الفصل الثالث فی کیفیّه خلق آدم علیه السلام.
ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَ سَهْلِهَا- وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا- تُرْبَهً سَنَّهَا بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ- وَ لَاطَهَا بِالْبَلَّهِ حَتَّى لَزَبَتْ- فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَهً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ وَ أَعْضَاءٍ- وَ فُصُولٍ أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَکَتْ- وَ أَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أَمَدٍ مَعْلُومٍ- ثُمَّ نَفَخَ فِیهَا مِنْ رُوحِهِ- فَمَثُلَتْ إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ یُجِیلُهَا- وَ فِکَرٍ یَتَصَرَّفُ بِهَا وَ جَوَارِحَ یَخْتَدِمُهَا- وَ أَدَوَاتٍ یُقَلِّبُهَا وَ مَعْرِفَهٍ یَفْرُقُ بِهَا بَیْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ- وَ الْأَذْوَاقِ وَ الْمَشَامِّ وَ الْأَلْوَانِ وَ الْأَجْنَاسِ- مَعْجُوناً بِطِینَهِ الْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَهِ- وَ الْأَشْبَاهِ الْمُؤْتَلِفَهِ وَ الْأَضْدَادِ الْمُتَعَادِیَهِ- وَ الْأَخْلَاطِ الْمُتَبَایِنَهِ مِنَ الْحَرِّ وَ الْبَرْدِ- وَ الْبَلَّهِ وَ الْجُمُودِ- وَ اسْتَأْدَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَلَائِکَهَ وَدِیعَتَهُ لَدَیْهِمْ- وَ عَهْدَ وَصِیَّتِهِ إِلَیْهِمْ فِی الْإِذْعَانِ بِالسُّجُودِ لَهُ- وَ الْخُنُوعِ لِتَکْرِمَتِهِ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِیسَ- اعْتَرَتْهُ الْحَمِیَّهُ- وَ غَلَبَتْ عَلَیْهِ الشِّقْوَهُ- وَ تَعَزَّزَ بِخِلْقَهِ النَّارِ وَ اسْتَوْهَنَ خَلْقَ الصَّلْصَالِ- فَأَعْطَاهُ اللَّهُ النَّظِرَهَ اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَهِ- وَ اسْتِتْمَاماً لِلْبَلِیَّهِ وَ إِنْجَازاً لِلْعِدَهِ- فَقَالَ فَإِنَّکَ مِنَ الْمُنْظَرِینَ إِلى یَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ثُمَّ أَسْکَنَ سُبْحَانَهُ آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ فِیهَا عَیْشَهُ وَ آمَنَ فِیهَا مَحَلَّتَهُ وَ حَذَّرَهُ إِبْلِیسَ وَ عَدَاوَتَهُ- فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَهً عَلَیْهِ بِدَارِ الْمُقَامِ- وَ مُرَافَقَهِ الْأَبْرَارِ- فَبَاعَ الْیَقِینَ بِشَکِّهِ وَ الْعَزِیمَهَ بِوَهْنِهِ- وَ اسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلًا وَ بِالِاغْتِرَارِ نَدَماً- ثُمَّ بَسَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِی تَوْبَتِهِ- وَ لَقَّاهُ کَلِمَهَ رَحْمَتِهِ وَ وَعَدَهُ الْمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ- وَ أَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ الْبَلِیَّهِ وَ تَنَاسُلِ الذُّرِّیَّهِ بئ
قوله ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض إلى قوله و تناسل الذریّه:
قوله منها فی خلق آدم علیه السّلام ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض إلى قوله و تناسل الذریّه:
اللغه
أقول: الحزن من الأرض ما غلظ منها و اشتدّ کالجبل، و السهل مالان، و عذبها ما طاب منها و استعدّ للنبات و الزرع، و السبح ما ملح منها، و المسنون الطین الرطب فی قول ابن عبّاس، و عن ابن السکّیت عن أبی عمر و أنّه المتغیّر، و قول ابن عبّاس أنسب إلى کلام علیّ علیه السّلام لأنّ قوله: سنّها بالماء حتّى لزبت أی أنّه خلّطها بالماء حتّى صارت طینا رطبا یلتصق، و صلصلت قال بعضهم: الصلصال هو المنتن من قولهم صلّ اللحم و اصلّ إذا أنتن و قیل هو الطین الیابس الّذی یصلصل و هو غیر مطبوخ و إذا طبخ فهو فخار، و قیل إذا توهّمت فی صوته مدّا فهو صلیل و إذا توهّمت فیه ترجیعا فهو صلصله، و لاطها بالبلّه أی خلّطها بالرطوبه و مزّجها بها، و البلّه بالکسر النداوه، و بالفتح واحده البلّ، و اللازب اللاصق، و أصل الباء المیم، و جبل أی خلق، و الأحناء جمع حنو و هی الجوانب، و الوصول جمع کثره للوصل و هی المفاصل و جمع القلّه أوصال، و الأعضاء جمع عضو بالکسر و الضمّ کالید و الرجل للحیوان، و أصلدها أی جعلها صلدا و هی الصلبه الملساء، و الذهن فی اللغه الفطنه و الحفظ، و فی الاصطلاح العلمیّ عباره عن القوى المدرکه من العقل و الحسّ الباطن، و الفکر جمع فکره و هى قوّه للنفس بها تحصل الإدراکات العقلیّه، و یشبه أن یکون أصل الإنسان انس و هو الأنیس، و الألف و النون فی أصل لحوقها له للتثنیه، و ذلک لأنّ الانس أمر نسبیّ لا یتحقّق إلّا بین شیئین فصاعدا، و لمّا کان کلّ واحد من الناس یأنس بصاحبه قیل إنسان ثمّ کثر استعماله مثنّى فاجریت على النون وجوه الإعراب، و المساءه الغم، و الجوارح الأعضاء، و الاختدام و الاستخدام بمعنى، و الأدواه جمع أدات، و أصلها الواو و لذلک ردّت فی الجمع، و الاستیداء طلب الأداء، و الخنوع الخضوع، و اشتقاق إبلیس من الإبلاس و هو الیأس و البعد لبعده من رحمه اللّه، و الحمیّه الأنفه، و اعترتهم أی غشیتهم، و الوهن الضعف، و النظره بفتح النون و کسر الظاء الإمهال و السخط الغضب، و اغترّه أی استغفله و نفست علیه بالأمر نفاسه إذا لم تره مستحقّا له، و العزیمه الاهتمام بالشیء، و الجدل السرور، و الإهباط الإنزال.
إذا عرفت ذلک فنقول:
للناس فی هذه القصّه طریقان:
الطریق الأوّل- أنّ جمهور المسلمین من المفسّرین و المتکلّمین حملوا هذه القصّه على ظاهرها
ثمّ ذکروا فیها أبحاثا.
البحث الأوّل- أنّ هذه قد کرّرها سبحانه فی کتابه الکریم فی سبع سور
و هی سوره البقره، و الأعراف و الحجر، و سوره بنی إسرائیل، و الکهف، و طه، و سوره ص، و ذلک لمن یشتمل علیه من تذکیر الخلق و تنبیه هم من مراقد الطبیعه الّتی جذبهم إلیها إبلیس، و التحذیر من فتنه و فتنه جنوده و الجذب إلى جناب اللّه و مطالعه أنوار کبریائه کما قال تعالى «یا بَنِی آدَمَ لا یَفْتِنَنَّکُمُ الشَّیْطانُ کَما أَخْرَجَ أَبَوَیْکُمْ مِنَ الْجَنَّهِ»«» الآیه فقوله علیه السلام و تربه کقوله تعالى «خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» و قوله: سنّها بالماء کقوله تعالى «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا» و قوله: لاطها بالبلّه حتى لزبت کقوله تعالى «مِنْ طِینٍ لازِبٍ» و قوله: حتّى صلصلت کقوله تعالى «مِنْ صَلْصالٍ» و قوله: ثمّ نفخ فیه من روحه کقوله «فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی» و قوله: وَ نَفَخَ فِیهِ مِنْ رُوحِهِ و قوله: ذا أذهان بجیلها و فتر یتصرّف فیها و جوارح یختدمها کقوله تعالى «وَ جَعَلَ لَکُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَهَ» و قوله: و استأدى اللّه سبحانه الملائکه ودیعته لدیهم و عهد وصیّته إلیهم کقوله تعالى «فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ» و قوله: اسْجُدُوا و قوله: إلّا إبلیس کقوله تعالى «فَسَجَدَ الْمَلائِکَهُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِیسَ» و قوله اعترته الحمیّه إلى قوله و تعزّز بخلقه النار و استهون خلق الصلصال کقوله تعالى حکایه عن إبلیس «أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ» و قوله: لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ و قوله فأعطاه اللّه
النظره حذف قبله تقدیره فسأل النظره و ذلک قوله أَنْظِرْنِی فأعطاه اللّه النظر إلى یوم الوقت المعلوم کقوله تعالى
«قالَ فَإِنَّکَ مِنَ الْمُنْظَرِینَ إِلى یَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ» و قوله: ثمّ أسکن سبحانه آدم دارا أرغد فیها عیشه کقوله تعالى «وَ قُلْنا یا آدَمُ اسْکُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُکَ الْجَنَّهَ وَ کُلا مِنْها رَغَداً حَیْثُ شِئْتُما»«» و قوله: و حذّره إبلیس و عداوته کقوله «فَقُلْنا یا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَکَ وَ لِزَوْجِکَ فَلا یُخْرِجَنَّکُما مِنَ الْجَنَّهِ فَتَشْقى» و قوله: فاغترّه إبلیس نفاسه علیه بدار المقام و مرافقه الأبرار کقوله «فَوَسْوَسَ إِلَیْهِ الشَّیْطانُ» الآیه و قوله «فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ» و قوله فباع الیقین بشکّه و العزیمه بوهنه کقوله تعالى «فَنَسِیَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» و قوله: و استبدل بالجذل و جلا و بالاغترار ندما کقوله تعالى «قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَکُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِینَ»«» و قوله: ثمّ بسط اللّه فی توبته و لقّاه کلمه رحمته کقوله تعالى «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ» و قوله و وعده المردّه إلى جنّته ذلک الوعد فی قوله تعالى «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِیعاً فَإِمَّا یَأْتِیَنَّکُمْ مِنِّی… فَلا یَضِلُّ وَ لا یَشْقى»«» و قوله: فأهبطه إلى دار البلیّه کقوله تعالى «اهْبِطا مِنْها جَمِیعاً».
البحث الثانی- أنّ اللّه تعالى أشار فی مواضع من کتابه الکریم إلى خلق آدم من تراب
فقال «إِنَّ مَثَلَ عِیسى عِنْدَ اللَّهِ کَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ»«» و قال فی موضع آخر «إِنِّی خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ»«» و قال فی موضع آخر «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ»«» قال المتکلّمون: و إنّما خلقه اللّه على هذا الوجه إمّا لمحض المشیئه أو لما فیه من دلاله الملائکه على کمال قدرته و عجیب صنعه لأنّ خلق الإنسان فی هذه المراتب أعجب عندهم من خلقه من جنسهم. إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ کلامه علیه السّلام هاهنا یجری مجری التفسیر لهذه الآیات فإنّه أشار أوّلا إلى کونه من تراب بقوله ثمّ جمع سبحانه من سهل الأرض و حزنها و عذبها و سبخها تربه، و نحو ذلک ما روى عن رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله أنّه قال:
إنّ اللّه خلق آدم من قبضه قبضها من جمیع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمرو الأبیض و الأسود و بین ذلک، و السهل و الحزن و الخبیث و الطیّب، و اعلم أنّ جمهور المفسّرین على أن الإنسان فی قوله تعالى «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَهٍ مِنْ طِینٍ» هو أبونا آدم علیه السّلام و نقل عن محمّد بن علیّ الباقر علیه السّلام أنّه قال: قد انقضى قبل آدم الّذی هو أبونا ألف ألف آدم و أکثر قال بعض العلماء: و هذا لا ینافی حدوث العالم فإنّه کیف کان لا بدّ من الانتهاء إلى إنسان هو أوّل الناس فأمّا أنّ ذلک الإنسان هو أبونا آدم فلا طریق إلى إثباته إلّا من جهه السمع.
