أراد أن ینسبه

و روى زراره أیضا قال قیل لجعفر بن محمد ع إن قوما هاهنا ینتقصون علیا ع- قال بم ینتقصونه لا أبا لهم و هل فیه موضع نقیصه- و الله ما عرض لعلی أمران قط- کلاهما لله طاعه إلا عمل بأشدهما و أشقهما علیه- و لقد کان یعمل العمل کأنه قائم بین الجنه و النار- ینظر إلى ثواب هؤلاء فیعمل له- و ینظر إلى عقاب هؤلاء فیعمل له- و إن کان لیقوم إلى الصلاه- فإذا قال وجهت وجهی تغیر لونه- حتى یعرف ذلک فی وجهه- و لقد أعتق ألف عبد من کد یده- کل منهم یعرق فیه جبینه و تحفى فیه کفه- و لقد بشر بعین نبعت فی ماله مثل عنق الجزور- فقال بشر الوارث بشر- ثم جعلها صدقه على الفقراء و المساکین و ابن السبیل- إلى أن یرث الله الأرض و من علیها- لیصرف الله النار عن وجهه و یصرف وجهه عن النار

و روى القناد عن أبی مریم الأنصاری عن علی ع لا یحبنی کافر و لا ولد زنا- . و روى جعفر بن زیاد عن أبی هارون العبدی- عن أبی سعید الخدری قال- کنا بنور إیماننا نحب علی بن أبی طالب ع- فمن أحبه عرفنا أنه منا

فصل فی معنى قول علی فسبونی فإنه لی زکاه

المسأله الثالثه- فی معنى قوله ع فسبونی فإنه لی زکاه و لکم نجاه- فنقول إنه أباح لهم سبه عند الإکراه- لأن الله تعالى قد أباح عند الإکراه التلفظ بکلمه الکفر- فقال إِلَّا مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ- و التلفظ بکلمه الکفر أعظم من التلفظ بسب الإمام- . فأما قوله فإنه لی زکاه و لکم نجاه- فمعناه أنکم تنجون من القتل إذا أظهرتم ذلک- و معنى الزکاه یحتمل أمرین- أحدهما ما ورد فی الأخبار النبویه- أن سب المؤمن زکاه له و زیاده فی حسناته- . و الثانی- أن یرید به أن سبهم لی لا ینقص فی الدنیا من قدری- بل أزید به شرفا و علو قدر و شیاع ذکر و هکذا کان- فإن الله تعالى جعل الأسباب التی- حاول أعداؤه بها الغض منه- عللا لانتشار صیته فی مشارق الأرض و مغاربها- . و قد لمح هذا المعنى أبو نصر بن نباته- فقال للشریف الجلیل محمد بن عمر العلوی-

و أبوک الوصی أول من شاد
منار الهدى و صام و صلى‏

نشرت حبله قریش فأعطته‏
إلى صبحه القیامه فتلا

 و احتذیت أنا حذوه فقلت لأبی المظفر- هبه الله بن موسى الموسوی رحمه الله تعالى- فی قصیده أذکر فیها أباه-

أمک الدره التی أنجبت من
جوهر المجد راضیا مرضیا

و أبوک الإمام موسى کظیم‏
الغیظ حتى یعیده منسیا

و أبوه تاج الهدى جعفر الصادق
وحیا عن الغیوب وحیا

و أبوه محمد باقر العلم‏
مضى لنا هادیا مهدیا

و أبوه السجاد أتقى عباد
الله لله مخلصا و وفیا

و الحسین الذی تخیر أن‏
یقضی عزیزا و لا یعیش دنیا

و أبوه الوصی أول من
طاف و لبى سبعا و ساق الهدیا

طامنت مجده قریش فأعطته‏
إلى سدره السماء رقیا

أخملت صیته فطار إلى أن
ملأ الأفق ضجه و دویا

و أبو طالب کفیل أبی‏
القاسم کهلا و یافعا و فتیا

و لشیخ البطحاء تاج معد
شیبه الحمد هل علمت سمیا

و أبو عمر العلا هاشم الجود
و من مثل هاشم بشریا

و أبوه الهمام عبد مناف
قل تقل صادقا و تبدی بدیا

ثم زید أعنی قصی الذی لم‏
یک عن ذروه العلاء قصیا

نسب إن تلفع النسب المحض
لفاعا کان السلیب العریا

و إذا أظلمت مناسخه الأحساب‏
یوما کان المنیر الجلیا

یا له مجده على قدم الدهر
و قد یفضل العتیق الطریا

 و ذکرنا هاهنا ما قبل المعنى و ما بعده لأن الشعر حدیث- و الحدیث کما قیل یأخذ بعضه برقاب بعض- و لأن ما قبل المعنى و ما بعده مکمل له و موضح مقصده- . فإن قلت أی مناسبه بین لفظ الزکاه- و انتشار الصیت و السمع- . قلت لأن الزکاه هی النماء و الزیاده- و منه سمیت الصدقه المخصوصه زکاه- لأنها تنمی المال المزکى- و انتشار الصیت نماء و زیاده

فصل فی اختلاف الرأی فی معنى السب و البراءه

المسأله الرابعه- أن یقال کیف قال ع- فأما السب فسبونی فإنه لی زکاه و لکم نجاه- و أما البراءه فلا تبرءوا منی- و أی فرق بین السب و البراءه- و کیف أجاز لهم السب و منعهم عن التبرؤ- و السب أفحش من التبرؤ- . و الجواب أما الذی یقوله أصحابنا فی ذلک- فإنه لا فرق عندهم بین سبه و التبرؤ منه- فی أنهما حرام و فسق و کبیره- و أن المکره علیهما یجوز له فعلهما عند خوفه على نفسه- کما یجوز له إظهار کلمه الکفر عند الخوف- . و یجوز ألا یفعلهما و إن قتل- إذا قصد بذلک إعزاز الدین- کما یجوز له أن یسلم نفسه للقتل- و لا یظهر کلمه الکفر إعزازا للدین- و إنما استفحش ع البراءه لأن هذه اللفظه ما وردت فی القرآن العزیز- إلا عن المشرکین أ لا ترى إلى قوله تعالى- بَراءَهٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِینَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِکِینَ- و قال تعالى أَنَّ اللَّهَ بَرِی‏ءٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ وَ رَسُولُهُ- فقد صارت بحسب العرف الشرعی مطلقه- على المشرکین خاصه- فإذن یحمل هذا النهی على ترجیح تحریم لفظ البراءه- على لفظ السب و إن کان حکمهما واحدا- أ لا ترى إن إلقاء المصحف فی القذر أفحش- من إلقاء المصحف فی دن الشراب- و إن کانا جمیعا محرمین و کان حکمهما واحدا- .
فأما الإمامیه فتروی عنه ع أنه قال إذا عرضتم على البراءه منا فمدوا الأعناقو یقولون إنه لا یجوز التبرؤ منه- و إن کان الحالف صادقا و إن علیه الکفاره- .

و یقولون إن حکم البراءه من الله تعالى و من الرسول- و منه ع و من أحد الأئمه ع حکم واحد- . و یقولون إن الإکراه على السب یبیح إظهاره- و لا یجوز الاستسلام للقتل معه- و أما الإکراه على البراءه- فإنه یجوز معه الاستسلام للقتل و یجوز أن یظهر التبرؤ- و الأولى أن یستسلم للقتل

فصل فی معنى قول علی إنی ولدت على الفطره

المسأله الخامسه- أن یقال کیف علل نهیه لهم على البراءه منه ع بقوله- فإنی ولدت على الفطره- فإن هذا التعلیل لا یختص به ع- لأن کل أحد یولد على الفطره-قال النبی ص کل مولود یولد على الفطره- و إنما أبواه یهودانه و ینصرانهو الجواب- أنه ع علل نهیه لهم عن البراءه منه بمجموع أمور و علل- و هی کونه ولد على الفطره- و کونه سبق إلى الإیمان و الهجره- و لم یعلل بآحاد هذا المجموع- و مراده هاهنا بالولاده على الفطره- أنه لم یولد فی الجاهلیه- لأنه ولد ع لثلاثین عاما مضت من عام الفیل- و النبی ص أرسل لأربعین سنه مضت من عام الفیل- و قد جاء فی الأخبار الصحیحه- أنه ص مکث قبل الرساله سنین عشرا- یسمع الصوت و یرى الضوء و لا یخاطبه أحد- و کان ذلک إرهاصا لرسالته ع- فحکم تلک السنین العشر حکم أیام رسالته ص- فالمولود فیها إذا کان فی حجره- و هو المتولی لتربیته مولود فی أیام کأیام النبوه- و لیس بمولود فی جاهلیه محضه- ففارقت حاله حال من- یدعى له من الصحابه مماثلته فی الفضل- و قد روی أن السنه التی ولد فیها علی‏

و أبوه تاج الهدى جعفر الصادق
وحیا عن الغیوب وحیا

و أبوه محمد باقر العلم‏
مضى لنا هادیا مهدیا

و أبوه السجاد أتقى عباد
الله لله مخلصا و وفیا

و الحسین الذی تخیر أن‏
یقضی عزیزا و لا یعیش دنیا

و أبوه الوصی أول من
طاف و لبى سبعا و ساق الهدیا

طامنت مجده قریش فأعطته‏
إلى سدره السماء رقیا

أخملت صیته فطار إلى أن
ملأ الأفق ضجه و دویا

و أبو طالب کفیل أبی‏
القاسم کهلا و یافعا و فتیا

و لشیخ البطحاء تاج معد
شیبه الحمد هل علمت سمیا

و أبو عمر العلا هاشم الجود
و من مثل هاشم بشریا

و أبوه الهمام عبد مناف
قل تقل صادقا و تبدی بدیا

ثم زید أعنی قصی الذی لم‏
یک عن ذروه العلاء قصیا

نسب إن تلفع النسب المحض
لفاعا کان السلیب العریا

و إذا أظلمت مناسخه الأحساب‏
یوما کان المنیر الجلیا

یا له مجده على قدم الدهر
و قد یفضل العتیق الطریا

و ذکرنا هاهنا ما قبل المعنى و ما بعده لأن الشعر حدیث- و الحدیث کما قیل یأخذ بعضه برقاب بعض- و لأن ما قبل المعنى و ما بعده مکمل له و موضح مقصده- . فإن قلت أی مناسبه بین لفظ الزکاه- و انتشار الصیت و السمع- . قلت لأن الزکاه هی النماء و الزیاده- و منه سمیت الصدقه المخصوصه زکاه- لأنها تنمی المال المزکى- و انتشار الصیت نماء و زیاده

فصل فی اختلاف الرأی فی معنى السب و البراءه

المسأله الرابعه- أن یقال کیف قال ع- فأما السب فسبونی فإنه لی زکاه و لکم نجاه- و أما البراءه فلا تبرءوا منی- و أی فرق بین السب و البراءه- و کیف أجاز لهم السب و منعهم عن التبرؤ- و السب أفحش من التبرؤ- . و الجواب أما الذی یقوله أصحابنا فی ذلک- فإنه لا فرق عندهم بین سبه و التبرؤ منه- فی أنهما حرام و فسق و کبیره- و أن المکره علیهما یجوز له فعلهما عند خوفه على نفسه- کما یجوز له إظهار کلمه الکفر عند الخوف- . و یجوز ألا یفعلهما و إن قتل- إذا قصد بذلک إعزاز الدین- کما یجوز له أن یسلم نفسه للقتل- و لا یظهر کلمه الکفر إعزازا للدین- و إنما استفحش ع البراءه لأن هذه اللفظه ما وردت فی القرآن العزیز- إلا عن المشرکین أ لا ترى إلى قوله تعالى- بَراءَهٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِینَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِکِینَ-

و قال تعالى أَنَّ اللَّهَ بَرِی‏ءٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ وَ رَسُولُهُ- فقد صارت بحسب العرف الشرعی مطلقه- على المشرکین خاصه- فإذن یحمل هذا النهی على ترجیح تحریم لفظ البراءه- على لفظ السب و إن کان حکمهما واحدا- أ لا ترى إن إلقاء المصحف فی القذر أفحش- من إلقاء المصحف فی دن الشراب- و إن کانا جمیعا محرمین و کان حکمهما واحدا- .فأما الإمامیه فتروی عنه ع أنه قال إذا عرضتم على البراءه منا فمدوا الأعناقو یقولون إنه لا یجوز التبرؤ منه- و إن کان الحالف صادقا و إن علیه الکفاره- .و یقولون إن حکم البراءه من الله تعالى و من الرسول- و منه ع و من أحد الأئمه ع حکم واحد- . و یقولون إن الإکراه على السب یبیح إظهاره- و لا یجوز الاستسلام للقتل معه- و أما الإکراه على البراءه- فإنه یجوز معه الاستسلام للقتل و یجوز أن یظهر التبرؤ- و الأولى أن یستسلم للقتل

فصل فی معنى قول علی إنی ولدت على الفطره

المسأله الخامسه- أن یقال کیف علل نهیه لهم على البراءه منه ع بقوله- فإنی ولدت على الفطره- فإن هذا التعلیل لا یختص به ع- لأن کل أحد یولد على الفطره-قال النبی ص کل مولود یولد على الفطره- و إنما أبواه یهودانه و ینصرانه و الجواب- أنه ع علل نهیه لهم عن البراءه منه بمجموع أمور و علل- و هی کونه ولد على الفطره- و کونه سبق إلى الإیمان و الهجره- و لم یعلل بآحاد هذا المجموع- و مراده هاهنا بالولاده على الفطره- أنه لم یولد فی الجاهلیه- لأنه ولد ع لثلاثین عاما مضت من عام الفیل- و النبی ص أرسل لأربعین سنه مضت من عام الفیل- و قد جاء فی الأخبار الصحیحه- أنه ص مکث قبل الرساله سنین عشرا- یسمع الصوت و یرى الضوء و لا یخاطبه أحد- و کان ذلک إرهاصا لرسالته ع- فحکم تلک السنین العشر حکم أیام رسالته ص- فالمولود فیها إذا کان فی حجره- و هو المتولی لتربیته مولود فی أیام کأیام النبوه- و لیس بمولود فی جاهلیه محضه- ففارقت حاله حال من- یدعى له من الصحابه مماثلته فی الفضل- و قد روی أن السنه التی ولد فیها علی‏ ع- هی السنه التی- بدئ فیها برساله رسول الله ص- فأسمع الهتاف من الأحجار و الأشجار و کشف عن بصره- فشاهد أنوارا و أشخاصا و لم یخاطب فیها بشی‏ء- و هذه السنه هی السنه التی ابتدأ فیها بالتبتل- و الانقطاع و العزله فی جبل حراء- فلم یزل به حتى کوشف بالرساله و أنزل علیه الوحی- و کان رسول الله ص یتیمن بتلک السنه- و بولاده علی ع فیها و یسمیها سنه الخیر و سنه البرکه-

و قال لأهله لیله ولادته- و فیها شاهد ما شاهد من الکرامات و القدره الإلهیه- و لم یکن من قبلها شاهد من ذلک شیئا-لقد ولد لنا اللیله مولود- یفتح الله علینا به أبوابا کثیره من النعمه و الرحمه- و کان کما قال ص فإنه ع کان ناصره- و المحامی عنه و کاشف الغماء عن وجهه- و بسیفه ثبت دین الإسلام و رست دعائمه- و تمهدت قواعده- . و فی المسأله تفسیر آخر و هو أن یعنیبقوله ع فإنی ولدت على الفطره- أی على الفطره التی لم تتغیر و لم تحل- و ذلک أن معنىقول النبی ص کل مولود یولد على الفطره- أن کل مولود فإن الله تعالى قد هیأه بالعقل الذی- خلقه فیه و بصحه الحواس و المشاعر- لأن یعلم التوحید و العدل- و لم یجعل فیه مانعا یمنعه عن ذلک- و لکن التربیه و العقیده فی الوالدین- و الإلف لاعتقادهما و حسن الظن فیهما یصده عما فطر علیه- و أمیر المؤمنین ع دون غیره- ولد على الفطره التی لم تحل و لم یصد عن مقتضاها مانع- لا من جانب الأبوین و لا من جهه غیرهما- و غیره ولد على الفطره- و لکنه حال عن مقتضاها و زال عن موجبها- . و یمکن أن یفسر بأنه ع أراد بالفطره العصمه- و أنه منذ ولد لم یواقع قبیحاو لا کان کافرا طرفه عین قط- و لا مخطئا و لا غالطا فی شی‏ء من الأشیاء المتعلقه بالدین- و هذا تفسیر الإمامیه

فصل فیما قیل من سبق علی إلى الإسلام

المسأله السادسه- أن یقال کیف قال و سبقت إلى الإیمان- و قد قال قوم من الناس إن أبا بکر سبقه- و قال قوم إن زید بن حارثه سبقه- . و الجواب- أن أکثر أهل الحدیث و أکثر المحققین من أهل السیره- رووا أنه ع أول من أسلم- و نحن نذکر کلام أبی عمر یوسف بن عبد البر- المحدث فی کتابه المعروف بالإستیعاب- . قال أبو عمر فی ترجمه علی ع- المروی عن سلمان و أبی ذر و المقداد و خباب- و أبی سعید الخدری و زید بن أسلم أن علیا ع أول من أسلم- و فضله هؤلاء على غیره- . قال أبو عمر و قال ابن إسحاق- أول من آمن بالله- و بمحمد رسول الله ص علی بن أبی طالب ع- و هو قول ابن شهاب إلا أنه قال من الرجال بعد خدیجه- .

قال أبو عمر و حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جریر قال حدثنا علی بن عبد الله الدهقان قال حدثنا محمد بن صالح عن سماک بن حرب عن عکرمه عن ابن عباس قال لعلی ع أربع خصال لیست‏ لأحد غیره- هو أول عربی و عجمی صلى مع رسول الله ص- و هو الذی کان معه لواؤه فی کل زحف- و هو الذی صبر معه یوم فر عنه غیره- و هو الذی غسله و أدخله قبرهقال أبو عمر و روی عن سلمان الفارسی أنه قال أول هذه الأمه ورودا على نبیها ص الحوض أولها إسلاما علی بن أبی طالب-

و قد روی هذا الحدیث مرفوعا-عن سلمان عن النبی ص أنه قال أول هذه الأمه ورودا علی الحوض أولها إسلاما- علی بن أبی طالب
– . قال أبو عمر و رفعه أولى لأن مثله لا یدرک بالرأی- . قال أبو عمر فأما إسناد المرفوع-فإن أحمد بن قاسم قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن الحارث بن أبی أسامه قال حدثنی یحیى بن هاشم قال حدثنا سفیان الثوری عن سلمه بن کهیل عن أبی صادق عن حنش بن المعتمر عن علیم الکندی عن سلمان الفارسی قال قال رسول الله ص أولکم واردا علی الحوض أولکم إسلاما- علی بن أبی طالب قال أبو عمر و روى أبو داود الطیالسی قال حدثنا أبو عوانه عن أبی بلج عن عمرو بن میمون عن ابن عباس أنه قال أول من صلى مع النبی ص بعد خدیجه علی بن أبی طالب

قال أبو عمر و حدثنا عبد الوارث بن سفیان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهیر بن حرب قال حدثنا الحسن بن حماد قال حدثنا أبو عوانه عن أبی بلج عن عمرو بن میمون عن ابن عباس قال کان علی أول من آمن من الناس بعد خدیجه- .

قال أبو عمر هذا الإسناد لا مطعن فیه لأحد- لصحته و ثقه نقلته- و قد عارض‏ما ذکرنا فی باب أبی بکر الصدیق-عن ابن عباس و الصحیح فی أمر أبی بکر أنه أول من أظهر إسلامه- کذلک قاله مجاهد و غیره قالوا و منعه قومه- . قال أبو عمر اتفق ابن شهاب و عبد الله بن محمد بن عقیل- و قتاده و ابن إسحاق على أن أول من أسلم من الرجال علی- و اتفقوا على أن خدیجه أول من آمن بالله و رسوله- و صدقه فیما جاء به ثم علی بعد- . و روی عن أبی رافع مثل ذلک- .

قال أبو عمر و حدثنا عبد الوارث قال- حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهیر قال- حدثنا عبد السلام بن صالح قال- حدثنا عبد العزیز بن محمد الدراوردی قال- حدثنا عمر مولى غفره قال- سئل محمد بن کعب القرظی عن أول من أسلم علی أم أبی بکر- فقال سبحان الله علی أولهما إسلاما- و إنما شبه على الناس لأن علیا أخفى إسلامه من أبی طالب- و أسلم أبو بکر فأظهر إسلامه- . قال أبو عمر و لا شک عندنا أن علیا أولهما إسلاما- ذکر عبد الرزاق فی جامعه- عن معمر عن قتاده عن الحسن و غیره قالوا- أول من أسلم بعد خدیجه علی بن أبی طالب ع- .

و روى معمر عن عثمان الجزری عن مقسم عن ابن عباس قال أول من أسلم علی بن أبی طالب قال أبو عمر و روى ابن فضیل عن الأجلح عن حبه بن جوین العرنی قال سمعت علیا ع یقول لقد عبدت الله قبل أن یعبده أحد- من هذه الأمه خمس سنین قال أبو عمر و روى شعبه عن سلمه بن کهیل عن حبه العرنی قال سمعت علیا یقول إنا أول من صلى مع رسول الله ص قال أبو عمر و قد روى سالم بن أبی الجعد قال- قلت لابن الحنفیه أبو بکر کان أولهما إسلاما قال لا- .

قال أبو عمر و روى مسلم الملائی عن أنس بن مالک قال- استنبئ النبی ص یوم الإثنین و صلى علی یوم الثلاثاء- . قال أبو عمر و قال زید بن أرقم- أول من آمن بالله بعد رسول الله ص علی بن أبی طالب- . قال و قد روی حدیث زید بن أرقم من وجوه- ذکرها النسائی و أسلم بن موسى و غیرهما- منها ما حدثنا به عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال- حدثنا أحمد بن زهیر قال حدثنا علی بن الجعد قال- حدثنا شعبه قال أخبرنی عمرو بن مره قال- سمعت أبا حمزه الأنصاری قال سمعت زید بن أرقم یقول- أول من صلى مع رسول الله ص علی بن أبی طالب- .

