خطبه۱۹ شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام

اللغه

أقول: الوهل بالتحریک الفزع یقال و هل یوهل وهلا: فزع،

المعنى

و اعلم أنّ الإنسان ما دام ملتحفا بجلباب البدن فإنّه محجوب بظلمه الهیئات البدنیّه و المعارضات الوهمیّه و الخیالیّه عن مشاهده أنوار عالم الغیب و الملکوت و ذلک الحجاب أمر قابل للزیاده و النقصان و القوّه و الضعف، و الناس فیها على مراتب فأعظمهم حجبا و أکثفهم حجابا الکفّار کما أشار إلیه القرآن الکریم مثلا فی حجبهم «أَوْ کَظُلُماتٍ فِی بَحْرٍ لُجِّیٍّ یَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ»«» الآیه فمثل الکافر کرجل وقع فی بحر لجّیّ صفته کذلک فأشار بالبحر اللجّیّ إلى الدنیا بما فیها من الأخطار المهلکه، و الموج الأوّل موج الشهوات الداعیه إلى الصفات البهیمیّه، و بالحریّ أن یکون هذا الموج مظلما إذ حبّک الشی‏ء یعمی و یضمّ، و الموج الثانی موج الصفات السبعیّه الباعثه على الغضب و العداوه و الحقد و الحسد و المباهات فبالحریّ أن یکون مظلما لأنّ الغضب غول العقل و بالحریّ أن یکون هو الموج الأعلى لأنّ الغضب فی الأکثر مستول على الشهوات حتّى إذا هاج أذهل عنها، و السحاب هو الاعتقادات الباطله و الخیالات الفاسده الّتی صارت حجابا لبصیره الکافر عن إدراک نور الحقّ إذ خاصیّه الحجاب أن یحجب نور الشمس عن الأبصار الظاهره و إذا کانت هذه کلّها مظلمه فبالحریّ أن یکون ظلمات بعضها فوق بعض، و أمّا أخفّهم حجبا و أرّقهم حجابا فهم الّذین بذلوا جهدهم فی لزوم أوامر اللّه و نواهیه و بالغوا فی تصفیه بواطنهم و صقال ألواح نفوسهم و إلقاء حجب الغفله و أستار الهیئات البدنیّه فأشرقت علیهم شموس المعارف الإلهیّه و سالت إلى أودیه قلوبهم میاه الجود الربانیّ المعطی لکلّ قابل ما یقبله، فهؤلاء و إن کانوا قد بلغوا الغایه من الجهد فی رفع الحجب و غسل دون الباطل عن نفوسهم إلّا أنّهم ما داموا فی هذه الأبدان فهم فی أغطیه من هیئاتها و حجب من أستارها و إن ضعفت تلک الحجب و رقّت تلک الأغشیه، و ما بین هاتین المرتبتین درجات من الحجب متفاوته و مراتب متصاعده متنازله و بحسب تفاوتها یکون تفاوت النفوس فی الاستضاءه بأنوار العلوم و قبول الانتقاش بالمعارف الإلهیّه و الوقوف على أسرار الدین، و بحسب تفاوت هذه الحجب تکون تفاوت ورود النار کما قال تعالى «وَ إِنْ مِنْکُمْ إِلَّا وارِدُها»«» و لن یخلص الإنسان من شوائب هذه الحجب و ظلمتها إلّا بالخلاص عن هذا البدن، و طرحه، و حینئذ «تَجِدُ کُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَیْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَیْنَها وَ بَیْنَهُ أَمَداً بَعِیداً»«» فتکون مشاهده بعین الیقین ما أعدّ لها من خیر و ماهیّى‏ء لها من شرّ بحسب استعدادها بما کسبت من قبل، فأمّا قبل المفارقه فإنّ حجاب البدن مانع لها عن مشاهده تلک الامور کما هی و إن حصلت على اعتقاد جازم برهانیّ أو نوع من المکاشفه الممکنه کما فی حقّ کثیر من أولیاء اللّه إلّا أنّ ذلک الوقوف و الاطّلاع یکون کالمشاهده لا أنّها مشاهده حقیقیّه خالصه إذ لا تنفّک عن شائبه الوهم و الخیال،

و لذلک قال صلى اللّه علیه و آله حاکیا عن ربّه: أعددت لعبادی الصالحین ما لا عین رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر بل ما اطّلعتهم علیه أی وراء ما اطّلعتهم علیه، و هو إشاره إلى طور المشاهده الخالصه عن الشوائب الّتی هی عین الیقین بعد الموت، و قد یسمّى ما أدرکه أهل المکاشفات بمکاشفاتهم فی حیاتهم الدنیا عین الیقین، فأمّا إدراک من دون هؤلاء لتلک الامور فما کان منها مؤکّدا بالشعور بعدم إمکان النقیض فهو علم الیقین، و قد یختصّ علم الیقین فی عرف الصوفیّه بما تمیل النفس إلى التصدیق به و یغلب علیها و یستولى حتّى یصیر هو المتحکّم المتصرّف فیها بالتحریص و المنع فیقال فلان ضعیف الیقین بالموت إذا لم یهتمّ بالاستعداد له فکأنّه غیر موقن به مع أنّه لا یتطرّق إلیه فیه شکّ، و قویّ الیقین به إذا غلب ذلک على قلبه حتّى استغرق همّته بالتهیّؤ له. إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ قوله علیه السّلام فإنّکم لو عاینتم ما قد عاین من مات منکم لجزعتم و وهلتم. شرطیّه متّصله نبّه فیها على أنّ ورائهم من أهوال الآخره و عذابها ممّا شاهده من سبق منهم إلى الآخره ما لا یشاهدونه الآن بعین و إن علموه یقینا، و بیّن فیها لزوم جزعهم و فزعهم و سمعهم و طاعتهم لداعی اللّه على تقدیر مشاهدتهم بعین الیقین لتلک الامور، و هذه الملازمه ممّا شهد البرهان بصحّتها و أشار التنزیل الإلهیّ إلى حقیقتها، و ذلک قوله تعالى «رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ»«» و ذلک مقتضى شهادتهم لأهوال الآخره، و جزعهم من تلک المشاهده فیجیبهم لسان العزّه «أو لم نعمّرکم ما یتذکّر فیه من تذکّر و جائکم النذیر فذوقوا فما للظالمین من نصیر»«» قوله و لکن محجوب عنکم ما قد عاینوا.

استثناء لملزوم نقیض تالی هذه المتّصله إذ حجب تلک الأحوال عن بصائرهم مستلزم لعدم فزعهم و جزعهم و هو فی صوره اعتذار منهم نطق به لسان حالهم. قوله و قریب ما یطرح الحجاب. ما مصدریّه فی موضع رفع بالابتداء و قریب خبره، و هو إشاره إلى نحو تزییف لذلک العذر فی صوره التهدید لهم إن جعلوا ذلک الخیال عمده فی التقصیر عن العمل فإنّه عمّا قلیل یرفع حجب الأبدان عن أحوالهم القیامه و أهوال یوم الطامّه، و تکشط سماء أغطیتها من بصائر النفوس فتشاهد الجحیم قد سعّرت و الجنّه قد ازلفت «و إذا السماء کشطت و إذا الجحیم سعّرت و إذا الجنّه ازلفت علمت نفس ما أحضرت»«» و کما قال تعالى «فَکَشَفْنا عَنْکَ غِطاءَکَ فَبَصَرُکَ الْیَوْمَ حَدِیدٌ»«» قوله و لقد بصّرتم إن أبصرتم و اسمعتم إن سمعتم و هدیتم إن اهتدیتم.

إشاره إلى ما یشبه جوابا ثانیا عن صوره العذر السابق لحالهم و هو وجود الحجاب المانع عن مشاهده ما یوجب الجزع و الفزع، و ذلک أنّ الحجاب و إن کان قائما الآن و سائرا لتلک الامور عنکم فقد نصّرتم بها و أوضحت لکم بالعبر و الأمثال على ألسنه الرسل علیهم السّلام، و اسمعتم إیّاها فی الکتب الإلهیّه و السنن النبویّه، و هدیتم علیها بالدلائل الواضحه و الحجج القاطعه بحیث صارت کالمشاهده لکم و المعلومه عیانا لا شکّ فیها، فلا عذر إذن بالحجاب، و تخصیص السمع و البصر بالذکر لأنّهما الآلتان اللتان علیهما مدار الاعتبار بامور الآخره، و أشار بالهدایه إلى حظّ العقل من غیر نظر إلى آله، و نبّه بإیراد إن الشرطیّه فی المواضع الثلاثه على أنّه یجد الشکّ فی إبصارهم لما بصّروا به و سماعهم لما اسمعوا و اهتدائهم بما هدوا به، و کلّ ذلک تنفیر لهم على القرار على الغفله و تنبیه على الفرار إلى اللّه فی طرق الاعتبار. قوله بحقّ أقول لکم لقد جاهرتکم العبر و زجرتم بما فیه مزدجر. لمّا قدّم أنّهم بصّروا و اسمعوا أردف ذلک ببیان ما بصّروا به و اسمعوا إلى ما بصّروا به بمجاهره العبر بالمصائب الواقعه بهم و بمن خلا قبلهم من القرون، و إلى ما اسمعوا به بالزجر بما فیه مزدجر، و هی النواهی المؤکّده المردفه بالوعیدات الهائله و العقوبات الحاضره الّتی فی أقلّها ازدجار لذوی الألباب کما قال تعالى «وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِیهِ مُزْدَجَرٌ حِکْمَهٌ بالِغَهٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ»«» و قوله و ما یبلغ عن اللّه بعد رسل السماء إلّا البشر. إشاره إلى أنّه لیس فی الإمکان‏ وراء ما جذبتم به إلى اللّه تعالى على ألسنه رسله طریقه اخرى تدعون بها، إذ ما یمکن دعوتکم إلّا بالوعد و الوعید و الأمثال و التذکیر بالعبر اللاحقه لقوم حقّت علیهم کلمه العذاب، و نحو ذلک لا یمکن إیضاحه لکم مشاهده إلّا على ألسنه الرسل البشریّه علیهم السّلام فلا یمکن أن یبلغ إلیکم رسالات ربّکم بعد رسل السماء الّتی هی الملائکه إلّا هم فینبغی أن یکون ذلک أمرا کافیا لکم فی الالتفات إلى اللّه.

شرح‏ نهج‏ البلاغه(ابن میثم)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۳۲۷

بازدیدها: ۲۳

خطبه۱۸ شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی

و من کلام له علیه السّلام

قاله للأشعث بن قیس و هو على منبر الکوفه یخطب، فمضى فی بعض کلامه شی‏ء اعتراضه الأشعث فقال: یا أمیر

المؤمنین هذه علیک لا لک فخفض علیه السّلام إلیه بصره ثم قال: مَا یُدْرِیکَ مَا عَلَیَّ مِمَّا لِی- عَلَیْکَ لَعْنَهُ اللَّهِ وَ لَعْنَهُ

اللَّاعِنِینَ- حَائِکٌ ابْنُ حَائِکٍ مُنَافِقٌ ابْنُ کَافِرٍ- وَ اللَّهِ لَقَدْ أَسَرَکَ الْکُفْرُ مَرَّهً وَ الْإِسْلَامُ أُخْرَى- فَمَا فَدَاکَ مِنْ وَاحِدَهٍ مِنْهُمَا

مَالُکَ وَ لَا حَسَبُکَ- وَ إِنَّ امْرَأً دَلَّ عَلَى قَوْمِهِ السَّیْفَ- وَ سَاقَ إِلَیْهِمُ الْحَتْفَ- لَحَرِیٌّ أَنْ یَمْقُتَهُ الْأَقْرَبُ وَ لَا یَأْمَنَهُ الْأَبْعَدُ [قال

السید الشریف: أراد بقوله: دل على قومه السیف: ما جرى‏ له مع خالد بن الولید بالیمامه، فانه غرّ قومه و مکر بهم

حتى أوقع بهم خالد و کان قومه بعد ذلک یسمونه عرف النار و هو اسم للغادر عندهم.

المعنى

أقول: الکلام الّذی اعترضه الأشعث أنّه علیه السّلام کان فی خطبه یذکر أمر الحکمین فقام إلیه رجل من أصحابه و قال له: نهیتنا عن الحکومه ثمّ أمرتنا بها فما ندری أیّ الأمرین أرشد فصفق علیه السّلام بإحدى یدیه على الاخرى، و قال:

هذا جزاء من ترک العقده أی جزائی حیث وافقتکم على ما ألزمتمونی به من التحکیم، و ترکت الحزم. فوجد الأشعث بذلک شبهه فی ترکه علیه السّلام وجه المصلحه و اتّباع الآراء الباطله، و أراد إفهامه فقال: هذه علیک لا لک، و جهل أو تجاهل أنّ وجه المصلحه قد یترک محافظه على أمر أعظم منه و مصلحه أهمّ فإنّه علیه السّلام لم یترک العقده إلّا خوفا من أصحابه أن یقتلوه کما سنذکره فی قصّتهم، و قیل: کان مراده علیه السّلام هذا جزاؤکم حیث ترکتم الحزم فظنّ الأشعث هذا جزائی فقال الکلمه، و الحتف بالتاء الهلاک، و روی بالباء و هو المیل، و المقت البغض، قوله و ما یدریک ما علی ممّا لی إشاره إلى أنّه جاهل و لیس للجاهل أن یعترض علیه و هو استاد العلماء بعد رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و أمّا استحقاقه اللعن فلیس بمجرّد اعتراضه و لا لکونه ابن کافر بل لکونه مع ذلک من المنافقین بشهادته علیه السّلام و المنافق مستحقّ للّعن و الإبعاد عن رحمه اللّه بشهاده قوله تعالى «أُولئِکَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَیْهِمْ لَعْنَهَ اللَّهِ وَ الْمَلائِکَهِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِینَ خالِدِینَ فِیها لا یُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ یُنْظَرُونَ»«». قوله حائک بن حائک. استعاره أشار بها إلى نقصان عقله و قلّه استعداده لوضع الأشیاء فی مواضعها، و تأکید لعدم أهلیّته للاعتراض علیه إذ الحیاکه مظنّه نقصان العقل، و ذلک لأنّ ذهن الحائک عامّه وقته متوجّه إلى جهه صنعته مصبوب الفکر إلى أوضاع الخیوط المتفرّقه، و ترتیبها و نظامها یحتاج إلى حرکه رجلیه و یدیه، و بالجمله فالشاهد له بعلم من حاله أنّه مشغول الفکر عمّا وراء ما هو فیه، فهو أبله فیما عداه، و قیل لأنّ معامله الحائک و مخالطته لضعفاء العقول من النساء و الصبیان، و من کانت معاملته لهؤلاء فلا شکّ فی فی ضعف رأیه و قلّه عقله للأمور.

روى عن الصادق جعفر بن محمّد علیهما السّلام أنّه قال: عقل أربعین معلّما عقل حائک و عقل حائک عقل امراه و المرأه لا عقل لها، و عن موسى بن جعفر علیه السّلام أنّه قال: لا تستشیروا المعلّمین و لا الحوکه فإنّ اللّه تعالى قد سلبهم عقولهم، و ذلک محمول على المبالغه فی نقصان عقولهم، و قیل: إنّما عیّره بهذه الصنعه لأنّها صنعه دنیّه تستلزم صغر الهمّه و خسّتها و تشتمل على رذائل الأخلاق فإنّها مظنّه الکذب و الخیانه. روى أنّ رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله دفع إلى حائک من بنى النجّار غزلا لینسج له صوفا فکان یماطله و یأتیه صلى اللّه علیه و آله متقاضیا و یقف على بابه فیقول ردّوا علینا ثوبنا لنتجمّل به فی الناس و لم یزل یماطله حتّى توفّى صلى اللّه علیه و آله، و قد علمت أنّ الکذب رأس النفاق و من کانت لوازم هذه الصنعه أخلاقه فلیس له أن یعترض فی مثل ذلک المقام، و قد اختلف فی أنّ الأشعث هل کان حائکا أو لیس فروى قوم أنّه کان هو و أبوه ینسجان برود الیمن، و قال آخرون: إنّ الأشعث لم یکن حائکا فإنّه کان من أبناء ملوک کنده و أکابرها و إنّما عیّره بذلک لأنّه کان إذا مشى یحرّک منکبیه و یفحج بین رجلیه، و هذه المشیه، تعرف بالحیاکه یقال: حاک یحیک و حیکانا و حیاکه فهو حائک إذا مشى تلک المشیه، و امراه حائکه إذا تبخترت فی مشیها و الأقرب أنّ ذلک له على سبیل الاستعاره کنّى بها نقصان عقله کما سبق أوّلا فأمّا قوله و اللّه لقد أسرک الکفر مرّه و الإسلام اخرى فما فداک من واحده منهما مالک و لا حسبک فتأکید لنقصان عقله و إشاره إلى أنّه لو کان له عقل لما حصل فیما حصل فیه من الأسر مرّتین، ما فداه أی ما نجاه من الوقوع فی واحده منهما ماله و لا حسبه و لم یرد الفداء بعد الأسر فإنّ الأشعث فدى فی الجاهلیّه و ذلک أنّ مرادا لمّا قتل أباه خرج ثائرا طالبا بدمه فاسر ففدى نفسه بثلاثه آلاف بعیر، و وفد على النبیّ صلى اللّه علیه و آله فی سبعین رجلا من کنده فأسلم على بدیه و ذلک الأسر هو مراده علیه السّلام بأسر الکفر له، و أمّا أسره فی الإسلام فإنّه لمّا قبض رسول اللّه ارتدّ بحضر موت و منع أهلها تسلیم الصدقه و أبى أن یبایع لأبی بکر فبعث إلیه زیاد بن لبید بعد رجوعه عنهم و قد کان عاملا قبل ذلک على حضرموت ثمّ أردفه بعکرمه بن أبی جهل فی جمع عظیم من المسلمین فقاتلهم الأشعث بقبائل کنده قتالا شدیدا فی وقائع کثیره، و کانت الدائره علیه فالتجأ قومه إلى حصنهم فحصرهم زیاد حصرا شدیدا و بلغ بهم جهد العطش فبعث الأشعث إلى زیاد و یطلب منه الأمان لأهله و لبعض قومه و کان من غفلته أنّه لم یطلب لنفسه بالتعیین فلمّا نزل أسره و بعث به مقیّدا إلى أبی بکر بالمدینه فسأل أبا بکر أن یستبقیه لحربه و یزوجه أمّ فروه ففعل ذلک أبو بکر، و ممّا یدلّ على عدم مراعاته لقواعد الدین أنّه بعد خروجه من مجلس عقده بأمّ فروه أصلت سیفه فی أزّقه المدینه، و عقر کلّ بعیر رآه و ذبح کلّ شاه استقبلها للناس و التجأ إلى دار من دور الأنصار فصاح به الناس من کلّ جانب و قالوا: قد ارتدّ الأشعث مرّه ثانیه فأشرف علیهم من السطح و قال: یا أهل المدینه إنّی غریب ببلدکم و قد أو لمت بما نحرت و ذبحت فلیأکل کلّ إنسان منکم ما وجد و لیغد إلیّ من کان له علیّ حقّ حتّى ارضیه و فعل ذلک فلم یبق دار من دور المدینه إلّا و قد أوقد فیها بسبب تلک الجهله فضرب أهل المدینه به المثل، و قالوا: أو لم من الأشعث، و فیه قال الشاعر:
لقد أولم الکندیّ یوم ملاکه ولیمه حمّال لثقل العظائم‏

قوله و إنّ امرأ دلّ على قومه السیف و قاد إلیهم الحتف لحریّ أن یمقته الأقرب و لا یأمنه الأبعد. إشاره إلى غدره بقومه، و ذلک أنّه لمّا طلب الأمان من زیاد بن لبید طلبه لنفر یسیر من وجوه قومه فظنّ الباقون أنّه أخذ الأمان لجمیعهم فسکتوا و نزلوا من الحصن على ذلک الظنّ فلمّا خرج الأشعث و من طلب الأمان له من قومه دخل زیاد إلى الحصن فقتل المقاتله صبرا فذکروه الأمان فقال لهم: إنّ الأشعث لم یطلب الأمان إلّا لعشره من قومه فقتل من قتلهم منهم ثمّ وافاه کتاب أبی بکر بالکفّ عنهم و حملهم إلیه فحملهم،

و ذلک معنى قوله علیه السّلام دلّ على قومه السیف و قاد إلیهم الحتف إذ قادهم إلى الحرب و أسلمهم للقتل، و لا شکّ أنّ من کان کذلک فحقیق أن یمقته قومه و لا یأمنه غیرهم فأمّا ما حکاه السیّد- رحمه اللّه- من أنّه أراد به حدیثا کان للأشعث مع خالد بن الولید بالیمامه و أنّه غرّ قومه و مکّر بهم حتّى أوقع بهم خالد فلم أقف على شی‏ء من ذلک فی وقائع خالد بالیمامه، و حسن الظنّ بالسیّد یقتضی تصحیح نقله و لعلّ ذلک فی وقعه لم أقف على أصلها.
و أعلم أنّه علیه السّلام ذمّه فی هذا الفصل بجمیع الرذائل النفسانیّه و نسبه إلى الجهل و الغباوه الّذی هو طرف التفریط من الحکمه بالحیاکه الّتی هی مظنّه لقلّه العقل، و أشار إلى‏ الفجور الّذی هو طرف الإفراط من فضیله العفّه بکونه منافقا، و کونه ابن کافر تأکید لنسبه النفاق إلیه، و أشار إلى الفشل و قلّه التثبّت الّتی هی طرف التفریط و الإفراط من فضیله الشجاعه بکونه قد اسر مرّتین، و کما أنّ فیه إشاره إلى ذلک ففیه أیضا إشاره إلى نقصان عقله کما قلناه، و أشار إلى الظلم و الغدر الّذی هو رذیله مقابله لفضیله الوفاء بقوله و إنّ امرأ دلّ على قومه السیف و ساق إلیهم الحتف، و باستجماعه لهذه الرذائل کان مستحقّا للّعن و أمّا استعارتهم له عرف النار فلأنّ العرف عباره عن کلّ عال مرتفع، و الأعراف فی القرآن الکریم سور بین الجنّه و النار، و لمّا کان من شأن کلّ مرتفع عال أن یستر ما ورائه و کان الغادر یستر بمکره و حیلته امورا کثیره و کان هو قد غرّ قومه بالباطل و غدر بهم صدق علیه بوجه الاستعاره لفظ عرف النار لستره علیهم لما ورائه من نار الحرب أو نار الآخره إذ حملهم على الباطل و اللّه أعلم.

شرح‏ نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۳۲۳

بازدیدها: ۲۱

خطبه۱۷ شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی

و من کلام له علیه السّلام فى ذم اختلاف العلماء فی الفتیا

تَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ الْقَضِیَّهُ فِی حُکْمٍ مِنَ الْأَحْکَامِ- فَیَحْکُمُ فِیهَا بِرَأْیِهِ- ثُمَّ تَرِدُ تِلْکَ الْقَضِیَّهُ بِعَیْنِهَا عَلَى غَیْرِهِ- فَیَحْکُمُ فِیهَا

بِخِلَافِ قَوْلِهِ- ثُمَّ یَجْتَمِعُ الْقُضَاهُ بِذَلِکَ عِنْدَ الْإِمَامِ الَّذِی اسْتَقْضَاهُمْ- فَیُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِیعاً وَ إِلَهُهُمْ وَاحِدٌ- وَ نَبِیُّهُمْ وَاحِدٌ وَ

کِتَابُهُمْ وَاحِدٌ- أَ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاخْتِلَافِ فَأَطَاعُوهُ- أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِیناً نَاقِصاً- فَاسْتَعَانَ

بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ- أَمْ کَانُوا شُرَکَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ یَقُولُوا وَ عَلَیْهِ أَنْ یَرْضَى- أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِیناً تَامّاً- فَقَصَّرَ الرَّسُولُ ص

عَنْ تَبْلِیغِهِ وَ أَدَائِهِ- وَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ یَقُولُ ما فَرَّطْنا فِی الْکِتابِ مِنْ شَیْ‏ءٍ- وَ فِیهِ تِبْیَانُ کُلِّ لِکُلِّ شَیْ‏ءٍ- وَ ذَکَرَ أَنَّ الْکِتَابَ

یُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً- وَ أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِیهِ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللَّهِ- لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً- وَ إِنَّ الْقُرْآنَ

ظَاهِرُهُ أَنِیقٌ وَ بَاطِنُهُ عَمِیقٌ- لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ وَ لَا تَنْقَضِی غَرَائِبُهُ- وَ لَا تُکْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِه‏

 

اللغه

أقول: الأنیق الحسن المعجب،

المعنى

و فی هذا الکلام تصریح بأنّه علیه السّلام کان یرى أنّ الحقّ فی جهه و أن لیس کلّ مجتهد مصیبا، و هذه المسأله ممّا انتشر الخلاف فیها بین علماء أصول الفقه فمنهم من یرى أنّ کلّ مجتهد مصیب إذا راعى شرائط الاجتهاد و أنّ الحقّ بالنسبه إلى کلّ واحد من المجتهدین ما أدّى إلیه اجتهاده و غلب فی ظنّه فجاز أن یکون فی جهتین أو جهات و علیه الإمام الغزّالیّ- رحمه اللّه- و جماعه من الاصولیّین، و منهم من ینکر ذلک و یرى أنّ الحقّ فی جهه و المصیب له واحد و علیه اتّفاق الشیعه و جماعه من غیرهم، و ربّما فصّل بعضهم. و المسأله مستقصاه فی اصول الفقه. و اعلم أنّ قوله ترد على أحدهم القضیّه إلى قوله فیصوّب آرائهم جمیعا بیان لصوره حالهم الّتی ینکرها، و قوله و إلههم واحد و کتابهم واحد و نبیّهم واحد شروع فی دلیل بطلان ما یرونه، و هذه هی المقدّمه الصغرى من قیاس الضمیر، و تقدیر کبراه و کلّ قوم کانوا کذلک فلا یجوز لهم أن یختلفوا فی حکم شرعیّ، و قوله أ فأمرهم اللّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه إلى آخره حجّه فی تقدیر المقدّمه الکبرى إذ الصغرى مسلّمه، و تقریرها أنّ ذلک الاختلاف إمّا أن یکون بأمر من اللّه أطاعوه فیه، أو بنهی منه عصى فیه، أو بسکوت منه عن الأمرین، و على التقدیر الثالث فجواز اختلافهم فی دینه و الحاجه إلى ذلک إمّا أن یکون مع نقصانه أو مع تمامه و تقصیر الرسول فی أدائه، و على الوجه الأوّل فذلک الاختلاف إنّما یجوز على أحد وجهین: أحدهما أن یکون إتماما لذلک النقصان أو على وجه أعمّ من ذلک و هو کونهم شرکاؤه فی الدین فعلیه أن یرضى بما یقولون و لهم أن یقولوا إذ شأن الشریک ذلک فهذه وجوه خمسه، و حصر الأقسام الثلاثه الأخیر ثابت بحسب استقراء وجوه الحاجه إلى الاختلاف و الأقسام کلّها باطله و أشار إلى بطلانها ببقیّه الکلام: أمّا بطلان الأوّل فلأنّ مستند الدین هو کتاب اللّه تعالى و معلوم أنّه یصدّق بعضه بعضا و أنّه لا اختلاف فیه و لا یتشعّب عنه من الأقوال و الأحکام إلّا ما یکون کذلک و لا شی‏ء من أقوالهم المختلفه کذلک فینتج أنّه لا شی‏ء ممّا استند إلى کتاب اللّه تعالى بقول لهم فلا یکون أقوالهم من الدین، و أمّا بطلان القسم الثانی فلأنّ عدم جواز المعصیه للّه بالاختلاف مستلزم لعدم جواز الاختلاف و هو غنیّ عن الدلیل، و أمّا بطلان الثالث و هو نقصان دین اللّه فلقوله‏تعالى «ما فَرَّطْنا فِی الْکِتابِ مِنْ شَیْ‏ءٍ»«» و قوله «وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ‏ءٍ»«» و أمّا الرابع و الخامس فطاهر البطلان فلا یمکنهم دعواهما فلذلک لم یورد فی بطلانهما حجّه ثمّ أردف بتنبیههم على أنّ الکتاب واف بجمیع المطالب إذا تدبّروا معناه و لاحظوا أسراره و تطّلعوا على غوامضه فیحرم علیهم أن یتسرّعوا إلى قول ما لم یستند إلیه و ذلک فی قوله ظاهره أنیق حسن معجب بأنواع البیان و أصنافه و باطنه عمیق لا ینتهى إلى جواهر أسراره إلّا اولو الألباب، و من ایّد من اللّه بالحکمه و فصل الخطاب و لا تفنی الامور المعجبه منه و لا تنقضی النکت الغریبه فیه على توارد صوارم الأذهان و خواطف الأبصار و لا تکشف ظلمات الشبه الناشئه من ظلمه الجهل إلّا بسواطع أنواره و لوامع أسراره و قد راعى فی هذه القرائن الأربع السجع المتوازی و باللّه التوفیق.

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۳۲۱

بازدیدها: ۱۴

خطبه۱۶ شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی

 و من کلام له علیه السّلام فى صفه من یتصدى للحکم بین الأمه و لیس لذلک بأهل

اللغه

أقول: وکلّه إلى نفسه جعل توکّله علیها، و الجائر العادل عن الطریق و فلان مشغوف بکذا بالغین المعجمه إذا بلغ حبّه إلى شغاف قلبه و هو غلافه، و بغیر المعجمه إذا بلغ إلى شعفه قلبه و هی عند معلّق النیّات، و القمش جمع الشی‏ء المتفرّق و المجموع قماش، و الموضع بفتح الضاد المطرح و بکسرها المسرع، و الغارّ الغافل، و أغباش اللیل ظلمته، و قال ابو زید: الغبش البقیّه من اللیل و روى أغطاش الفتنه و الغطش الظلمه، و الهدنه الصلح، و المبهمات المشکلات و أمر مبهم إذا لم یعرف، و الرثّ الضعیف البالی، و عشوت الطریق بضوء النار إذا تبیّنته على ضعف، و الهشیم الیابس من نبت الأرض المتکسّر، و العجّ رفع الصوت، و البائر الفاسد.

المعنى

و اعلم أنّه أخذ أوّلا فی التنفیر على الرجلین المشار إلیهما بذکر أنّهما من أبغض الخلائق إلى اللّه تعالى و لمّا کانت إراده اللّه للشی‏ء و محبّته له عائده إلى علمه بکونه على وفق النظام الکلیّ التامّ للعالم کانت کراهیّته و بغضه له عائده إلى علمه بکونه على ضدّ مصلحه العالم و خارجا عن نظامه فبغضه إذن لهذین الرجلین علمه بکون أفعالهما و أقوالهما خارجه عن المصلحه. قوله رجل وکلّه اللّه إلى نفسه فهو و جائر عن قصد السبیل إلى قوله بخطیئته. بیان لأحد رجلین و تمییز له، و ذکر له أوصافا: الأوّل أنّه و کلّه اللّه إلى نفسه أی جعله متوکّلا علیها دونه، و اعلم أنّ التوکیل مأخوذ من الوکاله یقال: وکلّ فلان أمره إلى فلان إذا فوضّه إلیه و اعتمد علیه فالتوکّل عباره عن اعتماد القلب على الوکیل وحده. إذا عرفت ذلک فنقول: من اعتقد جزما و ظنّا بأنّ نفسه أو أحدا غیر اللّه تعالى ممّن ینسب إلیه التأثیر و القدره هو المتمکّن من الفعل و أنّه تامّ القدره على تحصیل مراده و الوفاء به فإنّ ذلک من أقوى الأسباب المعدّه لأن یفیض اللّه على قلبه صوره الاعتماد على المعتقد فیه و التوکّل علیه فیما یریده، و ذلک معنى قوله وکّله اللّه إلى نفسه، و کذلک معنى الوکول إلى الدنیا و ذلک بحسب اعتقاد الإنسان أنّ المال و القینات الدنیویّه وافیه بمطالبه و تحصیلها مغنیه له عمّا وراءها، و بحسب قوّه ذلک التوکّل و ضعفه یکون تفاوت بغض اللّه تعالى للعبد و محبّته له، و بعده و قربه منه فلن یخلص إذن العبد من بغض اللّه إلّا بالتوکّل علیه حقّ توکّله.

قال اللّه تعالى «إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ الْمُتَوَکِّلِینَ» و هو أعظم مقام وسم صاحبه بمحبّه اللّه فمن کان اللّه حسبه و کافیه و محبّه و مراعیه فقد فاز الفوز العظیم، فإنّ المحبوب لا یبغض و لا یعذّب و لا یبعّد و لا یحجب. و قال رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله: من انقطع إلى اللّه کفاه کلّ مؤنه و رزقه من حیث لا یحتسب، و من انقطع إلى الدنیا وکّله اللّه تعالى إلیها، و صوره المتوکّل علیه أن تثبت فی نفسک بکشف أو اعتقاد جازم أنّ استناد جمیع الأسباب و المسبّبات إلیه سبحانه و أنّه الفاعل المطلق تامّ العلم و القدره على کفایه العباد تامّ العفو و الرحمه و العنایه بخلقه حیث لا یکون وراء قدرته و علمه و عنایته رحمه و عنایه، و لم یقع فی نفسک التفات إلى غیره بوجه حتّى نفسک و حولک و قوّتک فإنّک و الحال هذه تجد من نفسک تسلیم امورها بالکلّیّه إلیه و البراءه من التوکّل على أحد إلّا علیه، فإن لم تجد من نفسک هذه الحال فسبب ذلک ضعف الأسباب المذکوره أو بعضها و غلبه الوهم على النفس فی معارضته لذلک الیقین، و بحسب ضعف تلک الأسباب و شدّتها و زیادتها و نقصانها یکون تفاوت درجات التوکّل على اللّه تعالى.

الثانی کونه جائرا عن قصد السبیل أی قصد سبیل اللّه العدل و صراطه المستقیم، و علمت أنّ الجور هو طرف الإفراط من فضیله العدل،

الثالث کونه مشعوفا بکلام بدعه أی معجب بما یخطر له و یبتدعه من الکلام الّذی لا أصل له فی الدین و یدعو به الناس إلى الضلاله و الجور عن القصد، و هذا الوصف لازم عمّا قبله فإنّ من جار عن قصد السبیل بجهله فهو یعتقد أنّه على سواء السبیل فکان ما یتخیّله من ذلک الکمال الّذی هو نقصان فی الحقیقه مستلزما لمحبّه قول الباطل و ابتداع المحال فهو من الأخسرین أعمالا «الّذین ضلّ سعیهم فی الحیاه الدنیا و هم یحسبون أنّهم یحسنون صنعا»«»

الرابع کونه فتنه لمن افتتن به و هو أیضا لازم عن الوصف الثالث فإنّ محبّه قول الباطل و الدعوه إلى الضلاله سبب لکونه فتنه لمن اتّبعه.

الخامس کونه ضالّا عن هدى من کان قبله و هذا الوصف کالثانی فإنّ الضالّ عن الهدى جائر عن قصد السبیل إلّا أنّ هاهنا زیاده إذ الجائر عن القصد قد یجور و یضلّ حیث لا هدى یتبعه و الموصوف هاهنا جائر و ضالّ مع وجود هدى قبله مأمور باتّباعه و هو کتاب اللّه و سنّه رسوله و إعلام هداه الحاملون لدینه الناطقون عن مشکاه النبوّه و ذلک أبلغ فی لائمته و آکد فی وجوب عقوبته.

السادس کونه مضلّا لمن اهتدى به فی حیاته و بعد وفاته و هذا الوصف مسبّب عمّا قبله إذ ضلال الإنسان فی نفسه سبب لإضلاله غیره و یفهم منه ما یفهم من الرابع مع زیاده فإنّ کونه فتنه لغیره و هو کونه مضلّا لمن اهتدى به و أمّا الزیاده فکون ذلک الإضلال فی حیاته و هو ظاهر و بعد موته لبقاء العقائد الباطله المکتسبه عنه فهی سبب ضلال الضالّین بعده.

السابع کونه حمّالا لخطایا غیره و هو لازم عن السادس فإنّ حمله لأوزار من یضلّه إنّما هو بسبب إضلاله له. الثامن کونه رهنا بخطیئته أی موثوق بها عن الصعود إلى حضره جلال اللّه و إلى هذین الوصفین أشار القرآن الکریم بقوله «لِیَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ کامِلَهً یَوْمَ الْقِیامَهِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِینَ یُضِلُّونَهُمْ بِغَیْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما یَزِرُونَ»«» و قول الرسول صلى اللّه علیه و آله: أیّما داع دعا إلى الهدى فاتّبع کان له مثل أجر من تبعه لا ینقص من أجرهم شی‏ء و أیّما داع دعا إلى الضلاله فاتّبع کان علیه مثل وزر من تبعه و لا ینقص منه شی‏ء، و اعلم أنّه لیس المراد من ذلک أنّه تعالى یوصل العقاب الّذی یستحقّه الأتباع إلى القاده و الرؤساء لقوله تعالى «وَ أَنْ لَیْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏» «أَلَّا تَزِرُ وازِرَهٌ وِزْرَ أُخْرى‏»«» و لما دخل أحد من الناس النار أبدا بل کانت مقصوره على إبلیس وحده بل المعنى أنّ الرئیس المضلّ إذا وضع سیّئه تکون فتنه للناس و ضلالا لهم لم تصدر تلک السیّئه إلّا عن نفس قد استولى علیها الجهل المرکب المضادّ للیقین و صار ملکه من ملکاتها فیسود لوحها به عن قبول الأنوار الإلهیّه و صار ذلک حجابا بینها و بین الرحمه بحیث یکون ذلک الحجاب فی القوّه و الشدّه أضعاف حجب التابعین له و المقتدین به الناشئه عن فتنته فإنّ تلک الحجب الطاریه على قلوب التابعین مستنده إلى ذلک الحجاب و هو أصلها فلا جرم یکون وزره و سیّئته فی قوّه أوزار أتباعه و سیّئاتهم الّتی حصلت بسبب إضلاله لا کلّ سیّئاتهم من کلّ جهه و لذلک قال تعالى «وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِینَ یُضِلُّونَهُمْ» أی بعض أوزارهم و هی الحاصله بسبب المضلّین.

و قال الواحدی: إنّ من فی هذه الآیه لیست للتبعیض بل لبیان الجنس و إلّا لخفّ عن الأتباع بعض أوزارهم و ذلک یناقض قوله صلى اللّه علیه و آله من غیر أن ینقص من أوزارهم شی‏ء. قلت: هذا و إن کان حسنا إلّا أنّ الإلزام الّذی ذکره غیر لازم على کونها للتبعیض لأنّ القائل بکونها کذلک یقول إنّ المراد و لیحملوا بعض أمثال أوزار التابعین لا بعض أعیان أوزارهم، و إذا فهمت ذلک فی جانب السیّئات فافهم مثله فی جانب الحسنات و هو أنّ الواضع لحسنه و هدى یهتدى به إنّما تصدر عن نفس ذات صفاء و إشراق فأشرق على غیرها من النفوس التابعه لها فاستضائت به و تلک السنّه المأخوذه من جمله أنوارها الفائضه عنها على نفس اقتبسها فکان للنفس المتبوعه من الاستکمال بنور اللّه الّذی هو رأس کلّ هدى ما هو فی قوّه جمیع الأنوار المقتبسه عن تلک السنّه و مثل لها فکان لها من الأجر و الثواب مثل ما للتابعین لها من غیر نقصان فی أجر التابعین و هداهم الحاصل لهم، و إلى هذا المعنى الإشاره الوارده فی الخبر إنّ حسنات الظالم تنقل إلى دیوان المظلوم، و سیّئات المظلوم تنقل إلى دیوان الظالم فإنّک إن علمت أنّ السیّئه و الحسنه أعراض لا یمکن نقلها من محلّ إلى محلّ فلیس ذلک نقلا حقیقیّا بل على وجه الاستعاره کما یقال: انتقلت الخلافه من فلان إلى غیره، و إنّما المقصود عن نقل سیّئات المظلوم إلى الظالم حصول أمثالها فی قلب الظالم و نقل حسنات الظالم إلى المظلوم حصول أمثالها فی قلبه، و ذلک لأنّ للطاعه تأثیرا فی النفس بالتنویر، و للمعاصی تأثیرا بالقسوه و الظلمه و بأنوار الطاعه تستحکم مناسبه النفس من استعدادها لقبول المعارف الإلهیّه و مشاهده حضره الربوبیّه، و بالقسوه و الظلمه تستعدّ للبعد و الحجاب عن مشاهده الجمال الإلهیّ فالطاعه مولّده لذّه المشاهده بواسطه الصفاء و النور الّذی یحدث فی النفس، و المعصیه مولّده للحجاب بواسطه القسوه و الظلمه الّتی تحدث فیها، و بین الحسنات و السیّئات تضادّ و تعاقب على النفس کما قال تعالى «إِنَّ الْحَسَناتِ یُذْهِبْنَ السَّیِّئاتِ» و قال «لا تُبْطِلُوا أَعْمالَکُمْ»

و قال صلى اللّه علیه و آله: أتبع السیّئه بالحسنه تمحها و الآلام ممحّصات للذنوب، و لذلک قال صلى اللّه علیه و آله: إنّ الرجل یثاب حتى بالشوکه الّتی تصیب رجله، و قال: الحدود کفّارات لأهلها فالظالم یتبع شهوته بالظلم، و فیه ما یقسى القلب و یسوّد لوح النفس فیمحو أثر النور الّذی فیه من طاعته فکأنّه أحبط طاعته، و المظلوم یتألّم و تنکسر شهوته و یستکن قلبه، و یرجع إلى اللّه تعالى فتفارقه الظلمه و القسوه الّتی حصلت له من اتّباع الشهوات، فکأنّ النور انتقل من قلب الظالم إلى قلب المظلوم و انتقل السواد و الظلمه من قلب المظلوم إلى قلب الظالم، و ذلک انتقال على سبیل الاستعاره کما علمت و کما یقال انتقل ضوء الشمس من مکان إلى مکان، و قد تلخّص من هذا التقریر أن الحسنات المنقوله إلى المظلوم من دیوان الظالم هی استعداداته لقبول الرحمه و التنویر الحاصل له بسبب ظلم الظالم، و السیّئات المنقوله من دیوان المظلوم إلى الظالم هی استعداداته بالحجب و القسوه عن قبول أنوار اللّه، و الثواب و العقاب الحاصلان لهما هو ما استعدّ له من تلک الأنوار و الظلمات، و اعلم أنّ ذلک النقل و حمل الظالم أوزار المظلوم و إن کان أمرا حاصلا فی الدنیا إلّا أنّه لمّا لم ینکشف للبصائر إلّا فی یوم القیامه لا جرم خصّص بیوم القیامه، و إنّما قال حمّال وزن فعّال للمبالغه و التکثیر أی أنّه کثیرا ما یحمل خطایا غیره.

و أمّا الرجل الثانی فمیّزه بعشرین وصفا أ کونه قمش جهلا، و هی استعاره لفظ الجمع المحسوس للجمع المنقول (ب) کونه موضعا فی جهّال الامّه مطرحا لیس من أشراف الناس، و یفهم من هذا الکلام أنّه خرج فی حقّ شخص معیّن و إن عمّه و غیره (ج) کونه غادیا فی اغباض الفتنه أی سائرا فی أوائل ظلماتها، و روى غارّا أی غافل فی ظلمات الخصومات لا یهتدی لوجه تخلیصها (د) کونه أعمى البصیره بما فی عقد الصلح و المسالمه بین الناس من نظام امورهم و مصالح العالم فهو جاهل بوجوه المصالح مشیر للفتن بینهم (ه) کونه قد سمّاه أشباه الناس عالما و لیس بعالم، و الواو للحال و أشباه الناس الجهّال و أهل الضلال و هم الّذین یشبهون الناس الکاملین فی الصوره الحسیّه دون الصور التمامیّه الّتی هی کمال العلوم و الأخلاق (و) کونه بکّر فاستکثر من جمع ما قلّ منه خیر ممّا کثر. روى من جمع منوّنا و غیر منوّن‏ أمّا بالتنوین فالجمله بعده صفه له و استعمال المصدر و هی جمع فی موضع اسم المفعول أی من مجموع، و یحتمل أن یکون المقصود هی المصدر نفسه، و أمّا مع الإضافه فقیل: إنّ ما هاهنا یحتاج فی تمام الکلام إلى تقدیر مثلها معها حتّى یکون ما الأوّل هی المضاف و الثانیه هی المبتدأ، و التقدیر من جمع ما الذی قلّ منه خیر ممّا کثر لکنّه لمّا کان إظهار ما الثانیه یشبه التکرار و یوجب هجنه فی الکلام و کانت ما الواحده تعطى المعنى عن المقدّره کان حذفها أولى، و قیل: إنّ المقدّر المحذوف أن على طریقه تسمع بالمعیدی خیر من أن تراه أی من جمع ما أن قلّ منه خیر ممّا کثر، و عنى بالتکسیر إلى الاستکثار من ذلک السبق فی أوّل العمر إلى جمع الشبهات و الآراء الّتی قلیلها خیر من کثیرها و باطلها أکثر من حقّها (ز) کونه إذا ارتوى من ماء آجن و أکثر من غیر طائل جلس بین الناس قاضیا، و لمّا کان الاجون صفه للماء و الکمالات النفسانیّه الّتی هی العلوم کثیرا ما یعبّر عنها بالماء الصافی و الزلال و کان الجهل و الآراء الّتی حصل علیها یجمعها مع العلم جامع الاعتقاد فهی و العلم داخلان تحت جنس الاعتقاد کان الماء الآجن أشبه ما یستعار لتلک الآراء الّتی لیست بنصیحه و لا متینه فهی تشبه الماء الآجن الّذی لا غناء فیه للشارب، و رشّح، تلک الاستعاره بذکر الارتواء و جعل غایته المشار إلیها من ذلک الاستکثار جلوسه بین الناس قاضیا (ح) کونه ضامنا لتلخیص ما التبس على غیره أی واثق من نفسه بفصل ما یعرض بین الناس من القضایا المشکله، و ضامنا حال ثان أو صفه للأوّل (ط) کونه إذا نزلت به إحدى القضایا المبهمه الملتبس وجه فصلها هیّألها حشوا ضعیفا من رأیه ثمّ جزم به و الحشو الکلام الکثیر الّذی لا طائل تحته و لیس حلا لتلک المبهمه (ى) کونه من لبس الشبهات فی مثل نسج العنکبوب. نسج العنکبوت مثل للامور الواهیه،

و وجه هذا التمثیل أنّ الشبهات الّتی تقع على ذهن مثل هذا الموصوف إذا قصد حلّ قضیّه مبهمه تکثر فیلبس على ذهنه وجه الحقّ منها فلا یهتدی له لضعف ذهنه، فتلک الشبهات فی الوها یشبه نسج العنکبوت و ذهنه فیها یشبه الذباب الواقع فیه فکما لا یتمکّن الذباب من خلاص نفسه من شبّاک العنکبوت لضعفه کذلک ذهن هذا الرجل إذا وقع فی الشبهات لا یخلص وجه الحقّ منها لقلّه عقله و ضعفه عن إدراک وجوه الخلاص (یا) أنّه لا یدری أصاب فیما حکم به أم أخطأ فإن أصاب خاف أن یکون قد أخطأ و إن أخطأ رجأ أن یکون قد أصاب، و خوف الخطأ و رجاء الإصابه من لوازم الحکم مع عدم الدرایه (یب) کونه جاهلا خبّاط جهالات، و الجهالات جمع جهله فعله من الجهل، و قد تقدم أنّ وزن فعّال یبنى للفاعل من الامور المعتاده الّتی یکثر فعلها، و ذکر الجهل هاهنا بزیاده و هی کثره الخبط فیه و کنّى بذلک عن کثره الأغلاط الّتی یقع فیها فی القضایا و الأحکام فیمشی فیها على غیر طریق حقّ من القوانین الشرعیّه و ذلک معنى خبطه (یج) کونه عاشیا رکّاب عشوات، و هی إشاره إلى أنّه لا یستلیح نور الحقّ فی ظلمات الشبهات إلّا على ضعف لنقصان ضوء بصیرته فهو یمشی فیها على ما یتخیّله دون ما یتحقّقه و کثیرا ما یکون حاله کذلک، و لمّا کان من شأن العاشی إلى الضوء فی الطرق المظلمه تاره یلوح له فیمشی علیه و تاره یخفى عنه فیضلّ عن القصد و یمشی على الوهم و الخیال کذلک حال السالک فی طرق الدین من غیر أن یستکمل نور بصیرته بقواعد الدین و یعلم کیفیّه سلوک طرقه فإنّه تاره یکون نور الحقّ فی المسأله ظاهرا فیدرکه و تاره یغلب علیه ظلمات الشبهات فتعمى علیه الموارد و المصادر فیبقى فی الظلمه خابطا و عن القصد جائرا (ید) کونه لم یعضّ على العلم بضرس قاطع کنایه عن عدم إتقانه للقوانین الشرعیّه و إحاطته بها یقال فلان لم یعضّ على الأمر الفلانی بضرس إذا لم یحکمه، و أصله أنّ الإنسان یمضغ الشی‏ء ثمّ لا یجید مضغه فمثّل به من لم یحکم ما یدخل فیه من الامور (یه) کونه یذرى الروایات إذ راء الریح الهشیم، و وجه التشبیه أنّ الریح لمّا کانت تذرى الهشیم و هو ما تکسّر من نبت الأرض و یبس فتخرجه عن حدّ الانتفاع به کذلک المتصفّح للروایات لمّا لم یهتد إلى وجه العمل بها و لم یقف على الفائده منها فهو یقف على روایه اخرى و یمشی علیها من غیر فائده (یو) أنّه غیر ملیّ بإصداره ما یرد علیه إشاره إلى أنّه لیس له قوّه على إصدار الأجوبه عمّا یرد علیه من المسائل فهو فقیر منها (یز) کونه لا یحسب العلم فی شی‏ء ممّا أنکره یقال فلان لا یحسب فلانا فی شی‏ء بالضمّ من الحساب أی لا یعدّه شیئا و یعتبره خالیا من الکمال و الفضیله، و المراد أنّه ینکر العلم کسائر ما أنکره فهو لا یعدّه شیئا و لا یفرده بالحساب و الاعتبار و عنى بالعلم الحقیقیّ الّذی ینبغی أن یطلب و یجتهد فی تحصیله لا ما یعتقده الموصوف علما ممّا قمشه و جمعه فإنّ کثیرا من الجهّال ممّن یدعى العلم بفنّ من الفنون قد ینکر غیره من سائر الفنون و یشنّع على معلّمیه کأکثر الناقلین للأحکام الفقهیّه و المتصدّرین للفتوى و القضاء بین الخلق فی زماننا و ما قبله فإنّهم یبالغون فی إنکار العلوم العقلیّه و یفتون بتحریم الخوض فیها و تکفیر من یتعلّمها و هم غافلون عن أنّ أحدهم لا یستحقّ أن یسمّى فقیها إلّا أن یکون له مادّه من العلم العقلیّ المتکفّل ببیان صدق الرسول صلى اللّه علیه و آله و إثبات النبوّه الّذی لا یقوم شی‏ء من الأحکام الفقهیّه الّتی یدّعون أنّها کلّ العلم إلّا بعد ثبوتها، و روى یحسب بکسر السین من الحسبان و هو الظنّ أی لا یظنّ العلم ذا فضیله یجب اعتقادها و اعتباره بها فهو ممّا أنکره (یح) کونه لا یرى أنّ من وراء ما بلغ منه مذهبا لغیره أی أنّه إذا غلب على ظنّه حکما فی القضیّه جزم به، و ربّما کان لغیره فی المسأله قول أظهر من قوله یعضده دلیل فلا یعتبره و یمضی على ما بلغ فهمه إلیه (یط) کونه إن أظلم علیه أمرا اکتتم به لما یعلم من جهل نفسه و کثیرا ما یراعی قضاه السوء و علماؤه اکتتام ما یشکل علیهم أمره من المسائل و التغافل عن سماعها إذا اوردت علیهم لئلّا یظهر جهلهم بین أهل الفضل مراعاه لحفظ المناصب (ک) کونه تصرخ من جور قضائه الدماء و تعجّ منه المواریث نسبت الصراخ إلى الدماء و العجیج إلى المواریث إمّا على سبیل حذف المضاف و إقامه المضاف إلیه مقامه أی أهل الدماء و أولیاء المواریث فیکون حقیقه، أو على سبیل استعاره لفظ الصراخ و العجّ لنطق الدماء و المواریث بلسان حالها المفصح عن مقالها، و وجه الاستعاره عن الصراخ و العجیج لمّا کانا إنّما یصدر عن تظلّم و شکایه و کانت الدماء المهراقه بغیر حقّ و المواریث المستباحه بالأحکام الباطله ناطقه بلسان حالها مفصحه بالشکایه و التظلّم لا جرم حسنت استعاره اللفظین هاهنا، ثمّ بعد أن خصّ الرجلین المذکورین بما ذکر فیها من الأوصاف المنفره على سبیل التفصیل أردف ذلک بالتنفیر عنهما على سبیل الجمله ما یعمّها و غیرهما من الجهّال من التشکّی و البراءه و ذلک قوله إلى اللّه من معشر أی إلى اللّه أشکو کما فی بعض النسخ أو إلى اللّه أبرء، و ذکر أوصافا مبدءها البقاء على الجهل و العیش فیه و کنّى بالعیش عن الحیاه و قابله بذکر الموت، و قوله یموتون ضلّالا وصف لازم عن الوصف الأوّل فإنّ من عاش جاهلا مات ضالّا.

قوله لیس فیهم سلعه أبور من الکتاب إذا تلى حقّ تلاوته إلى آخره. أی إذا فسرّ الکتاب و حمل على الوجه الّذی انزل اعتقدوه فاسدا و أطرحوه بجهلهم عن درجه الاعتبار على ذلک الوجه، و إذا حرّف عن مواضعه و مقاصده و نزّل على حسب أغراضهم و مقاصدهم شروه على ذلک الوجه بأغلى ثمن و کان من أنفق السلع بینهم، و استعار له لفظ السلعه، و وجه المشابهه ظاهر و منشأ کلّ ذلک هو الجهل، و کذلک لیس عندهم أنکر من المعروف، و ذلک أنّه لمّا خالف أغراضهم و مقاصدهم أطرحوه حتّى صار بینهم منکرا یستقبحون فعله، و لا أعرف من المنکر لموافقه أغراضهم و محبّتهم له لذلک، و أعلم أنّه علیه السّلام قسّم الناس فی موضع آخر إلى ثلاثه أقسام عالم و متعلّم و همج رعاع أتباع کلّ ناعق، و الرجلان المشار إلیهما بالأوصاف المذکوره هاهنا لیسا من القسم الأوّل لکونهما على طرف الجهل المضادّ للعلم، و لا من القسم الثالث لکونهما متبوعین داعیین إلى اتّباعهما و کون الهمج تابعین کما صرّح به فتعیّن أن یکونا من القسم الثانی و هم المتعلّمون، و إذا عرفت ذلک فنقول: المراد بالمتعلّم هو من ترفّع عن درجه الهمج من الناس بطلب العلم و اکتسب ذهنه شیئا من الاعتقادات عن مخالطه من اشتهر بسمه العلم و مطالعه الکتب و نحو ذلک و لم ینته إلى درجه العلماء الّذین یقتدرون على التصرّف و القیام بالحجّه فاعتقاداته حینئذ إمّا أن یکون مطابقه کلّها أو بعضها أو غیر مطابقه أصلا و على التقدیرات فإمّا أن لا ینصب نفسه لشی‏ء من المناصب الدینیّه کالفتوى و القضاء و نحوهما أو یتصدّر لذلک فهذه أقسام ستّه: أحدها من اعتقد اعتقادا مطابقا و لم یعرض نفسه لشی‏ء من المناصب الدینیّه. الثانی من کان اعتقاده کذلک لکنّه نصب نفسه للإفاضه. الثالث من اعتقد جهلا و لم ینصب نفسه لها الرابع من اعتقد جهلا و عرض نفسه لها. الخامس من اعتقد جهلا و غیر جهل و لم ینصب نفسه للإفاده. السادس من کان اعتقاده کذلک و نصب نفسه لها. و القسم الأوّل وحده هو الخارج عن هذین الرجلین بأوصافهما، و الثانی و الرابع و السادس منهم یکون الرجلان المذکوران فالأوّل منهما فی ترتیبه هو من نصب نفسه لسائر مناصب الإفاده دون منصب القضاء، و الثانی هو من نصب نفسه له. و إنّما بالغ فی ذمّهما و نسبتهما إلى الجهل و الضلال و إن کان بعض اعتقاداتهما حقّا لکون القدر الّذی حصلا علیه مغمورا فی ظلمه الجهل فضلا لهما و إضلالهما أغلب و انتشار الباطل فیهما أکثر، و أمّا القسم الثالث‏ و الخامس فداخلان فیمن برء إلى اللّه منهم و ذمّهم أخیرا بالعیش فی الجهل و الموت على الضلال و ما بعده، و اللّه أعلم بالصواب.

شرح‏ نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۳۱۰

بازدیدها: ۱۷

خطبه۱۵شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام لما بویع بالمدینه

القسم الأول

ذِمَّتِی بِمَا أَقُولُ رَهِینَهٌ وَ أَنَا بِهِ زَعِیمٌ- إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ الْعِبَرُ عَمَّا بَیْنَ یَدَیْهِ مِنَ الْمَثُلَاتِ- حَجَزَتْهُ التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ- أَلَا وَ إِنَّ بَلِیَّتَکُمْ قَدْ عَادَتْ کَهَیْئَتِهَا یَوْمَ بَعَثَ اللَّهُ نَبِیَّهُ- ص وَ الَّذِی بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَهً- وَ لَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَهً وَ لَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ- حَتَّى یَعُودَ أَسْفَلُکُمْ أَعْلَاکُمْ وَ أَعْلَاکُمْ أَسْفَلَکُمْ- وَ لَیَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ کَانُوا قَصَّرُوا- وَ لَیُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ کَانُوا سَبَقُوا- وَ اللَّهِ مَا کَتَمْتُ وَشْمَهً وَ لَا کَذَبْتُ کِذْبَهً- وَ لَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذَا الْمَقَامِ وَ هَذَا الْیَوْمِ- أَلَا وَ إِنَّ الْخَطَایَا خَیْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَیْهَا أَهْلُهَا- وَ خُلِعَتْ لُجُمُهَا فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِی النَّارِ- أَلَا وَ إِنَّ التَّقْوَى مَطَایَا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَیْهَا أَهْلُهَا- وَ أُعْطُوا أَزِمَّتَهَا فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّهَ- حَقٌّ وَ بَاطِلٌ وَ لِکُلٍّ أَهْلٌ- فَلَئِنْ أَمِرَ الْبَاطِلُ لَقَدِیماً فَعَلَ- وَ لَئِنْ قَلَّ الْحَقُّ فَلَرُبَّمَا وَ لَعَلَّ وَ لَقَلَّمَا أَدْبَرَ شَیْ‏ءٌ فَأَقْبَلَ

قال السید الشریف و أقول- إن فی هذا الکلام الأدنى من مواقع الإحسان- ما لا تبلغه مواقع‏ الاستحسان- و إن حظ العجب منه أکثر من حظ العجب به- و فیه مع الحال التی وصفنا زوائد من الفصاحه- لا یقوم بها لسان و لا یطلع فجها إنسان- و لا یعرف ما أقول إلا من ضرب فی هذه الصناعه بحق- و جرى فیها على عرق- وَ ما یَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ أقول: فی هذا الفصل فصول من الخطبه الّتی أشرنا إلیها فی الکلام الّذی قبله، و کذلک فی الفصل الّذی بعده، و نحن نوردها بتمامها لیتّضح ذلک، و هی الحمد للّه أحقّ محمود بالحمد و أولاه بالمجد إلها واحدا صمدا أقام أرکان العرش فأشرق لضوء شعاع الشمس خلق فأتقن و أقام فذلّت له وطاه المستمکن، و أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شریک له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله أرسله بالنور الساطع و الضیاء المنیر أکرم خلق اللّه حسبا و أشرفهم نسبا لم یتعلّق علیه مسلم و لا معاهد بمظلمه بل کان یظلم.