البحث الثالث أجمع المسلمون على أنّ سجود الملائکه لآدم لم یکن سجوده عباده
لأنّ العباده لغیر اللّه کفر، ثمّ اختلفوا على ثلاثه أقوال. الأوّل أنّ ذلک السجود کان للّه و کان آدم کالقبله و کما یحسن أن یقال سجدوا لآدم کذلک یحسن أن یقال سجدوا للقبله بدلیل قول حسّان بن ثابت:
ما کنت أحسب أنّ الأمر منصرف عن هاشم ثمّ منها عن أبی حسن
أ لیس أوّل من صلّى لقبلتکم و أعرف الناس بالآیات و السنن
فقوله صلّى لقبلتکم نصّ على المقصود. الثانی أنّ السجود کان لآدم تعظیما له و تحیّه کالسلام منهم علیه، و قد کان الامم السالفه تفعل ذلک کما یحیّى المسلمون بعضهم بعضا، و عن صهیب أنّ معاذا- رضى اللّه عنه- لمّا تقدّم من الیمن سجد للنبیّ صلى اللّه علیه و آله فقال له: یا معاذ ما هذا فقال: رأیت الیهود تسجد لعظمائها و علماءها و رأیت النصارى تسجد لقسّیسها و بطارقتها فقلت ما هذا فقالوا: تحیّه الأنبیاء فقال صلى اللّه علیه و آله کذبوا على أنبیائهم. الثالث أنّ السجود فی أصل اللغه عباره عن الانقیاد و الخضوع کمال قال الشاعر:
ترى الاکم فیها سجّدا للحوافر
أی أنّ تلک الجبال الصغار کانت مذلّله لحوافر الخیل، و منه قوله تعالى «وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ یَسْجُدانِ» و القول الثانی هو مقتضى کلامه علیه السّلام إذ فسّر السجود به فقال و الخضوع لتکرمته، و باللّه التوفیق.
البحث الرابع- اختلفوا فی الملائکه الّذین امروا بالسجود لآدم
فاستعظم بعضهم سجود ملائکه السماء له، و قالوا المأمورون بذلک هم الملائکه الّذین اهبطوا مع إبلیس إلى الأرض قالوا و ذلک أنّ اللّه تعالى لمّا خلق السماوات و الأرض و خلق الملائکه اهبط منهم ملاء إلى الأرض یسمّون بالجنّ رأسهم إبلیس، و أسکنهم إیّاها و کانوا أخّف الملائکه عباده فأعجب إبلیس بنفسه و تداخله الکبر فأطلع اللّه عزّ و جلّ على ما انطوى علیه فقال له و لجنده «إنّى خالق بشرا من طین فإذا سوّیته و نفخت فیه من روحی فقعوا له ساجدین»«» و قال بعضهم: إنّ المأمورین بالسجود لآدم هم کلّ الملائکه بدلیل قوله تعالى «فَسَجَدَ الْمَلائِکَهُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ» فأکّد جمعهم بأکمل وجوه التأکید.
البحث الخامس- أکثر المتکلّمین لا سیّما المعتزله على أنّ إبلیس لم یکن من الملائکه
و قال جمهور المفسّرین و منهم ابن عبّاس: إنّه کان من ملائکه الأرض الّذین اهبطوا قبل آدم. حجّه الأوّلین قوله تعالى «إِلَّا إِبْلِیسَ کانَ مِنَ الْجِنِّ» و الجنّ لم یکونوا من الملائکه بدلیل قوله تعالى للملائکه «أَ هؤُلاءِ إِیَّاکُمْ کانُوا یَعْبُدُونَ» و قول الملائکه «سُبْحانَکَ أَنْتَ وَلِیُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ کانُوا یَعْبُدُونَ الْجِنَّ»«» و احتجّ من قال إنّه منهم باستثناء إبلیس من الملائکه فی غیر موضع من القرآن الکریم، و الاستثناء یخرج من الکلام ما لولاه لدخل، و ذلک یدلّ على أنّ إبلیس من الملائکه، و أجابوا عن حجّه الأوّلین من وجهین: أحدهما المعارضه بقوله تعالى «وَ جَعَلُوا بَیْنَهُ وَ بَیْنَ الْجِنَّهِ نَسَباً» و ذلک الجعل هو قول قریش: الملائکه بنات اللّه بدلیل قوله تعالى «وَ جَعَلُوا الْمَلائِکَهَ الَّذِینَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» فهذه الآیه تدلّ على أنّ الملائکه من الجنّ. الثانی أنّ کون إبلیس من الجنّ لا ینافی کونه من الملائکه یصدق علیهم اسم الجنّ لأنّ الجنّ مأخوذ من الاجتنان و هو الاستتار، و منه سمّى الجنین لاستتاره فی بطن امّه و منه المجنون لاستتار العقل و الملائکه مستترون عن الأعین فوجب جواز إطلاق لفظ الجنّ علیهم، و اعلم أنّ الخلاف لفظیّ فإنّه إذا ثبت أنّ الملائکه الّذین اهبطوا إلى الأرض قبل آدم هم المسمّون بالجنّ و إبلیس من الجنّ ثبت أنّ إبلیس من الملائکه و لیس النزاع فی أنّه من ملائکه الأرض أو من ملائکه السماء بل فی کونه من الملائکه مطلقا فإذن لیس بینهم خلاف المعنى.
البحث السادس- اختلفوا فی سبب عداوه إبلیس لآدم
فقال بعضهم: إنّه الحسد و ذلک أنّ إبلیس لمّا رأى ما أکرم اللّه به آدم من إسجاد الملائکه و تعلیمه ما لم یطّلع علیه الملائکه حسده و عاداه، و قال آخرون: إنّ السبب تباین أصلیهما و لمنافره الأصلین أثر قویّ فی منافره الفرعین قالوا و تباین أصلیهما هو منشأ القیاس الفاسد من إبلیس حین امر بالسجود و ذلک قوله «أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ»«» و کأنّه فی خطابه یقول إنّ آدم جسمانیّ کثیف و أنا روحانیّ لطیف، و الجسمانیّ أدون حالا من الروحانیّ و الأدون کیف یلیق أن یکون مسجودا للأعلى، و أیضا فإنّ أصل آدم من صلصال من حماء مسنون، و الصلصال فی غایه الدناءه و أصلی من أشرف العناصر، و إذا کان أصلی خیرا من أصله وجب أن أکون خیرا منه و أشرف، و الأشرف یقبح أن یؤمر بالسجود للأدون. قالوا: فکان ذلک قیاسا منه، فأوّل من قاس هو إبلیس فأجابه اللّه تعالى جوابا على سبیل التنبیه دون التصریح اخرج منها مذؤما مدحورا، قال بعض الفضلاء: و تقریره أنّ الّذی قال تعالى نصّ بحکم الحکمه الإلهیّه و القدره الربّانیّه، و الّذی قاله إبلیس قیاس و من عارض النصّ بالقیاس کان مرجوما ملعونا.
البحث السابع- احتجّت الأشعریّه على أنّه تعالى قدیر أن یلق الکفر فی الکافرین من هذه القصّه
بوجهین أحدهما أنّه تعالى أنظر إبلیس مع أنّه یعلم أنّه إنّما قصده إغواء بنی آدم و لو أهلکه لاستراحوا و عدم الشرّ الحاصل منه و من ذرّیّته، الثانی قال أَغْوَیْتَنِی فنسب الإغواء إلى اللّه تعالى مع أنّه لم ینکر علیه هذا الکلام و هذا صریح فی أنّه تعالى یفعل الإغواء أجابت المعتزله عن الأوّل بأنّ اللّه تعالى خلق آدم و ذرّیته قادرین على رفع إبلیس عن أنفسهم فهم الّذین اختاروا الکفر و الفساد. أقصى ما فی الباب أن یقال إنّ الاحتراز عن القبیح حال عدم إبلیس أسهل منه حال وجوده إلّا أنّ على هذا التقدیر تصیر وسوسته سببا لزیاده المشقّه فی أداء الطاعات فیزداد المکلّف بتکلّفها ثوابا کما قال علیه السّلام: أفضل الأعمال أحمزها أى أشقّها و ذلک لا یمنع الحکیم من فعله کما أنّ إنزال المشاقّ و الآلام و إنزال المتشابهات صار سببا لزیاده الشبهات و مع ذلک لم یمتنع فعلها من اللّه تعالى و هذا الوجه قریب من قوله علیه السّلام استماما للبلیّه، و عن الثانی أنّ المراد من قوله فَبِما أَغْوَیْتَنِی أی بما خیبّتنی من رحمتک، و قیل معنى إضافه غوایته إلى اللّه تعالى أنّ اللّه تعالى
لما أمره بالسجود لآدم عصى و غوى فکان الباری هو الأصل فی حصول الإغواء له فلذلک نسبه إلیه، و احتجّ أیضا من جواز الخطاء على الأنبیاء علیهم السّلام من هذه القصّه بقوله تعالى «وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى» و أجاب من أوجب عصمتهم من حین الولاده بأنّه لمّا دلّ الدلیل على وجوب عصمتهم وجب صرف هذا اللفظ و نحوه على ترک الأولى و هو فی حقّهم سیّئه و معصیه و إن کان فی حقّ غیرهم حسنه کما قال حسنات الأبرار سیّئات المقرّبین و من أوجب عصمتهم من حین الرساله فله أن یحمل هذه المعصیه على ما قبل الرساله و المسأله مستقصاه فی الکلام.