قال أبو عمر و حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم- حدثنا أحمد بن زهیر بن حرب حدثنا أبی قال- حدثنا یعقوب بن إبراهیم بن سعد قال- حدثنا ابن إسحاق قال حدثنا یحیى بن أبی الأشعث- عن إسماعیل بن إیاس بن عفیف الکندی عن أبیه عن جده- قال کنت امرأ تاجرا فقدمت الحج- فأتیت العباس بن عبد المطلب- لأبتاع منه بعض التجاره و کان امرأ تاجرا- فو الله إنی لعنده بمنى إذ خرج رجل من خباء قریب منه- فنظر إلى الشمس فلما رآها قد مالت قام یصلی- ثم خرجت امرأه من ذلک الخباء الذی- خرج منه ذلک الرجل فقامت خلفه تصلی- ثم خرج غلام حین راهق الحلم من ذلک الخباء- فقام معه یصلی فقلت للعباس ما هذا یا عباس قال- هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخی- قلت من هذه المرأه-

قال امرأته خدیجه بنت خویلد- قلت ما هذا الفتى قال علی بن أبی طالب ابن عمه- قلت ما هذا الذی یصنع قال یصلی و هو یزعم أنه نبی- و لم یتبعه على أمره إلا امرأته و ابن عمه هذا الغلام- و هو یزعم أنه سیفتح على أمته کنوز کسرى و قیصر- قال فکان عفیف الکندی یقول- و قد أسلم بعد ذلک و حسن إسلامه- لو کان الله رزقنی الإسلام یومئذ کنت أکون ثانیا مع علی- . قال أبو عمر و قد ذکرنا هذا الحدیث من طرق- فی باب عفیف الکندی من هذا الکتاب- .

قال أبو عمر و لقد قال علی ع صلیت مع رسول الله ص کذا و کذا- لا یصلی معه غیری إلا خدیجه- . فهذه الروایات و الأخبار کلها- ذکرها أبو عمر یوسف بن عبد البر فی الکتاب المذکور- و هی کما تراها تکاد تکون إجماعا- . قال أبو عمر و إنما الاختلاف فی کمیه سنه ع یوم أسلم- ذکر الحسن بن علی الحلوانی فی کتاب المعرفه له- قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا اللیث بن سعد- عن أبی الأسود محمد بن عبد الرحمن- أنه بلغه أن علیا و الزبیر أسلما و هما ابنا ثمانی سنین- کذا یقول أبو الأسود یتیم عروه- و ذکره أیضا ابن أبی خیثمه عن قتیبه بن سعید- عن اللیث بن سعد عن أبی الأسود و ذکره عمر بن شبه- عن الحزامی عن أبی وهب عن اللیث عن أبی الأسود- قال اللیث و هاجرا و هما ابنا ثمان عشره سنه- .

قال أبو عمر و لا أعلم أحدا قال بقول أبی الأسود هذا- . قال أبو عمر و روى الحسن بن علی الحلوانی قال- حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن قتاده عن الحسن- قال أسلم علی و هو ابن خمس عشره سنه-قال أبو عمر و أخبرنا أبو القاسم خلف بن قاسم بن سهل- قال حدثنا أبو الحسن علی بن محمد بن إسماعیل الطوسی- قال أخبرنا أبو العباس- محمد بن إسحاق بن إبراهیم السراج قال- حدثنا محمد بن مسعود قال أخبرنا عبد الرزاق قال- أخبرنا معمر عن قتاده عن الحسن قال أسلم علی- و هو أول من أسلم و هو ابن خمس عشره سنه أو ست عشره سنه- . قال أبو عمر قال ابن وضاح- و ما رأیت أحدا قط أعلم بالحدیث من محمد بن مسعود- و لا بالرأی من سحنون- .

قال أبو عمر قال ابن إسحاق- أول ذکر آمن بالله و رسوله علی بن أبی طالب ع- و هو یومئذ ابن عشر سنین- . قال أبو عمر و الروایات فی مبلغ سنه ع مختلفه- قیل أسلم و هو ابن ثلاث عشره سنه- و قیل ابن اثنتی عشره سنه و قیل ابن خمس عشره سنه- و قیل ابن ست عشره و قیل ابن عشر و قیل ابن ثمان- . قال أبو عمر و ذکر عمر بن شبه عن المدائنی- عن ابن جعده عن نافع عن ابن عمر قال- أسلم علی و هو ابن ثلاث عشره سنه- . قال و أخبرنا إبراهیم بن المنذر الحرامی قال- حدثنا محمد بن طلحه قال- حدثنی جدی إسحاق بن یحیى عن طلحه قال- کان علی بن أبی طالب ع و الزبیر بن العوام- و طلحه بن عبید الله و سعد بن أبی وقاص أعمارا واحده- . قال و أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال- حدثنا إسماعیل بن علی الخطبی قال- حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثنی أبی قال- حدثنا حجین أبو عمر قال- حدثنا حبان عن معروف عن أبی معشر قال- کان علی ع و طلحه و الزبیر فی سن واحده- .

قال و روى عبد الرزاق عن الحسن و غیره- أن أول من أسلم بعد خدیجه علی بن أبی طالب ع- و هو ابن خمس عشره سنه أو ست عشره- . قال أبو عمر و روى أبو زید عمر بن شبه قال- حدثنا شریح بن النعمان قال حدثنا الفرات بن السائب- عن میمون بن مهران عن ابن عمر قال- أسلم علی و هو ابن ثلاث عشره سنه- و توفی و هو ابن ثلاث و ستین سنه- . قال أبو عمر هذا أصح ما قیل فی ذلک و الله أعلم- . انتهى حکایه کلام أبی عمر فی کتاب الإستیعاب- . و اعلم أن شیوخنا المتکلمین لا یکادون- یختلفون فی أن أول الناس إسلاما علی بن أبی طالب ع- إلا من عساه خالف فی ذلک من أوائل البصریین- فأما الذی تقررت المقاله علیه الآن- فهو القول بأنه أسبق الناس إلى الإیمان- لا تکاد تجد الیوم فی تصانیفهم- و عند متکلمیهم و المحققین منهم خلافا فی ذلک- . و اعلم أن أمیر المؤمنین ع ما زال یدعی ذلک لنفسه- و یفتخر به و یجعله فی أفضلیته على غیره و یصرح بذلک- و قد قال غیر مره أنا الصدیق الأکبر و الفاروق الأول- أسلمت قبل إسلام أبی بکر و صلیت قبل صلاته- . و روى عنه هذا الکلام بعینه أبو محمد بن قتیبه- فی کتاب المعارف و هو غیر متهم فی أمره- .و من الشعر المروی عنه ع فی هذا المعنى- الأبیات التی أولها

محمد النبی أخی و صهری
و حمزه سید الشهداء عمی‏

و من جملتها-

سبقتکم إلى الإسلام طرا
غلاما ما بلغت أوان حلمی‏

و الأخبار الوارده فی هذا الباب کثیره جدا- لا یتسع هذا الکتاب لذکرها فلتطلب من مظانها- . و من تأمل کتب السیر و التواریخ- عرف من ذلک ما قلناه- . فأما الذاهبون- إلى أن أبا بکر أقدمهما إسلاما فنفر قلیلون- و نحن نذکر ما أورده ابن عبد البر أیضا- فی کتاب الإستیعاب فی ترجمه أبی بکر- . قال أبو عمر حدثنی خالد بن القاسم قال- حدثنا أحمد بن محبوب قال حدثنا محمد بن عبدوس قال- حدثنا أبو بکر بن أبی شیبه قال حدثنا شیخ لنا قال- أخبرنا مجالد عن الشعبی قال سألت ابن عباس أو سئل- أی الناس کان أول إسلاما- فقال أ ما سمعت قول حسان بن ثابت-

إذا تذکرت شجوا من أخی ثقه
فاذکر أخاک أبا بکر بما فعلا

خیر البریه أتقاها و أعدلها
بعد النبی و أوفاها بما حملا

و الثانی التالی المحمود مشهده
و أول الناس منهم صدق الرسلا

و یروى أن النبی ص قال لحسان- هل قلت فی أبی بکر شیئا قال نعم- و أنشده هذه الأبیات و فیها بیت رابع-

و ثانی اثنین فی الغار المنیف و قد
طاف العدو به إذ صعدوا الجبلا

فسر بذلک رسول الله ص و قال- أحسنت یا حسان و قد روی فیها بیت خامس

و کان حب رسول الله قد علموا
من البریه لم یعدل به رجلا

و قال أبو عمر و روى شعبه عن عمرو بن مره- عن إبراهیم النخعی قال أول من أسلم أبو بکر- . قال و روى الجریری عن أبی نصر قال- قال أبو بکر لعلی ع أنا أسلمت قبلک- فی حدیث ذکره فلم ینکره علیه- . قال أبو عمر و قال فیه أبو محجن الثقفی-

و سمیت صدیقا و کل مهاجر
سواک یسمى باسمه غیر منکر

سبقت إلى الإسلام و الله شاهد
و کنت جلیسا بالعریش المشهر

و بالغار إذ سمیت خلا و صاحبا
و کنت رفیقا للنبی المطهر

قال أبو عمر و روینا من وجوه عن أبی أمامه الباهلی قال حدثنی عمرو بن عبسه قال أتیت رسول الله ص و هو نازل بعکاظ- فقلت یا رسول الله ص من اتبعک على هذا الأمر فقال- حر و عبد أبو بکر و بلال قال فأسلمت عند ذلک- و ذکر الحدیث- . هذا مجموع ما ذکره أبو عمر بن عبد البر- فی هذا الباب فی ترجمه أبی بکر- و معلوم أنه لا نسبه لهذه الروایات إلى الروایات التی- ذکرها فی ترجمه علی ع الداله على سبقه- و لا ریب أن الصحیح ما ذکره أبو عمر- أن علیا ع کان هو السابق- و أن أبا بکر هو أول من أظهر إسلامه فظن أن السبق له- . و أما زید بن حارثه- فإن أبا عمر بن عبد البر رضی الله تعالى عنه- ذکر فی کتاب الإستیعاب أیضا فی ترجمه زید بن حارثه- قال ذکر معمر بن شبه فی جامعه عن الزهری أنه قال- ما علمنا أحدا أسلم قبل زید بن حارثه- .قال عبد الرزاق و ما أعلم أحدا ذکره غیر الزهری- . و لم یذکر صاحب الإستیعاب- ما یدل على سبق زید إلا هذه الروایه و استغربها- فدل مجموع ما ذکرناه أن علیا ع أول الناس إسلاما- و أن المخالف فی ذلک شاذ و الشاذ لا یعتد به

فصل فیما ذکر من سبق علی إلى الهجره

المسأله السابعه- أن یقال کیف قال إنه سبق إلى الهجره- و معلوم أن جماعه من المسلمین هاجروا قبله- منهم عثمان بن مظعون و غیره- و قد هاجر أبو بکر قبله لأنه هاجر فی صحبه النبی ص- و تخلف علی ع عنهما فبات على فراش رسول الله ص- و مکث أیاما یرد الودائع التی کانت عنده- ثم هاجر بعد ذلک- . و الجواب أنه ع لم یقل و سبقت کل الناس إلى الهجره- و إنما قال و سبقت فقط- و لا یدل ذلک على سبقه للناس کافه- و لا شبهه أنه سبق معظم المهاجرین إلى الهجره- و لم یهاجر قبله أحد إلا نفر یسیر جدا- . و أیضا فقد قلنا إنه علل أفضلیته- و تحریم البراءه منه مع الإکراه بمجموع أمور- منها ولادته على الفطره و منها سبقه إلى الإیمان- و منها سبقه إلى الهجره- و هذه الأمور الثلاثه لم تجتمع لأحد غیره- فکان بمجموعها متمیزا عن کل أحد من الناس- .

و أیضا فإن اللام فی الهجره- یجوز ألا تکون للمعهود السابق بل تکون للجنس- و أمیر المؤمنین ع سبق أبا بکر و غیره- إلى الهجره التی قبل هجره المدینه- فإن النبی ص هاجر عن مکه مرارا- یطوف على أحیاء العرب و ینتقل من‏ أرض قوم إلى غیرها- و کان علی ع معه دون غیره- . أما هجرته إلى بنی شیبان- فما اختلف أحد من أهل السیره- أن علیا ع کان معه هو و أبو بکر- و أنهم غابوا عن مکه ثلاثه عشر یوما و عادوا إلیها- لما لم یجدوا عند بنی شیبان ما أرادوه من النصره- .

و روى المدائنی فی کتاب الأمثال عن المفضل الضبی- أن رسول الله ص لما خرج عن مکه- یعرض نفسه على قبائل العرب- خرج إلى ربیعه و معه علی ع و أبو بکر- فدفعوا إلى مجلس من مجالس العرب- فتقدم أبو بکر و کان نسابه فسلم فردوا علیه السلام فقال- ممن القوم قالوا من ربیعه- قال أ من هامتها أم من لهازمها- قالوا من هامتها العظمى- فقال من أی هامتها العظمى أنتم قالوا من ذهل الأکبر- قال أ فمنکم عوف الذی یقال له لا حر بوادی عوف قالوا لا- قال أ فمنکم بسطام ذو اللواء و منتهى الأحیاء قالوا لا- قال أ فمنکم جساس حامی الذمار و مانع الجار قالوا لا- قال أ فمنکم الحوفزان- قاتل الملوک و سالبها أنفسها قالوا لا- قال أ فمنکم المزدلف صاحب العمامه الفرده قالوا لا- قال أ فأنتم أخوال الملوک من کنده قالوا لا- قال فلستم إذن ذهلا الأکبر أنتم ذهل الأصغر- فقام إلیه غلام قد بقل وجهه اسمه دغفل فقال-

إن على سائلنا أن نسأله
و العب‏ء لا تعرفه أو تحمله‏

یا هذا إنک قد سألتنا فأجبناک و لم نکتمک شیئا- فممن الرجل قال من قریش قال بخ بخ- أهل الشرف و الرئاسه فمن أی قریش أنت- قال من تیم بن مره قال أمکنت و الله الرامی من الثغره- أ منکم قصی بن کلاب الذی جمع القبائل من فهر- فکان یدعى مجمعا قال لا- قال أ فمنکم هاشم الذی هشم لقومه الثرید قال لا- قال أ فمنکم شیبه الحمد مطعم طیر السماء قال لا- قال أ فمن المفیضین بالناس أنت قال لا- قال أ فمن أهل الندوه أنت قال لا- قال أ فمن أهل الرفاده أنت قال لا- قال أ فمن أهل الحجابه أنت قال لا- قال أ فمن أهل السقایه قال لا- قال فاجتذب أبو بکر زمام ناقته- و رجع إلى رسول الله ص هاربا من الغلام فقال دغفل-

صادف درء السیل درء یصدعه‏

أما و الله لو ثبت لأخبرتک أنک من زمعات قریش- فتبسم رسول الله ص-و قال علی ع لأبی بکر لقد وقعت یا أبا بکر من الأعرابی على باقعه- قال أجل إن لکل طامه طامه- و البلاء موکل بالمنطق فذهبت مثلا- . و أما هجرته ص إلى الطائف- فکان معه علی ع و زید بن‏ 
حارثه- فی روایه أبی الحسن المدائنی و لم یکن معهم أبو بکر- و أما روایه محمد بن إسحاق فإنه قال- کان معه زید بن حارثه وحده- و غاب رسول الله ص عن مکه فی هذه الهجره أربعین یوما- و دخل إلیها فی جوار مطعم بن عدی- .

و أما هجرته ص إلى بنی عامر بن صعصعه- و إخوانهم من قیس عیلان فإنه لم یکن معه إلا علی ع وحده- و ذلک عقیب وفاه أبی طالب أوحی إلیه ص أخرج منها- فقد مات ناصرک فخرج إلى بنی عامر بن صعصعه- و معه علی ع وحده فعرض نفسه علیهم و سألهم النصر- و تلا علیهم القرآن فلم یجیبوه فعادا ع إلى مکه- و کانت مده غیبته فی هذه الهجره عشره أیام- و هی أول هجره هاجرها ص بنفسه- . فأما أول هجره هاجرها أصحابه- و لم یهاجر بنفسه فهجره الحبشه- هاجر فیها کثیر من أصحابه ع إلى بلاد الحبشه فی البحر- منهم جعفر بن أبی طالب ع فغابوا عنه سنین- ثم قدم علیه منهم من سلم و طالت أیامه- و کان قدوم جعفر علیه عام فتح خیبر-
فقال ص ما أدری بأیهما أنا أسر أ بقدوم جعفر أم بفتح خیبر

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۴ 

بازدیدها: ۲۴۰

خطبه ۵۵ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۵۵ و من کلام له ع

وَ لَقَدْ کُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص- نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَ أَبْنَاءَنَا وَ إِخْوَانَنَا وَ أَعْمَامَنَا- مَا یَزِیدُنَا ذَلِکَ إِلَّا إِیمَاناً وَ تَسْلِیماً- وَ مُضِیّاً عَلَى اللَّقْمِ وَ صَبْراً عَلَى مَضَضِ الْأَلَمِ- وَ جِدّاً فِی جِهَادِ الْعَدُوِّ- وَ لَقَدْ کَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَ الآْخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا- یَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَیْنِ یَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا- أَیُّهُمَا یَسْقِی صَاحِبَهُ کَأْسَ الْمَنُونِ- فَمَرَّهً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَ مَرَّهً لِعَدُوِّنَا مِنَّا- فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْکَبْتَ- وَ أَنْزَلَ عَلَیْنَا النَّصْرَ- حَتَّى اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ مُلْقِیاً جِرَانَهُ وَ مُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ- وَ لَعَمْرِی لَوْ کُنَّا نَأْتِی مَا أَتَیْتُمْ- مَا قَامَ لِلدِّینِ عَمُودٌ وَ لَا اخْضَرَّ لِلْإِیمَانِ عُودٌ- وَ ایْمُ اللَّهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً وَ لَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً لقم الطریق الجاده الواضحه منها- و المضض لذع الألم و برحاؤه- و التصاول أن یحمل کل واحد من القرنین على صاحبه- و التخالس التسالب و الانتهاب- و الکبت الإذلال و جران البعیر مقدم عنقه- و تبوأت المنزل نزلته- و یقال لمن أسرف فی الأمر لتحتلبن دما- و أصله الناقه یفرط فی حلبها فیحلب الحالب الدم- .

و هذه ألفاظ مجازیه من باب الاستعاره و هی- . قوله استقر الإسلام ملقیا جرانه أی ثابتا متمکنا- کالبعیر یلقی جرانه على الأرض- . و قوله متبوئا أوطانه- جعله کالجسم المستقر فی وطنه و مکانه- . و قوله ما قام للدین عمود- جعله کالبیت القائم على العمد- . و قوله و لا اخضر للإیمان عود- جعله کالشجره ذات الفروع و الأغصان- . فأما قتلهم الأقارب فی ذات الله فکثیر- قتل علی ع الجم الغفیر من بنی عبد مناف- و بنی عبد الدار فی یوم بدر و أحد و هم عشیرته و بنو عمه- و قتل عمر بن الخطاب یوم بدر- خاله العاص بن هشام بن المغیره- و قتل حمزه بن عبد المطلب شیبه بن ربیعه یوم بدر- و هو ابن عمه لأنهما ابنا عبد مناف- و مثل ذلک کثیر مذکور فی کتب السیره- . و أما کون الرجل منهم و قرنه یتصاولان و یتخالسان- فإن الحال کذلک کانت- بارز علی ع الولید بن عتبه- و بارز طلحه بن أبی طلحه و بارز عمرو بن عبد ود- و قتل هؤلاء الأقران مبارزه- و بارز کثیرا من الأبطال غیرهم و قتلهم- و بارز جماعه من شجعان الصحابه جماعه من المشرکین- فمنهم من قتل و منهم من قتل- و کتب المغازی تتضمن تفصیل ذلک

فتنه عبد الله بن الحضرمی بالبصره

و هذا الکلام قاله أمیر المؤمنین ع فی قصه ابن الحضرمی- حیث قدم البصره من قبل معاویه- و استنهض أمیر المؤمنین ع أصحابه إلى البصره- فتقاعدوا- . قال أبو إسحاق إبراهیم بن محمد بن سعید بن هلال الثقفی- فی کتاب الغارات‏حدثنا محمد بن یوسف قال- حدثنا الحسن بن علی الزعفرانی- عن محمد بن عبد الله بن عثمان عن ابن أبی سیف- عن یزید بن حارثه الأزدی عن عمرو بن محصن- أن معاویه لما أصاب محمد بن أبی بکر بمصر و ظهر علیها- دعا عبد الله بن عامر الحضرمی فقال له سر إلى البصره- فإن جل أهلها یرون رأینا فی عثمان و یعظمون قتله- و قد قتلوا فی الطلب بدمه- فهم موتورون حنقون لما أصابهم- ودوا لو یجدون من یدعوهم و یجمعهم- و ینهض بهم فی الطلب بدم عثمان- و احذر ربیعه و انزل فی مضر و تودد الأزد- فإن الأزد کلها معک إلا قلیلا منهم- و إنهم إن شاء الله غیر مخالفیک- .