أمّا بعد فإنّ أوّل من بغى على الأرض عناق ابنه آدم کان مجلسها من الأرض جریبا و کان لها عشرون إصبعا، و کان لها ظفران کالمخلبین فسلّط اللّه علیها أسدا کالفیل و ذئبا کالبعیر و نسرا کالحمار، و کان ذلک فی الخلق الأوّل فقتلها و قد قتل اللّه الجبابره على أسوء أحوالهم، و إنّ اللّه أهلک فرعون و هامان و قتل هارون بذنوبهم ألا و إنّ بلیّتکم قد عادت کهیئتها یوم بعث اللّه نبیّکم صلى اللّه علیه و آله و الّذی بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبله و لتغربلنّ غربله و لتساطنّ سوط القدر حتّى یعود أسفلکم أعلاکم و أعلاکم أسفلکم و لیسبقنّ سابقون کانوا قصّروا و لیقصّرنّ سبّاقون کانوا سبقوا و اللّه ما کتمت و شمه و لا کذبت کذبه و لقد نبّئت بهذا الیوم و هذا المقام ألا و إنّ الخطا یا خیل شمس حمل علیها أهلها و خلعت لجمها فتقحّمت بهم فی النار فهم فیها کالحون ألا و إنّ التقوى مطایا ذلل حمل علیها أهلها فسارت بهم تأوّدا حتّى إذا جاءوا ظلّا ظلیلا فتحت أبوابها و فال لهم خزنتها «سلام علیکم طبتم فادخلوها خالدین»«» ألا و قد سبقنی هذا الأمر من لم اشرکه‏ فیه و من لیست له منه توبه إلّا بنبیّ مبعث و لا نبیّ بعد محمّد صلى اللّه علیه و آله أشفى منه على شفا جرف هار فانهار به فی نار جهنّم أیّها الناس کتاب اللّه و سنّه نبیّه لا یرعى مرع إلّا على نفسه شغل من الجنّه و النار أمامه ساع نجا و طالب یرجو و مقصّر فی النار و لکلّ أهل، و لعمری لئن أمر الباطل لقد یما فعل و لئن قلّ الحقّ لربّما و لعلّ، و لقلّما أدبر شی‏ء فأقبل و لئن ردّ أمرکم علیکم إنّکم السعداء و ما علینا إلّا الجهد قد کانت أمور مضت ملتم فیها میله کنتم عندی فیها غیر محمودی الرأی و لو أشاء أن أقول لقلت عفى اللّه عمّا سلف سبق الرجلان و قام الثالث کالغراب همّه بطنه ویله لو قصّ جناحاه و قطع رأسه کان خیرا له شغل من الجنّه و النار أمامه ساعی مجتهد و طالب یرجو و مقصّر فی النار ثلاثه و إثنان خمسه، و لیس فیهم سادس ملک طائر بجناحیه و نبى آخذ بضبعیه هلک من ادّعى و خاب من افترى الیمین و الشمال مضلّه و وسط الطریق المنهج علیه باقی الکتاب و آثار النبوّه ألا و إنّ اللّه قد جعل أدب هذه الامّه السوط و السیف لیس عند إمام فیهما هواده فاستتروا بیوتکم و أصلحوا ذات بینکم، و التوبه من ورائکم من أبدأ صفحته للحقّ هلک ألا و إنّ کلّ قطعیه أقطعها عثمان و ما أخذه من بیت مال المسلمین فهو مردود علیهم فی بیت مالهم و لو وجدته قد تزوّج به النساء و فرّق فی البلدان فإنّه إن لم یسعه الحقّ فالباطل أضیق عنه أقول قولی هذا و استغفر اللّه لی و لکم«». و لقد ذکرنا هذا الفصل فیما قبل و لنرجع إلى التفسیر فنقول:

اللغه

الذّمه الحرمه و الذمّه أیضا العهد، و الرهینه المرهونه، و الزعیم الکفیل، و فی الحدیث الزعیم غارم، و المثلات العقوبات، و الحجز المنع، و قحّم فی الأمر و تقحّمه رمى بنفسه فیه، و الهیئه الصفه، و البلبله الاختلاط، و الغربله نخل الدقیق و غیره و الغربله القتل أیضا، و ساط القدر إذا قلّب ما فیها من طعام بالمحراک، و أداره، و الوشمه بالشین المعجمه الکلمه و بغیر المعجمه العلامه و الأثر، و الشمس جمع شموس و هی الدابّه تمنع ظهرها، و التأوّد السیر الثقیل بالثبات، و الذلول الساکنه، و الکلوح تکسّر فی عبوس، و أمر الباطل بکسر المیم کثر و فلان یرعى على نفسه إذا کان یتفقّد أحوالها

المعنى

و اعلم أنّه أشار أوّلا فی هذا الفصل إلى وجوب الاعتبار لوجوب التقوى و نبّه على أنّه وسیله إلیه و مستلزم له فی صوره شرطیّه متّصله و هی قوله‏ من صرّحت له العبر عمّا بین یدیه من المثلات حجزه التقوى عن تقحّم الشبهات، و بیان الملازمه أنّ من أخذت العنایه بزمام عقله فأعدّت نور بصیرته لمشاهده ما صرّحت به آفات الدنیا، و کشفت عبرها من تبدّل حالاتها و تغیّراتها على من أوقف علیها همّه و أتخذها دار الإقامه فشاهد أنّ کلّ ذلک امور باطله و أطلال زائله، فلا بدّ أن یفیض اللّه على قلبه صوره خشیته و تقواه فتستلزم تلک الخشیه توقّفه و امتناعه عن أن یلقى نفسه فی تلک الامور الزائله و الشبهات الباطله لإشراق نور الحقّ الواضح على لوح نفسه بالاعتبار، فالتقوى اللازم له هو الحاجز عن ذلک التقحّم، و أشار بالشبهات إلى ما یتوهّم کونه حقّا ثابتا باقیا من الامور الفانیه الزائله و اللذّات الدنیویّه الباطله فالوهم یصوّرها و یشبّهها بالحقّ فلذلک سمّیتشبهات،

و العقل الخارج من أسر الهوى قوّى على نقد الحقّ و تمییزه عن الشبهه، و أکّد هذه الملازمه برهن ذمّته على صحّتها و کفالته بصدقها، و ذلک قوله ذمّتی بما أقول رهینه و أنا به زعیم و استعمال الرهن استعاره کقوله تعالى کُلُّ نَفْسٍ بِما کَسَبَتْ رَهِینَهٌ و اعلم أنّه ربّما التبس علیک حقیقه التقوى،

فنقول: التقوى بحسب العرف الشرعیّ یعود إلى خشیه الحقّ سبحانه المستلزم للإعراض عن کلّ ما یوجب الالتفات عنه من متاع الدنیا و زینتها و تنحیه مادون وجهه عن جهه القصد، و لمّا کان الترک و الإعراض المذکور هو الزهد الحقّقی کما علمت، و کان التقوى وسیله إلیه علمت أنّه من أقوى الجواذب إلى اللّه الرادعه عن الالتفات إلى ما سواه و قد ورد التقوى بمعنى الخشیه من اللّه تعالى فی أوّل النساء یا أَیُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّکُمُ و مثله فی أوّل الحجّ، و فی الشعراء إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ و کذلک قول هود و صالح و لوط و شعیب لقومهم، و فی العنکبوت و إبراهیم إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ و قوله اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ و قوله وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏ و کذلک فی سائر آیات القرآن و إن کان قد حمله بعض المفسّرین تاره على الإیمان کما فی قوله تعالى وَ أَلْزَمَهُمْ کَلِمَهَ التَّقْوى‏ و تاره على التوبه کما فی قوله وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا و تاره على ترک المعصیه کما فی قوله یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْأَهِلَّهِ قُلْ هِیَ مَواقِیتُ لِلنَّاسِ وَ و إذا عرفت ذلک فاعلم أنّه لمّا نبّههم على لزوم التقوى و أنّه مخلص من تقحّم الشبهات نبّههم بعده على أنّهم فی الشبهات مغمورون بقوله ألا و إنّ بلیّتکم قد عادت کهیئتها یوم بعث اللّه نبیّه، و أشار ببلیّتهم إلى ما هم علیه من اختلاف الأهواء و تشتّت الآراء و عدم الالفه و الاجتماع فی نصره اللّه عن شبهات یلقیها الشیطان على الأذهان القابله لوسوسته المقهوره فی یده. و ذلک من أعظم الفتن الّتی بها یبتلى اللّه عباده وَ نَبْلُوکُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَیْرِ فِتْنَهً وَ إِلَیْنا تُرْجَعُونَ و هی امور تشبه ما کان الناس علیه حال بعثه الرسول صلى اللّه علیه و آله و فی ذلک تنبیه لهم على أنّهم لیسوا من تقوى اللّه فی شی‏ء إذ عرفت أنّ مجانبه الشبهه من لوازم التقوى فکان وقوعهم فیها مستلزما لسلب التقوى عنهم ثمّ لمّا بیّن وقوعهم فی البلیّه کما کانت أقسم بالقسم البارّ لینزلنّ بهم ثمره ما هم فیه من عدم التناصر و اتّباع الأهواء الباطله و ذکر امورا ثلاثه:

أحدها البلبله و کنّى بها عمّا یوقع بنو امیّه و غیرهم من امراء الجور من الهموم المزعجه و خلط بعضهم ببعض و رفع أراذلهم و حطّ أکابرهم عمّا یستحقّ کلّ من المراتب.

الثانی الغربله و کأنّها کنایه عن التقاط آحادهم و قصدهم بالأذى و القتل کما فعل بکثیر من الصحابه و التابعین و فی ذلک تشبیه لفعلهم ذلک بغربله الدقیق و نحوه لتمییز شی‏ء منه عن شی‏ء و لذلک استعیر له لفظها و فی هذین القرینتین السجع المتوازی.

الثالث أن تساطوا کما تساط القدر إلى أن یعود أسفلهم أعلاهم و بالعکس و استعار لفظ السوط هاهنا مع غایته المذکوره لتصریف أئمّه الجور لهم ممّن یأتی بعده بسائر أسباب الإهانه و تغییر القواعد علیها فی ذلک الوقت و هو قریب من الأوّل.

قوله و لیسبقنّ سابقون کانوا قصّروا و لیقصّرنّ سبّاقون کانوا سبقوا إشاره إلى بعض نتائج تقلّب الزمان بهم قال بعض الشارحین: إنّه أشار بالمقصّرین الّذین یسبقون إلى قوم قصّروا عن نصرته فی مبدء الأمر حین وفاه رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله ثمّ نصروه فی ولایته و قاتلوا معه فی سائر حروبه و بالسابقین الّذین یقصّرون إلى من کانت له فی الإسلام سابقه ثمّ یخذله و ینحرف عنه و یقاتله و یشبه أن یکون مراده أعمّ من ذلک فالمقصّرون الّذین یسبقون کلّ من أخذت العنایه الإلهیّه بیده و قاده زمام التوفیق إلى الجدّ فی طاعه اللّه و اتّباع سائر أوامره و الوقوف عند نواهیه و زواجره بعد تقصیره فی ذلک، و عکس هؤلاء من کان فی مبدء الأمر مشمرا فی سلوک سبیل اللّه ثمّ جذبه هواه إلى غیر ما کان علیه و سلک به الشیطان مسالکه فاستبدل بسبقه فی الدین تقصیرا و انحرافا عنه.

قوله و اللّه ما کتمت و شمه و لا کذبت کذبه أقسم أنّه لم یکتم أثرا سمعه من رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله فی هذا المعنى و کلمه ممّا یتعیّن علیه أن یبوح به و أنّه لم یکذب قط، و هذا القسم شهاده لما قبله من الإخبار بما سیکرن أنّه کان قال، و توطیه لما بعده أنّه کما هو ذلک قوله، و لقد نبّئت بهذا المقام أی مقام بیعه الخلق له و هذا الیوم أی یوم اجتماعهم علیه و کلّ ذلک تنفیر لهم عن الباطل إلى الحقّ و تثبیت لهم على اتّباعه ثمّ لمّا أمرهم بالتقوى و أنبأهم بما سیکون عاقبه أمرهم فی لزومهم لبلّیتهم و تورّطهم فی الشبهات أردف ذلک بالتنفیر عن الخطایا و الترغیب فی التقوى بالتنبیه على ما یقود إلیه کلّ منهما.

قوله ألا و إنّ الخطایا خیل شمس حمل علیها أهلها و خلعت لجمها فتقحّمت بهم فی النار. استعمال لفظ الخیل للخطایا ثمّ وصفها بالوصف المنفر و هو الشموس و الهیئه المانعه لذی العقل من رکوبها و هی کونها مع شموسها مخلوعه اللجم، و وجه الاستعاره ظاهر فإنّ الفرس الشموس الّتی خلع لجامها لمّا کانت تتقحّم براکبها المهالک و تجری به على غیر نظام فکذلک راکب الخطیئه لمّا جرى به رکوبها على غیر نظام الشریعه و خلع بذلک لجام الأوامر الشرعیه و حدود الدین لا جرم کانت غایته من رکوبه لها أن یتقحّم أعظم موارد الهلاک و هی نار جهنّم و ذلک من لطیف الاستعاره، قوله ألا و إنّ التقوى مطایا ذلل حمل علیها أهلها و اعطوا أزمّتها فأوردتهم الجنّه استعار أیضا لفظ المطایا بالوصف الحسن الموجب للمیل إلیها و هو کونها ذللا، و بالهیئه الّتی ینبغی للراکب و هو أخذ الزمام و أشار بالأزمّه إلى حدود الشریعه الّتی یلزمها صاحب التقوى و لا یتجاوزها، و لمّا کانت المطیّه الذلول من شأنها أن تتحرّک براکبها على وفق النظام الّذی ینبغی و لا یتجاوز الطریق المستقیم بل یصرفها بزمامها و تسیر به على تؤوده فیصل بها إلى المقاصد کذلک التقوى فسهوله طریق السالک إلى اللّه بالتقوى و راحته عن جموح الهوى به فی موارد الهلکه یشبه ذلّه المطیّه، و حدود اللّه الّتی بها یملک التقوى و یستقر علیه یشبه أزمّه المطایا الّتی بها تملک و کون التقوى موصلا لصاحبه بسلامه إلى السعاده الأبدیّه الّتی هی أسنى المطالب یشبهه غایه سیر المطیّ الذلول براکبها، و الاستعاره فی الموضعین استعاره لفظ المحسوس للمعقول ثمّ لمّا بیّن أنّ هاهنا طریقین مرکوبین مسلوکین طریق الخطایا و طریق التقوى ذکر بعده أنّهما حقّ و باطل فکأنّه قال و هما حقّ و هو التقوى و باطل و هو الخطایا، ثمّ قال و لکلّ أهل‏ أی و لکلّ من طریقی الحقّ و الباطل قوم أعدّهم القدر لسلوکها بحسب ما جرى فی اللوح المحفوظ بقلم القضاء الإلهیّ

کما قال الرسول صلى اللّه علیه و آله: کلّ میسّر لما خلق له قوله فلئن أمر الباطل لقدیما فعل و لئن قلّ الحقّ فلربّما و لعلّ، أردف لذلک بما یشبه الاعتذار لنفسه و لأهل الحقّ فی قلّته، و ذمّ و توبیخ لأهل الباطل على کثره الباطل، و قلّه الحقّ فی ذلک الوقت لیس بدیعا حتّى أجهد نفسی فی الإنکار على أهله ثمّ لا یسمعون و لا ینتهون، و فی قوله لربّما و لعلّ تنبیه على أنّ الحقّ و إن قلّ فربّما یعود یسیرا ثمّ أردف حرف التقلیل و هو ربّما بحرف التمنّی، و کان فی هذه الأحرف الوجیزه إخبار بقلّه الحقّ و وعد بقوّته مع نوع تشکیک فی ذلک و تمنّى لکثرته. قوله و لقلّما أدبر شی‏ء فأقبل استبعاد لرجوع الحقّ إلى الکثره و القوّه بعد قلّته و ضعفه على وجه کلّی فإنّ زوال الاستعداد للأمر مستلزم لزوال صورته و صوره الحقّ إنّما افیضت على قلوب صفت و استعدّت لقبوله فإذا أخذ ذلک الاستعداد فی النقصان بموت أهله أو بموت قلوبهم و تسوّد ألواح نفوسهم بشبه الباطل فلا بدّ أن ینقض نور الحقّ و تکثر ظلمه الباطل بسبب قوّه الاستعداد لها و ظاهر أنّ عود الحقّ و إصاءه نوره بعد إدباره و إقبال ظلمه الباطل أمر بعید و قلّ ما یعود مثل ذلک الاستعداد لقبول مثل تلک الصوره للحقّ و لعلّه یعود بقوّه فیصبح ألواح النفوس و أرضها مشرقه بأنوار الحقّ و یکرّ على الباطل فیدمغه فإذا هو زاهق، و ما ذلک على اللّه بعزیز، و فی ذلک تنبیه لهم على لزوم الحقّ و بعث على القیام به کیلا یضمحلّ بتخاذلهم عنه فلا یمکنهم تدارکه، و باللّه التوفیق.

القسم الثانی

شُغِلَ مَنِ الْجَنَّهُ وَ النَّارُ أَمَامَهُ- سَاعٍ سَرِیعٌ نَجَا وَ طَالِبٌ بَطِی‏ءٌ رَجَا- وَ مُقَصِّرٌ فِی النَّارِ هَوَى- الْیَمِینُ وَ الشِّمَالُ مَضَلَّهٌ وَ الطَّرِیقُ الْوُسْطَى هِیَ الْجَادَّهُ- عَلَیْهَا بَاقِی الْکِتَابِ وَ آثَارُ النُّبُوَّهِ- وَ مِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّهِ وَ إِلَیْهَا مَصِیرُ الْعَاقِبَهِ- هَلَکَ مَنِ ادَّعَى وَ خابَ مَنِ افْتَرى‏- مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَکَ وَ کَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَلَّا یَعْرِفَ قَدْرَهُ- لَا یَهْلِکُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ- وَ لَا یَظْمَأُ عَلَیْهَا زَرْعُ قَوْمٍ- فَاسْتَتِرُوا فِی بُیُوتِکُمْ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَیْنِکُمْ- وَ التَّوْبَهُ مِنْ وَرَائِکُمْ- وَ لَا یَحْمَدْ حَامِدٌ إِلَّا رَبَّهُ وَ لَا یَلُمْ لَائِمٌ إِلَّا نَفْسَهُ أقول: قد عرفت کون هذا الفصل من الخطبه الّتی ذکرناها،

اللغه

و الجادّه معظم الطریق، و الصفحه الجانب، و السنخ الأصل، و ذات البین حقیقته، و الخیبه عدم حصول المطلوب.

المعنى

و اعلم أنّ تقدیر القضیّه الاولى أنّ من کانت النار و الجنّه أمامه فقد جعل له بهما شغل یکفیه عن کلّ ما عداه فیجب علیه أن لا یشتغل إلّا به، و أشار بذلک الشغل إلى ما یکون وسیله إلی الفوز بالجنّه و النجاه من النار ممّا نطقت به الکتب المنزله و حثّ على لزومه الرسل، و أشار بکون الجنّه و النار أمامه إلى أحد أمرین:

أحدهما أن یکون المراد کون الجنّه و النار ملاحظتین له متذکّرا لهما مدّه وقته فهما أمامه و نصب خیاله و من کان کذلک فهو فی شغل بهما عن غیرهما.

الثانی أن یکون کونهما أمامه أی أنّه لمّا کان الإنسان من مبدء عمره إلى منتهاه مسافرا إلى اللّه تعالى فهو فی انقطاع سفره لا بدّ و أن ینتهى إمّا إلى الجنّه أو إلى النار فکانتا أمامه فی ذلک السفر و غایتین یؤمّهما الإنسان و ینتهی إلیهما و من کان أبدا فی السفر إلى غایه معیّنه فکیف یلیق به أن یشتغل بغیر مهمّات تلک الغایه و الوسیله إلیهما،

و إنّما قال شغل بالبناء للمفعول لأنّ المقصود هاهنا لیس إلّا ذکر الشغل أو لأنّه لمّا کان الشاغل هو اللّه تعالى بإیجاد الجنّه و النار و الترغیب فی إحداهما و الترهیب من الاخرى کان ترک ذکره للتعظیم و الإجلال أو لظهوره ثمّ أنّه لمّا نبّه على وجوب الاشتغال بالجنّه و النار عن غیرهما قسّم الناس بالنسبه إلى ذلک الاشتغال إلى ثلاثه أقسام و ذلک قوله ساع سریع نجا، و طالب بطى‏ء رجا، و مقصّر فی النار هوى، و وجه الحصر فی هذه القسمه أنّ الناس بعد الأنبیاء علیهم السّلام إما طالبون للّه أو تارکون و الطالبون إمّا بغایه جدّهم و اجتهادهم و بذل وسعهم و طاقتهم فی الوصول إلى رضوانه أو بالبطؤ و التأنّی فهذه ثلاثهأقسام لا مزید علیها و إن کان قسما الطالبین على مراتب و درجات متفاوته،

و القسم الأوّل هم الفائزون بقصب السبق و الناجون من عذاب النار کما قال تعالى «إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی جَنَّاتٍ وَ نَعِیمٍ فاکِهِینَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِیمِ» و هذا القسم یشمل الأنبیاء لولا إفرازه لهم فی قسم رابع إذ قسّم الخلق فی الخطبه إلى خمسه أقسام، و الثالث المقصّر الّذی وقف به الشیطان حیث أراد آخذا بحجزته عن سلوک سبیل اللّه قاذفا به فی موارد الهلاک و منازل الشقاء، و ظاهر أنّه فی النار «فأمّا الّذین شقوا ففی النار لهم فیها زفیر و شهیق خالدین فیها ما دامت السماوات و الأرض إلّا ما شاء ربّک إن ربّک فعّال لما یرید»

أمّا القسم الثانی فذو وصفین یتجاذبانه من جهتی السفاله و العلوّ فطلب الجنّه إلى جهه بحرکته و سلوکه إلى اللّه و إن ضعف جاذب له إلى جهه العلوّ، و ید الشیطان جاذبه إلى جهه السفاله إلّا أنّ رجاه لعفو اللّه و نظره إلیه بعین رحمته إذا انضاف إلى حرکته البطیئه کانت السلامه علیه أغلب وجهه العلوّ منه أقرب، و ینبغی أن نشیر إلى حقیقه الرجاء لیتّضح ما قلناه، فنقول: الرجاء هو ارتیاح النفس لانتظار ما هو محبوب عندها فهو حاله لها تصدر عن علم، و تقتضی عملا بیان ذلک أنّ ما یتصوره النفس من محبوب أو مکروه فإمّا أن یکون موجودا فی الماضی أو فی الحال أو یوجد فی الاستقبال، و الأوّل یسمّى ذکرا و تذکیرا، و الثانی یسمّى وجدا لوجدان النفس له فی الحال، و الثالث و هو أن یغلب على ظنّک وجود شی‏ء فی الاستقبال لنفسک به تعلّق فسمّى ذلک انتظارا و توقّعا فإن کان مکروها حدث منه فی القلب تألّم یسمّى خوفا و إن کان محبوبا حصل من انتظاره و تعلّق القلب به لذّه للنفس و ارتیاح بإخطار وجوده بالبال یسمّى ذلک الارتیاح رجاء و لکن ذلک المتوقّع لا بدّ و أن یکون لسبب فإن کان توقّعه لأجل حصول أکثر أسبابه فاسم الرجاء صادق علیه، و إن کان انتظاره مع العلم بانتفاء أسبابه فاسم الغرور و الحمق علیه أصدق، و إن کانت أسبابه غیر معلومه الوجود و لا الانتفاء فاسم التمنّى أصدق على انتظاره.
إذا عرفت ذلک، فاعلم أنّ أرباب العرفان قد علموا أنّ الدنیا مزرعه الآخره فالنفس هی الأرض و بذرها حبّ المعارف الإلهیّه، و سائر أنواع الطاعات جاریه مجرى إصلاح هذه الأرض من تقلیبها و إعدادها للزراعه، و سیاقه الماء إلیها، و النفس المستغرقه بحبّ الدنیا و المیل إلیها کالأرض السبخه الّتی لا تقبل الزرع و الإنبات لمخالطه الأجزاء الملحیّه، و یوم القیامه یوم الحصاد إلّا من زرع. و لا زرع إلّا من بذر، و کما لا ینفع الزرع فی أرض سبخه کذلک لا ینفع إیمان مع خبث النفس و سوء الأخلاق، فینبغی أن یقاس رجاء العبد لرضوان اللّه برجاء صاحب الزرع، و کما أنّ من طلب أرضا طیّبه، و بذرها فی وقت الزراعه بذرا غیر متعفّن و لا یتکاهل ثمّ أمدّه بالماء العذب و سائر ما یحتاج إلیه فی أوقاته ثمّ طهّره عن مخالفه ما یمنع نباته من شوک و نحوه ثم انتظر من فضل اللّه رفع الصواعق و الآفات المفسده إلى تمام زرعه و بلوغ زرعه غایته، کان ذلک رجاء فی موضعه و استحقّ اسم الرجاء إذ کان فی مظنّه أن یفوز بمقاصده من ذلک الزرع، و من بذر فی أرض کذلک إلّا أنّه بذر فی اخریات الناس و لم یبادر إلیه فی أوّل وقته أو قصّر فی بعض أسبابه ثمّ أخذ ینتظر ثمره ذلک الزرع و یرجو اللّه فی سلامته له فهو من جمله الراجین أیضا، و من لم یحصل على بذر أو بذر فی أرض سبخه أو ذات شاغل من الإنبات ثمّ أخذ ینتظر الحصاد فذلک الانتظار حمق. فکان اسم الرجاء إنّما یصدق على انتظار ما حصل جمیع أسبابه أو أکثرها الداخله تحت اختیار العبد و لم یبق إلّا ما لا یدخل تحت اختیاره و هو فضل اللّه تعالى بصرف القواطع و المفسدات، کذلک حال العبد إن بذر المعارف الإلهیّه فی أرض نفسه فی وقته و هو مقتبل العمر و مبتدأ التکلیف، و دام على سقیه بالطاعات و اجتهد فی طهاره نفسه عن شوک الأخلاق الردیئه الّتی تمنع نماء العلم و زیاده الإیمان و انتظر من فضل اللّه تعالى أن یثبته على ذلک إلى زمان وصوله و حصاد عمله فذلک الانتظار هو الرجاء المحمود و هو درجه السابقین، و إن ألقى بذر الایمان فی نفسه لکنّه قصّر فی بعض أسبابه إمّا ببطؤه فی البذر أو فی السقی إلى غیر ذلک ممّا یوجب ضعفه ثمّ أخذ ینتظر وقت الحصاد و یتوقّع من فضل اللّه تعالى أن یبارک له فیه و یعتمد على أنّه هو الرزّاق ذو القوّه المتین فیصدق علیه أیضا أنّه راج إذ أکثر أسباب المطلوب الّتی من جهته حاصله و هذه درجه القسم الثانی و هو الطالب الراجى البطى‏ء، و إن لم یزرع من قواعد الإیمان فی نفسه شیئا أصلا أو زرع و لم یسقه بماء الطاعه أو ترک نفسه مشغوله بشوک الأخلاق الردیئه و انهمک فی طلب آفات الدنیا ثمّ انتظر المغفره و الفضل من اللّه فذلک الانتظار غرور و لیس برجاء فی الحقیقه و ذلک هو القسم الثالث و هو المقصّر فی أسباب الزراعه و تحصیل‏ زاد الآخره الهالک أسفا یوم الحسره و الندامه یقول «یا لیتنی قدّمت لحیاتی فیومئذ لا یعذّب عذابه أحد و لا یوثق وثاقه أحد»«» و فی المعنى ما قیل:

إذا أنت لم تزرع و عاینت حاصدا ندمت على التفریط فی زمن البذر.

قال رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله: الأحمق من اتّبع نفسه هواها و تمنّى على اللّه. و قال «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْکِتابَ یَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى‏ وَ یَقُولُونَ سَیُغْفَرُ لَنا» و إنّما خصّص علیه السّلام القسم الثانی بالرجاء إذ کان کما علمت عمدته لضعف عمله و قلّه الأسباب من جهته، و إلى هذه الأقسام الثلاثه أشار القرآن الکریم بقوله «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِکَ هُوَ الْفَضْلُ الْکَبِیرُ»«» و إن اختلفت مبدء الرتبتین.

قوله الیمین و الشمال مضلّه و الطریق الوسطى هی الجادّه. لمّا قسّم الناس إلى سابقین و لا حقین و مقصّرین أشار لهم إلى الطریق الّتی أخذ اللّه علیهم سلوکها و نصب لهم علیها أعلام الهدى لیصلوا بها إلى جناب عزّته سالمین عن تخطّفات الشیاطین، و میّزها عن طریق الضلال.

و لمّا علمت أنّ طریق السالکین إلى اللّه إمّا العلم أو العمل، فالعلم طریق القوّه النظریّه، و العمل طریق القوّه العملیّه و کلّ منهما محتو برذیلتین هما طرفا التفریط و الإفراط کما علمته و الوسط منهما هو العدل و الطریق الوسطى و هی الجادّه الواضحه لمن اهتدى و هی الّتی علیها ما فی الکتاب الإلهیّ من المقاصد الحکمیّه علیها آثار النبوّه و منفذ السنّه أی طریقها و مبدءها الّذی منه تخرج و إلیها مصیر عاقبه الخلق فی الدنیا و الآخره فإنّ من العدل بدأت السنّه و انتشرت فی الخلق، و إلیه مرجع امورهم أمّا فی الدنیا فلأنّ نظام امورهم فی حرکاتهم و سکناتهم مبنّى علیه فی القوانین الشرعیّه و إلى تلک القوانین و القواعد ترد عواقب امورهم و علیها یحملون، و أمّا فی الآخره فبالنسبه إلیه یتبیّن خسران الخاسرین و فوز الفائزین فتحکم لمن سلک و تمسّک به أوقات سفره إلى اللّه بجنّات النعیم و لمن انحرف عنه و تجاوزه بالعذاب الألیم فی نار الجحیم و کلّ واحد من طرفی الإفراط و التفریط بالنسبه إلیه هو المراد بالیمین و الشمال من ذلک الوسط و هما طریقا المضلّه لمن عدل إلیهما، و مورد الهلاک لمن سلکهما.

قوله هلک من ادّعى و خاب من افترى یحتمل أن یکون القضیّتان دعاء، و یحتمل أن یکون إخبارا أی هلک من ادّعى ما لیس له أهلا و عنى الهلاک الاخروى، و خاب من کذب أی لن یحصل مطلوبه إذا جعل الکذب وسیله إلیه، و أعلم أنّ الدعوى إمّا أن یکون مطابقه لما فی نفس الأمر أو لیس کذلک، و الثانیه محرّمه مطلقا، و أمّا الاولى فإمّا أن یدعو إلیها حاجه أو لیس، و القسم الأوّل هو المباح فقط دون الثانی، و إنّما حرم هذان القسمان أمّا الأوّل و هی الدعوى غیر المطابقه فلأنّها تصدر عن ملکه الکذب تاره و عن الجهل المرکّب تاره کالجهل بالأمر المدّعى لحصوله عن شبهه رسخت فی ذهنه و کلاهما من أکبر الرذائل و أعظم المهلکات فی الآخره، و أمّا الثانیه و هی المطابقه لا عن حاجه فلأنّها تکاد لا تصدر عن الإنسان إلّا عن رذیله العجب و ستعلم أنّه من المهلکات.

قال رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله: ثلاث مهلکات: شحّ مطاع، و هوى متّبع، و إعجاب المرء بنفسه. و أمّا خیبه المفترى فلأنّ الفریه اختلاف ما لیس بحقّ و ظاهر أنّ الکذب لا ثمره له أمّا فی الآخره فظاهر و أمّا فی الدنیا فقد یکون و قد لا یکون و إن کانت ففی معرض الزوال و مستلزمه لسخط اللّه فهی بمنزله ما لم یکن و صاحبها أشدّ خیبه من عادمها و طالب الأمر بالفریه على کلّ تقدیر خاسر خائب.

قال بعض الشارحین: أراد هلک من ادّعى الإمامه من غیر استحقاق، و خاب عن افترى فی دعواه لها لأنّ کلامه فی هذه الخطبه کثیرا ما یعرض فیه بأمر الإمامه. قوله من أبدى صفحته للحقّ هلک [عند جمله (جهله خ) الناس‏] و کفى بالمرء جهلا أن لا یعرف قدره. تنبیه على أنّ المتجرّد لإظهار الحقّ فی مقابله کلّ باطل ورد من الجهال، و حملهم على مرّ الحقّ و صعبه فی کلّ وقت یکون فی معرض الهلاک بأیدیهم و ألسنتهم إذ لا یعدّ منهم من بولیه المکروه و یسعى فی دمه، ثمّ أراد التنبیه على الجهل فذکر أدنى مراتبه و نبّه بها على أنّ أقلّ الجهل کاف فی الرذیله فکیف بکثیره و ذلک قوله و کفى بالمرء جهلا أن لا یعرف قدره و أراد مرتبته فی الناس و عدم تصوّره لدرجه نفسه و منزلتها بالنسبه إلى آحادهم و کفى بهذا القدر مهلکا فإنّه منشأ کثیر من الرذائل المهلکه کالکبر و العجب و قول الباطل و ادّعاء الکمال للناقصین و تعدّى الطور فی أکثر الأحوال کما قال علیه السّلام فی موضع آخر، رحم اللّه امرء عرف قدره و لم یتعدّ طوره، و فی هذه الکلمه تنفیر للسامعین عن الجهل بقدر ما یتصوّرونه من وجوب التجرّد للحقّ و نصرته، و ربّما یستفهم منها تعلیم کیفیّه استجلاب طباع الجهّال و تأنیسهم و هو أنّهم لا ینبغی أن یقابلوا بالحقّ دفعه و یتجرّد فی مقابلتهم به على کلّ وجه فإنّ ذلک ممّا یوحب نفارهم و عدم نظام أحوالهم بل ینبغی أن یؤنسوا به على التدریج قلیلا قلیلا. و ربّما لم یکن تأنیسهم بالحقّ فی بعض الامور إمّا لغموض الحقّ بالنسبه إلى أفهامهم أو لقوّه اعتقادهم الباطل فی مقابلته فینخدعوا عن ذلک بالحقّ فی صوره الباطل و ظاهره و ذلک کما ورد فی القرآن الکریم و السنن النبویّه من صفات التجسیم و ما لا یجوز أن یحمل على ظاهره فی حقّ الصانع الحکیم فإنّ حمله على ظاهره کما یتصوّره جهّال الناس أمر باطل لکنّه لمّا کان سبب إیناسهم و جمع قلوبهم على اعتقاد الصانع و به نظام امورهم ورد الشرع به. قوله لا یهلک على التقوى سنخ أصل و لا یظمأ علیها زرع قوم. تنبیه على لزوم التقوى باعتبارین: أحدهما أنّ کلّ أصلل بنى على التقوى فمحال أن یهلک و یلحق بانیه خسران کما قال تعالى «أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْیانَهُ عَلى‏ تَقْوى‏ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَیْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْیانَهُ عَلى‏ شَفا جُرُفٍ هارٍ»«» الثانی أنّ من زرع زرعا اخرویّا کالمعارف الإلهیّه فی أرض نفسه مثلا أو دنیویّا کالأعمال الّتی بها تقوم مصالح الإنسان فی الدنیا و سقاها ماء التقوى و جعله مادّتها فإنّه لا یلحق ذلک الزرع ظمأ بل علیه ینشأ بأقوى ساق و أزکى ثمره، و استعمال الزرع و الأصل کنایه عمّا ذکرناه. قوله فاستتروا ببیوتکم و أصلحوا ذات بینکم و التوبه من ورائکم. قد عرفت أنّ هذا الفصل مقدّم فی الخطبه على قوله من أبدى صفحته للحقّ هلک، و هو مسبوق بالتهدید و وارد فی معرضه و هو قوله ألا و إنّ اللّه قد جعل أدب هذه الامّه السوط و السیف لیس عند إمام فیهما هواده أی مصالحه و سکون فاستتروا ببیوتکم و هو حسم لمادّه الفتنه بینهم بلزوم البیوت عن الاجتماع للمنافرات و المفاخرات و المشاجرات، و لذلک أردفه بقوله و أصلحوا ذات بینکم فإنّ قطع مادّه الفتنه سبب لإصلاح ذات البین قوله و التوبه من ورائکم تنبیه للعصاه على الرجوع إلى التوبه عن الجری فی میدان المعصیه و اقتفاء أثر الشیطان و کونها وراء لأنّ الجواذب الإلهیّه إذا أخذت بقلب العبد فجذبته عن المعصیه حتّى أعرض عنها و التفت بوجه نفسه. إلى ما کان معرضا عنه من الندم على المعصیه و التوجّه إلى القبله الحقیقیّه فإنّه یصدق علیه إذن أنّ التوبه ورائه أی وراء عقلیّا و هو أولى من قول من قال من المفسّرین إنّ ورائکم بمعنى أمامکم. قوله و لا یحمد حامد إلّا ربّه و لا یعلم لائم إلّا نفسه.

تأدیب لهم بالتنبیه على قصر الحمد و الثناء على اللّه دون غیره و أنّه مبدء کلّ نعمه یستحقّ بها الحمد کما سبقت إلیه الإشاره، و على قصر اللائمه على النفس عند انحرافها عن جهه القبله الحقیقیّه إلى متابعه إبلیس و قبولها لدعوته من غیر سلطان، و إلى أصل هاتین الکلمتین أشار القرآن الکریم «ما أَصابَکَ مِنْ حَسَنَهٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَکَ مِنْ سَیِّئَهٍ فَمِنْ نَفْسِکَ»«» فکلّ حسنه أصابت العبد من ربّه فهی مبدء لحمده و شکره، و کلّ سیّئه أصابته من نفسه فهو مبدء للائمّه نفسه، فأمّا قول السیّد- رحمه اللّه- إنّ فی الکلام من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان إلى آخره، فالإحسان مصدر قولک أحسن الرجل إحسانا إذا فعل فعلا حسنا و مواقع الإحسان محاسن الکلام الّتی أجاد فیها و أحسن و مواقع الاستحسان إمّا سائر محاسن کلام العرب أی أنّ شیئا من محاسن کلام العرب و ما یقع علیه الاستحسان منها لا یوازی هذا الکلام و لا یبلغه، أو یشیر بمواقع الاستحسان إلى الفکر من الناس فإنّها محالّ الاستحسان أیضا إذ الاستحسان من صفات المستحسن أی أنّ الفکر لا یصل إلى محاسن هذا الکلام، و قوله و إنّ حظّ العجب منه أکثر من حظّ العجب به یرید أنّ تعجّب الفصحاء من حسنه و بدائعه أکثر من عجبهم باستخراج محاسنه و ذلک لأنّ فیه من المحاسن وراء ما یمکنهم التعبیر عنها امور کثیره فهم یجدونها من أنفسهم و إن لم یمکنهم التعبیر عنها فیکون تعجبّهم من محاسنه أکثر من إعجابهم من أنفسهم بما یقدرون على استخراجه منها. أو ارید بأکثر من عجبهم به أی أکثر من محبّتهم له و میلهم إلیه، و باقی کلامه ظاهر و باللّه التوفیق.

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۲۹۷

بازدیدها: ۳۱

خطبه۱۴شرح ابن میثم بحرانی

– و من کلام له علیه السّلام فیما رده على المسلمین من قطائع عثمان

وَ اللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ وَ مُلِکَ بِهِ الْإِمَاءُ- لَرَدَدْتُهُ- فَإِنَّ فِی الْعَدْلِ سَعَهً- وَ مَنْ ضَاقَ عَلَیْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَیْهِ أَضْیَقُ

أقول: هذا الفصل مع فصول بعده من خطبه خطبها بالمدینه لمّا قتل عثمان و بویع له، و قد ورد هنا بزیاده و نقصان، و أوّل هذا الفصل من الخطبه ألا و إنّ کلّ قطیعه قطعها عثمان أو مال أخذه من بیت مال المسلمین فمردود علیهم فی بیت مالهم، و لو وجدته قد تزوّج به النساء و فرّق فی البلدان فإنّه إن لم یسعه الحقّ فالباطل أضیق عنه. و سنورد الخطبه بتمامها فی أحد الفصول الّتی یجی‏ء منها إنشاء اللّه تعالى، و أعلم أنّه أشار إلى العزم الجازم المؤکّد بالقسم على ردّ القطائع الّتی کان عثمان أقطعها أقاربه ثمّ نبّه المقتطعین بقوله فإنّ فی العدل سعه ألا إنّ عدل اللّه یسعهم فی ردّ ما اقتطعوه، و کنّى بسعته عن اقتضاء أمر العدل ردّ ذلک و غیره من المظالم فعلیهم أن یدخلوا فی مقتضى أوامر اللّه و عدله، فإنّ فیه سعه لهم إذ به نظام العالم بأسره و هو محلّ لرضا المظلوم بإیصال حقّه إلیه و لرضا الظالم لعلمه بأنّه عند الانتزاع منه أخذ لما لیس له، و تأکّد ذلک العلم بالوعید الصادق فهو و إن قام شیطانه حال انتزاع الظلامه و ضاق علیه العدل فهو فی محلّ الرضا فإن لم یرض لضیق العدل علیه فالجور علیه أضیق فی الدنیا و الآخره لأنّه ربّما انتزعت منه قهرا و کان جوره سببا للتضییق علیه فی ذلک، و لأنّ الأوامر و النواهی الإلهیّه محیطه به سادّه علیه وجوه التصرّف الباطل، و لأنّه إذا نزل علیه عدل اعتقد أنّه قد اخذ منه ما ینبغی أخذه منه و إذا نزل علیه جور اعتقد أنّه اخد منه ما لا ینبغی أخذه، و لا شکّ أنّ أخذ ما لا ینبغی أخذه أصعب على النفس و أضیق من أخذ ما ینبغی و هو أمر وجدانیّ، و المعنى فی الألفاظ الّتی أوردناها من الخطبه قریب ممّا ذکرناه هاهنا غیر أنّ الضمائر فی قوله فإنّه‏ إن لم یسعه تعود إلى المال، و اعلم أنّه قد کان عثمان أقطع جماعه من بنی امیّه و غیرهم من أصحابه کثیرا من أرض بیت المال، و کذلک فعل عمر ذلک مع قوم لهم وقائع مشهور، فی الجهاد فی سبیل اللّه و ترغیبا فی الجهاد، لکن لمّا اختلف غرضا الإمامین لم یردّ علیّ علیه السّلام إلّا ما أقطعه عثمان، و باللّه التوفیق.

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۲۹۵

بازدیدها: ۷

خطبه۱۳شرح ابن میثم بحرانی

و من کلام له علیه السّلام فی ذم أهل البصره

القسم الأول

کُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَهِ وَ أَتْبَاعَ الْبَهِیمَهِ- رَغَا فَأَجَبْتُمْ وَ عُقِرَ فَهَرَبْتُمْ- أَخْلَاقُکُمْ دِقَاقٌ وَ عَهْدُکُمْ شِقَاقٌ- وَ دِینُکُمْ نِفَاقٌ وَ مَاؤُکُمْ زُعَاقٌ- وَ الْمُقِیمُ بَیْنَ أَظْهُرِکُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ- وَ الشَّاخِصُ عَنْکُمْ مُتَدَارَکٌ بِرَحْمَهٍ مِنْ رَبِّهِ- کَأَنِّی بِمَسْجِدِکُمْ کَجُؤْجُؤِ سَفِینَهٍ- قَدْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَیْهَا الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهَا وَ مِنْ تَحْتِهَا- وَ غَرِقَ مَنْ فِی ضِمْنِهَا وَ فِی رِوَایَهٍ وَ ایْمُ اللَّهِ لَتَغْرَقَنَّ بَلْدَتُکُمْ- حَتَّى کَأَنِّی أَنْظُرُ إِلَى مَسْجِدِهَا کَجُؤْجُؤِ سَفِینَهٍ- أَوْ نَعَامَهٍ جَاثِمَهٍ وَ فِی رِوَایَهٍ کَجُؤْجُؤِ طَیْرٍ فِی لُجَّهِ بَحْرٍ-

کأنّی أنظر إلى قریتکم هذه و قد طبّقها الماء حتّى ما یرى منها إلّا شرف المسجد کأنّه جؤجؤ طیر فی لجّه بحر فقام إلیه الأحنف بن قیس فقال: یا أمیر المؤمنین متى ذاک فقال إذا صارت أجمتکم قصورا، و اعلم أنّ بعد هذا الفصل من الخطبه فصول لا تعلّق لها بهذا الموضع و ربّما تعلّقت بفصول أوردها السیّد بعد هذا الفصل و سنذکرها معها إنشاء اللّه.

اللغه

أصل البصره الحجاره البیض الرخوه، و صارت علما للبلده لوجدان تلک الحجاره بها. قیل إنّها بالمربد کثیره، و ائتفکت البلده بأهلها انقلبت بهم، و المؤتفکه من الأسماء القدیمه للبصره کما سنذکره فی تمام هذه الخطبه، و الرغا صوت الإبل خاصّه، و العقر الجرح، و الدّق من کلّ شی‏ء حقیره و صغیره، و الشقاق الخلاف و الافتراق، و النفاق الخروج من الإیمان بالقلب و أصله أنّ الیربوع یرقق موضعا من الأرض من داخل جحره فإذا اوتى من قبل بابه و هو القاصعاء ضرب ذلک الموضع برأسه فاتفق أی خرج، و یسمّى ذلک النافقاء فاشتقّ لفظ النفاق منه و الرغاق المالح، و طبّقها الماء أی عمّا و أتى على جمیعها و جؤجؤ السفینه صدرها و کذلک الطائر،

المعنى

و اعلم أنّه علیه السّلام ذکر فی معرض ذمّهم امورا نبّه فیها على وجوه ارتکابهم الزلل،

أوّلها کونهم أهل المؤتفکه ائتفکت أهلها ثلاثا و معلوم أنّه ائتفاک البلد بأهلها و خسفها بهم إنّما یکون لفسادهم و استحقاقهم بذلک عذاب اللّه، و قوله و على اللّه تمام الرابعه دعاء علیهم بایقاع الخسف بهم.

الثانی کونهم جند المرأه و أراد عایشه فإنّهم جعلوها عقد نظامهم، و لمّا کانت قول النساء و آراؤهنّ امورا مذمومه بین العرب و سائر العقلاء لضعف آرائهنّ و نقصان عقولهنّ کما قال الرسول صلى اللّه علیه و آله: إنّهنّ ناقصات العقول ناقصات الدین ناقصات الحظّ أمّا نقصان عقولهنّ فلأنّ شهاده ثنتین منهنّ بشهاده رجل واحد لتذکّر إحداهما الاخرى، و أمّا نقصان دینهنّ فلأنّ إحدیهنّ تقعد فی بیتها شطرد هرها أی فی أیّام حیضها لا تصوم و لا تصلّى، و أمّا نقصان حظّهنّ فلأنّ میراثهنّ على النصف من میراث الرجال، و کان مع ذلک مستشیرهنّ و بایعهنّ أضعف رأیا منهنّ کما هو شأن التابع بالنسبه إلى متبوعه لا جرم حسن توبیخه لهم بکونهم جندا و أعوانا.

الثالث کونهم اتباع البهیمه و أراد بالبهیمه الجمل الّذی کان تحت عایشه فإنّ حالهم شاهده باتّباعه مجیبین لرغائه و هاربین لعقره، و هو أشنع من الأوّل و أدخل فی الذمّ، و کنّى برغائه عن دعوتها لهم إلى القتال إذ قدمت‏ علیهم راکبه له.

الرابع دقّه أخلاقهم و أشار بها إلى کونهم على رذائل الأخلاق دون حاقّ الوسط، و لمّا کانت اصول الفضائل الخلقیّه کما علمت ثلاثه: الحکمه و العفّه و الشجاعه و کانوا على طرف الجهل بوجوه الأراء المصلحیّه و هو طرف التفریط من الحکمه العملیّه و على طرف الجبن و هو طرف التفریط من الشجاعه، و على طرف الفجور و هو طرف الإفراط من ملکه العفّه و العداله لا جرم صدق أنّهم على رذائل الأخلاق و دقاقها.

الخامس الشقاق فی العهود و النکث لها و مصداق ذلک نکثهم لعهده و خلافهم لبیعته و ذلک من الغدر الّذی هو رذیله بإزاء ملکه الوفاء.

السادس النفاق فی الدین، و لمّا کانوا خارجین على الإمام العادل محاربین له لا جرم کانوا خارجین عن الدین، و ربّما کان ذلک خطابا خاصّا لبعضهم إذا المنافق العرفی هو الخارج من الإسلام بقلبه المظهر له بلسانه فیکون ذلک خطابا لمن کان منهم بهذه الصفه.

السابع ما یتعلّق بذمّ بلدهم و هو کون مائهم مالحا و سبب ملوحته قربه من البحر و امتزاجه به، و دخول ذلک فی معرض ذمّهم ربّما یکون لسوء اختیارهم ذلک المکان و الإقامه به مع کون مائهم بهذه الحال المستلزمه لأمراض کثیره فی استعماله کسوء المزاج و البلاده و فساد الطحال و الحکّه و غیر ذلک ممّا یذکره الأطبّاء، و لأنّ ذلک من أسباب التنفیر عن المقام معهم و تکثیر سوادهم.

الثامن کونها أنتن البلاد تربه و ذلک لکثره رکوب الماء لها و تعفّنها به.

التاسع کونها أبعد البلاد عن السماء و سیجی‏ء بیانه.

العاشر کونها بها تسعه أعشار الشرّ و یحتمل أن یرید به المبالغه فی ذمّها دون الحصر و ذلک أنّه لمّا عدّد بها شرورا لا یکاد تجتمع فی غیرها حکم بأنّ فیها تسعه أعشار الشرّ مبالغه کنّى به عن معظم الشرّ، و یحتمل أن یرید بالشرّ مجموع الرذائل الخلقیّه المقابله لاصول الفضائل النفسانیّه الّتی هی العلم و الشجاعه و العفّه و السخاء و العدل و کلّ منها مقابل برذیلتین کما علمت فتلک عشر رذائل، و أشبه ما یخرج عنهم ما لا یناسب غرضه هاهنا ذمّهم به کالتبذیر أو نحوه و هذا الاحتمال و إن کان لطیفا إلّا أنّ فیه بعدا.

الحادی عشر کون المقیم بین أظهرهم مرتهنا بذنبه و ذلک أنّ المقیم بینهم لا بدّ و أن ینخرط فی سلکهم و یستعدّ لقبول مثل طباعهم و ینفعل عن رذائل أخلافهم و حینئذ یکون موثوقا بذنوبه.

الثانی عشر کون الشاخص عنهم متدارکا برحمه من ربّه و ذلک لإعانه اللّه له‏ بالخروج لیسلم من الذنوب الّتی یکتسبها المقیم بینهم و تلک رحمه من اللّه و أیّه رحمه، و کلّ ذلک فی معرض التنفیر عنهم، و المفهوم من الروایه الثانیه و هی قوله المحتبس فیها بذنبه و الخارج منها بعفو اللّه غیر ما ذکرناه إذ یفهم من قوله المحتبس فیها بذنبه أنّ احتباسه بینهم یجری مجرى العقوبه له بدنب سبق، منه و الخارج منها قد عفا اللّه عنه بخروجه، و قد راعى فی هاتین القرینتین السجع المتوازی و کذلک فی القرائن الأربع قبلهما. ثمّ أشار بعد ذلک إلى أنّ بلدتهم سیخربها الماء، و شبّه یقینه بذلک مشاهدته بنور بصیرته القدسیّه لمسجدهم مغمورا بالماء و قد طبّق أرضهم بمشاهدته الحسیّه فی الجلاء و الظهور. و قد حکى توقیف الرسول صلى اللّه علیه و آله على أحوالهم فی فصل آخر من هذه الخطبه و ذلک أنّه عقیب ذمّه لأهل البصره و جوابه للأحنف فی الفصل الّذی ذکرناه قال مادحا لهم یا أهل البصره إنّ اللّه لم یجعل لأحد من أمصار المسلمین خطّه شرف و لا کرم إلّا و قد جعل فیکم أفضل ذلک و زادکم من فضله بمنّه ما لیس لهم أنتم أقوم الناس قبله قبلتکم عن المقام حیث یقوم الإمام بمکّه، و قاریکم أقرء الناس، و زاهدکم أزهد الناس، و عابدکم أعبد الناس، و تاجرکم أتجر الناس و أصدقهم فی تجارته، و مصدّقکم أکرم الناس صدقه، و غنیّکم أشدّ الناس بدلا و تواضعا، و شریفکم أحسن الناس خلقا، و أنتم أکرم الناس جوارا و أقلّهم تکلّفا لما لا یعنیه و أحرصهم على الصلاه فی جماعه، ثمرتکم أکثر الثمار و أموالکم أکثر الأموال و صغارکم أکیس الأولاد و نساؤکم أقنع النساء و أحسنهنّ تبعّلا، سخّر لکم الماء یغدو علیکم و یروح صلاحا لمعاشکم و البحر سببا لکثره أموالکم فلو صبرتم و استقمتم لکانت شجره طوبى لکم مقیلا و ظلّا ظلیلا غیر أنّ حکم اللّه فیکم ماض و قضائه نافذ لا معقّب لحکمه و هو سریع الحساب یقول اللّه «وَ إِنْ مِنْ قَرْیَهٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِکُوها قَبْلَ یَوْمِ الْقِیامَهِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِیداً کانَ ذلِکَ فِی الْکِتابِ مَسْطُوراً»«»

و اقسم لکم یا أهل البصره ما الّذی ابتدأتکم به من التوبیخ إلّا تذکیرا و موعظه لما بعد لکیلا تسرعوا إلى الوثوب فی مثل الّذی و ثبتم و قد قال اللّه تعالى لنبیّه صلى اللّه علیه و آله «وَ ذَکِّرْ فَإِنَّ الذِّکْرى‏ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِینَ»«» و لا الّذی ذکرت فیکم من المدح و النظریه بعد التذکیر و الموعظه رهبه منّی لکم و لا رغبه فی شی‏ء ممّا قبلکم فإنّی لا ارید المقام بین أظهرکم إنشاء اللّه لامور تحضرنی قد یلزمنی القیام بها فیما بینی و بین اللّه لا عذر لی فی ترکها و لا علم لکم بشی‏ء منها حتّى بقع ممّا ارید أن أخوضها مقبلا و مدبرا فمن أراد أن یأخذ بنصیبه منها فلیفعل فلعمری إنّه للجهاد الصافی صفّاه لنا کتاب اللّه، و لا الّذی أردت به من ذکر بلادکم موجده منّی علیکم لما شافهتمونی غیر أنّ رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله قال لی یوما و لیس معه غیری: یا علیّ إنّ جبرئیل الروح الأمین حملنی على منکبه الأیمن حتّى أرانی الأرض و من علیها و أعطانی أقالیدها و علّمنی ما فیها و ما قد کان على ظهیرها و ما یکون إلى یوم القیامه و لم یکبّر ذلک علیّ کما لم یکبّر على أبی آدم علّمه الأسماء و لم یعلّمه الملائکه المقرّبون و إنّی رأیت بقعه على شاطى‏ء البحر تسمّى البصره فإذن هی أبعد الأرض من السماء و أقربها من الماء و أنّها لأسرع الأرض خرابا و أخبثها ترابا و أشدّها عذابا، و لقد خسف بها فی القرون الخالیه مرارا و لیأتین علیها زمان، و إنّ لکم یا أهل البصره و ما حولکم من القرى من الماء لیوما عظیما بلاؤه، و إنّی لأعرف موضع منفجره من قریتکم هذه ثمّ امور قبل ذلک تدهمکم عظیمه أخفیت عنکم و علمناها فمن خرج عنها عند دنوّ غرقها فبرحمه من اللّه سبقت له و من بقى فیها غیر مرابط بها فبذنبه «و ما اللّه بظلّام للعبید»، و أمّا تشبیه ما یخرج من الماء من شرفات المسجد بصدر السفینه و فی الروایه الاخرى بالنعامه الجاثمه و فی الروایه الثالثه بالطائر فی لجّه البحر فتشبیهات ظاهره، و أمّا وقوع ذلک الغرق المخبر فالمنقول أنّها غرقت مرّه فی أیّام القادر باللّه، و مرّه فی أیّام القائم بأمر اللّه غرقت بأجمعها و غرق من فی ضمنها و خربت مع دورها و لم یبق منها إلّا علوّ مسجدها الجامع حسب ما أخبر به علیه السّلام و کان غرقها من قبل بحر فارس و من ناحیه الجبل المعروف بجبل الشام، فکان ذلک مصداق کلامه علیه السّلام، و فی ذلک نظر و ذلک لأنّه أشار إلى أنّ ذلک الماء ینفجر من أرضهم بقوله: و إنّی لأعرف موضع منفجره من قریتکم هذه، و ظاهر ذلک یقتضی أنّه لا یکون من ناحیه اخرى و اللّه أعلم.

القسم الثانی

أَرْضُکُمْ قَرِیبَهٌ مِنَ الْمَاءِ بَعِیدَهٌ مِنَ السَّمَاءِ- خَفَّتْ عُقُولُکُمْ وَ سَفِهَتْ حُلُومُکُمْ- فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلٍ وَ أُکْلَهٌ لِآکِلٍ وَ فَرِیسَهٌ لِصَائِلٍ

اللغه

أقول: السفه رذیله تقابل الحلم و تعود إلى الطیش و عدم الثبات، و الاکله اسم للمأکول،

المعنى

و قد علمت أنّ قوله أرضکم قریبه من الماء بعیده من السماء ممّا حکاه عن رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله فی الفصل المتقدّم أمّا قرب أرضهم من الماء فإشاره إلى أنّها موضع‏ها بط مستقل من الأرض و قریب من البحر فهو بصدد أن یعلوها بملاقاه دجله و ذلک مشاهد فی دخول الماء حدائقهم و سقیه بساتینهم فی کلّ یوم مرّه أو مرّتین، أمّا کونها بعیده من السماء فبحسب استفالها عن غیرها من الأرض، و قیل إنّ من أبعد موضع فی الأرض عن السماء الابلّه، و أنّ ذلک مما دلّت علیه الأرصاد و برهن علیه أصحاب علم الهیئه، و قال بعضهم: إنّ کون ذلک فی معرض الذّم یصرفه عن مظاهره و إنّما الإشاره إلى أنّهم لمّا کانوا بالأوصاف المذمومه الّتی عددها فیهم کانوا بعداء عن نزول الرحمه علیهم من سماء الجود الإلهیّ مستعدّین لنزول العذاب، و یصدق فی العرف أن یقال فلان بعید من السماء إذا کان کما ذکرناه، قوله خفّت عقولکم إشاره إلى قلّه استعدادهم لدرک وجوه المصالح و ضعف عقولهم عن تدبیر أحوالهم و تسرّعهم إلى مالا ینبغی لغفلتهم عمّا ینبغی و هو وصف لهم برذیله الغباوه، قوله و سفهت حلومکم إشاره إلى وصفهم برذیله السفه و الخفّه المقابله للحلم،

قوله فأنتم غرض لنابل و اکله لآکل و فریسه لصائل هذه الأوصاف الثلاثه لازمه عن خفّه عقولهم و سفه حلومهم و لذلک عقّبها بها لأنّ طمع القاصد لهم بأنواع الأذى إنّما ینشأ من العلم بقلّه عقلیّتهم لوجوه المصالح و سفههم فیقصدهم بحسن تدبیره، و الأوّل من هذه الأوصاف کنایه عن کونهم مقصدا لمن یرید أذاهم، و الثانی کنایه عن کونهم فی معرض أن یطمع فی أموالهم و نعمتهم و یأکلها من یقصد أکلها، و الثالث عن کونهم بصدد أن یفترسهم من یقصد قتلهم و إهلاکهم، و استعار لفظ الغرض و الاکله و الفریسه لهم، و وجوه المشابهه فیها ظاهره. و قد راعى فی هذه القرائن السجع ففی الاولیین السجع المطرّف و فی الاخریین بعدهما و الثلاث السجع المتوازی.