البحث الثامن
– قال القفّال أصل التلقّى فی قوله «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ» و قوله علیه السّلام و لقّاه کلمه رحمته هو التعرّض للقادم وضع فی موضع الاستقبال للمسیء و الجانی ثمّ وضع موضع القبول و الأخذ قال تعالى «وَ إِنَّکَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَکِیمٍ عَلِیمٍ» أی تلقّنه و یقال تلقّینا الحاجّ أى استقبلناهم و تلقیّت هذه الکلمه من فلان أى أخذتها منه، و إذا کان هذا أصل الکلمه و کان من تلقّى رجلا فتلاقیا لقى کلّ واحد منهما صاحبه و اضیف بالاجتماع إلیهما معا فصلح أن یشترکا فی الوصف بذلک فکلّ ما تلقیته فعد تلقاک فجاز أن یقال تلقّى آدم ربّه کلمات أى أخذها و وعاها و استقبلها بالقبول، و لقّاه اللّه إیّاها أی أرسلها إلیه و واجهه بها، ثمّ ذکر المفسّرون فی ذلک الکلمات أقوالا: الأوّل روى سعید بن جبیر عن ابن عبّاس- رضى اللّه- عنه أنّ آدم علیه السّلام قال یا ربّ أ لم تخلقنى بیدک بلا واسطه قال: بلى قال: أ لم تسکنّى جنّتک قال: بلى قال: أ لم تسبق رحمتک غضبک قال: بلى قال: إن تبت و اصلحت أ تردّنی إلى الجنّه قال: نعم، و هو قوله تعالى «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ»، الثانی قال النخعیّ: أتیت ابن عبّاس فقلت: ما الکلمات الّتی تلقّاها آدم من ربّه قال: علّم اللّه تعالى آدم و حوّا أمر الحجّ و الکلمات الّتی یقال فیه فحجّا فلمّا أفرغا أوحى اللّه تعالى إلیهما إنّی قد قبلت توبتکما، الثالث قال مجاهد و قتاده و فی إحدى الروایتین عنهما: هی قوله، «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَکُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِینَ» الرابع قال سعید بن جبیر: إنّها قوله لا إله إلّا أنت سبحانک و بحمدک عملت سوءا و ظلمت نفسی فاغفر لی إنّک خیر الغافرین لا إله إلّا أنت سبحانک و بحمدک عملت سواء و ظلمت نفسی فارحمنى إنّک أرحم الراحمین لا إله إلّا أنت سبحانک و بحمدک عملت سوءا و ظلمت نفسی فتب علىّ إنّک أنت التوّاب الرحیم. الخامس قوله عایشه: لمّا أراد اللّه تعالى أن یتوب على آدم طاف بالبیت سبعا و البیت حینئذ ربوه حمراء فلمّا صلّى رکعتین استقبل القبله (البیت) و قال: اللهمّ إنّک تعلم سرّی و علانیتی فاقبل معذرتی، و تعلم حاجتی فاعطنی سؤلی، و تعلم ما فی نفسی فاغفر لی ذنوبی اللهمّ إنّی أسئلک إیمانا تباشر به قلبی، و یقینا صادقا حتّى أعلم أنّه لن یصیبنی إلّا ما کتبت لی و رضّنی بما قسمت لی، فأوحى اللّه تعالى إلیه یا آدم قد غفرت لک ذنبک و لن یأتینی أحد من ذرّیتک فیدعونی بمثل ما دعوتنی به إلّا قد غفرت ذنوبه و کشفت همومه و نزعت الفقر من بین عینیه و جاءته الدنیا و هو لا یریدها.
البحث التاسع- فی حقیقه التوبه
قال الإمام الغزّالی: التوبه عباره عن معنى مرکّب من ثلاثه امور مترتّبه علم ثمّ حال ثمّ ترک، أمّا العلم فأن یعلم العبد ضرر الذنوب و کونه حجابا بینه و بین اللّه تعالى و قیدا یمنعه من دخول الجنّه فإذا علم ذلک بیقین غالب على قلبه فإنّ ذلک یوجب له تألّما نفسانیّا بسبب فوات الخیر العظیم المطلوب لکلّ عاقل فیسمّى تأمّله بسبب فعله المفوّت لمحبوبه و مطلوبه ندما فإذا غلب هذا الألم على القلب أوجب له القصد إلى أمرین: أحدهما ترک الذنوب الّتی کان ملابسا لها أوّلا، و الثانی العزم على ترک الذنب المفوّت لمطلوبه فی المستقبل إلى آخر العمر فهذه حقیقتها، و ینشأ من ذلک تلافی ما فات بالجبر و القضاء و إن کان قابلا للجبر، و العلم هو الأصل فی إظهار هذه الخیرات فإنّ القلب إذا أیقن بأنّ الذنوب کالسموم المهلکه و الحجب الحائله بینه و بین محبوبه فلا بدّ أن یتمّ نور ذلک الیقین فتشتعل فیه نیران الندم فیتألّم به القلب و حینئذ ینبعث من تلک النار طلب الانتهاض للتدارک فالعلم و الندم و القصد المتعلّق بالترک فی الحال و الاستقبال و التلافی للماضی ثلاثه معان مترتّبه یطلق اسم التوبه على مجموعها، و ربّما اطلق اسم التوبه على الندم وحده و جعل العلم کالباعث و الترک کالثمره المتأخّره، و لهذا الاعتبار قال صلى اللّه علیه و آله: الندم توبه إذ الندم مستلزم لعلم أوجبه و لعزم یتبعه، و أمّا وجوبها فمن وجهین:
أحدهما أنّ التوبه مرضاه للرحمن مسخطه للشیطان مفتّحه لأبواب الجنان معدّه لإشراق شموس المعارف الإلهیّه على ألواح النفوس مستلزمه للمواهب الربانیّه من الملک القدّوس.
الثانی الأوامر الوارده بها فی القرآن الکریم «یا أیّها الّذین آمنوا توبوا إلى اللّه توبه نصوحا» و الوعد الصادق على فعلها «عسى ربّکم أن یکفّر عنکم سیّئاتکم و یدخلکم جنّات تجری من تحتها الأنهار» و الوعید الحتم على ترکها «و من لم یتب فأولئک هم الظالمون» و نحوه ممّا یدلّ على وجوبها فأمّا قبولها فمن وجهین: أحدهما قوله تعالى «وَ هُوَ الَّذِی یَقْبَلُ التَّوْبَهَ عَنْ عِبادِهِ وَ یَعْفُوا عَنِ السَّیِّئاتِ» و قوله تعالى «غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ» الثانی قال رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله: أفرح بتوبه من العبد المذنب، و الفرح وراء القبول فهو دلیل على القبول، و قال صلى اللّه علیه و آله: لو علّتم الخطایا إلى السماء ثمّ ندمتم علیها لتاب اللّه علیکم.
البحث العاشر- فیما عساه یبقى من المقاصد المشکله فی هذه القصّه.
الأوّل الودیعه و الوصیّه الّتی استأداها اللّه سبحانه من الملائکه فی قوله علیه السّلام و استأدى اللّه سبحانه من الملائکه ودیعته لدیهم إشاره إلى قوله «فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ» فکان تعالى قد عهد إلیهم بهذا القول و أوصاهم بمقتضاه ثمّ استأداه منهم بما ذکره علیه السّلام فی قوله تعالى «اسْجُدُوا لِآدَمَ» الثانی قوله فاغتره إبلیس فالاغترار طلب العزّه من آدم و التماسها منه بالوسوسه الّتی ألقاها إلیه کما سنبّین معنى الوسوسه إنشاء اللّه. الثالث قوله دار المقام هی جنّه الخلد، و مرافقه الأبرار إشاره إلى مصاحبه الملائکه فی مقعد صدق عند ملیک مقتدر. الرابع قوله فباع الیقین بشکّه للشارحین فیه أقوال: أحدها أنّ معیشه آدم کانت فی الجنّه على حال یعلمها یقینا ما کان یعلم کیف معاشه فی الدنیا إذا انتقل إلیها و لاحاله بعد مفارقه الجنّه ثمّ إنّ ابلیس شکّکه فی صدق مقاله إنّی لکما لمن الناصحین فنسى ما کان عنده یقینا مما هو فیه من الخیر الدائم و شکّ فی نصح إبلیس فکأنّه باع الیقین بالشکّ بمتابعته، و هی استعاره حسنه على سبیل الکنایه عن استبعاض آدم الشکّ عن الیقین. الثانی قالوا: لمّا أخبره اللّه تعالى عن عداوه إبلیس تیقّن ذلک فلمّا وسوس له إبلیس شکّ فی نصحه فکأنّه باع یقین عداوته بالشکّ فی ذلک. الثالث قول من نزّه آدم علیه السّلام: إنّ ذلک مثل قدیم للعرب لمن عمل عملا لا یفیده و ترک ما ینبغی له أن یفعله تمثّل به أمیر المؤمنین علیه السّلام هاهنا و لم یرد أنّ آدم علیه السّلام شکّ فی أمر اللّه تعالى. الرابع قوله و العزیمه بوهنه
قال ابن عبّاس فی قوله تعالى «وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً»: أی لم نجده حفظا لما أمر اللّه به، و قال قتاده صبرا، و قال الضحاک ضریمه أمر، و حاصل هذه الأقوال یعود إلى أنّه لم یکن له قوّه على حفظ ما أمر اللّه فکأنّه باع العزم الّذی کان ینبغی له و القوّه الّتی کان ینبغی أن یتحفّظ بها عن متابعه إبلیس بالضعف و الوهن عن تحمّل ما أمر اللّه به، الخامس قوله دار البلیّه هی دار الدنیا إذ کانت دار المحنه و الابتلاء بمقاساه إبلیس و مجاهدته، و سجن الصالحین کما قال علیه السّلام: الدنیا سجن المؤمن و جنّه الکافر، و اعلم أنّ فی ذکر هذه القصّه تحذیرا عظیما عن المعاصی و ذلک من وجوه، أحدها أنّ من تصوّر ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلّه کان على و جل شدید من المعاصی قال الشاعر
یا ناظرا نورا بعینی راغد و مشاهدا للأمر غیر مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب و ترتجى
درک الجنان و نیل نور العابد
أنسیت أنّ اللّه أخرج آدما منها إلى الدنیا بذنب واحد
و عن فتح الموصلی أنّه قال: کنّا قوما من أهل الجنّه فسبانا إبلیس إلى الدنیا فلیس لنا إلّا الهمّ و الحزن حتّى نردّ إلى الدار الّتی أخرجنا منها، و ثانیها التحذیر عن الاستکبار و الحسد و الحرص عن قتاده فی قوله تعالى «أَبى وَ اسْتَکْبَرَ» قال: حسد عدوّ اللّه إبلیس آدم على ما أعطاه اللّه تعالى من الکرامه فقال أنا ناریّ و هذا طینیّ ثمّ ألقى الحرص و الحسد فی قلب ابن آدم حتى حمله على ارتکاب المنهی عنه، و ثالثها أنّه تعالى بیّن العداوه الشدیده بین ذریّه آدم و إبلیس هذا تنبیه عظیم على وجوب الحذر و باللّه التوفیق،
الطریق الثانی و اعلم أنّ من الناس من سلّط التأویل على هذه القصّهو قبل بیان تأویلها ذکروا مقدّمات،
المقدّمه الاولى فی الإشاره إلى أجزاء الترکیب الخارجیّ للإنسان و کیفیّه ترکیبها
قالوا: إنّ العناصر الأربعه أجسام بسیطه و هی أجزاء أوّلیّه لبدن الإنسان فمنها إثنان خفیفان، و هما النار و الهواء و إثنان ثقیلان و هما الأرض و الماء قالوا: و الموضع الطبیعیّ للأرض هو وسط الکلّ و هی بارده یابسه فی طبعها و وجودها فی الکائنات مفید للاستمساک و الثبات و حفظ الشکل و الهیئه و الموضع الطبیعیّ للماء هو أن یکون شاملا للأرض و ثقله إضافیّ و طبعه بارد رطب و وجوده فی الکائنات لتسهّل الهیئات الّتی یراد تکوینها من التشکیل و التخطیط و التعدیل فإنّ الرطب کما