فقال عبد الله بن الحضرمی له إنا سهم فی کنانتک- و أنا من قد جربت و عدو أهل حربک- و ظهیرک على قتله عثمان فوجهنی إلیهم متى شئت- فقال اخرج غدا إن شاء الله فودعه و خرج من عنده- . فلما کان اللیل جلس معاویه و أصحابه یتحدثون- فقال لهم معاویه فی أی منزل ینزل القمر اللیله- فقالوا بسعد الذابح فکره معاویه ذلک- و أرسل إلیه ألا تبرح حتى یأتیک أمری فأقام- . و رأى معاویه أن یکتب إلى عمرو بن العاص- و هو یومئذ بمصر عامله علیها- یستطلع رأیه فی ذلک فکتب إلیه- و قد کان تسمى بإمره المؤمنین بعد یوم صفین- و بعد تحکیم الحکمین- من عبد الله معاویه أمیر المؤمنین إلى عمرو بن العاص- سلام علیک أما بعد- فإنی قد رأیت رأیا هممت بإمضائه- و لم یخذلنی عنه إلا استطلاع رأیک- فإن توافقنی أحمد الله و أمضه- و إن تخالفنی فإنی أستخیر الله و أستهدیه- إنی نظرت فی أمر أهل البصره- فوجدت معظم أهلها لنا ولیا و لعلی و شیعته عدوا- و قد أوقع بهم علی الوقعه التی علمت- فأحقاد تلک الدماء ثابته فی صدورهم لا تبرح و لا تریم- و قد علمت أن قتلنا ابن أبی بکر- و وقعتنا بأهل مصر قد أطفأت نیران أصحاب علی فی الآفاق- و رفعت رءوس أشیاعنا أینما کانوا من البلاد- و قد بلغ من کان بالبصره- على مثل رأینا من ذلک ما بلغ الناس- و لیس أحد ممن یرى رأینا أکثر عددا- و لا أضر خلافا على علی من أولئک- فقد رأیت أن أبعث إلیهم عبد الله بن عامر الحضرمی- فینزل فی مضر و یتودد الأزد و یحذر ربیعه- و یبتغی دم ابن عفان و یذکرهم وقعه علی بهم- التی أهلکت صالحی إخوانهم و آبائهم و أبنائهم- فقد رجوت عند ذلک- أن یفسد على علی و شیعته ذلک الفرج من الأرض- و متى یؤتوا من خلفهم و أمامهم یضل سعیهم و یبطل کیدهم- فهذا رأیی فما رأیک- فلا تحبس رسولی إلا قدر مضی الساعه التی- ینتظر فیها جواب کتابی هذا- أرشدنا الله و إیاک- و السلام علیک و رحمه الله و برکاته- .

فکتب عمرو بن العاص إلى معاویه- . أما بعد فقد بلغنی رسولک و کتابک- فقرأته و فهمت رأیک الذی رأیته فعجبت له- و قلت إن الذی ألقاه فی روعک- و جعله فی نفسک هو الثائر بابن عفان و الطالب بدمه- و إنه لم یک منک و لا منا- منذ نهضنا فی هذه الحروب و بادینا أهلها- و لا رأى الناس رأیا أضر على عدوک- و لا أسر لولیک من هذا الأمر الذی ألهمته- فامض رأیک مسددا- فقد وجهت الصلیب الأریب الناصح غیر الظنین و السلام- .

فلما جاءه کتاب عمرو دعا ابن الحضرمی- و قد کان ظن حین ترکه معاویه أیاما لا یأمره بالشخوص- أن معاویه قد رجع عن إشخاصه إلى ذلک الوجه فقال- یا ابن الحضرمی سر على برکه الله إلى أهل البصره- فانزل فی مضر و احذر ربیعه و تودد الأزد و انع ابن عفان- و ذکرهم الوقعه التی أهلکتهم- و من لمن سمع و أطاع دنیا لا تفنى- و أثره لا یفقدها حتى یفقدنا أو نفقده- . فودعه ثم خرج من عنده و قد دفع إلیه کتابا- و أمره إذا قدم أن یقرأه على الناس- . قال عمرو بن محصن فکنت معه حین خرج- فلما خرجنا سرنا ما شاء الله أن نسیر- فسنح لنا ظبی أعضب عن شمائلنا فنظرت إلیه- فو الله لرأیت الکراهیه فی وجهه- ثم مضینا حتى نزلنا البصره فی بنی تمیم- فسمع بقدومنا أهل البصره- فجاءنا کل من یرى رأی عثمان- فاجتمع إلینا رءوس أهلها- فحمد الله ابن الحضرمی و أثنى علیه ثم قال- أما بعد أیها الناس- فإن إمامکم إمام الهدى عثمان بن عفان- قتله علی بن أبی طالب ظلما- فطلبتم بدمه و قاتلتم من قتله- فجزاکم الله من أهل مصر خیرا- و قد أصیب منکم الملأ الأخیار- و قد جاءکم الله بإخوان لکم- لهم بأس یتقى و عدد لا یحصى- فلقوا عدوکم الذین قتلوکم- فبلغوا الغایه التی أرادوا صابرین- و رجعوا و قد نالوا ما طلبوا فمالئوهم و ساعدوهم- و تذکروا ثارکم لتشفوا صدورکم من عدوکم- . فقام إلیه الضحاک بن عبد الله الهلالی فقال- قبح الله ما جئتنا به و ما دعوتنا إلیه- جئتنا و الله بمثل ما جاء به صاحباک طلحه و الزبیر- أتیانا و قد بایعنا علیا و اجتمعنا له- فکلمتنا واحده و نحن على سبیل مستقیم- فدعوانا إلى الفرقه و قاما فینا بزخرف القول- حتى ضربنا بعضنا ببعض عدوانا و ظلما- فاقتتلنا على ذلک و ایم الله- ما سلمنا من عظیم وبال‏ ذلک- و نحن الآن مجمعون على بیعه هذا العبد الصالح الذی- أقال العثره و عفا عن المسی‏ء- و أخذ بیعه غائبنا و شاهدنا- أ فتأمرنا الآن أن نختلع أسیافنا من أغمادها- ثم یضرب بعضنا بعضا- لیکون معاویه أمیرا و تکون له وزیرا- و نعدل بهذا الأمر عن علی- و الله لیوم من أیام علی مع رسول الله ص خیر- من بلاء معاویه و آل معاویه لو بقوا فی الدنیا- ما الدنیا باقیه- .

فقام عبد الله بن خازم السلمی فقال للضحاک اسکت- فلست بأهل أن تتکلم فی أمر العامه- ثم أقبل على ابن الحضرمی فقال نحن یدک و أنصارک- و القول ما قلت و قد فهمنا عنک فادعنا أنى شئت- فقال الضحاک لابن خازم یا ابن السوداء- و الله لا یعز من نصرت و لا یذل بخذلانک من خذلت فتشاتما- . قال صاحب کتاب الغارات- و الضحاک هذا هو الذی یقول-

یا أیهذا السائلی عن نسبی
بین ثقیف و هلال منصبی‏
أمی أسماء و ضحاک أبی‏

قال و هو القائل فی بنی العباس-

ما ولدت من ناقه لفحل
فی جبل نعلمه و سهل‏

کسته من بطن أم الفضل‏
أکرم بها من کهله و کهل‏

عم النبی المصطفى ذی الفضل
و خاتم الأنبیاء بعد الرسل‏

قال فقام عبد الرحمن بن عمیر بن عثمان القرشی- ثم التیمی فقال عباد الله- إنا لم ندعکم إلى الاختلاف و الفرقه- و لا نرید أن تقتتلوا و لا تتنابزوا- و لکنا إنما ندعوکم إلى أن تجمعوا کلمتکم- و توازروا إخوانکم الذین هم على رأیکم- و أن تلموا شعثکم‏ و تصلحوا ذات بینکم- فمهلا مهلا رحمکم الله- استمعوا لهذا الکتاب- و أطیعوا الذی یقرأ علیکم- . ففضوا کتاب معاویه و إذا فیه- من عبد الله معاویه أمیر المؤمنین- إلى من قرئ کتاب هذا علیه من المؤمنین- و المسلمین من أهل البصره- . سلام علیکم أما بعد- فإن سفک الدماء بغیر حلها- و قتل النفوس التی حرم الله قتلها- هلاک موبق و خسران مبین- لا یقبل الله ممن سفکها صرفا و لا عدلا- و قد رأیتم رحمکم الله آثار ابن عفان و سیرته- و حبه للعافیه و معدلته و سده للثغور- و إعطاءه فی الحقوق و إنصافه للمظلوم و حبه الضعیف- حتى توثب علیه المتوثبون و تظاهر علیه الظالمون- فقتلوه مسلما محرما ظمآن صائما لم یسفک فیهم دما- و لم یقتل منهم أحدا و لا یطلبونه بضربه سیف و لا سوط- و إنما ندعوکم أیها المسلمون إلى الطلب بدمه- و إلى قتال من قتله- فإنا و إیاکم على أمر هدى واضح و سبیل مستقیم- إنکم إن جامعتمونا طفئت النائره- و اجتمعت الکلمه و استقام أمر هذه الأمه- و أقر الظالمون المتوثبون الذین قتلوا إمامهم بغیر حق- فأخذوا بجرائرهم و ما قدمت أیدیهم- إن لکم أن أعمل فیکم بالکتاب- و أن أعطیکم فی السنه عطاءین- و لا أحتمل فضلا من فیئکم عنکم أبدا- .

فسارعوا إلى ما تدعون إلیه رحمکم الله- و قد بعثت إلیکم رجلا من الصالحین- کان من أمناء خلیفتکم المظلوم ابن عفان و عماله- و أعوانه على الهدى و الحق- جعلنا الله و إیاکم ممن یجیب إلى الحق و یعرفه- و ینکر الباطل و یجحده و السلام علیکم و رحمه الله- .

قال فلما قرئ علیهم الکتاب- قال معظمهم سمعنا و أطعنا- . قال و روى محمد بن عبد الله بن عثمان عن علی- عن أبی زهیر عن أبی منقر الشیبانی قال- قال الأحنف لما قرئ علیهم کتاب معاویه- أما أنا فلا ناقه لی فی هذا و لا جمل و أعتزل أمرهم ذلک- .

و قال عمرو بن مرجوم من عبد القیس- أیها الناس الزموا طاعتکم و لا تنکثوا بیعتکم- فتقع بکم واقعه و تصیبکم قارعه- و لا یکن بعدها لکم بقیه- ألا إنی قد نصحت لکم و لکن لا تحبون الناصحین- . قال إبراهیم بن هلال و روى محمد بن عبد الله- عن ابن أبی سیف عن الأسود بن قیس عن ثعلبه بن عباد- أن الذی کان سدد لمعاویه رأیه- فی تسریح ابن الحضرمی کتاب- کتبه إلیه عباس بن ضحاک العبدی- و هو ممن کان یرى رأی عثمان- و یخالف قومه فی حبهم علیا ع و نصرتهم إیاه- و کان الکتاب- .

أما بعد فقد بلغنا وقعتک بأهل مصر- الذین بغوا على إمامهم و قتلوا خلیفتهم طمعا و بغیا- فقرت بذلک العیون و شفیت بذلک النفوس- و بردت أفئده أقوام کانوا لقتل عثمان کارهین- و لعدوه مفارقین و لکم موالین و بک راضین- فإن رأیت أن تبعث إلینا أمیرا طیبا- ذکیا ذا عفاف و دین إلى الطلب بدم عثمان فعلت- فإنی لا إخال الناس إلا مجمعین علیک- و إن ابن عباس غائب عن المصر و السلام- . قال فلما قرأ معاویه کتابه قال- لا عزمت رأیا سوى ما کتبت به إلی هذا و کتب إلیه جوابه- . أما بعد فقد قرأت کتابک- فعرفت نصیحتک و قبلت مشورتک رحمک الله و سددک- اثبت هداک الله على رأیک الرشید- فکأنک بالرجل الذی سألت قد أتاک- و کأنک بالجیش قد أطل علیک فسررت و حبیت و السلام- .

قال إبراهیم و حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثنی علی بن أبی سیف عن أبی زهیرقال- لما نزل ابن الحضرمی فی بنی تمیم- أرسل إلى الرءوس فأتوه- فقال لهم أجیبونی إلى الحق و انصرونی على هذا الأمر- . قال و إن الأمیر بالبصره یومئذ زیاد بن عبید- قد استخلفه عبد الله بن عباس- و قدم على علی ع إلى الکوفه یعزیه عن محمد بن أبی بکر- قال فقام إلیه ابن ضحاک فقال- إی و الذی له أسعى و إیاه أخشى- لننصرنک بأسیافنا و أیدینا- . و قام المثنى بن مخرمه العبدی فقال- لا و الذی لا إله إلا هو- لئن لم ترجع إلى مکانک الذی أقبلت منه- لنجاهدنک بأسیافنا و أیدینا و نبالنا و أسنه رماحنا- نحن ندع ابن عم رسول الله ص و سید المسلمین- و ندخل فی طاعه حزب من الأحزاب طاغ- و الله لا یکون ذلک أبدا حتى نسیر کتیبه- و نفلق السیوف بالهام- . فأقبل ابن الحضرمی على صبره بن شیمان الأزدی فقال- یا صبره أنت رأس قومک و عظیم من عظماء العرب- و أحد الطلبه بدم عثمان رأینا رأیک و رأیک رأینا- و بلاء القوم عندک فی نفسک و عشیرتک ما قد ذقت و رأیت- فانصرنی و کن من دونی- فقال له إن أنت أتیتنی فنزلت فی داری نصرتک و منعتک-

فقال إن أمیر المؤمنین معاویه أمرنی- أن أنزل فی قومه من مضر فقال اتبع ما أمرک به- . و انصرف من عنده و أقبل الناس إلى ابن الحضرمی- و کثر تبعه ففزع لذلک زیاد و هاله و هو فی دار الإماره- فبعث إلى الحضین بن المنذر و مالک بن مسمع فدعاهما- فحمد الله و أثنى علیه ثم قال- أما بعد فإنکم أنصار أمیر المؤمنین و شیعته و ثقته- و قد جاءکم هذا الرجل بما قد بلغکم- فأجیرونی حتى یأتینی أمر أمیر المؤمنین و رأیه- .

فأما مالک بن مسمع فقال هذا أمر فیه نظر- أرجع إلى من ورائی و أنظر و أستشیر فی ذلک- . و أما الحضین بن المنذر فقال نعم- نحن فاعلون و لن نخذلک و لن نسلمک- .فلم یر زیاد من القوم ما یطمئن إلیه- فبعث إلى صبره بن شیمان الأزدی فقال- یا ابن شیمان أنت سید قومک و أحد عظماء هذا المصر- فإن یکن فیه أحد هو أعظم أهله فأنت ذاک- أ فلا تجیرنی و تمنعنی و تمنع بیت مال المسلمین- فإنما أنا أمین علیه- فقال بلى إن تحملت حتى تنزل فی داری منعتک- فقال إنی فاعل- . فارتحل لیلا حتى نزل دار صبره بن شیمان- و کتب إلى عبد الله بن عباس- و لم یکن معاویه ادعى زیادا بعد- لأنه إنما ادعاه بعد وفاه علی ع- . للأمیر عبد الله بن عباس من زیاد بن عبید- .

سلام علیک أما بعد- فإن عبد الله بن عامر بن الحضرمی أقبل من قبل معاویه- حتى نزل فی بنی تمیم و نعى ابن عفان و دعا إلى حرب- فبایعه جل أهل البصره- فلما رأیت ذلک استجرت بالأزد بصبره بن شیمان- و قومه لنفسی و لبیت مال المسلمین- و رحلت من قصر الإماره فنزلت فیهم و إن الأزد معی- و شیعه أمیر المؤمنین من فرسان القبائل تختلف إلی- و شیعه عثمان تختلف إلى ابن الحضرمی- و القصر خال منا و منهم- فارفع ذلک إلى أمیر المؤمنین لیرى فیه رأیه- و أعجل إلی بالذی ترى أن یکون منه فیه- و السلام علیک و رحمه الله و برکاته- . قال فرفع ذلک ابن عباس إلى علی ع- و شاع فی الناس بالکوفه ما کان من ذلک- و کانت بنو تمیم و قیس و من یرى رأی عثمان- قد أمروا ابن الحضرمی- أن یسیر إلى قصر الإماره حین خلاه زیاد- فلما تهیأ لذلک و دعا أصحابه- رکبت الأزد و بعثت إلیه و إلیهم- إنا و الله لا ندعکم تأتون القصر فتنزلون فیه من لا نرضى- و من نحن له کارهون حتى یأتی رجل لنا و لکم رضا- فأبى أصحاب ابن الحضرمی إلا أن یسیروا إلى القصر- و أبت الأزد إلا أن یمنعوهم- فرکب الأحنف فقال لأصحاب ابن الحضرمی- إنکم و الله ما أنتم أحق بقصر الإماره من القوم- و ما لکم أن تؤمروا علیهم من یکرهونه- فانصرفوا عنهم ففعلوا ثم جاء إلى الأزد فقال- إنه لم یکن ما تکرهون و لا یؤتى إلا ما تحبون- فانصرفوا رحمکم الله ففعلوا- .

قال إبراهیم و حدثنا محمد بن عبد الله بن أبی سیف- عن الکلبی أن ابن الحضرمی لما أتى البصره- و دخلها نزل فی بنی تمیم فی دار سنبیل- و دعا بنی تمیم و أخلاط مضر- فقال زیاد لأبی الأسود الدؤلی- أ ما ترى ما صغى أهل البصره إلى معاویه- و ما فی الأزد لی مطمع فقال- إن کنت ترکتهم لم ینصروک و إن أصبحت فیهم منعوک- .

فخرج زیاد من لیلته- فأتى صبره بن شیمان الحدانی الأزدی فأجاره- و قال له حین أصبح یا زیاد إنه لیس حسنا بنا- أن تقیم فینا مختفیا أکثر من یومک هذا- فأعد له منبرا و سریرا فی مسجد الحدان و جعل له شرطا- و صلى بهم الجمعه فی مسجد الحدان- . و غلب ابن الحضرمی على ما یلیه من البصره و جباها- و أجمعت الأزد على زیاد- فصعد المنبر فحمد الله و أثنى علیه ثم قال- یا معشر الأزد- إنکم کنتم أعدائی فأصبحتم أولیائی و أولى الناس بی- و إنی لو کنت فی بنی تمیم و ابن الحضرمی فیکم- لم أطمع فیه أبدا و أنتم دونه- فلا یطمع ابن الحضرمی فی و أنتم دونی- و لیس ابن آکله الأکباد فی بقیه الأحزاب- و أولیاء الشیطان بأدنى إلى الغلبه- من أمیر المؤمنین فی المهاجرین و الأنصار- و قد أصبحت فیکم مضمونا و أمانه مؤداه- و قد رأینا وقعتکم یوم الجمل- فاصبروا مع الحق صبرکم مع الباطل- فإنکم لا تحمدون إلا على النجده و لا تعذرون على الجبن- .

فقام شیمان أبو صبره و لم یکن شهد یوم الجمل و کان غائبا- فقال یا معشر الأزد-ما أبقت عواقب الجمل علیکم إلا سوء الذکر- و قد کنتم أمس على علی ع فکونوا الیوم له- و اعلموا أن إسلامکم له ذل و خذلانکم إیاه عار- و أنتم حی مضمارکم الصبر و عاقبتکم الوفاء- فإن سار القوم بصاحبهم فسیروا بصاحبکم- و إن استمدوا معاویه فاستمدوا علیا ع- و إن وادعوکم فوادعوهم- . ثم قام صبره ابنه فقال یا معشر الأزد- إنا قلنا یوم الجمل نمنع مصرنا و نطیع أمنا- نطلب دم خلیفتنا المظلوم فجددنا فی القتال- و أقمنا بعد انهزام الناس- حتى قتل منا من لا خیر فینا بعده- و هذا زیاد جارکم الیوم و الجار مضمون- و لسنا نخاف من علی ما نخاف من معاویه- فهبوا لنا أنفسکم و امنعوا جارکم أو فأبلغوه مأمنه- . فقالت الأزد إنما نحن لکم تبع فأجیروه- فضحک زیاد و قال یا صبره أ تخشون ألا تقوموا لبنی تمیم- فقال صبره إن جاءونا بالأحنف جئناهم بأبی صبره- و إن جاءونا بالحباب جئت أنا- و إن کان فیهم شباب کثیر- فقال زیاد إنما کنت مازحا- .

فلما رأت بنو تمیم أن الأزد قد قامت دون زیاد- بعثت إلیهم أخرجوا صاحبکم و نحن نخرج صاحبنا- فأی الأمیرین غلب علی أو معاویه دخلنا فی طاعته- و لا نهلک عامتنا- . فبعث إلیهم أبو صبره- إنما کان هذا یرجى عندنا قبل أن نجیره- و لعمری ما قتل زیاد و إخراجه إلا سواء- و إنکم لتعلمون أنا لم نجره إلا کرما فالهوا عن هذا- . قال و روى أبو الکنود- أن شبث بن ربعی قال لعلی ع- یا أمیر المؤمنین ابعث إلى هذا الحی من تمیم- فادعهم إلى طاعتک و لزوم بیعتک- و لا تسلط علیهم أزد عمان البعداء البغضاء- فإن واحدا من قومک خیر لک من عشره من غیرهم- .

فقال له مخنف بن سلیم الأزدی- إن البعید البغیض من عصى الله- و خالف أمیر المؤمنین و هم قومک- و إن الحبیب القریب من أطاع الله- و نصر أمیر المؤمنین و هم قومی- و أحدهم خیر لأمیر المؤمنین من عشره من قومک- .

فقال أمیر المؤمنین ع مه تناهوا أیها الناس- و لیردعکم الإسلام و وقاره عن التباغی و التهاذی- و لتجتمع کلمتکم- و الزموا دین الله الذی لا یقبل من أحد غیره- و کلمه الإخلاص التی هی قوام الدین- و حجه الله على الکافرین- و اذکروا إذ کنتم قلیلا مشرکین متباغضین متفرقین- فألف بینکم بالإسلام فکثرتم و اجتمعتم و تحاببتم- فلا تفرقوا بعد إذ اجتمعتم- و لا تتباغضوا بعد إذ تحاببتم- و إذا رأیتم الناس بینهم النائره- و قد تداعوا إلى العشائر و القبائل- فاقصدوا لهامهم و وجوههم بالسیف حتى یفزعوا إلى الله- و إلى کتابه و سنه نبیه- فأما تلک الحمیه من خطرات الشیاطین فانتهوا عنها- لا أبا لکم تفلحوا و تنجحوا- ثم إنه ع دعا أعین بن ضبیعه المجاشعی- و قال یا أعین أ لم یبلغک أن قومک وثبوا على عاملی- مع ابن الحضرمی بالبصره- یدعون إلى فراقی و شقاقی- و یساعدون الضلال القاسطین علی- فقال لا تسأ یا أمیر المؤمنین- و لا یکن ما تکره ابعثنی إلیهم- فأنا لک زعیم بطاعتهم و تفریق جماعتهم- و نفی ابن الحضرمی من البصره أو قتله- قال فاخرج الساعه- . فخرج من عنده و مضى حتى قدم البصره- .هذه روایه ابن هلال صاحب کتاب الغارات- .