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۲۹۰

بازدیدها: ۱۵

خطبه۱۲شرح ابن میثم بحرانی

و من کلام له علیه السّلام

لما أظفره اللّه بأصحاب الجمل، و قد قال له بعض أصحابه: وددت أن أخى فلانا کان شاهدنا لیرى ما نصرک اللّه به على أعدائک فَقَالَ لَهُ ع

أَ هَوَى أَخِیکَ مَعَنَا فَقَالَ نَعَمْ- قَالَ فَقَدْ شَهِدَنَا- وَ لَقَدْ شَهِدَنَا فِی عَسْکَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِی أَصْلَابِ الرِّجَالِ- وَ أَرْحَامِ النِّسَاءِ- سَیَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ وَ یَقْوَى بِهِمُ الْإِیمَانُ ب‏ئ

المعنى

ب‏ئ‏أقول: أهوى أخیک معنا أی محبّته و میله. قوله فقد شهدنا. حکم بالحضور بالقوّه أو بحضور نفسه و همّته على تقدیر محبّته للحضور و کم إنسان یحضر بحضور همّته و إن لم یحضر ببدنه کثیر نفع إمّا باستجلاب الرجال أو بتأثیر الهمّه فی تفریق أعداء اللّه کما تفعله همم أولیاء اللّه بحیث لا یحصل مثل ذلک النفع من أبدان کثیره حاضره و إن قویت و عظمت. قوله و لقد شهدنا فی عسکرنا هذا أقوام فی أصلاب الرجال و أرحام النساء. تأکید لحضور أخ القائل بالإشاره إلى من سیوجد من أنصار الحقّ الذابّین عنه و عباد اللّه الصالحین الشاهدین معه علیه السّلام أیضا، و الشهاده شهاده بالقوّه أی أنّهم موجودون فی أکمام الموادّ بالقوّه، و من کان فی قوّه أن یحضر من أنصار اللّه فهو بمنزله الحاضر الموجود بالفعل فی نصرته إذا وجد. قوله سیرعف بهم الزمان. استعار لفظ الرعاف و هو الدم الخارج من أنف الإنسان لوجودهم و فیه تشبیه للزمان بالإنسان و إنّما نسب وجودهم إلى الزمان لأنّه من الأسباب المعدّه لقوابل وجودهم، و نحوه قول الشاعر:
و ما رعف الزمان بمثل عمرو و لا تلد النساء له ضریبا

قوله و یقوى بهم الإیمان ظاهر. و باللّه التوفیق.

أقول: هذا الفصل مع فصول بعده من خطبه خطبها علیه السّلام بالبصره بعد ما فتحها روى أنّه لمّا فرغ من حرب أهل الجمل أمر منادیا ینادی فی أهل البصره أنّ الصلاه الجامعه لثلاثه أیّام من غد إنشاء اللّه و لا عذر لمن تخلّف إلّا من حجّه أو علّه فلا تجعلوا على أنفسکم سبیلا فلمّا کان فی الیوم الّذی اجتمعوا فیه خرج فصلّى فی الناس الغداه فی المسجد الجامع فلمّا قضى صلوته قام فأسند ظهره إلى حائط القبله عن یمین المصلّى فخطب الناس فحمد اللّه و أثنى علیه بما هو أهله و صلّى على النبیّ صلى اللّه علیه و آله و استغفر للمؤمنین و المؤمنات و المسلمین و المسلمات ثمّ قال یا أهل المؤتفکه ائتکفت بأهلها ثلاثا و على اللّه تمام الرابعه یا جند المرأه و أعوان البهیمه رغا فأجبتم و عقر فانهزمتم أخلاقکم دقاق و ماؤکم زعاق بلادکم أنتن بلاد اللّه تربه و أبعد من السماء، بها تسعه أعشار الشرّ، المحتبس فیها بذنبه، و الخارج منها بعفو اللّه

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۲۸۹

بازدیدها: ۲۱

خطبه۱۱شرح ابن میثم بحرانی

و من کلام له علیه السّلام لابنه محمد بن الحنفیه لما أعطاه الرایه یوم الجمل  

تَزُولُ الْجِبَالُ وَ لَا تَزُلْ- عَضَّ عَلَى نَاجِذِکَ أَعِرِ اللَّهَ جُمْجُمَتَکَ- تِدْ فِی الْأَرْضِ قَدَمَکَ- ارْمِ بِبَصَرِکَ أَقْصَى الْقَوْمِ وَ غُضَّ بَصَرَکَ- وَ اعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ب‏ئ‏

اللغه

أقول: الناجذ السن بین الناب و الضرس، و قال الجوهری: هو أقصى الأضراس، و قیل الأضراس کلّها نواجذ،

المعنى

و اعلم أنّه علیه السّلام أشار فی هذا الفصل إلى أنواع آداب الحرب و کیفیّه القتال، فنهاه أوّلا عن الزوال و أکّد علیه ذلک بقوله تزول الجبال و لا تزل، و الکلام فی صوره شرطیّه متّصله محرّفه تقدیرها لو زالت الجبال لا تزل و هو نهی عن الزوال مطلقا لأنّ النهى عنه على تقدیر زوال الجبال مستلزم للنهی عنه على تقدیر آخر بطریق الأولى إذ القصد به المبالغه فی النهی، ثمّ أردف ذلک بخمسه أوامر:

أحدها أن یعضّ على ناجذه و ذلک لاستلزامه أمرین: أحدهما ربط الجأش عن الفشل و الخوف، و الإنسان یشاهد ذلک فی حال البرد و الخوف الموجبین للرعده فإنّه إذ عضّ على أضراسه تسکن رعدته و یتمالک بدنه. الثانی أنّ الضرب مع ذلک فی الرأس لا یؤثّر کثیر ضرر کما قاله علیه السّلام فی مواضع اخر و عضوّ للنواجذ فإنّه أبنا للسیوف عن الهام، و کان ذلک لما فیه من جمع القوّه و التصلّب.

الثانی أن یعیر اللّه جمجمته و هی استعاره لطیفه و تشبیه لجمجمته بالآله التی تستعار للانتفاع بها ثمّ ترّد، فانتفاع دین اللّه و حزبه بمحمّد- رضى اللّه عنه- على هذا الوجه یشبه للانتفاع بالعاریه.

قال بعض الشارحین: و فی ذلک تنبیه لمحمّد- رضى اللّه عنه- على أنّه لا یقتل فی ذلک الحرب إذ ما اعیر اللّه لابد من رده بکمال السلامه، و فیه تثبیت لجأشه و ربط لقلبه- الثالث أن یلزم قدمه الأرض. و یجعلها کالوتد و ذلک لاستلزام أمرین: أحدهما ربط الجأش و استصحاب العزم على القتال. الثانی أنّ ذلک مظنّه الشجاعه و الصبر على المکاره فیکون من موجبات انفعال العدوّ و انقهاره. الرابع أن یرمى ببصره أقصى القوم و ذلک لیعلم على ما ذا یقدم و لینظر مخاتل المخاتل و مقاتل المقاتل. الخامس أن یغضّ بصره بعد مدّه و ذلک لکونه علامه السکینه و الثبات و عدم الطیش، و لأنّ مدّ النظر إلى بریق السیوف مظنّه الرهبه، و ربما خیف على البصر أیضا، و النظر المحمود فی الحرب أن یلحظ شزرا فعل الحنق المترصّد للفرصه کما قال علیه السّلام فی غیر هذا الموضع و لاحظوا الشزر. ثمّ لمّا نبّه بهذه الأوامر الخمسه أمره أن یعلم أنّ النصر من عند اللّه کما قال «وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِیزِ الْحَکِیمِ»«» لیتأکّد ثباته بثقته باللّه عنه ملاحظه قوله تعالى إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ یَنْصُرْکُمْ وَ یُثَبِّتْ أَقْدامَکُمْ»

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۲۸۸

بازدیدها: ۱۶

خطبه۱۰شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام

أَلَا وَ إِنَّ الشَّیْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَهُ- وَ اسْتَجْلَبَ خَیْلَهُ وَ رَجِلَهُ- وَ إِنَّ مَعِی لَبَصِیرَتِی مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِی وَ لَا لُبِّسَ عَلَیَّ- وَ ایْمُ اللَّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ- لَا یَصْدُرُونَ عَنْهُ وَ لَا یَعُودُونَ إِلَیْهِ ب‏ئ

أقول: هذا الفصل ملتقط ملفّق من خطبه له علیه السّلام لمّا بلغه أنّ طلحه و الزبیر خلعا بیعته و هو غیر منتظم، و قد أورد السیّد منها فصلا آخر و سنذکرها بتمامها إذا انتهینا إلیه إنشاء اللّه تعالى.

اللغه

الاستجلاب فی معنى الجمع، و البصیره العقل، و أفرطت الحوض افرطه بضم الهمزه ملأته و الماتح بالتاء المستقی، و ربّما یلتبس بالمائح و هو الّذی ینزل البئر فیملأ الدلو، و الفرق بینهما أنّ نقطتی الفوق للفوقانیّ، و الصدور الرجوع عن الماء و غیره و یقابله الورود و هو العود إلیه،

المعنى

و مدار هذا الفصل على ثلاثه امور:

أوّلها الذمّ لأصحاب الجمل و التنفیر عنهم، و الثانی التنبیه على فضیله نفسه، و الثالث الوعید لهم، و أشار إلى الأوّل بقوله الا و إنّ الشیطان قد جمع حزبه و استجلب خیله و رجله و أراد أنّ الباعث لهم و الجامع على مخالفه الحقّ إنّما هو الشیطان بوسوسه لهم و تزیینه الباطل فی قلوبهم، و قد عرفت کیفیّه وسوسته و إضلاله فکلّ من خالف الحقّ و نابذه فهو من حزب الشیطان و جنده خیلا و رجلا، و أمّا الثانی فأشار أوّلا إلى کمال عقله و تمام استعداده لاستجلابه الحقّ و استیضاحه بقوله و إنّ معی لبصیرتی ثمّ أکّد ذلک بالإشاره إلى عدم انخداع نفسه القدسیّه للشیطان‏ فیما یلبس به من الحقّ من الشبه الباطله على البصائر الضعیفه فیعمیها بذلک عن إدراکه و تمییزه من الباطل سواء کانت مخادعه الشیطان و تلبیسه بغیر واسطه، و هو المشار إلیه بقوله و ما لبّست على نفسی أی لا یلتبس على نفسى المطمئنّه ما یلقیه إلیها نفسی الأمّاره أو بواسطه و هو المشار إلیها بقوله و لا لبّس علیّ أی إنّ أحدا ممّن تبع إبلیس و تلقف عنه الشبه و صار فی قوّه أن یلبّس الحقّ صوره الباطل لا یمکنه أن یلبّس علىّ، و أمّا الثالث فأشار إلیه بقوله و أیم اللّه لا افرطنّ لهم حوضا أنا ماتحه إلى آخره، و استعار إفراط الحوض لجمعه الجند و تهیّئه أسباب الحرب، و کنّى بقوله أنا ماتحه أنّه هو المتولّی لذلک، و لمّا کانت الحرب قد یشبه بالبحر و بالماء الجمّ فیستعار لها أوصافه فیقال فلان خوّاص غمرات و فلان منغمس فی الحرب جاز أن یستعار هاهنا لفظ الحوض و ترشح تلک الاستعاره بالمتح و الفرط و الإصدار و الإیراد، و فی تخصیص نفسه بالمتح تأکید تهدید لعلمهم بداسه (ببأسه خ م) و شجاعته و قد حذف المضاف إلیه ماتح فی الحقیقه، و تقدیره أنّه ماتح ماؤه إذ الحوض لا یوصف بالمتح ثمّ أردف ذلک بوصف استعداد لهم بالشدّه و الصعوبه علیهم فکنّى بقوله لا یصدرون عنه عن أنّ الوارد منهم إلیه لا ینجو منه فهو بمنزله من یغرق منه فلا یصدر عنه و یقول و لا یعودون إلیه أی إنّ من نجا منهم لا یطمع فی الحرب مرّه اخرى فلا یردّون إلى ما أعدّ لهم مرّه ثانیه و أکّد ذلک الوعید بالقسم البارّ، و أصل أیم أیمن جمع یمین حذف النون تخفیفا کما حذفت فی لم یک، و قیل هو اسم برأسه وضع للقسم و تحقیقه فی مسائل النحو.

شرح‏نهج‏البلاغه(ابن‏میثم)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۲۸۷

بازدیدها: ۶

خطبه۹شرح ابن میثم بحرانی

و من کلام له علیه السّلام

وَ قَدْ أَرْعَدُوا وَ أَبْرَقُوا- وَ مَعَ هَذَیْنِ الْأَمْرَیْنِ الْفَشَلُ- وَ لَسْنَا نُرْعِدُ حَتَّى ب‏ئ‏نُوقِعَ وَ لَا نُسِیلُ حَتَّى نُمْطِرَ ب‏ئ

اللغه

ب‏ئ الفشل الجبن و الضعف،

المعنى

و الإشاره إلى طلحه و الزبیر و أتباعهما، و الکلام فی معرض الذّم، و استعار لفظ الإرعاد و الإبراق لوعیدهم و تهدیدهم له بالحرب. یقال أرعد الرجل و أبرق إذا تهدّد و توعّد.

قال الکمیت: أرعد و أبرق یا یزید فما و عیدک لی بضائر و وجه الاستعاره کون الوعید من الامور المزعجه کما أنّ الرعد و البرق کذلک. قوله و مع هذین الأمرین الفشل إشاره إلى وجه الرذیله و ذلک أنّ التهدید و التوعد قبل إیقاع الحرب و الضوضاء، و الجلبه أماره للجبن و العجز، و الصمت و السکون أماره الشجاعه کما أشار إلیه علیه السّلام فی تعلیم کیفیّه الحرب مخاطبا لأصحابه و أمیتوا أصواتکم فإنّه أطرد للفشل، و روى أنّ أبا طاهر الجبائیّ سمع جلبه عسکر المقتدر و هو فی ألف و خمسمائه فارس و المقتدر فی عشرین ألفا فقال لبعض أصحابه ما هذا الرجل قال: فشل. قال أجل و کانت الغلبه له فاستدلّ علیه السّلام بتلک الأماره على الفشل.

قوله و لسنا نرعد حتّى نوقع و لا نسیل حتّى نمطر. إشاره إلى نفی تلک الرذیله عن‏ نفسه و أصحابه و إثبات الفضیله لهم، و کما أنّ فضیله السحاب أن یقترن وقوع المطر منه برعده و برقه و إسالته بإمطاره کذلک أقواله مقرونه بأفعاله لا خلف فیها و إساله عذابه مقرونه بإمطاره و مفهوم ذلک أنّ خصمه یهدّده بالحرب من غیر قوّه نفس و لا إیقاع لها فأشبه ذلک الرعد من غیر إیقاع للمطر، و السیل من غیر مطر. فکأنّه قال: کما لا یجوز سیل بلا مطر فکذلک ما یوعّدونه و یهدّدون به من إیقاع الحرب بلا شجاعه و لا قوّه علیها، و فی ذلک شمیمه التحدّی.

شرح‏ نهج ‏البلاغه(ابن‏ میثم بحرانی)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۲۸۵

بازدیدها: ۷

خطبه۸شرح ابن میثم بحرانی

و من کلام له علیه السّلام یعنى به الزبیر فى حال اقتضت ذلک

یَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ بَایَعَ بِیَدِهِ وَ لَمْ یُبَایِعْ بِقَلْبِهِ- فَقَدْ أَقَرَّ بِالْبَیْعَهِ وَ ادَّعَى الْوَلِیجَهَ- فَلْیَأْتِ عَلَیْهَا بِأَمْرٍ یُعْرَفُ- وَ إِلَّا فَلْیَدْخُلْ فِیمَا خَرَجَ مِنْهُ

اللغه

أقول: الولیجه الدخیله فی الأمر،

المعنى

و هذا الفصل صوره مناظره له مع الزبیر و هو مشتمل على تقریر حجّه سابقه له علیه، و صوره نقض لتلک الحجّه من الزبیر، و صوره جواب له علیه السّلام عن ذلک، أمّا الحجّه فکأنّه علیه السّلام لمّا نکث الزبیر بیعته و خرج لقتاله احتجّ علیه بلزوم البیعه له أوّلا فکان جواب الزبیر ما حکاه عنه بقوله إنّه بایع بقلبه إشاره إلى‏ التوریه و التعریض فی العهود و الأیمان و نحوهما و هما من الزبیر أنّ ذلک أمر یقبله الشریعه فأجابه علیه السّلام بقیاس حذف کبراه کما علمت من قیاس الضمیر، و هو ما أشار إلیه بقوله فقد أقرّ بالبیعه و ادّعى الولیجه أی أفرّ بما هو مقبول و محکوم بلزومه له شرعا و ادّعى أنّه ادّخر فی باطنه ما یفسده من الولیجه فهذه صغرى القیاس، و تقدیر الکبرى و کلّ من فعل ذلک احتاج فی بیان دعواه إلى بیّنه تعرف صحّتها فینتج أنّه محتاج إلى بیّنه کذلک، و أشار إلى هذه النتیجه بقوله فلیأت علیها بأمر یعرف أی على دعواه الولیجه، و هیهات له ذلک إذ التوریه أمر باطن لا یمکن الاحتجاج و لا إقامه البرهان علیه، ثمّ أشار بقوله و إلّا فلیدخل فیما خرج منه أمر بالدخول فی طاعته و حکم بیعته الّتی خرج منها على تقدیر عدم قدرته على برهان دعواه. و باللّه التوفیق.

شرح‏ نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۲۸۴

بازدیدها: ۱۰

خطبه۷شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام

اتَّخَذُوا الشَّیْطَانَ لِأَمْرِهِمْ مِلَاکاً- وَ اتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاکاً- فَبَاضَ وَ فَرَّخَ فِی صُدُورِهِمْ- وَ دَبَّ وَ دَرَجَ فِی حُجُورِهِمْ- فَنَظَرَ بِأَعْیُنِهِمْ وَ نَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ-

فَرَکِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ وَ زَیَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ- فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِکَهُ الشَّیْطَانُ فِی سُلْطَانِهِ- ب‏ئ‏وَ نَطَقَ بِالْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِهِ

اللغه

أقول: ملاک الأمر ما یقوم به و منه القلب ملاک الجسد، و الأشراک یجوز أن یکون جمع شریک کشریف و أشراف، و یجوز أن یکون جمع شرک و هو حبائل الصید کحبل و أحبال، و الدبیب المشی الضعیف و المدرج أقوى منه، و الخطل من الفاسد من القول، و شرکه بفتح الشین و کسر الراء شارکه،

المعنى

و هذا الفصل من باب المنافره و هو ذمّ للمنابذین له و المخالفین له و المخالفین علیه فأشار أوّلا إلى انقیاد نفوسهم لشیاطینهم إلى حدّ جعلوها مدبّره لامور فیها قوام أحوالهم و عزلوا عقولهم عن تلک المرتبه فهم أولیاؤهم کما قال تعالى «إِنَّا جَعَلْنَا الشَّیاطِینَ أَوْلِیاءَ لِلَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ»«» ثمّ أردف ذلک بالإشاره إلى بعض لوازم تملیک الشیطان لأمورهم بقوله و اتّخذهم له أشراکا، و ذلک أنّه إذا ملک امورهم و کان قیامه بتدبیرها صرفهم کیف شاء، و استعمال الأشراک هاهنا على تقدیر کونها جمع شرک استعاره حسنه، فإنّه لمّا کانت فائده الشرک اصطیاد ما یراد صیده و کان هؤلاء القوم بحسب ملک الشیطان لآرائهم و تصرّف فیهم على حسب حکمه أسبابا لدعوه الخلق إلى مخالفه الحقّ و منابذه إمام الوقت و خلیفه اللّه فی أرضه أشبهوا الأشراک لاصطیادهم الخلق بألسنتهم و أموالهم و جذبهم إلى الباطل بالأسباب الباطله الّتی ألقاها إلیهم الشیطان و نطق بها على ألسنتهم فاستعار لهم لفظ الأشراک و أمّا على التقدیر الثانی فظاهر، ثمّ أردف ذلک ببیان ملازمته لهم فشبّهه بالطائر الّذی بنى عشّه فی قلوبهم و صدورهم، و استعار لفظ البیض و الأفراخ، و وجه المشابهه أنّ الطائر لمّا کان یلازم عشّه فیبیض و یفرخ فیه أشبهه الشیطان فی إقامته فی صدورهم و ملازمته لهم، کذلک قوله و دبّ و درج فی حجورهم استعاره کنّى بها أیضا عن تربیتهم للباطل و ملازما إبلیس و عدم مفارقته لهم و نشوه معهم کما یتربّى الولد فی حجر والدیه، و راعى فی هذا القرائن الأربع السجع ففی الاولیین السجع المسمّى مطرّفا و فی الأخیرین المسمّى‏ متوازیا، قوله فنظر بأعینهم و نطق بألسنتهم إشاره إلى وجود تصرّفه فی أجزاء أبدانهم بعد إلقائهم مقالید امورهم إلیه و عزل عقولهم عن التصرّف فیها بدون مشارکته و متابعته. قوله فرکب بهم الزلل و زیّن لهم الخطل. إشاره إلى ثمره متابعته و هی إصابه مقاصده منهم من الخروج عن أوامر اللّه فی الأفعال و هو المراد بارتکابه بهم الزلل، و فی الأقوال و هو المشار إلیه بتزیینه لهم الخطل. قوله فعل من قد شرکه الشیطان فی سلطانه و نطق بالباطل على لسانه. إشاره إلى أنّ الأفعال و الأقوال الصادره عنهم على خلاف أو امر اللّه إنّما تصدر عن مشارکه الشیطان و متابعته، و الضمیر فی سلطانه یعود إلى من قد شارکه الشیطان فی سلطانه الّذی جعله اللّه له على الأعمال و الأقوال، و انتصاب فعل على المصدر إمّا عن فعل محذوف تقدیره فعلوا ذلک فعل، أو عن قوله اتّخذوا لأنّه فی معنى فعلوا فهو مصدر له من غیر لفظه، و راعى فی هاتین القرینتین أیضا السجع المطرّ، و اللّه أعلم بالصواب،

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۲۸۳

بازدیدها: ۹

خطبه۶شرح ابن میثم بحرانی

و من کلام له علیه السّلام

لما أشیر علیه بأن لا یتبع طلحه و الزبیر و لا یرصد لهما القتال وَ اللَّهِ لَا أَکُونُ کَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اللَّدْمِ- حَتَّى یَصِلَ إِلَیْهَا طَالِبُهَا وَ یَخْتِلَهَا رَاصِدُهَا- وَ لَکِنِّی أَضْرِبُ بِالْمُقْبِلِ إِلَى الْحَقِّ الْمُدْبِرَ عَنْهُ- وَ بِالسَّامِعِ الْمُطِیعِ الْعَاصِیَ الْمُرِیبَ أَبَداً- حَتَّى یَأْتِیَ عَلَیَّ یَوْمِی- فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ مَدْفُوعاً عَنْ حَقِّی- مُسْتَأْثَراً عَلَیَّ مُنْذُ قَبَضَ اللَّهُ نَبِیَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَیْهِ وَ سَلَّمَ- حَتَّى یَوْمِ النَّاسِ ب‏ئ‏هَذَا

أقول: روى أبو عبید قال: أقبل أمیر المؤمنین علیه السّلام الطواف و قد عزم على اتّباع طلحه و الزبیر و قتالهما فأشار إلیه ابنه الحسن علیه السّلام أن لا یتبعهما و لا یرصد لهما القتال فقال فی جوابه هذا الکلام، و روى فی سبب نقضهما لبیعته أنّهما دخلا علیه بعد أن بایعاه بأیّام و قالا: قد علمت جفوه عثمان لنا و میله إلى بنی امیّه مدّه خلافته، و طلبا منه أن یولّیهما المصرین، الکوفه و البصره، فقال لهما حتّى أنظر ثمّ استشار عبد اللّه بن عبّاس فمنعه من ذلک فعاوداه فمنعهما فسخطا و فعلا ما فعلا،

اللغه

قال الأصمعی: اللدم بسکون الدال ضرب الحجر أو غیره على الأرض. و لیس بالقوىّ، و یحکى أنّ الضبع تستغفل فی حجرها بمثل ذلک فتسکن حتّى تصاد، و یحکى فی کیفیّه صیدها أنّهم یصنعون فی حجرها حجرا و یضربون بأیدیهم بابه فتحسب الحجر شیئا تصیده فتخرج فتصاد، و یقال إنّها من أحمق الحیوان و یبلغ من حمقها أن یدخل علیها فیقال هذه لیست امّ عامر أو یقال خامر امّ عامر فتسکن حتّى توثق رجلها بحبل معد لصیدها، و الختل الخدیعه، و استأثرت بالشی‏ء انفردت به،

المعنى

و أشار أوّلا إلى ردّما اشیر علیه به من تأخّر القتال، و مفهوم التشبیه أنّه لو تأخّر لکان ذلک سببا لتمکّن الخصم ممّا قصده فیکون هو فی ذلک شبیها بالضبع الّتی تنام و تسکن على طول حیله راصدها فأقسم علیه السّلام أنّه لا یکون کذلک أی لا یسکن على کثره الظلم و البغی و طول دفاعه عن حقّه ثمّ أردف ذلک بما هو الصواب عنده و هو المقاومه و القتال بمن أطاعه لمن عصاه فقال لکنّی أضرب بالمقبل إلى الحقّ وجه المدبر عنه و بالسامع المطیع وجه العاصی المریب أبدا، و راعى المقابله هاهنا فالعاصی فی مقابله المطیع و المریب فی مقابله السامع لأنّ المرتاب فی الحقّ مقابل للقابل له ثمّ فسّر الأبد بغایه عمره لأنّه الأبد الممکن له، و ذلک قوله حتّى یأتی علىّ یومی، و أشار بیومه إلى وقت ضروره الموت کنایه، ثمّ أردف ذلک بالتظلّم و الشکایه فی دفاعه عن هذا الأمر و الاستیثار علیه المحوج له إلى هذه المقاومات و الشکایات و أشار إلى مبدء ذلک الدفاع و منتهاه و أکّد ذلک بالقسم البارّ و الإشاره بالحقّ المدفوع عنه إلى أمر الخلافه و هی شکایه مؤکّده للشکایات السابقه، و باللّه التوفیق.

شرح‏ نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۲۸۲

بازدیدها: ۹

خطبه۵شرح ابن میثم بحرانی

و من کلام له علیه السّلام

لما قبض رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و سلم و خاطبه العباس و أبو سفیان ابن حرب فى أن یبایعا له بالخلافه

أَیُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاهِ- وَ عَرِّجُوا عَنْ طَرِیقِ الْمُنَافَرَهِ- وَضَعُوا تِیجَانَ الْمُفَاخَرَهِ- أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ- هَذَا مَاءٌ آجِنٌ وَ لُقْمَهٌ یَغَصُّ بِهَا آکِلُهَا- وَ مُجْتَنِی الثَّمَرَهِ لِغَیْرِ وَقْتِ إِینَاعِهَا- کَالزَّارِعِ بِغَیْرِ أَرْضِهِ. فَإِنْ أَقُلْ یَقُولُوا حَرَصَ عَلَى الْمُلْکِ- وَ إِنْ أَسْکُتْ یَقُولُوا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ- هَیْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَیَّا وَ الَّتِی- وَ اللَّهِ لَابْنُ أَبِی طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ- مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْیِ أُمِّهِ- بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَکْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمْ- اضْطِرَابَ الْأَرْشِیَهِ فِی الطَّوِیِّ الْبَعِیدَهِ

أقول: سبب هذا الکلام ما روى أنّه لمّا تمّ فی سقیفه بنی ساعده لأبی بکر أمر البیعه أراد أبو سفیان بن حرب أن یوقع الحرب بین المسلمین لیقتل بعضهم بعضا فیکون ذلک دمارا للدین فمضى إلى العبّاس، فقال له: یا أبا الفضل إنّ هؤلاء القوم قد ذهبوا بهذا الأمر من بنی هاشم و جعلوه فی بنی تیم و أنّه لیحکم فیناغدا هذا الفظّ الغلیظ من بنی عدی فقم بنا حتّى ندخل على علیّ و نبایعه بالخلافه و أنت عمّ رسول اللّه و أنا رجل مقبول القول فی قریش فإن دافعونا عن ذلک قاتلناهم و قتلناهم فأتیا أمیر المؤمنین علیه السّلام فقال له أبو سفیان: یا أبا الحسن لا تغافل عن هذا الأمر متى کنّا تبعا لتیم الأرذال، و کان علیه السّلام یعلم من حاله أنه لا یقول ذلک غضبا للدین بل للفساد الّذی رآه فی نفسه فأجابه علیه السّلام بهذا الکلام

اللغه

عرّجوا أی میلوا و انحرفوا، و الفلاح الفوز و النجاه، و الأجون تغیّر الماء و فساده، و غصّ باللقمه یغصّ بفتح الغین إذا وقفت فی حلقه فلم یسغها، و إیناع الثمره إدراکها، و اندمجت على کذا انطویت علیه و سترته فی باطنی، و باح بالشی‏ء أظهره، و الطوىّ البرء، و الرشا حبلها. قوله شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاه.

المعنى

شبّه علیه السّلام الفتنه بالبحر المتلاطم فلذلک استعار له لفظ الأمواج و کنّى بها عن حرکه الفتنه و قیامها، و وجه المشابهه ظاهر لاشتراک البحر و الفتنه عندهیا جهما فی کونهما سببا لهلاک الخائضین فیهما، و استعار بسفن النجاه لکلّ ما یکون وسیله إلى الخلاص من الفتنه من مهادنه أو حیله مخلّصه أو صبر، و وجه المشابهه کون کلّ منهما وسیله إلى السلامه إذ آحاد الطرق المذکوره طرق إلى السلامه من ثوران الفتنه و الهلاک فیها کما أنّ السفینه سبب للخلاص من أمواج البحر،

قوله و عرّجوا عن طریق المنافره أمر لهم بالعدول عن طریق المنافره إلى السکون و السلامه و ما یوجب سکون الفتنه، و کذلک قوله وضعوا تیجان المفاخره أمر بطریق آخر من طرق النجاه و هی ترک المفاخره، فإنّ المفاخره ممّا یهیّج الأضغان و تثیر الأحقاد و توجب قیام الفتنه، و لمّا کان أکبر ما ینتهی إلیه أرباب الدنیا من المفاخره هو لبس التیجان و کانت الاصول الشریفه و الأبوات الکریمه و القنیات السنه هی أسباب الافتخار الدنیویّ و منشاءه کانت المشابهه بینها و بین التیجان حاصله فاستعار علیه السّلام لفظها لها و أمرهم بوضعها.

قوله أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح. لمّا نهى علیه السّلام عن الفتنه و بیّن أنّ المفاخره و المنافره لیسا طریقین محمودین أردف ذلک بالإشاره إلى أنّه کیف ینبغی أن یکون حال المتصدّی لهذا الأمر، و کیف یکون طریق فوزه بمقاصده أو النجاه له، فحکم بالفوز لمن نهض بجناح، و استعار لفظ الجناح للأعوان و الأنصار، و وجه المشابهه ظاهر فإنّ الجناح لمّا کان محلّ القدره على الطیران و التصرّف و کانت الأعوان و الأنصار بهم القوه على النهوض إلى الحرب و الطیران فی میدانها لا جرم حصلت المشابهه فاستعیر لهم لفظ الجناح، و حکم بالنجاه للمستسلم عند عدم الجناح و کلاهما یشملهما اسم الفلاح، و فی هذا الکلام تنبیه على قلّه ناصره فی هذا الأمر. تقدیر الکلام أنّه لیس الطریق ما ذکرتم بل الصواب فیما یفعل ذو الرأی فی هذا الأمر أنّه إمّا أن یکون ذا جناح فینهض به فیفوز بمطلوبه أو لا یکون فیستسلم و ینقاد فینجو و یریح نفسه من تعب الطالب. قوله ماء آجن و لقمه یغصّ بها آکلها. تنبیه إلى أنّ المطالب الدنیویّه و إن عظمت فهی مشوبه بالکدر و التغیّر و النقص، و أشار إلى أمر الخلافه فی ذلک الوقت، و تشبّهها بالماء و اللقمه ظاهر إذ علیهما مدار الحیاه الدنیا، و أمر الخلافه أعظم أسباب الدنیا فتشابها فاستعار لفظهما لما یطلب منها و کنّى بهما عنه، و لمّا کان أجون الماء و الغصص باللقمه ینقضهما و یوجب نفار النفس عن قبولهما، و کانت المنافسه فی أمر الخلافه و التجاذب و المنافره بین المسلمین فیها و کونها فی معرض الزوال ممّا یوجب التنفیر عنها و تنقیصها و عدم الالتذاذ بها نبّه علیه السّلام بالأجون و الغصص باللقمه على تلک الامور، و کنّى بهما عنها لیسکن بذلک فوره من استنهضه فی هذا الأمر من بنی هاشم فکأنّه قال إنّها لقمه منغصّه و جرعه لا یسیغها شاربها.

قوله و مجتنی الثمره لغیر وقت إیناعها کالزارع بغیر أرضه. تنبیه على أنّ ذلک الوقت لیس وقت الطلب لهذا الأمر إما لعدم الناصر أو لغیر ذلک، و کنّى لمجتنی الثمره عن طالبها فاستلزم ذلک تشبیهها بالثمره أیضا لاشتراکهما فی کونهما محلّا للالتذاذ أو نحوه، ثمّ شبّه مجتنی الثمره لغیر وقتها بالزارع بغیر أرضه و وجه الشبه عدم الانتفاع فی الموضعین إذ کان الزارع بغیر أرضه فی محلّ أن یمنع من ذلک التصرّف فیبطل سعیه و لا ینتفع بزرعه فکذلک مجتنی الثمره لغیر وقتها لا ینتفع بها فکذلک طلبه للخلافه فی ذلک الوقت.

قوله فإن أقل یقولوا: حرص على الملک و إن أسکت یقولوا: جزع من الموت. شکایه من الألسنه و الأوهام الفاسده فی حقّه وردت فی معرض الکلام، و إشاره إلى أنّه سواء طلب الأمر و سکت عنه فلا بدّ من أن یقال فی حقّه و ینسب إلى أمر، ففی القیام و الطلب ینسب إلی الحرص و الاهتمام بأمر الدنیا، و فی السکوت ینسب إلى الذلّه و العجز و خوف الموت.

و أوهام الخلق و ألسنتهم لا تزال مولعه بأمثال ذلک بعضهم فی حقّ بعض فی المنافسات. قوله هیهات بعد اللتیّا و الّتی و اللّه لابن أبی طالب آنس بالموت من الطفل بثدی أمّه. ورد مورد التکذیب للأوهام الحاکمه فی سکوته بجزعه أی بعد ما یقولون، و اللتیّا و الّتی کنایتان عن الشدائد و المصائب العظیمه و الحقیره، و أصل المثل أنّ رجلا تزوّج امرأه قصیره صغیره سیّئه الخلق فقاسى منها شدائد فطلّقها و تزوّج طویله فقاسى منها أضعاف ما قاسى من الصغیره فطلّقها و قال بعد اللتیّا و الّتی لا أتزوّج أبدا، فصار ذلک مثلا للداهیه الکبیره و الصغیره، و تقدیر مراده بعد ملاقاه کبار الشدائد و صغارها انسب إلى الجزع من الموت.

بعد ما یقولون ثمّ أکّد تکذیبهم فی دعوى جزعه من الموت بالقسم البارّ أنّه آنس بالموت من الطفل بثدی امّه و ذلک أمر بیّن من حاله علیه السّلام إذ کان سیّد العارفین بعد رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و رئیس الأولیّاء، و قد عرفت أنّ محبّه الموت و الإنس به متمکّن من نفوس أولیاء اللّه لکونه وسیله لهم إلى لقاء أعظم محبوب و الوصول إلى أکمل مطلوب،و إنّما کان آنس به من الطفل بثدی امّه لأنّ محبّه الطفل للثدی و انسه به و میله إلیه طبیعیّ حیوانیّ فی معرض الزوال، و میله إلى لقاء ربّه و الوسیله إلیه میل عقلیّ باق فأین أحدهما من الآخر.

قوله بل اندمجت على مکنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشیه فی الطوىّ البعیده. إشاره إلى سبب جملیّ لتوقفه عن الطلب و القیام غیر ما نسبوه إلیه من الجزع و الخوف من الموت و هو العلم الّذی انطوى علیه فإنّ علمه بعواقب الامور و أدبارها و تطلّعه إلى نتائج الحرکات بعین بصیرته الّتی هی کمرآه صافیه حوذى بها صور الأشیاء فی المرآه العالیه فارتسمت فیها کما هی. ممّا یوجب توقّفه عمّا یعلم أنّ فیه فسادا، و تسرّعه إلى ما یعلم فیه مصلحه بخلاف الجاهل الّذی یقدم على عظائم الامور بقصر الرأی لا عن بصیره قادته إلى ذلک ثمّ نبّه على عظیم قدر العلم الّذی اندمج علیه بقوله لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشیه فی الطوىّ البعیده، و الجمله الشرطیّه فی موضع الجرّ صفه لعلم، و أشار باضطرابهم على ذلک التقدیر إلى تشتّت آرائهم عند أن یکشف لهم ما یکون من أمر الخلافه و إلى من ینتهی و إلى ما یؤول إلیه حال الناس إذ کان ذلک ممّا وقّفه علیه الرسول صلى اللّه علیه و آله و أعدّه لفهمه فإنّ کثیرا منهم فی ذلک الوقت کان نافرا عن عمر و آخرون عن عثمان فضلا عن معاویه، و منهم من کان یؤهّل نفسه للخلافه فی ذلک الوقت و یطلبها لنفسه و بعد عقدها لأبی بکر کان یرجوا أن یؤول إلیه بعده، و إذا کان الأمر کذلک فظاهر أنّه علیه السّلام لو باح لهم بما علمه من عاقبه هذا الأمر لم یکن لهم ذلک النظام الحاصل فی ذلک الوقت لیأس بعضهم من وصول هذا الأمر إلیه و خوف بعضهم من غلظه عمر و نفرتهم منه و نفار آخرین من بنی امیّه و ما یکون منهم، و شبّه اضطراب آرائهم على ذلک التقدیر باضطراب الأرشیه فی الطوىّ البعیده مبالغه، و هو تشبیه للمعقول بالمحسوس، و ذلک أنّ الطوىّ کلّما کانت أعمق کان اضطراب الحبل فیها أشدّ لطوله فکذلک حالهم حینئذ أی یکون لکم اضطراب قوىّ و اختلاف شدید، و قیل: أراد أنّ الّذی یمنعنی من المنافسه فی هذا الأمر و القتال علیه شغلی بما انطویت علیه من العلم بأحوال الآخره و ما شاهدته من نعیمها و بؤسها ممّا لو کشفته لاضطربتم اضطراب الأرشیه فی الطوىّ البعیده خوفا من اللّه و وجلا من عتابه و شوقا إلى ثوابه و لذهلتم عمّا أنتم فیه من المنافسه فی أمر الدنیا، و هذا الوجه محتمل الإراده من هذا الکلام، و لعلّ فی تمام هذا الکلام لو وجد ما یوضح المقصود منه و لم أقف علیه.

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۲۸۰-۲۷۰

بازدیدها: ۱۰

خطبه۴شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السلام  

بِنَا اهْتَدَیْتُمْ فِی الظَّلْمَاءِ وَ تَسَنَّمْتُمُ ذُرْوَهَ الْعَلْیَاءَ- وَ بِنَا انْفَجَرْتُمْ عَنِ السِّرَارِ- وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ یَفْقَهِ الْوَاعِیَهَ- وَ کَیْفَ یُرَاعِی النَّبْأَهَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّیْحَهُ- رُبِطَ جَنَانٌ لَمْ یُفَارِقْهُ الْخَفَقَانُ- مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِکُمْ عَوَاقِبَ الْغَدْرِ- وَ أَتَوَسَّمُکُمْ بِحِلْیَهِ الْمُغْتَرِّینَ- سَتَرَنِی عَنْکُمْ جِلْبَابُ الدِّینِ- وَ بَصَّرَنِیکُمْ صِدْقُ النِّیَّهِ- أَقَمْتُ لَکُمْ عَلَى سَنَنِ الْحَقِّ فِی جَوَادِّ الْمَضَلَّهِ- حَیْثُ تَلْتَقُونَ وَ لَا دَلِیلَ- وَ تَحْتَفِرُونَ وَ لَا تُمِیهُونَ- الْیَوْمَ أُنْطِقُ لَکُمُ الْعَجْمَاءَ ذَاتَ الْبَیَانِ- عَزَبَ رَأْیُ امْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّی- مَا شَکَکْتُ فِی الْحَقِّ مُذْ أُرِیتُهُ- لَمْ یُوجِسْ مُوسَى ع خِیفَهً عَلَى نَفْسِهِ- أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَهِ الْجُهَّالِ وَ دُوَلِ الضَّلَالِ- الْیَوْمَ تَوَاقَفْنَا عَلَى سَبِیلِ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ- مَنْ وَثِقَ بِمَاءٍ لَمْ یَظْمَأْ أقول: روی أنّ هذه الخطبه خطب بها أمیر المؤمنین علیه السّلام بعد قتل طلحه و الزبیر

اللغه

تسنّمتم أی رکبتم سنامها، و سنام کلّ شی‏ء أعلاه، و السرار اللیله أو اللیلتان یکون فی آخر الشهر یستتر فیها القمر و یخفى، و الوقر الثقل فی السمع، و فقهت الأمر فهمته، و الواعیه الصارخه، و النبأ الصوت الخفیّ، و السمه العلامه، و سنن الحقّ وجهه و طریقه، و ماهت البئر خرج ماؤها، و غرب أى غاب، و أوجس هجس و أهسّ، و الظماء العطش،

المعنى

و اعلم أنّ هذه الخطبه من أفصح کلامه علیه السّلام و هی مع اشتمالها على کثره المقاصد الواعظه المحرّکه للنفس فی غایه و جازه اللفظ، ثمّ من عجیب فصاحتها و بلاغتها أنّ کلّ کلمه منها تصلح لأن تفید على سبیل الاستقلال و هی على ما نذکره من حسن النظم و ترکیب بعضها مع بعض. قوله بنا اهتدیتم فی الظلماء الضمیر المجرور راجع إلى آل الرسول صلى اللّه علیه و آله و الخطاب لحاضری الوقت من قریش المخالفین له مع طلحه و الزبیر و إن صدق فی حقّ غیرهم، و المراد أنّا سبب هدایتکم بأنوار الدین و ما أنزل اللّه من الکتاب و الحکمه هدى للناس و بیّنات من الهدى و الفرقان حیث کنتم فی ظلمات الجهل و تلک الهدایه هی الدعوه إلى اللّه و تعلیم الخلق کیفیّه السلوک إلى حضره قدسه. و قوله تسنمّتم العلیاء. أی بتلک الهدایه و شرف الإسلام علا قدرکم و شرّف ذکرکم، و لمّا استعار وصف السنام للعلیاء ملاحظه لشبهها بالناقه رشّح تلک الاستعاره بذکر التسنّم و هی رکوب السنام و کنّى به عن علوّهم.
قوله و بنا انفجرتم عن السرار. استعار لفظ السرار لما کانوا فیه من لیل الجهل فی الجاهلیه و خمول الذکر، و لفظ الانفجار عنه لخروجهم من ذلک إلى نور الإسلام و اشتهارهم فی الناس و ذلک لتشبیهم بالفجر الطالع من ظلمه السرار فی الضیاء و الاشتهار، قوله وقر سمع لم یفقه الواعیه کالتفات إلى الدعاء بالوقر على سمع لا یفقه صاحبه بواسطته علما و لا یستفید من السماع به مقاصد الکتب الإلهیّه و کلام الأنبیاء علیهم السّلام و الدعاه إلى اللّه، و حقّ لذلک السمع أن یکون أصمّ إذ کانت الفائده منه المقصوده إلى الحکمه الإلهیّه اکتساب النفس من جهته ما یکون سببا لکمالها و قوّتها على الوصول إلى جناب اللّه و ساحل عزّته، فإذا کانت النفس معرضه عمّا یحصل من جهته من الفائده و ربّما کانت مع ذلک متلقّیه منه ما یؤدّیه من الشرور الجاذبه لها إلى الجهه السافله فحقیق به أن یکون موقورا، و من روى وقر على ما لم یسمّ فاعله فالمراد و قره اللّه و هو کلام على سبیل التمثیل أورده فی معرض التوبیخ لهم و التبکیت بالإعراض عن أوامر اللّه و طاعته، و کنّى بالواعیه عن نفسه إذ صاح فیهم بالموعظه الحسنه و الحثّ على الألفه و أن لا یشقوا عصى الإسلام فلم یقلبوا، و وجه نظام هذه الکلمه مع ما قبلها أنّه لمّا أشار أوّلا إلى وجه شرفه علیهم و أنّه ممّن اکتسب عنه الشرف و الفضیله و کان ذلک فی مقابله نفارهم و استکبارهم عن طاعته أردف ذلک بهذه الکلمه المستلزمه للدعاء علیهم کیف لم یفقهوا بیانه للوجوه الموجبه لاتّباعه و یقبلوه بعد أن سمعوه، و هذا کما یقول أحد العلماء لبعض تلامیذه المعاند له المدّعی لمثله فضیلته: إنّک بی اهتدیت من الجهل و علا قدرک فی الناس و أنا سبب لشرفک أفتکبّر علىّ وقر سمعک لم لا تفقه قولی و تقبّله، و قوله کیف یراعی النبأه من أصمّته.

الصیحه استعار لفظ النبأه لدعائه لهم و ندائه إلى سبیل الحقّ و الصیحه لخطاب اللّه و رسوله و هی استعاره على سبیل الکنایه عن ضعف دعائه بالنسبه إلى قوّه دعاء اللّه و رسوله لهم، و تقریر ذلک أنّ الصوت الخفیّ لمّا کان لا یسمع عند الصوت القویّ إذ من شأن الحواس أن لا یدرک الأضعف مع وجود الأقوى المماثل فی الکیفیّه لاشتغالها به و کان کلامه علیه السّلام أضعف فی جذب الخلق و فی قبولهم له من کلام اللّه و کلام رسوله و کلامهما مجرى الصوت القویّ فی حقّهم، و کلامه مجرى الصوت الخفیّ بالنسبه إلیه، و إسناد الإصمام إلى الصیحه من ترشیح الاستعاره و کنّى به عن بلوغ تکرار کلام اللّه على أسماعهم إلى حدّ أنّها محلّه و ملّت سماعه بحیث لا تسمع بعد ما هو فی معناه خصوصا ما هو أضعف کما لا یسمع الصوت الخفیّ من أصمّته الصیحه، و قد وردت هذه الکلمه مورد الاعتذار لنفسه فی عدم فائده وعظه لهم، و الاعتذار لهم فی ذلک أیضا على سبیل التهکّم و الذّم، وجه نظامها مع ما قبلها أنّه لمّا کان تقدیر الکلمه الاولى و قرت أسماعکم کیف لا تقبلون قولی التفت عنه و قال کیف یسمع قولى من لم یسمع کلام اللّه و رسوله على کثره تکراره على أسماعهم و قوّه اعتقادهم وجوب قبوله، و کیف یؤاخذون بسماعه و قد أصمّهم نداء اللّه.

قوله ربط جنان لم یفارقه الخفقان الخفقان دعاء للقلوب الخائفه الوجله الّتی لا تزال تخفق من خشیه اللّه و الإشفاق من عذابه بالثبات و السکینه و الاطمینان، و التقیّه ربط جنان نفسه، و من روى بضمّ الراء على ما لم یسمّ فاعله فالتقدیر رابط اللّه جنانا کذلک، و هو جذب لهم إلى درجه الخائفین و تنبیه على ملاحظه نواهی اللّه فیفیئوا على طاعته، و وجه اتّصاله بما قبله أنّ ذکر الشریف و صاحب الفضیله فی معرض التوبیخ لمن یراد منه أن یسلک مسلکه و یکون بصفاته من أعظم الجواذب له إلى التشبّه به، و من أحسن الاستدراجات له فکأنّه قال و کیف یلتفت إلى قولی من لا یلتفت إلى کلام اللّه لله درّ الخائفین من اللّه المراعین لأوامره الوجلین من وعیده ما ضرّکم لو تشبّهتم فرجعتم إلى الحقّ و قمتم به قیام رجل واحد.

قوله ما زلت أنتظر بکم عواقب الغدر و أتوسّمکم بحلیه المغترّین. إشاره إلى أنّه علیه السّلام کان یعلم عاقبه أمرهم إمّا باطّلاع الرسول صلى اللّه علیه و آله على أنّهم بعد بیعتهم له یغدرون به، أو لأنّه کان یلوح له من حرکاتهم و أحوالهم بحسب فراسته الصائبه فیهم کما أشار إلیه بقوله و أتوسّمکم بحلیه المغترّین، و ذلک لأنّه فهم أنّهم من أهل الغرّه و قبول الباطل عن أدنى شبهه بما لاح له من صفاتهم الدالّه على ذلک، و کان علمه بذلک منهم مستلزما لعلمه بغدرهم بعهده و نقضهم لبیعته فکان ینتظر ذلک منهم. قوله سترنی عنکم جلباب الدین. وارد مورد الوعید للقوم فی قتالهم و مخالفتهم لأمره و المعنى أنّ الدین حال بینی و بینکم و سترنی عن أعین بصائرکم أن تعرفونی بما أقوی علیه من العنف بکم و الغلظه علیکم و سائر وجوه تقویمکم و ردعکم عن الباطل وراء ما وفّقنی علیه الدین من الرفق و الشفقّه و شهب ذیل العفو عن الجرائم فکان الدین غطاء حال بینهم و بین معرفته فاستعار له لفظ الجلباب، و روى سترکم عنّی أی عصم الإسلام منّی دمائکم و اتّباع مدبرکم و أن أجهز على جریحکم و غیر ذلک ممّا یفعل من الأحکام فی حقّ الکفّار و قوله و بصّرنیکم صدق النیّه أراد بصدق النیّه إخلاصه للّه تعالى و صفاء مرآه نفسه و أنّه بحسب ذلک افیض على بصر بصیرته نور معرفه أحوالهم و ما تؤول إلیه عاقبه أمرهم کما قال النبیّ صلى اللّه علیه و آله: المؤمن ینظر بنور اللّه،

و قوله أقمت لکم على سنن الحقّ فی جوادّ المضلّه تنبیه لهم على وجوب اقتفاء أثره و الرجوع إلى لزوم أشعّه أنواره فی سلوک سبیل اللّه و إعلام لهم على سواء السبیل الحقّ و فی الطریق الّتی هی مزالّ الأقدام لیردّهم عنها، و لنبیّن ذلک فی المثل المشهور عن رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله روى أنّه قال: ضرب اللّه مثلا صراطا مستقیما و على جنبتی الصراط سور فیه أبواب مفتّحه و على تلک الأبواب ستور مرخاه و على رأس الصراط داع یقول: ادخلوا الصراط و لا تعرجوا، قال: فالصراط هو الإسلام و الستور حدود اللّه و الأبواب المفتّحه محارم اللّه و ذلک الداعی هو القرآن.
فنقول: لمّا کان علیّ علیه السّلام هو الواقف على أسرار الکتاب و الملیّ بجوامع علمه و حکمته و المطّلع على اصول الدین‏ و فروعه کان هو الناطق بالکتاب و الداعی به الواقف على رأس سبیل اللّه و المقیم علیها، و لمّا کان سبیل اللّه و صراطه المستقیم فی غایه الوضوح و البیان له و کان مستبینا مالها من الحدود و المقدّمات مستجلبا لمزالّ الأقدام فیها و ما ینشأ علیها من الشکوک و الشبهات کان بحسب قوّته المدبره لهذا العالم بعد رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله هو الواقف على تلک الأبواب المفتّحه الّتی هی موارد الهلاک و أبواب جهنّم و جوادّ المضلّه و السائر لها بحدود اللّه و بیان نواهیه و التذکیر بعظیم وعیده و القائد لأذهان السالکین للصراط عنها، و ذلک حیث یلتفت أذهانهم فی ظلمات الجهل فلا تبصر دلیلا هناک سواه و یطلبون ماء الحیاه بالبحث و الفحص من أودیه القلوب فلا یجدون بها ماء إلّا معه، و استعار لفظ الاحتفار للبحث من مظانّ العلم و لفظ الماء للعلم کما سبق بیان وجه المشابهه.

قوله الیوم انطق لکم العجماء ذات البیان. کنّى بالعجماء ذات البیان على الحال الّتی یشاهدونها من العبر الواضحه و المثلات الّتی حلّت بقوم فسقوا أمر ربّهم و عمّا هو واضح من کمال فضله علیه السّلام بالنسبه إلیهم و ما ینبغی لهم أن یعتبرون من حال الدین، و مقتضى أوامر اللّه الّتی یحثّهم على اتّباعها، فإنّ کلّ هذه الأحوال امور لانطق لها مقالی فشبّهها لذلک بالعجماء من الحیوان، و استعار لها لفظها و وصفها بکونها ذات البیان لأنّ لسانها الحال مخبر بمثل مقاله علیه السّلام ناطق بوجوب اتّباعه شاهد لهم، و دلیل على ما ینبغی أن یفعلوه فی کلّ باب و ذلک هو البیان فکأنّه علیه السّلام انطق العجماء إذ عبّر هو بلسان مقاله عنها ما کانت تقتضیه، و یشاهده من نظر إلیها بعین بصیرته و هو کقولهم سل الأرض من شقّ أنهارک و أخرج ثمارک فإن لم تجبک لسانا إجابتک اعتبارا، و کقولهم قال الحائط للوتد، لم تشقّنی قال سل من یدقّنی، و قال بعضهم العجماء صفه لمحذوف تقدیره الکلمات العجماء و أراد بها ما ذکر فی هذه الخطبه من الرموز و شبّهها بالحیوان إذ لا نطق لها فی الحقیقه و مع ذلک یستفید الناظر فیها أعظم الفوائد فهی ذات بیان عند اعتبارها.

قوله غرب رأى امرى‏ء تخلّف عنّی. إشاره إلى ذمّ من تخلّف عنه و حکم علیه بالسفه و عدم إصابه الرأی حال تخلّفه عنه و ذلک أنّ المتخلّف لمّا فکّر فی أیّ الامور أنفع له إن یکون متابعیه أو المتخلّفین عنه ثمّ رأى أنّ التخلّف عنه أوفق له کان ذلک أسوء الآراء و أقبحها، فهو فی الحقیقه کمن أقدم على ذلک بغیر رأی یحضره أو لأنّ الرأى الحقّ کان غاربا عنه، و هو ذم فی معرض التوبیخ للقوم على طریقه قولهم إیّاک أعنی و اسمعی یا جاره.

قوله ما شککت فی الحقّ مذ اریته. بیان لبعض أسباب وجوب اتّباعه و عدم التخلّف عنه، و اعلم أنّ التمدح بعد الشکّ ممّا أراه اللّه من الحقّ و ما أفاضه على نفسه القدسیّه من الکمال مستلزم للإخبار بکمال قوّته على استثبات الحقّ الّذی رآه و شدّه جلائه له بحیث لا یعرض له شبهه فیه، و الإمامیّه تستدلّ بذلک على وجوب عصمته و طهارته عن الأرجاس الّتی منشأوها ضعف الیقین.