أنّه سهل الترک للهیئات الشکلیّه فإنّه سهل القبول لها کما أنّ الیابس عسر القبول للهیئات الشکلیّه عسر الترک لها، و مهما تخمّر الیابس بالرطب استفاد الیابس منه قبول التمدید و التشکیل بسهوله و استفاد الرطب من الیابس حفظا لما حدث فیه من التعدیل بقوّه فاجتمع الیابس بالرطب عن تشتّته، و استمسک الرطب بالیابس عن سیلانه و الموضع الطبیعیّ للهواء فوق الماء و تحت النار و خفّته إضافیّه و طبعه حارّ رطب و وجوده فی الکائنات لیتخلخل و یلطف و یسفل، و الموضع الطبیعیّ للنار فوق الأجرام العنصریّه کلّها، و مکانها الطبیعیّ هو مقعّر فلک القمر و خفّتها مطلقه و طبعها حارّ یابس، و وجودها فی الکائنات لیصلح المرکّبات و یجری فیها الجوهر الحیوانی، و لتکسر من یرد العنصرین الثقیلین بردّهما عن العنصریّه إلى المزاجیّه، و الثقیلان أنفع فی تکون الأعضاء و فی سکونها، و الخفیفان أنفع فی کون الأرواح و تحریکها و تحریک الأعضاء ثمّ قالوا: و المزاج کیفیّه تحدث من تفاعل الکیفیّات المتضادّه فی هذه العناصر إذا تفاعلت بقواها بعضها فی بعض فانکسر صوره کلّ واحد منها بالآخر حدثت عنها کیفیّه متشابهه فی جمیعها هی المزاج و القوى الأولیّه فی تلک الأرکان أربع الحراره و البروده و الرطوبه و الیبوسه، و هی الّتی یکون عنها المزاجات فی الأجسام الکائنه الفاسده ثمّ إنّ واهب الوجود أعطى کلّ حیوان و کلّ عضو من المزاج ما هو ألیق و أصلح لأفعاله بحسب احتمال الإمکان له، و أعطى الإنسان أعدل الأمزجه الممکنه فی هذا العالم مع مناسبه لقواه الّتی بها یفعل و ینفعل و أعطى کلّ عضو ما یلیق به من أفعاله فجعل بعض الأعضاء أحرّ و بعضها أبرد و بعضها أرطب و بعضها أیبس و أمدّها بالأخلاط و هی أجسام رطبه سیّاله یستحیل إلیها الغذاء أوّلا، و هی منحصره فی أربعه أجناس: أحدها الدم و هو أفضلها، و الثانی البلغم و الثالث الصفراء، و الرابع السوداء، ثمّ قسّم الأعضاء إلى عظام و غضاریف و أعصاب و أوتار و جعل أوّل الأعضاء المتشابهه الأجزاء العظم و خلق صلبا لأنّه أساس البدن و دعامه الحرکات ثمّ الغضروف و هو ألین من العظم و فائدته أن یحسن به اتّصال العظام بالأعضاء اللیّنه فلا یتأذّى اللیّن بالصلب عند الضعظه و الضربه بل متوسّط بینهما ما یناسب کلّا منهما و لیحسن به تجاوز المفاصل المحاکّه فلا تتراض لصلابتها، ثمّ العصب و هی أجسام تنبت من الدماغ و النخاع بیض لدنه فی الانعطاف صلبه فی الانفصال، و فائدتها أن تتمّ به الأعضاء للإحساس و الحرکه، ثمّ الأوتار و هی أجسام تنبت من أطراف العضل شبیهه بالعصب تلاقی الأعضاء المتحرّکه فتجذبها تاره و تبسطها اخرى بحسب انبساط العضله و انقباضها ثمّ الرباطات و هی أیضا أجسام شبیهه بالعصب و الحکمه فیها ظاهره، و هی ارتباط بعض الأعضاء إلى بعض و استمساکها و لیس لشیء منها حسّ لئلّا یتأذّی بکثره ما یلزمه من الحرکه و الحکّ، ثمّ الشریانات و هی أجسام نابته من القلب ممتدّه مجوّفه طولا عصبانیه رباطیّه الجوهر لها حرکات منبسطه و منقبضه خلقت لترویح القلب و نقض البخار الدخانیّ عنه، و لتوزیع الروح إلى أعضاء البدن، ثمّ الأورده و هی تشبه الشریانات و نباتها من الکبد، و فائدتها توزیع الدم على أعضاء البدن، ثمّ الأغشیه و هی أجسام منتسجه من لیف عصبانی غیر محسوس رقیقه مستعرضه تغشى سطوح أجسام اخرى، و لها فوائد: منها أن یحفظ جملتها على شکلها و هیئتها، و منها أن تعلّقها على أعضاء اخرى و تربطها بواسطه العصب، و منها أن یکون للأعضاء العدیمه الحسّ فی جواهرها سطح حساس بالذات لما تلافیه و بالعرض لما یحدث فی الجسم الملفوف فیه کالریه و الطحال و الکبد و الکلیتین، فإنّها لا تحسّ بجواهرها و إنّما یحسّ بالامور المصادمه لها الأغشیه الّتی علیها بالذات و یحسّ أیضا بالعرض ما یحدث فیها مثلا الریح للتمدّد الّذی یحدث فیها، ثمّ اللحم و هو حشو خلل وضع الأعضاء فی البدن فصار البدن مشتملا على ثلاثه ضروب من الأعضاء، أحدها آلات الغذاء و هی المعده و الکبد و جداولها کالعروق و الطرق إلیها کالفم و المری و عنها کالأمعاء، و الثانی آلات الحراره الغریزیّه و حفظتها، و هی القلب و الرأس و الریه و الصدر و سائر آلات النفس، و الثالث آلات الحسّ و الحرکه و الأفعال العقلیّه و هی الدماغ و النخاع و العصب و العضل و الأوتار و نحوها ممّا یحتاج إلیه فی المعونه على تمام فعل العقل، ثمّ لمّا کان من ضروره البدن أن یقع فیه أفعال مختلفه وجب فی الحکمه أن یکون هناک استعداد لقوى متعدّده هی مبادئ تلک الأفعال أحدها النفس الطبیعیّه و تخصّها قوى منها مخدومه و منها خادمه، أمّا المخدومه فجنسان.
أحدهما یتصرّف فی الغذا و تحته نوعان: أحدهما القوّه المسمّاه بالغاذیه، و غایتها أن تغذو الشخص مدّه بقائه بإحاله الغذاء إلى مشابهه المتغذی لیخلف بدل ما یتحلّل، و الثانی القوّه المسمّاه بالنامیه، و غایتها أن تزید فی أقطار البدن على التناسب الطبیعیّ إلى تمام نشوه، و الجنس الثانی یتصرّف فی الغذاء لبقاء النوع و تحته نوعان أحدهما القوّه المسمّاه بالمولّده و هی المتصرّفه فی أمر التناسل لیفصل من أمشاج البدن جوهر المنی، و الثانی القوّه المسمّاه بالمصوّره و هی الّتی تفید المنی بعد استحالته فی الرحم الصور و القوى و الأعراض الحاصله للنوع الّذی انفصل عنه المنی، و أمّا الخادمه الصرفه فی القوى الطبیعیّه فهی خوادم القوّه الغاذیه و هی أربع، أحدها الجاذبه و هی خلقت لتجذّب النافع إلى محلّها و هی موجوده فی المعده و المری و الکبد و الرحم و سائر الأعضاء، و الثانی الماسکه و هی خلقت لتمسّک المنافع رثیما یتصرّف فیه القوى المغیّره و المحیّله، و الثالث الهاضمه و هی الّتی تخیّل ما امسکته الماسکه إلى قوام مهیّىء لفعل القوّه المغیّره فیه، و إلى مزاج صالح للاستحاله إلى الغذائیّه بالفعل، الرابع الدافعه و هی الّتی تدفع الفاضل من الغذاء الّذی لا یصلح للاغتذاء أو یفضل على الکافی أو یستغنی عنه بعد الفراغ من استعماله کالبول، و لهذه الأربع أیضا خوادم أربع أعنى الکیفیّات الأربع، و هی الحراره و البروده و الرطوبه و الیبوسه على تفصیل یعلم فی مظانّه، الثانی النفس الحیوانیّه و تختص بها قوّتان محرّکه و مدرکه، و المحرّکه إمّا باعثه أو فاعله، و الباعثه هی القوّه النزوعیه المذعنه للمدرکات کالوهم و الخیال أو النفس فیحمل الإدراک لها على البعث إلى طلب أو هرب بحسب السوانح و لها شعبتان شهوانیّه و هی الباعثه على التحریک إلى جانب أشیاء ضروریّه أو نافعه نفعا ما طلبا للّذّه و غضبیّه و هی الحامله على دفع و هرب عما لا یلائم طلبا للغلبه، و تخدمها القوّه المسمّاه بالقدره و هی قوّه تنبعث فی الأعصاب و العضل من شأنها أن تشنّج الفضلات بجذب الأوتار و الرباطات و أرخائهما، و القوى المدرکه قسمان ظاهره و باطنه أمّا الظاهره فالحواسّ الخمس، أحدها اللمس و هو قوّه منبثّه فی جلد البدن کلّه تدرک ما تماسّه، و تؤثر فیه بالمضادّه کالکیفیّات الأربع و غیرها، و ثانیها الذوق و هو قوّه مرتّبه فی العصب المفروش على سطح اللسان بها تدرک الطعوم من الأجرام المماسّه المخالطه للرطوبه العذبه الّتی فی الفم، و ثالثها الشمّ و هی قوّه مرتّبه فی زائدتی مقدّم الدماغ الشبیهتین بحلمتی الثدی بها تدرک الروائح بتوسّط الهواء المنفصل عن ذی الرائحه، و رابعها السمع و هی قوّه فی العصب المفروش فی باطن الصماخ و هو تدرک الأصوات و الحروف بواسطه الهواء، و خامسها البصر و هی قوّه مرتّبه فی العصبتین المجوّفتین تدرک ما یتطبّع فی الرطوبه الجلیدیّه من الصور بتوسّط جرم شفاف، و أمّا الباطنه من القوى فهی أیضا خمس، و هی إمّا مدرکه فقط إمّا للصور الجزئیّه و هو القوّه المسمّاه حسّا مشترکا المرتّبه فی التجویف الأوّل من الدماغ عندها تجتمع صور المحسوسات، ثمّ القوّه الموسومه خیالا، و هی خزانه الحسّ المشترک مودعه فی آخر التجویف المقدّم من الدماغ تجتمع فیها مثل المحسوسات و تبقى فیها بعد الغیبه عن الحواسّ، و إمّا مدرکه للمعانی الجزئیّه، و هی إمّا الوهم و هی قوّه مرتّبه فی التجویف الأوسط من الدماغ تدرک المعانی الجزئیه الغیر المحسوسه الموجوده فی المحسوسات کإدراک الشاه معنى فی الذئب یوجب لها الهرب، و إمّا الحافظه و هی قوّه مرتّبه فی التجویف الأخیر من الدماغ تحفظ الأحکام الجزئیّه المدرکه للوهم و هی خزانه له، و إمّا مدرکه و متصرّفه و هی القوّه المسمّاه متخیّله باعتبار استعمال الوهم لها، و مفکّره باعتبار استعمال العقل لها و محلّها مقدم البطن الأوسط من الدماغ من شأنها الترکیب و التفصیل لبعض الصور ببعض و عن بعض و کذا المعانی و المعانی بالصوره و هی الحاکیه للمدرکات و الهیئات المزاجیّه و الحکمه الإلهیّه اقتضّت أن تکون متوسّطه بین مقتضى الصور الجرمانیّه و المعانی الروحانیّه متصرّفه فی خزائنهما بالحکم و الاسترجاع للأمثال المنمحیّه من الجانبین، ثمّ إنّ لکلّ واحد من هذه الآلات روح یختصّ به و هو جرم حارّ لطیف متکوّن عن لطافه الأخلاط على نسبه محدوده و هو حامل للقوی المدرکه و غیرها، الثالث النفس الناطقه و نسبتها إلى هذا البدن نسبه الملک إلى المدینه و البدن و جمیع أجزائه و قواه المذکوره آلات لها، و رسمها أنّها جوهر مجرّد یتعلّق بالأبدان تعلّق التدبیر و هی المشار إلیها بقوله تعالى «وَ یَسْئَلُونَکَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّی»«» و بقوله علیه السّلام: الأرواح جنود مجنّده ما تعارف منها ائتلف و ما تناکر فیها اختلف فیها، و لهذا الجوهر قوّتان یختصّ بهما نظریّه و عملیّه و قد سبقت الإشاره إلیهما فی مقدّمه الکتاب و تحقیق الکلام فی هذا الجوهر و البرهان على وجوده و تجرّده و کمالاته من العلوم و الأخلاق مستقصى فی مظانّه و باللّه التوفیق.