و روى الواقدی أن علیا ع استنفر بنی تمیم أیاما- لینهض منهم إلى البصره- من یکفیه أمر ابن الحضرمی- و یرد عادیه بنی تمیم الذین أجاروه بها- فلم یجبه أحد فخطبهم و قال- أ لیس من العجب أن ینصرنی الأزد و تخذلنی مضر- و أعجب من ذلک تقاعد تمیم الکوفه بی- و خلاف تمیم البصره علی- و أن أستنجد بطائفه منها- تشخص إلى إخوانها فتدعوهم إلى الرشاد- فإن أجابت و إلا فالمنابذه و الحرب- فکأنی أخاطب صما بکما لا یفقهون حوارا و لا یجیبون نداء- کل هذا جبنا عن البأس و حبا للحیاه- لقد کنا مع رسول الله ص نقتل آباءنا و أبناءنا- الفصل إلى آخره- .

قال فقام إلیه أعین بن ضبیعه المجاشعی فقال- أنا إن شاء الله أکفیک یا أمیر المؤمنین هذا الخطب- و أتکفل لک بقتل ابن الحضرمی أو إخراجه عن البصره- فأمره بالتهیؤ للشخوص فشخص حتى قدم البصره- . قال إبراهیم بن هلال- فلما قدمها دخل على زیاد و هو بالأزد مقیم- فرحب به و أجلسه إلى جانبه- فأخبره بما قال له علی ع و ما رد علیه و ما الذی علیه رأیه- فإنه إذ یکلمه جاءه کتاب من علی ع فیه-من عبد الله علی أمیر المؤمنین إلى زیاد بن عبید سلام علیک أما بعد- فإنی قد بعثت أعین بن ضبیعه- لیفرق قومه عن ابن الحضرمی فارقب ما یکون منه- فإن فعل و بلغ من ذلک ما یظن به- و کان فی ذلک تفریق تلک الأوباش فهو ما نحب- و إن ترامت الأمور بالقوم إلى الشقاق و العصیان-فانبذ بمن أطاعک إلى من عصاک فجاهدهم- فإن ظهرت فهو ما ظننت و إلا فطاولهم و ماطلهم- فکان کتائب المسلمین قد أطلت علیک- فقتل الله المفسدین الظالمین- و نصر المؤمنین المحقین و السلام- .

فلما قرأه زیاد أقرأه أعین بن ضبیعه فقال له- إنی لأرجو أن یکفى هذا الأمر إن شاء الله- ثم خرج من عنده فأتى رحله- فجمع إلیه رجالا من قومه فحمد الله و أثنى علیه ثم قال- یا قوم على ما ذا تقتلون أنفسکم- و تهریقون دماءکم على الباطل مع السفهاء الأشرار- و إنی و الله ما جئتکم حتى عبیت إلیکم الجنود- فإن تنیبوا إلى الحق یقبل منکم و یکف عنکم- و إن أبیتم فهو و الله استئصالکم و بوارکم- . فقالوا بل نسمع و نطیع فقال- انهضوا الآن على برکه الله عز و جل- فنهض بهم إلى جماعه ابن الحضرمی- فخرجوا إلیه مع ابن الحضرمی فصافوه- و واقفهم عامه یومه یناشدهم الله و یقول- یا قوم لا تنکثوا بیعتکم و لا تخالفوا إمامکم- و لا تجعلوا على أنفسکم سبیلا- فقد رأیتم و جربتم- کیف صنع الله بکم عند نکثکم بیعتکم و خلافکم- . فکفوا عنه و لم یکن بینه و بینهم قتال- و هم فی ذلک یشتمونه و ینالون منه- فانصرف عنهم و هو منهم منتصف- فلما أوى إلى رحله تبعه عشره نفر یظن الناس أنهم خوارج- فضربوه بأسیافهم و هو على فراشه- و لا یظن أن الذی کان یکون فخرج یشتد عریانا- فلحقوه فی الطریق فقتلوه- فأراد زیاد أن یناهض ابن الحضرمی حین قتل أعین- بجماعه من معه من الأزد و غیرهم من شیعه علی ع- فأرسل بنو تمیم إلى الأزد- و الله ما عرضنا لجارکم إذ أجرتموه و لا لمال هو له- و لا لأحد لیس على رأینا- فما تریدون‏ إلى حربنا و إلى جارنا- فکان الأزد عند ذلک کرهت قتالهم- . فکتب زیاد إلى علی ع أما بعد یا أمیر المؤمنین- فإن أعین بن ضبیعه قدم علینا من قبلک- بجد و مناصحه و صدق و یقین- فجمع إلیه من أطاعه من عشیرته- فحثهم على الطاعه و الجماعه و حذرهم الخلاف و الفرقه- ثم نهض بمن أقبل معه إلى من أدبر عنه- فواقفهم عامه النهار فهال أهل الخلاف تقدمه- و تصدع عن ابن الحضرمی کثیر ممن کان یرید نصرته- فکان کذلک حتى أمسى- فأتى فی رحله فبیته نفر من هذه الخارجه المارقه- فأصیب رحمه الله تعالى- فأردت أن أناهض ابن الحضرمی عند ذلک فحدث أمر- قد أمرت صاحب کتابی هذا أن یذکره لأمیر المؤمنین- و قد رأیت إن رأى أمیر المؤمنین ما رأیت- أن یبعث إلیهم جاریه بن قدامه فإنه نافذ البصیره- و مطاع فی العشیره شدید على عدو أمیر المؤمنین- فإن یقدم یفرق بینهم بإذن الله- و السلام على أمیر المؤمنین و رحمه الله و برکاته- .

فلما جاء الکتاب دعا جاریه بن قدامه- فقال له یا ابن قدامه تمنع الأزد عاملی و بیت مالی- و تشاقنی مضر و تنابذنی- و بنا ابتدأها الله تعالى بالکرامه و عرفها الهدى- و تداعوا إلى المعشر الذین حادوا الله و رسوله- و أرادوا إطفاء نور الله سبحانه- حتى علت کلمه الله و هلک الکافرون- .

فقال یا أمیر المؤمنین- ابعثنی إلیهم و استعن بالله علیهم- قال قد بعثتک إلیهم و استعنت بالله علیهم- . قال إبراهیم فحدثنا محمد بن عبد الله قال- حدثنی ابن أبی السیف عن سلیمان بن أبی راشد- عن کعب بن قعین قال- خرجت مع جاریه من الکوفه إلى البصره-فی خمسین رجلا من بنی تمیم- ما کان فیهم یمانی غیری و کنت شدید التشیع- فقلت لجاریه إن شئت کنت معک- و إن شئت ملت إلى قومی- فقال بل معی- فو الله لوددت أن الطیر و البهائم تنصرنی علیهم- فضلا عن الإنس- .

قال و روى کعب بن قعین أن علیا ع کتب مع جاریه کتابا- و قال أقرئه على أصحابک قال فمضینا معه- فلما دخلنا البصره بدأ بزیاد- فرحب به و أجلسه إلى جانبه- و ناجاه ساعه و ساءله- ثم خرج فکان أفضل ما أوصاه به أن قال- احذر على نفسک- و اتق أن تلقى ما لقی صاحبک القادم قبلک- . و خرج جاریه من عنده فقام فی الأزد فقال- جزاکم الله من حی خیرا- ما أعظم غناءکم و أحسن بلاءکم و أطوعکم لأمیرکم- لقد عرفتم الحق إذ ضیعه من أنکره- و دعوتم إلى الهدى إذ ترکه من لم یعرفه- ثم قرأ علیهم و على من کان معه- من شیعه علی ع و غیرهم کتاب علی ع فإذا فیه-من عبد الله علی أمیر المؤمنین- إلى من قرئ علیه کتابی هذا من ساکنی البصره- من المؤمنین و المسلمین- سلام علیکم أما بعد- فإن الله حلیم ذو أناه- لا یعجل بالعقوبه قبل البینه- و لا یأخذ المذنب عند أول وهله- و لکنه یقبل التوبه- و یستدیم الأناه و یرضی بالإنابه- لیکون أعظم للحجه و أبلغ فی المعذره- و قد کان من شقاق جلکم- أیها الناس ما استحققتم أن تعاقبوا علیه- فعفوت عن مجرمکم- و رفعت السیف عن مدبرکم- و قبلت من مقبلکم و أخذت بیعتکم- فإن تفوا ببیعتی و تقبلوا نصیحتی- و تستقیموا على طاعتی- أعمل‏ فیکم بالکتاب و السنه و قصد الحق- و أقم فیکم سبیل الهدى- فو الله ما أعلم أن والیا بعد محمد ص أعلم بذلک منی- و لا أعمل بقولی أقول قولی هذا صادقا- غیر ذام لمن مضى و لا منتقصا لأعمالهم- و إن خبطت بکم الأهواء المردیه- و سفه الرأی الجائر إلى منابذتی تریدون خلافی- فها أنا ذا قربت جیادی و رحلت رکابی و ایم الله- لئن ألجأتمونی إلى المسیر إلیکم لأوقعن بکم وقعه- لا یکون یوم الجمل عندها إلا کلعقه لاعق- و إنی لظان ألا تجعلوا إن شاء الله على أنفسکم سبیلا- و قد قدمت هذا الکتاب إلیکم حجه علیکم- و لن أکتب إلیکم من بعده کتابا- إن أنتم استغششتم نصیحتی و نابذتم رسولی- حتى أکون أنا الشاخص نحوکم إن شاء الله تعالى و السلام- .

قال فلما قرئ الکتاب على الناس- قام صبره بن شیمان فقال سمعنا و أطعنا- و نحن لمن حارب أمیر المؤمنین حرب و لمن سالم سلم- إن کفیت یا جاریه قومک بقومک فذاک- و إن أحببت أن ننصرک نصرناک- . و قام وجوه الناس فتکلموا بمثل ذلک و نحوه- فلم یأذن لأحد منهم أن یسیر معه و مضى نحو بنی تمیم- . فقام زیاد فی الأزد فقال- یا معشر الأزد- إن هؤلاء کانوا أمس سلما فأصبحوا الیوم حربا- و إنکم کنتم حربا فأصبحتم سلما- و إنی و الله ما اخترتکم إلا على التجربه- و لا أقمت فیکم إلا على الأمل- فما رضیتم أن أجرتمونی- حتى نصبتم لی منبرا و سریرا- و جعلتم لی شرطا و أعوانا و منادیا و جمعه- فما فقدت بحضرتکم شیئا إلا هذا الدرهم لا أجبیه الیوم- فإن لم أجبه الیوم أجبه غدا إن شاء الله- و اعلموا أن حربکم الیوم معاویه- أیسر علیکم فی الدنیا و الدین من حربکم أمس علیا- و قد قدم علیکم جاریه بن قدامه- و إنما أرسله علی‏ لیصدع أمر قومه و الله ما هو بالأمیر المطاع- و لو أدرک أمله فی قومه لرجع إلى أمیر المؤمنین- أو لکان لی تبعا و أنتم الهامه العظمى- و الجمره الحامیه فقدموه إلى قومه- فإن اضطر إلى نصرکم فسیروا إلیه إن رأیتم ذلک- .

فقام أبو صبره شیمان فقال یا زیاد- إنی و الله لو شهدت قومی یوم الجمل- رجوت ألا یقاتلوا علیا و قد مضى الأمر بما فیه- و هو یوم بیوم و أمر بأمر- و الله إلى الجزاء بالإحسان- أسرع منه إلى الجزاء بالسیئ- و التوبه مع الحق و العفو مع الندم- و لو کانت هذه فتنه لدعونا القوم إلى إبطال الدماء- و استئناف الأمور و لکنها جماعه دماؤها حرام- و جروحها قصاص و نحن معک نحب ما أحببت- .

فعجب زیاد من کلامه و قال ما أظن فی الناس مثل هذا- . ثم قام صبره ابنه فقال- إنا و الله ما أصبنا بمصیبه فی دین و لا دنیا- کما أصبنا أمس یوم الجمل و إنا لنرجو الیوم- أن نمحص ذلک بطاعه الله و طاعه أمیر المؤمنین- و أما أنت یا زیاد فو الله ما أدرکت أملک فینا- و لا أدرکنا أملنا فیک دون ردک إلى دارک- و نحن رادوک إلیها غدا إن شاء الله تعالى- فإذا فعلنا فلا یکن أحد أولى بک منا- فإنک إلا تفعل لم تأت ما یشبهک- و إنا و الله نخاف من حرب علی فی الآخره- ما لا نخاف من حرب معاویه فی الدنیا- فقدم هواک و أخر هوانا فنحن معک و طوعک- . ثم قام خنقر الحمانی فقال أیها الأمیر- إنک لو رضیت منا بما ترضى به من غیرنا- لم نرض ذلک لأنفسنا سر بنا إلى القوم إن شئت- و ایم الله ما لقینا قوما قط- إلا اکتفینا بعفونا دون جهدنا إلا ما کان أمس- .

قال إبراهیم فأما جاریه فإنه کلم قومه فلم یجیبوه- و خرج إلیه منهم أوباش- فناوشوه بعد أن شتموه و أسمعوه- فأرسل إلى زیاد و الأزد- یستصرخهم و یأمرهم أن یسیروا إلیه- فسارت الأزد بزیاد و خرج إلیهم ابن الحضرمی- و على خیله عبد الله بن خازم السلمی فاقتتلوا ساعه- و أقبل شریک بن الأعور الحارثی- و کان من شیعه علی ع و صدیقا لجاریه بن قدامه فقال- أ لا أقاتل معک عدوک فقال بلى- فما لبثت بنو تمیم أن هزموهم- و اضطروهم إلى دار سنبیل السعدی- فحصروا ابن الحضرمی و حدوه- فأتى رجل من بنی تمیم و معه عبد الله بن خازم السلمی- فجاءت أمه و هی سوداء حبشیه اسمها عجلى فنادته- فأشرف علیها فقالت یا بنی انزل إلی- فأبى فکشفت رأسها و أبدت قناعها- و سألته النزول فأبى فقالت و الله لتنزلن أو لأتعرین- و أهوت بیدها إلى ثیابها- فلما رأى ذلک نزل فذهبت به- و أحاط جاریه و زیاد بالدار و قال جاریه علی بالنار- فقالت الأزد لسنا من الحریق بالنار فی شی‏ء- و هم قومک و أنت أعلم فحرق جاریه الدار علیهم- فهلک ابن الحضرمی فی سبعین رجلا- أحدهم عبد الرحمن بن عمیر بن عثمان القرشی التیمی- و سمی جاریه منذ ذلک الیوم محرقا- و سارت الأزد بزیاد حتى أوطنوه قصر الإماره- و معه بیت المال و قالت له- هل بقی علینا من جوارک شی‏ء قال لا قالوا فبرئنا منه- فقال نعم فانصرفوا عنه- و کتب زیاد إلى أمیر المؤمنین ع- أما بعد فإن جاریه بن قدامه العبد الصالح قدم من عندک- فناهض جمع ابن الحضرمی بمن نصره و أعانه من الأزد- ففضه و اضطره إلى دار من دور البصره فی عدد کثیر من أصحابه- فلم یخرج حتى حکم الله تعالى بینهما- فقتل ابن الحضرمی و أصحابه- منهم من أحرق بالنار و منهم من ألقی علیه جدار- و منهم من هدم علیه البیت من أعلاه- و منهم من قتل بالسیف- و سلم‏ منهم نفر أنابوا و تابوا- فصفح عنهم و بعدا لمن عصى و غوى- و السلام على أمیر المؤمنین و رحمه الله و برکاته- . فلما وصل کتاب زیاد قرأه علی ع على الناس- و کان زیاد قد أنفذه مع ظبیان بن عماره- فسر علی ع بذلک و سر أصحابه- و أثنى على جاریه و على الأزد و ذم البصره-فقال إنها أول القرى خرابا أما غرقا و أما حرقا- حتى یبقى مسجدها کجؤجؤ سفینه- ثم قال لظبیان أین منزلک منها فقال مکان کذا فقال- علیک بضواحیها- . و قال ابن العرندس الأزدی یذکر تحریق ابن الحضرمی- و یعیر تمیما بذلک-

رددنا زیادا إلى داره
و جار تمیم ینادی الشجب‏

لحا الله قوما شووا جارهم‏
لعمری لبئس الشواء الشصب‏

ینادی الخناق و أبناءها
و قد شیطوا رأسها باللهب‏

و الخناق لقب قوم بنی تمیم

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۴ 

بازدیدها: ۳۹

خطبه ۵۴ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۵۴ و من کلام له ع- و قد استبطأ أصحابه إذنه لهم فی القتال بصفین

أَمَّا قَوْلُکُمْ أَ کُلَّ ذَلِکَ کَرَاهِیَهَ الْمَوْتِ- فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِی- دَخَلْتُ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ الْمَوْتُ إِلَیَّ- وَ أَمَّا قَوْلُکُمْ شَکّاً فِی أَهْلِ الشَّامِ- فَوَاللَّهِ مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ یَوْماً- إِلَّا وَ أَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِی طَائِفَهٌ فَتَهْتَدِیَ بِی- وَ تَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِی- فَهُوَ أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلَالِهَا- وَ إِنْ کَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا من رواه أ کل ذلک بالنصب- فمفعول فعل مقدر أی تفعل کل ذلک- و کراهیه منصوب لأنه مفعول له- و من رواه أ کل ذلک بالرفع- أجاز فی کراهیه الرفع و النصب- أما الرفع فإنه یجعل کل مبتدأ و کراهیه خبره- و أما النصب فیجعلها مفعولا له- کما قلنا فی الروایه الأولى- و یجعل خبر المبتدأ محذوفا- و تقدیره أ کل هذا مفعول- أو تفعله کراهیه للموت- ثم أقسم إنه لا یبالی أ تعرض هو للموت حتى یموت- أم جاءه الموت ابتداء من غیر أن یتعرض له- . و عشا إلى النار یعشو- استدل علیها ببصر ضعیف- قال

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
تجد خیر نار عندها خیر موقد

و هذا الکلام استعاره شبه من عساه- یلحق به من أهل الشام بمن یعشو لیلا إلى النار- و ذلک لأن بصائر أهل الشام ضعیفه- فهم من الاهتداء بهداه ع- کمن یعشو ببصر ضعیف إلى النار فی اللیل- قال ذاک أحب إلی من أن أقتلهم على ضلالهم- و إن کنت لو قتلتهم على هذه الحاله لباءوا بآثامهم- أی رجعوا قال سبحانه- إِنِّی أُرِیدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِی وَ إِثْمِکَ أی ترجع

من أخبار یوم صفین

لما ملک أمیر المؤمنین ع الماء بصفین- ثم سمح لأهل الشام بالمشارکه فیه و المساهمه- رجاء أن یعطفوا إلیه و استماله لقلوبهم- و إظهارا للمعدله و حسن السیره فیهم- مکث أیاما لا یرسل إلى معاویه- و لا یأتیه من عند معاویه أحد- و استبطأ أهل العراق إذنه لهم فی القتال- و قالوا یا أمیر المؤمنین- خلفنا ذرارینا و نساءنا بالکوفه- و جئنا إلى أطراف الشام لنتخذها وطنا- ائذن لنا فی القتال فإن الناس قد قالوا- قال لهم ع ما قالوا- فقال منهم قائل إن الناس یظنون- أنک تکره الحرب کراهیه للموت- و إن من الناس من یظن أنک فی شک من قتال أهل الشام-

فقال ع و متى کنت کارها للحرب قط- إن من العجب حبی لها غلاما و یفعا- و کراهیتی لها شیخا بعد نفاد العمر و قرب الوقت- و أما شکی فی القوم فلو شککت فیهم- لشککت فی أهل البصره- و الله لقد ضربت هذا الأمر ظهرا و بطنا- فما وجدت یسعنی إلا القتال أو أن أعصی الله و رسوله- و لکنی أستأنی بالقوم- عسى أن یهتدوا أو تهتدی منهم طائفه- فإن‏رسول الله ص قال لی یوم خیبر- لأن یهدی الله بک رجلا واحدا- خیر لک مما طلعت علیه الشمس-.

قال نصر بن مزاحم حدثنا محمد بن عبید الله عن الجرجانی قال فبعث علی ع إلى معاویه بشیر بن عمرو بن محصن الأنصاری- و سعید بن قیس الهمدانی- و شبث بن الربعی التمیمی فقال- ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله عز و جل- و إلى الطاعه و الجماعه و إلى اتباع أمر الله سبحانه- فقال له شبث یا أمیر المؤمنین- أ لا تطمعه فی سلطان تولیه إیاه- و منزله یکون له بها أثره عندک إن هو بایعک- فقال ائتوه الآن و القوه و احتجوا علیه- و انظروا ما رأیه فی هذا- . فأتوه فدخلوا علیه- فحمد أبو عمرو بن محصن الله و أثنى علیه و قال- أما بعد یا معاویه فإن الدنیا عنک زائله- و إنک راجع إلى الآخره- و إن الله مجازیک بعملک و محاسبک بما قدمت یداک- و إننی أنشدک الله ألا تفرق جماعه هذه الأمه- و ألا تسفک دماءها بینها- فقطع معاویه علیه الکلام و قال فهلا أوصیت صاحبک- فقال سبحان الله إن صاحبی لا یوصى إن صاحبی لیس مثلک- صاحبی أحق الناس بهذا الأمر فی الفضل و الدین- و السابقه فی الإسلام و القرابه من الرسول- قال معاویه فتقول ما ذا- قال أدعوک إلى تقوى ربک- و إجابه ابن عمک إلى ما یدعوک إلیه من الحق- فإنه أسلم لک فی دینک و خیر لک فی عاقبه أمرک- قال و یطل دم عثمان لا و الرحمن لا أفعل ذلک أبدا- .