قوله لم یوجس موسى خیفه على نفسه أشفق من غلبه الجهّال و دول الضلّال. أشفق أفعل التفضیل منصوب على الصفه لخیفه لأنّ الإشفاق خوف، و التقدیر و لم یوجس موسى إشفاقا على نفسه أشدّ من غلبه الجهّال، و المقصود التنبیه على أنّ الخوف الّذی یخافه علیه السّلام منهم لیس على مجرّد نفسه بل کان أشدّ خوفه من غلبه أهل الجهل على الدین و فتنه الخلق بهم و قیام دول الضلّال، فتعمى طریق الهدى و تنسدّ مسالک الحقّ کما خاف موسى علیه السّلام من غلبه جهّال السحره حیث ألقوا حبالهم و عصیّهم «و قالوا بعزّه فرعون إنّا لنحن الغالبون» و قیل إنّ أشفق فعل ماض و المعنى أنّ خوف موسى علیه السّلام من السحره لم یکن على نفسه، و إنّما خاف من غلبه الجهّال فکأنّه قال لکن أشفق و إنّما الشفق، و دول الضلّال کدوله فرعون و أتباعه الضالّین عن سبیل اللّه،

و قوله الیوم توافقنا على سبیل الحقّ و الباطل الموافقه مفاعله من الطرفین و الخطاب لمقابلیه فی القتال، و المراد أنّی واقف على سبیل الحقّ و أنتم واقفون على سبیل الباطل داعون إلیه و هو تنفیر لهم عمّا هم علیه إلى ما هو علیه. قوله من وثق بماء لم یظمأ. مثل نبّه به على وجوب الثقه بما عنده أی إنّکم إن سکنتم إلى قولی و وثقتم به کنتم أقرب إلى الیقین و الهدى و أبعد عن الضلال و الردى کما أنّ الواثق بالماء فی أداوته آمن من العطش و خوف الهلاک و بعید عنهما بخلاف من لم یثق بذلک و کنّى بالماء عمّا اشتمل علیه من العلم بکیفیّه الهدایه إلى اللّه فإنّه الماء الّذی لا ظمأ معه،

شرح‏ نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۲۷۶-۲۷۰

بازدیدها: ۱۴

خطبه۳شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام و هی المعروفه بالشّقشقیه

أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وَ إِنَّهُ لَیَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّی مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى- یَنْحَدِرُ عَنِّی السَّیْلُ وَ لَا یَرْقَى إِلَیَّ الطَّیْرُ- فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَیْتُ عَنْهَا کَشْحاً- وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِی بَیْنَ أَنْ أَصُولَ بِیَدٍ جَذَّاءَ- أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْیَهٍ عَمْیَاءَ- یَهْرَمُ فِیهَا الْکَبِیرُ وَ یَشِیبُ فِیهَا الصَّغِیرُ- وَ یَکْدَحُ فِیهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى یَلْقَى رَبَّهُ- فَرَأَیْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى- فَصَبَرْتُ وَ فِی الْعَیْنِ قَذًى وَ فِی الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِی نَهْباً حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِیلِهِ- فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ بَعْدَهُ- ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى
شَتَّانَ مَا یَوْمِی عَلَى کُورِهَا وَ یَوْمُ حَیَّانَ أَخِی جَابِرِ

– فَیَا عَجَباً بَیْنَا هُوَ یَسْتَقِیلُهَا فِی حَیَاتِهِ- إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَیْهَا- فَصَیَّرَهَا فِی حَوْزَهٍ خَشْنَاءَ یَغْلُظُ کَلْمُهَا- وَ یَخْشُنُ مَسُّهَا وَ یَکْثُرُ الْعِثَارُ فِیهَا وَ الِاعْتِذَارُ مِنْهَا- فَصَاحِبُهَا کَرَاکِبِ الصَّعْبَهِ- إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ- فَمُنِیَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اعْتِرَاضٍ- فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّهِ وَ شِدَّهِ الْمِحْنَهِ حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِیلِهِ- جَعَلَهَا فِی جَمَاعَهٍ زَعَمَ أَنِّی أَحَدُهُمْ فَیَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى- مَتَى‏ اعْتَرَضَ الرَّیْبُ فِیَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ- حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ- لَکِنِّی أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا- فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ- وَ مَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَیْهِ- بَیْنَ نَثِیلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ- وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِیهِ یَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ- خِضْمَهَ الْإِبِلِ نِبْتَهَ الرَّبِیعِ- إِلَى أَنِ انْتَکَثَ عَلَیْهِ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَیْهِ عَمَلُهُ- وَ کَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ فَمَا رَاعَنِی إِلَّا وَ النَّاسُ کَعُرْفِ الضَّبُعِ- إِلَیَّ یَنْثَالُونَ عَلَیَّ مِنْ کُلِّ جَانِبٍ- حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَایَ مُجْتَمِعِینَ حَوْلِی کَرَبِیضَهِ الْغَنَمِ- فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَکَثَتْ طَائِفَهٌ- وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ قَسَطَ آخَرُونَ- کَأَنَّهُمْ لَمْ یَسْمَعُوا اللَّهَ حَیْثُ یَقُولُ- تِلْکَ الدَّارُ الْآخِرَهُ نَجْعَلُها لِلَّذِینَ- لا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَ لا فَساداً- وَ الْعاقِبَهُ لِلْمُتَّقِینَ- بَلَى وَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا- وَ لَکِنَّهُمْ حَلِیَتِ الدُّنْیَا فِی أَعْیُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا أَمَا وَ الَّذِی فَلَقَ الْحَبَّهَ وَ بَرَأَ النَّسَمَهَ- لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِیَامُ الْحُجَّهِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ- وَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ- أَلَّا یُقَارُّوا عَلَى کِظَّهِ ظَالِمٍ وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ- لَأَلْقَیْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا- وَ لَسَقَیْتُ آخِرَهَا بِکَأْسِ أَوَّلِهَا- وَ لَأَلْفَیْتُمْ دُنْیَاکُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِی مِنْ عَفْطَهِ عَنْزٍ

قالوا: و قام إلیه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع‏

من خطبته فناوله کتابا، فأقبل ینظر فیه، قال له ابن عباس رضى اللّه عنهما: یا أمیر المؤمنین، لو اطردت خطبتک من حیث أفضیت قال ابن عباس: فو اللّه ما أسفت على کلام قط کأسفى على هذا الکلام أن لا یکون أمیر المؤمنین علیه السّلام بلغ منه حیث أراد ب‏ئ‏أقول: اعلم أنّ هذه الخطبه و ما فی معناها ممّا یشتمل على شکایته علیه السّلام و تظلّمه فی أمر الإمامه هو محلّ الخلاف بین الشیعه و جماعه من مخالفیهم فإنّ جماعه من الشبعه ادّعوا أنّ هذه الخطبه و ما فی حکمها ممّا اشتمل علیه هذا الکتاب منقول على سبیل التواتر و جماعه من السنه بالغوا فی إنکار ذلک حتّى قالوا: إنّه لم یصدر عن علیّ علیه السّلام شکایه فی هذا الأمر و لا تظلّم أصلا، و منهم من أنکر هذه الخطبه خاصّه و نسبها إلى السیّد الرضیّ و التصدّر للحکم فی هذا الموضع هو محلّ التهمه للشارحین، و أنا مجدّد لعهد اللّه على أنّی لا أحکم فی هذا الکلام إلّا بما أجزم به أو یغلب على ظنّی أنّه من کلامه أو هو مقصوده علیه السّلام، فأقول: إنّ کلّ واحد من الفریقین المذکورین خارج عن العدل أمّا المدّعون لتواتر هذه الألفاظ من الشیعه فإنّهم فی طرف الإفراط و أمّا المنکرون لوقوعها أصلا فهم فی طرف التفریط، أمّا ضعف کلام الأوّلین فلأنّ المعتبرین من الشیعه لم یدّعوا ذلک و لو کان کلّ واحد من هذه الألفاظ منقولا بالتواتر لما اختصّ به بعض الشیعه دون بعض، و أمّا المنکرون لوقوع هذا الکلام منه علیه السّلام فیحتمل إنکارهم وجهین: أحدهما أن یقصدوا بذلک توطیه العوامّ، و تسکین خواطرهم عن إثاره الفتن و التعصّبات الفاسده لیستقیم أمر الدین و یکون الکلّ على نهج واحد فیظهروا لهم أنّه لم یکن بین الصحابه الّذین هم أشراف المسلمین و ساداتهم خلاف و لا نزاع لیقتدی بحالهم من سمع ذلک، و هذا مقصد حسن و نظر لطیف لو قصد، و الثانی أن ینکروا ذلک عن اعتقاد أنّه لم یکن هناک خلاف من الصحابه و لا منافسه فی أمر الخلافه و الإنکار على هذا الوجه ظاهر البطلان لا یعتقده إلّا جاهل بسماع الأخبار لم یعاشر أحدا من العلماء فإنّ أمر السقیفه و ما جرى بین الصحابه من الاختلاف و تخلّف علیّ علیه السّلام عن البیعه أمر ظاهر لا یدفع و مکشوف لا یتقنّع حتّى قال أکثر الشیعه إنّه لم یبایع أصلا، و منهم من قال إنّه بایع بعد ستّه أشهر کرها، و قال مخالفهم إنّه بایع بعد أن تخلّف فی بیته مدّه و دافع طویلا، و کلّ ذلک ممّا تقضی الضروره معه بوقوع الخلاف و المنافسه بینهم و الحقّ أنّ المنافسه کانت ثابته بین علی علیه السّلام و بین من تولّى أمر الخلافه فی زمانه، و الشکایه و التظلّم الصادر عنه فی ذلک أمر معلوم بالتواتر المعنویّ فإنّا نعلم بالضروره أنّ الألفاظ المنقوله عنه المتضمّنه للتظلّم و الشکایه فی أمر الخلافه قد بلغت فی الکثره و الشهره بحیث لا یکون بأسرها کذبا بل لا بدّ و أن یصدق واحد منها، و أیّها صدق ثبتت فیه الشکایه أمّا خصوصیّات الشکایات بألفاظها المعیّنه فغیر متواتره و إن کان بعضها أشهر من بعض، فهذا ما عندی فی هذا الباب بعد التحریّ و الاجتهاد، و على هذا التقریر لا یبقى لإنکار کون هذه الخطبه صادره عنه علیه السّلام و نسبتها إلى الرضیّ معنى فإنّ مستند هذا الإنکار هو ما یشتمل علیه من التصریح بالتظلّم و الشکایه، و مستند إنکار ذلک منه علیه السّلام هو اعتقاد أنّه لم تکن له منافسه فی هذا الأمر، و أنت تعلم أنّ ذلک اعتقاد فاسد على أنّ هذه الخطبه خاصّه قد اشتهرت بین العلماء قبل وجود الرضیّ روى عن مصدّق بن شبیب النحویّ قال: لمّا قرأت هذه الخطبه على شیخی أبی محمّد بن الخشّاب و وصلت إلى قول ابن عبّاس ما أسفت على شی‏ء قط کأسفی على هذا الکلام قال: لو کنت حاضر القلت لابن عبّاس و هل ترک ابن عمّک فی نفسه شیئا لم یقله فی هذه الخطبه فإنّه ما ترک لا الأوّلین و لا الآخرین. قال مصدّق: و کانت فیه دعابه، فقلت له یا سیّدی فلعلّها منحوله إلیه فقال: لا و اللّه إنّی أعرف أنّها من کلامه کما أعرف أنّک مصدّق قال: فقلت: إنّ الناس ینسبونها إلى الشریف الرضیّ فقال: لا و اللّه و من أین للرضیّ هذا الکلام، و هذا الاسلوف فقد رأیناه کلامه فی نظمه و نثره لا یقرب من هذا الکلام و لا ینتظم فی سلکه على أنّی قد رأیت هذه الخطبه بخطوط العلماء الموثوق بنقلهم من قبل أن یخلق أبو الرضیّ فضلا عنه، و أقول: و قد وجدتها فی موضعین تاریخها قبل مولد الرضیّ بمدّه: أحدهما أنّها مضمّنه کتاب الإنصاف لأبی جعفر بن قبه تلمیذ أبی القسم الکعبی أحد شیوخ المعتزله و کانت وفاته قبل مولد الرضیّ، الثانی أنّی وجدتها بنسخه علیها خطّ الوزیر أبی الحسن علیّ بن محمّد بن الفرات و کان وزیر المقتدر باللّه و ذلک قبل مولد الرضیّ بنیّف و ستّین سنه، و الّذی یغلب على ظنّی أنّ تلک النسخه کانت کتبت قبل وجود ابن الفرات بمدّه. إذا عرفت ذلک فلنرجع إلى المتن فنقول:

اللغه

قوله تقمصّها. أی لبسها کالقمیص، و قطب الرحا مسمارها الّذی علیه تدور، و سدلت الثوب أرخیته، و الکشح بفتح الکاف الخاصره، و طفقت أخذت و جعلت، و ارتئی فی الأمر إذا فکّر طلبا للرأى الأصلی، وصال حمل نفسه على الأمر بقوّه، و ید جدّاء بالدال المهمله و المعجمه مقطوعه أو مکسوره، و الطخیه الظلمه کقولهم لیله طخیاء أی مظلمه، و ترکیب هذه الکلمه یدلّ على ظلمه الامور و انغلاقها، و منه کلمه طخیاء أی أعجمیّه لا تفهم، و الهرم شدّه کبر السنّ، و الکدح السعی و العمل، و هاتا لغه فی هاتی و هی لغه فی هذی و هذه، و أحجى أولى بالحجى أو خلق و هو العقل، و القذى هو ما تتأذىّ به العین من غبار و نحوه، و الشجى ما نشب فی الخلق من غصّه غبن أو غمّ، و التراث کالمیراث و هو اسم ما یورث، و أدلى فلان بکذا تقرّب به و ألقاه، و شتّان ما هما أی بعد، و شتّان ما عمرو و زید أی بعد ما بینهما، و کور الناقه رحلها، و الإقاله فکّ عقد البیع و نحوه و الاستقاله طلب ذلک، و شدّ الأمر صعب و عظم، و تشطّرا أی أخذ کلّ شطرا و هو البعض، و الحوزه الطبیعه و الحوزه الناحیه، و الکلم بفتح الکاف الجرح، و عثر یعثر عثورا و عثارا إذا أصابت رجله فی المشی حجرا و نحوه، و الصعبه الناقه لم تذلّل بالمحمل و لا بالرکوب، و شنق الناقه بالزمام و أشنق لها إذا جذبه إلى نفسه و هو راکب لیمسکها عن الحرکه العنیفه، و الخرم الشقّ، و أسلس لها أی أرخى، و تقحّم فی الأمر إذا ألقى نفسه فیه بقوّه، و منى الناس أی ابتلوا، و الخبط الحرکه على غیر استقامه، و الشماس بکسر الشین کثره النقار و الاضطراب، و التلوّن اختلاف الأحوال، و الاعتراض ضرب من التلوّن، و أصله المشی فی عرض الطریق خابطا عن فرح و نشاط، و الشورى مصدر کالنجوى مرادف للمشاوره، و أسف الطائر إذا دنا من الأرض فی طیرانه، و الصغو المیل بکسر الصاد، و الضغن بکسر الضاد و سکون الغین و فتحها أیضا الحقد، و الأصهار عن ابن الأعرابی المتحرمون بجوار أو نسب أو تزوّج، و بعض العرب لا یطلقه إلّا على أهل بیت الزوجین، و عن الخلیل أنّه لا یطلق إلّا على من کان من أهل المرأه، و هن على‏ وزن أخ کلمه کنایه من شی‏ء قبیح و أصله هنو تقول هذا هنک أی شینک، و الحضن الجانب ما بین الإبط و الخاصره، و النفج قریب من النفخ، و النثیل الروث، و المعتلف موضع الاعتلاف، و الخضم الأکل بجمیع الفم، و قیل: المضغ بأقصى الأضراس یقول خضم بکسر الضاد یخضم، و النبته بکسر النون النبات، و انتکث انتقض، و أجهز على الجریح قتله و أسرع، و کبا الفرس سقط لوجهه، و البطنه شدّه الامتلاء من الطعام، و الروع الخلد و الذهن و راعنی أفزعنی، و انثال الشی‏ء إذا وقع یتلو بعضه بعضا، و العطاف الرداء و روى عطفاى و عطفا الرجل جانباه من لدن رأسه إلى رکبته، و الربیض و الربیضه الغنم برعاتها المجتمعه و مرابضها، و مروق السهم خروجه من الرمیه و راقه الأمر أعجبه، و الزبرج بکسر الزاء و الراء الزینه، و النسمه الإنسان، و قد یستعمل فیما عداه من الحیوان، و المقارّه إقرار کلّ واحد صاحبه على الأمر و تراضیهما به، و الکظّه البطنه، و الغارب أعلى کتف الناقه، و العفطه من الشاه کالعطاس من الإنسان، و قیل: هی الجیفه، و الشقشقه لها البعیر، و یقال: للخطیب شقشقه إذا کان صاحب و ربه و بضاعه من الکلام،

المعنى

و اعلم أنّ المشار إلیه بقوله فلان هو ابو بکر کما هو مصرّح به فی بعض النسخ، و لمّا بلغ علیه السّلام فی تلبّس أبی بکر بالخلافه استعار لها وصف القمیص و کنّى عن تلبّسه بها بالتقمّص، و الضمیر المنصوب راجع إلى الخلافه، و لم یذکرها لظهورها کقوله تعالى «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» و یحتمل أن یکون ذکرها فیما قبل ذلک، و الواو فی قوله و إنّه لیعلم أنّ محلیّ منها واو الحال، و لمّا کان قطب الرحى هو الّذی به نظام حرکاتها و به یحصل الغرض منها و کان هو علیه السّلام الناظم لأمور المسلمین على وفق الحکمه الإلهیّه و العالم بکیفیّه السیاسه الشرعیّه لا جرم شبّه محلّه من الخلافه بمحلّ القطب من الرحى، و قد جمع هذا التشبیه أنواع التشبیه الموجوده فی الکلام العرب و هی ثلاثه: أحدها تشبیه محلّه بمحلّ القطب من الرحى و هو تشبیه للمعقول بالمعقول فإنّ محلّ القطب هو کونه نظام أحوال الرحى و ذلک أمر معقول، و ثانیها تشبیه نفسه بالقطب و هو تشبیه للمحسوس بالمحسوس، و ثالثها تشبیه الخلافه بالرحى و هو تشبیه المعقول بالمحسوس، و لمّا کانت حاجه الرحى إلى القطب ضروریّه و لا یظهر نفعها إلّا به فهم من تشبیه محلّه بمحلّه أنّه قصد أنّ غیره لا یقوم مقامه فی أمر الإمامه، و لا یتأهّل لها مع وجوده کما لا یقوم غیر القطب‏ مقامه فی موضعه ثمّ أکّد ذلک بقوله ینحد رعنّی السیل و لا یرقى إلیّ الطیر فاستعار لنفسه و صفین: أحدهما کونه ینحدر عنه السیل و هو من أوصاف الجبل و الأماکن المرتفعه، و کنّى به عن علوّه و شرفه مع فیضان العلوم و التدبیرات السیاسیّه عنه، و استعار لتلک الکمالات لفظ السیل، و الثانی أنّه لا یرقی إلیه الطیر و هو کنایه عن غایه اخرى من العلوّ إذ لیس کلّ مکان علا بحیث ینحدر عنه السیل وجب أن لا یرقى إلیه الطیر فکان ذلک علوّا أزید کما قال أبو تمام:
مکارم لجتّ فی علوّ کأنّما تحاول ثارا عند بعض الکواکب.

قوله فسدلت دونها ثوبا. کنایه عن احتجابه عن طلبها، و المبالغه فیها بحجاب الإعراض عنها، و استعار لذلک الحجاب لفظ الثوب استعاره لفظ المحسوس للمعقول، و کذلک قوله و طویت عنها کشحا تنزیل لها منزله المأکول الّذی منع نفسه من أکله فلم یشتمل علیه کشحه، و قیل: أراد بطیّ الکشح التفاته عنها کما یفعل المعرض عمّن إلى جانبه قال: طوى کشحه عنّی و أعرض جانبا. قوله و طفقت أرتئی بین أن أصول بید جذّاء أو أصبر على طخیه عمیاء یرید أنّی جعلت اجیل الفکر فی تدبیر أمر الخلافه و أردّه بین طرفی نقیض إمّا أن أصول على من حازها دونی أو أن أترک، و فی کلّ واحد من هذین القسمین خطر أمّا القیام فبید جذّاء و هو غیر جائز لما فیه من التغریر بالنفس و تشویش نظام المسلمین من غیر فائده، و استعار وصف الجذّاء لعدم الناصر، و وجه المشابهه أنّ قطع الید لمّا کان مستلزما لعدم القدره على التصرّف بها و الصوله و کان عدم الناصر بها و المؤیّد مستلزما لذلک لا جرم حسنت الاستعاره، و أمّا الترک ففیه الصبر على مشاهد التباس الامور و اختلاطها و عدم تمییز الحقّ و تجریده عن الباطل و ذلک فی غایه الشدّه و البلاء أیضا، و استعار لذلک الالتباس لفظ الطخیه و هو استعاره لفظ المحسوس للمعقول، و وجه المشابهه أنّ الظلمه کما لا یهتدى فیها للمطلوب کذلک اختلاط الامور هاهنا لا یهتدى معها لتمییز الحقّ و کیفیّه السلوک إلى اللّه، و وصف الطخیه بالمعنى أیضا على وجه الاستعاره فإنّ الأعمى لمّا لم یکن لیهتدی لمطالبه کذلک هذه الظلمه لا یهتدى فیها للحقّ و لزومه، ثمّ کنّى عن شدّه ذلک الاختلاط و مقاساه الخلق بسبب عدم انتظام الأحوال و طول مدّه ذلک بأوصاف:

أحدها أنّه یهرم فیها الکبیر، و الثانی أنّه یشیب فیها الصغیر. و الثالث أنّ المؤمن المجتهد فی لزوم الحقّ و الذبّ عنه یقاسی من ذلک الاختلاط شدائد و یکدح فیها حتّى یلقى ربّه، و قیل: ید أب و یجتهد فی الوصول إلى حقّه فلا یصل حتّى یموت، ثمّ أشار بعد ذلک إلى ترجّح رأیه فی اختیار القسم الثانی و هو الصبر و ترک القیام فی هذا الأمر بقوله: فرأیت أنّ الصبر على هاتا أحجى و ألیق بنظام الإسلام، و وجه الترجیح ظاهر فإنّه لمّا کان مقصود علیّ علیه السّلام من هذه المنافسه إنّما هو إقامه الدین و إجراء قواعده على القانون المستقیم و نظام امور الخلق کما هو المقصود من مقالات الشارعین صلوات اللّه علیهم أجمعین، و کانت صولته و محاربته لمنا فسیه فی الإمامه بغیر ناصر لا تثمر القیام به و مع ذلک ففیه انشعاب امور المسلمین و تفرّق کلمتهم و ثوران الفتن بینهم خصوصا، و الإسلام غضّ لم ترسخ محبّته فی قلوب کثیر الخلق و لم یطعموا حلاوته و فیهم منافقون و الأعداء المشرکون فی غایه القوّه من کلّ الأقطار لا جرم لم یمکنه مع ملاحظه هذه الأحوال إثاره الحرب و المنازعه لأداء ذلک إلى ضدّ ما هو مقصود له بحرکته و محاربته، و أمّا الصبر و ترک المقاومه و إن کان فیه بحسب رأیه ما ذکره من اختلال الدین و أنّه لو کان هو القائم لهذا الأمر لکان انتظامه به أتمّ و قوامه أکمل إلّا أنّه أقلیّ بالنسبه إلى الاختلال الّذی کان یحصل لو نازع فی هذا الأمر و قام فی طلبه و بعض الشرّ أهون من بعض. قوله فصبرت و فی العین قذى و فی الحلق شجى. الواو للحال و الجملتان کنایتان عن شدّه ما أضمره من التأذّی و الغبن بسبب سلبه ما یرى أنّه أولى به من غیره و ما یعتقده من الخبط فی الدین بید غیره. قوله أرى تراثی نهبا قیل أراد بتراثه ما خلّفه رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله لابنته کفدک فإنّه یصدق علیها أنّه میراثه لأنّ مال الزوجه فی حکم مال الزوج، و النهب إشاره إلى منع الخلفاء الثلاثه لها بالخبر الّذی رواه أبو بکر نحن معاشر الأنبیاء لا نورّث ما ترکناه فهو صدقه، و قیل: أراد منصب الخلافه و یصدق علیه لفظ الإرث کما صدق فی قوله تعالى حکایه عن زکریّا علیه السّلام «یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ» فإنّه أراد یرث علمی و منصبی فی نبوّته فکان اسم المیراث صادقا على ذلک.

قوله حتّى مضى الأوّل لسبیله فأدلى بها إلى فلان بعده. أراد بالأوّل ابا بکر و بفلان عمر، و أشار بالإدلاء إلى نصّ أبی بکر على أن یکون عمر هو الخلیفه بعده و مضیّه لسبیله انتقاله إلى دار الآخره و سلوکه السبیل الّذی لا بدّ منه لکلّ إنسان، و أمّا البیت فهو لأعشى قیس، و اسمه میمون بن جندل من بنی قیس من قصیده أوّلها.

علقم ما أنت إلى عامر الناقص الأوتار و الواتر و حیّان و جابر ابنا السمین بن عمرو من بنی حنیفه، و کان حیّان صاحب الحصن بالیمامه و کان سیّدا مطاعا یصله کسرى فی کلّ سنه و کان فی نعمه و رفاهیّته مصونا من و عثاء السفر لأنّه ما کان یسافر أبدا، و کان الأعشى ینادمه و أراد ما أبعد ما بین یومىّ یومى على کور المطیّه أداب و أنصب فی الهواجر و بین یومی منادما حیّان أخی جابر، و ادعا فارانى نعمه و خفض، و یروى أنّ حیّان عاتب الأعشى فی تعریفه بنسبته إلى أخیه فاعتذر إلیه الأعشى بأنّ القافیه قادته إلى ذلک فلم یقبل عذره، و الیوم الأوّل فی موضع رفع باسم الفعل، و الثانی بالعطف علیه، و أمّا غرض التمثیل بالبیت فأفاد السیّد المرتضى أراد بذلک أنّ القوم لمّا فازوا بمقاصدهم و رجعوا بمطالبهم فظفروا بها و هو فی أثناء ذلک کلّه محقّق فی حقّه مکذّب فی نصیبه کما أشار إلیه بقوله: و فی العین قذى و فی الحلق شجى کان بین حالهم و حاله بعد بعید و افتراق شدید فاستشهد علیه السّلام بهذا البیت و استعار لفظ الیومین، و کنّى بهما عن حاله و حالهم، و وجه المشابهه فی هذا المثل أنّ حالهم استلزم حصول المطالب و الرفاهیّه کیوم حیّان و حاله علیه السّلام استلزم المتاعب کیومه على کور الناقه مسافرا قلت: و یحتمل أن یکون قد استعار یوم حیّان لعهده مع رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و ما کان یحصل له فی مدّه صحبته من الفوائد الجسمیّه و الکمالات من العلوم و الأخلاق، و یوم کونه على کور الناقه لزمانه بعد الرسول صلى اللّه علیه و آله و ما لحقه فیه من مقاساه المحن و متاعب الصبر على الأذى، و وجه المشابهه ما یشتمل علیه یوم حیّان و عهد الرسول من المسارّ و ما یشترک فیه یوم کونه على کور الناقه و أوقاته بعد الرسول من المضارّ.

قوله فیا عجبا بینا هو یستقیلها فی حیاته إذ عقدها لآخر بعد وفاته. إشاره إلى أبى بکر، و طلبه الإقاله هو قوله: أقیلونى فلست بخیرکم، و وجه التعجّب هاهنا أنّ طلب أبی بکر للإقاله من هذا الأمر إنّما هو لثقله و کثره شرائطه و شدّه مراعاه إجراء أحوال الخلق مع اختلاف طباعهم و أهوائهم على قانون واحد و خوفه أن تعثر به مطایا الهوى فتردیه فی موارد الهلاک، و على هذا التقدیر فکلّما کانت مدّه ولایه الإنسان لهذا الأمر أقصر کان خوفه أقلّ و کانت متاعبه أیسر و أسهل، و سبیل طالب الإقاله من هذا الأمر و أمثاله و مقتضى طلبه لذلک أن یتحرّى قلّه متاعب هذا الأمر و یجتهد فی الخلاص منه مهما أمکنه ذلک فإذا رأیناه متمسّکا بهذا الأمر مدّه حیاته و عند وفاته یعقده لآخر بعده فیتحملّ مضارّ هذا الأمر فی حال الحیاه و بعد الوفاه فلا بدّ و أن یغلب على الظنّ أنّ طلبه للإقاله لم یکن عن قصد صحیح فیصیر ذلک الظنّ مقابلا لما اشتهر عنه من العداله و ذلک محلّ التعجّب، و هذا بخلاف ما اشتهر بالفسق و النفاق فإنّه لا یتعجّب من فعله لو خالف قوله.

قوله لشدّ ما تشطّرا ضرعیها. اللام للتأکید و ما مع الفعل بعدها فی تقدیر المصدر و هو فاعل شدّ و الجمله من تمام التعجّب، و قد استعار علیه السّلام لفظ الضرع هاهنا للخلافه، و هی استعاره مستلزمه لتشبیهها بالناقه، و وجه المشارکه المشابهه فی الانتفاع الحاصل منها، و المقصود وصف اقتسامهما لهذا الأمر المشبّه لاقتسام الحالبین أخلاف الناقه بالشدّه على من یعتقد أنّه أحقّ بها منهما أو على المسلمین الّذین یشبهون

الأولادلها، و قوله فصیّرها فی حوزه خشناء کنّى بالحوزه عن طباع عمر فإنّها کانت توصف بالجفاوه و الغلظ فی الکلام و التسرّع إلى الغضب و ذلک معنى خشونتها.

قوله یغلظ کلامها و یخشن مسّها. استعار لتلک الطبیعه وصفین: أحدهما غلظ الکلم و هو کنایه عن غلظ المواجهه بالکلام و الجرح به فإنّ الضرب باللسان أعظم من و خز و السنان، و الثانی جفاوه المسّ و هی کنایه عن خشونه طباعه المانعه من میل الطباع إلیه المستلزمه للأذى کما یستلزم مسّ الأجسام الخشنه. قوله و یکثر العثار و الاعتذار منها. إشاره إلى ما کان یتسرّع إلیه عمر من الأحکام ثمّ یعاود النظر فیها فیجدها غیر صائبه فیحتاج إلى الاعتذار، و الضمیر فی منها یعود إلى الطبیعه المعبّر عنها بالحوزه فمن ذلک ما روى أنّه أمر برجم امراه زنت و هی حامل فعلم علیّ علیه السّلام بذلک فجاء إلیه و قال له: إن کان لک سلطان علیها فما سلطانک على ما فی بطنها، دعها حتّى تضع ما فی بطنها ثمّ ترضع ولدها فعندها قال عمر: لو لا علیّ لهلک عمر و ترکها، و کذلک ما روى أنّه أمر أن یؤتى بامراه لحال اقتضت ذلک و کانت حاملا فانزعجت من هیبته فاجهزت جنینا فجمع جمعا من الصحابه و سألهم ما ذا یجب علیهم فقالوا: أنت مجتهد و لا ترى أنّه یجب علیک شی‏ء فراجع علیّا علیه السّلام فی ذلک و أعلمه بما قال بعض الصحابه فأنکر ذلک و قال: إن کان ذلک عن اجتهاد منهم فقد أخطئوا و إن لم یکن عن اجتهاد فقد غشّوک. أرى علیک العزّه فعندها قال لا عشت لمعضله لا تکون لها یا أبا الحسن، و منشأ ذلک و أمثاله غلبه القوّه الغضبیّه و غلظ الطبیعه. قوله فصاحبها کراکب الصعبه إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها تقحّم قیل الضمیر فی صاحبها یعود إلى الحوزه المکنّى بها عن طبیعه عمر و أخلاقه، و المراد على هذا الوجه أنّ للصاحب لتلک الأخلاق فی حاجه إلى المداراه فی صعوبه حاله کراکب الصعبه، و وجه المشابهه أنّ راکب الصعبه کما یحتاج إلى الکلفه الشاقّه فی مداراه أحوالها فهو معها بین خطرین إن والى الجذبات فی وجهها بالزمام خرم أنفها، و إن أسلس لها فی القیاد تقحّمت به المهالک کذلک مصاحب أخلاق الرجل و المبتلى بها إن أکثر علیه إنکار ما یتسرّع إلیه أدّى ذلک إلى مشاقّته و فساد الحال بینهما، و إن سکت عنه و ترکه و ما یصنع أدّى ذلک إلى الإخلال بالواجب و ذلک من موارد الهلکه، و قیل الضمیر فی صاحبها للخلافه و صاحبها هو کلّ من تولّى أمرها إذا کان عادلا مراعیا لحقّ اللّه، و وجه شبهه براکب الصعبه أنّ المتولّی لأمر الخلافه یضطرّ إلى الکلفه الشاقّه فی مداراه أحوال الخلق و نظام امورهم على القانون الحقّ و أن یسلک بهم طریق العدل المحفوشه (المحسوسه) بطرف التفریط و التقصیر المشبّه لإسلاس قیاد الصعبه، و بطرف الإفراط فی طلب الحقّ و استقصاء فیه الّذی یشبه شنقها فإنّ المتولّی لأمر الخلافه إن فرّط فی المحافظه على شرائطها و أهمل أمرها ألقاه التفریط فی موارد الهلکه کما نسبه الصحابه إلى عثمان حتّى فعل به ما فعل، فکان فی ذلک کراکب صعبه أسلس قیادها، و إن أفرط فی حمل الخلق على أشدّ مراتب الحقّ و بالغ فی الاستقصاء علیهم فی طلبه أوجب ذلک تضجّرهم منه و نفار طباعهم و تفرّقهم عنه و فساد الأمر علیه لمیل أکثرهم إلى حبّ الباطل و غفلتهم عن فضیله الحقّ، و إن صعب، فیکون فی ذلک کمن أشنق المصعبه الّتی هو راکبها حتّى خرم أنفها، و هو من التشبیهات اللطیفه، و قیل: أراد بصاحبها نفسه و تشبّه براکب الصعبه لأنّه أیضا بین خطرین إمّا أن یبقى ساکتا عن طلب هذا الأمر و القیام فیتقحّم بذلک فی موارد الذلّ و الصغار کما یتقحّم راکب الصعبه المسلس لها قیادها، و إمّا أن یقوم فیه و یتشدّد فی طلبه فینشعب أمر المسلمین بذلک و ینشقّ عصاهم فیکون فی ذلک کمن أشنق لها فخرم أنفها، و الأوّل ألیق بسیاق الکلام و نظامه، و الثانی أظهر، و الثالث محتمل. قوله فمنى الناس لعمر اللّه بخبط و شماس و تلوّن و اعتراض إشاره إلى ما ابتلوا به من اضطراب الرجل و حرکاته الّتی کان ینقمها علیه فکنّى بالخبط عنها و بالشماس عن جفاوه طباعه و خشونتها و بالتلوّن و الاعتراض عن انتقاله من حاله إلى اخرى فی أخلاقه، و هی استعارات، و وجه المشابهه فیها أنّ خبط البعیر و شماس الفرس و اعتراضها فی الطریق حرکات غیر منظومه فأشبهها ما لم یکن منظوما من حرکات الرجل الّتی ابتلى الناس بها، و لا شکّ أنّه کان صعبا عظیم السطوه و الهیبه و کان أکابر الصحابه یتحامونه، و قیل لابن عبّاس لمّا أظهر قوله فی مسئله العقول بعد موت عمر: هلّا قلت ذلک و عمر حیّ قال هیبته، و کان رجلا مهیبا، و قیل: إنّ ذلک إشاره إلى ما ابتلى به الناس من اضطراب الأمر و تفرّق الکلمه و جرى امورهم على غیر نظام بسبب تفرّق کلمتهم، ثمّ أردف ذلک بتکریر ذکر صبره على ما صبر علیه مع الثانی کما صبر مع الأوّل، و ذکر أمرین: أحدهما طول مدّه تخلّف الأمر عنه، و الثانی شدّه المحنه بسبب فوات حقّه و ما یعتقد من لوازم ذلک الفوت و هو عدم انتظام أحوال الدین و إجرائه على قوانینه الصحیحه، و لکلّ واحد من هذین الأمرین حصّه فی استلزام الأذى الّذی یحسن فی مقابلته الصبر.

قوله حتّى إذا مضى لسبیله جعلها فی جماعه زعم أنی أحدهم. أقول: حتّى هنا لانتهاء الغایه، و الغایه لزوم تالی الشرطیّه لمقدّمها أعنى جعله لها فی جماعه لمضیّه لسبیله، و أشار بالجماعه إلی أهل الشورى، و خلاصه حدیث الشورى أنّ عمر لمّا طعن دخل علیه وجوه الصحابه، و قالوا له: ینبغی لک أن تعهّد عهدک أیّها الرجل و یستخلف رجلا ترضاه، فقال: لا احبّ أن أتحمّلها حیّا و میّتا، فقالوا: أفلا تشیر علینا فقال: أمّا أن اشیر فإن أجبتم قلت فقالوا: نعم فقال: الصالحون لهذا الأمر سبعه نفرسمعت رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله یقول: إنّهم من أهل الجنّه أحدهم سعید بن زید و أنا مخرجه منهم لأنّه من أهل بیتی، و سعد بن أبی وقّاص و عبد الرحمن بن عوف و طلحه و زبیر و عثمان و علیّ، فأمّا سعد فلا یمنعنی منه إلّا عنفه و فظاظته، و أمّا من عبد الرحمن بن عوف فلأنّه قارون هذه الأمّه، و أمّا من طلحه فتکبّره و نخوته، و أمّا من الزبیر فشحّه و لقد رأیته بالبقیع یقاتل على صاع من شعیر و لا یصلح لهذا الأمر إلّا رجل واسع الصدر، و أمّا من عثمان فحبّه لقومه و عصبیّته لهم و أمّا من علیّ فحرصه على هذا الأمر و دعابته فئته، ثمّ قال: یصلّى صهیب بالناس ثلاثه أیّام و تخلو الستّه نفر فی البیت ثلاثه أیّام لیتّفقوا على رجل منهم فإن استقام أمر خمسه و أبی رجل فاقتلوه و إن استقرّ أمر ثلاثه و أبى ثلاثه فکونوا مع الثلاثه الّذین فیهم عبد الرحمن بن عوف، و یروى فاقتلوا الثلاثه الّذین لیس فیهم عبد الرحمن بن عوف، و یروى فتحاکموا إلى عبد اللّه بن عمر فأیّ الفریقین قضى له فاقتلوا الفریق الآخر، فلمّا خرجوا عنه و اجتمعوا لهذا الأمر قال عبد الرحمن: إنّ لی و لابن عمی من هذا الأمر الثلث فنحن نخرج أنفسنا منه على أن نختار رجلا هو خیرکم للأمّه فقال القوم: رضینا، غیر علیّ فإنّه أتّهمه فی ذلک، و قال: أرى و أنظر، فلمّا آیس من رضى علىّ رجع إلى سعد فقال: هلّم نعیّن رجلا و نبایعه، فالناس یبایعون من بایعته فقال سعد: إن بایعک عثمان فأنا لکم ثالث، و إن أردت أن تولّى عثمان فعلیّ أحبّ إلىّ، فلمّا آیس من مطاوعه سعد کفّ عنهم و جاءهم أبو طلحه فی خمسین رجلا من الأنصار یحثّهم على التعیین فأقبل عبد الرحمن إلى علیّ علیه السّلام و أخذ بیده، و قال: ابایعک على أن تعمل بکتاب اللّه و سنّه رسوله و سیره الخلیفتین أبی بکر و عمر فقال علیّ علیه السّلام: تبایعنی على أن أعمل بکتاب اللّه و سنّه رسوله و أجتهد رأیی فترک یده، ثمّ أقبل على عثمان فأخذ بیده و قال له مثل مقاله لعلیّ علیه السّلام فقال: نعم فکرّر القول على کلّ منهما ثلاثا فأجاب کلّ بما أجاب به أوّلا فبعدها قال عبد الرحمن: هی لک یا عثمان و بایعه ثمّ بایعه الناس، و فی النسخ زعم أنّی سادسهم، ثمّ أردف حکایه الحال بالاستغاثه باللّه للشورى، و الواو إمّا زائده أو للعطف على محذوف مستغاث له أیضا کأنّه قال: فیاللّه لعمر و للشورى، أولى و للشورى و نحوه، و الاستفهام عن وقت عروض الشکّ لأذهان الخلق فی أنّ الأوّل هل یساویه فی الفضل أو لا یساویه استفهاما على سبیل الإنکار و التعجّب من عروضه لأذهانهم إلى غایه أن قاسوه بالخمسه المذکورین و جعلوهم نظراء و أمثالا له فی المنزله و استحقاق هذا الأمر. قوله لکنّی أسففت إذ أسفّوا و طرت إذ طاروا. استعاره لأحوال الطائر من الإسفاف و الطیران لأحواله من مقارنته لمراده و تصرّفه على قدر اختیارهم أوّلا و آخرا.

قوله فصغار رجل منهم لضغنه. إشاره إلى سعد بن أبی وقّاص فإنّه کان منحرفا عنه علیه السّلام و هو أحد المتخلّفین عن بیعته بعد قتل عثمان، و قوله و مال الآخر لصهره. إشاره إلى عبد الرحمن بن عوف فإنّه مال إلى عثمان لمصاهره کانت بینهما و هی أنّ عبد الرحمن کان زوجا لامّ کلثوم بنت عقبه ابن أبی معیط و هی اخت عثمان لامّه أروى بنت کریز. قوله مع هن و هن یرید أنّ میله إلیه لم یکن لمجرّد المصاهره بل لأشیاء اخرى یحتمل أن یکون نفاسه علیه و غبطه له بوصول هذه الأمر إلیه أو غیر ذلک، و قوله إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنیه بین نثیله و متعلفه. أراد به عثمان و کنّی بقیامه عن حرکته فی ولایته أمر الخلافه و أثبت له حالا یستلزم تشبیهه بالبعیر، و استعاره وصفه و هو نفج الحضین، و کنّى بذلک عن استعداده للتوسّع ببیت مال المسلمین و حرکته فی ذلک کما نسب إلیه تشبیها له بالبعیر ینتفج جنباه بکثره الأکل، کذلک المتوسّع فی الأکل و الشرب، و ربّما قیل ذلک لمتکبّر المنتفج کبرا، و کذلک قوله بین نثیله و معتلفه و هو متعلّق بقام أی قام بین معتلفه و روثه و هو من أوصاف البهائم، و وجه الاستعاره أنّ البعیر و الفرس کما لا اهتمام له أکثر من أن یکون بین أکل و روث، کذلک نسبه إلى أنّه لم یکن أکبر همّه إلّا الترفّه و التوفّر فی المطعم و المشرب و سائر مصالح نفسه و أقاربه دون ملاحظه امور المسلمین و مراعات مصالحهم کما نقم علیه. قوله و قام معه بنو امیّه یخضمون مال اللّه تعالى خضم الإبل نبته الربیع.
یخضمون فی موضع الحال، و عنى بمال اللّه بیت المال، و أراد ببنی أبیه بنی امیّه بن عبد شمس، و یحتمل أن یرید أقرباه مطلقا و خصّ بنی أبیه تغلیبا للذکوره، و کنّی بالخضم عن کثره توسّعهم بمال المسلمین من ید عثمان، و قد نقلت عنه من ذلک صور: أحدها أنّه رفع إلى أربعه نفر من قریش زوّجهم ببناته أربع مائه ألف دینار، و ثانیها أنّه لمّا فتح إفریقیّه أعطى مروان بن‏ الحکم مائه ألف دینار و یروی خمس إفریقیّه، و ثالثها روی من عدّه طرق أن أبا موسى الأشعریّ بعث إلیه بمال عظیم من البصره فجعل یفرّقه فی ولده و أهله و کان ذلک بحضره زیاد بن عبید مولى حرث بن کلاه الثقفیّ فبکى زیاد لما رأى فقال له: لا تبک فإنّ عمر کان یمنع قرابته ابتغاء وجه اللّه و أنا أعطی أهلی و قرابتی ابتغاء وجه اللّه، و رابعها روی أنّه ولّى الحکم بن أبی العاص صدقات قضاعه فبلغت ثلاث مائه ألف فوهبها له حین أتاه بها، و خامسها روى أبو مخنف أنّ عبد اللّه بن خالد بن اسید قدم على عثمان من مکّه و معه ناس فأمر لعبد اللّه بثلاث مائه ألف و لکلّ واحد منهم بمائه ألف و صکّ بذلک على عبد اللّه بن الأرقم و کان حینئذ خازن بیت المال فاستکثر ذلک و ردّ الصکّ فقال له عثمان: ما حملک على ردّه و إنّما أنت خازن قال: کنت أرابی بیت مال المسلمین و إنّما خازنک غلامک و أنّه لا ألی لک بیت المال أبدا، و جاء بالمفاتیح فعلّقها على المنبر فدفعها عثمان إلى مولاه نائل، و روى الواقدی أنّ عثمان أمر زید بن ثابت أن یحمل من بیت المال إلى عبد اللّه بن أرقم عقیب ما فعل ثلاث مائه ألف درهم فلمّا دخل علیه بها قال له: یا أبا محمّد إنّ أمیر المؤمنین أرسل إلیک یقول إنّا شغلناک عن التجاره و لک ذوو رحم أهل حاجه ففرّق هذا المال فیهم و استغن به على عیالک، فقال عبد اللّه: ما لى إلیک حاجه، و ما عملت لأن یثیبنی عثمان فإن کان هذا من بیت المال لما بلغ قدر عملی أن اعطى ثلاث مأئه ألف درهم، و إن کان من ماله فلا حاجه لی به، و بالجمله فمواهبه لأهله و ذویه مشهوره، و قد شبّه علیه السّلام خضمهم لمال اللّه بخضم الإبل نبت الربیع، و وجه التشبیه أنّ الإبل لمّا کانت تستلذّ نبت الربیع بشهوه صادقه و تملاء منه أحناکها، و ذلک لمجیئه عقیب یبس الأرض و طول مدّه الشتاء، و مع ذلک طیبه و نضارته، کان ما أکله أقارب عثمان من بیت المال مشبّها لذلک من جهه کثرته و طیبه لهم عقیب ضرّهم و فقرهم، و کلّ ذلک فی معرض الذّم و التوبیخ المستلزم لارتکاب مناهی اللّه المستلزم لعدم التأهّل لأمر الخلافه.

قوله إلى انتکث علیه فتله و أجهز علیه عمله و کبت به بطنته. إشاره إلى غایات من قیامه فی الحال المذکوره و استعار لفظ الفتل و هو برم الحبل لما کان یبرمه من الرأی و التدبیر و یستبدّ به دون الصحابه و کنّى به عنه، و کذلک لفظ الانتکاث لانتقاض ذلک التدابیر و رجوعها علیه بالفساد و الهلاک، و قوله و أجهز علیه عمله یشتمل على مجاز فی الإفراد و الترکیب أمّا فی الإفراد فلأنّ استعمال الإجهاز إنّما یکون حقیقه فی قتل تقدّمه جرح المقتول و إثخان بضرب و نحوه، و لمّا کان قتل عثمان مسبوقا بطعن أسنّه الألسنه و الجرح بحدّ أو سیوفها لا جرم أشبه قتله الإجهاز فأطلق علیه لفظه، و أمّا فی الترکیب فلأنّ إسناد الإجهاز إلى العمل لیس حقیقه لصدور القتل عن القاتلین لکن لمّا کان عمله هو السبب الحاصل لهم على قتله صحّ إسناد الإجهاز إلیه إسناد الفعل إلى السبب الفاعلیّ أی إلى السبب الحامل و هو من وجوه المجاز، و کذلک قوله و کبت به بطنته مجاز أیضا فی الإسناد و الترکیب، و ذلک لأنّ الکبو إنّما هو حقیقه فی الإسناد إلى الحیوان و لمّا کان ارتکابه للامور الّتی نقمت علیه و توسّعه ببیت المال المکنّى عن ذلک بالبطنه و استمراره على ذلک مدّه خلافته سلیما یشبه رکوب الفرس و استمرار مشیه سلیما من العثار و الکبو کانت البطنه مشبّهه للمرکوب من هذه الجهه فلذلک صحّ إسناد الکبو إلیها مجازا. قوله فما راعنی إلّا و الناس کعرف الضبع إلىّ ینثالون علیّ من کل جانب. إلىّ متعلّق بمحذوف تقدیره مقبلون إلىّ و فاعل راعنی إمّا الجمله الإسمیّه و هو مقتضى قول الکوفیّین إذ جوّز و اکون الجمله فاعلا أو ما دلّت علیه هذه الجمله و کانت مفسّره له من المصدر أی فما راعنی إلّا إقبال الناس إلىّ و هو فرع مذهب البصریین إذ منعوا کون الجمله فاعلا، و نظیره قوله تعالى «ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآیاتِ لَیَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِینٍ»«» و ینثالون إمّا خبر ثان للمبتدأ أو حال عن راعنی أو العامل فی إلىّ و الإشاره إلى وصف ازدحام الناس علیه للبیعه بعد قتل عثمان، و قد شبّههم فی إقبالهم إلیه، و ازدحامهم علیه بعرف الضبع، و وجه ذلک أنّ الضبع ذات عرف کثیر قائم الشعر و العرب یسمّى الضبع عرفا لعظم عرفها فکان حال الناس فی إقبالهم علیه متتابعین یتلو بعضهم بعضا قیاما یشبه عرف الضبع.

قوله حتّى لقد وطى‏ء الحسنان و شقّ عطفاى. إشاره إلى غایه ازدحامهم علیه، و هی وطى ولدیه الحسن و الحسین علیهما السّلام و شقّ ردائه بالجذب عند خطابه و الجلوس على جانبیه.
و أمّا على الروایه الاخرى فالمراد بالشقّ إمّا الأذى الحاصل للصدر و المنکبین، أو شقّ‏ قمیصه بالجلوس على جانبیه، و إطلاق لفظ العطفین على جانبی القمیص مجاز إطلاقا لاسم المجاور على مجاوره أو المتعلّق على متعلّقه، و من عاده العرب أن یکون أمراؤهم کسائرهم فی قلّه التوقیر و التعظیم فی المخاطبات، و فعلهم ذلک إمّا فرح به علیه السّلام، أو لجلاقه طباع رعاعهم.

و حکى السیّد المرتضى- رضوان اللّه علیه- أنّ أبا عمر محمّد بن عبد الواحد غلام ثعلب روى فی قوله علیه السّلام وطى‏ء الحسنان إنّهما الإبهامان، و أنشد المشنفریّ مهضومه الکشحین خرماء الحسن، و روى أنّ أمیر المؤمنین علیه السّلام إنّما کان یومئذ جالسا محتبیا و هی جلسه رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله المسمّاه بالقرفصاء و هی جمع الرکبتین و جمع الذیل فلمّا اجتمعوا لیبایعوه زاحموه حتّى وطئوا إبهامیه و شقّوا ذیله بالوطى و لم یعن الحسن و الحسین علیهما السّلام و هما رجلان کسائر الحاضرین، و هذا القول یؤیّد الروایه الاولى، و اعلم أنّ إرادته للحسن و الحسین أظهر. قوله مجتمعین حولی کربیضه الغنم. مجتمعین منصوب على الحال کالّذی قبله و العامل واحد أو بقوله وطى‏ء و شقّ، و قد شبّه اجتماعهم حوله بربیضه الغنم و وجه التشبیه ظاهر، و یحتمل أن یلاحظ فی وجه التشبیه مع الهیئه زیاده و هی أنّه شبّهم بالغنم لغفلتهم عن وضع الأشیاء فی مواضعها، و قلّه فطانتهم و عدم استعمالهم للأدب معه أو مطلقا و العرب تصف الغنم بالغباوه و قلّه الفطانه. قوله فلمّا نهضت بالأمر نکثت طائفه و مرقت اخرى و فسق آخرون. أراد بالناکثین طلحه و الزبیر لأنّهما بایعاه و نقضا بیعته بخروجهما علیه و کذلک من تبعهما ممّن بایعه، و بالمارقین الخوارج، و بالقاسطین أو الفاسقین أصحاب معاویه، و هذه الأسماء سبقت من الرسول صلى اللّه علیه و آله إذ حکى فی موضع آخر أنّه أخبره بأنّه سیقاتل الناکثین و المارقین و القاسطین بعده، و إنّما خصّ الخوارج بالمروق لأنّ المروق و هو مجاوزه السهم للرمیه و خروجه منها، و لمّا

کانت الخوارج أوّلا منتظمون فی سلک الحقّ إلّا أنّهم بالغوابز عمهم فی طلبه إلى أن تعدّوه و تجاوزوه لا جرم حسن أن یستعار لهم لفظ المروق لمکان المشابهه و قد أخبر الرسول صلى اللّه علیه و آله عنهم بهذا اللفظ إذ قال: یمرقون من الدّین کما یمرق السهم من الرمیّه و أمّا تخصیص أهل الشام بالفاسقین فلأنّ مفهوم الفسق أو القسط هو الخروج عن سنن الحقّ و قد کانوا کذلک بمخالفته علیه السّلام و الخروج عن طاعته فکان إطلاق أحد اللفظین علیهم لذلک. قوله کأنّهم لم یسمعو اللّه یقول «تِلْکَ الدَّارُ الْآخِرَهُ نَجْعَلُها لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَهُ لِلْمُتَّقِینَ»«». تنبیه لأذهان الطوائف الثلاث المذکوره و من عساه یتخیّل أنّ الحقّ فی سلوک مسالکهم على أنّ ما فعلوه من المخالفه علیه و القتال له إنّما هو طلب للعلوّ و المفاخره فی الدنیا المستلزم للسعی فی الأرض بالفساد و إعراض عن الدار الآخره و حسم لمادّه إعذارهم أن یقولوا یوم القیامه إنّا کنّا عن هذا غافلین فیقولوا عند لقاء ربهم لو سمعنا هذه الآیه و وعیناها لما ارتکبنا هذه الأفعال، و یزعمون أنّ الحقّ فی هذه المتّصله هو استثناء نقیض تالیها لینتج لهم نقیض مقدّمها، و تقدیره علیه السّلام لهذا العذر لهم، على سبیل التهکّم بهم و أنّه لا عذر لهم فی الحقیقه ممّا فعلوه ثمّ أراد علیه السّلام تکذیبهم فی ذلک العذر على تقدیر اعتذارهم به فأشار إلى مکذّب النتیجه بوضع نقیضها مؤکّدا بالقسم البارّ، و إلى منع لزوم هذه المتّصله بقوله بلى و اللّه لقد سمعوها و وعوها و لکنّه حلیت الدنیا فی أعینهم، و نبّه على أنّ وضع المقدّم المذکوره فی المتّصله لا یستلزم تالیها مطلقا بل استلزامه له موقوف على زوال مانع هو حاصل لهم الآن و ذلک المانع هو غرور الدنیا لهم بزینتها و إعجابهم بها و على تقدیر حصول المانع المذکور جاز أن یجتمع هذا المقدّم مع نقیض التالی المذکور و هو ارتکاب ما ارتکبوه من الأفعال. قوله أما و الّذی فلق الحبّه و برء النسمه لو لا حضور الحاضر و قیام الحجّه بوجود الناصر و ما أخذ اللّه على العلماء إلى آخره.

أقول: لمّا ذکر من حال القوم و حاله معهم ما ذکر من الشکایه و التظلّم فی أمر الخلافه و ذمّ الشورى و ما انتهى إلیه من الحال الّتی أوجبت نزوله عن مرتبته إلى أن قرن بالجماعه المذکورین أردف ذلک ببیان الأعذار الحامله على قبول هذا الأمر و القیام به بعد تخلّفه عنه إلى هذه الغایه، و قدّم على ذلک شاهدا هذا القسم العظیم بهاتین الإضافتین و هما فالق الحبّه و بارى‏ء النسمه، و اعلم أنّ الوصف الأوّل قد ورد فی القرآن الکریم و هو قوله «فالِقُ‏ الْحَبِّ وَ النَّوى‏» و إنّما خصّ الحبّه و النسمه بالتعظیم بالنسبه إلى اللّه تعالى لما یشتملان علیه من لطف الخلقه و صغر الحجم من أسرار الحکمه و بدائع الصنع الدالّه على وجود الصانع الحکیم، أمّا فالق الحبّ ففیه قولان: أحدهما قال ابن عبّاس و الضحاک: فالق الحبّ أی خالقه فعلى هذا یکون معنى قوله علیه السّلام فلق الحبّه کقوله فطر الخلائق بقدرته، الثانی و هو الّذی علیه جمهور المفسّرین أنّ فلق الحبّه هو الشقّ الّذی فی وسطها، و تقریر هذا القول أنّ الحبّه من الحنطه مثلا لمّا کانت من غایتها أن تکون شجره مثمره تنتفع بها الحیوان جعل اللّه سبحانه فی وسطها ذلک الشقّ حتّى إذا وقعت فی الأرض الرطبه ثمّ مرّت بها مدّه من الزمان جعل سبحانه الطرف الأعلى من ذلک الشقّ مبدء لخروج الشجره الصاعده إلى الهواء و الطرف الأسفل مبدء للعروق الهابطه إلى الأرض الّتی منها مادّه تلک الشجره، و فی ذلک بدائع من الحکمه شاهده بوجود المدبّر الحکیم: أحدها أن تکون طبیعه تلک الحبّه إن کانت تقتضى الهوى فی عمق الأرض فکیف تولّدت منها الشجره الصاعده فی الهواء و على العکس، فلمّا تولّد منها أمران متضادّان علمنا أنّ ذلک لیس لمجرّد الطبیعه بل بمقتضى الحکمه الإلهیّه، و ثانیها أنّا نشاهد أطراف تلک العروق فی غایه الدقّه و اللطافه بحیث لو دلکها الإنسان بأدنى قوّه دلکا لصارت کالماء ثمّ إنّها مع غایه تلک اللطافه تقوى على خرق الأرض الصلبه و تنفذ فی مسام الأحجار فحصول هذه القوّه الشدیده لهذه الأجرام اللطیفه الضعیفه لا بدّ و أن یکون بتقدیر العزیز الحکیم، و ثالثها أنّک قد تجد الطبائع الأربع حاصله فی الفاکهه الواحده کالاترج فإنّ قشره حارّ یابس، و لحمه بارد رطب، و حماضه بارد یابس، و برزه حار یابس.

فتولّد هذه الطبائع المتضادّه من الحبّه الواحده لابدّ و أن یکون بتقدیر الفاعل الحکیم، و رابعها أنّک إذا نظرت إلى ورقه من أوراق الشجره المبدعه عن الحبّه وجدت فی وسطه خطّا مستقیما کالنخاع بالنسبه إلى بدن الإنسان ثمّ لا یزال ینفصل عنه شعب و عن الشعب شعب اخرى إلى أن یستدقّ، و یخرج تلک الخطوط عن إدراک البصر، و الحکمه الإلهیّه إنّما اقتضت ذلک لتقوى القوّه الجاذبه المرکوزه فی جرم تلک الورقه على جذب الأجزاء اللطیفه الأرضیّه فی تلک المجارى الضیّقه، و إذا وقفت على عنایه اللّه سبحانه فی تکوّن تلک الورقه الواحده الواقعه علمت أنّ عنایته فی جمله الشجره أکمل، و أنّ عنایته فی جمله النبات أکمل، ثمّ إذا علمت أنّه إنّما خلق جمله النبات لمصلحه الحیوانات علمت أنّ عنایته فی خلق الحیوان أکمل، و إذا علمت أنّ المقصود من خلق الحیوان إنّما هو الإنسان علمت أنّ الإنسان هو أعزّ مخلوقات هذا العالم عند اللّه و أکرمه علیه و أنّه قد أکرمه بأنواع الإکرام کما قال تعالى «وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ» الآیه «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» و أمّا النسمه فعلیک فی مطالعه عجائب صنع اللّه ببدن الإنسان بکتب التشریح، و قد أشرنا إلى طرف من ذلک فی الخطبه الاولى. إذا عرفت ذلک فاعلم أنّه علیه السّلام ذکر من تلک الأعذار ثلاثه: أحدها حضور الحاضرین لمبایعته، و الثانی قیام الحجّه علیه بوجود الناصر له فی طلب الحقّ لو ترک القیام، الثالث ما أخذ اللّه على العلماء من العهد على إنکار المنکرات و قمع الظالمین و دفع الظلامات عند التمکّن و العذران الأوّلان هما شرطان فی الثالث إذ لا ینعقد و لا یجب إنکار المنکر بدونهما و کنّى بکظّه الظالم عن قوّه ظلمه و بسغب المظلوم عن قوّه ظلامته.