المقدّمه الثانیه قد علمت أنّ الملک عندهم اسم مشترک یقع على حقائق مختلفه
فأمّا لفظ الجنّ فهو و إن صدق فی أصل اللغه على کلّ الملائکه لکونه مأخوذا من الاجتنان و هو الاستتار، و کون الملائکه مستترین على الأعین فإنّهم یخصّون فی عرفهم هذا اللفظ بالأرواح الّتی تخصّ عالم العناصر فتاره یطلقون علیها أنّها ملائکه باعتبار کونهم مرسلین من عند اللّه فاعلین لما أمر اللّه جارین على نظام العقل، و تاره یطلقون علیها أنّها جنّ باعتبار الاجتنان، و هم جنّ مسلمون باعتبار موافقه العقل و التصرّف على وفق مصلحه العالم و نظامه، و کفّار و شیاطین باعتبار مخالفتها لذلک، فأمّا صدق اسم الجنّ على النفوس الناطقه الإنسانیّه فقد تعتبر من جهه اخرى، و هی کونها عالمه ترى بنور العلم من حیث لا ترى فهی مجتنّه محجوبه عن أبصار الجاهلین ثمّ هی إمّا أن تکون عالمه أو جاهله و على التقدیرین فإمّا أن یکون موافقه لظواهر الشریعه منقاده لها متمسّکه بها أو لیس کذلک فهذه أقسام أربعه، أوّلها النفوس العالمه العامله بمقتضى الشریعه و هذه الطائفه هم الجنّ المسلمون و المؤمنون قالوا: و هم الّذین أمر اللّه تعالى نبیّه بالإخبار عنهم فی قوله تعالى «قُلْ أُوحِیَ إِلَیَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً یَهْدِی إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ»«» إلى آخر الآیات قالوا: و ممّا یبیّن ذلک أنّ السماء الّتی أخبر الجنّ عنها أنّهم لمسوها هی سماء الحکمه و هی الشریعه الّتی استترت فیها قالوا: و لمسهم لها عباره عن اعتبارهم أمر الشریعه فی مبدء ظهورها هل یصحّ لهم معها إظهار الحکمه و یمکنهم أخذها و إعطاؤها بالتعلّم و التعلیم کما کان یفعل قبل ذلک أم لا، و قولهم «فوجدناها ملئت حرسا شدیدا و شهبا»«» إشاره إلى حفظه الشریعه و هم علماء الشریعه و الملوک الصالحون اللازمون لناموس الشریعه و قوانینها، و قولهم «و إنّا کنّا نقعد منها مقاعد للسمع»«» إشاره إلى أنّهم کانوا قبل ظهور الشرائع یتدارسون الحکمه و یتعلّمونها و لم یکن علیهم إنکار، و قولهم «فمن یستمع الآن یجد له شهابا رصدا»«» إشاره إلى أنّ المظهر للحکمه بعد وجود الشریعه
التارک لظواهر ما جاءت به الأنبیاء یجد من حرسه الدین و حفظته شهابا یحرقه و یؤدّیه، و ثانیها النفوس العالمه المخالفه للشریعه و النوامیس الإلهیّه التابعه لقواها فی مقتضى طباعها و هؤلائهم من شیاطین الجنّ و مردتها، و ثالثها النفوس الجاهله إلّا أنّها متمسّکه بظواهر الشریعه منقاده لها، و هؤلائهم المسلمون من الإنس، و رابعها النفوس الجاهله التارکه للشریعه و العمل بها التابعه لمقتضى الطبیعه، و هؤلائهم شیاطین الإنس قالوا: و بهذا البیان لا یبقی بین قول اللّه سبحانه «إلّا إبلیس کان من الجنّ» و بین استثنائه من الملائکه المقتضی لدخوله فیهم و کونه منهم فرق بل هو من الملائکه باعتبار من الجنّ باعتبار و من الشیاطین باعتبار، و الشیطان قد یکون ملکا فی أصله ثمّ ینتقل إلى الشیطانیّه باعتبار فسوقه عن أمر ربّه و کذلک الجنّی و اللّه أعلم.
المقدّمه الثالثه- قالوا: کلّ ما یتوالد فلا یستحیل فی أصله أن یکون متولّدا
ثمّ ضربوا لذلک أمثله فقالوا: إنّ العقرب تتولّد من البادروج و لباب الخبز، و النحل من العجل المحرق المکیس عظامه، و الفار من المدر و الطین و نحو ذلک ثمّ یتوالد عن هذا المتولّد أشخاص اخرى و یبقى نوعه متولدا فلا مانع إذن أن یکون الإنسان فی أوّل خلقه کذلک فیحدث شخص من نوعه و یتکوّن من التراب ثمّ یحصل ما بعده من نوعه عنه بالتوالد إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ لفظ آدم إذا اطلق فی عباراتهم فتاره یراد به أمر جزئیّ و تاره یراد به أمر کلّی أمّا الجزئیّ فیراد به أوّل شخص تکوّن من هذا النوع، و على ذلک یحملون قوله تعالى «إِنَّ مَثَلَ عِیسى عِنْدَ اللَّهِ کَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ»«» و یحملون قوله تعالى «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَهٍ» و ما فی معناه على ما توالد منه، و قد یراد منه أوّل شخص استخلف فی الأرض و أمر بنشر الحکمه و ناموس الشریعه، و أمّا الکلّی فتاره یراد بآدم مطلق نوع الإنسان، و على ذلک کلّه قوله تعالى «وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِیَ»«» و قد یراد به صنف الأنبیاء و الدعاه إلى اللّه کما نقل عن سیّد المرسلین صلى اللّه علیه و آله کلّ نبیّ فهو آدم وقته و قوله صلى اللّه علیه و آله: أنا و أنت یا علیّ أبوا هذه الامّه، و یمکن أن یکون
قول الباقر محمّد بن علیّ علیهما السّلام: قد انقضى قبل آدم الّذی هو أبونا ألف ألف آدم و أکثر على هذا المعنى إذا ثبت هذا فنقول: إنّ لکلّ آدم بالمعانی المذکوره ملائکه تخصّه و هی مأموره بالسجود له، و إبلیس فی مقابلته و معارضته أمّا آدم بالمعنی الأوّل و الثانی فملائکته المأمورون بالسجود له هی قواه البدنیّه و نفوس أهل زمانه المأمورین باتّباعه المستمعین لقوله و سائر القوى فی أقطار هذا العالم فإنّها بأسرها ملائکه مأموره بالخضوع له و السعی فی مهمّاته و حوائجه بین یدیه و المعونه على مراده، و أمّا إبلیس المعارض له القوّه الوهمیّه منها المعارضه لمقتضى عقله العملیّ الساعیه فی الأرض فسادا و النفوس المتمرّده عن قبول الحقّ و الاستماع لقوله الخارجه عن طاعته و هم شیاطین الإنس و الجنّ الّذی یوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا و کذلک ملائکه آدم و إبلیس آدم الّذی هو صنف الأنبیاء و الدعاه إلى اللّه تعالى بالحکمه و الموعظه الحسنه، و أمّا آدم الّذی هو نوع الإنسان فکلّ الملائکه الّذین ذکرناهم فی هذا العالم هم المأمورون بالسجود له و إبلیس کلّ شخص من هذا النوع هو و همه المعارض لعقله و جنوده ما تحته من القوى الشهویّه و الغضبیّه و غیرها
إذا عرفت هذه المقدّمات فلیرجع إلى المتن فنقول: الأولى أن یحمل آدم فیما ذکره علیه السّلام هاهنا من هذه القصّه على مطلق النوع الإنسانیّ.
فقوله ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها تربه سنّها بالماء حتّى خلصت و لاطها بالبلّه حتّى لزبت
إشاره إلى أصل امتزاج العناصر، و إنّما خصّ هذین العنصرین و هما الأرض و الماء دون الباقیین لأنّهما الأصل فی تکوّن الأعضاء، المشاهده الّتی تدور علیها صوره الإنسان المحسوسه، و قوله حتّى خلصت و حتّى لزبت إشاره إلى بلوغها فی الاستعداد الغایه الّتی معها تفاض صوره ما یتکوّن منها،
و قوله فجبل منها صوره ذات أحناء و وصول و أعضاء و فصول إشاره إلى خلق الصوره الإنسانیّه و إفاضتها بکمال أعضائها و مفاصلها و ما تقوم به صوره، و قوله منها الضمیر راجع إلى التربه و یفهم من ظاهر اللفظ أنّ الصوره الإنسانیّه هی المفاضه على کمال استعداد التربه من غیر واسطه انتقالات اخر فی أطوار الخلقه، و إنّما یتمّ ذلک إذا حملنا آدم على أوّل شخص یکون من هذا النوع فأمّا إذا حملنا على مطلق النوع کان المراد أنّه جبل منها الصوره الإنسانیّه بوسائط من صور ترددت فی أطوار الخلقه کما قال تعالى «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَهٍ مِنْ طِینٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَهً فِی قَرارٍ مَکِینٍ»«» فالصوره الإنسانیّه جبلت من النطفه المتولّده من فضل الهضم الرابع المتولّد من الأغذیه، و هی إمّا حیوانیّه أو نباتیّه و الحیوانیّه تنتهی إلى النباتیّه و النباتیّه إنّما تتولّد من صفو الأرض و الماء و هی التربه المستعدّه للإنبات و لیس فی ذلک مخالفه الظاهر فإنّ تلک التربه بعد أن تواردت علیها أطوار الخلقه و أدوار الفطره صارت منیّا فصدق علیها أنّ الصوره الإنسانیّه جبلت منها،
و قوله أجمدها حتّى استمسکت و أصلدها حتّى صلصلت الضمیر فی الجملتین راجع إلى الصوره و ما یتعلّق بها من الأعضاء فالإجماد لغایه الاستمساک راجع إلى بعضها کاللحم و الأعصاب و العروق و أشباهها، و الأصلاد لغایته راجع إلى بعض آخر کالعظام و الأسنان و إسناد ذلک إلى المدبّر الحکیم سبحانه لأنّه العلّه الاولى و إن کان هناک لهذه الآثار أسباب قریبه طبیعیّه کالحارّ الغریزی فإنّه المستعدّ لتحریک الموادّ و یتبعه البرد لیسکنه عند الکمالات من الخلق، و کالرطوبه فإنّها هی الّتی تتخلق و تتشکّل و یتبعها الیبوسه لحفظ الأشکال و إفاده التماسک،
و قوله لوقت معدود و أجل معلوم یحتمل أن یراد به أنّ لکلّ مرتبه من مراتب ترکیب بدن الإنسان، و انتقاله فی أدوار الخلقه وقتا معدودا یقع فیه و أجلا معلوما یتمّ به، و یحتمل أن یراد بالوقت المعدود و الأجل المعلوم الوقت الّذی یعلم اللّه سبحانه انحلال هذا الترکیب فیه کما قال تعالى «وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ»
قوله ثم نفخ فیها من روحه.