فذهب سعید بن قیس یتکلم- فبدره شبث بن الربعی فحمد الله و أثنى علیه- ثم قال یا معاویه قد فهمت ما رددت على ابن محصن- إنه لا یخفى علینا ما تقر و ما تطلب- إنک لا تجد شیئا تستغوی به الناس- و لا شیئا تستمیل به أهواءهم- و تستخلص به طاعتهم إلا أن قلت لهم- قتل إمامکم مظلوما فهلموا نطلب بدمه- فاستجاب لک سفهاء طغام رذال- و قد علمنا أنک أبطأت عنه بالنصر- و أحببت له القتل لهذه المنزله التی تطلب- و رب مبتغ أمرا و طالب له یحول الله دونه- و ربما أوتی المتمنی أمنیته و ربما لم یؤتها- و و الله ما لک فی واحده منهما خیر- و الله لئن أخطأک ما ترجو أنک لشر العرب حالا- و لئن أصبت ما تتمناه لا تصیبه حتى تستحق صلى النار- فاتق الله یا معاویه و دع ما أنت علیه- و لا تنازع الأمر أهله- .

فحمد معاویه الله و أثنى علیه و قال- أما بعد فإن أول ما عرفت به سفهک و خفه حلمک- قطعک على هذا الحسیب الشریف سید قومه منطقه- ثم عتبت بعد فیما لا علم لک به- و لقد کذبت و لؤمت أیها الأعرابی الجلف- الجافی فی کل ما وصفت و ذکرت- انصرفوا من عندی فإنه لیس بینی و بینکم إلا السیف- . و غضب فخرج القوم و شبث یقول- أ علینا تهول بالسیف أما و الله لنجعلنه إلیک- فأتوا علیا ع فأخبروه بالذی کان من قوله- و ذلک فی شهر ربیع الآخر- . قال نصر و خرج قراء أهل العراق- و قراء أهل الشام فعسکروا ناحیه صفین ثلاثین ألفا- .

قال و عسکر علی ع على الماء- و عسکر معاویه فوقه على الماء أیضا- و مشت القراء فیما بین علی ع و معاویه- منهم عبیده السلمانی- و علقمه بن قیس النخعی- و عبد الله بن عتبه- و عامر بن عبد القیس و قد کان فی بعض تلک السواحل- فانصرف إلى عسکر علی ع فدخلوا على معاویه فقالوا- یا معاویه ما الذی تطلب قال أطلب بدم عثمان- قالوا ممن تطلب بدم عثمان قال أطلبه من علی- قالوا و علی قتله قال نعم هو قتله و آوى قتلته- فانصرفوا من عنده فدخلوا على علی ع- فقالوا إن معاویه یزعم أنک قتلت عثمان- قال اللهم لکذب فیما قال لم أقتله- . فرجعوا إلى معاویه فأخبروه- فقال لهم إنه إن لم یکن قتله بیده فقد أمر و مالأ- فرجعوا إلى علی فقالوا إن معاویه یزعم- أنک إن لم تکن قلت بیدک- فقد أمرت و مالأت على قتل عثمان- فقال اللهم لکذب فیما قال- فرجعوا إلى معاویه فقالوا إن علیا یزعم أنه لم یفعل- فقال معاویه إن کان صادقا فلیقدنا من قتله عثمان- فإنهم فی عسکره و جنده و أصحابه و عضده- فرجعوا إلى علی ع- فقالوا إن معاویه یقول لک- إن کنت صادقا فادفع إلینا قتله عثمان أو مکنا منهم- فقال لهم إن القوم تأولوا علیه القرآن- و وقعت الفرقه فقتلوه فی سلطانه- و لیس على ضربهم قود فخصم علی معاویه- .

قلت على ضربهم هاهنا على مثلهم- یقال زید ضرب عمرو و من ضربه- أی مثله و من صنفه- و لا أدری لم عدل ع عن الحجه بما هو أوضح من هذا الکلام- و هو أن یقول إن الذین باشروا قتله بأیدیهم کانوا اثنین- و هما قتیره بن وهب و سودان بن حمران- و کلاهما قتل یوم الدار قتلهما عبید عثمان- و الباقون الذین هم جندی و عضدی‏ کما تزعمون- لم یقتلوا بأیدیهم و إنما أغروا به- و حصروه و أجلبوا علیه و هجموا على داره- کمحمد بن أبی بکر و الأشتر و عمرو بن الحمق و غیرهم- و لیس على مثل هؤلاء قود- . قال نصر فقال لهم معاویه إن کان الأمر کما تزعمون- فلم ابتز الأمر دوننا على غیر مشوره منا- و لا ممن هاهنا معنا- فقال علی ع إن الناس تبع المهاجرین و الأنصار- و هم شهود للمسلمین فی البلاد على ولاتهم و أمراء دینهم- فرضوا بی و بایعونی- و لست أستحل أن أدع ضرب معاویه یحکم بیده على الأمه- و یرکبهم و یشق عصاهم- . فرجعوا إلى معاویه فأخبروه بذلک-

فقال لیس کما یقول- فما بال من هاهنا من المهاجرین و الأنصار- لم یدخلوا فی هذا الأمر و یؤامروا فیه- . فانصرفوا إلى علی ع فأخبروه بقوله فقال ویحکم- هذا للبدریین دون الصحابه- لیس فی الأرض بدری إلا و قد بایعنی و هو معی- أو قد قام و رضی فلا یغرنکم معاویه من أنفسکم و دینکم- . قال نصر فتراسلوا بذلک ثلاثه أشهر- ربیع الآخر و جمادیین- و هم مع ذلک یفزعون الفزعه فیما بینهما- فیزحف بعضهم إلى بعض و تحجز القراء بینهم- . قال فزعوا فی ثلاثه أشهر خمسا و ثمانین فزعه- کل فزعه یزحف بعضهم إلى بعض- و تحجز القراء بینهم لا یکون بینهم قتال- .

قال نصر و خرج أبو أمامه الباهلی و أبو الدرداء- فدخلا على معاویه و کانا معه فقالا یا معاویه علام تقاتل هذا الرجل- فو الله لهو أقدم منک إسلاما و أحق بهذاالأمر- و أقرب من رسول الله ص فعلام تقاتله- فقال أقاتله على دم عثمان و إنه آوى قتلته- فقولوا له فلیقدنا من قتلته- و أنا أول من بایعه من أهل الشام- . فانطلقوا إلى علی ع فأخبروه بقول معاویه- فقال إنما یطلب الذین ترون- فخرج عشرون ألفا أو أکثر متسربلین الحدید- لا یرى منهم إلا الحدق فقالوا کلنا قتله- فإن شاءوا فلیروموا ذلک منا- فرجع أبو أمامه و أبو الدرداء فلم یشهدا شیئا من القتال- . قال نصر حتى إذا کان رجب- و خشی معاویه أن یتابع القراء علیا ع أخذ فی المکر- و أخذ یحتال للقراء لکیما یحجموا و یکفوا حتى ینظروا- . قال فکتب فی سهم من عبد الله الناصح- إنی أخبرکم أن معاویه یرید أن یفجر علیکم الفرات- فیغرقکم فخذوا حذرکم- ثم رمى بالسهم فی عسکر علی ع- فوقع السهم فی ید رجل فقرأه ثم أقرأه صاحبه- فلما قرأه و قرأته الناس و أقرأه من أقبل و أدبر- قالوا هذا أخ لنا ناصح- کتب إلیکم یخبرکم بما أراد معاویه- فلم یزل السهم یقرأ و یرتفع حتى رفع إلى علی ع- و قد بعث معاویه مائتی رجل من العمله إلى عاقول من النهر- بأیدیهم المرور و الزبل یحفرون فیها بحیال عسکر علی ع- فقال علی ع ویحکم إن الذی یعالج معاویه لا یستقیم له و لا یقوى علیه- إنما یرید أن یزیلکم عن مکانکم فانتهوا عن ذلک- فقالوا له لا ندعهم و الله یحفرون- فقال علی ع لا تکونوا ضعفى ویحکم لا تغلبونی على رأیی- فقالوا و الله لنرتحلن فإن شئت فارتحل و إن شئت فأقم- فارتحلوا و صعدوا بعسکرهم ملیا- و ارتحل علی ع فی أخریات الناس- و هو یقول‏

فلو أنی أطعت عصمت قومی
إلى رکن الیمامه أو شمام‏

و لکنی متى أبرمت أمرا
منیت بخلف آراء الطغام‏

قال و ارتحل معاویه حتى نزل معسکر علی ع الذی کان فیه- فدعا علی ع الأشتر- فقال أ لم تغلبنی على رأیی أنت و الأشعث فدونکما- فقال الأشعث أنا أکفیک یا أمیر المؤمنین- سأداوی ما أفسدت الیوم من ذلک- فجمع کنده فقال لهم یا معشر کنده- لا تفضحونی الیوم و لا تخزونی- فإنی إنما أقارع بکم أهل الشام- فخرجوا معه رجاله یمشون- و بیده رمح له یلقیه على الأرض- و یقول امشوا قید رمحی هذا فیمشون- فلم یزل یقیس لهم الأرض برمحه و یمشون معه رجاله- حتى لقی معاویه وسط بنی سلیم واقفا على الماء- و قد جاءه أدانی عسکره- فاقتتلوا قتالا شدیدا على الماء ساعه- و انتهى أوائل أهل العراق فنزلوا- و أقبل الأشتر فی خیل من أهل العراق- فحمل على معاویه و الأشعث یحارب فی ناحیه أخرى- فانحاز معاویه فی بنی سلیم- فرد وجوه إبله قدر ثلاثه فراسخ- ثم نزل و وضع أهل الشام أثقالهم- و الأشعث یهدر و یقول أرضیتک یا أمیر المؤمنین- ثم تمثل بقول طرفه بن العبد-

ففداء لبنی سعد على
ما أصاب الناس من خیر و شر

ما أقلت قدمای إنهم‏
نعم الساعون فی الحی الشطر

و لقد کنت علیکم عاتبا
فعقبتم بذنوب غیر مر

کنت فیکم کالمغطى رأسه
فانجلى الیوم قناعی و خمر

سادرا أحسب غیی رشدا
فتناهیت و قد صابت بقر

و قال الأشتر- یا أمیر المؤمنین قد غلب الله لک على الماء- فقال علی ع أنتما کما قال الشاعر-

تلاقین قیسا و أشیاعه
فیوقد للحرب نارا فنارا

أخو الحرب إن لقحت بازلا
سما للعلا و أجل الخطارا

قال نصر فکان کل واحد من علی و معاویه- یخرج الرجل الشریف فی جماعه فیقاتل مثله- و کانوا یکرهون- أن یتزاحفوا بجمیع الفیلق مخافه الاستئصال و الهلاک- فاقتتل الناس ذا الحجه کله- فلما انقضى تداعوا إلى أن یکف بعضهم عن بعض- إلى أن ینقضی المحرم- لعل الله أن یجری صلحا أو إجماعا- فکف الناس فی المحرم بعضهم عن بعض- .

قال نصر حدثنا عمر بن سعد- عن أبی المجاهد عن المحل بن خلیفه قال- لما توادعوا فی المحرم- اختلفت الرسل فیما بین الرجلین رجاء الصلح- فأرسل علی ع إلى معاویه عدی بن حاتم الطائی- و شبث بن ربعی التمیمی و یزید بن قیس و زیاد بن خصفه- فلما دخلوا علیه- حمد الله تعالى عدی بن حاتم الطائی و أثنى علیه ثم قال- أما بعد فإنا أتیناک لندعوک إلى أمر- یجمع الله فیه کلمتنا و أمتنا و یحقن به دماءالمسلمین- ندعوک إلى أفضل الناس سابقه- و أحسنهم فی الإسلام آثارا و قد اجتمع إلیه الناس- و قد أرشدهم الله بالذی رأوا و أتوا- فلم یبق أحد غیرک و غیر من معک- فانته یا معاویه- من قبل أن یصیبک الله و أصحابک بمثل یوم الجمل- .

فقال له معاویه کأنک إنما جئت مهددا و لم تأت مصلحا- هیهات یا عدی إنی لابن حرب ما یقعقع لی بالشنان- أما و الله إنک من المجلبین على عثمان- و إنک لمن قتلته و إنی لأرجو أن تکون ممن یقتله الله- . فقال له شبث بن ربعی و زیاد بن خصفه- و تنازعا کلاما واحدا أتیناک فیما یصلحنا و إیاک- فأقبلت تضرب لنا الأمثال- دع ما لا ینفع من القول و الفعل- و أجبنا فیما یعمنا و إیاک نفعه- .

و تکلم یزید بن قیس الأرحبی- فقال إنا لم نأتک إلا لنبلغک ما بعثنا به إلیک- و لنؤدی عنک ما سمعنا منک و لم ندع أن ننصح لک- و أن نذکر ما ظننا أن لنا علیک به حجه- أو أنه راجع بک إلى الألفه و الجماعه- إن صاحبنا من قد عرفت و عرف المسلمون فضله- و لا أظنه یخفى علیک- إن أهل الدین و الفضل لا یعدلونک بعلی- و لا یمیلون بینک و بینه- فاتق الله یا معاویه و لا تخالف علیا- فإنا و الله ما رأینا رجلا قط أعمل بالتقوى- و لا أزهد فی الدنیا و لا أجمع لخصال الخیر کلها منه- . فحمد الله معاویه و أثنى علیه- و قال أما بعد فإنکم دعوتم إلى الجماعه و الطاعه- فأما الجماعه التی دعوتم إلیها فنعما هی- و أما الطاعه لصاحبکم فإنا لا نراها- إن صاحبکم قتل خلیفتنا- و فرق جماعتنا و آوى ثأرنا و قتلتنا- و صاحبکم یزعم أنه لم یقتله- فنحن‏ لا نرد ذلک علیه أ رأیتم قتله صاحبنا- أ لستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبکم- فلیدفعهم إلینا فلنقتلهم به- و نحن نجیبکم إلى الطاعه و الجماعه- .

فقال له شبث بن ربعی أ یسرک بالله یا معاویه- إن أمکنت من عمار بن یاسر فقتلته- قال و ما یمنعنی من ذلک- و الله لو أمکننی صاحبکم من ابن سمیه ما قتلته بعثمان- و لکنی کنت أقتله بنائل مولى عثمان- . فقال شبث و إله السماء ما عدلت معدلا- و لا و الذی لا إله إلا هو- لا تصل إلى قتل ابن یاسر حتى تندر الهام عن کواهل الرجال- و تضیق الأرض الفضاء علیک برحبها- . فقال معاویه إنه إذا کان ذلک کانت علیک أضیق- . ثم رجع القوم عن معاویه- فبعث إلى زیاد بن خصفه من بینهم فأدخل علیه- فحمد معاویه الله و أثنى علیه- ثم قال أما بعد یا أخا ربیعه فإن علیا قطع أرحامنا- و قتل إمامنا و آوى قتله صاحبنا- و إنی أسألک النصره بأسرتک و عشیرتک- و لک علی عهد الله و میثاقه إذا ظهرت- أن أولیک أی المصرین أحببت- .

قال أبو المجاهد- فسمعت زیاد بن خصفه یحدث بهذا الحدیث- . قال فلما قضى معاویه کلامه حمدت الله و أثنیت علیه- ثم قلت أما بعد فإنی لعلى بینه من ربی و بما أنعم علی- فلن أکون ظهیرا للمجرمین ثم قمت- . فقال معاویه لعمرو بن العاص و کان إلى جانبه- ما لهم عضبهم الله ما قلبهم إلا قلب رجل واحد- . قال نصر و حدثنا سلیمان بن أبی راشد- عن عبد الرحمن بن عبید أبی الکنود-

قال بعث معاویه حبیب بن مسلمه الفهری- إلى علی بن أبی طالب ع- و بعث معه شرحبیل بن السمط- و معن بن یزید بن الأخنس السلمی- فدخلوا على علی ع فتکلم حبیب بن مسلمه- فحمد الله و أثنى علیه- و قال أما بعد فإن عثمان بن عفان کان خلیفه مهدیا- یعمل بکتاب الله و یثیب إلى أمر الله- فاستسقلتم حیاته و استبطأتم وفاته- فعدوتم علیه فقتلتموه- فادفع إلینا قتله عثمان نقتلهم به- فإن قلت إنک لم تقتله فاعتزل أمر الناس- فیکون أمرهم هذا شورى بینهم- یولی الناس أمرهم من أجمع علیه رأیهم- . فقال له علی و ما أنت لا أم لک و الولایه- و العزل و الدخول فی هذا الأمر- اسکت فإنک لست هناک و لا بأهل لذاک- فقام حبیب بن مسلمه و قال أما و الله لترینی حیث تکره- فقال له ع و ما أنت و لو أجلبت بخیلک و رجلک- اذهب فصوب و صعد ما بدا لک- فلا أبقى الله علیک إن أبقیت- .

فقال شرحبیل بن السمط- إن کلمتک فلعمری ما کلامی لک إلا نحو کلام صاحبی- فهل لی عندک جواب غیر الجواب الذی أجبته به- فقال نعم قال فقله-فحمد الله علی ع و أثنى علیه- ثم قال أما بعد- فإن الله سبحانه بعث محمدا ص فأنقذ به من الضلاله- و نعش به من الهلکه و جمع به بعد الفرقه- ثم قبضه الله إلیه و قد أدى ما علیه- فاستخلف الناس أبا بکر ثم استخلف أبو بکر عمر- فأحسنا السیره و عدلا فی الأمه- و وجدناعلیهما أن تولیا الأمر دوننا- و نحن آل الرسول و أحق بالأمر فغفرنا ذلک لهما- ثم ولی أمر الناس عثمان- فعمل بأشیاء عابها الناس علیه- فسار إلیه ناس فقتلوه- ثم أتانی الناس و أنا معتزل أمرهم- فقالوا لی بایع فأبیت علیهم- فقالوا لی بایع فإن الأمه لا ترضى إلا بک- و إنا نخاف إن لم تفعل أن یفترق الناس- فبایعتهم فلم یرعنی إلا شقاق رجلین قد بایعا- و خلاف معاویه إیای الذی لم یجعل الله له سابقه فی الدین- و لا سلف صدق فی الإسلام طلیق ابن طلیق و حزب من الأحزاب- لم یزل لله و لرسوله و للمسلمین عدوا هو و أبوه- حتى دخلا فی الإسلام کارهین مکرهین- فیا عجبا لکم و لإجلابکم معه و انقیادکم له- و تدعون آل بیت نبیکم- الذین لا ینبغی لکم شقاقهم و لا خلافهم- و لا تعدلوا بهم أحدا من الناس- إنی أدعوکم إلى کتاب ربکم و سنه نبیکم- و إماته الباطل و إحیاء معالم الدین أقول قولی هذا- و أستغفر الله لنا و لکل مؤمن و مؤمنه و مسلم و مسلمه.

فقال له شرحبیل و معن بن یزید- أ تشهد أن عثمان قتل مظلوما- فقال لهما إنی لا أقول ذلک- قالا فمن لم یشهد أن عثمان قتل مظلوما فنحن برآء منه- ثم قاما فانصرفا- .

فقال علی ع إِنَّکَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى‏- وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِینَ- وَ ما أَنْتَ بِهادِی الْعُمْیِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ- إِلَّا مَنْ یُؤْمِنُ بِآیاتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ- ثم أقبل على أصحابه- فقال لا یکن هؤلاء فی ضلالتهم بأولى- بالجد منکم فی حقکم و طاعه إمامکم- ثم مکث الناس متوادعین إلى انسلاخ المحرم- فلما انسلخ المحرم- و استقبل الناس صفرا من سنه سبع و ثلاثین- بعث علی ع نفرا من أصحابه- حتى إذا کانوامن معسکر معاویه بحیث یسمعونهم الصوت- قام مرثد بن الحارث الجشمی فنادى عند غروب الشمس- یا أهل الشام إن أمیر المؤمنین علیا- و أصحاب رسول الله ص یقولون لکم- إنا لم نکف عنکم شکا فی أمرکم و لا إبقاء علیکم- و إنما کففنا عنکم لخروج المحرم و قد انسلخ- و إنا قد نبذنا إلیکم على سواء إن الله لا یحب الخائنین- .

قال فتحاجز الناس و ثاروا إلى أمرائهم- . قال نصر فأما روایه عمرو بن شمر عن جابر عن أبی الزبیر- أن نداء مرثد بن الحارث الجشمی کانت صورته- یا أهل الشام ألا إن أمیر المؤمنین یقول لکم- إنی قد استدمتکم و استأنیت بکم- لتراجعوا الحق و تثوبوا إلیه- و احتججت علیکم بکتاب الله و دعوتکم إلیه- فلم تتناهوا عن طغیان و لم تجیبوا إلى حق- و إنی قد نبذت إلیکم على سواء إن الله لا یحب الخائنین- . قال فثار الناس إلى أمرائهم و رؤسائهم- . قال نصر و خرج معاویه و عمرو بن العاص- یکتبان الکتائب و یعبیان العساکر- و أوقدوا النیران و جاءوا بالشموع- و بات علی ع تلک اللیله کلها- یعبئ الناس و یکتب الکتائب- و یدور فی الناس و یحرضهم- .

قال نصر حدثنا عمر بن سعد بإسناده عن عبد الله بن جندب عن أبیه أن علیا ع کان یأمرنا فی کل موطن لقینا معه عدوه- فیقول‏ لا تقاتلوا القوم حتى یبدءوکم- فهی حجه أخرى لکم علیهم- فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا- و لا تجهزوا على جریح و لا تکشفوا عوره و لا تمثلوا بقتیل- فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتکوا سترا- و لا تدخلوا دارا إلا بإذن- و لا تأخذوا شیئا من أموالهم إلا ما وجدتم فی عسکرهم- و لا تهیجوا امرأه و إن شتمن أعراضکم- و تناولن أمراءکم و صلحاءکم- فإنهن ضعاف القوى و الأنفس و العقول- و لقد کنا و إنا لنؤمر بالکف عنهن و هن مشرکات- و إن کان الرجل لیتناول المرأه فی الجاهلیه- بالهراوه أو الحدید فیعیر بها عقبه من بعده.