قوله لألقیت حبلها على غاربها. استعاره وصف من أوصاف الناقه للخلافه أو للامّه کنّى بها عن ترکه لها و إهماله لأمرها ثانیا کإهماله أوّلا، و لمّا استعار لها لفظ الغارب جعل لها حبلا تلقى علیه و هو من ترشیح الاستعاره و أصله أنّ الناقه یلقى زمامها على غاربها و تترک لترعى. قوله و لسقیت آخرها بکأس أوّلها، استعار لفظ السقى للترک المذکور أیضا و رشّح تلک الاستعاره بذکر الکأس، و وجه تلک الاستعاره أنّ السقى بالکأس لمّا کان مستلزما لوجود السکر غالبا و کان إعراضه أوّلا مستلزما لوقوع الناس فیما ذکر من الطخیه العمیاء المستلزمه لحیره کثیر من الخلق و ضلالهم الّذی یشبه السکر و أشدّ منه لا جرم حسن أن یعبّر عن ذلک الترک بالسقی بالکأس. قوله و لألفیتم دنیاکم هذه أهون عندى من عطفه عنز عطف على ما قبله و یفهم منه أنّه علیه السّلام طالب للدنیا و لها عنده قیمه إلّا أنّ طلبه لها و الحرص على الإمره فیها لیس لأنّها هی، بل لما ذکرنا من نظام الخلق و إجراء امورهم على القانون العدل المأخوذ على العلماء کما أشار إلیه، و نظم هذا الکلام فی صوره متّصله هکذا: لو لم یحضر الحاضر، و لم یقم الناصر، و ما أخذ اللّه على العلماء ما أخذ علیهم من إنکار المنکر إذا تمکّن لترکت آخرا کما ترکت أوّلا و لو جدتم دنیاکم هذه أهون عندى مما لا قیمه له و هو عفطه العنز، و أمّا الحکایه المتعلّقه بهذه الخطبه فأراد بأهل السواد سواد العراق. قال أبو الحسن الکیدری- رحمه اللّه- وجدت فی الکتب القدیمه أنّ الکتاب الّذی دفعه الرجل إلى أمیر المؤمنین علیه السّلام کان فیه عدّه مسائل: أحدها ما الحیوان الّذی خرج من بطن حیوان آخر و لیس بینهما نسب فأجاب علیه السّلام بأنّه یونس بن متى علیه السّلام خرج من بطن الحوت، الثانیه ما الشی‏ء الّذی قلیله مباح و کثیره حرام فقال علیه السّلام هو نهر طالوت لقوله تعالى «إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَهً بِیَدِهِ» الثالثه ما العباده الّذی لو فعلها واحد استحقّ العقوبه و إن لم یفعلها استحقّ أیضا العقوبه فأجاب بأنّها صلاه السکارى. الرابعه ما الطائر الّذى لا فرخ له و لا فرع و لا أصل فقال: هو طائر عیسى علیه السّلام فی قوله «وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّینِ کَهَیْئَهِ الطَّیْرِ بِإِذْنِی فَتَنْفُخُ فِیها فَتَکُونُ طَیْراً بِإِذْنِی»«» الخامسه رجل علیه من الدین ألف درهم و له فی کیسه ألف درهم فضمنه ضامن بألف درهم فحال علیه الحول فالزکاه على أی المالین تجب. فقال: إن ضمن الضامن بإجازه من علیه الدین فلا یکون علیه، و إن ضمنه من غیر إذنه فالزکاه مفروضه فی ماله، السادسه حجّ جماعه و نزلوا فی دار من دور مکّه و أغلق واحد منهم باب الدار و فیها حمام فمتن من العطش قبل عودهم إلى الدار فالجزاء على أیّهم یجب فقال علیه السّلام: على الّذی أغلق الباب و لم یخرجهّن و لم یضع لهنّ ماء، السابعه شهد شهداء أربعه على محضر بالزنا فأمرهم الإمام برجمه فرجمه واحد منهم دون الثلاثه الباقین و وافقهم قوم أجانب فی الرجم فرجع من رجمه عن شهادته و المرجوم لم یمت ثمّ مات فرجع الآخرون عن شهادتهم علیه بعد موته فعلى من یجب دیته فقال: یجب على من رجمه من الشهود و من وافقه. الثامنه شهد شاهدان من الیهود على یهودیّ أنّه أسلم فهل یقبل شهادتهما أم لا فقال: لا تقبل شهادتهما لأنّهما یجوّز ان تغییر کلام اللّه و شهاده الزور. التاسعه شهد شاهدان من النصارى على نصرانیّ أو مجوسیّ أو یهودیّ أنّه أسلم فقال: تقبل شهادتهما لقول اللّه سبحانه «وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّهً لِلَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ قالُوا إِنَّا نَصارى‏»«» الآیه، و من لا یستکبر عن عباده اللّه لا یشهد شهاده الزور. العاشره قطع إنسان ید آخر فحضر أربعه شهود عند الإمام و شهدوا على قطع یده، و أنّه زنا و هو محصن فأراد الإمام أن یرجمه فمات قبل الرجم فقال علیّ من قطع یده دیه ید حسب و لو شهدوا أنّه سرق نصابا لم یجب دیه یده على قاطعها، و اللّه أعلم.
شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۲۷۰-۲۰۱

بازدیدها: ۴۲

خطبه۲شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام بعد انصرافه من صفین

القسم الأول

أَحْمَدُهُ اسْتِتْمَاماً لِنِعْمَتِهِ وَ اسْتِسْلَاماً لِعِزَّتِهِ- وَ اسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِیَتِهِ- وَ أَسْتَعِینُهُ فَاقَهً إِلَى کِفَایَتِهِ- إِنَّهُ لَا یَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ وَ لَا یَئِلُ مَنْ عَادَاهُ- وَ لَا یَفْتَقِرُ مَنْ کَفَاهُ- فَإِنَّهُ أَرْجَحُ مَا وُزِنَ وَ أَفْضَلُ مَا خُزِنَ- وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِیکَ لَهُ- شَهَادَهً مُمْتَحَناً إِخْلَاصُهَا مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا- نَتَمَسَّکُ بِهَا أَبَداً مَا أَبْقَانَا- وَ نَدَّخِرُهَا لِأَهَاوِیلِ مَا یَلْقَانَا- فَإِنَّهَا عَزِیمَهُ الْإِیمَانِ وَ فَاتِحَهُ الْإِحْسَانِ- وَ مَرْضَاهُ الرَّحْمَنِ وَ مَدْحَرَهُ الشَّیْطَانِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- أَرْسَلَهُ بِالدِّینِ الْمَشْهُورِ وَ الْعَلَمِ الْمَأْثُورِ- وَ الْکِتَابِ الْمَسْطُورِ وَ النُّورِ السَّاطِعِ- وَ الضِّیَاءِ اللَّامِعِ وَ الْأَمْرِ الصَّادِعِ- إِزَاحَهً لِلشُّبُهَاتِ وَ احْتِجَاجاً بِالْبَیِّنَاتِ- وَ تَحْذِیراً بِالْآیَاتِ وَ تَخْوِیفاً بِالْمَثُلَاتِ- وَ النَّاسُ فِی فِتَنٍ انْجَذَمَ فِیهَا حَبْلُ الدِّینِ- وَ تَزَعْزَعَتْ سَوَارِی الْیَقِینِ- وَ اخْتَلَفَ النَّجْرُ وَ تَشَتَّتَ الْأَمْرُ- وَ ضَاقَ الْمَخْرَجُ وَ عَمِیَ الْمَصْدَرُ- فَالْهُدَى‏ خَامِلٌ وَ الْعَمَى شَامِلٌ- عُصِیَ الرَّحْمَنُ وَ نُصِرَ الشَّیْطَانُ وَ خُذِلَ الْإِیمَانُ- فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ وَ تَنَکَّرَتْ مَعَالِمُهُ- وَ دَرَسَتْ سُبُلُهُ وَ عَفَتْ شُرُکُهُ- أَطَاعُوا الشَّیْطَانَ فَسَلَکُوا مَسَالِکَهُ وَ وَرَدُوا مَنَاهِلَهُ- بِهِمْ سَارَتْ أَعْلَامُهُ وَ قَامَ لِوَاؤُهُ- فِی فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا وَ وَطِئَتْهُمْ بِأَظْلَافِهَا- وَ قَامَتْ عَلَى سَنَابِکِهَا- فَهُمْ فِیهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ- فِی خَیْرِ دَارٍ وَ شَرِّ جِیرَانٍ- نَوْمُهُمْ سُهُودٌ وَ کُحْلُهُمْ دُمُوعٌ- بِأَرْضٍ عَالِمُهَا مُلْجَمٌ وَ جَاهِلُهَا مُکْرَمٌ

اللغه

أقول: صفین اسم موضع بالشام و الاستسلام الانقیاد و وال فلان یئل والا و على فعول إذا لجأ فنجا و منه الموئل الملجأ، و الفاقه الفقر و لا فعل لها، و مصاص کلّ شی‏ء خالصه و الذخیره الجنیئه، و الأهاویل الامور المخوّفه الّتی یعظم اعتبار النفس لها، و عزیمه الإیمان عقد القلب علیه، و المدحره محلّ الدحر و هو الطرد و الإبعاد، و المأثور المقدّم على غیره، و المأثور أیضا المنقول، و المثلات جمع مثله بفتح المیم و ضمّ الثاء و هی العقوبه، و الفتن جمع فتنه هی کلّ أمر صرف عن قصد اللّه و اشتغل عنه من بلاء و محنه و هوى متّبع، و انجذم انقطع، و الزعزعه الاهتزاز و الاضطراب، و السوارى الأساطین، و النجر الطبع و الأصل، و الخامل الساقط، و انهارت انهدمت، و المعالم الآثار لأنّ بها یعلم الشی‏ء و یستدلّ علیه، و الشرک جمع شرکه بفتح الشین و الراء و هی معظم الطریق و وسطها، و المناهل المشارب، و السنابک أطراف مقدّم الحوافر. الواحد سنبکه، و السهود مصدر کالجمود مرادف للسهاد و الأرق

المعنى

و اعلم أنّ المراد بالحمد هاهنا الشکر، و استتماما و ما بعدها من المنصوبات منصوبات على المفعول له، و قد جعل علیه السّلام لحمده هاهنا غایتین، الاولى منهما الاستتمام لنعمه اللّه و ذلک لأنّ العبد یستعدّ بمزید الشکر لمزید النعمه و هو فی ذلک ناظرا إلى قوله تعالى «وَ لَئِنِ‏ شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ» لما یشتمل علیه الآیه من البعث على رجاء المزید، و الثانیه الاستسلام لعزّته فإنّ العبد أیضا یستعدّ بکمال الشکر لمعرفه المشکور و هو اللّه سبحانه و هی مستلزمه للانقیاد لعزّته و الخشوع لعظمته و هو فی ذلک ناظر إلى قوله «وَ لَئِنْ کَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِی لَشَدِیدٌ» لما یشتمل علیه الآیه من التخویف المانع من مقابله نعم اللّه تعالى بالکفر، ثمّ لمّا کان الاستعداد لتمام النعم و التأهّل لکمال الخضوع و الانقیاد لعزّه اللّه سبحانه إنّما یتمّ بعد أن یکون العنایه الإلهیّه آخذه بضبعی العبد و جاذبه له عن ورطات المعاصی مبّعده له عن أسباب التورّط فیها بکفایه المؤن و الأسباب الداعیه إلى ارتکاب أحد طرفی الإفراط و التفریط جعل علیه السّلام للحمد غایه اخرى هی الوسیله إلى الغایتین المذکورتین و هی الاستعصام باللّه سبحانه من معصیته، و عقّب ذلک الشکر بطلب المعونه منه على تمام الاستعداد لما سأل و شکر لأجله، و جعل لتلک الاستعانه علّه حامله و هی الفاقه نحو غایه هی کفایه دواعی التفریط و الإفراط بالجذبات الإلهیّه و لا شکّ أنّ الغایتین المذکورتین لا یتمّ بدون عصمته و المعونه بکفایته و ذلک قوله و استعصاما من معصیته و أستعینه فاقه إلى کفایته. قوله إنّه لا یضلّ من هداه و لا یئل من عاداه و لا یفتقر من کفاه تعلیل لطلبه المعونه على تحصیل الکفایه فإنّه لمّا کان حصول الکفایه مانعا من دواعی طرفی التفریط و الإفراط کان العبد مستقیم الحرکات على سواء الصراط و ذلک هدى اللّه یهدی به من یشاء فکأنّه قال: و أستعینه على أن یرزقنی الکفایه المستلزمه للهدایه الّتی هی الغنى الحقیقی و الملک الأبدیّ فإنّه لا یضلّ من هداه و لا ینجو من عذابه من عاداه و أعرض عن شکره و الاستعانه به و قد أطلق علیه السّلام هاهنا لفظ المعاداه اللّه کما أطلقها القرآن الکریم على ما هو من لوازمها و هو الإعراض عن عبادته و البغض لها و لمن تلبّس بها من عباده مجازا.

قوله فإنّه أرجح ما وزن و أفضل ما خزن الضمیر یعود إلى اللّه سبحانه و لمّا کانت ذاته مقدّسه عن الوزن و الخزن اللّذین هما من صفات الأجسام فبالحریّ أن یکون المقصود رجحان عرفانه فی میزان العقل إذ لا یوازنه عرفان ما عداه بل لا یخطر ببال العارف عند الإخلاص سواه حتّى یصدق هناک موازنه یقال فیها أرجح، و یکون المراد بالخزن خزن‏ ذلک العرفان فی أسرار النفوس القدسیّه، و قیل: الضمیر یرجع إلى ما دلّ علیه قوله أحمده من الحمد على طریقه قولهم من کذب کان شرّا له. قوله و أشهد أن لا إله إلّا اللّه هذه الکلمه أشرف کلمه وحّد بها الخالق عزّ اسمه و قد أشرنا فی الخطبه الاولى إلى ما تضمّنه ترکیبها من حسن الوضع المؤدىّ للمقصود التامّ منها، و بالجمله هی منطبقه على جمیع مراتب التوحید، و قد زعم النحویّون أنّ فیها شیئا مقدّرا یکون خبرا للا. قالوا: و تقدیره لا إله لنا إلّا اللّه أولا إله موجود إلّا اللّه، و اعلم أنّ کلّ تقدیر یقدّر هاهنا فهو مخرج لهذه الکلمه عمّا یفید إطلاقها و یفیدها تخصیصا لم یکن و هو ممّا یجده الإنسان من نفسه عند الاعتبار فالأولى أن یکون خبر لا قولنا إلّا اللّه و لا حاجه إلى تقدیر أمر زائد، و قد وردت لهذه الکلمه فضائل: الاولى قوله صلى اللّه علیه و آله: أفضل الذکر لا إله إلّا اللّه و أفضل الدعاء الحمد للّه. الثانیه عن ابن عمر قال: قال صلى اللّه علیه و آله: لیس على أهل لا إله إلّا اللّه وحشه فی الموت و لا عند النشر و کأنّی أنظر إلى أهل لا إله إلّا اللّه عند الصیحه ینفضون شعورهم من التراب و یقولون: الحمد للّه الّذی أذهب عنّا الحزن.

الثالثه یروى أنّ المأمون لمّا انصرف من مرو یرید العراق و احتاز بنیسابور و کان على مقدّمته علیّ بن موسى الرضا علیه السّلام فقام إلیه قوم من المشایخ، و قالوا: نسألک بحقّ قرابتک من رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله أن تحدّثنا بحدیث ینفعنا فروى عن أبیه عن آبائه رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله عن جبرئیل عن ربّه أنّه قال: لا إله إلّا اللّه حصنی فمن دخل حصنی أمن من عذابی. الرابعه قال صلى اللّه علیه و آله: أن أقاتل الناس حتّى یقولوا لا إله إلّا اللّه فإذا قالوها عصموا منّی دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على اللّه. قال بعض العلماء: إنّ اللّه تعالى جعل العذاب عذابین: أحدهما السیف فی ید المسلمین، و الثانی عذاب الآخره، و السیف فی غلاف یرى و النار فی غلاف لا یرى فقال تعالى لرسول اللّه صلى اللّه علیه و آله: من أخرج لسانه من الغلاف المرئیّ و هو الفم فقال: لا إله إلّا اللّه أدخلنا السیف فی الغمد المرئیّ، و من أخرج لسان قلبه من الغلاف الّذی لا یرى و هو غلاف الشرک فقال: لا إله إلّا اللّه أدخلنا سیف عذاب الآخره فی غمد الرحمه واحده بواحده جزاء، و لا ظلم الیوم. قوله شهاده ممتحنا إخلاصها معتقدا مصاصها. مصدر وصف بوصفین جریا على غیر من‏ هماله، و الممتحن المختبر أراد أنّه مختبر نفسه فی إخلاص هذه الشهاده واجد لها عریّه عن شبهات الباطل، معرضه عن کلّ خاطر سوى الحقّ سبحانه متمثّله فیها حلیه التوحید و خالصه مبرّاه عن شوائب الشرک الخفیّ کما عرفت من التوحید المطلق و الإخلاص المحقّق.

قوله نتمسّک بها أبدا ما أبقانا و ندّخرها لأهاویل ما یلقانا فإنّها عزیمه الإیمان إلى قوله و مدحره الشیطان. إشاره إلى أنّه یجب التمسّک بها مدّه البقاء فی دار الدنیا لعزائم الامور و الاستعداد بها لأحوال الآخره و شدائدها ثمّ عقّبها بذکر علّه التمسّک بها و ادّخارها، و ذکر أربعه أوصاف یوجب ذلک: أوّلها أنّها عقیده الإیمان و عزیمته المطلوبه للّه سبحانه من خلقه و کلّ ما عداها ممّا وردت به الشریعه من قواعد الدین و فروعه فهی حقوق لها و توابع و متممّات و معیّنات على الوقوف على سرّها و الوصول إلى إخلاصها. و ثانیها أنّها فاتحه الإحسان فإنّها أوّل کلمه افتتحت به الشریعه و استعدّ العبد بالسلوک فی طریق إخلاصها لإفاضه إحسان اللّه و نعمه شیئا فشیئا، و کما أنّها أوّل مطلوب للّه من خلقه فی فطرتهم الأصلیّه و على ألسنه رسله علیهم السّلام فهی أیضا غایتهم الّتی ینالون بإخلاصها و استصحاب مصاصها السعاده الباقیه. و ثالثها أنّها مرضاه الرحمن، و ذلک ظاهر إذ هی محلّ رضوان اللّه و السبب المستنزل لتمام رحمته و مزید نعمته على محلّ تنور بها و رفع السخط عنه کما قال: امرت أن اقاتل الناس حتّى یقولوا لا إله إلّا اللّه الخبر. و رابعها أنّها مدحره الشیطان و ذلک أیضا ظاهر فإنّ غایه دعوه الشیطان هو الشرک الظاهر أو الخفیّ، و هذه الکلمه إنّما وضعت فی مقابله دعوته فظاهرها دافع لظاهر ما یدعو إلیه، و باطنها قامع لباطن ما یدعو إلیه، و کما أنّ الشرک على مراتب لا تتناهى فکذلک الإخلاص فی هذه الکلمه فبقدر کلّ مرتبه من السلوک فی إخلاصها یسقط فی مقابلته مرتبه من الشرک، و یبطل سعى الشیطان فی بناء تلک المرتبه إلى أن یتمّ الإخلاص بقدر الإمکان، و قد انهدمت قواعد الشیطان بکلّیّتها و صار أبعد مطرود عن قبول ما یقول «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَیْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ رَحْمَهً إِنَّکَ أَنْتَ الْوَهَّابُ»«».

قوله و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله. قال رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله: من قال أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه فجرى بها لسانه و أطمأنّ بها قلبه حرمت النار علیه، و إنّما قرنت هذه الکلمه بکلمه التوحید لأنّک عرفت أنّ غرض الشریعه إنّما هو إخلاص تلک الکلمه، و لن یحصل إخلاصها إلّا بسلوک مراتبها، و لن یحصل ذلک إلّا بمعرفه کیفیّه السلوک، و علمت أنّ مدار إرسال الرسل و وضع الشرائع کیفیّه السلوک فی درجات الإخلاص فکانت الشهاده و الإقرار بصدق المبلّغ لهذه الرساله و المبیّن لطریق الإخلاص أجلّ کلمه بعد کلمه الإخلاص لأنّها بمنزله الباب لها فلأجل ذلک قرنت بها. قوله أرسله بالدین المشهور إلى قوله و الأمر الصادع. إشاره إلى تعظیم الرسول صلى اللّه علیه و آله بما جاء به، و أشار بالدین المشهور إلى دینه المشتمل على تعریف کیفیّه سلوک الصراط المستقیم، و بالعلم المأثور إلى اعتبار کون ذلک الدین هادیا قائدا للخلق یهتدون به إلى حضره القدس الّتی هی مقصد جمیع الشرائع إذ ذلک هو شأن العلم، و کونه مأثورا إشاره إمّا إلى کونه مقدّما على سائر الأدیان کما یقدّم العلم و یهتدى به قوم بعد قوم أو إلى نقله من قرن إلى قرن، و بالکتاب المسطور إلى القرآن المسطوره حقائقه فی ألواح النفوس، و بالنور الساطع و الضیاء اللامع إلى السرّ الّذی جاء به الرسول صلى اللّه علیه و آله یحبّ هذه الطریقه و أمر بقصده منها و هو نور یستشرفه مرأى النفوس الصافیه عن صداء الشبهات و کدورات الشرک بخصوصیّه الأمر، و وصفه بکونه صادعا إلى اعتبار قهره بأوامر اللّه و ردعه لمن لم یسلک الطریق المأمور بسلوکها عن رغبه و اختیار حتّى شقّ بالأمر الإلهیّ وجه باطله و صدع ما کان ملتئما من بناء فساده کما قال تعالى «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِکِینَ»«»

قوله إزاحه للشبهات إلى قوله و تخویفا بالمثلات إشاره إلى الوجوه القریبه لمقاصد البعثه، و ذکر علیه السّلام منها ثلاث مقاصد: أوّلها إزاحه الشبهات و هو أهمّها فإنّ حذف شواغل الدنیا و شبهات الباطل عن قلوب الخلق أهمّ مقاصد الشارع.
الثانی سبب تلک الإزاحه و هو الاحتجاج على الخلق بالحجج الواضحه لهم و الخطابات الواصله إلى أقصى أذهانهم کما قال تعالى «وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ». الثالث التحذیر بالآیات النازعه بالعصاه، و التخویف بالعقوبات الواقعه بأهل الجنایات کما قال تعالى «أَ فَلَمْ یَهْدِ لَهُمْ کَمْ أَهْلَکْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ یَمْشُونَ فِی مَساکِنِهِمْ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِأُولِی النُّهى‏»«» و هذا الإنذار مؤیّد للحجج و الخطابات الشرعیّه فی حقّ من لم یرزق‏

صفاء ذهن یؤثّر فیه مجرّد الخطابات فیحتاج إلى التحذیر و الإنذار. قوله و الناس فی فتن انجذم فیها حبل الدین إلى قوله و قام لواؤه. أقول: یحتمل أن یکون الواو فی قوله و الناس للابتداء، و یکون ذلک منه علیه السّلام شروعا فی ذمّ أحوال زمانه و ما هم فیه من البلاء و المحنه و المخاوف و الحروب بسبب تشتّت أهوائهم و اختلاف آرائهم، و غرضه علیه السّلام تنبیه السامعین على ما عساهم غافلین عنه ممّا فیه من الفتن المشتمله على المذامّ الّتی عدّدها لینّبهوا من رقده الغفله، و یشمّروا فی سلوک سبیل الحقّ عن ساق الجدّ و الاجتهاد، و ذکر من المذامّ الّتی حصل الناس علیها بسبب ما هم فیه من الفتن امورا یرجع حاصلها و إن تعدّدت إلى ترک مراسم الشریعه، و عدم سلوک سبیل الحقّ، و ارتکاب طریق الباطل فانقطاع حبل الدین إشاره إلى انحراف الخلق عن سواء السبیل و عدم تمسّکهم بأوامر اللّه سبحانه حال وقوع تلک الفتن، و استعمال لفظ الحبل هاهنا و فی التنزیل الإلهیّ «فاعتصموا بحبل اللّه جمیعا» استعاره لقانون الشریعه المطلوب منها لزومه و التمسّک به، و کذلک استعمال السواری إمّا لقواعد الدین و أرکانه المأمور بتشییدها کالجهاد الّذی هو أقوى مطالبه لذلک الوقت من الناس، و یکون المراد بتزعزعها عدم استقامتها و استقرار الناس علیها مجازا.

و إمّا لأهل الدین الّذی به یقوم و رجاله العاملین به الّذین لم یأخذهم فی اللّه لومه لائم، و تزعزعها موت اولئک أو خوفهم من الأعداء المارقین و کلّ ذلک استعاره لطیفه و وجوه المشابهه فیها ظاهره، و أشار باختلاف النجر إلى اختلاف الأصل الّذی کان یجمع الخلق و الفطره الّتی فطر الناس علیها و وردت الشریعه بلزومها فإنّها کانت متّفقه بوجود الرسول صلى اللّه علیه و آله فاختلف بعده بسلوک کلّ فرقه مذهبا غیر الاخرى على أنّ النجر هو الحسب أیضا، و الحسب هو الدین، فیحتمل أن یرید و اختلف الدین، و أشار بتشتّت الأمر إلى تفرّق کلمه المسلمین، و بقوله و ضاق المخرج و عمى المصدر إلى أنّ الخلق بعد تورّطهم فی فتن الشبهات الموجبه لتفرّق کلمتهم ضاق مخرجهم منها و عمى علیهم طریق صدورهم منها، و العمى هاهنا هو المشار إلیه بقوله تعالى «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لکِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِی فِی الصُّدُورِ»«» و هو استعاره حسنه إذ العمى حقیقه عباره عن عدم ملکه البصر، و وجه المشابهه أنّ الأعمى کما لا یهتدى لمقاصده المحسوسه بالبصر لعدمه کذلک أعمى البصیره لا یهتدی لمقاصده المعقوله لاختلال بصیرته و عدم عقله لوجوه رشده، و أشار بخمول الهدى إلى عدم ظهوره بینهم حال عمّاهم عن مصدرهم من ضلالهم إذ کان ضوءه ساقطا بینهم غیر موجود، و الفاء لعطف الجمله الاسمیّه على الفعلیّه و أشار بشمول العمى إلى اشتراکهم فی عدم رؤیتهم لسبیل الحقّ الّذی به یخرجون من شبهات الباطل و ظلمته ثمّ أشار بعصیانهم للرحمن و نصرهم للشیطان إلى أنّ ما هم فیه جور عن الحقّ و نصره للباطل الّذی هو مأمول الشیطان فبالحریّ أن یکون نصره للشیطان و عصیانا للرحمن و من نصر الشیطان بالذّب على الباطل فقد خذل الإیمان بترکه تشیید قواعده و الذّب عنه، و بترک الإیمان و خذلانه لا یبقى له دعامه یقوم بها و تحمله، و الإشاره بالدعائم و المعالم إلى دعاه الحقّ و حمله الإیمان و بانهیارها إلى عدمهم أو عدم قبول قولهم، و بتنکّر المعالم إلى عدم معرفتهم فی الخلق لقلّتهم، و یحتمل أن یراد بالدعائم القواعد الّتی للدین کالجهاد و غیره و انهیارها عدم القیام بها، و بتنکّر المعالم إلى انمحائه من القلوب الّتی هی معالم الدین و محالّه و بدروس سبله و عفاء شرکه إلى أنّه لم یبق له أثر یعرف به، و کلّ ذلک مبالغه فی ضعف الدین و مسالک الشیطان و مناهله ما یجرّهم إلیه من مناهی اللّه سبحانه فیتّبعونه فیها، و أعلام الشیطان و لواؤه إمّا القاده إلیه و الدعاه إلى باطله المقتدى بهم أو صور الباطل الّتی تصوّرت فی أذهان الخلق و صارت غایات لهم فانقادوا لها و اتّبعوها فهم کالأعلام و الألویه فی الحروب و غیرها. قوله فی فتن داستهم بأخفافها و وطئتهم بأظلافها و قامت على سنابکها یحتمل أن یکون فی فتن متعلّقا بقوله بهم سارت أعلامه و قام لواؤه، و یحتمل أن یتعلّق بمقدّر یکون خبرا ثانیا لقوله و الناس، و هذه الفتن هی الّتی أشار إلیها أوّلا و إنّما أوردها ثانیا بزیاده أوصاف فبالغ علیه السّلام فی تشبیهها بأنواع الحیوان فاستعار لها أخفافا و أظلافا و حوافرا و جعل لها دوسا و وطئا و قیاما على الحوافر، و یحتمل أن یکون هناک إضمار أی داستهم بأخفاف إبلها و وطئتهم بأظلاف بقرها و قامت على سنابک خیلها فحذف المضاف و أقام المضاف إلیه مقامه و حینئذ یکون التجوّز فی نسبه الوطی و الدروس و القیام إلیها فقط و هو المجاز فی الإسناد. قوله فهم فیها تائهون. الفاء للتعقیب و أشار بتیههم إلى ضلالهم عن القصد فی ظلمات الفتن و بحیرتهم إلى تردّدهم فی أنّ الحقّ فی أیّ جهه و عدم درایتهم أهو مع علیّ أمّ مع معاویه و بجهلهم إلى عدم علمهم بالحقّ و اعتقاد بعضهم الباطل عن شبهه تحکیم الحکمین و اعتقاد آخرین له عن شبهه دم عثمان، و أمثال ذلک ممّا هو جهل مرکّب و بکونهم مفتونین إلى فتنه غیرهم لهم و إضلاله عن الحقّ و هو الشیطان و اتباعه. قوله فی خیر دار و شرّ جیران هذا الظرف یجوز أن یکون کالّذی قبله فی کونه خبرا ثالثا و یجوز أن یتعلّق بقوله تائهون أو ما بعده من الأفعال، و قد اختلف الشارحون لکلام علیّ علیه السّلام فی مراده بخیر دار فقال بعضهم: أراد الشام لأنّها الأرض المقدّسه و أهلها القاسطون، و قال معنى قوله نومهم سهود و کحلهم دموع أنّهم لا ینامون اهتماما بامورهم و إعداد أنفسهم للقتال و یبکون قتلاهم، و قوله بأرض عالمها ملجم یرید نفسه و الناصرین للحقّ، و جاهلها مکرم یرید معاویه، و قال آخرون: أراد بخیر دار العراق و شرّ جیران یعنی أصحابه المستصرخ بهم للجهاد، و إنّما کانوا شرّ جیران أی شرّ متجاورین لتخاذلهم عن الحقّ و نصره الدین لأنّ خیر المتجاورین المتعاضدون فی اللّه، و قوله و نومهم سهود أی خوفا من الحرب و حیره فی التدبیر، و کحلهم دموع أی یبکون قتلاهم أیضا، و قیل نفاقا لأنّ من تمّ نفاقه ملک عینیه، و قال آخرون أراد بها دار الدنیا لأنّها دار العمل و أکثر الخلق بها أشرار جهّال و لیس المقصود بکونها خیرا تفضیلها على غیرها لیوهم أنّها أفضل من الآخره بل إثبات فضیلتها فقط فإنّ أفعل التفضیل کما یرد الإثبات الأفضلیّه کذلک یرد لإثبات الفضیله و الدنیا دار فاضله لمن قام فیها بأوامر اللّه وراعى ما خلق لأجله و هی مزرعه الآخره کما ورد به الحدیث و کون أهلها شرّ جیران فأمّا شرّ متجاورین کما سبق أو شرّ جیران لمن التجأ إلیهم و جاورهم للانتصار بهم على أعداء الدین و ذلک لعدم نصرتهم له و القیام معه، و قوله نومهم سهود، و کحلهم دموع ظاهره عموم لفظ الناس فی أصحابه و أصحاب معاویه و من عناه أمر الحرب و دخل فیها، و قد بالغ علیه السّلام فی وصفهم بقلّه النوم لخوف الحرب و هجوم بعضهم على بعض و شدّه اهتمامهم بأمر القتال و حیرتهم فی تیه الباطل حتى ألحق قلّه نومهم بالسهد لاستلزامه عدم النوم فاستعار له لفظه و صیّره هو هو، و قوله و کحلهم دموع بالغ فی تشبیه دموعهم بالکحل و صیّره هو هو. و وجه المشابهه أنّ الدموع لکثرته منهم و ملازمته أجفانهم أشبه فی ذلک الأمر الکثیر المعتاد لعیونهم و هو الکحل فلذلک استعار لفظ الکحل له، و قوله بأرض عالمها ملجم و جاهلها مکرّم الجار و المجرور حکمه حکم الظرف الّذی قبله فیما یتعلّق به ثمّ إن حملنا خیر دار على الدنیا کان قوله بأرض تخصیصا لمکان الناس من الدنیا فکأنّه قال و الناس فی خیر دار هی الدنیا و هم منها بأرض من حالها أنّ عالمها ملجم بلجام الذلّ من أهلها عن الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر لعدم العلم بینهم و غلبه الجهل علیهم، و جاهلها مکرّم لمناسبته لهم فی الجهل و موافقته لهم على الباطل، و یکون المراد بتلک الأرض إمّا الشام أو العراق، و إن حملنا خیر دار على الشام أو العراق کان قوله بأرض من حالها کذا یجری مجرى البیان، و یکون الذّم اللاحق من هذا الکلام راجعا إلى أهل تلک الأرض لتعلّق إلجام العالم، و إکرام الجاهل بهم و إن نسب ذلک إلیها لکونهم بها إذ لو رددنا الذّم إلى الأرض لنا فی ذلک وصفه لها بأنّها خیر دار، و یحتمل أن یکون الواو فی قوله و الناس للحال و العامل أرسله، و الفتن المشاهر إلیها فی فتن العرب فی الجاهلیّه و حال البعثه و خیر دار یعنی مکّه و شرّ جیران یعنی قریشا، و العالم الملجم هو من کان حینئذ عالما بصدق الرسول و حقّ بعثته فهم ملجم بلجام التقیّه و الخوف، و الجاهل المکرّم هو من کذّبه و هذا الاحتمال حسن، و اعلم أنّ الّذی یتبادر إلى الذهن أنّ هذا القدر الّذی أورده السیّد من هذه الخطبه فصول ملفّقه لیست على نظامها الّتی خرجت علیه و إن کان کذلک فربّما یلوح لها لو انتظمت مقاصد توضح ما أورده الناس، و اختلفوا فیه منها، و اللّه أعلم،

القسم الثانی و منها یعنى آل النبی علیه الصلاه و السّلام

هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ وَ لَجَأُ أَمْرِهِ- وَ عَیْبَهُ عِلْمِهِ وَ مَوْئِلُ حُکْمِهِ- وَ کُهُوفُ کُتُبِهِ وَ جِبَالُ دِینِهِ- بِهِمْ أَقَامَ انْحِنَاءَ ظَهْرِهِ وَ أَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ ب‏ئ

اللغه

ب‏ئ‏أقول: و اللجأ الملجأ، و الموئل المرجع من آل یؤول إلى کذا إذا رجع و انتهى إلیه، و الانحناء الاعوجاج، و الفرائض جمع فریضه و هی اللحمه الّتی بین الجنب و الکتف لا تزال ترعد من الدابّه،

المعنى

و قد وردت هذه القرائن الأربع بالسجع المتوازی، و الضمائر المفرده هاهنا کلّها راجعه إلى اللّه تعالى إلّا الضمیر فی ظهره و فرائضه فإنّهما للرسول صلى اللّه علیه و آله کما سبق ذکر اللّه و رسوله فی صدر الخطبه، و قیل الکلّ للرسول صلى اللّه علیه و آله، و أشار بکونهم موضع سرّه إلى کمال استعداد نفوسهم علیهم السّلام لأسرار اللّه و حکمته إذ الموضع الحقیقی للشی‏ء هو ما قبله و استعدّ له، و بکونهم ملجأ أمره إلى أنّهم الناصرون له و القائمون بأوامر اللّه و الذابّون عن الدین فإلیهم یلتجى‏ء و بهم یقوم سلطانه، و کونهم عیبه علمه مرادف لکونهم موضع سرّه إذ یقال فی العرف فلان عیبه العلم إذا کان موضع أسراره، و لفظ العیبه استعاره لنفوسهم الشریفه و وجه المشابهه ظاهر إذ العیبه لمّا کان من شأنها حفظ ما یودع فیها و صائنه عن التلف و الأدناس، و کانت أذهانهم الطاهره حافظه للعلم عن عدمه و صائنه له عن تدنّسه بأذهان غیر أهله لا جرم حسنت استعاره لفظ العیبه لأذهانهم، و بکونهم موئل حکمه إلى کونهم مرجعا لحکمته إذا ضلّت عن أذهان غیرهم فمنهم تطلب و عنهم تکتسب، و بکونهم کهوف کتبه إلى أنّهم أهل حفظها و دراستها و تفسیرها و عندهم علمها و تأویلها، و الکتب إشاره إلى القرآن و ما قبله من کتب اللّه کما نقل عنه علیه السّلام فی موضع آخر لو کسرت إلى الوساده ثمّ جلست علیها لحکمت بین أهل التوراه بتوراتهم و بین أهل الإنجیل بإنجیلهم و بین أهل الزبور بزبورهم و بین أهل الفرقان بفرقانهم، و اللّه ما من آیه نزلت فی برّ أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو لیل أو نهار إلّا و أنا أعلم فیمن نزلت و فی أیّ وقت نزلت، و استعاره لفظ الکهف قریبه من استعاره لفظ العیبه، و بکونهم جبال دینه إلى دین اللّه سبحانه‏ بهم یعتصم عن و صمات الشیاطین و تبدیلهم و تحریفهم کما یعتصم الخائف بالجبل ممّن یؤذیه و هی استعاره لطیفه، و قوله بهم أقام انحناء ظهره إشاره إلى أنّ اللّه سبحانه جعلهم له أعضادا یشدّون أزره و یقوّمون ظهره و یؤیّدون أمره، و انحناء الظهر کنایه عن ضعفه فی بدؤ الإسلام فبالحریّ أن یکون إقامتهم لانحناء ظهره تقویتهم ذلک الضعف بالنصره للدین و الذبّ عنه، و قوله و أذهب ارتعاد فرائضه أی أنّ اللّه أزال عنه بمعونتهم خوفه الّذی کان یتوقّعه من المشرکین على حوزه الدین و هو کنایه عن الشی‏ء ببعض لوازمه إذ کان ارتعاد الفرائض من لوازم شدّه الخوف، و کلّ هذه الامور ظاهره لأهله الأدنین من بنی هاشم کالعبّاس و حمزه و جعفر و علیّ بن أبی طالب فی الذبّ عن الرسول صلى اللّه علیه و آله و الهدایه إلیه و البلاء فی الدین و اللّه أعلم.

القسم الثالث و منها یعنى قوما آخرین:

زَرَعُوا الْفُجُورَ وَ سَقَوْهُ الْغُرُورَ وَ حَصَدُوا الثُّبُورَ- لَا یُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ ص مِنْ هَذِهِ الْأُمَّهِ أَحَدٌ- وَ لَا یُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَیْهِ أَبَداً- هُمْ أَسَاسُ الدِّینِ وَ عِمَادُ الْیَقِینِ- إِلَیْهِمْ یَفِی‏ءُ الْغَالِی وَ بِهِمْ یُلْحَقُ التَّالِی- وَ لَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَایَهِ- وَ فِیهِمُ الْوَصِیَّهُ وَ الْوِرَاثَهُ- الْآنَ إِذْ رَجَعَ الْحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ وَ نُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ ب‏ئ

اللغه

ب‏ئ‏أقول: الغرور الغفله، و الثبور الهلاک، و القیاس نسبه الشی‏ء إلى الشی‏ء و إلحاقه به فی الحکم، وفاء یفی‏ء رجع، و الغلوّ تجاوز الحدّ الّذی ینبغی إلى ما لا ینبغی، و التالی التابع، و الولایه الاسم من قولک و لیت الأمر إلیه ولیّا، و أصله القرب من الشی‏ء و الدنوّ منه، و الخصائص جمع خصیصه و هی فعیله بمعنى فاعله أى خاصّه أو مختصّه،

المعنى

و اعلم أنّ قوله زرعوا الفجور و سقوه‏ الغرور استعاره لطیفه فإنّ الفجور لمّا کان هو الخروج عن ملکه العفّه و الزهد و تجاوزها إلى طرف الإفراط منهم، و کان معنى الزرع إلقاء الحبّ فی الأرض استعار علیه السّلام لفظ الزرع لبذر الفجور فی أراضی قلوبهم، و لأنّ انتشاره عنهم و نموّه فیهم یشبه نموّ الزرع و انتشاره فی الأرض، و لمّا کان غرورهم و غفلتهم عن الطریق المستقیم بسبب عدولهم عنها و تجاوزهم إلى طرف الإفراط و مهاوی الهلاک و هو مادّه تمادیهم فی غیّهم و زیاده فجورهم و عدولهم عن سواء السبیل أشبه الماء الّذی هو سبب حیاه الزرع و نموّه و مادّه زیادته و لأجلها یناسب استعاره لفظ السقی الّذی هو خاصّه الماء له و نسبته إلیهم، ثمّ لمّا کانت غایه ذلک الفجور هلاکهم فی الدنیا بالسیف و فی الآخره بعذابها لا جرم أشبهت تلک الغایه الثمره فاستعیر لکونها غایه لهم لفظ الحصاد و نسب إلیهم و قد اشتملت لفظ هذه الألفاظ مع حسن الاستعاره على الترصیع قال الوبری- رحمه اللّه- الإشاره بهذا الکلام إلى الخوارج، و قیل فی المنافقین کما ورد مصرّحا به فی بعض النسخ، و أقول: یحتمل أن یکون متناولا لکلّ من نابذه علیه السّلام و خرج عن طاعته زاعما أنّه بذلک متعصّب للدین و ناصر له، و ذلک لأنّ الفجور کما عرفت عبور و تجاوز إلى طرف الإفراط و کلّ من نابذه و هو مدّعی أنّه طالب للحقّ فقد خرج فی طلبه للحقّ عن حاقّ العدل و تعدّاه إلى طرف الفجور و الغلوّ و یدخل فی ذلک القاسطون و هم أصحاب معاویه، و المارقون و هم الخوارج و من فی معناهم إذ زعم الکلّ أنّهم بقتاله طالبون للحقّ ناصرون له.

قوله لا یقاس بآل محمّد علیهم السّلام من هذه الأمّه أحد. إلى آخره. مدح لهم مستلزم لإسقاط غیرهم عن بلوغ درجتهم و استحقاق منزلتهم، و الکلام و إن کان عامّا فی تفضیل آل محمّد على کلّ من عداهم من امّته إلّا أنّه خرج على سبب و هو قتاله علیه السّلام مع معاویه فهو إذن مشیر إلى تفضیل نفسه على معاویه و عدم ترشّحه للخلافه، فقوله لا یقاس بآل محمّد من هذه الامّه أحد و لا یسوىّ بهم من جرت نعمتهم علیه أبدا. إشاره إلى عدم مناسبه غیرهم لهم فی الفضل، و النعمه هاهنا نعمه الدین و الإرشاد إلیه، و الحکم ظاهر الصدق فإنّ المنعم علیه بمثل هذه النعمه الّتی لا یمکن أحدا أن یقابلها بجزاء لا یتأهّل أبدا أن یصیر فی قوّه المنعم، و خواصّه الّذین اختصّهم بمزیدها على حسب استحقاقهم و استعدادهم التامّ الوافرعلى تأهّل غیرهم لها، و لا یبلغ درجتهم حتّى یقوم مقامهم مع وجودهم فی إفاضه هذه النعمه و إعداد سائر الأمّه لها و تعلیمهم و إرشادهم إلى کیفیّه الوصول بها إلى اللّه سبحانه، و قوله هم أساس الدین إشاره إلى أنّ بهم استقامته و ثباته، و تفرّعه عنهم کما یقوم البناء على أساسه، و کذلک قوله و عماد الیقین، و قوله إلیهم یفی‏ء الغالی إشاره إلى أنّ المتجاوز للفضائل الإنسانیّه الّتی مدارها على الحکمه و العفّه و الشجاعه و العداله إلى طرف الإفراط منها یرجع إلیهم و یهتدی بهم فی تحصیل هذه الفضائل لکونهم علیها إذا أخذ التوفیق بیده، و أشار بقوله و بهم یلحق التالی إلى أنّ المقصّر عن بلوغ هذه الفضائل المرتکب لطرف التفریط فی تحصیلها یلحق بهم عند طلبه لها و معونه اللّه له بالهدایه إلى ذلک، و قوله و لهم خصائص حقّ الولایه. إشاره إلى أنّ ولایه امور المسلمین و خلافه رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله لها خصائص هی موجوده فیهم و شروط بها یتأهّل الشخص لها و یستحقّها، و تلک الخصائص ما نبّهنا علیه من الفضائل الأربع النفسانیّه، و لا شکّ فی صدقه علیه السّلام فی ذلک فإنّ هذه الفضائل و إن وجد بعضها أو کلّها فی غیرهم فعنهم اخذ و إلیهم فیها انتسب، و هل یقائس بین البحر و الوشل، و قوله و فیهم الوصیّه و الوراثه إشاره إلى اختصاصه علیه السّلام بوصیّه رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و اختصاص أهله بوراثته و قیل أراد بالوراثه. ما یراه هو أنّه أولى به من أمر الخلافه، و قوله الآن إذ رجع الحقّ إلى أهله و نقل إلى منتقله (فی بعض النسخ قد رجع) و ذلک إشاره منه علیه السّلام إلى أنّ الإمامه کانت فی غیر أهلها و أنّه هو أهلها و الآن وقت رجوعها إلیه بعد انتقالها عنه، و لفظ الحقّ و إن کان یحتمل حقّا آخر غیر الإمامه إلّا أنّها المتبادره إلى الذهن من اللفظ هاهنا و باللّه التوفیق و العصمه.

شرح‏ نهج‏ البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۱ ، صفحه‏ى ۲۴۹-۲۳۶

بازدیدها: ۱۲

خطبه۱شرح ابن میثم بحرانی قسمت پنجم

الفصل الخامس منها. قوله: فی ذکر الحج

وَ فَرَضَ عَلَیْکُمْ حَجَّ بَیْتِهِ الْحَرَامِ-  الَّذِی جَعَلَهُ قِبْلَهً لِلْأَنَامِ-  یَرِدُونَهُ وُرُودَ الْأَنْعَامِ وَ یَأْلَهُونَ إِلَیْهِ وُلُوهَ الْحَمَامِ-  وَ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَامَهً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ-  وَ إِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ-  وَ اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَیْهِ دَعْوَتَهُ-  وَ صَدَّقُوا کَلِمَتَهُ وَ وَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِیَائِهِ-  وَ تَشَبَّهُوا بِمَلَائِکَتِهِ الْمُطِیفِینَ بِعَرْشِهِ-  یُحْرِزُونَ الْأَرْبَاحَ فِی مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ-  وَ یَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ-  جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ عَلَماً-  وَ لِلْعَائِذِینَ حَرَماً فَرَضَ حَقَّهُ وَ أَوْجَبَ حَجَّهُ-  وَ کَتَبَ عَلَیْکُمْ وِفَادَتَهُ-  فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلًا-  وَ مَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ الْعالَمِینَ‏

اللغه

أقول: یألهون إلیه أی یشتدّ وجدهم و شوقهم إلیه و أصل الهمزه هاهنا الواو من و له إذا تحیّر من شدّه الوجد، و السماع جمع سامع کسامر و سماع و المبادره المسارعه، و الوفاده القدوم للاسترفاد و الانتفاع،

المعنى

و اعلم أنّا لمّا بیّنا وجوب العبادات و أشرنا إلى وجه الحکمه فیها فبالحریّ أن نشیر إلى وجه الحکمه فی خصوص الحجّ من جملتها، و نؤخّر تفصیل باقیها إلى مواضعه، و إنشاء اللّه فأمّا الحجّ فإنّک لمّا عرفت أنّ الغرض الأوّل من العبادات هو جذب الخلق إلى جناب الحقّ بالتذکیر له و دوام إخطاره بالبال لتجلّى لک الأسرار على طول التذکار، و ینتهى فی ذلک من أخذت العنایه بیده إلى مقام المخلصین فمن جمله أسرار اللّه سبحانه المنزله على لسان رسوله تعیین موضع من البلاد أنّه أصلح المواضع لعباده اللّه، و أنّه خاصّ له و لا بدّ أنّ تبنى مثل هذه الأوضاع على إشارات و رموز إلى مقاصد حقیقیّه یتنبّه لها من أخذ التوفیق بزمام عقله إلیها، و لا بدّ من تعیین أفعال تفعل فی ذلک المکان و أنّها إنّما تفعل فی ذات اللّه سبحانه، و أنفع المواضع المعیّنه فی هذا الباب ما کان مأوى الشارع و مسکنه فإنّ ذلک مستلزم لذکره، و ذکره مستلزم لذکر اللّه سبحانه و ذکر ملائکته و الیوم الآخر، و لمّا لم یمکن فی المأوى الواحد أن یکون مشاهدا لکلّ أحد من الامه فالواجب إذن أن یفرض إلیه مهاجره و سفر و إن کان فیه نوع مشقّه و کلفه من تعب الأسفار و إنفاق المال و مفارقه الأهل و الولد و الوطن و البلد، و نحن نذکر فضیلته من جهه السمع ثمّ نشیر إلى ما ینبغی أن یوظّف فیه من الآداب الدقیقه و الاعمال الباطنه عند کلّ حرکه و رکن من أرکان الحجّ مما یجرى من تلک الأرکان مجرى الأرواح للأبدان فإذن

هاهنا أبحاث.

البحث الأوّل-  أمّا الفضیله

فمن وجوه: الأوّل قوله تعالى «وَ أَذِّنْ فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ یَأْتُوکَ رِجالًا وَ عَلى‏ کُلِّ ضامِرٍ یَأْتِینَ مِنْ کُلِّ فَجٍّ عَمِیقٍ»«» قال قتاده: لمّا أمر اللّه عزّ و جلّ خلیله إبراهیم علیه السّلام أن یؤذّن فی الناس و نادى أیّها الناس إنّ للّه بیتا فحجوّه، و قال تعالى «لِیَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ»«» قیل: التجاره فی المواسم و الأجر فی الآخره، و لمّا سمع بعض السلف هذا قال غفر لهم و ربّ الکعبه، الثانی قال علیه السّلام: من حجّ و لم یرفث و لم یفسق خرج‏ من ذنوبه کیوم ولدته امّه، و قد عرفت کیفیّه نفع العبادات فی الخلاص من الذنوب. الثالث قال صلى اللّه علیه و آله: ما رأى الشیطان فی یوم هو أصغر و لا أحقر و لا أغیض منه یوم عرفه، و ما ذلک إلّا لما یرى من نزول الرحمه و تجاوز اللّه عن الذنوب العظام إذ یقال من الذنوب ما لا یکفّرها إلّا الوقوف بعرفه. أسنده الصادق علیه السّلام إلى الرسول صلى اللّه علیه و آله و کان سرّ ذلک ما یحصل من رحمه اللّه و یفاض على أسرار العباده الّتی قد صفت بشدّه الاستعداد الحاصل من ذلک الموقف العظیم الّذی یجتمع فیه العالم أشدّ اجتماع، فإنّ الاجتماع سبب عظیم فی الانفعال و الخشیه للّه و قبول أنواره کما سنبیّنه إنشاء اللّه. الرابع قال صلى اللّه علیه و آله: حجّه مبروره خیر من الدنیا و ما فیها، و حجّه مبروره لیس لها أجر إلّا الجنّه قال صلى اللّه علیه و آله: الحجّاج و العمّار وفد اللّه و زوّاره إن سألوه أعطاهم، و إن استغفروه غفر لهم، و إن دعوه استجاب لهم، و إن شفعوا إلیه شفّعهم. السادس روى عنه صلى اللّه علیه و آله من طرق أهل بیته علیهم السّلام أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفه و ظنّ أنّ اللّه لم یغفر له، و فی فضل جزئیّات الحجّ أخبار کثیره تطلب من مظانّها.

البحث الثانی-  فی الآداب الدقیقه

و هی عشره: الأوّل أن تکون النفقه حلالا و یخلو القلب عن تجاره تشغله سوى اللّه تعالى، و فی الخبر من طریق أهل البیت إذا کان آخر الزمان خرج الناس إلى الحجّ على أربعه أصناف سلاطینهم للنزهه، و أغنیائهم للتجاره، و فقراؤهم للمسأله و قرّاؤهم للسمعه، و فی الخبر إشاره إلى جمله أغراض الدنیا الّتی یتصوّر أن یتّصل بالحجّ، فکلّ ذلک مانع لفضیله الحجّ و مقصود الشارع منه، الثانی أن لا یساعد الصادّین عن سبیل اللّه و المسجد الحرام بتسلیم المکوس إلیهم فإنّ ذلک إعانه على الظلم و تسهیل لأسبابه و جرأه على سائر السالکین إلى اللّه، و لیحتل فی الخلاص فإن لم یقدر فالرجوع أولى من إعانه الظالمین على البدعه و جعلها سنّه، الثالث التوسّع فی الزاد و طیب النفس فی البذل، و الإنفاق بالعدل دون البخل و التبذیر، فإنّ بذل الزاد فی طریق مکّه إنفاق فی سبیل اللّه قال صلى اللّه علیه و آله: الحجّ المبرور لیس له أجر إلّا الجنّه فقیل یا رسول اللّه ما برّ الحجّ قال: طیب الکلام و إطعام الطعام، الرابع ترک الرفث و الفسوق و الجدال کما قال تعالى «فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِی الْحَجِّ»«» و الرفث کلّ لغو و فحش من الکلام،و یدخل فی ذلک محادثه النساء بشأن الجماع المحرّم فإنّها تهیّج داعیته و هی مقدّمه له فتحرم، و من لطف الشارع إقامه مظنّه الشی‏ء مقام الشی‏ء حسما لمادّته، و الفسوق الخروج عن طاعه اللّه، و الجدال هو المماراه و الخصومه الموجبه للضغائن و الأحقاد و افتراق کلمه الخلق (الحقّ)، و کلّ ذلک ضدّ مقصود الشارع من الحجّ و شغل عن ذکر اللّه، الخامس أن یحجّ ماشیا مع القدره و نشاط النفس فإنّ ذلک أفضل و أدخل للنفس فی الإذعان لعبودیّه اللّه، و قال بعض العلماء: الرکوب أفضل لما فیه من مئونه الإنفاق، و لأنّه أبعد من الملال و أقلّ للأذى و أقرب إلى السلامه و أداء الحجّ، و هذا التحقیق غیر مخالف لما قلناه، و الحقّ التفصیل، فیقال: من سهل علیه المشى فهو أفضل فإن أضعف و أدّى إلى سوء خلق و قصور عن العمل فالرکوب أفضل لأنّ المقصود توفّر القوى على ذکر اللّه تعالى و عدم المشتغلات عنه. السادس أن یرکب الزامله دون المحمل لاشتماله على زىّ المترفین و المتکبّرین و لأنّه أخفّ على البعیر اللهمّ إلّا لعذر. حجّ رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله على راحلته و کان تحته رحل رثّ و قطیفه خلقه قیمته أربعه دراهم و طاف على الراحله لینظر الناس إلى هیئته و شمائله، و قال: خذوا عنّی مناسککم. السابع أن بخرج رثّ الهیئه أقرب إلى الشعث غیر مستکثر من الزینه و أسباب التفاخر فیخرج بذلک عن حزب السالکین و شعار الصالحین. و روى عنه صلى اللّه علیه و آله أنّه قال: إنّما الحاجّ الشعث التفث یقول اللّه تعالى لملائکته انظروا إلى زوّار بیتی قد جاءونی شعثا غیرا من کلّ فج. و قال تعالى «ثُمَّ لْیَقْضُوا تَفَثَهُمْ» و التفث الشعث و الاغبرار و قضاؤه بالحلق و تقلیم الأظفار. الثامن أن یرفق بالدابّه و لا یحملها ما لا تطیق کان أهل الورع لا ینامون على الدابّه إلّا عفوه من قعود قال صلى اللّه علیه و آله: لا تتّخذوا ظهور دوّابکم کرسیّ، و یستحبّ أن ینزل عن دابّته غدوّه و عشیّه یروّحها بذلک فهو سنّه، و سرّ ذلک مراعاه الرقّه و الرحمه و التخلّی عن القسوه و الظلم و لأنّه یخرج بالعسف عن قانون العدل و مراعاه عنایه اللّه و شمولها فإنّها کما لحقت الإنسان لحقت سائر الحیوان التاسع أن یتقرّب بإراقه دم و یجتهد أن یکون سمینا ثمینا روى أنّ عمر أهدى نجیبه فطلبت منه بثلاثه مائه دینار فسأل رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله أن یبیعها و یشترى بثمنها بدنا فنهاه رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و قال: بل اهدها و ذلک لأنّ المقصود لیس تکثیر اللحم و إنّما المقصود تزکیه النفس و تطهیرها عن رذیله البخل و تزیینها بجمال التعظیم للّه لن ینال اللّه لحومها و لا دماؤها و لکن یناله التقوى منکم قال صلى اللّه علیه و آله: ما من عمل آدمیّ یوم النحر أحبّ إلى اللّه عزّ و جلّ من إهراقه دما و إنّها لتأتى یوم القیامه بقرونها و إطلافها و إنّ الدم لیقع من اللّه بمکان قبل أن یقع الأرض فطیّبوا بها نفسا. العاشر أن یکون طیّب النفس بما أنفقه من هدى و غیره، و بما أصابه من خسران و نقیصه مال إن أصابه ذلک فإنّه بذلک یکون مکتفیا إلى اللّه سبحانه عن کلّ ما أنفقه متعوّضا عنه ما عند اللّه و ذلک علامه لقبول حجّه.

البحث الثالث-  فی الوظائف القلبیّه عند کلّ عمل من أعمال الحجّ.

اعلم أنّ أوّل الحجّ فهم موقع الحجّ فی الدین ثمّ الشوق إلیه ثمّ العزم علیه ثمّ قطع العلائق المانعه عنه ثمّ تهیئه أسباب الوصول إلیه من الزاد و الراحله ثمّ السیر ثمّ الإحرام من المیقات بالتلبیه ثمّ دخول مکّه ثمّ استتمام الأفعال المشهوره، و فی کلّ حاله من هذه الحالات تذکره للمتذکّر و عبره للمعتبر و نیّه للمرید الصادق و إشاره للفطن الحاذق إلى أسرار یقف علیها بصفاء قلبه و طهاره باطنه إن ساعده التوفیق. أمّا الفهم فاعلم أنّه لا وصول إلى اللّه إلّا بتنحیه ما عداه عن القصد من المشتهیات البدنیّه و اللذّات الدنیویّه و التجرید فی جمیع الحالات و الاقتصار على الضروریّات، و لهذا انفرد الرهبان فی الأعصار السالفه عن الخلق فی قلل الجبال توحّشا من الخلق و طلبا للانس بالخالق و اعرضوا عن جمیع ما سواه، و لذلک مدحهم بقوله «ذلِکَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّیسِینَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا یَسْتَکْبِرُونَ» فلمّا اندرس ذلک و أقبل الخلق على اتّباع الشهوات و الإقبال على الدنیا و الالتفات عن اللّه بعث نبیّه صلى اللّه علیه و آله لإحیاء طریق الآخره و تجدید سنّه المرسلین فی سلوکها فسأله أهل الملل عن الرهبانیّه و السیاحه فی دینه فقال: أبدلنا بها الجهاد و التکبیر على کلّ شرف یعنى الحجّ. و سئل عن السائحین فقال: هم الصائمون فجعل سبحانه الحجّ رهبانیّه لهذه الامه فشرّف البیت العتیق بإضافته إلى نفسه و نصبه مقصدا لعباده و جعل ما حوله حرما لبیته تفخیما لأمره و تعظیما لشأنه، و جعل عرفات کالمیدان على باب حرمه و أکدّ حرمه الموضع بتحریم صیده و شجره، و وضعه على مثال حضره الملوک یقصده الزوّار من کلّ فجّ عمیق شعثا غبرا متواضعین لربّ البیت مستکینین له خضوعا بجلاله و استکانه لعزّته مع الاعتراف بتنزیهه عن أن یحومه مکان لیکون ذلک أبلغ فی رقّهم و عبودیّتهم، و لذلک وظّف علیهم فیها أعمالا لا تأنس بها النفوس و لا تهتدى إلى معانبها العقول کرمی الجمار بالأحجار و التردّد بین الصفا و المروه على سبیل التکرار، و بمثل هذه الأعمال یظهر کمال الرّق و العبودیّه بخلاف سائر العبادات کالزکاه الّتی هی إنفاق فی وجه معلوم و للعقل إلیه میل، و الصوم الّذی هو کسر للشهوه الّتی هی عدوّ للّه و تفرّغ للعباده بالکفّ عن الشواغل، و کالرکوع و السجود فی الصلاه الّذی هو تواضع للّه سبحانه بأفعال على هیئات التواضع و للنفوس انس بتعظیم اللّه تعالى. و أمّا أمثال هذه الأعمال فإنّه لا اهتداء للعقل إلى أسرارها فلا یکون للإقدام علیها باعث إلّا الأمر المجرّد و قصد امتثاله من حیث هو واجب الاتّباع فقط و فیه عزل للعقل عن تصرّفه و صرف النفس و الطبع عن محلّ انسه المعین على الفعل من حیث هو فإنّ کلّ ما أدرک العقل وجه الحکمه فی فعله مال الطبع إلیه میلا تامّا فیکون ذلک المیل معینا للأمر و باعثا على الفعل فلا یکاد یظهر به کمال الرقّ و الانقیاد، و لذلک قال صلى اللّه علیه و آله فی الحجّ على الخصوص: لبّیک بحجّه حقّا تعبّدا و رقّا، و لم یقل ذلک فی الصلاه و غیرها، و إذا اقتضت حکمه اللّه سبحانه ربط نجاه الخلق بکون أعمالهم على خلاف أهویه طباعهم و أن یکون أزّمتها بید الشارع فیتردّدون فی أعمالهم على سنن الانقیاد و مقتضی الاستبعاد کان مالا یهتدى إلى معانیه أبلغ أنواع التعبّدات و صرفها عن مقتضی الطبع إلى مقتضی الاسترقاق، و لهذا کان مصدر تعجّب النفوس من الأفعال العجیبه هو الذهول عن أسرار التعبّدات، و أمّا الشوق فباعثه الفهم أنّ البیت بیت اللّه و أنّه وضع على مثال حضره الملوک فقاصده قاصد اللّه تعالى و من قصد حضره اللّه تعالى بالمثال المحسوس فجدیر أن یترقّى منه بحسب سوق شوقه إلى الحضره العلویّه و الکعبه الحقیقیّه الّتی هی فی السماء و قد بنى هذا البیت على قصدها فیشاهد وجه ربّه الأعلى بحکم وعده الکریم، و أمّا العزم فلیستحضر فی ذهنه أنّه لعزمه مفارق للأهل و الولد، هاجر للشهوات و اللذّات مهاجر إلى ربّه، متوجّه إلى زیاره بیته و لیعظّم قدر البیت لقدر ربّ البیت و لیخلّص عزمه للّه و یبّعده عن شوائب الریاء و السمعه فإنّ ذلک شرک خفیّ، و لیتحقّق أنّه لا یقبل من عمله و قصده إلّا الخالص و أنّ من أقبح المقابح أن یقصد بیت الملک و حرمه مع اطّلاع ذلک الملک على خائنه الأعین و ما تخفى الصدور و یکون قصده غیره فإنّ ذلک استبدال للّذی هو أدنى بالّذی هو خیر، أمّا قطع العلائق فحذف جمیع الخواطر عن قلبه غیر قصد عباده اللّه و التوبه الخالصه له عن الظلم و أنواع المعاصی فکلّ مظلمه علاقه و کلّ علاقه خصم حاضر متعلّق به ینادى علیه و یقول أتقصد بیت الملوک و هو مطّلع على تضییع أمره لک فی منزلک هذا و تستهین به و لا تلتفت إلى نواهیه و زواجره و لا تستحیى أن تقدم علیه قدوم العبد العاصی فیغلق دونک أبواب رحمته و یلقیک فی مهاوی نقمته فإن کنت راغبا فی قبول زیارتک فأبرز إلیه من جمیع معاصیک و أقطع علاقه قلبک عن الالتفات إلى ما وراءک لتتوجّه إلیه بوجه قلبک کما أنت متوجّه إلى بیته بوجه ظاهرک، و لیذکر عند قطعه العلائق لسفر الحجّ قطع العلائق لسفر الآخره فإنّ کلّ هذه أمثله قریبه یترقّى منها إلى أسرارها، و أمّا الزاد فلیطلبه من موضع حلال فإذا أحسّ من نفسه بالحرص على استکثاره و طیبه و طلب ما یبقى منه على طول السفر و لا یتغیّر قبل بلوغ المقصد فلیذکر أنّ سفر الآخره أطول من هذا السفر و أنّ زاده التقوى، و أمّا ما عداه لا یصلح زادا و لا یبقى معه إلّا رثیما هو فی هذا المنزل و لیحذر أن یفسد أعماله الّتی هی زاده إلى الآخره بشوائب الریاء و کدورات التقصیر فیدخل فی قوله تعالى «هَلْ نُنَبِّئُکُمْ بِالْأَخْسَرِینَ أَعْمالًا الَّذِینَ ضَلَّ سَعْیُهُمْ فِی الْحَیاهِ الدُّنْیا وَ هُمْ یَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعاً»«» و کذلک فلیلاحظ عند رکوب دابّته تسخیر الحیوان له و حمله عنه الأذى، و یتذکّر منّته تعالى لشمول عنایته و رأفته حیث یقول «و تحمل أثقالکم إلى بلد لم تکونوا بالغیه إلّا بشقّ الأنفس إنّ ربّکم لرؤف رحیم»«» فیشکره سبحانه على جزیل هذه النعمه و عظیم هذه المنّه، و یستحضر نقلته من مرکبه إلى منازل الآخره الّتی لا شکّ فیه، و لعلّه أقرب من رکوبه الحاضر فتحتاط فی أمره، و لیعلم أنّ هذه أمثله محسوسه یترقّى منها إلى مراکب النجاه من الشقّه الکبرى و هی عذاب اللّه سبحانه، و أمّا ثوب الإحرام و شراؤه و لبسه فلیتذکّر معه الکفن و درجه فیه و لعلّه أقرب إلیه ولیتذکّر منها التسربل بأنوار اللّه الّتی لا مخلص من عذابه إلّا بها فیجهد فی تحصیلها بقدر إمکانه، و أمّا الخروج من البلد فلیستحضر عنده أنّه یفارق الأهل و الولد متوجّها إلى اللّه سبحانه فی سفر غیر أسفار الدنیا، و یستحضر أیضا غایته من ذلک السفر و أنّه متوجّه إلى ملک الملوک. و جبّار الجبابره فی جمله الزائرین الّذین نودوا فأجابوا و شوّقوا ما اشتاقوا و قطعوا العلائق و فارقوا الخلائق و أقبلوا على بیت اللّه طلبا لرضى اللّه و طمعا فی النظر إلى وجهه الکریم و لیحضر أیضا فی قلبه رجاء الوصول إلى الملک و القبول له بسعه فضله و لیعتقد أنّه إن مات دون الوصول إلى البیت لقى اللّه وافدا علیه لقوله تعالى «وَ مَنْ یَخْرُجْ مِنْ بَیْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ یُدْرِکْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ»«» و لیتذکّر فی أثناء طریقه من مشاهده عقبات الطریق عقبات الآخره و من السباع و الحیّات حشرات القبر، و من وحشه البرارى وحشه القبر و انفراده عن الانس فإنّ کلّ هذه الامور جاذبه إلى اللّه سبحانه و مذکّره له أمر معاده، و أمّا الإحرام و التلبیه من المیقات فلیستحضر أنّه إجابه نداء اللّه تعالى و لیکن فی قبول إجابته بین خوف و رجاء مفوّضا أمره إلى اللّه متوکّلا على فضله. قال سفیان بن عیینه حجّ زین العابدین علیّ بن الحسین علیه السّلام فلمّا أحرم و استوت به راحلته اصفرّ لونه و وقعت علیه الرعده و لم یستطع أن یلبّی فقیل له ألا تلبّی فقال: أخشى أن یقول لا لبّیک و لا سعدیک فلمّا لبّى غشى علیه و سقط عن راحلته فلم یزل یعتریه ذلک حتّى قضى حجّه فانظر-  رحمک اللّه-  إلى هذه النفس الطاهره حیث بلغ بها الاستعداد لإفاضه أنوار اللّه لم تزل الغواشی الإلهیّه و النفخات الربّانیّه تغشیها فیغیب عن کلّ شی‏ء سوى جلال اللّه و عظمته، و لیتذّکر عند إجابته نداء اللّه سبحانه إجابه ندائه بالنفخ فی الصور و حشر الخلق من القبور و ازدحامهم فی عرصات القیامه مجیبین لندائه منقسمین إلى مقرّبین و ممقوتین و مقبولین و مردودین و مردّدین فی أوّل الأمر بین الخوف و الرجاء تردّد الحاجّ فی المیقات حیث لا یدرون أیتیسّر لهم إتمام الحجّ أم لا، أمّا دخول مکّه.