أقول: الضمیر المؤنّث راجع إلى الصوره و قد علمت أنّ هذه الإشاره جاریه فی القرآن الکریم کما قال تعالى «فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ»«» و المراد بالتسویه إفاضه تمام إعداد البدن و تهیّئه لقبول النقش، و المراد بالنفخ هاهنا هو إفاضه النفس علیه عند کمال ذلک الاستعداد، و استعمال النفخ هاهنا استعاره حسنه فإنّ النفخ له صوره و هو إخراج الهواء من فم النافخ إلى المنفوخ فیه لیشتعل فیه النار، و لمّا کانت حقیقه النفخ ممتنعه فی حقّ اللّه تعالى وجب العدول إلى حمل لفظه على ما یشبهه، و لمّا کان اشتغال نور النفس فی فتیله البدن عن الوجود الإلهیّ المعطی لکلّ قابل ما یستحقّه یشبه بحسب محاکاه خیالنا الضعف ما نشاهد من اشتغال النار فی المحلّ القابل لها عن صوره النفخ لا جرم حسن التعبیر و التجوّز بلفظ النفخ عن إفاضه الجود الإلهیّ للنفس على البدن لمکان المشابهه المتخیّله و إن کان الأمر أجلّ ممّا عندنا و أعلى،
و أمّا نسبه الروح إلى اللّه فاعلم أنّ الروح یحتمل أن یراد به أحد ثلاثه معان، الأوّل جبرئیل علیه السّلام و هو روح اللّه الأمین و نسبته إلیه ظاهره و أمّا نسبه النفخ إلى اللّه حینئذ فلکونه العلّه الاولى و جبرئیل واسطه جعله اللّه تعالى مبدء فی هذا اللفظ لنفخ النفس فی صوره آدم منه، الثانی جود اللّه و نعمته و فیضه الصادر على آدم و غیره، و إنّما کان ذلک روح لأنّه مبدء کلّ حیاه فهو الروح الکلیّه الّتی بها قوام کلّ وجود و نسبته إلیه ظاهره و یکون من هاهنا للتبعیض، الثالث أن یراد بالروح النفس الإنسانیّه و یکون من زائده و إنّما نسب إلیه دون سائر مصنوعاته الطیفه لما علمت أنّ الروح منزّه عن الجهه و المکان و فی قوّته العلم بجمیع الأشیاء و الاطّلاع علیها، و هذه مضاهاه و مناسبه بوجه ما مع العلّه الّتی لیست حاصله لما عدا هذا الجوهر ممّا هو جسم أو جسمانیّ فلذلک شرّفها بالإضافه إلیه و قوله فمثلث إنسانا إشاره إلى الصوره المجبوله، و فیه لطیفه و هی أنّها إنّما کانت إنسانا و ینفخ الروح فیها و لذلک رتّب و صیرورتها إنسانا بالفاء على نفخ الروح فیها،
و قوله ذا أذهان یجیلها إشاره إلى ما للإنسان من القوى الباطنه المدرکه و المتصرّفه و معنى إجالتها تحریکها و بعثها فی انتزاع الصور الجزئیّه کما للحسّ المشترک و المعانی الجزئیّه کما للوهم،
و قوله و فکر یتصرّف بها إشاره إلى القوى المفکّره فی آحاد النوع الإنسانی و تصرّفها فی تفتیش الخزانتین و ترکیب بعض مودوعاتها ببعض و تحلیلها،
و قوله و جوارح تختدمها إشاره إلى عامّه الأعضاء الّتی بیّنا أنّها کلّها خدم للنفس و الأدوات الّتی تقلّبها من تلک یشبه أن یختصّ بالأیدی کقوله تعالى «وَ أُحِیطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ یُقَلِّبُ کَفَّیْهِ عَلى»«» و یمکن أن یکون أعمّ من ذلک کالبصر و القلب کقوله علیه السّلام: یا مقلّب القلوب و الأبصار إلى عامّه الأعضاء الّتی بیّنا أنّها کلّها خدم للنفس و الأدوات الّتی تقلّبها من تلک یشبه أن یختصّ بالأیدی کقوله تعالى «وَ أُحِیطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ یُقَلِّبُ کَفَّیْهِ عَلى»«» و یمکن أن یکون أعمّ من ذلک کالبصر و القلب کقوله علیه السّلام: یا مقلّب القلوب و الأبصارفیصدق علیها اسم التقلیب،
و قوله و معرفه یفرق بها بین الحقّ و الباطل إشاره إلى استعداد النفس لدرک المعقولات الثانیه المسمّى عقلا بالملکه بحسب مالها من المعارف الاولى أعنی البدیهیّات فإنّ الحقّ و الباطل امور کلّیه و لیس للقوى البدنیّه فی إدراک الامور الکلّیه حظّ یحتمل أن یشیر بالمعرفه إلى القوّه الاستعدادیّه الاولى للإنسان المسمّاه عقلا هیولانیّا،
و قوله و الأذواق و المشامّ و الألوان و الأجناس نبّه هاهنا على ثلاثه امور: أحدها أنّ للإنسان آله بها یدرک المذوقات، و اخرى بها یدرک المشمومات، و اخرى بها یدرک الألوان، و قد بیّنا ذلک، الثانی نبّه على أنّ النفس مدرکه للجزئیات بواسطه هذه القوى إذ عدّها فی نسق ما تتصرّف فیه النفس و تفرّق بینه و بین غیره، الثالث أنّه أخرّ قوله و الأجناس تنبیها على أنّ النفس تنتزع الامور الکلّیه من تصفّح الجزئیّات فإنّ الأجناس امور کلّیه و النفس بعد إدراک الجزئیّات و تصفحها تتنبّه لمشارکات بینها و مباینات فتنتزع منها تصوّرات کلّیه و تصدیقات کلّیه و کأنّه عنى بالأجناس هاهنا الامور الکلّیه مطلقا لا بعضها کما هو فی الاصطلاح العلمی،
و قوله معجونا بطینه الألوان المختلفه النصب على الحال من قوله إنسانا أو الصفه له، و المراد الإشاره إلى أنّ اختلاف أبدان النوع بعضها من بعض بالألوان بسبب قوّه استعداداتها لذلک کما قال صلى اللّه علیه و آله: فجاء منهم الأحمر و الأبیض و الأسود کما سبق و طینه الألوان و أصلها، و عجنه بها مزجه بها و تهیّئه و إعداده لقبولها على اختلافها و کذلک الحال فی البدن الواحد فإنّه لیس لجمله أجزائه لون واحد فإنّ امتزاج بعض الأعضاء یقتضی أن یکون أبیض کالعظام و الأسنان و بعضها أحمر کالدم و بعضها أسود کالحدقه و الشعر، و کذلک اختلاف الأشخاص فی الصفات المکنّی بها عن الاختلاف الوارده فی تمام الخبر من قوله: و السهل و الخزن و الخبیث و الطیّب یرجع إلى أنّ الأرض لمّا کانت أکثر العناصر شرکه فی هذه الأبدان کان لاختلاف بقاعها أثر تامّ فی تفاوت الامتزاج لقبول الأخلاق بالسهوله و الحزونه و الخبیث و الطیّب،
و قوله و الأشباه المؤتلفه و الأضداد المتعادیه و الأخلاط المتبائنه من الحرّ و البرد و البلّه و الجمود و المساء و السرور أمّا الأشباه المؤتلفه فکالعظام و الأسنان و أشباهها فإنّها أجسام متشابهه ائتلف بعضها مع بعض، و بها قامت الصوره البدنیّه و امتزجت بطینتها، و أمّا الأضداد المتعادیه فکالکیفیّات الأربع الّتی ذکرها علیه السّلام و هی الحراره و البروده و الرطوبه الّتی هی البلّه و الیبس الّذی هو الجمود، و عبّر عنه بلازمه و هو الجمود على أنّ الجمود فی اللغه هو الیبس أیضا و أمّا الأخلاط المتبائنه فهی الأخلاط الأربعه کما عرفت من الدم و البلغم و الصفراء و السوداء، و أمّا المساءه و السرور فهما من الکیفیّات النفسانیّه و مهیّه. کلّ منهما ظاهره، و أمّا أسبابهما فاعلم أنّ للسرور سببا جسمانیّا معدّا و هو کون حامله الّذی هو الروح النفسانی على کمال أحواله فی الکمیّه لأنّ زیاده الجوهر فی الکمّ یوجب زیاده القوّه فی الکیفیّه و هی أن یکون معتدلا فی اللطافه و الغلظ و أن یکون شدید الصفا، و أمّا السبب الفاعلی له فالأصل فیه تخیّل الکمال کالعلم و القدره و الإحساس بالمحسوسات الملائمه و التمکّن من تحصیل المرادات و القهر و الاستیلاء على الغیر و الخروج عن المولم و تذکر الملذّات، و أمّا أسباب الغم فمقابلات هذه أمّا السبب المعدّ الجسمانیّ فهو إمّا قلّه الروح کما للناقهین و المنهوکین بالأمراض و المشایخ، و أمّا غلظه فکما للسوداویین و أمّا رقّه کما للنساء و أمّا الفاعلی فمقابل أسباب السرور، و قد یشتدّ کلّ منهما بعد الأسباب المذکوره بتکرّره فیصیر السرور أو الغم ملکه و یسمّى صاحبه مفراحا أو محزانا و مقصوده علیه السّلام التنبیه على أنّ طبیعه الإنسان فیها قوّه قبول و استعداد لهذه الکیفیّات و أمثالها، و تلک القوّه هی المراد بطینه المساءه و السرور و الفرق بینها و بین الاستعداد أنّ القوّه تکون على الضدّین و الاستعداد لا یکون إلّا لأحدهما.
و قوله استأدى اللّه سبحانه الملائکه ودیعته لدیهم و عهد وصیّته إلیهم إلى قوله إلّا إبلیس.
أقول: لمّا کان الّذی یشیر إلیه کلّ إنسان بقوله أنا هو النفس الناطقه کان آدم عندهم عباره عن النفس الناطقه ثمّ قالوا: المراد بالملائکه الّذین امروا بالسجود لآدم هی القوى البدنیّه الّتی امرت بالخضوع و الخشوع لتکرمه النفس العاقله، و الانقیاد تحت حکمها و هو الأمر الّذی لأجله خلقوا أمّا عهد اللّه لدیهم و وصیّته إلیهم فهو المشار إلیه بقوله تعالى «إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَهِ إِنِّی خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ»«» و الخطاب هاهنا خطاب الحکمه الإلهیّه بالقضاء الأزلی قبل الوجود و الاستیذاء لذلک العهد و تلک الوصیّه هو طلب المأمور به أوّلا من الانقیاد و الخضوع من تلک القوى بعد الوجود على ألسنه الرسل علیهم السّلام بالوحی المنزل و هو قوله اسْجُدُوا لِآدَمَ، قوله فسجدوا إشاره إلى القوى المطیعه لنفوسها العاقله فی أشخاص عباد اللّه الصالحین، قوله إلّا إبلیس و قبیله إشاره إلى الوهم و سائر القوى التابعه له فی معارضه العقل فی أشخاص الکفّار و الفاسقین عن أوامر اللّه سبحانه، و قد عرفت أنّ الوهم رئیس القوى البدنیّه فهی إذن عند معارضته للعقل و متابعتها له جنود إبلیس و قبیله،
و أمّا قوله اعترته الحمیّه و غلبت علیه الشقوه و تعزّر بخلق النار و استهون خلق الصلصال، فقالوا: إنّ المراد بکون إبلیس و جنوده خلقوا من نار أنّ الأرواح الحامله لهذه القوى کما عرفت أجسام لطیفه تتکوّن عن لطافه الأخلاط و هی حارّه حدّا مائله فی الإفراط و الناریّه و الهوائیّه علیها أغلب و تولّدها عنهما أسهل و هی آخر أجزاء البدن و کذلک القلب الّذی هو منبعها فکانت تلک الأرواح کالأبدان لهذه القوى فلذلک نسب إبلیس إلى النار فقال تعالى حکایه عنه «خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ» و قال «وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ» أی قدّرنا قبل وجوده أن تکون الناریّه و الهوائیّه على وجود أغلب، و قال بعضهم: إنّه لمّا کانت النار ألطف العناصر و کانت هذه القوى و أرواحها ألطف الامور الجسمانیّه و تکّونها عن ألطف الأخلاط کانت نسبتها إلى النار أولى من سائر العناصر لمکان المشابهه فی اللطافه فجاز أن یطلق على أصله أنّه نار.