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن إسماعیل بن یزید یعنی ابن أبی خالد عن أبی صادق أن علیا ع حرض الناس فی حروبه- فقال عباد الله اتقوا الله و غضوا أبصارکم- و اخفضوا الأصوات و أقلوا الکلام- و وطنوا أنفسکم على المنازله- و المجاوله و المبارزه و المعانقه- و فَاثْبُتُوا وَ اذْکُرُوا اللَّهَ کَثِیراً لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ- وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِیحُکُمْ- وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِینَ- اللهم ألهمهم الصبر- و أنزل علیهم النصر و أعظم لهم الأجر- .

قال نصر و کان ترتیب عسکر علی ع- بموجب ما رواه لنا عمرو بن شمر عن جابر- عن محمد بن علی و زید بن حسن و محمد بن عبد المطلب- أنه جعل على الخیل عمار بن یاسر- و على الرجاله عبد الله بن بدیل بن ورقاء الخزاعی- و دفع اللواءإلى هاشم بن عتبه بن أبی وقاص الزهری- و جعل على المیمنه الأشعث بن قیس- و على المیسره عبد الله بن العباس- و جعل على رجاله المیمنه سلیمان بن صرد الخزاعی- و على رجاله المیسره الحارث بن مره العبدی- و جعل القلب مضر الکوفه و البصره- و جعل على میمنه القلب الیمن و على میسرته ربیعه- و عقد ألویه القبائل فأعطاها قوما منهم بأعیانهم- و جعلهم رؤساءهم و أمراءهم- و جعل على قریش و أسد و کنانه عبد الله بن عباس- و على کنده حجر بن عدی الکندی- و على بکر البصره الحصین بن المنذر الرقاشی- و على تمیم البصره الأحنف بن قیس- و على خزاعه عمرو بن الحمق- و على بکر الکوفه نعیم بن هبیره- و على سعد البصره و ربابها جاریه بن قدامه السعدی- و على بجیله رفاعه بن شداد- و على ذهل الکوفه رویما الشیبانی أو یزید بن رویم- و على عمرو البصره و حنظلتها أعین بن ضبیعه- و على قضاعه و طیئ عدی بن حاتم الطائی- و على لهازم الکوفه عبد الله بن حجل العجلی- و على تمیم الکوفه عمیر بن عطارد- و على الأزد و الیمن جندب بن زهیر- و على ذهل البصره خالد بن المعمر السدوسی- و على عمرو الکوفه و حنظلتها شبث بن ربعی- و على همدان سعید بن قیس- و على لهازم البصره حریث بن جابر الجعفی- و على سعد الکوفه و ربابها الطفیل أبا صریمه- و على مذحج الأشتر بن الحارث النخعی- و على عبد القیس الکوفه صعصعه بن صوحان- و على عبد القیس البصره عمرو بن حنظله- و على قیس الکوفه عبد الله بن الطفیل البکائی- و على قریش البصره الحارث بن نوفل الهاشمی- و على قیس البصره قبیصه بن شداد الهلالی- و على اللفیف من القواصی القاسم بن حنظله الجهنی- .

و أما معاویه- فاستعمل على الخیل عبید الله بن عمر بن الخطاب- و على الرجاله مسلم بن عقبه المری- و جعل على المیمنه عبد الله بن عمرو بن العاص- و على المیسره حبیب‏ بن مسلمه الفهری- و أعطى اللواء عبد الرحمن بن خالد بن الولید- و جعل على أهل دمشق و هم القلب الضحاک بن قیس الفهری- و على أهل حمص و هم المیمنه ذا الکلاع الحمیری- و على أهل قنسرین- و هم فی المیمنه أیضا زفر بن الحارث الکلابی- و على أهل الأردن و هم المیسره سفیان بن عمرو أبا الأعور السلمی- و على أهل فلسطین و هم فی المیسره أیضا مسلمه بن مخلد- و على رجاله أهل دمشق- بسر بن أبی أرطاه العامری بن لؤی بن غالب- و على رجاله أهل حمص حوشبا ذا ظلیم- و على رجاله قیس طریف بن حابس الألهانی- و على رجاله الأردن عبد الرحمن بن قیس القینی- و على رجاله أهل فلسطین الحارث بن خالد الأزدی- و على رجاله قیس دمشق همام بن قبیصه- و على قضاعه حمص و إیادها بلال بن أبی هبیره الأزدی- و حاتم بن المعتمر الباهلی- و على رجاله المیمنه حابس بن سعید الطائی- و على قضاعه دمشق حسان بن بحدل الکلبی- و على قضاعه عباد بن یزید الکلبی- و على کنده دمشق حسان بن حوی السکسکی- و على کنده حمص یزید بن هبیره السکونی- و على سائر الیمن یزید بن أسد البجلی- و على حمیر و حضرموت الیمان بن غفیر- و على قضاعه الأردن حبیش بن دلجه القینی- و على کنانه فلسطین شریکا الکنانی- و على مذحج الأردن المخارق بن الحارث الزبیدی- و على جذام فلسطین و لخمها ناتل بن قیس الجذامی- و على همدان الأردن حمزه بن مالک الهمدانی- و على الخثعم حمل بن عبد الله الخثعمی- و على غسان الأردن یزید بن الحارث- و على جمیع القواصی القعقاع بن أبرهه الکلاعی- أصیب فی المبارزه أول یوم تراءت فیه الفئتان- .

قال نصر فأما روایه الشعبی التی- رواها عنه إسماعیل بن أبی عمیره- فإن علیاع بعث على میمنته- عبد الله بن بدیل بن ورقاء الخزاعی- و على میسرته عبد الله بن العباس- و على خیل الکوفه الأشتر- و على البصره سهل بن حنیف- و على رجاله الکوفه عمار بن یاسر- و على رجاله أهل البصره قیس بن سعد- کان قد أقبل من مصر إلى صفین و جعل معه هاشم بن عتبه- و جعل مسعود بن فدکی التمیمی على قراء أهل البصره- و أما قراء أهل الکوفه- فصاروا إلى عبد الله بن بدیل و عمار بن یاسر- .

قال نصر و أما ترتیب عسکر الشام- فیما رواه لنا عمر بن سعد عن عبد الرحمن بن یزید بن جابر- عن القاسم مولى یزید بن معاویه- فإن معاویه بعث على میمنته ذا الکلاع- و على میسرته حبیب بن مسلمه الفهری- و على مقدمته من یوم أقبل من دمشق أبا الأعور السلمی- و کان على خیل دمشق کلها عمرو بن العاص- و معه خیول أهل الشام بأسرها- و جعل مسلم بن عقبه المری على رجاله دمشق- و الضحاک بن قیس على سائر الرجاله بعد- .

قال نصر و تبایع رجال من أهل الشام على الموت- و تحالفوا علیه و عقلوا أنفسهم بالعمائم- و کانوا صفوفا خمسه معقلین- کانوا یخرجون فیصطفون أحد عشر صفا- و یخرج أهل العراق فیصطفون أحد عشر صفا أیضا- . قال نصر فخرجوا أول یوم من صفر من سنه سبع و ثلاثین- و هو یوم الأربعاء فاقتتلوا- و على من خرج یومئذ من أهل الکوفه الأشتر- و على أهل الشام حبیب بن مسلمه-فاقتتلوا قتالا شدیدا جل النهار- ثم تراجعوا و قد انتصف بعضهم من بعض- ثم خرج فی الیوم الثانی هاشم بن عتبه فی خیل- و رجال حسن عددها و عدتها- فخرج إلیه من أهل الشام أبو الأعور السلمی- فاقتتلوا یومهم ذلک- تحمل الخیل على الخیل و الرجال على الرجال- .

ثم انصرفوا و قد صبر القوم بعضهم لبعض- و خرج فی الیوم الثالث عمار بن یاسر- و خرج إلیه عمرو بن العاص- فاقتتل الناس کأشد قتال کان- و جعل عمار یقول یا أهل الشام- أ تریدون أن تنظروا إلى من عادى الله و رسوله و جاهدهما- و بغى على المسلمین و ظاهر المشرکین- فلما أراد الله أن یظهر دینه- و ینصر رسوله أتى إلى النبی ص فأسلم- و هو و الله فیما یرى راهب غیر راغب- ثم قبض الله رسوله- و إنا و الله لنعرفه بعداوه المسلم و موده المجرم- ألا و إنه معاویه فقاتلوه و العنوه- فإنه ممن یطفئ نور الله و یظاهر أعداء الله- .

قال و کان مع عمار زیاد بن النضر على الخیل- فأمره أن یحمل فی الخیل فحمل فصبروا له- و شد عمار فی الرجاله- فأزال عمرو بن العاص عن موقفه- و بارز یومئذ زیاد بن النضر أخا له من بنی عامر- یعرف بمعاویه بن عمرو العقیلی و أمهما هند الزبیدیه- فانصرف کل واحد منهما عن صاحبه بعد المبارزه سالما- و رجع الناس یومهم ذلک- .

قال نصر و حدثنی أبو عبد الرحمن المسعودی قال حدثنی یونس بن الأرقم عمن حدثه من شیوخ بکر بن وائل قال کنا مع علی ع بصفین- فرفع عمرو بن العاص شقه خمیصه سوداء فی رأس رمح- فقال ناس هذا لواء عقده له رسول الله ص- فلم یزالوا یتحدثون حتى وصل ذلک إلى علی ع- فقال‏ أ تدرون ما أمر هذا اللواء- إن عدو الله عمرا أخرج له رسول الله ص هذه الشقه- فقال من یأخذها بما فیها- فقال عمرو و ما فیها یا رسول الله قال- فیها ألا تقاتل بها مسلما و لا تقربها من کافر فأخذها- فقد و الله قربها من المشرکین- و قاتل بها الیوم المسلمین- و الذی فلق الحبه و برأ النسمه- ما أسلموا و لکنهم استسلموا و أسروا الکفر- فلما وجدوا علیه أعوانا أظهروه.

و روى نصر عن أبی عبد الرحمن المسعودی عن یونس بن الأرقم عن عوف بن عبد الله عن عمرو بن هند البجلی عن أبیه قال لما نظر علی ع إلى رایات معاویه و أهل الشام قال- و الذی فلق الحبه و برأ النسمه- ما أسلموا و لکن استسلموا و أسروا الکفر- فلما وجدوا علیه أعوانا رجعوا إلى عداوتهم لنا- إلا أنهم لم یترکوا الصلاه.

و روى نصر عن عبد العزیز بن سیاه عن حبیب بن أبی ثابت- قال لما کان قتال صفین قال رجل لعمار یا أبا الیقظان- أ لم یقل رسول الله ص قاتلوا الناس حتى یسلموا- فإذا أسلموا عصموا منی دماءهم و أموالهم- قال بلى و لکن و الله ما أسلموا و لکن استسلموا- و أسروا الکفر حتى وجدوا علیه أعوانا- .

و روى نصر عن عبد العزیز عن حبیب بن أبی ثابت- عن منذر الثوری قال قال محمد بن الحنفیه- لما أتاهم رسول الله ص من أعلى الوادی و من أسفله-و ملأ الأودیه کتائب یعنی یوم فتح مکه- استسلموا حتى وجدوا أعوانا- .

و روى نصر عن الحکم بن ظهیر عن إسماعیل عن الحسن قال و حدثنا الحکم أیضا عن عاصم بن أبی النجود عن زر بن حبیش عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ص إذا رأیتم معاویه بن أبی سفیان یخطب على منبری- فاضربوا عنقه- فقال الحسن فو الله ما فعلوا و لا أفلحوا

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن‏ أبی ‏الحدید) ج ۴ 

بازدیدها: ۴۸

خطبه ۵۳ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۵۳ و من کلام له ع فی ذکر البیعه- :

فَتَدَاکُّوا عَلَیَّ تَدَاکَّ الْإِبِلِ الْهِیمِ یَوْمَ وِرْدِهَا- وَ قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِیهَا وَ خُلِعَتْ مَثَانِیهَا- حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِلِیَّ أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْضٍ لَدَیَّ- وَ قَدْ قَلَّبْتُ هَذَا الْأَمْرَ بَطْنَهُ وَ ظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِی النَّوْمَ- فَمَا وَجَدْتُنِی یَسَعُنِی إِلَّا قِتَالُهُمْ- أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ص- فَکَانَتْ مُعَالَجَهُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَیَّ مِنْ مُعَالَجَهِ الْعِقَابِ- وَ مَوْتَاتُ الدُّنْیَا أَهْوَنَ عَلَیَّ مِنْ مَوْتَاتِ الآْخِرَهِ تداکوا ازدحموا و الهیم العطاش- و یوم وردها یوم شربها الماء- و المثانی الحبال- جمع مثناه و مثناه بالفتح و الکسر و هو الحبل- . و جهاد البغاه واجب على الإمام إذا وجد أنصارا- فإذا أخل بذلک أخل بواجب و استحق العقاب- . فإن قیل-إنه ع قال لم یسعنی إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد ص- فکیف یکون تارک الواجب جاحدا لما جاء به النبی ص- . قیل إنه فی حکم الجاحد لأنه مخالف و عاص- لا سیما على مذهبنا- فی أن تارک الواجب یخلد فی النار و إن لم یجحد النبوه

بیعه علی و أمر المتخلفین عنها

اختلف الناس فی بیعه أمیر المؤمنین ع- فالذی علیه أکثر الناس و جمهور أرباب السیر- أن طلحه و الزبیر بایعاه طائعین غیر مکرهین- ثم تغیرت عزائمهما و فسدت نیاتهما و غدرا به- . و قال الزبیریون منهم عبد الله بن مصعب- و الزبیر بن بکار و شیعتهم- و من وافق قولهم من بنی تیم بن مره- أرباب العصبیه لطلحه إنهما بایعا مکرهین- و إن الزبیر کان یقول بایعت و اللج على قفی- و اللج سیف الأشتر و قفی لغه هذلیه- إذا أضافوا المقصور إلى أنفسهم قلبوا الألف یاء- و أدغموا إحدى الیاءین فی الأخرى فیقولون- قد وافق ذلک هوی أی هوای- و هذه عصی أی عصای- . و ذکر صاحب کتاب الأوائل- أن الأشتر جاء إلى علی ع حین قتل عثمان- فقال قم فبایع الناس فقد اجتمعوا لک و رغبوا فیک- و الله لئن نکلت عنها لتعصرن علیها عینیک مره رابعه- فجاء حتى دخل بئر سکن و اجتمع الناس- و حضر طلحه و الزبیر لا یشکان أن الأمر شورى- فقال الأشتر أ تنتظرون أحدا- قم یا طلحه فبایع فتقاعس- فقال قم یا ابن الصعبه و سل سیفه- فقام طلحه یجر رجله حتى بایع- فقال قائل أول من بایعه أشل لا یتم أمره ثم لا یتم- قال قم یا زبیر- و الله لا ینازع أحد إلا و ضربت قرطه بهذا السیف- فقام الزبیر فبایع ثم انثال الناس علیه فبایعوا- . و قیل أول من بایعه الأشتر- ألقى خمیصه کانت علیه و اخترط سیفه- و جذب ید علی ع فبایعه- و قال للزبیر و طلحه قوما فبایعا- و إلا کنتما اللیله عند عثمان- فقاما یعثران فی ثیابهما لا یرجوان نجاه- حتى صفقا بأیدیهما على یده ثم قام بعدهما البصریون-و أولهم عبد الرحمن بن عدیس البلوی فبایعوا- و قال له عبد الرحمن-

خذها إلیک و اعلمن أبا حسن
أنا نمر الأمر إمرار الرسن‏

و قد ذکرنا نحن فی شرح الفصل الذی فیه- أن الزبیر أقر بالبیعه و ادعى الولیجه- أن بیعه أمیر المؤمنین لم تقع- إلا عن رضا جمیع أهل المدینه- أولهم طلحه و الزبیر- و ذکرنا فی ذلک ما یبطل روایه الزبیر- . و ذکر أبو مخنف فی کتاب الجمل- أن الأنصار و المهاجرین اجتمعوا فی مسجد رسول الله ص- لینظروا من یولونه أمرهم حتى غص المسجد بأهله- فاتفق رأی عمار و أبی الهیثم بن التیهان- و رفاعه بن رافع و مالک بن عجلان- و أبی أیوب خالد بن یزید- على إقعاد أمیر المؤمنین ع فی الخلافه- و کان أشدهم تهالکا علیه عمار- فقال لهم أیها الأنصار- قد سار فیکم عثمان بالأمس بما رأیتموه- و أنتم على شرف من الوقوع فی مثله إن لم تنظروا لأنفسکم- و إن علیا أولى الناس بهذا الأمر لفضله و سابقته- فقالوا رضینا به حینئذ- و قالوا بأجمعهم لبقیه الناس من الأنصار و المهاجرین- أیها الناس إنا لن نألوکم خیرا و أنفسنا إن شاء الله- و إن علیا من قد علمتم- و ما نعرف مکان أحد أحمل لهذا الأمر منه و لا أولى به- فقال الناس بأجمعهم قد رضینا- و هو عندنا ما ذکرتم و أفضل- .

و قاموا کلهم فأتوا علیا ع- فاستخرجوه من داره و سألوه بسط یده- فقبضها فتداکوا علیه تداک الإبل الهیم على وردها- حتى کاد بعضهم یقتل بعضا- فلما رأى منهم ما رأى- سألهم أن تکون بیعته فی المسجد ظاهره للناس- و قال إن کرهنی رجل واحد من الناس لم أدخل فی هذا الأمر- . فنهض الناس معه حتى دخل المسجد- فکان أول من بایعه طلحه- فقال قبیصه بن ذؤیب الأسدی تخوفت ألا یتم له أمره- لأن أول ید بایعته شلاء ثم بایعه الزبیر-و بایعه المسلمون بالمدینه إلا محمد بن مسلمه و عبد الله بن عمر- و أسامه بن زید و سعد بن أبی وقاص- و کعب بن مالک و حسان بن ثابت و عبد الله بن سلام- .

فأمر بإحضار عبد الله بن عمر فقال له بایع- قال لا أبایع حتى یبایع جمیع الناس- فقال له ع فأعطنی حمیلا ألا تبرح- قال و لا أعطیک حمیلا- فقال الأشتر یا أمیر المؤمنین- إن هذا قد أمن سوطک و سیفک فدعنی أضرب عنقه- فقال لست أرید ذلک منه على کره خلوا سبیله- فلما انصرف قال أمیر المؤمنین- لقد کان صغیرا و هو سیئ الخلق و هو فی کبره أسوأ خلقا- . ثم أتی بسعد بن أبی وقاص فقال له بایع- فقال یا أبا الحسن خلنی فإذا لم یبق غیری بایعتک- فو الله لا یأتیک من قبلی أمر تکرهه أبدا- فقال صدق خلوا سبیله- . ثم بعث إلى محمد بن مسلمه فلما أتاه قال له بایع- قال إن رسول الله ص أمرنی إذا اختلف الناس- و صاروا هکذا و شبک بین أصابعه- أن أخرج بسیفی فأضرب به عرض أحد- فإذا تقطع أتیت منزلی- فکنت فیه لا أبرحه حتى تأتینی ید خاطیه أو منیه قاضیه- فقال له ع فانطلق إذا فکن کما أمرت به- . ثم بعث إلى أسامه بن زید فلما جاء قال له بایع- فقال إنی مولاک و لا خلاف منی علیک- و ستأتیک بیعتی إذا سکن الناس- فأمره بالانصراف و لم یبعث إلى أحد غیره- .و قیل له أ لا تبعث إلى حسان بن ثابت- و کعب بن مالک و عبد الله بن سلام- فقال لا حاجه لنا فیمن لا حاجه له فینا- .

فأما أصحابنا فإنهم یذکرون فی کتبهم- أن هؤلاء الرهط إنما اعتذروا بما اعتذروا به-لما ندبهم إلى الشخوص معه لحرب أصحاب الجمل- و أنهم لم یتخلفوا عن البیعه و إنما تخلفوا عن الحرب- .

و روى شیخنا أبو الحسین رحمه الله تعالى فی کتاب الغرر أنهم لما اعتذروا إلیه بهذه الأعذار- قال لهم ما کل مفتون یعاتب- أ عندکم شک فی بیعتی قالوا لا- قال فإذا بایعتم فقد قاتلتم و أعفاهم من حضور الحرب- .

فإن قیل رویتم أنه قال- إن کرهنی رجل واحد من الناس لم أدخل فی هذا الأمر- ثم رویتم أن جماعه من أعیان المسلمین کرهوا- و لم یقف مع کراهتهم- . قیل إنما مراده ع- أنه متى وقع الاختلاف قبل البیعه- نفضت یدی عن الأمر و لم أدخل فیه- فأما إذا بویع ثم خالف ناس بعد البیعه- فلا یجوز له أن یرجع عن الأمر و یترکه- لأن الإمامه تثبت بالبیعه- و إذا ثبتت لم یجز له ترکها- . و روى أبو مخنف عن ابن عباس قال- لما دخل علی ع المسجد- و جاء الناس لیبایعوه- خفت أن یتکلم بعض أهل الشنئان لعلی ع- ممن قتل أباه أو أخاه- أو ذا قرابته فی حیاه رسول الله ص- فیزهد علی فی الأمر و یترکه- فکنت أرصد ذلک و أتخوفه- فلم یتکلم أحد حتى بایعه الناس کلهم- راضین مسلمین غیر مکرهین- .