فلیستحضر عنده أنّه قد انتهى إلى حرم اللّه الأمن و لیرج عنده أن یأمن بدخوله من عقاب اللّه و لیخش أن لا یکون من أهل القرب، و لیکن رجاؤه أغلب فإنّ الکریم عمیم و شرف البیت عظیم و حقّ الزائر مرعیّ و ذمام اللائذ المستجیر غیر مضیّع خصوصا عند أکرم‏ الأکرمین و أرحم الراحمین، و یستحضر أنّ هذا الحرم مثال للحرم الحقیقیّ لترقّی من الشوق إلى دخول هذا الحرم و الأمن بدخوله من العقاب إلى الشوق إلى دخول ذلک الحرم و المقام الأمین، و إذا وقع بصره على البیت فلیستحضر عظمته فی قلبه و لیترّق بفکره إلى مشاهده حضره ربّ البیت فی جوار الملائکه المقرّبین و لیتشوّق أن یرزقه النظر إلى وجهه الکریم کما رزقه الوصول إلى بیته العظیم و لیتکثّر من الذکر و الشکر على تبلیغ اللّه إیّاه هذه المرتبه، و بالجمله فلا یغفل عن تذکیر أحوال الآخره فی کلّ ما یراه فإنّ کل أحوال الحجّ و منازله دلیل یترقّی منه إلى مشاهده أحوال الآخره، و أما الطواف بالبیت. فلیستحضر فی قلبه التعظیم و الخوف و الخشیه و المحبّه، و لیعلم أنّه بذلک متشبّه بالملائکه المقرّبین الحافیّن حول العرش الطائفین حوله و لا تظنّن أنّ المقصود طواف جسمک بالبیت بل طواف قلبک بذکر ربّ البیت حتّى لا تبتدى‏ء بالذکر إلّا منه و لا تختم إلّا به کما تبدأ بالبیت و تختم به، و اعلم أنّ الطواف المطلوب هو طواف القلب بحضره الربوبیّه و أنّ البیت مثال ظاهر فی عالم الشهاده لتلک الحضره الّتی هی عالم الغیب کما أنّ الإنسان الظاهر مثال الظاهر فی عالم الشهاده للإنسان الباطن الّذی لا یشاهد بالبصر و هو فی عالم الغیب و أنّ عالم الملک و الشهاده مرقاه و مدرج إلى عالم الغیب و الملکوت لمن فتح له باب الرحمه و أخذت العنایه الإلهیّه بیده لسلوک الصراط المستقیم، و إلى هذه الموازنه وقعت الإشاره الإلهیّه بأنّ البیت المعمور فی السماء بإزاء الکعبه، و أنّ طواف الملائکه به کطواف الإنس بهذا البیت، و لمّا قصرت مرتبه أکثر الخلق عن مثل ذلک الطواف امروا بالتشبّه بهم بحسب الإمکان و وعدوا بأنّ من تشبّه بقوم فهو منهم ثمّ کثیرا ما یزداد ذلک التشبیه إلى أن یصیر فی قوّه المشبّه به و الّذی یبلغ تلک المرتبه فهو الّذی یقال إنّ الکعبه تزوره و تطوف به على ما رواه بعض المکاشفین لبعض أولیاء اللّه، و أمّا الاستلام فلیستحضر عنده أنّه مبائع للّه على طاعته مصمّم عزیمته على الوفاء ببیعته «فمن نکث فإنّما ینکث على نفسه و من أوفی بما عاهد علیه اللّه فسیؤتیه أجرا عظیما»«» و لذلک قال رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله: الحجر الأسود یمین اللّه فی الأرض یصافح بها خلقه کما یصافح الرجل أخاه، و لمّا قبّله عمر قال: إنّی لأعلم أنّک حجر لا تضرّ و لا تنفع و لو لا أنّی رأیت رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله یقبّلک لما قبّلتک فقال له علیّ علیه السّلام مه یا عمر بل یضرّ و ینفع فإنّ اللّه سبحانه لمّا أخذ المیثاق على بنی آدم حیث یقول «و إذ أخذ ربّک من بنی آدم من ظهورهم ذرّیتهم و أشهدهم على أنفسهم»«» الآیه ألقمه هذا الحجر لیکون شاهدا علیهم بأداء أمانتهم و ذلک معنى قول الإنسان عند استلامه أمانتی أدّیتها و میثاقی تعاهدته لتشهد لی عند ربّک بالموافاه، و أمّا التعلّق بأستار الکعبه و الالتصاق بالملتزم. فلیستحضر فیه طلب القرب حبّا للّه و شوقا إلى لقائه تبرّکا بالمماسّه و رجاء للتحصّن من النار فی کلّ جزء من البیت و لتکن النیّه فی التعلّق بالستر الالحاح فی طلب الراحه (الرحمه) و توجیه الذهن إلى الواحد الحقّ، و سؤال الأمان من عذابه کالمذنب المتعلّق بأذیال من عصاه المتضرّع إلیه فی عفوه عنه المعترف له بأنّه لا ملجاء إلّا إلیه و لا مفزع له إلّا عفوه و کرمه، و أنّه لا یفارق ذیله إلّا بالعفو و بذل الطاعه فی المستقبل، و أمّا السعی بین الصفا و المروه فی فناء البیت فمثال التردّد العبد بفناء دار الملک جائیا و ذاهبا مرّه بعد اخرى إظهارا للخلوص فی الخدمه و رجاء لملاحظته بعین الرحمه کالّذی دخل على الملک و خرج و هو لا یدری ما الّذی یقضی الملک فی حقّه من قبول أوردّ فیکون تردّده رجاء أن یرحمه فی الثانیه إن لم یکن رحمه فی الاولى، و لیتذّکر عند تردّده بین الصفا و المروه تردّده بین کفتّی المیزان فی عرصه القیامه و لیمثّل الصفا بکفّه الحسنات و المروه بکفّه السیّئات و لیتذکّر تردّده بین الکفّتین ملاحظا للرجحان و النقصان متردّدا بین العذاب و الغفران، و أما الوقوف بعرفه.

فلیتذکّر بما یرى من ازدحام الناس و ارتفاع الأصوات و اختلاف اللغات و اتّباع الفرق أئمتّهم فی التردّدات على المشاعر اقتفاء لهم و سیرا بسیرتهم عرصات القیامه و اجتماع الامم مع الأنبیاء و الأئمّه و اقتفاء کلّ امّه أثر نبیّها و طمعهم فی شفاعتهم و تجرّهم فی ذلک الصعید الواحد بین الرّد و القبول، و إذا تذکّر ذلک فیلزم قلبه الضراعه و الابتهال إلى اللّه أن یحشره فی زمره الفائزین المرحومین، و لکن رجاؤه أغلب فإنّ الموقف شریف و الرحمه إنّما تصل من حضره الجلال إلى کافّه الخلائق بواسطه النفوس الکامله من أوتاد الأرض و لا یخلو الموقف عن طائفه من الأبدال و الأوتاد و طوائف من الصالحین و أرباب‏ القلوب فإن اجتمعت همّهم و تجرّدت للضراعه نفوسهم، و ارتفعت إلى اللّه أیدیهم و امتدّت إلیه أعناقهم یرمقون بأبصارهم جهه الرحمه طالبین لها فلا تظنّن أنّه یخیّب سعیهم من رحمه تغمرهم و یلوح لک من اجتماعهم الامم بعرفات و الاستظهار بمجاوره الأبدال و الأوتاد المجتمعین من أقطار البلاد و هو السرّ الأعظم من الحجّ و مقاصده فلا طریق إلى استنزال رحمه اللّه و استدرارها أعظم من اجتماع الهمم و تعاون القلوب فی وقت واحد على صعید واحد، و أمّا رمی الجمار. فلیقصد به الانقیاد لأمر اللّه و إظهار الرقّ و العبودیه ثمّ لیقصد به التشبّه بإبراهیم علیه السّلام حیث عرض له إبلیس فی ذلک الموضع لیدخل على حجّه شبهه أو یفتنه بمعصیه فأمره اللّه تعالى أن یرمیه بالحجاره طردا له و قطعا لأمله فإن خطر له أنّ الشیطان عرض لإبراهیم علیه السّلام و لم یعرض له فلیعلم أنّ هذا الخاطر من الشیطان و هو الّذی ألقاه على قلبه لیخیّل إلیه أنّه لا فائده فی الرمی، و أنّه یشبه اللعب و لیطرده عن نفسه بالجدّ و التشمیر فی الرمی فیه یرغم فیه برغم أنف الشیطان فإنّه و إن کان فی الظاهر رمیا للعقبه بالحصى فهو فی الحقیقه رمی لوجه إبلیس و قصم لظهره إذ لا یحصل إرغام أنفه إلّا بامتثال أمر اللّه تعظیما لمجرد الأمر، و أمّا ذبح الهدى.

فلیعلم أنّه تقرب إلى اللّه تعالى بحکم الامتثال فلیکمل الهدى و أجزاه و لیرج أن یعتق اللّه بکلّ جزء منه جزءا من النار. هکذا ورد الوعد فکلّما کان الهدى أکثر و أوفر کان الفداء به من النار أتمّ و أعمّ و هو یشبه التقرب إلى الملک بالذبح له و إتمام الضیافه و القرى و الغایه منه تذکّر المعبود الأوّل سبحانه عند النیّه فی الذبح و اعتقاد أنّه متقرب به بأجزائه إلى اللّه فهذه هی الإشاره إلى أسرار الحجّ و أعماله الباطنه.

إذا عرفت ذلک فلنرجع إلى المتن

قوله و فرض علیکم حجّ بیته الحرام

إشاره. إلى وجوب الحجّ على الخلق و هو معلوم بالضروره من الدین و وصفه بالحرام لأنّه یحرم على الخلق أن یفعلوا فیه ما لا ینبغی من مناهی الشرع،

و قوله الّذی جعله قبله للأنام

مستنده قوله تعالى «فَلَنُوَلِّیَنَّکَ قِبْلَهً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَکَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ»«»

و قوله یردونه ورود الأنعام

مبالغه فی تشبیه ورود الخلق البیت بورود الأنعام، و وجه الشبه أنّ الخلق یردّون البیت‏ بازدحام عن حرص و شوق إلیه کحال الأنعام عند ورودها الماء، و قیل: إنّ وجه الشبه هو ما بیّناه من عدم اطّلاع الخلق على أسرار الحجّ و على ما یشتمل علیه المناسک من الحکمه الإلهیّه، و لمّا کان العقل الّذی به تمیّز الإنسان عن الأنعام و سائر الحیوان معزولا عن إدراک هذه الأسرار کاد أن لا یکون بین الإنسان و بین مرکوبه فرق فی الورود إلى البیت و سائر المناسک و فیه بعد، و قوله و یألهون إلیه ولوه الحمام إشاره إلى شوق الخلق فی کلّ عام إلى ورود البیت کما یشتاق إلیه الحمام الّذی یسکنه، و قد راعى علیه السّلام فی هذه القرائن الأربع السجع.

 

قوله جعله علامه لتواضعهم لعظمته و إذعانهم لعزّته

إشاره إلى ما ذکرنا من أنّ العقل لمّا لم یکن لیهتدی إلى أسرار هذه الأعمال لم یکن الباعث علیها إلّا الأمر المجرّد و قصد امتثاله من حیث هو واجب الإتّباع فقط، و فیه کمال الرقّ و خلوص الانقیاد فمن فعل ما أمر به من أعمال الحجّ کذلک فهو المخلص الّذی ظهرت علیه علامه المخلصین و المذعن المتواضع لجلال ربّ العالمین، و لمّا کان الحقّ سبحانه عالم الغیب و الشهاده لم یمکن أن یقال إنّ تلک العلامه ممّا یستفید بها علما بأحوال عبیده من طاعتهم و معصیتهم فإذن یتعیّن أن یکون معناها راجعا إلى ما به تتمیّز النفوس الکامله الّتی انقادت لأوامر اللّه و أخلصت له العباده عمّا عداها فإنّ هذه العباده من أشرف ما استعدّت به النفس الإنسانیّه و إفادتها کمالا تمیّزت به عن أبناء نوعها فهی إذن علامه بها تمیّز من اتّسم بها عن غیره،

 

و قوله و اختار من خلقه سماعا أجابوا إلیه دعوته

إشاره إلى الحاج فی قوله تعالى «وَ أَذِّنْ فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ یَأْتُوکَ رِجالًا وَ عَلى‏ کُلِّ ضامِرٍ یَأْتِینَ مِنْ کُلِّ فَجٍّ عَمِیقٍ»«» و فی الآثار أنّ إبراهیم علیه السّلام لمّا فرغ من بناء البیت جاءه جبرئیل علیه السّلام فأمره أن یؤذّن الناس بالحجّ فقال إبراهیم علیه السّلام: یا ربّ و ما یبلغ صوتى قال اللّه أذّن و علیّ البلاغ فعلا إبراهیم علیه السّلام المقام و أشرف به حتّى صار کأطول الجبال و أقبل بوجهه یمینا و شمالا و شرقا و غربا و نادى یا أیّها الناس کتب علیکم الحجّ إلى البیت العتیق فأجیبوا ربّکم فأجابه من کان فی أصلاب الرجال و أرحام النساء لبیّک اللهمّ لبّیک، و فی الأثر إشارات لطیفه فإنّه یحتمل أن یراد بقول إبراهیم و ما یبلغ صوتی إشاره إلى حکم الوهم الإنسانیّ باستبعاد عموم هذه الدعوه و انقیاد الخلق لها و قصور الطبع عن ذلک، و بقول الحقّ سبحانه و علىّ البلاغ الإشاره إلى تأیید اللّه سبحانه بما أوحى إلیه من العلم ببسط دعوته و إبلاغها إلى من علم بلوغها إلیه، و بعلوّ إبراهیم المقام حتّى صار کأطول الجبال، و إقباله بوجهه یمینا و شمالا و شرقا و غربا و دعوته إشاره إلى اجتهاده فی التبلیغ للدعوه و جذب الخلق إلى هذه العباده بحسب إمکانه و استعانته فی ذلک بأولیاء اللّه التابعین له، و أمّا إجابه من کان فی أصلاب الرجال و أرحام النساء له فإشاره إلى ما کتبه اللّه سبحانه بقلم قضائه فی اللوح المحفوظ من طاعه الخلق و إجابتهم لهذه الدعوه على لسان إبراهیم علیه السّلام و من بعده من الأنبیاء و هم المراد بالسماع الّذین اختارهم اللّه سبحانه من خلقه حتّى أجابوا دعوته إلى بیته بحجّهم إلیه بعد ما أهّلهم لذلک قرنا بعد قرن و امّه بعد اخرى،

 

و قوله و صدّقوا کلمته

إشاره إلى مطابقه أفعالهم لما جاءت به الأنبیاء من کلام اللّه سبحانه و عدم مخالفتهم و تکذیبهم لهم، و قوله و وقفوا مواقف الأنبیاء إشاره إلى متابعتهم لهم أیضا فی مواقف الحجّ و فی ذکر الأنبیاء هاهنا استدراج حسن للطباع اللطیفه المتشوّقه إلى لقاء اللّه و التشبّه بأنبیائه علیهم السّلام و ملائکته

 

و قوله و تشبّهوا بملائکته المطیفین بعرشه

إشاره إلى ما ذکرناه من أنّ البیت المعمور بإزاء الکعبه فی السماء و أنّ طواف الخلق بهذا البیت یشبه طواف الملائکه و إحداقهم بالبیت المعمور و العرش فهم متشبّهون بالملائکه فی الطواف، و الغایه أن یترقّی من أخذ العنایه بیده من هذا الطواف إلى أن یصیر من الطائفین بالعرش و البیت المعمور،

 

و قوله یحرزون الأرباح فی متجر عبادته و یبادرون عنده موعد مغفرته

شبّه علیه السّلام العباده بالبضاعه الّتی یتّجر بها فالتاجر هو النفس و رأس المال هو العقل، و وجوه تصرّفاته حرکاته و سکناته الحسیّه و العقلیّه المطلوبه منه بالأوامر الشرعیّه و العقلیّه و الأرباح هی ثواب اللّه و ما أعدّه للمحسنین فی جنّات النعیم و أقبح بمملوک یعدّ تصرّفه فی خدمه سیّده متجرا یطلب به التکسّب و الربح و أحسن به إذا نظر إلى أنّه أهل العباده فحذف جمیع الأعراض و الخواطر فی خدمته عن درجه الاعتبار و جعلها خالصه له لأنّه هو فأمّا کلامه علیه السّلام بذکر الربح هاهنا فاستدراج حسن لطباع الخلق بما یفهمونه و یمیلون إلیه من حبّ الأرباح فی الحرکات لیشتاقوا فیعبدوا، و قوله و جعله للإسلام علما أی علما للطریق إلى اللّه و سلوک صراطه المستقیم، و هی الإسلام الحقیقیّ یهتدی علیها کما یهتدی بالعلم المرفوع‏ للعسکر و المارّه على مقاصدهم،

 

و قوله فرض علیکم حجّه و أوجب حقّه و کتب علیکم وفادته إلى آخره

تأکید لما سبق و ذکر للخطاب الموجب للحجّ و هو قوله «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلًا»«» و باللّه العصمه و التوفیق.

 

شرح ابن میثم بحرانی جلد اول

بازدیدها: ۵۰

خطبه۱شرح ابن میثم بحرانی قسمت چهارم

الفصل الرابع قوله و اصطفى سبحانه…

وَ اصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِیَاءَ-  أَخَذَ عَلَى الْوَحْیِ مِیثَاقَهُمْ-  وَ عَلَى تَبْلِیغِ الرِّسَالَهِ أَمَانَتَهُمْ-  لَمَّا بَدَّلَ أَکْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللَّهِ إِلَیْهِمْ-  فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَ اتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ-  وَ اجْتَالَتْهُمُ الشَّیَاطِینُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ-  وَ اقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ فَبَعَثَ فِیهِمْ رُسُلَهُ-  وَ وَاتَرَ إِلَیْهِمْ أَنْبِیَاءَهُ لِیَسْتَأْدُوهُمْ مِیثَاقَ فِطْرَتِهِ-  وَ یُذَکِّرُوهُمْ مَنْسِیَّ نِعْمَتِهِ-  وَ یَحْتَجُّوا عَلَیْهِمْ بِالتَّبْلِیغِ-  وَ یُثِیرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ-  وَ یُرُوهُمْ آیَاتِ الْمَقْدِرَهِ-  مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ-  وَ مَعَایِشَ تُحْیِیهِمْ وَ آجَالٍ تُفْنِیهِمْ وَ أَوْصَابٍ‏ تُهْرِمُهُمْ-  وَ أَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَیْهِمْ-  وَ لَمْ یُخْلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِیٍّ مُرْسَلٍ-  أَوْ کِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّهٍ لَازِمَهٍ أَوْ مَحَجَّهٍ قَائِمَهٍ-  رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّهُ عَدَدِهِمْ-  وَ لَا کَثْرَهُ الْمُکَذِّبِینَ لَهُمْ-  مِنْ سَابِقٍ سُمِّیَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى ذَلِکَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ وَ مَضَتِ الدُّهُورُ-  وَ سَلَفَتِ الْآبَاءُ وَ خَلَفَتِ الْأَبْنَاءُ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً ص-  لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ-  مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِیِّینَ مِیثَاقُهُ-  مَشْهُورَهً سِمَاتُهُ کَرِیماً مِیلَادُهُ-  وَ أَهْلُ الْأَرْضِ یَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَهٌ-  وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَهٌ وَ طَوائِفُ مُتَشَتِّتَهٌ-  بَیْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِی اسْمِهِ-  أَوْ مُشِیرٍ إِلَى غَیْرِهِ-  فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَهِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَکَانِهِ مِنَ الْجَهَالَهِ-  ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ ص لِقَاءَهُ-  وَ رَضِیَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَ أَکْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْیَا-  وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى-  فَقَبَضَهُ إِلَیْهِ کَرِیماً-  ص وَ خَلَّفَ فِیکُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِیَاءُ فِی أُمَمِهَا-  إِذْ لَمْ یَتْرُکُوهُمْ هَمَلًا بِغَیْرِ طَرِیقٍ وَاضِحٍ وَ لَا عَلَمٍ قَائِمٍ کِتَابَ رَبِّکُمْ فِیکُمْ مُبَیِّناً حَلَالَهُ وَ حَرَامَهُ-  وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ وَ نَاسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ-  وَ رُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ-  وَ عِبَرَهُ وَ أَمْثَالَهُ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ-  وَ مُحْکَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ مُفَسِّراً مُجْمَلَهُ وَ مُبَیِّناً غَوَامِضَهُ-  بَیْنَ مَأْخُوذٍ مِیثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى الْعِبَادِ فِی جَهْلِهِ-  وَ بَیْنَ مُثْبَتٍ فِی الْکِتَابِ فَرْضُهُ-  وَ مَعْلُومٍ فِی السُّنَّهِ نَسْخُهُ-  وَ وَاجِبٍ فِی السُّنَّهِ أَخْذُهُ-  وَ مُرَخَّصٍ فِی الْکِتَابِ تَرْکُهُ-  وَ بَیْنَ وَاجِبٍ بِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِی مُسْتَقْبَلِهِ-  وَ مُبَایَنٌ بَیْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ کَبِیرٍ أَوْعَدَ عَلَیْهِ نِیرَانَهُ-  أَوْ صَغِیرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ-  وَ بَیْنَ مَقْبُولٍ فِی أَدْنَاهُ مُوَسَّعٍ فِی أَقْصَاهُ

اللغه

أقول: الاصطفاء الاستخلاص، و الأنداد الأمثال، و اجتالتهم أی أدارتهم و اجتذبتهم، و واتر أی أرسل وترا بعد وتر أی واحدا بعد آخر، و الفطره الخلقه، و المهاد الفراش، و الأوصاب الأمراض، و الأحداث المصائب و تخصیصها بذلک عرفیّ، و الحجّه ما یحجّ به الإنسان غیره أی یغلبه به، و المحجّه جادّه الطریق، و الغابر الباقی و الماضی أیضا و هو من الأضداد، والقرن الامّه، و نسلت أی درجت و مضت مأخوذ من نسل ریش الطائر و نسل الوبر إذا وقع، و العده الوعد و إنجازها قضاؤها، و السمه العلامه، و میلاد الرجل محلّ ولادته من الزمان و المکان، و الملحد العادل عن الاستقامه على الحقّ، و النسخ فی اللغه الإزاله، و الرخصه الساهل فی الأمر، و العزیمه الهمّه، و هذه الألفاظ الثلاثه مخصوصه فی العرف على معان اخرى کما نذکره، و أرصدت له کذا أی هیّأته له،

المعنى

و هاهنا أبحاث.

البحث الأوّل

–  الضمیر فی ولده راجع إلى آدم علیه السّلام ثمّ إن کانت الإشاره بآدم إلى النوع الإنسانی فنسبه الولاده إلیه فی العرف ظاهره صادقه فإنّ کلّ أشخاص نوع هم أبناء ذلک النوع فی اصطلاح أهل التأویل و کذلک إن کان المراد به أوّل شخص وجد، و اعلم أنّ اصطفاء اللّه للأنبیاء یعود إلى إفاضه الکمال النبویّ علیهم بحسب ما وهبت لهم العنایه الإلهیّه من القبول و الاستعداد، و أخذه على الوحی میثاقهم و على تبلیغ الرساله أمانتهم هو حکم الحکمه الإلهیّه علیهم بالقوّه على ما کلّفوا به من ضبط الوحی فی ألواح قواهم‏و جذب سائر النفوس الناقصه إلى جناب عزّته بحسب ما أفاضهم من القوّه على ذلک الاستعداد، له و ما منحهم من الکمال الّذی یقتدرون معه على تکمیل الناقصین من أبناء نوعهم، و لمّا کانت صوره العهد و أخذ الأمانه فی العرف أن یوغر إلى الإنسان بأمر و یؤکّد علیه القیام به بالإیمان و إشهاد الحقّ سبحانه، و کان الحکم الإلهیّ جاریا بإرسال النفوس الإنسانیّه إلى هذا العالم و کان مراد العنایه الإلهیّه من ذلک البعث أن یظهر ما فی قوّه کلّ نفس من کمال أو تکمیل إلى الفعل، و کان ذلک لا یتمّ إلّا بواسطه بعضها للبعض کان الوجه الّذی بعثت علیه مشبّها للعهد و المیثاق المأخوذ و الأمانه المودعه کلّ لما فی قوّته و ما أعدّ له فحسن إطلاق هذه الألفاظ و استعارتها هاهنا.

 

قوله لمّا بدّل أکثر خلق اللّه عهدهم إلیهم فجهلوا حقّه و اتّخذوا الأنداد معه و اجتالتهم الشیاطین عن معرفته و اقتطعتهم عن عبادته إلى آخره

إشاره إلى وجه الحکمه الإلهیّه فی وجود الأنبیاء علیهم السّلام و لوازمه و هی شرطیّه متصّله قدّم فیها التالی لتعلّق ذکر الأنبیاء علیهم السّلام بذکر آدم، و التقدیر لمّا بدّل أکثر خلق اللّه عهده إلیهم اصطفى سبحانه من ولده أنبیاء أخذ على الوحی میثاقهم فبعثهم فی الخلق، و ذلک العهد هو المشار إلیه بقوله تعالى «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِنْ بَنِی آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ»«» الآیه قال ابن عبّاس: لمّا خلق اللّه آدم مسح على ظهره فأخرج منه کلّ نسمه هو خالقها إلى یوم القیامه فقال: أ لست بربّکم قالوا: بلى، فنودى یومئذ جفّ القلم بما هو کائن إلى یوم القیامه، و اعلم أنّ أخذ الذریّه یعود إلى إحاطه اللوح المحفوظ بما یکون من وجود النوع الإنسانی بأشخاصه، و انتقاشه بذلک عن قلم القضاء الإلهی، و لمّا کان بالإنسان تمام العالمین فی الوجود الخارجیّ فکذلک هو فی التقدیر القضائی المطابق له، و به یکون تمام التقدیر و جفاف القلم، و أمّا إشهادهم على نفسهم فیعود إلى إنطاق إمکانهم بلسان الحاجه إلیه و أنّه الإله المطلق الّذی لا إله غیره، و أمّا بیان ملازمه الشرطیّه فلأنّه لمّا کان الغالب على الخلق حبّ الدنیا، و الإعراض عن مقتضی الفطره الأصلیّه الّتی فطرهم علیها، و الالتفات عن القبله الحقیقیّه الّتی امروا بالتوجّه إلیها، و ذلک بحسب ما رکبّ فیهم من القوى البدنیّه المتنازعه إلى کمالاتها لا جرم کان من شأن کونهم على هذا الترکیب المخصوص أن یبدّل أکثرهم عهد اللّه سبحانه إلیهم من الدوام على عبادته و الاستقامه على صراطه المستقیم و عدم الانقیاد لعباده الشیطان کما قال سبحانه «أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَیْکُمْ یا بَنِی آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّیْطانَ»«» الآیه، و أن یجهلوا حقّه للغفله بحاضر لذّاتهم عمّا یستحقّه من دوام الشکر، و أن یتّخذوا الأنداد معه لنسیانهم العهد القدیم، و أن تجتذبهم الشیاطین عن معرفته الّتی هی ألذّ ثمار الجنه، و أن تقتطعهم عن عبادته الّتی هی المرقاه إلى اقتطاف تلک الثمره، و لمّا کان من شأنهم ذلک وجب فی الحکمه الإلهیّه أن یختصّ صنفا منهم بکمال أشرف یقتدر معه أبناء ذلک الصنف على ضبط الجوانب المتجاذبه، و على تکمیل الناقصین ممّن دونهم، و هم صنف الأنبیاء علیهم السلام و الغایه منهم ما أشار إلیه لیستأدوهم میثاق فطرته أی لیبعثوهم على أداء ما خلقوا لأجله و فطروا علیه من الإقرار بالعبودیّه للّه، و یجذبوهم عمّا التفتوا إلیه من اتّباع الشهوات الباطنه، و افتناء اللذّات الوهمیّه الزائله، و ذلک البعث و الجذب تاره یکون بتذکیرهم نعم اللّه الجسمیّه و تنبیههم على شکر ما أولاهم به من مننه العظیمه، و تاره یکون بالترغیب فیما عقده سبحانه ممّا أعدّه لأولیائه الأبرار، و تاره بالترهیب ممّا أعدّه لأعدائه الظالمین من عذاب النار، و تاره بالتنفیر عن خسائس هذه الدار، و بیان وجوه الاستهانه بها و الاستحقار، و إلى ذلک أشار بقوله، و یذکّروهم منسیّ نعمته، و لا بدّ للمجادله و المخاطبه من احتجاج مقنع و مفحم فیحتجّوا علیهم بتبلیغ رسالات ربّهم و إنذارهم لقاء یومهم الّذی یوعدون، و یشیروا لهم وجوه الأدلّه على وحدانیّه المبدع الأوّل، و تفرّده باستحقاق العباده، و هو المراد بدفائن العقول و کنوزها، و استعمال الدفائن هاهنا استعاره لطیفه فإنّه لمّا کانت جواهر العقول و نتائج الأفکار، موجوده فی النفوس بالقوّه أشبهت الدفائن فحسن استعاره لفظ الدفینه لها، و لمّا کانت الأنبیاء هم الأصل فی استخراج تلک الجواهر لإعداد النفوس لإظهارها حسنت إضافه إثارتها إلیهم، و کذلک لیرشدهم إلى تحصیل مقدّمات تلک الأدلّه و البراهین و موادّها و هی آیات القدره الإلهیّه و آثارها من سقف فوقهم محفوظ مرفوع مشتمل على بدائع الصنع و غرائب الحکم، و مهاد تحتهم موضوع فیه ینتشرون و علیه یتصرّفون، و معائش بها یکون قوام حیاتهم الدنیا، و بلاغا لمدّه بقائهم لما خلقوا له، و إجال مقدره بها یکون فناؤهم و رجوعهم إلى بارئهم، و أعظم بالأجل آیه رادعه و تقدیرا جاذبا إلى اللّه تعالى، و لذلک قال صلى اللّه علیه و آله: أکثروا من ذکر هادم اللذّات إلى غیر ذلک من الأمراض الّتی تضعف قواهم و تهرمهم، و المصائب الّتی تتتابع علیهم فإنّ کلّ هذه الآثار موادّ احتجاج الأنبیاء على الخلق لینبّونهم بصدورها عن العزیز الجبّار عزّ سلطانه على أنّه هو الملک المطلق الّذی له الخلق و الأمر، و لیقرّروا فی أذهانهم صوره ما نسوه من العهد المأخوذ علیهم فی الفطره الأصلیّه من أنّه سبحانه هو الواحد الحقّ المتفرّد باستحقاق العباده، و إلى ذلک أشار القرآن الکریم «و جعلنا السماء سقفا محفوظا و هم عن آیاتها معرضون»«» و قوله «إِنَّ فِی خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّیْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْکِ الَّتِی تَجْرِی فِی الْبَحْرِ بِما یَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْیا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها»«» الآیه و قوله تعالى «وَ السَّماءَ بَنَیْناها بِأَیْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ وَ مِنْ کُلِّ شَیْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَیْنِ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ»«» إلى غیر ذلک من الآیات الدالّه على احتجاج الخالق سبحانه على خلقه بألسنه رسله و تراجمه وحیه و جذبهم بهذه الألطاف إلى القرب من ساحل عزّته و الوصول إلى حضره قدسه سبحانه و تعالى عمّا یشرکون «و إن تعدّوا نعمت اللّه لا تحصوها إنّ الإنسان لظلوم کفّار»«»

 

قوله و لم یخل اللّه سبحانه خلقه إلى قوله و خلقت الأبناء.

أقول: المقصود الإشاره إلى بیان عنایه اللّه سبحانه بالخلق حیث لم یخل امّه منهم من نبیّ مرسل یجذبهم إلى جناب عزّته کما قال تعالى «وَ إِنْ مِنْ أُمَّهٍ إِلَّا خَلا فِیها نَذِیرٌ»«» و کتاب منزل یدعوهم إلى عبادته و یذکّرهم فیه منسىّ عهده و یتلى علیهم فیه أخبار الماضین و العبر اللاحقه للأوّلین و یحتجّ علیهم فیه بالحجج البالغه و الدلائل القاطعه، و یوضح لهم فیه امور نظامهم و ینبّههم على مبدئهم و معادهم، و الانفصال هاهنا انفصال مانع من الخلوّ کما هو مصرّح به.

 

قوله رسل لا تقصّر بهم قلّه عددهم و لا کثره المکذّبین لهم أی هم رسل کذلک،

و المراد الإشاره إلى أنّهم و إن کانوا قلیلی العدد بالنسبه إلى کثره الخلق، و کان عدد المکذّبین‏ لهم کثیرا کما هو المعلوم من أنّ کلّ نبیّ بعث إلى امّه فلا بدّ فیهم فرقه تنابذه و تعانده، و تکذّب مقاله فإنّ ذلک لا یولّیهم قصورا عن أداء ما کلّفوا القیام به من حمل الخلق على ما یکرهون ممّا هو مصلحه لهم فی معاشهم و معادهم، بل یقوم أحدهم وحده و یدعو إلى طاعه بارئه و یتحمّل إعباء المشقّه التامّه فی مجاهده أعداء الدین، و ینشر دعوته فی أطراف الأرض بحسب العنایه الأزلیّه و الحکمه الإلهیّه، و تبقی آثارها محفوظه و سنتّها قائمه إلى أن یقتضى الحمکمه وجود شخص آخر منهم یقوم ذلک المقام «رسلا مبشّرین و منذرین لئلّا یکون للناس على اللّه حجّه بعد الرسل»«» قوله من سابق سمّى له من بعده تفضیل للأنبیاء، و من هاهنا للتمییز و التبیین، و المراد أنّ السابق منهم قد اطّلعه اللّه تعالى على العلم بوجود اللاحق له بعده فبعضهم کالمقدّمه لتصدیق البعض کعیسى علیه السّلام حیث قال «وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ یَأْتِی مِنْ بَعْدِی اسْمُهُ أَحْمَدُ«»» و بین لاحق سمّاه من قبله کمحمّد صلى اللّه علیه و آله و على ذلک أی على هذه الوتیره و الاسلوب و النظام الإلهی.

 

قوله مضت الأمم و سلفت الآباء و خلقت الأبناء إلى أن بعث اللّه سبحانه محمّد صلى اللّه علیه و آله إلى قوله من الجهاله،

و اعلم أنّه علیه السّلام ساق هذه الخطبه من لدن آدم علیه السّلام إلى أن انتهى إلى محمّد صلى اللّه علیه و آله کما هو الترتیب الطبیعی إذ هو الغایه من طینه النبوّه و خاتم النبیّین کما نطق به القرآن الکریم «ما کان محمّد أبا أحد من رجالکم و لکن رسول اللّه و خاتم النبیّین»«» ثمّ شرع بعد ذلک فی التنبیه على کیفیّه اهتداء الخلق به و انتظام أمورهم فی معاشهم و معادهم بوجوده کلّ ذلک استدراج لأذهان السامعین و تمهید لما یرید أن یقرّره علیهم من مصالح دینیّه أو دنیویّه فأشار إلى أنّه الغایه من طینه النبوّه و تمام لها بقوله إلى أن بعث اللّه محمّدا صلى اللّه علیه و آله لإنجاز عدته لخلقه على ألسنه رسله السابقین بوجوده و إتمام نبوّته صلى اللّه علیه و آله.

 

قوله مأخوذا على النبیین میثاقه، النصب هاهنا على الحال من بعث و ذو الحال‏ محمّد صلى اللّه علیه و آله، و کذلک الحال فی المنصوبین الباقیین، و المراد بأخذ میثاقه علیهم ما ذکر و قرّر فی فطرتهم من الاعتراف بحقیّه نبوّته صلى اللّه علیه و آله و تصدیقه فیما سیجی‏ء به إذ کان ذلک من تمام عباده الحقّ سبحانه فبعث صلى اللّه علیه و آله حال ما کان ذلک المیثاق مأخوذا على الأنبیاء و من عداهم و حال ما کانت إمارات ظهوره و البشاره بمقدّمه مشهوره بینهم مع ذکاء أصله و کرم مادّه حملته و شرف وقت سمح به، ثمّ أراد علیه السّلام بعد ذلک أن یزید بعثه محمّد صلى اللّه علیه و آله تعظیما، و یبیّن فضیله شرعه و کیفیّه انتفاع الخلق به فقال: و أهل الأرض یومئذ ملل متفرّقه و أهواء منتشره و طوائف متشتّته، و الواو فی قوله و أهل الأرض للحال أیضا، و موضع الجمله نصب، و قوله و أهواء خبر مبتداء محذوف تقدیره أهوائهم أهواء متفرّقه، و کذلک قوله و طوائف أی و طوائفهم طرائق متشتّته أی بعثه و حال أهل الأرض یوم بعثه ما ذکر من تفرّق الأدیان و انتشار الآراء و اختلافها و تشتّت الطرق و المذاهب، و اعلم أنّ الخلق عند مقدم محمّد صلى اللّه علیه و آله إمّا من علیه اسم الشرائع أو غیرهم أمّا الأوّلون فالیهود و النصارى و الصائبه و المجوس، و قد کانت أدیانهم اضمحلّت من أیدیهم، و إنّما بقوا متشبّهین بأهل الملل، و قد کان الغالب علیهم دین التشبیه، و مذهب التجسیم کما حکى القرآن الکریم عنهم «و قالت الیهود و النصارى نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه»«» «و قالت الیهود عزیر ابن اللّه و قالت النصارى المسیح بن اللّه»«» «و قالت الیهود ید اللّه مغلوله غلّت أیدیهم و لعنوا بما قالوا»«» و المجوس أثبتوا أصلین أسندوا إلى أحدهما الخیر و إلى الثانی الشّر، ثمّ زعموا أنّه جرت بینهما محاربه ثمّ إنّ الملائکه توسّطت و أصلحت بینهما على أن یکون العالم السفلى للشریر مدّه سبعه آلاف سنه إلى غیر ذلک من هذیانهم و خبطهم، و أمّا غیرهم من أهل الأهواء المنتشره و الطوائف المتشتّته فهم على أصناف شتّى فمنهم العرب أهل مکّه و غیرهم و قد کان منهم معطّله و منهم محصّله نوع تحصیل، أمّا المعطّله فصنف منهم أنکروا الخالق و البعث و الإعاده، و قالوا بالطبع المحیی و الدهر المفنی، و هم الّذین حکى القرآن عنهم «و قالوا إن هی إلّا حیاتنا الدنیا نموت و نحیا و ما یهلکنا إلّا الدهر»«» و قصّروا الحیاه و الموت على تحلّل الطبائع المحسوسه و ترکّبها فالجامع هو الطبع و المهلک هو الدهر «و ما لهم بذلک من علم إن هم إلّا یظنّون»«» و صنف منهم أقروّا بالخالق و ابتداء الخلق عنه، و أنکروا البعث و الإعاده و هم المحکیّ عنهم فی القرآن الکریم «وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِیَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظامَ وَ هِیَ رَمِیمٌ قُلْ یُحْیِیهَا»«» الآیه، و صنف منهم اعترفوا بالخالق و نوع من الإعاده لکنّهم عبدوا الأصنام و زعموا أنّها شفعاؤهم عند اللّه کما قال «وَ یَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا یَضُرُّهُمْ وَ لا یَنْفَعُهُمْ وَ یَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ»«» و من هؤلاء قبیله یقف و هم أصحاب اللات بالطائف و قریش و بنو کنانه و غیرهم أصحاب العزّى، و منهم من کان یجعل الأصنام على صور الملائکه، و یتوجّه بها إلى الملائکه، و منهم من کان یعبد الملائکه کما قال تعالى «بَلْ کانُوا یَعْبُدُونَ الْجِنَّ»«» و أمّا المحصّله فقد کانوا فی الجاهلیه على ثلاثه أنواع من العلوم: أحدها علم الأنساب و التواریخ و الأدیان، و الثانی علم تعبیر الرؤیا و الثالث علم الأنواء، و ذلک بما یتولّاه الکهنه و القافه منهم، و عن النبیّ صلى اللّه علیه و آله من قال: مطرنا نبنوء کذا فقد کفر بما أنزل على محمّد، و من غیر العرب البراهمه من أهل الهند و مدار مقالتهم على التحسین و التقبیح العقلیّین و الرجوع فی کلّ الأحکام إلى العقل و إنکار الشرائع و انتسابهم إلى رجل منهم یقال له براهام، و منهم أصحاب البدده و البدّ عندهم شخص فی هذا العالم لا یولد و لا ینکح و لا یطعم و لا یشرب و لا یهرم و لا یموت، و منهم أهل الفکره و هم أهل العلم منهم بالفلک و أحکام النجوم، و منهم أصحاب الروحانیّات الّذین أثبثوا وسائط روحانیّه تأتیهم بالرساله من عند اللّه فی صوره البشر من غیر کتاب فتأمرهم و تنهاهم و منهم عبده الکواکب، و منهم عبده الشمس، و منهم عبده القمر و هؤلاء یرجعون بالأخره إلى عباده الأصنام إذ لا یستمرّ لهم طریقه إلّا بشخص حاضر ینظرون إلیه و یرجعون إلیه فی مهمّاتهم، و لهذا کان أصحاب الروحانیّات و الکواکب یأخذون أصناما على صورها فکان الأصل فی وضع الأصنام ذلک إذ یبعد ممّن له أدنى فطنه أن یعمل خشبا بیده ثمّ یتخذّه إلها إلّا أنّ الخلق لمّا عکفوا علیها و ربطوا حوائجهم بها من غیر إذن شرعىّ و لا حجّه و لا برهان من اللّه تعالى کان عکوفهم ذلک و عبادتهم لها إثباتا لإلهیّتها، و وراء ذلک من أصناف الآراء الباطله و المذاهب الفاسده أکثر من أن تحصى مذکوره فی الکتب المصنّفه فی هذا الفنّ، و إذا عرفت ذلک ظهر معنى قوله علیه السّلام من مشیّئه اللّه بخلقه کالبقیّه من أصحاب الملل السابقه فإنّهم و إن أثبتوا صانعا إلّا أنّ أذهانهم مکیّفه بکیفیّه بعض مصنوعاته فی نفس الأمر من الجسمیّه و توابعها، و من ملحد فی اسمه کالّذین عدلوا عن الحقّ فی أسماعه بتحریفها عمّا هی علیه إلى أسماء اشتقّوها لأوثانهم و زادوا فیها و نقصوا کاشتقاقهم اللات من اللّه، و العزّى من العزیز و مناه من المنّان، و هذا التأویل مذهب ابن عبّاس، و منهم من فسّر الملحدین فی أسماء اللّه بالکاذبین فی أسمائه و على هذا کلّ من سمّى اللّه بما لم یسمّ به ذهنه و لم ینطق به کتاب و لا ورد فیه إذن شرعیّ فهو ملحد فی أسمائه، و قوله و من مشیر إلى غیره کالدهریّه و غیرهم من عبده الأصنام، و الانفصال هاهنا لمنع الخلوّ أیضا، فلمّا اقتضت العنایه بعثته صلى اللّه علیه و آله لیهتدوا سبیل الحقّ و یفیئوا من ضلالهم القدیم إلى سلوک الصراط المستقیم، و لینقذهم ببرکه نوره من ظلمات الجهل إلى أنوار الیقین، فقام بالدعوه إلى سبیل ربّه بالحکمه و الموعظه الحسنه و المجادله بالّتی هی أحسن، فجلى اللّه بنوره صداء قلوب الخلق، و أزهق باطل الشیطان بما جاء به من الحقّ و الصدق و انطلقت الألسن بذکر اللّه و استنارت البصائر بمعرفه اللّه و کمل به دینه فی أقصى بلاد العالم، و أتمّ به نعمته على کافّه عباده کما قال تعالى «الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلامَ دِیناً»«» أحبّ اللّه سبحانه لقاءه کما أحبّ هو لقاء اللّه کما قال صلى اللّه علیه و آله: من أحبّ لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه و رضى له ما عنده من الکرامه التامّه و النعمه العامّه فی جواره الأمین فی مقعد صدق عند ملیک مقتدر، فأکرمه عن دار الدنیا و رغب به عن مجاوره البلوى و مقام الأذى فقبضه اللّه إلیه عند انتهاء أجله کریما عن أدناس الذنوب طاهرا فی ولادته الجسمانیّه و الروحانیه صلى اللّه علیه و آله ما برق بارق و ذرّ شارق.

 

قوله و خلّف فیکم ما خلّفت الأنبیاء فی اممها إذ لم یترکوهم هملا بغیر طریق واضح و لا علم قائم.

أقول: لمّا کان هذا الشخص الّذی هو النبیّ لیس ممّا یتکوّن وجود مثله فی کلّ وقت لما أنّ المادّه الّتی تقبل کمال مثله إنّما یقع فی قلیل من الأمزجه وجب إذن أن یشرع للناس بعده فی امورهم سنّه باقیه بإذن اللّه و أمره و وحیه و إنزاله الروح القدس علیه، و واجب أن یکون قد دبّر لبقاء ما یسنّه و یشرعه فی امور المصالح الإنسانیّه تدبیرا و الغایه من ذلک التدبیر هو بقاء الخلق و استمرارهم على معرفه الصانع المعبود و دوام ذکره و ذکر المعاد، و حسم وقوع النسیان فیه مع انقراض القرآن الّذی یلی النبیّ و من بعده فواجب إذن أن یأتیهم بکتاب من عند اللّه و یکون وافیا بالمطالب الإلهیّه و الأذکار الجاذبه إلى اللّه سبحانه و لإخطاره بالبال فی کلّ حال مشتملا على أنواع من الوعد على طاعه اللّه و رسوله بجزیل الثواب عند المصیر إلیه، و الوعید على معصیته بعظیم العقاب عند القدوم علیه و لا بدّ أن یعظّم أمره و یسنّ على الخلق تکراره و حفظه، أو بحثه و دراسته و تعلّمه و تعلیمه و تفّهم معانیه و مقاصده لیدوم به التذکّر للّه سبحانه، و الملاء الأعلى من ملائکته ثمّ یسنّ علیهم أفعالا و أعمالا تتکرّر فی أوقات مخصوصه تتقارب و یتلو بعضها بعضا مشفوعه بألفاظ تقال و نیّات تنوى فی الخیال لیحصل بها دوام تذکّر المعبود الأوّل و ینتفع بها فی أمر المعاد و إلّا فلا فائده فیها، و هذه الأفعال کالعبادات الخمس المفروضه على الناس و ما یلحقها من الوظائف و لمّا بدء علیه السّلام هاهنا بذکر الکتاب العزیز لکونه مشتملا على ذکر سائر ما جاء به الرسول صلى اللّه علیه و آله إمّا مطابقه أو التزاما و فی بسط قوانینه الکلیّه بحسب السنّه النبویّه وفاء بجمیع المطالب الإلهیّه، فنحن نبدء بذکر شرفه و وظائفه و شرائط تلاوته و نؤخّر الکلام فی باقی العبادات إلى مواضعها.

البحث الثانی-  فی فضیله الکتاب

أمّا الفضیله فمن وجوه.

الأوّل-  قوله تعالى «وَ هذا ذِکْرٌ مُبارَکٌ أَنْزَلْناهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْکِرُونَ»«» «کِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَیْکَ مُبارَکٌ لِیَدَّبَّرُوا آیاتِهِ وَ لِیَتَذَکَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ»«» و قوله «وَ ما کانَ هذَا الْقُرْآنُ‏ أَنْ یُفْتَرى‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لکِنْ تَصْدِیقَ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ»«» الثانی قال رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله: من قرء القرآن ثمّ رأى أنّ أحدا اوتى أفضل ممّا اوتى فقد استصغر ما عظّم اللّه تعالى، الثالث قوله صلى اللّه علیه و آله: ما من شفیع أفضل منزله عند اللّه تعالى یوم القیامه من القرآن لا نبیّ و لا ملک و لا غیره، و یلوح لک من سرّ هذه الإشاره أنّ ذلک إنّما هو فی حقّ من تدّبره، و سلک النهج المطلوب منه المشتمل علیه، و وصل به إلى جناب اللّه فی جوار الملائکه المقرّبین و لا غایه من الشفاعه إلّا الوصول إلى نیل الرضوان من المشفوع، و علمت أنّ تمام رضوان اللّه بغیر سلوک الطریق المشتمل علیها الکتاب العزیز لا یحصل، و لا ینفع فیه شفاعه شافع کما قال تعالى «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَهُ الشَّافِعِینَ فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْکِرَهِ مُعْرِضِینَ»«» الرابع قال صلى اللّه علیه و آله: لو کان القرآن فی احاب لما مسّته النار، و المراد أىّ ظرف وعاه و تدبّره و سلک طریقه لم تمسّه النار، أمّا نار الآخره فظاهر، و أمّا نار الدنیا فلأنّ الواصلین من أولیاء اللّه الکاملین فی قوّتهم النظریّه و العملیّه یبلغون حدّا تنفعل العناصر عن نفوسهم فتتصرّف فیها کتصرّفها فی أبدانها فلا یکون لها فی أبدانهم تأثیر، و قد عرفت أسباب ذلک فی المقدّمات. الخامس قال صلى اللّه علیه و آله: أفضل عباده امّتی قراءه القرآن، و أهل القرآن هم أهل اللّه و خاصّته، و المقصود مع شرائطه الّتی سنذکرها.

 

البحث الثالث-  فی وظائفه

أمّا مداومه الکتاب بالتلاوه و الدرس فیحتاج إلى وظائف و إلّا لم ینتفع بها کما قال أنس: ربّ تال للقرآن و القرآن یلعنه، و الّذی ینبغی أن یوظّف فی ذلک ما لخصّه الإمام أبو حامد الغزّالیّ فی کتاب الإحیاء فإنّه لا مزید علیه و هی امور عشره: الأوّل أن یتصوّر الإنسان حال سماعه للتلاوه عظمه کلام اللّه سبحانه و إفاضه کماله و لطفه بخلقه فی نزوله عن عرش جلاله إلى درجه أفهام الخلق فی إیصال معانی کلامه إلى أذهانهم، و کیف تجلّت لهم الحقائق الإلهیّه فی طیّ حروف و أصوات هی صفات البشر إذ یعجز البشر عن الوصول إلى مدارج الجلال و نعوت الکمال إلّا بوسیله، و لو لا استنار کنه جمال کلامه بکسوه الحروف لما ثبت لسماع الکلام عرش و لا ثرى، و لتلاشى ما بینهما من‏ عظمه سلطانه و سبحات نوره فالصوت و الحرف للحکمه جسد، و هی بالنسبه إلیه نفس و روح، و لمّا کان شرف الأجساد و عزّتها بشرف أرواحها فکذلک شرف الحرف و الصوت بشرف الحکمه الّتی فیها. الثانی التعظیم للمتکلّم، و ینبغی أن یحضر فی ذهن القارئ عظمه المتکلّم، و یعلم أنّ ما یقرأه لیس بکلام البشر، و أنّ فی تلاوه کلام اللّه غایه الحظر فإنّه تعالى قال «لا یَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» و کما أنّ ظاهر جلد المصحف و ورقه محروس عن ظاهر بشره الامس الغیر المتطّهر فکذلک باطن معناه کلمه عزّه و جلاله محجوب عن باطن القلب إذ لا یستضی‏ء بنوره إلّا إذا کان متطهّرا عن کلّ رجس مستنیرا بنور التعظیم و التوفیر عن ظلمه الشرک، و کما لا تصلح للمس جلد المصحف کلّ ید، فلا یصلح لتلاوه حروفه کلّ إنسان و لا لحمل أنواره کلّ قلب، و لأجل هذا الإخلال کان عکرمه بن أبی جهل إذا نشر المصحف یغشى علیه و یقول: هو کلام ربّی فیعظّم الکلام بتعظیم المتکلّم و علمت أنّ عظمه المتکلّم لا تخطر فی القلب بدون الفکر فی صفات جلاله و نعوت کماله و أفعاله و إذا خطر ببالک الکرسیّ و العرش و السماوات و الأرضون و ما بینهما، و علمت أنّ الخالق لجمیعها و القادر علیها و الرازق لها هو اللّه الواحد القهّار، و أنّ الکلّ فی قبضته و السماوات مطویّات بیمینه، و الکلّ سائر إلیه و أنّه الّذی یقول: هؤلاء فی الجنّه، و لا ابالی فإنّک تستحضر من ذلک عظمه المتکلّم ثمّ عظمه الکلام.

الثالث حضور القلب و ترک حدیث النفس. قیل فی تفسیر قوله «یا یَحْیى‏ خُذِ الْکِتابَ بِقُوَّهٍ» أی بجدّ و اجتهاد و أخذه بالجدّ أن یتجرّد عند قراءته بحذف جمیع المشغلات و الهموم عنه، و هذه الوظیفه تحصل ممّا قبلها فإنّ المعظم للکلام الّذی یتلوه یستبشر به و یستأنس إلیه و لا یغفل فإنّ فی القرآن ما یستأنس به القلب إن کان التالی له أهلا، و کیف یطلب الانس بالفکر فی غیره و فیه بساتین العارفین، و ریاض الأولیاء و میادین اولی الألباب. الرابع التدبیر و هو طور وراء حضور القلب فإنّ الإنسان قد لا یتفکّر فی غیر القرآن، و لکنّه یقتصر على سماع القرآن من نفسه و هو لا یتدبّره، و المقصود من التلاوه التدبّر قال سبحانه «أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها»«» «أفلا یتدبّرون القرآن و لو کان من عند غیر اللّه لوجدوا فیه اختلافا کثیرا»«» و قال «وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِیلًا» تمکّن الإنسان من تدبّر الباطن و قال صلى اللّه علیه و آله: لا خیر فی عباده لا فقه فیها، و لا فی قراءه لا تدبّر فیها، و إذا لم یمکن التدبّر إلّا بالتردید فلیردّد قال أبو ذر: قام رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله لیله یردّد قوله تعالى «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُکَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ»«» الخامس التفهّم و هو أن یستوضح من کلّ آیه ما یلیق بها إذ القرآن یشتمل على ذکر صفات اللّه تعالى و أفعاله و أحوال أنبیائه و المکذّبین لهم و أحوال ملائکته و ذکر أوامره و زواجره و ذکر الجنّه و النار و الوعد و الوعید، فلیتأمّل معانی هذه الأسماء و الصفات لتنکشف له أسرارها فتحتها دفائن الأسرار و کنوز الحقائق و إلى ذلک أشار علیّ علیه السلام بقوله ما أسرّ إلى رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله شیئا کتمه عن الناس إلّا أن یؤتى اللّه عبدا فهما فی کتابه فلیکن حریصا فی طلب ذلک الفهم، و قال ابن مسعود: من أراد علم الأوّلین و الآخرین فعلیه بالقرآن، و اعلم أنّ أعظم علوم القرآن تحت أسماء اللّه تعالى و صفاته و لم یدرک الخلق منها إلّا بقدر أفهامهم و إلیه الإشاره بقوله «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِیَهٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّیْلُ زَبَداً رابِیاً»«» فالماء هو العلم أنزله من سماء جوده أودیه القلوب کلّ على حسب استعداده و إمکانه و إن کان وراء ما أدرکوه أطوار اخرى لم یقفوا علیها، و کنوز لم یعثروا على أغوارها أمّا أفعاله تعالى و ما أشار إلیه من خلق السماوات و الأرض و غیرها فالّذی ینبغی أن یفهم التالی منها و هو صفات اللّه و جلاله لاستلزام الفعل الفاعل فیستدلّ بعظمه فعله على عظمته لیلاحظ بالأخره الفاعل دون الفعل فیقرأ فی المقام الأوّل «هذا خلق اللّه فأرونی ما ذا خلق الّذین من دونه»«» و یقرأ فی المقام الثانی «کلّ شی‏ء هالک إلّا وجهه» فمن عرف الحقّ رآه فی کلّ شی‏ء، و من بلغ إلى حدّ العرفان عن درجه الاعتبار لم یر معه غیره فإذا تلا قوله «أَ فَرَأَیْتُمْ ما تُمْنُونَ-  أَ فَرَأَیْتُمُ الْماءَ الَّذِی تَشْرَبُونَ أَ فَرَأَیْتُمُ النَّارَ الَّتِی تُورُونَ» فلا ینبعی أن یقصّر نظره على النطفه و الماء و النار بل ینظر فی المنی و هو نطفه، ثمّ فی کیفیّه انقسامها إلى اللحم و العظم و العصب و العروق و غیرها، ثمّ فی کیفیّه أشکال أعضائها المختلفه من المستدیر و الطویل و العریض و المستقیم و المنحنی و الرخوه و الصلب و الرقیق و الغلیظ، و ما أودع فی کلّ من القوّه وهبا له من المنفعه الّتی لو اختلّ شی‏ء منها لاختلّ أمر البدن و مصالح الإنسان، فلیتأمّل فی هذه العجائب و أمثالها یترقىّ فیها إلى عجیب قدره اللّه تعالى و المبدأ الّذی صدرت عنه هذه الآثار، فلا یزال مشاهدا لکمال الصانع فی کمال صنعه، و أمّا أحوال الأنبیاء علیهم السلام فلیفهم من سماع کیفیّه تکذیبهم و قتل بعضهم صفه استغناء اللّه تعالى عنهم، و لو هلکوا بأجمعهم لم یتضرّر بذلک و لم یؤثّر فی ملکه فإذا سمع نصرتهم فلیفهم أنّ ذلک بتأیید إلهیّ کما قال تعالى «حَتَّى إِذَا اسْتَیْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ کُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّیَ مَنْ نَشاءُ»«» و أمّا أحوال المکذّبین لهم کعاد و ثمود و کیفیّه إهلاکهم فلینبّه من سماعه لاستشعار الخوف من سطوه اللّه و نقمته و لیکن حظّه منه الاعتبار فی نفسه، و أنّه إن غفل و أساء الأدب فربّما أدرکته النقمه و نفذت فیه القضیّه حیث لا ینفع مال و لا بنون، و کذلک إذا سمع أحوال الجنّه و النار فلیحصل منهما على خوف و رجاء و لیتصوّر أنّه بقدر ما یبعد عن أحدهما یقرب من الآخر، و لیفهم منها و من سائر القرآن أنّ استقصاء ما هناک من الأسرار الإلهیّه غیر ممکن لعدم نهایته قال تعالى «قُلْ لَوْ کانَ الْبَحْرُ مِداداً لِکَلِماتِ رَبِّی لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ کَلِماتُ رَبِّی وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً»«» و قال علیّ علیه السّلام: لو شئت لأوفرت سبعین بعیرا من تفسیر فاتحه الکتاب، فمن لم یتفهمّ معانی القرآن فی تلاوته و سماعه و لو فی أدنى المراتب دخل فی قوله تعالى «أُولئِکَ الَّذِینَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى‏ أَبْصارَهُمْ أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها»«» و تلک الأقفال هی الموانع الّتی سنذکرها.