لا یقال: إذا کان آدم هو النفس الناطقه فما معنى قول إبلیس و خلقته من طین.
لأنا نقول: کما صدق أنّ إبلیس مخلوق من نار بمعنى أنّ الغالب على الروح الحامل له هو عنصر النار کذلک یصدق أنّ آدم من طین بمعنى أنّ الغالب على بدنه الأرضیّه، و أیضا فإنّ الوهم لا یدرک إلّا المعانی الجزئیّه المتعلّقه بالمحسوسات فلا یصدق حکمه و مساعدته إلّا فیما کان محسوسا، و لمّا ثبت أنّ النفس جوهر مجرّد لم یکن إعتقاد إبلیس أنّ الإنسان شیء غیر هذا البدن المتکوّن عن الطین. إذا ثبت ذلک فنقول: اعتراء الحمیّه و التعزّز بالانتساب إلى عنصر النار نسبه مجازیّه إذا العاده جاریه بأن یأنف الإنسان من الأصل الناقص و أن یفتخر و یتعزّز بالأصل الشریف و الانتساب إلیه فکان لسان حال إبلیس و القوى المتابعه له یقول على جهه الاستنکار أ أسجد لبشر خلقته من صلصال من حماء مسنون، و أنا مخلوق من النار الّتی هی أشرف العناصر قالوا: و لمّا علم اللّه ذلک من حال إبلیس لعنه و طرده و أخرجه من الجنّه و ذلک قوله تعالى «قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّکَ رَجِیمٌ وَ إِنَّ عَلَیْکَ اللَّعْنَهَ إِلى یَوْمِ الدِّینِ»«» قالوا و ذلک أنّک علمت أنّ الجنّه تعود إلى معارف الحقّ سبحانه و الابتهاج بمطالعه أنوار کبریائه و درجات الجنّه هی المراتب الّتی ینتقل العقل فیها فی مقامات السلوک إلى حظائر القدس و مجاوره الملاء الأعلى، و علمت أنّ حال الوهم قاصر عن الانتقال على تلک المراتب فطرده و لعنه و تحریم الجنّه علیه یعود إلى تکوینه على الطبیعه الّتی هو علیها القاصره عن إدراک العلوم الکلّیه الّتی هی ثمار الجنّه و قطوفها و القضاء علیه بذلک قالوا: و ممّا ینبّه على ذلک قوله «قالَ رَبِّ بِما أَغْوَیْتَنِی لَأُزَیِّنَنَّ لَهُمْ فِی الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ إِلَّا عِبادَکَ مِنْهُمُ»«» أی بما خلقتنی على هذه الجبله لا اهتدى لدخول الجنّه و لا أتمکّن منها لأجذبنّهم إلى المشتهیات و تزیین الملذّات الجاذبه لهم عن عبادتک حتّى لا یهتدوا إلى الجنّه الّتی لأجلها خلقتهم و لا یلتفتوا إلیها إلّا من عصمته منّی و جعلت له سلطانا على قهری و غلبتی و هم عبادک المخلصون أی النفوس الکامله المطهّره عن متابعه قواها المسلّط على قهر شیاطینها و قهرها و کذلک قوله: «قالَ أَنْظِرْنِی إِلى یَوْمِ یُبْعَثُونَ» فإنّه لمّا کان البعث الأوّل هو مفارقه النفوس لأبدانها و انبعاثها إلى عالمها و کانت طبیعه الوهم قاضیه بمحبّه البقاء فی دار الدنیا إذ لا حظّ له فی غیرها أحسن من لسان حاله أن یقول ربّ انظرنی إلى یوم یبعثون،
و قوله فأعطاه اللّه النظره لمّا کان الوهم باقیا فی البدن هو و جنوده إلى یوم البعث حسن من لسان الحکمه الإلهیّه أن یقول إنّک من المنظرین إلى یوم الوقت المعلوم و ذلک معنى إعطائه النظره، و قوله استحقاقا للسخطه و استتماما للبلیّه و إنجازا للعدّه فقد عرفت أنّ البلیّه نصب على المفعول له ثمّ إنّ فساد الوهم و ابتلاء الخلق به و الشرّ الصادر عنه امور داخله فی القضاء الإلهیّ بالعرض فیصدق
علیه أنّه مراد و أنّ الإنظار و الإمهال له و کذلک استحقاق السحطه و إنجاز العده و إطلاق لفظ السخطه استعاره فإنّ السخط لمّا کان عباره عن حاله للإنسان یستلزم وجود مغضوب علیه غیر مرضیّ بأفعاله و کان حال إبلیس فی إنظار اللّه إیّاه و فسوقه عن أمر ربّه مستلزما لإعراض اللّه سبحانه عنه و عمّن عصاه بمتابعته کان هناک نوع مشابهه، فحسن لأجلها إطلاق لفظ السخطه أمّا العده فتعود إلى قضاء الحکمه الإلهیّه ببقاء الوهم إلى یوم البعث، و إنجازها یعود إلى موافقه القدر لذلک القضاء، و قال بعضهم: إنّه لمّا کان هاهنا صوره مطرود و مبعّد و ملعون حسن إطلاق لفظ السخطه و استحقاقها و أنّه إنّما انظر لأجلها و هو ترشیح للاستعاره.
قوله ثمّ أسکن اللّه سبحانه آدم دارا أرغد فیها عیشه و آمن فیها محلّته و حذّره إبلیس و عداوته.
أقول: الدار الّتی أسکن فیها آدم هی الجنّه و الإشاره هاهنا إلى أنّ الإنسان من أوّل زمان إفاضه القوّه العاقله علیه إلى حین استرجاعها ما دام مراعیا لأوامر الحقّ سبحانه غیر منحرف عن فطرته الأصلیّه و لا معرض عن عبادته و لا یلتفت إلى غیره فإنّه فی الجنّه و إن کانت الجنّه على مراتب کما قال تعالى «لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِیَّهٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ»«» و لذلک قال صلى اللّه علیه و آله: کلّ مولود یولد على الفطره و إنّما أبواه هما اللذان یهوّدانه و ینصّرانه إذ کانت نفسه قبل الجواذب الخارجیّه عن القبله الحقیقیّه غیر مدّ نسبه بشیء من الاعتقادات الفاسده و الهیئات الردیئه، و إن کانت المرتبه السامیه و الغرفه العالیه إنّما تنال بعد المفارقه، و استصحاب النفس لأکمل زاد، و أمّا إرغاد العیش فیعود إلى ابتهاجه بالمعقولات و المعارف الکلّیّه و أمان المحلّه أمان مکانه فی الجنّه أن یعرض له خوف أو حزن ما دام فیها، و أمّا تحذیره من إبلیس و عداوته فظاهر من الأوامر الشرعیّه و لسان الوحی ناطق کما قال تعالى «إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَکَ وَ لِزَوْجِکَ»«» و وجه العداوه ظاهر ممّا قلنا فإنّ النفس لمّا کانت من عالم المجرّدات و کان الوهم بطبعه منکرا لهذا القسم من الممکنات کان منکرا لما تأمر به النفس من الامور الکلّیّه الّتی لا حظّ له فی إدراکها و ذلک من مقتضیات العداوه و لأنّ نظام أمر النفس و مصلحتها لا یتمّ إلّا بقهر الوهم و القوى البدنیّه عن مقتضیات طباعها، و تمام مطالب القوى لا یحصل إلّا بانقهار النفس فکانت بینهما مجاذبه طبیعیّه و عداوه أصلیّه إذ لا معنى للمعاداه إلّا المجانبه لما یتصوّر کونه موذیا.
قوله فاغترّه عدّوه نفاسه علیه بدار المقام و مرافقه الأبرار.
أقول: یقال: إنّ اللّه تعالى لمّا حذّره إبلیس و عداوته کان قد نهاه عن أکل شجره یقال إنّها شجره البرّ، و أعلمه أنّه إن أکل منها کان ظالما لنفسه مستحقّا لسخط اللّه علیه و ذلک قوله تعالى «وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَهَ فَتَکُونا مِنَ الظَّالِمِینَ»«» قالوا: و تلک الشجره هی الشجره الخبیثه الّتی اجتثّت من فوق الأرض مالها من قرار و هی عائده إلى المشتهیات الدنیویّه الفانیه و اللذّات البدنیّه الخارجه عن المحدودات فی أوامر اللّه، و تناولها هو العبور فیها إلى طرف الإفراط عن وسط القانون العدل، و أمّا کونها شجره البرّ فقالوا: إنّ البرّ لمّا کان هو قوام الأبدان و علیه الاعتماد فی أنواع المطعومات و الملاذ البدنیّه حسن أن یعبّر به عنها فیقال هی شجره البرّ کنایه عن الفرع بالأصل، فأمّا اغترار إبلیس له فاعلم أنّ حقیقه الغرور هو سکون النفس إلى ما یوافق الهوى و یمیل إلیه بالطبع عن شبهه و خدعه من إبلیس فاغتراره یعود إلى استغفال النفس بالوسوسه الّتی حکى اللّه تعالى عنها بقوله «فَوَسْوَسَ إِلَیْهِ الشَّیْطانُ قالَ یا آدَمُ هَلْ أَدُلُّکَ عَلى شَجَرَهِ الْخُلْدِ وَ مُلْکٍ لا یَبْلى»«» و لنبحث حقیقه الوسوسه فنقول: إنّ الفعل إنّما یصدر عن الإنسان بواسطه امور مترتّبه ترتیبا طبیعیّا أوّلها تصوّر کون الفعل ملائما و هو المسمّى بالداعی، ثمّ إنّ ذلک الشعور یترتّب علیه میل النفس إلى الفعل المسمّى ذلک المیل إراده فیترتّب على ذلک المیل حرکه القوّه النزوعیّه المحرّکه للقوّه المسمّاه قدره المحرّکه للعضل إلى الفعل.