لما بایع الناس علیا ع- و تخلف عبد الله بن عمر- و کلمه علی ع فی البیعه فامتنع علیه- أتاه فی الیوم الثانی فقال إنی لک ناصح- إن بیعتک لم یرض بها کلهم- فلو نظرت لدینک و رددت الأمر شورى بین المسلمین- فقال علی ع ویحک- و هل ما کان عن طلب منی له أ لم یبلغک صنیعهم- قم عنی یا أحمق ما أنت و هذا الکلام-فلما خرج أتى علیا فی الیوم الثالث آت فقال- إن ابن عمر قد خرج إلى مکه یفسد الناس علیک- فأمر بالبعث فی أثره فجاءت أم کلثوم ابنته- فسألته و ضرعت إلیه فیه- و قالت یا أمیر المؤمنین إنما خرج إلى مکه لیقیم بها- و إنه لیس بصاحب سلطان و لا هو من رجال هذا الشأن- و طلبت إلیه أن یقبل شفاعتها فی أمره لأنه ابن بعلها- فأجابها و کف عن البعثه إلیه و قال دعوه و ما أراده

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۴ 

بازدیدها: ۵۴

خطبه ۵۲ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۵۲ و من خطبه له ع

و قد تقدم مختارها بروایه- و نذکر ما نذکره هنا بروایه أخرى لتغایر الروایتین- : أَلَا وَ إِنَّ الدُّنْیَا قَدْ تَصَرَّمَتْ وَ آذَنَتْ بِانْقِضَاءٍ- وَ تَنَکَّرَ مَعْرُوفُهَا وَ أَدْبَرَتْ حَذَّاءَ- فَهِیَ تَحْفِزُ بِالْفَنَاءِ سُکَّانَهَا- وَ تَحْدُو بِالْمَوْتِ جِیرَانَهَا- وَ قَدْ أَمَرَّ فِیهَا مَا کَانَ حُلْواً- وَ کَدِرَ مِنْهَا مَا کَانَ صَفْواً- فَلَمْ یَبْقَ مِنْهَا إِلَّا سَمَلَهٌ کَسَمَلَهِ الْإِدَاوَهِ- أَوْ جُرْعَهٌ کَجُرْعَهِ الْمَقْلَهِ- لَوْ تَمَزَّزَهَا الصَّدْیَانُ لَمْ یَنْقَعْ- فَأَزْمِعُوا عَبِادَ اللَّهِ- الرَّحِیلَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ الْمَقْدُورِ عَلَى أَهْلِهَا الزَّوَالُ- وَ لَا یَغْلِبَنَّکُمْ فِیهَا الْأَمَلُ- وَ لَا یَطُولَنَّ عَلَیْکُمْ فِیهَا الْأَمَدُ- فَوَاللَّهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِینَ الْوُلَّهِ الْعِجَالِ- وَ دَعَوْتُمْ بِهَدِیلِ الْحَمَامِ- وَ جَأَرْتُمْ جُؤَارَ مُتَبَتِّلِی الرُّهْبَانِ- وَ خَرَجْتُمْ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ- الْتِمَاسَ الْقُرْبَهِ إِلَیْهِ فِی ارْتِفَاعِ دَرَجَهٍ عِنْدَهُ- أَوْ غُفْرَانِ سَیِّئَهٍ أَحْصَتْهَا کُتُبُهُ- وَ حَفِظَتْهَا رُسُلُهُ لَکَانَ قَلِیلًا فِیمَا أَرْجُو لَکُمْ مِنْ ثَوَابِهِ- وَ أَخَافُ عَلَیْکُمْ مِنْ عِقَابِهِ- وَ بِاللَّهِ لَوِ انْمَاثَتْ قُلُوبُکُمُ انْمِیَاثاً- وَ سَالَتْ عُیُونُکُمْ مِنْ رَغْبَهٍ إِلَیْهِ أَوْ رَهْبَهٍ مِنْهُ دَماً- ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِی الدُّنْیَا- مَا الدُّنْیَا بَاقِیَهٌ مَا جَزَتْ أَعْمَالُکُمْ- وَ لَوْ لَمْ تُبْقُوا شَیْئاً مِنْ جُهْدِکُمْ- أَنْعُمَهُ عَلَیْکُمُ الْعِظَامَ- وَ هُدَاهُ إِیَّاکُمْ لِلْإِیمَانِ‏

تصرمت انقطعت و فنیت- و آذنت بانقضاء أعلمت بذلک- آذنته بکذا أی أعلمته- و تنکر معروفها جهل منها ما کان معروفا- . و الحذاء السریعه الذهاب- و رحم حذاء مقطوعه غیر موصوله- و من رواه جذاء بالجیم- أراد منقطعه الدر و الخیر- . و تحفر بالفناء سکانها تعجلهم و تسوقهم- و أمر الشی‏ء صار مرا- و کدر الماء بکسر الدال و یجوز کدر بضمها- و المصدر من الأول کدرا و من الثانی کدوره- . و السمله بفتح المیم البقیه من الماء تبقى فی الإناء- و المقله بفتح المیم و تسکین القاف- حصاه القسم التی تلقى فی الماء- لیعرف قدر ما یسقى کل واحد منهم- و ذلک عند قله الماء فی المفاوز قال-

قذفوا سیدهم فی ورطه
قذفک المقله وسط المعترک‏

و التمزز تمصص الشراب قلیلا قلیلا- و الصدیان العطشان- . و لم ینقع لم یرو و هذا یمکن أن یکون لازما- و یمکن أن یکون متعدیا- تقول نقع الرجل بالماء- أی روی و شفى غلیله- ینقع و نقع الماء الصدى ینقع أی سکنه- . فأزمعوا الرحیل أی اعزموا علیه- یقال أزمعت الأمر- و لا یجوز أزمعت على الأمر- و أجازه الفراء. قوله المقدور على أهلها الزوال أی المکتوب قال-

و اعلم بأن ذا الجلال قد قدر
فی الصحف الأولى الذی کان سطر

أی کتب و الوله العجال- النوق الوالهه الفاقده أولادها الواحده عجول- و الوله ذهاب العقل و فقد التمییز- و هدیل الحمام صوت نوحه- و الجؤار صوت مرتفع- و المتبتل المنقطع عن الدنیا- و انماث القلب أی ذاب- . و قوله و لو لم تبقوا شیئا من جهدکم اعتراض فی الکلام- . و أنعمه منصوب لأنه مفعول جزت- . و فی هذا الکلام تلویح- و إشاره إلى مذهب البغدادیین من أصحابنا- فی أن الثواب على فعل الطاعه غیر واجب- لأنه شکر النعمه فلا یقتضی وجوب ثواب آخر- و هو قوله ع لو انماثت قلوبکم انمیاثا… إلى آخر الفصل- . و أصحابنا البصریون لا یذهبون إلى ذلک- بل یقولون إن الثواب واجب على الحکیم سبحانه- لأنه قد کلفنا ما یشق علینا- و تکلیف المشاق کإنزال المشاق- فکما اقتضت الآلام و المشاق- النازله بنا من جهته سبحانه أعواضا- مستحقه علیه تعالى عن إنزالها بنا- کذلک تقتضی التکلیفات الشاقه ثوابا- مستحقا علیه تعالى عن إلزامه إیانا بها- قالوا فأما ما سلف من نعمه علینا فهو تفضل منه تعالى- و لا یجوز فی الحکمه- أن یتفضل الحکیم على غیره بأمر من الأمور- ثم یلزمه أفعالا شاقه و یجعلها بإزاء ذلک التفضل- إلا إذا کان فی تلک الأمور منافع عائده على ذلک الحکیم- فکان ما سلف من المنافع جاریا مجرى الأجره- کمن یدفع درهما إلى إنسان لیخیط له ثوبا- و البارئ تعالى منزه عن المنافع- و نعمه علینا منزهه- أن تجری مجرى الأجره على تکلیفنا المشاق- . و أیضا فقد یتساوى اثنان من الناس فی النعم- المنعم بها علیهما و یختلفان فی التکالیف-

فلو کان التکلیف لأجل ما مضى من النعم- لوجب أن یقدر بحسبها- فإن قیل فعلى ما ذا یحمل کلام أمیر المؤمنین ع- و فیه إشاره إلى مذهب البغدادیین- . قیل إنه ع لم یصرح بمذهب البغدادیین- و لکنه قال لو عبدتموه بأقصى ما ینتهی الجهد إلیه- و ما وفیتم بشکر أنعمه و هذا حق غیر مختلف فیه- لأن نعم البارئ تعالى لا تقوم العباد بشکرها- و إن بالغوا فی عبادته و الخضوع له و الإخلاص فی طاعته- و لا یقتضی صدق هذه القضیه- و صحتها صحه مذهب البغدادیین- فی أن الثواب على الله تعالى غیر واجب- لأن التکلیف إنما کان باعتبار أنه شکر النعمه السالفه

ما قیل من الأشعار فی ذم الدنیا

فأما ما قاله الناس فی ذم الدنیا و غرورها- و حوادثها و خطوبها و تنکرها لأهلها- و الشکوى منها و العتاب لها و الموعظه بها- و تصرمها و تقلبها فکثیر من ذلک قول بعضهم-