السادس التخلّی عن موانع الفهم فإنّ أکثر الناس منعوا من فهم القرآن لأسباب و حجب استدّلها الشیطان على قلوبهم فحجبت عن عجائب أسراره قال صلى اللّه علیه و آله: لو لا أنّ الشیاطین یحومون على قلوب بنی آدم لتنظروا إلى الملکوت، و معانی القرآن و أسراره من جمله الملکوت و الحجب المانعه.

أوّلها الاشتغال بتحقیق الحروف و إخراجها و الشدق بها عن ملاحظه المعنى، و قیل: إنّ‏ المتولّى لحفظ ذلک شیطان و کلّ بالقرّاء لیصرف عن معانی کلام اللّه فلا یزال یحملهم على تردید الحرف و یحیل إلیهم أنّه لم یخرج من مخرجه فیکون تأملّه مقصور على مخارج الحروف: فمتى تنکشف له المعانی، و أعظم ضحکه للشیطان من کان مطیعا لمثل هذا التلبیس، و ثانیها أن یقلّد مذهبا سمعه و تفسیرا ظاهرا نقل إلیه عن ابن عبّاس أو مجاهد أو غیرهما فیحمل على التعصّب له من غیر علم فیصیر نظره موقوفا على مسموعه حتّى لو لاح له بعض الأسرار حمل علیه شیطان التقلید جهله، و لم یسوّغ له مخالفه آبائه و معلمیّه فی ترک ما هو علیه من الاعتقاد، و إلى مثل هذا أشارت الصوفیّه بقولهم: العلم حجاب، و عنوا بالعلم العقائد الّتی استمرّ علیها أکثر الناس بالتعلیم و التقلید أو بمجرّد کلمات جدلیّه حرّرها المتعصبّون للمذاهب و ألقوها إلیهم لا العلم الحقیقیّ الّذی هو المشاهده بأنوار البصیره، ثمّ ذلک التقلید قد یکون باطلا کمن یحمل الاستواء على العرش على ظاهره فإن خطر له فی القدّوس أنّه المقدّس عن کلّ ما یجوز على خلقه لم یمکنه تقلیده من استقرار ذلک الخاطر فی نفسه حتّى ینساق إلى کشف ثان و ثالث، و لکن یتسارع إلى دفع ذلک عن خاطره و یجعله وسوسه، و قد یکون حقّا و یکون أیضا مانعا من الفهم لأنّ الحقّ الّذی کلّف الخلق طلبه له مراتب و درجات و ظاهر و باطن فجمود الطبع على ظاهره یمنع من الوصول إلى الباطن، فإن قلت: کیف یجوز أن یتجاوز الإنسان المسموع و قد قال صلى اللّه علیه و آله: من فسّر القرآن برأیه فلیتبوّأ مقعده من النار، و فی النهی عن ذلک آثار کثیره، قلت: الجواب عنه من وجوه: الأوّل أنّه معارض بقوله صلى اللّه علیه و آله: إنّ للقرآن ظهرا و بطنا و حدّا و مطلعا، و بقوله علیّ علیه السّلام: إلّا أن یؤتى اللّه عبدا فهما فی القرآن، و لو لم یکن سوى الترجمه المنقوله فما فائده ذلک الفهم، الثانی أنّه لو لم یکن غیر المنقول لاشترط أن یکون مسموعا من رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و ذلک ممّا لا یصادف إلّا فی بعض القرآن، و أمّا ما بقوله ابن عبّاس و ابن مسعود و غیرها من أنفسهم فینبغی أن لا یقبل و یقال هو تفسیر بالرأى.

الثالث أنّ الصحابه و المفسّرین اختلفوا فی تفسیر بعض الآیات فقالوا فیها أقاویل مختلفه لا یمکن الجمع بینها، و سماع ذلک عن رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله محال فکیف یکون الکلّ مسموعا. الرابع أنّه علیه السّلام دعا لابن عبّاس فقال: اللهمّ فقّهه فی الدین، و علّمه التأویل فإن کان التأویل‏ مسموعا کالتنزیل و محفوظا مثله فلا معنى لتخصیص ابن عبّاس بذلک. الخامس قوله تعالى «لَعَلِمَهُ الَّذِینَ یَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» فأثبت للعلماء استنباطا، و معلوم أنّه وراء المسموع فإذن الواجب أن یحمل النهى عن التفسیر بالرأى على أحد معنیین: أحدهما أن یکون للإنسان فی الشی‏ء رأی و له إلیه میل بطبعه فیتأوّل القرآن على وفق رأیه حتّى لو لم یکن له ذلک المیل لما خطر ذلک التأویل له، و سواء کان ذلک الرأى مقصدا صحیحا أو غیر صحیح، و ذلک کمن یدعو إلى مجاهده القلب القاسی فیستدّل على تصحیح غرضه من القرآن بقوله تعالى «اذْهَبْ إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏» و یشیر إلى أنّ قلبه هو المراد بفرعون کما یستعمله بعض الوعّاظ تحسینا للکلام و ترغیبا للمستمع و هو ممنوع. الثانی أن یتسرّع إلى تفسیر القرآن بظاهر العربیّه من غیر استظهار بالسماع و النقل فیما یتعلّق بغرائب القرآن و ما فیها من الألفاظ المبهمه و ما یتعلّق من الاختصار و الحذف و الإضمار و التقدیم و التأخیر و المجاز فمن لم یحکم ظاهر التفسیر و بادر إلى استنباط المعانی بمجرّد فهم العربیّه کثر غلطه و دخل فی زمره من یفسّر بالرأى مثاله قوله تعالى «وَ آتَیْنا ثَمُودَ النَّاقَهَ مُبْصِرَهًً فَظَلَمُوا بِها»«» فالناظر إلى ظاهر العربیّه ربّما یظنّ أنّ المراد أنّ الناقه کانت مبصره، و لم تکن عمیاء و المعنى آیه مبصره، ثمّ لا یدری أنّهم إذا ظلموا غیرهم و من ذلک المنقول المنقلب کقوله تعالى «وَ طُورِ سِینِینَ» و کذلک باقی أجزاء البلاغه فکلّ مکتف فی التفسیر بظاهر العربیّه من غیر استظهار بالنقل فهو مفسّر برأیه، فهذا هو النهی عنه دون التفهم لأسرار المعانی و ظاهر أنّ النقل لا یکفی فیه، و إنّما ینکشف للراسخین فی العلم من أسراره بقدر صفاء عقولهم، و شدّه استعدادهم له و للطلب و الفحص و التفهّم و ملاحظه الأسرار و العبر، و یکون لکلّ واحد منهم جدّ فی الترقیّ إلى درجه منه بعد الاشتراک فی الظاهر و مثاله ما فهم بعض العارفین من قوله صلى اللّه علیه و آله فی سجوده: أعوذ برضاک من سخطک، و أعوذ بمعافاتک من عقوبتک، و أعوذ بک منک لا احصى ثناء علیک أنت کما أثنیت على نفسک إنّه قیل له اسجد و اقترب فوجد القرب فی السجود فنظر إلى الصفات فاستعاذ ببعضها من بعض، فإنّ الرضا و السخط وصفان متضادّان ثمّ زاد قربه فاندرج القرب الأوّل فیه فرقی إلى اللذّات، فقال: أعوذبک منک ثمّ زاد قربه ممّا استحیا به على سائر القرب فالتجأ إلى الثناء، فأثنى بقوله: لا احصى ثناء علیک، ثمّ علم أنّ ذلک قصور، فقال: أنت کما اثنیت على نفسک، فهذه خواطر نسخ للعارفین لا یفهم من تفسیر الظاهر و لیس مناقضا له، و إنّما هو استکمال لما تحته من الأسرار. الثالث من الموانع أن یکون مبتلى من الدنیا بهوى متاع فإنّ ذلک سبب لظلمه القلب و کالصداء على المرآه فیمنع جلیّه الحقّ یتجلّى فیه و هو أعظم حجاب للقلب و به حجب الأکثرون: و کلّما کانت الشهوات أکثر تراکما على القلب کان البعد عن أسرار اللّه أکثر، و لذلک قال صلى اللّه علیه و آله: الدنیا و الآخره ضرّتان بقدر ما تقرب من إحداهما تبعد من الاخرى. السابع أن یخصّص نفسه بکلّ خطاب فی القرآن من أمر أو نهی أو وعد أو وعید، و یقدّر أنّه هو المقصود به کذلک إن سمع قصص الأوّلین و الأنبیاء علیهم السلام علم أنّ السمر غیر مقصود و إنّما المقصود الاعتبار فلا یعتقد أنّ کلّ خطاب خاصّ فی القرآن فالمراد به الخصوص فإنّ القرآن و سائر الخطابات الشرعیّه وارده بإیّاک أعنی و اسمعی یا جاره، و هی کلّها نور و هدى و رحمه للعالمین، و لذلک أمر الحقّ تعالى الکافّه بشکر نعمه الکتاب فقال «وَ اذْکُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَیْکُمْ وَ ما أَنْزَلَ عَلَیْکُمْ مِنَ الْکِتابِ وَ الْحِکْمَهِ یَعِظُکُمْ بِهِ»«» و إذا قدر أنّه المقصود لم یتخذ دراسه القرآن عملا بل قراءه کقرائه العبد کتاب مولاه الّذی کتبه إلیه لیتدبّره و یعمل بمقتضاه کما قال حکیم: هذا القرآن وسائل أتتنا من قبل ربّنا بعهوده نتدبّرها فی الصلوات، و نقف علیها فی الخلوات، و نعدّها فی الطاعات بالسنن المتبعات.

الثانی التأثّر و هو أنّ یتأثّر قلبه بآثار مختلفه بحسب اختلاف الآیات، فیکون له بحسب کلّ فهم حال و وجد یتصّف به عند ما یوجّه نفسه فی کلّ حاله إلى الجهه الّتی فهمها من خوف أو حزن أو رجاء أو عبره فیستعدّ بذلک و ینفعل و یحصل له التأثّر و الخشیه، و مهما قویت معرفته کانت الخشیه أغلب الأحوال على قلبه فإنّ التضییق غالب على العارفین فلا یرى ذکر المغفره و الرحمه إلّا مقرونا بشروط یقصر العارف عن نیلها کقوله تعالى «وَ إِنِّی لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى‏»«» فإنّه قرن المغفره بهذه الشروط الأربعه و کذلک قوله تعالى «وَ الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِی خُسْرٍ» السوره ذکرفیها أربعه شروط و حیث أوجزه و اقتصر ذکر شرطا واحدا جامعا للشرائط فقال تعالى «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِیبٌ مِنَ الْمُحْسِنِینَ» إذ کان الإحسان جامعا لکلّ الشرائط، و تأثّر العبد بالتلاوه أن یصیر بصفه الآیه المتلوّه فعند الوعید یتضاءل من خشیه اللّه و عند الوعد یستبشر فرحا باللّه و عند ذکر صفات اللّه و أسمائه یتطأطأ خضوعا لجلاله و عند ذکر الکفّار فی حقّ اللّه ما یمتنع علیه کالصاحبه و الولد یعضّ صورته (صوته) و ینکسر فی باطنه من قبح أفعالهم و یکبّر اللّه و یقدّسه عمّا یقول الظالمون، و عند ذکر الجنّه ینبعث بباطنه شوقا إلیها، و عند ذکر النار ترعد فرائصه خوفا منها، و لمّا قال رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله لابن مسعود: اقرأه علىّ قال: فافتتحت سوره النساء فلمّا بلغت «فکیف إذا جئنا من کلّ امّه بشهید و جئنا بک على هؤلاء شهیدا» رأیت عینیه تذرفان من الدمع، فقال لی: حسبک الآن، و ذلک لاستغراق تلک الحاله بقلبه بالکلّیّه، و بالجمله فالقرآن إنّما یراد بهذه الأحوال و استجلابها إلى القلب و العمل بها قال رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله: اقرءوا القرآن ما ائتلفت علیه قلوبکم و لانت علیه جلودکم، فإذا اختلفتم فلستم تقرءونه، و قال تعالى «الَّذِینَ إِذا ذُکِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِیَتْ عَلَیْهِمْ آیاتُهُ زادَتْهُمْ إِیماناً»«» و إلّا فالمئونه فی تحریک اللسان خفیفه قال بعضهم قرأت على شیخ لی، ثمّ رجعت أقرء علیه ثانیا فانتهرنی و قال: جعلت القرآن علیّ.

عملا اذهب فاقرء على اللّه تعالى، و انظر ما ذا یأمرک، و ما ذا یفهمک، و مات رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله عن عشرین ألفا من الصحابه لم یکن لیحفظ القرآن منهم غیر ستّه و اختلف منهم فی إثنین و کان أکثرهم یحفظ السوره و السورتین، و کان الّذی یحفظ البقره و الأنعام من علمائهم کلّ ذلک لاشتغالهم بتفهّم معانى القرآن عن حفظه کلّه، و جاء إلیه واحد لیعلّمه القرآن فانتهى إلى قوله تعالى «فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّهٍ خَیْراً یَرَهُ وَ مَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّهٍ شَرًّا یَرَهُ»«» فقال: یکفینی هذا و انصرف فقال رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله انصرف الرجل و هو فقیه فالعزیز مثل تلک الحاله الّتی یمنّ اللّه تعالى بها على القلب عقیب تفهّم الآیه، و امّا التالی باللسان المعرض عن العمل فجدیر بأن یکون المراد بقوله تعالى «وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِکْرِی فَإِنَّ لَهُ‏ مَعِیشَهً ضَنْکاً وَ نَحْشُرُهُ یَوْمَ الْقِیامَهِ أَعْمى‏» الآیه و إنّما حظّ اللسان تصحیح الحروف بالترتیل و حظّ العقل تفسیر المعانی، و حظّ القلب الاتّعاظ و التأثّر بالانزجار و الایتمار. التاسع الترقّی و هو أن یوجّه قلبه و عقله إلى القبله الحقیقیّه فیسمع الکلام من اللّه تعالى لا من نفسه. و درجات القراءه ثلاث: أدناها أن یقدّر العبد کأنّه یقرأ على اللّه واقفا بین یدیه و هو ناظر إلیه و مستمع منه فیکون حاله عند هذا التقدیر السؤال و التضرّع و الابتهال. الثانیه أن یشهد بقلبه کأنّه سبحانه یخاطبه بألطافه و یناجیه بإنعامه و إحسانه، و هو فی مقام الحیاء و التعظیم لمنن اللّه و الاصغآء إلیه و الفهم عنه. الثالثه أن یرى فی الکلام المتکلّم، و فی الکلمات الصفات و لا ینظر إلى قلبه و لا إلى قراءته و لا إلى التعلّق بالإنعام من حیث هو منعم علیه بل یقصر الهمّ على المتکلّم و یوقف فکره علیه و یستغرق فی مشاهدته. هذه درجه المقرّبین، عنها أخبر الصادق جعفر بن محمّد علیه السّلام فقال: لقد تجلّى اللّه تعالى لخلقه فی کلامه و لکنّهم لا یبصرون، و قال أیضا و قد سألوه عن حاله لحقته فی الصلاه حتّى خرّ مغشیّا علیه، فلمّا أفاق قیل له فی ذلک فقل: ما زلت اردّد هذه الآیه على قلبی حتّى سمعتها من المتکلّم بها فلم یثبت جسمی لمعاینه قدرته. ففی مثل هذه الدرجه تعظم الحلاوه، و بهذا الترقّی یکون العبد ممتثلا لقوله تعالى «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ» و بمشاهده المتکلّم دون ما عداه یکون ممتثلا لقوله تعالى «وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» فإنّ رؤیه غیر اللّه معه شرک خفیّ لا مخلص منه إلّا برؤیته وحده. العاشر التبریّ، و المراد به أن یبرء من حوله و قوّته و لا یلتفت إلى نفسه بعین الرضا و التزکیه، فإذا تلا آیات الوعد و مدح الصالحین حذف نفسه عن درجه الاعتبار و شهد فیها الموقنین و الصدیقین، و یتشوّق إلى أن یلحقه اللّه تعالى بهم، و إذا تلا آیات المقت و الذّم فی المقصّرین شهد نفسه هناک و قدّر أنّه المخاطب خوفا و إشفاقا.

قیل لیوسف بن أستاط إذا قرأت القرآن بماذا تدعو. قال: بما ذا أدعو أستغفر اللّه عن تقصیری سبعین مرّه، و من رأى نفسه بصوره التقصیر فی القراءه کان ذلک سبب قربه فإنّ من شهد البعد فی القرب لطف له بالخوف حتّى یسوقه إلى درجه أعلى فی القرب و من شهد القرب فی البعد ردّه أمنه إلى درجه أدنی فی البعد ممّا هو فیه، و مهما شاهد نفسه بعین الرضا صار محجوبا بنفسه فإذا جاوز حدّ الالتفات إلى نفسه و لم یشاهد إلّا اللّه فی قراءته انکشف له الملکوت، و المکاشفات تابعه لحال‏ المکاشف، فحیث یتلو آیات الرجاء یغلب علیه استبشار و ینکشف له صوره الجنّه فیشاهدها کأنّه یراها، و إن غلب علیه الخوف کوشف بالنار حتّى یرى أنواع عذابها، و ذلک لأنّ کلام اللّه تعالى وارد باللطف و السهوله و الشدّه و العسف و الرجاء و الخوف و ذلک بحسب أوصافه إذ منها الرحمه و اللطف و الإنعام و البطش، فبحسب مشاهده الکمالات و الصفات یتقلّب القلب فی اختلاف الحالات، و بحسب کلّ حاله منها یستعدّ لنوع من المکاشفه مناسب لتلک الحاله إذ یستحیل أن یکون حال المستمع واحد و المسموع مختلف، إذ فیه کلام رضى و کلام غضب و کلام إنعام و کلام انتقام و کلام جبروت و تکبّر و کلام جنّه و تعطّف، فهذه هی وظائف التلاوه.

و لنرجع إلى المتن فنقول:

قوله و خلّف فیکم ما خلّف الأنبیاء فی اممها إذ لم یترکوهم هملا بغیر طریق واضح و لا علم قائم

قوله: و خلّف فیکم ما خلّف الأنبیاء فی اممها إذ لم یترکوهم هملا بغیر طریق واضح و لا علم قائم. إشاره إلى وضع ما یجب فی الحکمه الإلهیّه على ألسنه الرسل علیهم السلام من العبادات الشرعیّه و القوانین الکلّیّه الّتی بها یبقى ذکر اللّه سبحانه محفوظا، و استعمال لفظ العلم القائم هاهنا استعاره حسنه للآثار الباقیه عن الأنبیاء الّتی یهتدی بها الأوصیاء و الأولیاء الّذین یرجع إلیهم الخلق.

 

قوله کتاب ربّکم

قوله: کتاب ربّکم. عطف بیان لما فی قوله ما خلّفت الأنبیاء، و لا ینبغی أن یفهم ممّا شخص الکتاب حتّى یکون ما أتى به محمّد صلى اللّه علیه و آله من الکتاب هو عین ما أتت به الأنبیاء السابقون علیهم السّلام و شخصه فإنّ ذلک محال، بل المراد بما نوع ما خلّفت الأنبیاء فی اممها من الحقّ، و ما جاء به محمّد صلى اللّه علیه و آله شخص من أشخاص ذلک النوع، و بیان ذلک أنّ القوانین الکلّیّه الّتی اشترکت فی الإتیان بها جمیع الأنبیاء علیهم السّلام من التوحید و التنزیه للّه تعالى و أحوال البعث و القیامه و سائرالقواعد الکلیّه الّتی بها یکون النظام الکلّی للعالم کتحریم الکذب و الظلم و القتل و الزنا و غیر ذلک ممّا لم یخالف فیه نبیّ نبیّا بمنزله مهیّه واحده کلّیه وجدت فی أشخاص، و کما تعرض لبعض أشخاص المهیّه عوارض لا تکون لشخص الآخر و بها یکون اختلاف بین الأشخاص بحسب الموادّ الّتی نشأت منها الصور الشخصیّه کذلک الکتب المنزله على ألسنه الأنبیاء علیهم السّلام بمنزله أشخاص اشتملت على مهیّه واحده تختلف بحسب الزیادات و العوارض على تلک المهیّه بحسب اختلاف الامم‏ و الأوقات المشتمله على المصالح المختلفه باختلافها.

 

قوله: مبیّنا

قوله: مبیّنا. منصوب على الحال و العامل خلّف و ذو الحال الفاعل و هو ضمیر النبیّ صلى اللّه علیه و آله.

 

قوله و حلاله و حرامه و فضائله و فرائضه

قوله و حلاله و حرامه و فضائله و فرائضه إشاره إلى الأحکام الخمسه الشرعیّه الّتی یدور علیها علم الفقه، و هی الوجوب و الندب و الحظر و الکراهه و الإباحه، و عبّر بالحلال عن المباح و المکروه، و بالحرام عن المحظور و بالفضائل عن المندوب، و بالفرائض عن الواجب، و بالنسخ عن رفع الحکم الثابت بالنصّ المتقدّم بحکم آخر مثله، فالناسخ هو الحکم الرافع کقوله «فَإِذَا انْسَلَخَ» و المنسوخ هو الحکم المرفوع کقوله «لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ» و بالرخص عمّا اذن فی فعله مع قیام السبب المحرّم لضروره أو غیرها کقوله «فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ باغٍ وَ لا عادٍ» الآیه و بالعزائم عمّا کان من الأحکام الشرعیّه جاریا على وفق سببه الشرعی کقوله «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» و بالعامّ هاهنا عن اللفظ المستغرق لجمیع ما یصلح به بحسب وضع واحد کقوله تعالى «وَ اللَّهُ بِکُلِّ شَیْ‏ءٍ عَلِیمٌ» و کقوله «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ» و بالخاصّ عما لم یتناول الجمیع بالنسبه إلى ما یتناوله کقوله «مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلًا» و الخاصّ المطلق هو ما یمنع تصوّر مفهومه من وقوع الشرکه فیه کما عرفته، و العبر جمع عبره و هی الاعتبار و اشتقاقها من العبور و هو انتقال الجسم من موضع إلى آخر، و لمّا کان الذهن ینتقل من الشی‏ء إلى غیره حسن إطلاق العبره علیه، و أکثر ما یختصّ إطلاق العبره بانتقال ذهن الإنسان من المصائب الواقعه بالغیر أو الامور المکروهه له إلى نفسه فیقدّرها کأنّها نازله به فیحصل له بسبب ذلک انزعاج عن الدنیا و انتقال ذهن إلى ما ورائها من أمر المعاد و الرجوع الى بارئه و یسمّى ذلک عبره، و کذلک من المصائب اللاحقه فى نفسه المذکّره له بجناب العزّه و الملفته له بتکرارها عن دار البلوى و المحن، فینتقل ذهنه بسببها إلى أنّ الدنیا دار البوار و أنّ الآخره هی دار القرار، و ذلک کقصّه أصحاب الفیل، و کقوله «فَقالَ أَنَا رَبُّکُمُ الْأَعْلى‏ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَکالَ الْآخِرَهِ وَ الْأُولى‏ إِنَّ فِی ذلِکَ لَعِبْرَهً لِمَنْ یَخْشى‏»«» و قوله تعالى «وَ فِی أَنْفُسِکُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ» و إن کان قد تستعمل العبره فی کلّ ما یفیداعتبارا من طرف الإحسان أیضا کقوله تعالى «وَ إِنَّ لَکُمْ فِی الْأَنْعامِ لَعِبْرَهً نُسْقِیکُمْ مِمَّا فِی بُطُونِها»«» الآیه و کقوله تعالى «قَدْ کانَ لَکُمْ آیَهٌ فِی فِئَتَیْنِ الْتَقَتا فِئَهٌ تُقاتِلُ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ أُخْرى‏ کافِرَهٌ یَرَوْنَهُمْ مِثْلَیْهِمْ رَأْیَ الْعَیْنِ وَ اللَّهُ یُؤَیِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ»«» فجعل سبحانه نصر المؤمنین على ملّتهم و خذلان المشرکین على کثرتهم و مشاهده المسلمین لکونهم مثلیهم محلّا للعبره إذ یحصل بذلک انتقال الذهن من نعمه إلى أنّه الإله المطلق المستحقّ للعباده المتفرّد بالقدره على ما یشاء أهل الرحمه و الجود و إفاضه تمام الوجود، و أمّا الأمثال فظاهره کقوله تعالى «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوکاً لا یَقْدِرُ عَلى‏ شَیْ‏ءٍ» الآیه و کقوله «مَثَلُهُمْ کَمَثَلِ الَّذِی اسْتَوْقَدَ ناراً» و نحوه، و أراد بالمرسل الألفاظ المطلقه و المهمله و هی الألفاظ الّتی لا تمنع نفس مفهوماتها وقوع الشرکه فیها لکنّها لم یبیّن فیها کمیّه الحکم و مقداره و لم تقیّد بقید یفید العموم و لا الخصوص و هو محتمله لهما کأسماء الجموع فی النکرات کقوله تعالى «وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ» و کالمفرد المعرّف باللام أو المنکّر کقوله «وَ الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِی خُسْرٍ» و کقوله «إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ» و قوله «فَکُّ رَقَبَهٍ» فإنّ کلّ هذه الألفاظ یراد بها الطبیعه دون الکلّ أو البعض إلّا بدلیل منفصل، و الفرق بینها و بین العامّ أنّ لکلّ شی‏ء مهیّه هو بها ما هو و هی مغایره لکلّ ما عداها فإنّ مفهوم الإنسان مثلا لیس إلّا أنّه الإنسان و أمّا أنّه واحد أو کثیر أو لیس أحدهما فمفهوم آخر مغایر لمهیّته. إذا عرفت ذلک فاللفظ الدالّ على الحقیقه من حیث هی من غیر دلاله على شی‏ء آخر معها هو اللفظ المطلق و المهمل، و الدالّ معها على قید العموم بحیث یفهم منه تعدّد المهیّه و تکثّرها فی جمیع مواردها فهو اللفظ العامّ، أو فی بعض مواردها و هو الخاصّ و إن کان العموم و الخصوص بالذات للمعانی، و أراد بالمحدود المقیّد کقوله تعالى فی الکفّاره فی موضع آخر «فَتَحْرِیرُ رَقَبَهٍ مُؤْمِنَهٍ» و أمّا المحکم و المتشابه و المجمل و المبیّن فقد سبق بیانها فی المقدّمه مثال المحکم قوله تعالى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مثال المتشابه قوله «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏» مثال المجمل قوله «إِلَّا ما یُتْلى‏ عَلَیْکُمْ» و قوله «وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما» مثال المبیّن قوله بعد ذلک‏ «أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِکُمْ» الآیه، و التفسیر هو التبیین و الغوامض دقائق المسائل، و إنّما أضاف هذه المعانی کلّها إلى الکتاب لاشتماله علیها، و کونه مبدءا لها، و لمّا کانت محتاجه إلى البیان کان الرسول صلى اللّه علیه و آله هو المبیّن لها بسنّته الکریمه.

 

و قوله بین مأخوذ میثاق علمه و موسّع على العباد فی جهله إلى آخره

و قوله بین مأخوذ میثاق علمه و موسّع على العباد فی جهله إلى آخره الضمائر تعود إلى الأحکام المذکوره المشتمل علیها الکتاب العزیز و ذکر منها أنواعا: أحدها-  ما یجب تعلّمه و غیر موسّع للخلق فی جهله کوحدانیّه الصانع و أمر المعاد و العبادات الخمس و شرائطها. و ثانیها-  ما لا یتعیّن على کافّه الخلق العلم به بل یعذر بعضهم فی الجهل و یوسّع لهم فی ترکه کالآیات المتشابهات، و کأوائل السور کقوله تعالى «کهیعص-  و حم عسق» و نحوهما. و ثالثها-  ما هو مثبت فی الکتاب فرضه معلوم فی السنّه نسخه و ذلک کقوله تعالى «وَ اللَّاتِی یَأْتِینَ الْفاحِشَهَ مِنْ نِسائِکُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَیْهِنَّ أَرْبَعَهً مِنْکُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِکُوهُنَّ فِی الْبُیُوتِ حَتَّى یَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ یَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِیلًا وَ الَّذانِ یَأْتِیانِها مِنْکُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما»«» فکانت الثّیّب إذا زنت فی بدو الإسلام تمسّک فی البیوت إلى الممات، و البکر تؤذی بالکلام و نحوه بمقتضی هاتین الآیتین، ثمّ نسخ ذلک فی حقّ الثیّب بالرجم و فی حقّ البکر بالجلد و التعذیب بحکم السنّه. و رابعها-  ما هو بعکس ذلک أی مثبت فی السنّه أخذه مأذون فی الکتاب ترکه و ذلک کالتوجّه إلى بیت المقدس فی ابتداء الإسلام فإنّه کان ثابتا فی السنّه ثمّ نسخ بقوله تعالى «فَلَنُوَلِّیَنَّکَ قِبْلَهً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَکَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ»«» و کثبوت صلاه الخوف فی القرآن حال القتال الرافع لجواز تأخیرها فی السنّه إلى انجلاء القتال. و خامسها-  ما یجب لوقته و یزول فی مستقبله کالحجّ الواجب فی العمر مرّه و کالنذور المقیّده بوقت معیّن و أمثالها فإنّ وجوبها تابع لوقتها المعیّن و لا یتکرّر بتکرّر أمثالها.

 

قوله و مباین بین محارمه عطف على المجرورات السابقه و الیاء مفتوحه و فی معنى الکلام و تقدیره لطف فإنّ المحارم لمّا کانت هی محالّ الحکم المسمّى بالحرمه صار المعنى و بین حکم مباین بین محالّه هو الحرمه، و قوله من کبیر أو عد علیه نیرانه أو صغیر أرصد له غفرانه بیان لتلک المحالّ و أشاره إلى تفاوتها بالشدّه و الضعف فی کونها مبّعده عن رحمه اللّه على سبیل الجمله، فالأوّل کالقتل فی قوله تعالى «وَ مَنْ یَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ» الآیه و کذلک سائر الکبائر من الظلم و الزنا و غیرها، و الثانی قال الفقهاء کالتطفیف بالحبّه و سرقه بافه من بصل و نحو ذلک و إرصاد الغفران بإزاء هذه و أمثالها فی الکتاب العزیز کقوله تعالى «وَ إِنَّ رَبَّکَ لَذُو مَغْفِرَهٍ لِلنَّاسِ عَلى‏ ظُلْمِهِمْ» و سائر آیات الوعد بالمغفره فإنّها إن کانت عامّه فی کلّ الذنوب فالصغائر داخله بطریق أولى و إلّا کانت محموله على الصغائر و سرّ أولویّتها بالغفران أنّها لا تکاد تکسب النفس ملکه الإفراط و الجور إلّا عن بعد بعید و تکرار طویل بخلاف الکبائر فإنّ الأحوال لا یقع إلّا عن نفس مستعدّه للشرّ بعیده عن رحمه اللّه، و باللّه العصمه و التوفیق.

 

شرح نهج البلاغه ابن میثم جلد اول

بازدیدها: ۶۴

خطبه۱ شرح ابن میثم بحرانی قسمت سوم

الفصل الثالث فی کیفیّه خلق آدم علیه السلام.

 

ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَ سَهْلِهَا-  وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا-  تُرْبَهً سَنَّهَا بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ-  وَ لَاطَهَا بِالْبَلَّهِ حَتَّى لَزَبَتْ-  فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَهً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ وَ أَعْضَاءٍ-  وَ فُصُولٍ أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَکَتْ-  وَ أَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أَمَدٍ مَعْلُومٍ-  ثُمَّ نَفَخَ فِیهَا مِنْ رُوحِهِ-  فَمَثُلَتْ إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ یُجِیلُهَا-  وَ فِکَرٍ یَتَصَرَّفُ بِهَا وَ جَوَارِحَ یَخْتَدِمُهَا-  وَ أَدَوَاتٍ یُقَلِّبُهَا وَ مَعْرِفَهٍ یَفْرُقُ بِهَا بَیْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ-  وَ الْأَذْوَاقِ وَ الْمَشَامِّ وَ الْأَلْوَانِ وَ الْأَجْنَاسِ-  مَعْجُوناً بِطِینَهِ الْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَهِ-  وَ الْأَشْبَاهِ الْمُؤْتَلِفَهِ وَ الْأَضْدَادِ الْمُتَعَادِیَهِ-  وَ الْأَخْلَاطِ الْمُتَبَایِنَهِ مِنَ الْحَرِّ وَ الْبَرْدِ-  وَ الْبَلَّهِ وَ الْجُمُودِ-  وَ اسْتَأْدَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَلَائِکَهَ وَدِیعَتَهُ لَدَیْهِمْ-  وَ عَهْدَ وَصِیَّتِهِ إِلَیْهِمْ فِی الْإِذْعَانِ بِالسُّجُودِ لَهُ-  وَ الْخُنُوعِ لِتَکْرِمَتِهِ-  فَقَالَ سُبْحَانَهُ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِیسَ-  اعْتَرَتْهُ الْحَمِیَّهُ-  وَ غَلَبَتْ عَلَیْهِ الشِّقْوَهُ-  وَ تَعَزَّزَ بِخِلْقَهِ النَّارِ وَ اسْتَوْهَنَ خَلْقَ الصَّلْصَالِ-  فَأَعْطَاهُ اللَّهُ النَّظِرَهَ اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَهِ-  وَ اسْتِتْمَاماً لِلْبَلِیَّهِ وَ إِنْجَازاً لِلْعِدَهِ-  فَقَالَ فَإِنَّکَ مِنَ الْمُنْظَرِینَ إِلى‏ یَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ثُمَّ أَسْکَنَ سُبْحَانَهُ آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ فِیهَا عَیْشَهُ وَ آمَنَ فِیهَا مَحَلَّتَهُ وَ حَذَّرَهُ إِبْلِیسَ وَ عَدَاوَتَهُ-  فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَهً عَلَیْهِ بِدَارِ الْمُقَامِ-  وَ مُرَافَقَهِ الْأَبْرَارِ-  فَبَاعَ‏ الْیَقِینَ بِشَکِّهِ وَ الْعَزِیمَهَ بِوَهْنِهِ-  وَ اسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلًا وَ بِالِاغْتِرَارِ نَدَماً-  ثُمَّ بَسَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِی تَوْبَتِهِ-  وَ لَقَّاهُ کَلِمَهَ رَحْمَتِهِ وَ وَعَدَهُ الْمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ-  وَ أَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ الْبَلِیَّهِ وَ تَنَاسُلِ الذُّرِّیَّهِ ب‏ئ

 

قوله ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض إلى قوله و تناسل الذریّه:

قوله منها فی خلق آدم علیه السّلام ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض إلى قوله و تناسل الذریّه:

اللغه

أقول: الحزن من الأرض ما غلظ منها و اشتدّ کالجبل، و السهل مالان، و عذبها ما طاب منها و استعدّ للنبات و الزرع، و السبح ما ملح منها، و المسنون الطین الرطب فی قول ابن عبّاس، و عن ابن السکّیت عن أبی عمر و أنّه المتغیّر، و قول ابن عبّاس أنسب إلى کلام علیّ علیه السّلام لأنّ قوله: سنّها بالماء حتّى لزبت أی أنّه خلّطها بالماء حتّى صارت طینا رطبا یلتصق، و صلصلت قال بعضهم: الصلصال هو المنتن من قولهم صلّ اللحم و اصلّ إذا أنتن و قیل هو الطین الیابس الّذی یصلصل و هو غیر مطبوخ و إذا طبخ فهو فخار، و قیل إذا توهّمت فی صوته مدّا فهو صلیل و إذا توهّمت فیه ترجیعا فهو صلصله، و لاطها بالبلّه أی خلّطها بالرطوبه و مزّجها بها، و البلّه بالکسر النداوه، و بالفتح واحده البلّ، و اللازب اللاصق، و أصل الباء المیم، و جبل أی خلق، و الأحناء جمع حنو و هی الجوانب، و الوصول جمع کثره للوصل و هی المفاصل و جمع القلّه أوصال، و الأعضاء جمع عضو بالکسر و الضمّ کالید و الرجل للحیوان، و أصلدها أی جعلها صلدا و هی الصلبه الملساء، و الذهن فی اللغه الفطنه و الحفظ، و فی الاصطلاح العلمیّ عباره عن القوى المدرکه من العقل و الحسّ الباطن، و الفکر جمع فکره و هى قوّه للنفس بها تحصل الإدراکات العقلیّه، و یشبه أن یکون أصل الإنسان انس و هو الأنیس، و الألف و النون فی أصل لحوقها له للتثنیه، و ذلک لأنّ الانس أمر نسبیّ لا یتحقّق إلّا بین شیئین فصاعدا، و لمّا کان کلّ واحد من الناس یأنس بصاحبه قیل إنسان ثمّ کثر استعماله مثنّى فاجریت على النون وجوه الإعراب، و المساءه الغم، و الجوارح الأعضاء، و الاختدام و الاستخدام بمعنى، و الأدواه جمع أدات، و أصلها الواو و لذلک ردّت فی الجمع، و الاستیداء طلب الأداء، و الخنوع الخضوع، و اشتقاق إبلیس من الإبلاس و هو الیأس و البعد لبعده من رحمه اللّه، و الحمیّه الأنفه، و اعترتهم أی غشیتهم، و الوهن الضعف، و النظره بفتح النون و کسر الظاء الإمهال و السخط الغضب، و اغترّه أی استغفله و نفست علیه بالأمر نفاسه إذا لم تره مستحقّا له، و العزیمه الاهتمام بالشی‏ء، و الجدل السرور، و الإهباط الإنزال.

إذا عرفت ذلک فنقول:

للناس فی هذه القصّه طریقان:

الطریق الأوّل-  أنّ جمهور المسلمین من المفسّرین و المتکلّمین حملوا هذه القصّه على ظاهرها

ثمّ ذکروا فیها أبحاثا.

البحث الأوّل-  أنّ هذه قد کرّرها سبحانه فی کتابه الکریم فی سبع سور

و هی سوره البقره، و الأعراف و الحجر، و سوره بنی إسرائیل، و الکهف، و طه، و سوره ص، و ذلک لمن یشتمل علیه من تذکیر الخلق و تنبیه هم من مراقد الطبیعه الّتی جذبهم إلیها إبلیس، و التحذیر من فتنه و فتنه جنوده و الجذب إلى جناب اللّه و مطالعه أنوار کبریائه کما قال تعالى «یا بَنِی آدَمَ لا یَفْتِنَنَّکُمُ الشَّیْطانُ کَما أَخْرَجَ أَبَوَیْکُمْ مِنَ الْجَنَّهِ»«» الآیه فقوله علیه السلام و تربه کقوله تعالى «خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» و قوله: سنّها بالماء کقوله تعالى «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا» و قوله: لاطها بالبلّه حتى لزبت کقوله تعالى «مِنْ طِینٍ لازِبٍ» و قوله: حتّى صلصلت کقوله تعالى «مِنْ صَلْصالٍ» و قوله: ثمّ نفخ فیه من روحه کقوله «فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی» و قوله: وَ نَفَخَ فِیهِ مِنْ رُوحِهِ و قوله: ذا أذهان بجیلها و فتر یتصرّف فیها و جوارح یختدمها کقوله تعالى «وَ جَعَلَ لَکُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَهَ» و قوله: و استأدى اللّه سبحانه الملائکه ودیعته لدیهم و عهد وصیّته إلیهم کقوله تعالى «فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ» و قوله: اسْجُدُوا و قوله: إلّا إبلیس کقوله تعالى «فَسَجَدَ الْمَلائِکَهُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِیسَ» و قوله اعترته الحمیّه إلى قوله و تعزّز بخلقه النار و استهون خلق الصلصال کقوله تعالى حکایه عن إبلیس «أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ» و قوله: لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ و قوله فأعطاه اللّه‏

 

النظره حذف قبله تقدیره فسأل النظره و ذلک قوله أَنْظِرْنِی فأعطاه اللّه النظر إلى یوم الوقت المعلوم کقوله تعالى‏

 

 «قالَ فَإِنَّکَ مِنَ الْمُنْظَرِینَ إِلى‏ یَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ» و قوله: ثمّ أسکن سبحانه آدم دارا أرغد فیها عیشه کقوله تعالى «وَ قُلْنا یا آدَمُ اسْکُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُکَ الْجَنَّهَ وَ کُلا مِنْها رَغَداً حَیْثُ شِئْتُما»«» و قوله: و حذّره إبلیس و عداوته کقوله «فَقُلْنا یا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَکَ وَ لِزَوْجِکَ فَلا یُخْرِجَنَّکُما مِنَ الْجَنَّهِ فَتَشْقى‏» و قوله: فاغترّه إبلیس نفاسه علیه بدار المقام و مرافقه الأبرار کقوله «فَوَسْوَسَ إِلَیْهِ الشَّیْطانُ» الآیه و قوله «فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ» و قوله فباع الیقین بشکّه و العزیمه بوهنه کقوله تعالى «فَنَسِیَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» و قوله: و استبدل بالجذل و جلا و بالاغترار ندما کقوله تعالى «قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَکُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِینَ»«» و قوله: ثمّ بسط اللّه فی توبته و لقّاه کلمه رحمته کقوله تعالى «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ» و قوله و وعده المردّه إلى جنّته ذلک الوعد فی قوله تعالى «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِیعاً فَإِمَّا یَأْتِیَنَّکُمْ مِنِّی… فَلا یَضِلُّ وَ لا یَشْقى‏»«» و قوله: فأهبطه إلى دار البلیّه کقوله تعالى «اهْبِطا مِنْها جَمِیعاً».

 

البحث الثانی-  أنّ اللّه تعالى أشار فی مواضع من کتابه الکریم إلى خلق آدم من تراب

فقال «إِنَّ مَثَلَ عِیسى‏ عِنْدَ اللَّهِ کَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ»«» و قال فی موضع آخر «إِنِّی خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ»«» و قال فی موضع آخر «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ»«» قال المتکلّمون: و إنّما خلقه اللّه على هذا الوجه إمّا لمحض المشیئه أو لما فیه من دلاله الملائکه على کمال قدرته و عجیب صنعه لأنّ خلق الإنسان فی هذه المراتب أعجب عندهم من خلقه من جنسهم. إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ کلامه علیه السّلام هاهنا یجری مجری التفسیر لهذه الآیات فإنّه أشار أوّلا إلى کونه من تراب بقوله ثمّ جمع سبحانه من سهل الأرض و حزنها و عذبها و سبخها تربه، و نحو ذلک ما روى عن رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله أنّه قال:

إنّ اللّه خلق آدم من قبضه قبضها من جمیع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمرو الأبیض و الأسود و بین ذلک، و السهل و الحزن و الخبیث و الطیّب، و اعلم أنّ جمهور المفسّرین على أن الإنسان فی قوله تعالى «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَهٍ مِنْ طِینٍ» هو أبونا آدم علیه السّلام و نقل عن محمّد بن علیّ الباقر علیه السّلام أنّه قال: قد انقضى قبل آدم الّذی هو أبونا ألف ألف آدم و أکثر قال بعض العلماء: و هذا لا ینافی حدوث العالم فإنّه کیف کان لا بدّ من الانتهاء إلى إنسان هو أوّل الناس فأمّا أنّ ذلک الإنسان هو أبونا آدم فلا طریق إلى إثباته إلّا من جهه السمع.

 

البحث الثالث أجمع المسلمون على أنّ سجود الملائکه لآدم لم یکن سجوده عباده

لأنّ العباده لغیر اللّه کفر، ثمّ اختلفوا على ثلاثه أقوال. الأوّل أنّ ذلک السجود کان للّه و کان آدم کالقبله و کما یحسن أن یقال سجدوا لآدم کذلک یحسن أن یقال سجدوا للقبله بدلیل قول حسّان بن ثابت:

         ما کنت أحسب أنّ الأمر منصرف            عن هاشم ثمّ منها عن أبی حسن‏

         أ لیس أوّل من صلّى لقبلتکم‏            و أعرف الناس بالآیات و السنن‏

 

فقوله صلّى لقبلتکم نصّ على المقصود. الثانی أنّ السجود کان لآدم تعظیما له و تحیّه کالسلام منهم علیه، و قد کان الامم السالفه تفعل ذلک کما یحیّى المسلمون بعضهم بعضا، و عن صهیب أنّ معاذا-  رضى اللّه عنه-  لمّا تقدّم من الیمن سجد للنبیّ صلى اللّه علیه و آله فقال له: یا معاذ ما هذا فقال: رأیت الیهود تسجد لعظمائها و علماءها و رأیت النصارى تسجد لقسّیسها و بطارقتها فقلت ما هذا فقالوا: تحیّه الأنبیاء فقال صلى اللّه علیه و آله کذبوا على أنبیائهم. الثالث أنّ السجود فی أصل اللغه عباره عن الانقیاد و الخضوع کمال قال الشاعر:

         ترى الاکم فیها سجّدا للحوافر

 

أی أنّ تلک الجبال الصغار کانت مذلّله لحوافر الخیل، و منه قوله تعالى «وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ یَسْجُدانِ» و القول الثانی هو مقتضى کلامه علیه السّلام إذ فسّر السجود به فقال و الخضوع لتکرمته، و باللّه التوفیق.

 

البحث الرابع-  اختلفوا فی الملائکه الّذین امروا بالسجود لآدم

فاستعظم بعضهم سجود ملائکه السماء له، و قالوا المأمورون بذلک هم الملائکه الّذین اهبطوا مع إبلیس إلى الأرض قالوا و ذلک أنّ اللّه تعالى لمّا خلق السماوات و الأرض و خلق الملائکه اهبط منهم‏  ملاء إلى الأرض یسمّون بالجنّ رأسهم إبلیس، و أسکنهم إیّاها و کانوا أخّف الملائکه عباده فأعجب إبلیس بنفسه و تداخله الکبر فأطلع اللّه عزّ و جلّ على ما انطوى علیه فقال له و لجنده «إنّى خالق بشرا من طین فإذا سوّیته و نفخت فیه من روحی فقعوا له ساجدین»«» و قال بعضهم: إنّ المأمورین بالسجود لآدم هم کلّ الملائکه بدلیل قوله تعالى «فَسَجَدَ الْمَلائِکَهُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ» فأکّد جمعهم بأکمل وجوه التأکید.

 

البحث الخامس-  أکثر المتکلّمین لا سیّما المعتزله على أنّ إبلیس لم یکن من الملائکه

و قال جمهور المفسّرین و منهم ابن عبّاس: إنّه کان من ملائکه الأرض الّذین اهبطوا قبل آدم. حجّه الأوّلین قوله تعالى «إِلَّا إِبْلِیسَ کانَ مِنَ الْجِنِّ» و الجنّ لم یکونوا من الملائکه بدلیل قوله تعالى للملائکه «أَ هؤُلاءِ إِیَّاکُمْ کانُوا یَعْبُدُونَ» و قول الملائکه «سُبْحانَکَ أَنْتَ وَلِیُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ کانُوا یَعْبُدُونَ الْجِنَّ»«» و احتجّ من قال إنّه منهم باستثناء إبلیس من الملائکه فی غیر موضع من القرآن الکریم، و الاستثناء یخرج من الکلام ما لولاه لدخل، و ذلک یدلّ على أنّ إبلیس من الملائکه، و أجابوا عن حجّه الأوّلین من وجهین: أحدهما المعارضه بقوله تعالى «وَ جَعَلُوا بَیْنَهُ وَ بَیْنَ الْجِنَّهِ نَسَباً» و ذلک الجعل هو قول قریش: الملائکه بنات اللّه بدلیل قوله تعالى «وَ جَعَلُوا الْمَلائِکَهَ الَّذِینَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» فهذه الآیه تدلّ على أنّ الملائکه من الجنّ. الثانی أنّ کون إبلیس من الجنّ لا ینافی کونه من الملائکه یصدق علیهم اسم الجنّ لأنّ الجنّ مأخوذ من الاجتنان و هو الاستتار، و منه سمّى الجنین لاستتاره فی بطن امّه و منه المجنون لاستتار العقل و الملائکه مستترون عن الأعین فوجب جواز إطلاق لفظ الجنّ علیهم، و اعلم أنّ الخلاف لفظیّ فإنّه إذا ثبت أنّ الملائکه الّذین اهبطوا إلى الأرض قبل آدم هم المسمّون بالجنّ و إبلیس من الجنّ ثبت أنّ إبلیس من الملائکه و لیس النزاع فی أنّه من ملائکه الأرض أو من ملائکه السماء بل فی کونه من الملائکه مطلقا فإذن لیس بینهم خلاف المعنى.

 

البحث السادس-  اختلفوا فی سبب عداوه إبلیس لآدم

فقال بعضهم: إنّه الحسد و ذلک أنّ إبلیس لمّا رأى ما أکرم اللّه به آدم من إسجاد الملائکه و تعلیمه ما لم یطّلع علیه الملائکه حسده و عاداه، و قال آخرون: إنّ السبب تباین أصلیهما و لمنافره الأصلین أثر قویّ فی منافره الفرعین قالوا و تباین أصلیهما هو منشأ القیاس الفاسد من إبلیس حین امر بالسجود و ذلک قوله «أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ»«» و کأنّه فی خطابه یقول إنّ آدم جسمانیّ کثیف و أنا روحانیّ لطیف، و الجسمانیّ أدون حالا من الروحانیّ و الأدون کیف یلیق أن یکون مسجودا للأعلى، و أیضا فإنّ أصل آدم من صلصال من حماء مسنون، و الصلصال فی غایه الدناءه و أصلی من أشرف العناصر، و إذا کان أصلی خیرا من أصله وجب أن أکون خیرا منه و أشرف، و الأشرف یقبح أن یؤمر بالسجود للأدون. قالوا: فکان ذلک قیاسا منه، فأوّل من قاس هو إبلیس فأجابه اللّه تعالى جوابا على سبیل التنبیه دون التصریح اخرج منها مذؤما مدحورا، قال بعض الفضلاء: و تقریره أنّ الّذی قال تعالى نصّ بحکم الحکمه الإلهیّه و القدره الربّانیّه، و الّذی قاله إبلیس قیاس و من عارض النصّ بالقیاس کان مرجوما ملعونا.

 

البحث السابع-  احتجّت الأشعریّه على أنّه تعالى قدیر أن یلق الکفر فی الکافرین من هذه القصّه

بوجهین أحدهما أنّه تعالى أنظر إبلیس مع أنّه یعلم أنّه إنّما قصده إغواء بنی آدم و لو أهلکه لاستراحوا و عدم الشرّ الحاصل منه و من ذرّیّته، الثانی قال أَغْوَیْتَنِی فنسب الإغواء إلى اللّه تعالى مع أنّه لم ینکر علیه هذا الکلام و هذا صریح فی أنّه تعالى یفعل الإغواء أجابت المعتزله عن الأوّل بأنّ اللّه تعالى خلق آدم و ذرّیته قادرین على رفع إبلیس عن أنفسهم فهم الّذین اختاروا الکفر و الفساد. أقصى ما فی الباب أن یقال إنّ الاحتراز عن القبیح حال عدم إبلیس أسهل منه حال وجوده إلّا أنّ على هذا التقدیر تصیر وسوسته سببا لزیاده المشقّه فی أداء الطاعات فیزداد المکلّف بتکلّفها ثوابا کما قال علیه السّلام: أفضل الأعمال أحمزها أى أشقّها و ذلک لا یمنع الحکیم من فعله کما أنّ إنزال المشاقّ و الآلام و إنزال المتشابهات صار سببا لزیاده الشبهات و مع ذلک لم یمتنع فعلها من اللّه تعالى و هذا الوجه قریب من قوله علیه السّلام استماما للبلیّه، و عن الثانی أنّ المراد من قوله فَبِما أَغْوَیْتَنِی أی بما خیبّتنی من رحمتک، و قیل معنى إضافه غوایته إلى اللّه تعالى أنّ اللّه تعالى‏

لما أمره بالسجود لآدم عصى و غوى فکان الباری هو الأصل فی حصول الإغواء له فلذلک نسبه إلیه، و احتجّ أیضا من جواز الخطاء على الأنبیاء علیهم السّلام من هذه القصّه بقوله تعالى «وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏» و أجاب من أوجب عصمتهم من حین الولاده بأنّه لمّا دلّ الدلیل على وجوب عصمتهم وجب صرف هذا اللفظ و نحوه على ترک الأولى و هو فی حقّهم سیّئه و معصیه و إن کان فی حقّ غیرهم حسنه کما قال حسنات الأبرار سیّئات المقرّبین و من أوجب عصمتهم من حین الرساله فله أن یحمل هذه المعصیه على ما قبل الرساله و المسأله مستقصاه فی الکلام.

 

البحث الثامن

–  قال القفّال أصل التلقّى فی قوله «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ» و قوله علیه السّلام و لقّاه کلمه رحمته هو التعرّض للقادم وضع فی موضع الاستقبال للمسی‏ء و الجانی ثمّ وضع موضع القبول و الأخذ قال تعالى «وَ إِنَّکَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَکِیمٍ عَلِیمٍ» أی تلقّنه و یقال تلقّینا الحاجّ أى استقبلناهم و تلقیّت هذه الکلمه من فلان أى أخذتها منه، و إذا کان هذا أصل الکلمه و کان من تلقّى رجلا فتلاقیا لقى کلّ واحد منهما صاحبه و اضیف بالاجتماع إلیهما معا فصلح أن یشترکا فی الوصف بذلک فکلّ ما تلقیته فعد تلقاک فجاز أن یقال تلقّى آدم ربّه کلمات أى أخذها و وعاها و استقبلها بالقبول، و لقّاه اللّه إیّاها أی أرسلها إلیه و واجهه بها، ثمّ ذکر المفسّرون فی ذلک الکلمات أقوالا: الأوّل روى سعید بن جبیر عن ابن عبّاس-  رضى اللّه-  عنه أنّ آدم علیه السّلام قال یا ربّ أ لم تخلقنى بیدک بلا واسطه قال: بلى قال: أ لم تسکنّى جنّتک قال: بلى قال: أ لم تسبق رحمتک غضبک قال: بلى قال: إن تبت و اصلحت أ تردّنی إلى الجنّه قال: نعم، و هو قوله تعالى «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ»، الثانی قال النخعیّ: أتیت ابن عبّاس فقلت: ما الکلمات الّتی تلقّاها آدم من ربّه قال: علّم اللّه تعالى آدم و حوّا أمر الحجّ و الکلمات الّتی یقال فیه فحجّا فلمّا أفرغا أوحى اللّه تعالى إلیهما إنّی قد قبلت توبتکما، الثالث قال مجاهد و قتاده و فی إحدى الروایتین عنهما: هی قوله، «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَکُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِینَ» الرابع قال سعید بن جبیر: إنّها قوله لا إله إلّا أنت سبحانک و بحمدک عملت سوءا و ظلمت نفسی فاغفر لی إنّک خیر الغافرین لا إله إلّا أنت سبحانک و بحمدک عملت سواء و ظلمت نفسی‏ فارحمنى إنّک أرحم الراحمین لا إله إلّا أنت سبحانک و بحمدک عملت سوءا و ظلمت نفسی فتب علىّ إنّک أنت التوّاب الرحیم. الخامس قوله عایشه: لمّا أراد اللّه تعالى أن یتوب على آدم طاف بالبیت سبعا و البیت حینئذ ربوه حمراء فلمّا صلّى رکعتین استقبل القبله (البیت) و قال: اللهمّ إنّک تعلم سرّی و علانیتی فاقبل معذرتی، و تعلم حاجتی فاعطنی سؤلی، و تعلم ما فی نفسی فاغفر لی ذنوبی اللهمّ إنّی أسئلک إیمانا تباشر به قلبی، و یقینا صادقا حتّى أعلم أنّه لن یصیبنی إلّا ما کتبت لی و رضّنی بما قسمت لی، فأوحى اللّه تعالى إلیه یا آدم قد غفرت لک ذنبک و لن یأتینی أحد من ذرّیتک فیدعونی بمثل ما دعوتنی به إلّا قد غفرت ذنوبه و کشفت همومه و نزعت الفقر من بین عینیه و جاءته الدنیا و هو لا یریدها.

 

البحث التاسع-  فی حقیقه التوبه

قال الإمام الغزّالی: التوبه عباره عن معنى مرکّب من ثلاثه امور مترتّبه علم ثمّ حال ثمّ ترک، أمّا العلم فأن یعلم العبد ضرر الذنوب و کونه حجابا بینه و بین اللّه تعالى و قیدا یمنعه من دخول الجنّه فإذا علم ذلک بیقین غالب على قلبه فإنّ ذلک یوجب له تألّما نفسانیّا بسبب فوات الخیر العظیم المطلوب لکلّ عاقل فیسمّى تأمّله بسبب فعله المفوّت لمحبوبه و مطلوبه ندما فإذا غلب هذا الألم على القلب أوجب له القصد إلى أمرین: أحدهما ترک الذنوب الّتی کان ملابسا لها أوّلا، و الثانی العزم على ترک الذنب المفوّت لمطلوبه فی المستقبل إلى آخر العمر فهذه حقیقتها، و ینشأ من ذلک تلافی ما فات بالجبر و القضاء و إن کان قابلا للجبر، و العلم هو الأصل فی إظهار هذه الخیرات فإنّ القلب إذا أیقن بأنّ الذنوب کالسموم المهلکه و الحجب الحائله بینه و بین محبوبه فلا بدّ أن یتمّ نور ذلک الیقین فتشتعل فیه نیران الندم فیتألّم به القلب و حینئذ ینبعث من تلک النار طلب الانتهاض للتدارک فالعلم و الندم و القصد المتعلّق بالترک فی الحال و الاستقبال و التلافی للماضی ثلاثه معان مترتّبه یطلق اسم التوبه على مجموعها، و ربّما اطلق اسم التوبه على الندم وحده و جعل العلم کالباعث و الترک کالثمره المتأخّره، و لهذا الاعتبار قال صلى اللّه علیه و آله: الندم توبه إذ الندم مستلزم لعلم أوجبه و لعزم یتبعه، و  أمّا وجوبها فمن وجهین:

أحدهما أنّ التوبه مرضاه للرحمن مسخطه للشیطان مفتّحه لأبواب الجنان معدّه لإشراق شموس المعارف الإلهیّه على ألواح النفوس مستلزمه للمواهب الربانیّه من‏ الملک القدّوس.

 الثانی الأوامر الوارده بها فی القرآن الکریم «یا أیّها الّذین آمنوا توبوا إلى اللّه توبه نصوحا» و الوعد الصادق على فعلها «عسى ربّکم أن یکفّر عنکم سیّئاتکم و یدخلکم جنّات تجری من تحتها الأنهار» و الوعید الحتم على ترکها «و من لم یتب فأولئک هم الظالمون» و نحوه ممّا یدلّ على وجوبها فأمّا قبولها فمن وجهین: أحدهما قوله تعالى «وَ هُوَ الَّذِی یَقْبَلُ التَّوْبَهَ عَنْ عِبادِهِ وَ یَعْفُوا عَنِ السَّیِّئاتِ» و قوله تعالى «غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ» الثانی قال رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله: أفرح بتوبه من العبد المذنب، و الفرح وراء القبول فهو دلیل على القبول، و قال صلى اللّه علیه و آله: لو علّتم الخطایا إلى السماء ثمّ ندمتم علیها لتاب اللّه علیکم.