إذا عرفت ذلک فنقول: صدور الفعل عن مجموع القدره و الإراده أمر واجب فلیس للشیطان فیه مدخل، و وجود المیل عن تصوّر کونه نافعا و خیرا أمر لازم فلا مدخل للشیطان أیضا فیه فلم یبق له مدخل إلّا فی إلقاء ما یتوهّم کونه نافعا أو لذیذا إلى النفس ممّا یخالف أمر اللّه سبحانه فذلک الإلقاء فی الحقیقه هو الوسوسه و هو عین ما حکى اللّه سبحانه عنه بقوله «وَ قالَ الشَّیْطانُ لَمَّا قُضِیَ الْأَمْرُ إِنَ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُکُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِی»«» إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ متابعه إبلیس یعود إلى انقیاد النفس لجذب الوهم و القوى البدنیّه الّتی هی الشیاطین عن الوجهه المقصوده و القبله الحقیقیّه و هی عباده الحقّ سبحانه و فتنتها لها بتزیین ما حرّم اللّه علیها فأمّا ما یقال: إنّ إبلیس لم یکن له تمکّن من دخول الجنّه و إنّما توسّل بالحیّه و دخل فی فمها إلى الجنّه حتّى تمکّن من الوسوسه لآدم علیه السّلام و اغتراره فقالوا: المراد بالحیّه هی القوّه المتخیّله، و ذلک أنّ الوهم إنّما یتمکّن من التصرّف و بعث القوى المحرّکه کالشهوه و الغضب الّتی هی جنوده و شیاطینه على طلب الملاذ البدنیّه و الشهوات الحسّیّه الدنیّه، و جذب النفس إلیها بتصویر کونها لذیذه نافعه بواسطه القوّه المتخیّله، و وجه تشبیهها بالحیّه أنّ الحیّه لمّا کانت لطیفه سریعه الحرکه تتمکّن من الدخول فی المنافذ الضیّقه و تقدر على التصرّف الکثیر و هی مع ذلک سبب من أسباب الهلاک بما تحمله من السمّ و کانت المتخیّله فی سرعه حرکتها و قدرتها على التصرّف السریع و الإدراک ألطف من سائر القوى و هی الواسطه بین النفس و الوهم و کانت بما اشتملت علیه من تحمّل کید إبلیس و إلقاء الوسوسه بواسطتها إلى النفس سببا قویّا للهلاک السرمد و العذاب المؤبّد لا جرم کان أشبه ما یشبه به الحیّه لما بینهما من المناسبه فحسن إطلاق لفظ الحیّه علیها.
قوله نفاسه علیه ترشیح للاستعاره لأنّه لمّا کان جذب الوهم للنفس إلى الجنّه السافله مانعا لها من الکرامه بدار المقامه و مستنزلا عن درجه مرافقه الملاء الأعلى، و کان ذلک أعظم ما تنفس به کما قال تعالى «وَ فِی ذلِکَ فَلْیَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ»«» و عرفت أنّ ذلک الجذب عن صوره معاداه کما سبق و کان من لوازم المعاده النفاسه على العدوّ بکلّ ما یعدّ کمالا لا جرم حسن إطلاق النفاسه هاهنا ترشیحا لاستعاره العداوه، و النصب على المفعول له.
قوله فباع الیقین بشکّه و العزیمه بوهنه أی لمّا حصلت الوسوسه و الاغترار لآدم فانقاد لها کان قد بدّل ما تیقّنه من أنّ شجره الخلد و الملک الّذی لا یبلى هو نور الحقّ و البقاء فی جنّته و دوام مطالعه کبریائه بالشکّ فیه بواسطه وسوسه إبلیس، و ذلک أنّ الامور الموعوده من متاع الآخره و ما أعدّه اللّه لعباده الصالحین امور خفیت حقائقها على أکثر البصائر البشریّه، و إنّما الغایه فی تشویقهم إلیها أن یمثّل لهم بما هو مشاهد لهم من اللذّات البدنیّه الحاضره فترى کثیرا منهم لا یخطر بباله أن یکون فی الجنّه أمر زائد على هذه اللذّات فهو یجتهد فی تحصیلها إذ لا یتصوّر وراءها أکثر منها، ثمّ إن صدّق بها على سبیل الجمله تصدیقا للوعد الکریم فإنّه لا یتصوّر کثیر تفاوت بین الموعود به و الحاضر بحیث یرجّح ذلک التفاوت عنده ترک الحاضر لما وعد به بل یکون میل طبعه إلى الحاضر، و توهّم کونه أنفع و أولى به أغلب علیه، و أن تیقنّ بأصل عقله أنّ الأولى به و أنفع له و الأبقى هو متاع الآخره فتاره یطرأ على ذلک الیقین غفله عنه و نسیان له بسبب الاشتغال باللذّات الحاضره و الانهماک فیها، و ذلک معنى قوله تعالى فَأَخْرَجَ، و تاره لا تحصل الغفله الکلّیّه بل یکون الوهم المذکور قویّا فیعارض ذلک الیقین بحیث یوجب فی مقابلته شبهه و شکّا و ذلک معنى قوله علیه السّلام فباع الیقین بشکّه و لا منافاه بین قوله تعالى فَأَخْرَجَ و بین الشکّ هاهنا.
و قوله و العزیمه بوهنه أی تعوّض من العزم و التصمیم الّذی کان ینبغی له فی طاعه الحقّ سبحانه بالضعف و التعاجز عن تحمّله کما قال تعالى «وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» و إطلاق لفظ البیع هاهنا استعاره حسنه إذ کان مدار البیع على استعاضه شیء بشیء سواء کان المستعاض أجلّ أو أنقص، و مثله قوله تعالى «أُولئِکَ الَّذِینَ اشْتَرَوُا الضَّلالَهَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما کانُوا مُهْتَدِینَ».
و قوله فاستبدل بالجذل وجلا و بالاغترار ندما إلى قوله و تناسل الذرّیّه
فیه تقدیم و تأخیر و تقدیره و العزیمه بوهنه فأهبطه اللّه إلى دار البلیّه و تناسل الذریّه فاستبدل بالجذل و جلا بالاغترار ندما، ثمّ أناب إلى اللّه فبسط له فی توبته و لقّاه کلمه رحمته و وعده المردّ إلى جنّته، و ذلک لأنّ الإهباط عقیب الزلّه و استبدال الجذل بالوجل بعد الإهباط من الجنّه و الإخراج منها، و قد ورد القرآن الکریم بهذا النظم فی سوره البقره و هو قوله «فَأَزَلَّهُمَا الشَّیْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا کانا فِیهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا»«» ثمّ قال عقیبه «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ» و ورد أیضا على النظم الّذی ذکره علیه السّلام فی سوره طه و ذلک قوله «وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَیْهِ وَ هَدى قالَ اهْبِطا»«» فقدم الاجتباء و التوبه على الإهباط و کلاهما حسن. قالوا: و معنى الإهباط له هو إنزاله عن دار کرامته و استحقاق إفاضه نعیم الجنّه، و ذلک أنّ النفس الناطقه إذا أعرضت عن جناب الحقّ سبحانه، و التفتت إلى متابعه الشیاطین و أبناء الجنّ و موافقه إبلیس بعدت عن رحمه اللّه و تسوّد لوحها عن قبول أنوار الإلهیّه، و أمّا دار البلیّه و تناسل الذریّه فإشاره إلى الدنیا فإنّ الإنسان إذا التفت بوجهه إلیها، و أقبل بکلّیته علیها هبط من أعلى علیّین إلى أسفل سافلین، و لم یزل ممنوّا ببلاء على أثر بلاء إذ لا یقدّم فی کلّ لحظه و وقت فوت مطلوب أو فقد محبوب یطلب مالا یدرک و یجد ما لا یطلب و کفى بانقطاعه عن اللّه تعالى بالتفاته إلیها بلاء و أعظم به شقاء إذ کان سبب البعد عن رحمته و الطرد عن أبواب جنّته.
فإن قلت لم ذکر تناسل الذریّه فی معرض الإهانه لآدم مع أنّه فی الحقیقه من الامور الخیریّه المندرجه فی سلک العنایه الإلهیّه فإنّ به بقاء النوع و دوام الإفاضه. قلت: إنّه و إن کان کذلک إلّا أنّه لا نسبه له فی الحقیقه إلى الخیر الّذی کان فی الجنّه فإنّ تناسل الذریّه خیر إضافیّ عرضیّ بالنسبه إلى الکمال الّذی یحصل لأبناء النوع و ذریّته، ثمّ النسبه إن حصلت فنسبه أخصّ إلى أشرف فإنّ إنزاله و إهباطه عن استحقاق تلک المراتب السامیه و الإفاضات العالیه إلى هذه المرتبه الّتی یشارک فیها البهیمه و سائر أنواع الحشرات نقصان عظیم و خسران مبین. قوله و استبدل بالجذل و جلا و بالاغترار ندما ظاهر فإنّ المقبل بوجهه على عباده الحقّ سبحانه المستشرق لأنوار کبریائه المعرض عمّا سواه أبدا مسرور مبتهج فإذا أعرض عمّا یوجب السرور و الفرح و التفت إلى خسائس الامور بسبب شیطان قاده إلیها و زیّنها لعینه فانکشف عنه ستر اللّه و بدت سوئته للناظرین بعین العاقبه من عباد اللّه الصالحین، ثمّ أخذت بضبعه العنایه الإلهیّه و تدارکته الرحمه الربّانیّه فانتبه من رقده الغافلین فی مراقد الطبیعه فرأى السلاسل و الأغلال قد أحاطت به و شاهد الجحیم مسعرّه عن جنبتی الصراط المستقیم، و تذکّر قوله تعالى «قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِیعاً بَعْضُکُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا یَأْتِیَنَّکُمْ مِنِّی هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدایَ فَلا یَضِلُّ وَ لا یَشْقى وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِکْرِی فَإِنَّ لَهُ»«» الآیات فلا بدّ و أن یصیح و جلا قلقا یقلّب کفّیه حسره و ندما و جلا ممّا یلحقه من سخط اللّه نادما على ما فرّط فی جنب اللّه، و قوله ثمّ بسط اللّه فی توبته و لقّاه کلمه رحمته فالمراد الإشاره إلى أنّ الجود الإلهیّ لا بخل فیه و لا منع من جهته، و إنّما النقصان من جهه القابل و عدم استعداده فإذا استعدّت النفس لتدارک رحمه اللّه و جذبتها العنایه الإلهیّه من ورطات الهلاک الأبدی فأیّدتها بالمعونه على إبلیس و جنوده و بصّرتها بمقابح أحواله (أفعاله) و ما یدعوا إلیه، فأخذت فی مقاومته و الترصّد لدفع مکائده فذلک هو معنى إنابتها و توبتها، و أمّا کلمه رحمه اللّه الّتی لقّاها آدم فتعود إلى السوانح الإلهیّه الّتی تنسخ للعبد فتکون سببا لجذبه عن مهاوی الهلاک و توجیهه عن الجنّه السافله إلى القبله الحقیقیّه و إمداده بالملائکه حالا فحالا و رفعه فی مدارج الجلال الّتی هی درجات الجنّه، و قوله و وعده المردّ إلى جنّته فإشاره إلى وعد القضاء الإلهیّ الناطق عنه لسان الوحی الکریم «فمن اتّبع هداى فلا یضلّ و لا یشقى- یا أیّها الّذین آمنوا توبوا إلى اللّه توبه نصوحا عسى ربّکم أن یکفّر عنکم سیّئاتکم و یدخلکم جنّات تجری من تحتها الأنهار»«» و کذلک سائر أنواع و عد التائبین فهذا ما یتعلّق بهذه القصّه من التأویل و باللّه العصمه و التوفیق.
شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی جلد اول
بازدیدها: ۱۴۴