هی الدنیا تقول بمل‏ء فیها
حذار حذار من بطشی و فتکی‏

فلا یغررکم حسن ابتسامی‏
فقولی مضحک و الفعل مبک‏

 و قال آخر-

تنح عن الدنیا و لا تطلبنها
و لا تخطبن قتاله من تناکح‏

فلیس یفی مرجوها بمخوفها
و مکروهها إما تأملت راجح‏

لقد قال فیها القائلون فأکثروا
و عندی لها وصف لعمرک صالح‏

سلاف قصاراها ذعاف و مرکب‏
شهی إذا استلذذته فهو جامح‏

و شخص جمیل یعجب الناس حسنه
و لکن له أفعال سوء قبائح‏

و قال أبو الطیب-

أبدا تسترد ما تهب الدنیا
فیا لیت جودها کان بخلا

و هی معشوقه على الغدر لا تحفظ
عهدا و لا تتم وصلا

کل دمع یسیل منها علیها
و بفک الیدین عنها تخلى‏

شیم الغانیات فیها و لا أدری‏
لذا أنث اسمها الناس أم لا

 و قال آخر-

إنما الدنیا عوار
و العواری مسترده‏

شده بعد رخاء
و رخاء بعد شده‏

و قال محمد بن هانئ المغربی

و ما الناس إلا ظاعن فمودع
و ثاو قریح الجفن یبکی لراحل‏

فما الدهر إلا کالزمان الذی مضى‏
و لا نحن إلا کالقرون الأوائل

نساق من الدنیا إلى غیر دائم
و نبکی من الدنیا على غیر طائل‏

فما عاجل نرجوه إلا کآجل‏
و لا آجل نخشاه إلا کعاجل‏

و قال ابن المظفر المغربی

دنیاک دار غرور
و نعمه مستعاره‏

و دار أکل و شرب‏
و مکسب و تجاره‏

و رأس مالک نفس
فخف علیها الخساره‏

و لا تبعها بأکل
و طیب عرف و شاره‏

فإن ملک سلیمان‏
لا یفی بشراره‏

و قال أبو العتاهیه

ألا إنما التقوى هی البر و الکرم
و حبک للدنیا هو الفقر و العدم‏

و لیس على عبد تقی غضاضه
إذا صحح التقوى و إن حاک أو حجم‏

و قال أیضا

تعلقت بآمال
طوال أی آمال‏

و أقبلت على الدنیا
ملحا أی إقبال‏

أیا هذا تجهز لفراق
الأهل و المال‏

فلا بد من الموت‏
على حال من الحال‏

 و قال أیضا

سکن یبقى له سکن
ما بهذا یؤذن الزمن‏

نحن فی دار یخبرنا
ببلاها ناطق لسن‏

دار سوء لم یدم فرح
لامرئ فیها و لا حزن‏

فی سبیل الله أنفسنا
کلنا بالموت مرتهن‏

کل نفس عند موتتها
حظها من مالها الکفن‏

إن مال المرء لیس له‏
منه إلا ذکره الحسن‏

و قال أیضا

ألا إننا کلنا بائد
و أی بنی آدم خالد

و بدؤهم کان من ربهم‏
و کل إلى ربه عائد

فوا عجبا کیف یعصی الإله
أم کیف یجحده الجاحد

و فی کل شی‏ء له آیه
تدل على أنه الواحد

و قال الرضی الموسوی

یا آمن الأیام بادر صرفها
و اعلم بأن الطالبین حثاث‏

خذ من ثرائک ما استطعت فإنما
شرکاؤک الأیام و الوراث‏

لم یقض حق المال إلا معشر
نظروا الزمان یعیث فیه فعاثوا

تحثو على عیب الغنی ید الغنى‏
و الفقر عن عیب الفتى بحاث‏

المال مال المرء ما بلغت به
الشهوات أو دفعت به الأحداث‏

ما کان منه فاضلا عن قوته‏
فلیعلمن بأنه میراث‏

ما لی إلى الدنیا الدنیه حاجه
فلیجن ساحر کیدها النفاث‏

طلقتها ألفا لأحسم داءها
و طلاق من عزم الطلاق ثلاث‏

و ثباتها مرهوبه و عداتها
مکذوبه و حبالها أنکاث‏

أم المصائب لا تزال تروعنا
منها ذکور حوادث و إناث‏

إنی لأعجب للذین تمسکوا
بحبائل الدنیا و هن رثاث‏

کنزوا الکنوز و اعقلوا شهواتهم‏
فالأرض تشبع و البطون غراث‏

أ تراهم لم یعلموا أن التقى
أزوادنا و دیارنا الأجداث‏

و قال آخر

هذه الدنیا إذا صرفت
وجهها لم تنفع الحیل‏

و إذا ما أقبلت لعم‏
بصرته کیف یفتعل‏

و إذا ما أدبرت لذکی
غاب عنه السهل و الجبل‏

فهی کالدولاب دائره
ترتقی طورا و تستفل‏

فی زمان صار ثعلبه
أسدا و استذاب الحمل‏

فالذنابى فیه ناصیه
و النواصی خشع ذلل‏

فاصبری یا نفس و احتملی
إن نفس الحر تحتمل‏

و قال أبو الطیب

نعد المشرفیه و العوالی
و تقتلنا المنون بلا قتال‏

و نرتبط السوابق مقربات‏
و ما ینجین من خبب اللیالی‏

و من لم یعشق الدنیا قدیما
و لکن لا سبیل إلى الوصال‏

نصیبک فی حیاتک من حبیب‏
نصیبک فی منامک من خیال‏

رمانی الدهر بالأرزاء حتى
فؤادی فی غشاء من نبال‏

فصرت إذا أصابتنی سهام‏
تکسرت النصال على النصال‏

و هان فما أبالی بالرزایا
لأنی ما انتفعت بأن أبالی‏

یدفن بعضنا بعضا و یمشی‏
أواخرنا على هام الأوالی‏

و کم عین مقبله النواحی
کحیل فی الجنادل و الرمال‏

و مغض کان لا یغضی لخطب
و بال کان یفکر فی الهزال‏

 و قال أبو العتاهیه فی أرجوزته-

المشهوره فی ذم الدنیا و فیها أنواع مختلفه من الحکمه-

ما زالت الدنیا لنا دار أذى
ممزوجه الصفو بألوان القذى‏

الخیر و الشر بها أزواج‏
لذا نتاج و لذا نتاج‏

من لک بالمحض و لیس محض
یخبث بعض و یطیب بعض‏

لکل إنسان طبیعتان‏
خیر و شر و هما ضدان‏

و الخیر و الشر إذا ما عدا
بینهما بون بعید جدا

إنک لو تستنشق الشحیحا
وجدته أنتن شی‏ء ریحا

حسبک مما تبتغیه القوت
ما أکثر القوت لمن یموت‏

الفقر فیما جاوز الکفافا
من اتقى الله رجا و خافا

هی المقادیر فلمنی أو فذر
إن کنت أخطأت فما أخطأ القدر

لکل ما یؤذی و إن قل ألم‏
ما أطول اللیل على من لم ینم‏

ما انتفع المرء بمثل عقله
و خیر ذخر المرء حسن فعله‏

إن الفساد ضده الصلاح‏
و رب جد جره المزاح‏

من جعل النمام عینا هلکا
مبلغک الشر کباغیه لکا

إن الشباب و الفراغ و الجده‏
مفسده للمرء أی مفسده‏

یغنیک عن کل قبیح ترکه
قد یوهن الرأی الأصیل شکه‏

ما عیش من آفته بقاه‏
نغص عیشا ناعما فناه‏

یا رب من أسخطنا بجهده
قد سرنا الله بغیر حمده‏

ما تطلع الشمس و لا تغیب‏
إلا لأمر شأنه عجیب‏

لکل شی‏ء قدر و جوهر
و أوسط و أصغر و أکبر

و کل شی‏ء لاحق بجوهره‏
أصغره متصل بأکبره‏

من لک بالمحض و کل ممتزج
وساوس فی الصدر منک تعتلج‏

عجبت و استغرقنی السکوت‏
حتى کأنی حائر مبهوت‏

إذا قضى الله فکیف أصنع
و الصمت إن ضاق الکلام أوسع‏

و قال أیضا

کل على الدنیا له حرص
و الحادثات لنا بها قرص‏

و کان من واروه فی جدث‏
لم یبد منه لناظر شخص‏

یهوى من الدنیا زیادتها
و زیاده الدنیا هی النقص‏

لید المنیه فی تلطفها
عن ذخر کل نفیسه فحص‏

و قال أیضا

أبلغ الدهر فی مواعظه بل
زاد فیهن لی من الإبلاغ‏

أی عیش یکون أطیب من عیش‏
کفاف قوت بقدر البلاغ‏

غصبتنی الأیام أهلی و مالی
و شبابی و صحتی و فراغی‏

صاحب البغی لیس یسلم منه‏
و على نفسه بغی کل باغ‏

رب ذی نعمه تعرض منها
حائل بینه و بین المساغ‏

و قال ابن المعتز

حمدا لربی و ذما للزمان فما
أقل فی هذه الدنیا مسراتی‏

کفت یدی أملى عن کل مطلب‏
و أغلقت بابها من دون حاجاتی‏

و له أیضا

أ لست ترى یا صاح ما أعجب الدهرا
فذما له لکن للخالق الشکرا

لقد حبب الموت البقاء الذی أرى‏
فیا حبذا منی لمن سکن القبرا

و سبحان ربی راضیا بقضائه
و کان اتقائی الشر یغری بی الشرا

 و له

قل لدنیاک قد تمکنت منی
فافعلی ما أردت أن تفعلی بی‏

و اخرقی کیف شئت خرق جهول‏
إن عندی لک اصطبار لبیب‏

 و قال أبو العلاء المعری-

و الدهر إبرام و نقض و تفریق
و جمع و نهار و لیل‏

لو قال لی صاحبه سمه‏
ما جزت عن ناجیه أو بدیل‏

و قال آخر

و الدهر لا یبقى على حاله
لا بد أن یدبر أو یقبلا

و قال أبو الطیب

ما لی و للدنیا طلابی نجومها
و مسعای منها فی شدوق الأراقم‏

و قال آخر

لعمرک ما الأیام إلا معاره
فما اسطعت من معروفها فتزود

و قال آخر

لعمرک ما الأیام إلا کما ترى
رزیه مال أو فراق حبیب‏

 الوزیر المهلبی

أ لا موت یباع فأشتریه
فهذا العیش ما لا خیر فیه‏

أ لا رحم المهیمن نفس حر
تصدق بالممات على أخیه‏

 و له

أشکو إلى الله أحداثا من الزمن
یبریننی مثل بری القدح بالسفن‏

لم یبق بالعیش لی إلا مرارته‏
إذا تذوقته و الحلو منه فنی‏

لا تحسبن نعما سرتک صحبتها
إلا مفاتیح أبواب من الحزن‏

 عبید الله بن عبد الله بن طاهر-

ألا أیها الدهر الذی قد مللته
سألتک إلا ما سللت حیاتی‏

فقد و جلال الله حببت جاهدا
إلی على کره الممات مماتی‏

 و له

أ لم تر أن الدهر یهدم ما بنى
و یسلب ما أعطى و یفسد ما أسدى‏

فمن سره ألا یرى ما یسوءه‏
فلا یتخذ شیئا یخاف له فقدا

 البحتری

کان اللیالی أغریت حادثاتها
بحب الذی نأبى و بغض الذی نهوى‏

و من عرف الأیام لم یر خفضها
نعیما و لم یعدد مضرتها بلوى‏

 أبو بکر الخوارزمی

ما أثقل الدهر على من رکبه
حدثنی عنه لسان التجربه‏

لا تشکر الدهر لخیر سببه‏
فإنه لم یتعمد بالهبه‏

و إنما أخطأ فیک مذهبه
کالسیل قد یسقی مکانا أخربه‏
و السم یستشفی به من شربه‏

و قال آخر

یسعى الفتى فی صلاح العیش مجتهدا
و الدهر ما عاش فی إفساده ساعى‏

آخر

یغر الفتى مر اللیالی سلیمه
و هن به عما قلیل عواثر

 آخر

إذا ما الدهر جر على أناس
کلاکله أناخ بآخرینا

فقل للشامتین بنا أفیقوا
سیلقى الشامتون کما لقینا

آخر

قل لمن أنکر حالا منکره
و رأى من دهره ما حیره‏

لیس بالمنکر ما أنکرته‏
کل من عاش رأى ما لم یره‏

 ابن الرومی

سکن الزمان و تحت سکنته
دفع من الحرکات و البطش‏

کالأفعوان تراه منبطحا
بالأرض ثم یثور للنهش‏

أبو الطیب

أنا لفی زمن ترک القبیح به
من أکثر الناس إحسان و إجمال‏

ذکر الفتى عمره الثانی و حاجته‏
ما قاته و فضول العیش أشغال‏

و قال آخر

جار الزمان علینا فی تصرفه
و أی حر علیه الدهر لم یجر

عندی من الدهر ما لو أن أیسره‏
یلقى على الفلک الدوار لم یدر

آخر

هذا الزمان الذی کنا نحاذره
فیما یحدث کعب و ابن مسعود

إن دام هذا و لم تعقب له غیر
لم یبک میت و لم یفرح بمولود

 آخر

یا زمانا ألبس
الأحرار ذلا و مهانه‏

لست عندی بزمان‏
إنما أنت زمانه‏

أ جنون ما نراه
منک یبدو أم مجانه‏

 الرضی الموسوی-

تأبى اللیالی أن تدیما
بؤسا لخلق أو نعیما

و المرء بالإقبال یبلغ‏
وادعا خطرا جسیما

فإذا انقضى إقباله
رجع الشفیع له خصیما

و هو الزمان إذا نبا
سلب الذی أعطى قدیما

کالریح ترجع عاصفا
من بعد ما بدأت نسیما

أبو عثمان الخالدی-

ألفت من حادثات الدهر أکبرها
فما أعادی على أحداثها الصغر

تزیدنی قسوه الأیام طیب نثا
کأننی المسک بین الفهر و الحجر

 السری الرفاء

تنکد هذا الدهر فیما یرومه
على أنه فیما نحاذره ندب‏

فسیر الذی نرجوه سیر مقید
و سیر الذی نخشى غوائله وثب‏

ابن الرومی

ألا إن فی الدنیا عجائب جمه
و أعجبها ألا یشیب ولیدها

إذا ذل فی الدنیا الأعزاء و اکتست‏
أذلتها عزا و ساد مسودها

هناک فلا جادت سماء بصوبها
و لا أمرعت أرض و لا اخضر عودها

أرى الناس مخسوفا بهم غیر أنهم‏
على الأرض لم یقلب علیهم صعیدها

و ما الخسف أن یلفى أسافل بلده
أعالیها بل أن یسود عبیدها

السری الرفاء

لنا من الدهر خصم لا نطالبه
فما على الدهر لو کفت نوائبه‏

یرتد عنه جریحا من یسالمه‏
فکیف یسلم منه من یحاربه‏

و لو أمنت الذی تجنى أراقمه
علی هان الذی تجنى عقاربه‏

أبو فراس بن حمدان

تصفحت أحوال الزمان و لم یکن
إلى غیر شاک للزمان وصول‏

أ کل خلیل هکذا غیر منصف‏
و کل زمان بالکرام بخیل‏

ابن الرومی

رأیت الدهر یرفع کل وغد
و یخفض کل ذی شیم شریفه‏

کمثل البحر یغرق فیه حی‏
و لا ینفک تطفو فیه جیفه‏

أو المیزان یخفض کل واف
و یرفع کل ذی زنه خفیفه‏

 ابن نباته

و أصغر عیب فی زمانک أنه
به العلم جهل و العفاف فسوق‏

و کیف یسر الحر فیه بمطلب‏
و ما فیه شی‏ء بالسرور حقیق‏

 أبو العتاهیه-

لتجذبنی ید الدنیا بقوتها
إلى المنایا و إن نازعتها رسنی‏

لله دنیا أناس دائبین لها
قد ارتعوا فی غیاض الغی و الفتن‏

کسائمات رواع تبتغی سمنا
و حتفها لو درت فی ذلک السمن‏

 و له أیضا-

أنساک محیاک المماتا
فطلبت فی الدنیا الثباتا

و قال یزید بن مفرغ الحمیری-

لا ذعرت السوام فی فلق الصبح
مغیرا و لا دعیت یزیدا

یوم أعطى من المخافه ضیما
و المنایا یرصدننی أن أحیدا

و قال آخر-

لا تحسبینی یا أمامه
عاجزا دنسا ثیابه‏

إنی إذا خفت الهوان‏
مشیع ذلل رکابه‏

مثله قول عنتره-

ذلل رکابی حیث شئت مشایعی
لبی و أحفزه برأی مبرم‏

 و قال آخر-

أ خشیه الموت در درکم
أعطیتم القوم فوق ما سألوا

إنا لعمر الإله نأبى الذی قالوا
و لما تقصف الأسل‏

نقبل ضیما و نحن نعرفه
ما دام منا بظهرها رجل‏

 و قال آخر-

و رب یوم حبست النفس مکرهه
فیه لأکبت أعداء أحاشیها

آبى و آنف من أشیاء آخذها
رث القوى و ضعیف القوم یعطیها

مثله للشداخ-

أبینا فلا نعطی ملیکا ظلامه
و لا سوقه إلا الوشیج المقوما

تروم الخلد فی دار التفانی
و کم قد رام قبلک ما تروم‏

لأمر ما تصرمت اللیالی‏
و أمر ما تقلبت النجوم‏

تنام و لم تنم عنک المنایا
تنبه للمنیه یا نئوم‏

إلى دیان یوم الدین نمضی‏
و عند الله تجتمع الخصوم‏

حسبنا الله وحده- و صلواته على خیرته من خلقه سیدنا محمد و آله الطاهرین- تم الجزء الثالث و یلیه الجزء الرابع- و أوله فی ذکر یوم النحر و صفه الأضحیه

الجزء الرابع

تتمه الخطب و الأوامر

بسم الله الرحمن الرحیم- الحمد لله الواحد العدل الحکیم- و صلى الله على رسوله الکریم 

تتمه الخطبه الثانیه و الخمسین

وَ مِنْهَا فِی ذِکْرِ یَوْمِ النَّحْرِ وَ صِفَهِ الْأُضْحِیَّهِ: وَ مِنْ تَمَامِ الْأُضْحِیَّهِ اسْتِشْرَافُ أُذُنِهَا وَ سَلَامَهُ عَیْنِهَا- فَإِذَا سَلِمَتِ الْأُذُنُ وَ الْعَیْنُ سَلِمَتِ الْأُضْحِیَّهُ وَ تَمَّتْ- وَ لَوْ کَانَتْ عَضْبَاءَ الْقَرْنِ تَجُرُّ رِجْلَهَا إِلَى الْمَنْسَکِ قال الرضی رحمه الله- و المنسک هاهنا المذبح الأضحیه ما یذبح یوم النحر- و ما یجری مجراه أیام التشریق من النعم- و استشراف أذنها انتصابها و ارتفاعها- أذن شرفاء أی منتصبه- . و العضباء المکسوره القرن- و التی تجر رجلها إلى المنسک کنایه عن العرجاء- و یجوز المنسک بفتح السین و کسرها

اختلاف الفقهاء فی حکم الأضحیه

و اختلف الفقهاء فی وجوب الأضحیه- فقال أبو حنیفه هی واجبه على المقیمین من أهل‏الأمصار- و یعتبر فی وجوبها النصاب- و به قال مالک و الثوری إلا أن مالکا لم یعتبر الإقامه- . و قال الشافعی الأضحیه سنه مؤکده- و به قال أبو یوسف و محمد و أحمد- . و اختلفوا فی العمیاء هل تجزئ أم لا- فأکثر الفقهاء على أنها لا تجزئ- و کلام أمیر المؤمنین ع فی هذا الفصل یقتضی ذلک- لأنه قال إذا سلمت العین سلمت الأضحیه- فیقتضی أنه إذا لم تسلم العین لم تسلم الأضحیه- و معنى انتفاء سلامه الأضحیه انتفاء أجزائها- . و حکی عن بعض أهل الظاهر أنه قال تجزئ العمیاء- .

و قال محمد بن النعمان- المعروف بالمفید رضی الله تعالى عنه- أحد فقهاء الشیعه فی کتابه المعروف بالمقنعه-إن الصادق ع سئل عن الرجل یهدی الهدی أو الأضحیه- و هی سمینه فیصیبها مرض- أو تفقأ عینها أو تنکسر- فتبلغ یوم النحر و هی حیه أ تجزئ عنه فقال نعم- .

فأما الأذن فقال أحمد لا یجوز التضحیه بمقطوعه الأذن- و کلام أمیر المؤمنین ع یقتضی ذلک- و قال سائر الفقهاء تجزئ إلا أنه مکروه- . و أما العضباء- فأکثر الفقهاء على أنها تجزئ إلا أنه مکروه- و کلام أمیر المؤمنین ع یقتضی ذلک- و کذلک الحکم فی الجلحاء- و هی التی لم یخلق لها قرن- و القصماء و هی التی انکسر غلاف قرنها- و الشرفاء و هی التی انثقبت أذنها من الکی- و الخرقاء و هی التی شقت أذنها طولا- . و قال مالک إن کانت العضباء یخرج من قرنها دم لم تجزئ- . و قال أحمد و النخعی لا تجوز التضحیه بالعضباء- .

فأما العرجاء التی کنى عنها بقوله- تجر رجلها إلى المنسک- فأکثر الفقهاء على أنها لا تجزئ- و کلام أمیر المؤمنین ع یقتضی أنها تجزئ- و قد نقل أصحاب الشافعی عنه فی أحد قولیه- أن الأضحیه إذا کانت مریضه مرضا یسیرا أجزأت- . و قال الماوردی من الشافعیه- فی کتابه المعروف بالحاوی- إن عجزت عن أن تجر رجلها خلقه أجزأت- و إن کان ذلک عن مرض لم تجزئ

شرح‏ نهج ‏البلاغه(ابن‏ أبی ‏الحدید)، ج ۳ -۴

بازدیدها: ۱۷۱

خطبه ۵۱ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۵۱ و من کلام له ع لما غلب أصحاب معاویه أصحابه ع- على شریعه الفرات بصفین و منعوهم من الماء– :

قَدِ اسْتَطْعَمُوکُمُ الْقِتَالَ- فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّهٍ وَ تَأْخِیرِ مَحَلَّهٍ- أَوْ رَوُّوا السُّیُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ- فَالْمَوْتُ فِی حَیَاتِکُمْ مَقْهُورِینَ- وَ الْحَیَاهُ فِی مَوْتِکُمْ قَاهِرِینَ- أَلَا وَ إِنَّ مُعَاوِیَهَ قَادَ لُمَهً مِنَ الْغُوَاهِ- وَ عَمَّسَ عَلَیْهِمُ الْخَبَرَ- حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِیَّهِ استطعموکم القتال کلمه مجازیه- و معناها طلبوا القتال منکم- کأنه جعل القتال شیئا یستطعم أی یطلب أکله- و فی الحدیث إذا استطعمکم الإمام فأطعموه- یعنی إمام الصلاه أی إذا ارتج فاستفتحکم فافتحوا علیه- و تقول فلان یستطعمنی الحدیث- أی یستدعیه منی و یطلبه- . و اللممه بالتخفیف جماعه قلیله- . و عمس علیهم الخبر یجوز بالتشدید و یجوز بالتخفیف- و التشدید یعطی الکثره و یفیدها- و معناه أبهم علیهم الخبر و جعله مظلما- لیل عماس أی مظلم- و قد عمس اللیل نفسه‏ بالکسر- إذا أظلم و عمسه غیره- و عمست علیه عمسا- إذا أریته أنک لا تعرف الأمر و أنت به عارف- . و الأغراض جمع غرض و هو الهدف- . و قوله فأقروا على مذله و تأخیر محله- أی أثبتوا على الذل و تأخر المرتبه و المنزله- أو فافعلوا کذا و کذا- . و نحو قوله ع فالموت فی حیاتکم مقهورین- قول أبی نصر بن نباته- و الحسین الذی رأى الموت فی العز حیاه- و العیش فی الذل قتلا- . و قال التهامی-

و من فاته نیل العلا بعلومه
و أقلامه فلیبغها بحسامه‏

فموت الفتى فی العز مثل حیاته‏
و عیشته فی الذل مثل حمامه‏

و الأشعار فی الإباء الأنف من احتمال الضیم- و الذل و التحریض على الحرب کثیره- و نحن نذکر منها هاهنا طرفا- فمن ذلک قول عمرو بن براقه الهمدانی-

و کیف ینام اللیل من جل ماله
حسام کلون الملح أبیض صارم‏

کذبتم و بیت الله لا تأخذونها
مراغمه ما دام للسیف قائم‏

و من یطلب المال الممنع بالقنا
یعش ماجدا أو تخترمه الخوارم‏

و مثله-

و من یطلب المال الممنع بالقنا
یعش ماجدا أو یؤذ فیما یمارس‏

و قال حرب بن مسعر

عطفت علیه المهر عطفه باسل
کمی و من لا یظلم الناس یظلم‏

فأوجرته لدن الکعوب مثقفا
فخر صریعا للیدین و للفم‏

و قال الحارث بن الأرقم

و ما ضاق صدری یا سلیمى بسخطکم
و لکننی فی الحادثات صلیب‏

تروک لدار الخسف و الضیم منکر
بصیر بفعل المکرمات أریب‏

إذا سامنی السلطان ذلا أبیته
و لم أعط خسفا ما أقام عسیب‏

و قال العباس بن مرداس السلمی

بأبی فوارس لا یعرى صواهلها
أن یقبلوا الخسف من ملک و إن عظما

لا و السیوف بأیدینا مجرده
لا کان منا غداه الروع منهزما

و قال وهب بن الحارث

لا تحسبنی کأقوام عبثت بهم
لن یأنفوا الذل حتى تأنف الحمر

لا تعلقنی قذاه لست فاعلها
و احذر شباتی فقدما ینفع الحذر

فقد علمت بأنی غیر مهتضم
حتى یلوح ببطن الراحه الشعر

و قال المسیب بن علس

أبلغ ضبیعه أن البلاد
فیها لذی قوه مغضب‏

و قد یقعد القوم فی دارهم
إذا لم یضاموا و إن أجدبوا

و یرتحل القوم عند الهوان‏
عن دارهم بعد ما أخصبوا

و قد کان سامه فی قومه
له مطعم و له مشرب‏

فساموه خسفا فلم یرضه‏
و فی الأرض عن ضیمهم مهرب‏

و قال آخر

إن الهوان حمار القوم یعرفه
و الحر ینکره و الرسله الأجد

و لا یقیم على خسف یراد به‏
إلا الأذلان عیر الحی و الوتد

هذا على الخسف مشدود برمته
و ذا یشج فلا یأوی له أحد

فإن أقمتم على ضیم یراد بکم‏
فإن رحلی له وال و معتمد

و فی البلاد إذا ما خفت بادره
مکروهه عن ولاه السوء مفتقد

و قال بعض بنی أسد

إنی امرؤ من بنی خزیمه لا
أطعم خسفا لناعب نعبا

لست بمعط ظلامه أبدا
عجما و لا أتقی بها عربا

دخل مویلک السدوسی إلى البصره یبیع إبلا- فأخذ عامل الصدقه بعضها- فخرج إلى البادیه و قال-

ناق إنی أرى المقام على الضیم
عظیما فی قبه الإسلام‏

قد أرانی و لی من العامل النصف‏
بحد السنان أو بالحسام‏

ترى جماعتها شتاتا
و عزمت ویک على الحیاه

و طولها عزما بتاتا

یا من رأى أبویه فیمن
قد رأى کانا فماتا

هل فیهما لک عبره
أم خلت إن لک انفلاتا

و من الذی طلب التفلت
من منیته ففاتا

کل تصبحه المنیه
أو تبیته بیاتا

و له

أرى الدنیا لمن هی فی یدیه
عذابا کلما کثرت لدیه‏

تهین المکرمین لها بصغر
و تکرم کل من هانت علیه‏

إذا استغنیت عن شی‏ء فدعه
و خذ ما أنت محتاج إلیه‏

و له

أ لم تر ریب الدهر فی کل ساعه
له عارض فیه المنیه تلمع‏

أیا بانی الدنیا لغیرک تبتنی‏
و یا جامع الدنیا لغیرک تجمع‏

أرى المرء وثابا على کل فرصه
و للمرء یوما لا محاله مصرع‏

ینازل ما لا یملک الملک غیره‏
متى تنقضی حاجات من لیس یشبع‏

و أی امرئ فی غایه لیس نفسه
إلى غایه أخرى سواها تطلع‏

و له

سل الأیام عن أمم تقضت
ستخبرک المعالم و الرسوم‏

و إلا حساما یبهر العین لمحه
کصاعقه فی عارض قد تبسما

أباه الضیم و أخبارهم

سید أهل الإباء- الذی علم الناس الحمیه- و الموت تحت ظلال السیوف اختیارا له على الدنیه- أبو عبد الله الحسین بن علی بن أبی طالب ع- عرض علیه الأمان و أصحابه فأنف من الذل- و خاف من ابن زیاد أن یناله بنوع من الهوان إن لم یقتله- فاختار الموت على ذلک- . و سمعت النقیب أبا زید یحیى بن زید العلوی البصری- یقول کان أبیات أبی تمام فی محمد بن حمید الطائی- ما قیلت إلا فی الحسین ع-

و قد کان فوت الموت سهلا فرده
إلیه الحفاظ المر و الخلق الوعر

و نفس تعاف الضیم حتى کأنه‏
هو الکفر یوم الروع أو دونه الکفر

فأثبت فی مستنقع الموت رجله
و قال لها من تحت أخمصک الحشر

تردى ثیاب الموت حمرا فما أتى‏
لها اللیل إلا و هی من سندس خضر

لما فر أصحاب مصعب عنه- و تخلف فی نفر یسیر من أصحابه کسر جفن سیفه و أنشد-

فإن الألى بالطف من آل هاشم
تأسوا فسنوا للکرام التأسیا

 فعلم أصحابه أنه قد استقتل- . و من کلام الحسین ع یوم الطف المنقول عنه نقله عنه زین العابدین علی ابنه ع ألا و إن الدعی بن الدعی قد خیرنا بین اثنتین- السلهأو الذله و هیهات منا الذله- یأبى الله ذلک لنا و رسوله و المؤمنون- و حجور طابت و حجز طهرت- و أنوف حمیه و نفوس أبیه و هذا نحو قول أبیه ع و قد ذکرناه فیما تقدم- إن امرأ أمکن عدوا من نفسه- یعرق لحمه و یفری جلده- و یهشم عظمه لعظیم عجزه- ضعیف ما ضمت علیه جوانح صدره- فکن أنت ذاک إن شئت- فأما أنا فدون أن أعطی ذلک ضرب بالمشرفیه- تطیر منه فراش الهام- و تطیح السواعد و الأقدام – . و قال العباس بن مرداس السلمی-

مقال امرئ یهدی إلیک نصیحه
إذا معشر جادوا بعرضک فابخل‏

و إن بوءوک منزلا غیر طائل‏
غلیظا فلا تنزل به و تحول‏

و لا تطعمن ما یعلفونک إنهم
أتوک على قرباهم بالمثمل‏

أراک إذا قد صرت للقوم ناضحا
یقال له بالغرب أدبر و أقبل‏

فخذها فلیست للعزیز بخطه
و فیها مقام لامرئ متذلل‏

و له أیضا

فحارب فإن مولاک حارد نصره
ففی السیف مولى نصره لا یحارد

و قال مالک بن حریم الهمدانی-

و کنت إذا قوم غزونی غزوتهم
فهل أنا فی ذا یا ل همدان ظالم‏

متى تجمع القلب الذکی و صارما
و أنفا حمیا تجتنبک المظالم‏

و قال رشید بن رمیض العنزی

باتوا نیاما و ابن هند لم ینم
بات یقاسیها غلام کالزلم‏

خدلج الساقین خفاق القدم‏
قد لفها اللیل بسواق حطم‏

لیس براعی إبل و لا غنم
و لا بجزار على ظهر و ضم‏
من یلقنی یود کما أودت إرم‏

و قال آخر

و لست بمبتاع الحیاه بسبه
و لا مرتق من خشیه الموت سلما

و لما رأیت الود لیس بنافعی‏
عمدت إلى الأمر الذی کان أحزما

و من أباه الضیم یزید بن المهلب- کان یزید بن عبد الملک یشنؤه قبل خلافته- لأسباب لیس هذا موضع ذکرها- فلما أفضت إلیه الخلافه- خلعه یزید بن المهلب- و نزع یده من طاعته- و علم أنه إن ظفر به قتله و ناله من الهوان ما القتل دونه- فدخل البصره و ملکها عنوه- و حبس عدی بن أرطاه عامل یزید بن عبد الملک علیها- فسرح إلیه یزید بن عبد الملک جیشا کثیفا- و یشتمل على ثمانین ألفا من أهل الشام و الجزیره- و بعث مع الجیش أخاه مسلمه بن عبد الملک- و کان أعرف الناس بقیاده الجیوش و تدبیرها- و أیمن الناس نقیبه فی الحرب- و ضم إلیه ابن أخیه- العباس بن الولید بن عبد الملک- فسار یزید بن المهلب من البصره فقدم واسط- فأقام بها أیاما ثم سار عنها فنزل العقر- و اشتملت جریده جیشه على مائه و عشرین ألفا- و قدم مسلمه بجیوش الشام- فلما تراءى العسکران و شبت الحرب- أمر مسلمه قائدا من قواده أن یحرق الجسور- التی کان عقدها یزید بن المهلب فأحرقها- فلما رأى أهل العراق الدخان قد علا انهزموا- فقیل لیزید بن المهلب قد انهزم الناس- قال و مم انهزموا هل کان قتال ینهزم الناس من مثله- فقیل له إن مسلمه أحرق الجسور فلم یثبتوا- فقال قبحهم الله بق دخن علیه فطار- ثم وقف و معه أصحابه- فقال اضربوا وجوه المنهزمین- ففعلوا ذلک حتى کثروا علیه- و استقبله منهم أمثال الجبال- فقال دعوهم قبحهم الله- غنم عدا فی نواحیها الذئب- و کان یزید لا یحدث نفسه بالفرار- و قد کان أتاه یزید بن الحکم بن أبی العاص الثقفی بواسط- فقال له

فعش ملکا أو مت کریما فإن تمت
و سیفک مشهور بکفک تعذر

فقال ما شعرت فقال-

إن بنی مروان قد باد ملکهم
فإن کنت لم تشعر بذلک فاشعر

 فقال أما هذا فعسى فلما رأى یزید انهزام أصحابه- نزل عن فرسه و کسر جفن سیفه و استقتل فأتاه آت- فقال إن أخاک حبیبا قد قتل- فزاده ذلک بصیره فی توطینه نفسه على القتل- و قال لا خیر فی العیش بعد حبیب- و الله لقد کنت أبغض الحیاه بعد الهزیمه- و قد ازددت لها بغضا امضوا قدما- فعلم أصحابه أنه مستمیت فتسلل عنه من یکره القتال- و بقی معه جماعه خشیه فهو یتقدم کلما مر بخیل کشفها- و هو یقصد مسلمه بن عبد الملک لا یرید غیره فلما دنا منه- أدنى مسلمه فرسه لیرکب- و حالت خیول أهل الش