 

البحث العاشر-  فیما عساه یبقى من المقاصد المشکله فی هذه القصّه.

الأوّل الودیعه و الوصیّه الّتی استأداها اللّه سبحانه من الملائکه فی قوله علیه السّلام و استأدى اللّه سبحانه من الملائکه ودیعته لدیهم إشاره إلى قوله «فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ» فکان تعالى قد عهد إلیهم بهذا القول و أوصاهم بمقتضاه ثمّ استأداه منهم بما ذکره علیه السّلام فی قوله تعالى «اسْجُدُوا لِآدَمَ» الثانی قوله فاغتره إبلیس فالاغترار طلب العزّه من آدم و التماسها منه بالوسوسه الّتی ألقاها إلیه کما سنبّین معنى الوسوسه إنشاء اللّه. الثالث قوله دار المقام هی جنّه الخلد، و مرافقه الأبرار إشاره إلى مصاحبه الملائکه فی مقعد صدق عند ملیک مقتدر. الرابع قوله فباع الیقین بشکّه للشارحین فیه أقوال: أحدها أنّ معیشه آدم کانت فی الجنّه على حال یعلمها یقینا ما کان یعلم کیف معاشه فی الدنیا إذا انتقل إلیها و لاحاله بعد مفارقه الجنّه ثمّ إنّ ابلیس شکّکه فی صدق مقاله إنّی لکما لمن الناصحین فنسى ما کان عنده یقینا مما هو فیه من الخیر الدائم و شکّ فی نصح إبلیس فکأنّه باع الیقین بالشکّ بمتابعته، و هی استعاره حسنه على سبیل الکنایه عن استبعاض آدم الشکّ عن الیقین. الثانی قالوا: لمّا أخبره اللّه تعالى عن عداوه إبلیس تیقّن ذلک فلمّا وسوس له إبلیس شکّ فی نصحه فکأنّه باع یقین عداوته بالشکّ فی ذلک. الثالث قول من نزّه آدم علیه السّلام: إنّ ذلک مثل قدیم للعرب لمن عمل عملا لا یفیده و ترک ما ینبغی له أن یفعله تمثّل به أمیر المؤمنین علیه السّلام هاهنا و لم یرد أنّ آدم علیه السّلام شکّ فی أمر اللّه تعالى. الرابع قوله و العزیمه بوهنه‏                        

قال ابن عبّاس فی قوله تعالى «وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً»: أی لم نجده حفظا لما أمر اللّه به، و قال قتاده صبرا، و قال الضحاک ضریمه أمر، و حاصل هذه الأقوال یعود إلى أنّه لم یکن له قوّه على حفظ ما أمر اللّه فکأنّه باع العزم الّذی کان ینبغی له و القوّه الّتی کان ینبغی أن یتحفّظ بها عن متابعه إبلیس بالضعف و الوهن عن تحمّل ما أمر اللّه به، الخامس قوله دار البلیّه هی دار الدنیا إذ کانت دار المحنه و الابتلاء بمقاساه إبلیس و مجاهدته، و سجن الصالحین کما قال علیه السّلام: الدنیا سجن المؤمن و جنّه الکافر، و اعلم أنّ فی ذکر هذه القصّه تحذیرا عظیما عن المعاصی و ذلک من وجوه، أحدها أنّ من تصوّر ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلّه کان على و جل شدید من المعاصی قال الشاعر

         یا ناظرا نورا بعینی راغد            و مشاهدا للأمر غیر مشاهد

         تصل الذنوب إلى الذنوب و ترتجى‏

            درک الجنان و نیل نور العابد

         أنسیت أنّ اللّه أخرج آدما            منها إلى الدنیا بذنب واحد

 

و عن فتح الموصلی أنّه قال: کنّا قوما من أهل الجنّه فسبانا إبلیس إلى الدنیا فلیس لنا إلّا الهمّ و الحزن حتّى نردّ إلى الدار الّتی أخرجنا منها، و ثانیها التحذیر عن الاستکبار و الحسد و الحرص عن قتاده فی قوله تعالى «أَبى‏ وَ اسْتَکْبَرَ» قال: حسد عدوّ اللّه إبلیس آدم على ما أعطاه اللّه تعالى من الکرامه فقال أنا ناریّ و هذا طینیّ ثمّ ألقى الحرص و الحسد فی قلب ابن آدم حتى حمله على ارتکاب المنهی عنه، و ثالثها أنّه تعالى بیّن العداوه الشدیده بین ذریّه آدم و إبلیس هذا تنبیه عظیم على وجوب الحذر و باللّه التوفیق،

 

الطریق الثانی و اعلم أنّ من الناس من سلّط التأویل على هذه القصّهو قبل بیان تأویلها ذکروا مقدّمات،

 

المقدّمه الاولى فی الإشاره إلى أجزاء الترکیب الخارجیّ للإنسان و کیفیّه ترکیبها

قالوا: إنّ العناصر الأربعه أجسام بسیطه و هی أجزاء أوّلیّه لبدن الإنسان فمنها إثنان خفیفان، و هما النار و الهواء و إثنان ثقیلان و هما الأرض و الماء قالوا: و الموضع الطبیعیّ للأرض هو وسط الکلّ و هی بارده یابسه فی طبعها و وجودها فی الکائنات مفید للاستمساک و الثبات و حفظ الشکل و الهیئه و الموضع الطبیعیّ للماء هو أن یکون شاملا للأرض و ثقله إضافیّ و طبعه بارد رطب و وجوده فی الکائنات لتسهّل الهیئات الّتی یراد تکوینها من التشکیل و التخطیط و التعدیل فإنّ الرطب کما

أنّه سهل الترک للهیئات الشکلیّه فإنّه سهل القبول لها کما أنّ الیابس عسر القبول للهیئات الشکلیّه عسر الترک لها، و مهما تخمّر الیابس بالرطب استفاد الیابس منه قبول التمدید و التشکیل بسهوله و استفاد الرطب من الیابس حفظا لما حدث فیه من التعدیل بقوّه فاجتمع الیابس بالرطب عن تشتّته، و استمسک الرطب بالیابس عن سیلانه و الموضع الطبیعیّ للهواء فوق الماء و تحت النار و خفّته إضافیّه و طبعه حارّ رطب و وجوده فی الکائنات لیتخلخل و یلطف و یسفل، و الموضع الطبیعیّ للنار فوق الأجرام العنصریّه کلّها، و مکانها الطبیعیّ هو مقعّر فلک القمر و خفّتها مطلقه و طبعها حارّ یابس، و وجودها فی الکائنات لیصلح المرکّبات و یجری فیها الجوهر الحیوانی، و لتکسر من یرد العنصرین الثقیلین بردّهما عن العنصریّه إلى المزاجیّه، و الثقیلان أنفع فی تکون الأعضاء و فی سکونها، و الخفیفان أنفع فی کون الأرواح و تحریکها و تحریک الأعضاء ثمّ قالوا: و المزاج کیفیّه تحدث من تفاعل الکیفیّات المتضادّه فی هذه العناصر إذا تفاعلت بقواها بعضها فی بعض فانکسر صوره کلّ واحد منها بالآخر حدثت عنها کیفیّه متشابهه فی جمیعها هی المزاج و القوى الأولیّه فی تلک الأرکان أربع الحراره و البروده و الرطوبه و الیبوسه، و هی الّتی یکون عنها المزاجات فی الأجسام الکائنه الفاسده ثمّ إنّ واهب الوجود أعطى کلّ حیوان و کلّ عضو من المزاج ما هو ألیق و أصلح لأفعاله بحسب احتمال الإمکان له، و أعطى الإنسان أعدل الأمزجه الممکنه فی هذا العالم مع مناسبه لقواه الّتی بها یفعل و ینفعل و أعطى کلّ عضو ما یلیق به من أفعاله فجعل بعض الأعضاء أحرّ و بعضها أبرد و بعضها أرطب و بعضها أیبس و أمدّها بالأخلاط و هی أجسام رطبه سیّاله یستحیل إلیها الغذاء أوّلا، و هی منحصره فی أربعه أجناس: أحدها الدم و هو أفضلها، و الثانی البلغم و الثالث الصفراء، و الرابع السوداء، ثمّ قسّم الأعضاء إلى عظام و غضاریف و أعصاب و أوتار و جعل أوّل الأعضاء المتشابهه الأجزاء العظم و خلق صلبا لأنّه أساس البدن و دعامه الحرکات ثمّ الغضروف و هو ألین من العظم و فائدته أن یحسن به اتّصال العظام بالأعضاء اللیّنه فلا یتأذّى اللیّن بالصلب عند الضعظه و الضربه بل متوسّط بینهما ما یناسب کلّا منهما و لیحسن به تجاوز المفاصل المحاکّه فلا تتراض لصلابتها، ثمّ العصب و هی أجسام تنبت من الدماغ و النخاع بیض لدنه فی الانعطاف صلبه فی الانفصال، و فائدتها أن تتمّ به الأعضاء  للإحساس و الحرکه، ثمّ الأوتار و هی أجسام تنبت من أطراف العضل شبیهه بالعصب تلاقی الأعضاء المتحرّکه فتجذبها تاره و تبسطها اخرى بحسب انبساط العضله و انقباضها ثمّ الرباطات و هی أیضا أجسام شبیهه بالعصب و الحکمه فیها ظاهره، و هی ارتباط بعض الأعضاء إلى بعض و استمساکها و لیس لشی‏ء منها حسّ لئلّا یتأذّی بکثره ما یلزمه من الحرکه و الحکّ، ثمّ الشریانات و هی أجسام نابته من القلب ممتدّه مجوّفه طولا عصبانیه رباطیّه الجوهر لها حرکات منبسطه و منقبضه خلقت لترویح القلب و نقض البخار الدخانیّ عنه، و لتوزیع الروح إلى أعضاء البدن، ثمّ الأورده و هی تشبه الشریانات و نباتها من الکبد، و فائدتها توزیع الدم على أعضاء البدن، ثمّ الأغشیه و هی أجسام منتسجه من لیف عصبانی غیر محسوس رقیقه مستعرضه تغشى سطوح أجسام اخرى، و لها فوائد: منها أن یحفظ جملتها على شکلها و هیئتها، و منها أن تعلّقها على أعضاء اخرى و تربطها بواسطه العصب، و منها أن یکون للأعضاء العدیمه الحسّ فی جواهرها سطح حساس بالذات لما تلافیه و بالعرض لما یحدث فی الجسم الملفوف فیه کالریه و الطحال و الکبد و الکلیتین، فإنّها لا تحسّ بجواهرها و إنّما یحسّ بالامور المصادمه لها الأغشیه الّتی علیها بالذات و یحسّ أیضا بالعرض ما یحدث فیها مثلا الریح للتمدّد الّذی یحدث فیها، ثمّ اللحم و هو حشو خلل وضع الأعضاء فی البدن فصار البدن مشتملا على ثلاثه ضروب من الأعضاء، أحدها آلات الغذاء و هی المعده و الکبد و جداولها کالعروق و الطرق إلیها کالفم و المری و عنها کالأمعاء، و الثانی آلات الحراره الغریزیّه و حفظتها، و هی القلب و الرأس و الریه و الصدر و سائر آلات النفس، و الثالث آلات الحسّ و الحرکه و الأفعال العقلیّه و هی الدماغ و النخاع و العصب و العضل و الأوتار و نحوها ممّا یحتاج إلیه فی المعونه على تمام فعل العقل، ثمّ لمّا کان من ضروره البدن أن یقع فیه أفعال مختلفه وجب فی الحکمه أن یکون هناک استعداد لقوى متعدّده هی مبادئ تلک الأفعال أحدها النفس الطبیعیّه و تخصّها قوى منها مخدومه و منها خادمه، أمّا المخدومه فجنسان.

 

أحدهما یتصرّف فی الغذا و تحته نوعان: أحدهما القوّه المسمّاه بالغاذیه، و غایتها أن تغذو الشخص مدّه بقائه بإحاله الغذاء إلى مشابهه المتغذی لیخلف بدل ما یتحلّل، و الثانی القوّه المسمّاه بالنامیه، و غایتها أن تزید فی أقطار البدن‏ على التناسب الطبیعیّ إلى تمام نشوه، و الجنس الثانی یتصرّف فی الغذاء لبقاء النوع و تحته نوعان أحدهما القوّه المسمّاه بالمولّده و هی المتصرّفه فی أمر التناسل لیفصل من أمشاج البدن جوهر المنی، و الثانی القوّه المسمّاه بالمصوّره و هی الّتی تفید المنی بعد استحالته فی الرحم الصور و القوى و الأعراض الحاصله للنوع الّذی انفصل عنه المنی، و أمّا الخادمه الصرفه فی القوى الطبیعیّه فهی خوادم القوّه الغاذیه و هی أربع، أحدها الجاذبه و هی خلقت لتجذّب النافع إلى محلّها و هی موجوده فی المعده و المری و الکبد و الرحم و سائر الأعضاء، و الثانی الماسکه و هی خلقت لتمسّک المنافع رثیما یتصرّف فیه القوى المغیّره و المحیّله، و الثالث الهاضمه و هی الّتی تخیّل ما امسکته الماسکه إلى قوام مهیّى‏ء لفعل القوّه المغیّره فیه، و إلى مزاج صالح للاستحاله إلى الغذائیّه بالفعل، الرابع الدافعه و هی الّتی تدفع الفاضل من الغذاء الّذی لا یصلح للاغتذاء أو یفضل على الکافی أو یستغنی عنه بعد الفراغ من استعماله کالبول، و لهذه الأربع أیضا خوادم أربع أعنى الکیفیّات الأربع، و هی الحراره و البروده و الرطوبه و الیبوسه على تفصیل یعلم فی مظانّه، الثانی النفس الحیوانیّه و تختص بها قوّتان محرّکه و مدرکه، و المحرّکه إمّا باعثه أو فاعله، و الباعثه هی القوّه النزوعیه المذعنه للمدرکات کالوهم و الخیال أو النفس فیحمل الإدراک لها على البعث إلى طلب أو هرب بحسب السوانح و لها شعبتان شهوانیّه و هی الباعثه على التحریک إلى جانب أشیاء ضروریّه أو نافعه نفعا ما طلبا للّذّه و غضبیّه و هی الحامله على دفع و هرب عما لا یلائم طلبا للغلبه، و تخدمها القوّه المسمّاه بالقدره و هی قوّه تنبعث فی الأعصاب و العضل من شأنها أن تشنّج الفضلات بجذب الأوتار و الرباطات و أرخائهما، و القوى المدرکه قسمان ظاهره و باطنه أمّا الظاهره فالحواسّ الخمس، أحدها اللمس و هو قوّه منبثّه فی جلد البدن کلّه تدرک ما تماسّه، و تؤثر فیه بالمضادّه کالکیفیّات الأربع و غیرها، و ثانیها الذوق و هو قوّه مرتّبه فی العصب المفروش على سطح اللسان بها تدرک الطعوم من الأجرام المماسّه المخالطه للرطوبه العذبه الّتی فی الفم، و ثالثها الشمّ و هی قوّه مرتّبه فی زائدتی مقدّم الدماغ الشبیهتین بحلمتی الثدی بها تدرک الروائح بتوسّط الهواء المنفصل عن ذی الرائحه، و رابعها السمع و هی قوّه فی العصب المفروش فی باطن الصماخ و هو تدرک الأصوات و الحروف بواسطه الهواء، و خامسها البصر و هی قوّه مرتّبه فی العصبتین المجوّفتین تدرک ما یتطبّع فی الرطوبه الجلیدیّه من الصور بتوسّط جرم شفاف، و أمّا الباطنه من القوى فهی أیضا خمس، و هی إمّا مدرکه فقط إمّا للصور الجزئیّه و هو القوّه المسمّاه حسّا مشترکا المرتّبه فی التجویف الأوّل من الدماغ عندها تجتمع صور المحسوسات، ثمّ القوّه الموسومه خیالا، و هی خزانه الحسّ المشترک مودعه فی آخر التجویف المقدّم من الدماغ تجتمع فیها مثل المحسوسات و تبقى فیها بعد الغیبه عن الحواسّ، و إمّا مدرکه للمعانی الجزئیّه، و هی إمّا الوهم و هی قوّه مرتّبه فی التجویف الأوسط من الدماغ تدرک المعانی‏ الجزئیه الغیر المحسوسه الموجوده فی المحسوسات کإدراک الشاه معنى فی الذئب یوجب لها الهرب، و إمّا الحافظه و هی قوّه مرتّبه فی التجویف الأخیر من الدماغ تحفظ الأحکام الجزئیّه المدرکه للوهم و هی خزانه له، و إمّا مدرکه و متصرّفه و هی القوّه المسمّاه متخیّله باعتبار استعمال الوهم لها، و مفکّره باعتبار استعمال العقل لها و محلّها مقدم البطن الأوسط من الدماغ من شأنها الترکیب و التفصیل لبعض الصور ببعض و عن بعض و کذا المعانی و المعانی بالصوره و هی الحاکیه للمدرکات و الهیئات المزاجیّه و الحکمه الإلهیّه اقتضّت أن تکون متوسّطه بین مقتضى الصور الجرمانیّه و المعانی الروحانیّه متصرّفه فی خزائنهما بالحکم و الاسترجاع للأمثال المنمحیّه من الجانبین، ثمّ إنّ لکلّ واحد من هذه الآلات روح یختصّ به و هو جرم حارّ لطیف متکوّن عن لطافه الأخلاط على نسبه محدوده و هو حامل للقوی المدرکه و غیرها، الثالث النفس الناطقه و نسبتها إلى هذا البدن نسبه الملک إلى المدینه و البدن و جمیع أجزائه و قواه المذکوره آلات لها، و رسمها أنّها جوهر مجرّد یتعلّق بالأبدان تعلّق التدبیر و هی المشار إلیها بقوله تعالى «وَ یَسْئَلُونَکَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّی»«» و بقوله علیه السّلام: الأرواح جنود مجنّده ما تعارف منها ائتلف و ما تناکر فیها اختلف فیها، و لهذا الجوهر قوّتان یختصّ بهما نظریّه و عملیّه و قد سبقت الإشاره إلیهما فی مقدّمه الکتاب و تحقیق الکلام فی هذا الجوهر و البرهان على وجوده و تجرّده و کمالاته من العلوم و الأخلاق مستقصى فی مظانّه و باللّه التوفیق.

 

المقدّمه الثانیه قد علمت أنّ الملک عندهم اسم مشترک یقع على حقائق مختلفه

فأمّا لفظ الجنّ فهو و إن صدق فی أصل اللغه على کلّ الملائکه لکونه مأخوذا من الاجتنان و هو الاستتار، و کون الملائکه مستترین على الأعین فإنّهم یخصّون فی عرفهم هذا اللفظ بالأرواح الّتی تخصّ عالم العناصر فتاره یطلقون علیها أنّها ملائکه باعتبار کونهم مرسلین من عند اللّه فاعلین لما أمر اللّه جارین على نظام العقل، و تاره یطلقون علیها أنّها جنّ باعتبار الاجتنان، و هم جنّ مسلمون باعتبار موافقه العقل و التصرّف على وفق مصلحه العالم و نظامه، و کفّار و شیاطین باعتبار مخالفتها لذلک، فأمّا صدق اسم الجنّ على النفوس الناطقه الإنسانیّه فقد تعتبر من جهه اخرى، و هی کونها عالمه ترى بنور العلم من حیث لا ترى فهی مجتنّه محجوبه عن أبصار الجاهلین ثمّ هی إمّا أن تکون عالمه أو جاهله و على التقدیرین فإمّا أن یکون موافقه لظواهر الشریعه منقاده لها متمسّکه بها أو لیس کذلک فهذه أقسام أربعه، أوّلها النفوس العالمه العامله بمقتضى الشریعه و هذه الطائفه هم الجنّ المسلمون و المؤمنون قالوا: و هم الّذین أمر اللّه تعالى نبیّه بالإخبار عنهم فی قوله تعالى «قُلْ أُوحِیَ إِلَیَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً یَهْدِی إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ»«» إلى آخر الآیات قالوا: و ممّا یبیّن ذلک أنّ السماء الّتی أخبر الجنّ عنها أنّهم لمسوها هی سماء الحکمه و هی الشریعه الّتی استترت فیها قالوا: و لمسهم لها عباره عن اعتبارهم أمر الشریعه فی مبدء ظهورها هل یصحّ لهم معها إظهار الحکمه و یمکنهم أخذها و إعطاؤها بالتعلّم و التعلیم کما کان یفعل قبل ذلک أم لا، و قولهم «فوجدناها ملئت حرسا شدیدا و شهبا»«» إشاره إلى حفظه الشریعه و هم علماء الشریعه و الملوک الصالحون اللازمون لناموس الشریعه و قوانینها، و قولهم «و إنّا کنّا نقعد منها مقاعد للسمع»«» إشاره إلى أنّهم کانوا قبل ظهور الشرائع یتدارسون الحکمه و یتعلّمونها و لم یکن علیهم إنکار، و قولهم «فمن یستمع الآن یجد له شهابا رصدا»«» إشاره إلى أنّ المظهر للحکمه بعد وجود الشریعه                       

التارک لظواهر ما جاءت به الأنبیاء یجد من حرسه الدین و حفظته شهابا یحرقه و یؤدّیه، و ثانیها النفوس العالمه المخالفه للشریعه و النوامیس الإلهیّه التابعه لقواها فی مقتضى طباعها و هؤلائهم من شیاطین الجنّ و مردتها، و ثالثها النفوس الجاهله إلّا أنّها متمسّکه بظواهر الشریعه منقاده لها، و هؤلائهم المسلمون من الإنس، و رابعها النفوس الجاهله التارکه للشریعه و العمل بها التابعه لمقتضى الطبیعه، و هؤلائهم شیاطین الإنس قالوا: و بهذا البیان لا یبقی بین قول اللّه سبحانه «إلّا إبلیس کان من الجنّ» و بین استثنائه من الملائکه المقتضی لدخوله فیهم و کونه منهم فرق بل هو من الملائکه باعتبار من الجنّ باعتبار و من الشیاطین باعتبار، و الشیطان قد یکون ملکا فی أصله ثمّ ینتقل إلى الشیطانیّه باعتبار فسوقه عن أمر ربّه و کذلک الجنّی و اللّه أعلم.

 

المقدّمه الثالثه-  قالوا: کلّ ما یتوالد فلا یستحیل فی أصله أن یکون متولّدا

ثمّ ضربوا لذلک أمثله فقالوا: إنّ العقرب تتولّد من البادروج و لباب الخبز، و النحل من العجل المحرق المکیس عظامه، و الفار من المدر و الطین و نحو ذلک ثمّ یتوالد عن هذا المتولّد أشخاص اخرى و یبقى نوعه متولدا فلا مانع إذن أن یکون الإنسان فی أوّل خلقه کذلک فیحدث شخص من نوعه و یتکوّن من التراب ثمّ یحصل ما بعده من نوعه عنه بالتوالد إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ لفظ آدم إذا اطلق فی عباراتهم فتاره یراد به أمر جزئیّ و تاره یراد به أمر کلّی أمّا الجزئیّ فیراد به أوّل شخص تکوّن من هذا النوع، و على ذلک یحملون قوله تعالى «إِنَّ مَثَلَ عِیسى‏ عِنْدَ اللَّهِ کَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ»«» و یحملون قوله تعالى «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَهٍ» و ما فی معناه على ما توالد منه، و قد یراد منه أوّل شخص استخلف فی الأرض و أمر بنشر الحکمه و ناموس الشریعه، و أمّا الکلّی فتاره یراد بآدم مطلق نوع الإنسان، و على ذلک کلّه قوله تعالى «وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى‏ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِیَ»«» و قد یراد به صنف الأنبیاء و الدعاه إلى اللّه کما نقل عن سیّد المرسلین صلى اللّه علیه و آله کلّ نبیّ فهو آدم وقته و قوله صلى اللّه علیه و آله: أنا و أنت یا علیّ أبوا هذه الامّه، و یمکن أن یکون‏


قول الباقر محمّد بن علیّ علیهما السّلام: قد انقضى قبل آدم الّذی هو أبونا ألف ألف آدم و أکثر على هذا المعنى إذا ثبت هذا فنقول: إنّ لکلّ آدم بالمعانی المذکوره ملائکه تخصّه و هی مأموره بالسجود له، و إبلیس فی مقابلته و معارضته أمّا آدم بالمعنی الأوّل و الثانی فملائکته المأمورون بالسجود له هی قواه البدنیّه و نفوس أهل زمانه المأمورین باتّباعه المستمعین لقوله و سائر القوى فی أقطار هذا العالم فإنّها بأسرها ملائکه مأموره بالخضوع له و السعی فی مهمّاته و حوائجه بین یدیه و المعونه على مراده، و أمّا إبلیس المعارض له القوّه الوهمیّه منها المعارضه لمقتضى عقله العملیّ الساعیه فی الأرض فسادا و النفوس المتمرّده عن قبول الحقّ و الاستماع لقوله الخارجه عن طاعته و هم شیاطین الإنس و الجنّ الّذی یوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا و کذلک ملائکه آدم و إبلیس آدم الّذی هو صنف الأنبیاء و الدعاه إلى اللّه تعالى بالحکمه و الموعظه الحسنه، و أمّا آدم الّذی هو نوع الإنسان فکلّ الملائکه الّذین ذکرناهم فی هذا العالم هم المأمورون بالسجود له و إبلیس کلّ شخص من هذا النوع هو و همه المعارض لعقله و جنوده ما تحته من القوى الشهویّه و الغضبیّه و غیرها

إذا عرفت هذه المقدّمات فلیرجع إلى المتن فنقول: الأولى أن یحمل آدم فیما ذکره علیه السّلام هاهنا من هذه القصّه على مطلق النوع الإنسانیّ.

 

فقوله ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها تربه سنّها بالماء حتّى خلصت و لاطها بالبلّه حتّى لزبت

إشاره إلى أصل امتزاج العناصر، و إنّما خصّ هذین العنصرین و هما الأرض و الماء دون الباقیین لأنّهما الأصل فی تکوّن الأعضاء، المشاهده الّتی تدور علیها صوره الإنسان المحسوسه، و قوله حتّى خلصت و حتّى لزبت إشاره إلى بلوغها فی الاستعداد الغایه الّتی معها تفاض صوره ما یتکوّن منها،

و قوله فجبل منها صوره ذات أحناء و وصول و أعضاء و فصول إشاره إلى خلق الصوره الإنسانیّه و إفاضتها بکمال أعضائها و مفاصلها و ما تقوم به صوره، و قوله منها الضمیر راجع إلى التربه و یفهم من ظاهر اللفظ أنّ الصوره الإنسانیّه هی المفاضه على کمال استعداد التربه من غیر واسطه انتقالات اخر فی أطوار الخلقه، و إنّما یتمّ ذلک إذا حملنا آدم على أوّل شخص یکون من هذا النوع فأمّا إذا حملنا على مطلق النوع کان المراد أنّه جبل منها الصوره الإنسانیّه بوسائط من صور ترددت فی أطوار الخلقه کما قال تعالى «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَهٍ مِنْ طِینٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَهً فِی قَرارٍ مَکِینٍ»«» فالصوره الإنسانیّه جبلت من النطفه المتولّده من فضل الهضم الرابع المتولّد من الأغذیه، و هی إمّا حیوانیّه أو نباتیّه و الحیوانیّه تنتهی إلى النباتیّه و النباتیّه إنّما تتولّد من صفو الأرض و الماء و هی التربه المستعدّه للإنبات و لیس فی ذلک مخالفه الظاهر فإنّ تلک التربه بعد أن تواردت علیها أطوار الخلقه و أدوار الفطره صارت منیّا فصدق علیها أنّ الصوره الإنسانیّه جبلت منها،

و قوله أجمدها حتّى استمسکت و أصلدها حتّى صلصلت الضمیر فی الجملتین راجع إلى الصوره و ما یتعلّق بها من الأعضاء فالإجماد لغایه الاستمساک راجع إلى بعضها کاللحم و الأعصاب و العروق و أشباهها، و الأصلاد لغایته راجع إلى بعض آخر کالعظام و الأسنان و إسناد ذلک إلى المدبّر الحکیم سبحانه لأنّه العلّه الاولى و إن کان هناک لهذه الآثار أسباب قریبه طبیعیّه کالحارّ الغریزی فإنّه المستعدّ لتحریک الموادّ و یتبعه البرد لیسکنه عند الکمالات من الخلق، و کالرطوبه فإنّها هی الّتی تتخلق و تتشکّل و یتبعها الیبوسه لحفظ الأشکال و إفاده التماسک،

و قوله لوقت معدود و أجل معلوم یحتمل أن یراد به أنّ لکلّ مرتبه من مراتب ترکیب بدن الإنسان، و انتقاله فی أدوار الخلقه وقتا معدودا یقع فیه و أجلا معلوما یتمّ به، و یحتمل أن یراد بالوقت المعدود و الأجل المعلوم الوقت الّذی یعلم اللّه سبحانه انحلال هذا الترکیب فیه کما قال تعالى «وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ»

قوله ثم نفخ فیها من روحه.

أقول: الضمیر المؤنّث راجع إلى الصوره و قد علمت أنّ هذه الإشاره جاریه فی القرآن الکریم کما قال تعالى «فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ»«» و المراد بالتسویه إفاضه تمام إعداد البدن و تهیّئه لقبول النقش، و المراد بالنفخ هاهنا هو إفاضه النفس علیه عند کمال ذلک الاستعداد، و استعمال النفخ هاهنا استعاره حسنه فإنّ النفخ له صوره و هو إخراج الهواء من فم النافخ إلى المنفوخ فیه لیشتعل فیه النار، و لمّا کانت حقیقه النفخ ممتنعه فی حقّ اللّه تعالى وجب العدول إلى حمل لفظه على ما یشبهه، و لمّا کان اشتغال نور النفس فی فتیله البدن عن الوجود الإلهیّ المعطی لکلّ قابل ما یستحقّه یشبه بحسب محاکاه خیالنا الضعف ما نشاهد من اشتغال النار فی المحلّ القابل لها عن صوره النفخ لا جرم حسن التعبیر و التجوّز بلفظ النفخ عن إفاضه الجود الإلهیّ للنفس على البدن لمکان المشابهه المتخیّله و إن کان الأمر أجلّ ممّا عندنا و أعلى،

 و أمّا نسبه الروح إلى اللّه فاعلم أنّ الروح یحتمل أن یراد به أحد ثلاثه معان، الأوّل جبرئیل علیه السّلام و هو روح اللّه الأمین و نسبته إلیه ظاهره و أمّا نسبه النفخ إلى اللّه حینئذ فلکونه العلّه الاولى و جبرئیل واسطه جعله اللّه تعالى مبدء فی هذا اللفظ لنفخ النفس فی صوره آدم منه، الثانی جود اللّه و نعمته و فیضه الصادر على آدم و غیره، و إنّما کان ذلک روح لأنّه مبدء کلّ حیاه فهو الروح الکلیّه الّتی بها قوام کلّ وجود و نسبته إلیه ظاهره و یکون من هاهنا للتبعیض، الثالث أن یراد بالروح النفس الإنسانیّه و یکون من زائده و إنّما نسب إلیه دون سائر مصنوعاته الطیفه لما علمت أنّ الروح منزّه عن الجهه و المکان و فی قوّته العلم بجمیع الأشیاء و الاطّلاع علیها، و هذه مضاهاه و مناسبه بوجه ما مع العلّه الّتی لیست حاصله لما عدا هذا الجوهر ممّا هو جسم أو جسمانیّ فلذلک شرّفها بالإضافه إلیه و قوله فمثلث إنسانا إشاره إلى الصوره المجبوله، و فیه لطیفه و هی أنّها إنّما کانت إنسانا و ینفخ الروح فیها و لذلک رتّب و صیرورتها إنسانا بالفاء على نفخ الروح فیها،

و قوله ذا أذهان یجیلها إشاره إلى ما للإنسان من القوى الباطنه المدرکه و المتصرّفه و معنى إجالتها تحریکها و بعثها فی انتزاع الصور الجزئیّه کما للحسّ المشترک و المعانی الجزئیّه کما للوهم،

و قوله و فکر یتصرّف بها إشاره إلى القوى المفکّره فی آحاد النوع الإنسانی و تصرّفها فی تفتیش الخزانتین و ترکیب بعض مودوعاتها ببعض و تحلیلها،

و قوله و جوارح تختدمها إشاره إلى عامّه الأعضاء الّتی بیّنا أنّها کلّها خدم للنفس و الأدوات الّتی تقلّبها من تلک یشبه أن یختصّ بالأیدی کقوله تعالى «وَ أُحِیطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ یُقَلِّبُ کَفَّیْهِ عَلى‏»«» و یمکن أن یکون أعمّ من ذلک کالبصر و القلب کقوله علیه السّلام: یا مقلّب القلوب و الأبصار إلى عامّه الأعضاء الّتی بیّنا أنّها کلّها خدم للنفس و الأدوات الّتی تقلّبها من تلک یشبه أن یختصّ بالأیدی کقوله تعالى «وَ أُحِیطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ یُقَلِّبُ کَفَّیْهِ عَلى‏»«» و یمکن أن یکون أعمّ من ذلک کالبصر و القلب کقوله علیه السّلام: یا مقلّب القلوب و الأبصارفیصدق علیها اسم التقلیب،

و قوله و معرفه یفرق بها بین الحقّ و الباطل إشاره إلى استعداد النفس لدرک المعقولات الثانیه المسمّى عقلا بالملکه بحسب مالها من المعارف الاولى أعنی البدیهیّات فإنّ الحقّ و الباطل امور کلّیه و لیس للقوى البدنیّه فی إدراک الامور الکلّیه حظّ یحتمل أن یشیر بالمعرفه إلى القوّه الاستعدادیّه الاولى للإنسان المسمّاه عقلا هیولانیّا،

و قوله و الأذواق و المشامّ و الألوان و الأجناس نبّه هاهنا على ثلاثه امور: أحدها أنّ للإنسان آله بها یدرک المذوقات، و اخرى بها یدرک المشمومات، و اخرى بها یدرک الألوان، و قد بیّنا ذلک، الثانی نبّه على أنّ النفس مدرکه للجزئیات بواسطه هذه القوى إذ عدّها فی نسق ما تتصرّف فیه النفس و تفرّق بینه و بین غیره، الثالث أنّه أخرّ قوله و الأجناس تنبیها على أنّ النفس تنتزع الامور الکلّیه من تصفّح الجزئیّات فإنّ الأجناس امور کلّیه و النفس بعد إدراک الجزئیّات و تصفحها تتنبّه لمشارکات بینها و مباینات فتنتزع منها تصوّرات کلّیه و تصدیقات کلّیه و کأنّه عنى بالأجناس هاهنا الامور الکلّیه مطلقا لا بعضها کما هو فی الاصطلاح العلمی،

و قوله معجونا بطینه الألوان المختلفه النصب على الحال من قوله إنسانا أو الصفه له، و المراد الإشاره إلى أنّ اختلاف أبدان النوع بعضها من بعض بالألوان بسبب قوّه استعداداتها لذلک کما قال صلى اللّه علیه و آله: فجاء منهم الأحمر و الأبیض و الأسود کما سبق و طینه الألوان و أصلها، و عجنه بها مزجه بها و تهیّئه و إعداده لقبولها على اختلافها و کذلک الحال فی البدن الواحد فإنّه لیس لجمله أجزائه لون واحد فإنّ امتزاج بعض الأعضاء یقتضی أن یکون أبیض کالعظام و الأسنان و بعضها أحمر کالدم و بعضها أسود کالحدقه و الشعر، و کذلک اختلاف الأشخاص فی الصفات المکنّی بها عن الاختلاف الوارده فی تمام الخبر من قوله: و السهل و الخزن و الخبیث و الطیّب یرجع إلى أنّ الأرض لمّا کانت أکثر العناصر شرکه فی هذه الأبدان کان لاختلاف بقاعها أثر تامّ فی تفاوت الامتزاج لقبول الأخلاق بالسهوله و الحزونه و الخبیث و الطیّب،

و قوله و الأشباه المؤتلفه و الأضداد المتعادیه و الأخلاط المتبائنه من الحرّ و البرد و البلّه و الجمود و المساء و السرور أمّا الأشباه المؤتلفه فکالعظام و الأسنان و أشباهها فإنّها أجسام متشابهه ائتلف بعضها مع بعض، و بها قامت الصوره البدنیّه و امتزجت بطینتها، و أمّا الأضداد المتعادیه فکالکیفیّات الأربع الّتی ذکرها علیه السّلام و هی الحراره و البروده و الرطوبه الّتی هی البلّه و الیبس الّذی هو الجمود، و عبّر عنه بلازمه و هو الجمود على أنّ الجمود فی اللغه هو الیبس أیضا و أمّا الأخلاط المتبائنه فهی الأخلاط الأربعه کما عرفت من الدم و البلغم و الصفراء و السوداء، و أمّا المساءه و السرور فهما من الکیفیّات النفسانیّه و مهیّه. کلّ منهما ظاهره، و أمّا أسبابهما فاعلم أنّ للسرور سببا جسمانیّا معدّا و هو کون حامله الّذی هو الروح النفسانی على کمال أحواله فی الکمیّه لأنّ زیاده الجوهر فی الکمّ یوجب زیاده القوّه فی الکیفیّه و هی أن یکون معتدلا فی اللطافه و الغلظ و أن یکون شدید الصفا، و أمّا السبب الفاعلی له فالأصل فیه تخیّل الکمال کالعلم و القدره و الإحساس بالمحسوسات الملائمه و التمکّن من تحصیل المرادات و القهر و الاستیلاء على الغیر و الخروج عن المولم و تذکر الملذّات، و أمّا أسباب الغم فمقابلات هذه أمّا السبب المعدّ الجسمانیّ فهو إمّا قلّه الروح کما للناقهین و المنهوکین بالأمراض و المشایخ، و أمّا غلظه فکما للسوداویین و أمّا رقّه کما للنساء و أمّا الفاعلی فمقابل أسباب السرور، و قد یشتدّ کلّ منهما بعد الأسباب المذکوره بتکرّره فیصیر السرور أو الغم ملکه و یسمّى صاحبه مفراحا أو محزانا و مقصوده علیه السّلام التنبیه على أنّ طبیعه الإنسان فیها قوّه قبول و استعداد لهذه الکیفیّات و أمثالها، و تلک القوّه هی المراد بطینه المساءه و السرور و الفرق بینها و بین الاستعداد أنّ القوّه تکون على الضدّین و الاستعداد لا یکون إلّا لأحدهما.

و قوله استأدى اللّه سبحانه الملائکه ودیعته لدیهم و عهد وصیّته إلیهم إلى قوله إلّا إبلیس.

أقول: لمّا کان الّذی یشیر إلیه کلّ إنسان بقوله أنا هو النفس الناطقه کان آدم عندهم عباره عن النفس الناطقه ثمّ قالوا: المراد بالملائکه الّذین امروا بالسجود لآدم هی القوى البدنیّه الّتی امرت بالخضوع و الخشوع لتکرمه النفس العاقله، و الانقیاد تحت حکمها و هو الأمر الّذی لأجله خلقوا أمّا عهد اللّه لدیهم و وصیّته إلیهم فهو المشار إلیه بقوله تعالى «إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَهِ إِنِّی خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ‏ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ»«» و الخطاب هاهنا خطاب الحکمه الإلهیّه بالقضاء الأزلی قبل الوجود و الاستیذاء لذلک العهد و تلک الوصیّه هو طلب المأمور به أوّلا من الانقیاد و الخضوع من تلک القوى بعد الوجود على ألسنه الرسل علیهم السّلام بالوحی المنزل و هو قوله اسْجُدُوا لِآدَمَ، قوله فسجدوا إشاره إلى القوى المطیعه لنفوسها العاقله فی أشخاص عباد اللّه الصالحین، قوله إلّا إبلیس و قبیله إشاره إلى الوهم و سائر القوى التابعه له فی معارضه العقل فی أشخاص الکفّار و الفاسقین عن أوامر اللّه سبحانه، و قد عرفت أنّ الوهم رئیس القوى البدنیّه فهی إذن عند معارضته للعقل و متابعتها له جنود إبلیس و قبیله،

و أمّا قوله اعترته الحمیّه و غلبت علیه الشقوه و تعزّر بخلق النار و استهون خلق الصلصال، فقالوا: إنّ المراد بکون إبلیس و جنوده خلقوا من نار أنّ الأرواح الحامله لهذه القوى کما عرفت أجسام لطیفه تتکوّن عن لطافه الأخلاط و هی حارّه حدّا مائله فی الإفراط و الناریّه و الهوائیّه علیها أغلب و تولّدها عنهما أسهل و هی آخر أجزاء البدن و کذلک القلب الّذی هو منبعها فکانت تلک الأرواح کالأبدان لهذه القوى فلذلک نسب إبلیس إلى النار فقال تعالى حکایه عنه «خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ» و قال «وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ» أی قدّرنا قبل وجوده أن تکون الناریّه و الهوائیّه على وجود أغلب، و قال بعضهم: إنّه لمّا کانت النار ألطف العناصر و کانت هذه القوى و أرواحها ألطف الامور الجسمانیّه و تکّونها عن ألطف الأخلاط کانت نسبتها إلى النار أولى من سائر العناصر لمکان المشابهه فی اللطافه فجاز أن یطلق على أصله أنّه نار.

لا یقال: إذا کان آدم هو النفس الناطقه فما معنى قول إبلیس و خلقته من طین.

لأنا نقول: کما صدق أنّ إبلیس مخلوق من نار بمعنى أنّ الغالب على الروح الحامل له هو عنصر النار کذلک یصدق أنّ آدم من طین بمعنى أنّ الغالب على بدنه الأرضیّه، و أیضا فإنّ الوهم لا یدرک إلّا المعانی الجزئیّه المتعلّقه بالمحسوسات فلا یصدق حکمه و مساعدته إلّا فیما کان محسوسا، و لمّا ثبت أنّ النفس جوهر مجرّد لم یکن إعتقاد إبلیس أنّ الإنسان شی‏ء غیر هذا البدن المتکوّن عن الطین. إذا ثبت ذلک فنقول: اعتراء الحمیّه و التعزّز بالانتساب إلى عنصر النار نسبه مجازیّه إذا العاده جاریه بأن یأنف الإنسان من‏ الأصل الناقص و أن یفتخر و یتعزّز بالأصل الشریف و الانتساب إلیه فکان لسان حال إبلیس و القوى المتابعه له یقول على جهه الاستنکار أ أسجد لبشر خلقته من صلصال من حماء مسنون، و أنا مخلوق من النار الّتی هی أشرف العناصر قالوا: و لمّا علم اللّه ذلک من حال إبلیس لعنه و طرده و أخرجه من الجنّه و ذلک قوله تعالى «قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّکَ رَجِیمٌ وَ إِنَّ عَلَیْکَ اللَّعْنَهَ إِلى‏ یَوْمِ الدِّینِ»«» قالوا و ذلک أنّک علمت أنّ الجنّه تعود إلى معارف الحقّ سبحانه و الابتهاج بمطالعه أنوار کبریائه و درجات الجنّه هی المراتب الّتی ینتقل العقل فیها فی مقامات السلوک إلى حظائر القدس و مجاوره الملاء الأعلى، و علمت أنّ حال الوهم قاصر عن الانتقال على تلک المراتب فطرده و لعنه و تحریم الجنّه علیه یعود إلى تکوینه على الطبیعه الّتی هو علیها القاصره عن إدراک العلوم الکلّیه الّتی هی ثمار الجنّه و قطوفها و القضاء علیه بذلک قالوا: و ممّا ینبّه على ذلک قوله «قالَ رَبِّ بِما أَغْوَیْتَنِی لَأُزَیِّنَنَّ لَهُمْ فِی الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ إِلَّا عِبادَکَ مِنْهُمُ»«» أی بما خلقتنی على هذه الجبله لا اهتدى لدخول الجنّه و لا أتمکّن منها لأجذبنّهم إلى المشتهیات و تزیین الملذّات الجاذبه لهم عن عبادتک حتّى لا یهتدوا إلى الجنّه الّتی لأجلها خلقتهم و لا یلتفتوا إلیها إلّا من عصمته منّی و جعلت له سلطانا على قهری و غلبتی و هم عبادک المخلصون أی النفوس الکامله المطهّره عن متابعه قواها المسلّط على قهر شیاطینها و قهرها و کذلک قوله: «قالَ أَنْظِرْنِی إِلى‏ یَوْمِ یُبْعَثُونَ» فإنّه لمّا کان البعث الأوّل هو مفارقه النفوس لأبدانها و انبعاثها إلى عالمها و کانت طبیعه الوهم قاضیه بمحبّه البقاء فی دار الدنیا إذ لا حظّ له فی غیرها أحسن من لسان حاله أن یقول ربّ انظرنی إلى یوم یبعثون،

و قوله فأعطاه اللّه النظره لمّا کان الوهم باقیا فی البدن هو و جنوده إلى یوم البعث حسن من لسان الحکمه الإلهیّه أن یقول إنّک من المنظرین إلى یوم الوقت المعلوم و ذلک معنى إعطائه النظره، و قوله استحقاقا للسخطه و استتماما للبلیّه و إنجازا للعدّه فقد عرفت أنّ البلیّه نصب على المفعول له ثمّ إنّ فساد الوهم و ابتلاء الخلق به و الشرّ الصادر عنه امور داخله فی القضاء الإلهیّ بالعرض فیصدق                        

علیه أنّه مراد و أنّ الإنظار و الإمهال له و کذلک استحقاق السحطه و إنجاز العده و إطلاق لفظ السخطه استعاره فإنّ السخط لمّا کان عباره عن حاله للإنسان یستلزم وجود مغضوب علیه غیر مرضیّ بأفعاله و کان حال إبلیس فی إنظار اللّه إیّاه و فسوقه عن أمر ربّه مستلزما لإعراض اللّه سبحانه عنه و عمّن عصاه بمتابعته کان هناک نوع مشابهه، فحسن لأجلها إطلاق لفظ السخطه أمّا العده فتعود إلى قضاء الحکمه الإلهیّه ببقاء الوهم إلى یوم البعث، و إنجازها یعود إلى موافقه القدر لذلک القضاء، و قال بعضهم: إنّه لمّا کان هاهنا صوره مطرود و مبعّد و ملعون حسن إطلاق لفظ السخطه و استحقاقها و أنّه إنّما انظر لأجلها و هو ترشیح للاستعاره.

 

قوله ثمّ أسکن اللّه سبحانه آدم دارا أرغد فیها عیشه و آمن فیها محلّته و حذّره إبلیس و عداوته.

أقول: الدار الّتی أسکن فیها آدم هی الجنّه و الإشاره هاهنا إلى أنّ الإنسان من أوّل زمان إفاضه القوّه العاقله علیه إلى حین استرجاعها ما دام مراعیا لأوامر الحقّ سبحانه غیر منحرف عن فطرته الأصلیّه و لا معرض عن عبادته و لا یلتفت إلى غیره فإنّه فی الجنّه و إن کانت الجنّه على مراتب کما قال تعالى «لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِیَّهٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ»«» و لذلک قال صلى اللّه علیه و آله: کلّ مولود یولد على الفطره و إنّما أبواه هما اللذان یهوّدانه و ینصّرانه إذ کانت نفسه قبل الجواذب الخارجیّه عن القبله الحقیقیّه غیر مدّ نسبه بشی‏ء من الاعتقادات الفاسده و الهیئات الردیئه، و إن کانت المرتبه السامیه و الغرفه العالیه إنّما تنال بعد المفارقه، و استصحاب النفس لأکمل زاد، و أمّا إرغاد العیش فیعود إلى ابتهاجه بالمعقولات و المعارف الکلّیّه و أمان المحلّه أمان مکانه فی الجنّه أن یعرض له خوف أو حزن ما دام فیها، و أمّا تحذیره من إبلیس و عداوته فظاهر من الأوامر الشرعیّه و لسان الوحی ناطق کما قال تعالى «إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَکَ وَ لِزَوْجِکَ»«» و وجه العداوه ظاهر ممّا قلنا فإنّ النفس لمّا کانت من عالم المجرّدات و کان الوهم بطبعه منکرا لهذا القسم من الممکنات کان منکرا لما تأمر به النفس من الامور الکلّیّه الّتی لا حظّ له فی إدراکها و ذلک من مقتضیات العداوه و لأنّ نظام أمر النفس و مصلحتها لا یتمّ إلّا بقهر الوهم و القوى البدنیّه عن مقتضیات طباعها، و تمام مطالب القوى لا یحصل إلّا بانقهار النفس فکانت بینهما مجاذبه طبیعیّه و عداوه أصلیّه إذ لا معنى للمعاداه إلّا المجانبه لما یتصوّر کونه موذیا.

 

قوله فاغترّه عدّوه نفاسه علیه بدار المقام و مرافقه الأبرار.

أقول: یقال: إنّ اللّه تعالى لمّا حذّره إبلیس و عداوته کان قد نهاه عن أکل شجره یقال إنّها شجره البرّ، و أعلمه أنّه إن أکل منها کان ظالما لنفسه مستحقّا لسخط اللّه علیه و ذلک قوله تعالى «وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَهَ فَتَکُونا مِنَ الظَّالِمِینَ»«» قالوا: و تلک الشجره هی الشجره الخبیثه الّتی اجتثّت من فوق الأرض مالها من قرار و هی عائده إلى المشتهیات الدنیویّه الفانیه و اللذّات البدنیّه الخارجه عن المحدودات فی أوامر اللّه، و تناولها هو العبور فیها إلى طرف الإفراط عن وسط القانون العدل، و أمّا کونها شجره البرّ فقالوا: إنّ البرّ لمّا کان هو قوام الأبدان و علیه الاعتماد فی أنواع المطعومات و الملاذ البدنیّه حسن أن یعبّر به عنها فیقال هی شجره البرّ کنایه عن الفرع بالأصل، فأمّا اغترار إبلیس له فاعلم أنّ حقیقه الغرور هو سکون النفس إلى ما یوافق الهوى و یمیل إلیه بالطبع عن شبهه و خدعه من إبلیس فاغتراره یعود إلى استغفال النفس بالوسوسه الّتی حکى اللّه تعالى عنها بقوله «فَوَسْوَسَ إِلَیْهِ الشَّیْطانُ قالَ یا آدَمُ هَلْ أَدُلُّکَ عَلى‏ شَجَرَهِ الْخُلْدِ وَ مُلْکٍ لا یَبْلى‏»«» و لنبحث حقیقه الوسوسه فنقول: إنّ الفعل إنّما یصدر عن الإنسان بواسطه امور مترتّبه ترتیبا طبیعیّا أوّلها تصوّر کون الفعل ملائما و هو المسمّى بالداعی، ثمّ إنّ ذلک الشعور یترتّب علیه میل النفس إلى الفعل المسمّى ذلک المیل إراده فیترتّب على ذلک المیل حرکه القوّه النزوعیّه المحرّکه للقوّه المسمّاه قدره المحرّکه للعضل إلى الفعل.

إذا عرفت ذلک فنقول: صدور الفعل عن مجموع القدره و الإراده أمر واجب فلیس للشیطان فیه مدخل، و وجود المیل عن تصوّر کونه نافعا و خیرا أمر لازم فلا مدخل للشیطان أیضا فیه فلم یبق له مدخل إلّا فی إلقاء ما یتوهّم کونه نافعا أو لذیذا إلى النفس ممّا یخالف أمر اللّه سبحانه فذلک الإلقاء فی الحقیقه هو الوسوسه و هو عین ما حکى اللّه سبحانه عنه بقوله «وَ قالَ الشَّیْطانُ لَمَّا قُضِیَ الْأَمْرُ إِنَ‏ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُکُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِی»«» إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ متابعه إبلیس یعود إلى انقیاد النفس لجذب الوهم و القوى البدنیّه الّتی هی الشیاطین عن الوجهه المقصوده و القبله الحقیقیّه و هی عباده الحقّ سبحانه و فتنتها لها بتزیین ما حرّم اللّه علیها فأمّا ما یقال: إنّ إبلیس لم یکن له تمکّن من دخول الجنّه و إنّما توسّل بالحیّه و دخل فی فمها إلى الجنّه حتّى تمکّن من الوسوسه لآدم علیه السّلام و اغتراره فقالوا: المراد بالحیّه هی القوّه المتخیّله، و ذلک أنّ الوهم إنّما یتمکّن من التصرّف و بعث القوى المحرّکه کالشهوه و الغضب الّتی هی جنوده و شیاطینه على طلب الملاذ البدنیّه و الشهوات الحسّیّه الدنیّه، و جذب النفس إلیها بتصویر کونها لذیذه نافعه بواسطه القوّه المتخیّله، و وجه تشبیهها بالحیّه أنّ الحیّه لمّا کانت لطیفه سریعه الحرکه تتمکّن من الدخول فی المنافذ الضیّقه و تقدر على التصرّف الکثیر و هی مع ذلک سبب من أسباب الهلاک بما تحمله من السمّ و کانت المتخیّله فی سرعه حرکتها و قدرتها على التصرّف السریع و الإدراک ألطف من سائر القوى و هی الواسطه بین النفس و الوهم و کانت بما اشتملت علیه من تحمّل کید إبلیس و إلقاء الوسوسه بواسطتها إلى النفس سببا قویّا للهلاک السرمد و العذاب المؤبّد لا جرم کان أشبه ما یشبه به الحیّه لما بینهما من المناسبه فحسن إطلاق لفظ الحیّه علیها.

قوله نفاسه علیه ترشیح للاستعاره لأنّه لمّا کان جذب الوهم للنفس إلى الجنّه السافله مانعا لها من الکرامه بدار المقامه و مستنزلا عن درجه مرافقه الملاء الأعلى، و کان ذلک أعظم ما تنفس به کما قال تعالى «وَ فِی ذلِکَ فَلْیَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ»«» و عرفت أنّ ذلک الجذب عن صوره معاداه کما سبق و کان من لوازم المعاده النفاسه على العدوّ بکلّ ما یعدّ کمالا لا جرم حسن إطلاق النفاسه هاهنا ترشیحا لاستعاره العداوه، و النصب على المفعول له.

قوله فباع الیقین بشکّه و العزیمه بوهنه أی لمّا حصلت الوسوسه و الاغترار لآدم فانقاد لها کان قد بدّل ما تیقّنه من أنّ شجره الخلد و الملک الّذی لا یبلى هو نور الحقّ و البقاء فی جنّته و دوام مطالعه کبریائه بالشکّ فیه بواسطه وسوسه إبلیس، و ذلک أنّ الامور الموعوده من متاع الآخره و ما أعدّه اللّه لعباده الصالحین امور خفیت حقائقها على أکثر البصائر البشریّه، و إنّما الغایه فی تشویقهم إلیها أن یمثّل لهم بما هو مشاهد لهم من‏ اللذّات البدنیّه الحاضره فترى کثیرا منهم لا یخطر بباله أن یکون فی الجنّه أمر زائد على هذه اللذّات فهو یجتهد فی تحصیلها إذ لا یتصوّر وراءها أکثر منها، ثمّ إن صدّق بها على سبیل الجمله تصدیقا للوعد الکریم فإنّه لا یتصوّر کثیر تفاوت بین الموعود به و الحاضر بحیث یرجّح ذلک التفاوت عنده ترک الحاضر لما وعد به بل یکون میل طبعه إلى الحاضر، و توهّم کونه أنفع و أولى به أغلب علیه، و أن تیقنّ بأصل عقله أنّ الأولى به و أنفع له و الأبقى هو متاع الآخره فتاره یطرأ على ذلک الیقین غفله عنه و نسیان له بسبب الاشتغال باللذّات الحاضره و الانهماک فیها، و ذلک معنى قوله تعالى فَأَخْرَجَ، و تاره لا تحصل الغفله الکلّیّه بل یکون الوهم المذکور قویّا فیعارض ذلک الیقین بحیث یوجب فی مقابلته شبهه و شکّا و ذلک معنى قوله علیه السّلام فباع الیقین بشکّه و لا منافاه بین قوله تعالى فَأَخْرَجَ و بین الشکّ هاهنا.

و قوله و العزیمه بوهنه أی تعوّض من العزم و التصمیم الّذی کان ینبغی له فی طاعه الحقّ سبحانه بالضعف و التعاجز عن تحمّله کما قال تعالى «وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» و إطلاق لفظ البیع هاهنا استعاره حسنه إذ کان مدار البیع على استعاضه شی‏ء بشی‏ء سواء کان المستعاض أجلّ أو أنقص، و مثله قوله تعالى «أُولئِکَ الَّذِینَ اشْتَرَوُا الضَّلالَهَ بِالْهُدى‏ فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما کانُوا مُهْتَدِینَ».

و قوله فاستبدل بالجذل وجلا و بالاغترار ندما إلى قوله و تناسل الذرّیّه

فیه تقدیم و تأخیر و تقدیره و العزیمه بوهنه فأهبطه اللّه إلى دار البلیّه و تناسل الذریّه فاستبدل بالجذل و جلا بالاغترار ندما، ثمّ أناب إلى اللّه فبسط له فی توبته و لقّاه کلمه رحمته و وعده المردّ إلى جنّته، و ذلک لأنّ الإهباط عقیب الزلّه و استبدال الجذل بالوجل بعد الإهباط من الجنّه و الإخراج منها، و قد ورد القرآن الکریم بهذا النظم فی سوره البقره و هو قوله «فَأَزَلَّهُمَا الشَّیْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا کانا فِیهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا»«» ثمّ قال عقیبه «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ» و ورد أیضا على النظم الّذی ذکره علیه السّلام فی سوره طه و ذلک قوله «وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏ ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَیْهِ وَ هَدى‏ قالَ اهْبِطا»«» فقدم الاجتباء و التوبه على الإهباط و کلاهما حسن. قالوا: و معنى الإهباط له هو إنزاله عن دار کرامته و استحقاق إفاضه نعیم الجنّه، و ذلک أنّ النفس الناطقه إذا أعرضت عن جناب الحقّ سبحانه، و التفتت إلى متابعه الشیاطین و أبناء الجنّ و موافقه إبلیس بعدت عن رحمه اللّه و تسوّد لوحها عن قبول أنوار الإلهیّه، و أمّا دار البلیّه و تناسل الذریّه فإشاره إلى الدنیا فإنّ الإنسان إذا التفت بوجهه إلیها، و أقبل بکلّیته علیها هبط من أعلى علیّین إلى أسفل سافلین، و لم یزل ممنوّا ببلاء على أثر بلاء إذ لا یقدّم فی کلّ لحظه و وقت فوت مطلوب أو فقد محبوب یطلب مالا یدرک و یجد ما لا یطلب و کفى بانقطاعه عن اللّه تعالى بالتفاته إلیها بلاء و أعظم به شقاء إذ کان سبب البعد عن رحمته و الطرد عن أبواب جنّته.

فإن قلت لم ذکر تناسل الذریّه فی معرض الإهانه لآدم مع أنّه فی الحقیقه من الامور الخیریّه المندرجه فی سلک العنایه الإلهیّه فإنّ به بقاء النوع و دوام الإفاضه. قلت: إنّه و إن کان کذلک إلّا أنّه لا نسبه له فی الحقیقه إلى الخیر الّذی کان فی الجنّه فإنّ تناسل الذریّه خیر إضافیّ عرضیّ بالنسبه إلى الکمال الّذی یحصل لأبناء النوع و ذریّته، ثمّ النسبه إن حصلت فنسبه أخصّ إلى أشرف فإنّ إنزاله و إهباطه عن استحقاق تلک المراتب السامیه و الإفاضات العالیه إلى هذه المرتبه الّتی یشارک فیها البهیمه و سائر أنواع الحشرات نقصان عظیم و خسران مبین. قوله و استبدل بالجذل و جلا و بالاغترار ندما ظاهر فإنّ المقبل بوجهه على عباده الحقّ سبحانه المستشرق لأنوار کبریائه المعرض عمّا سواه أبدا مسرور مبتهج فإذا أعرض عمّا یوجب السرور و الفرح و التفت إلى خسائس الامور بسبب شیطان قاده إلیها و زیّنها لعینه فانکشف عنه ستر اللّه و بدت سوئته للناظرین بعین العاقبه من عباد اللّه الصالحین، ثمّ أخذت بضبعه العنایه الإلهیّه و تدارکته الرحمه الربّانیّه فانتبه من رقده الغافلین فی مراقد الطبیعه فرأى السلاسل و الأغلال قد أحاطت به و شاهد الجحیم مسعرّه عن جنبتی الصراط المستقیم، و تذکّر قوله تعالى «قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِیعاً بَعْضُکُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا یَأْتِیَنَّکُمْ مِنِّی هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدایَ فَلا یَضِلُّ وَ لا یَشْقى‏ وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِکْرِی فَإِنَّ لَهُ»«» الآیات‏ فلا بدّ و أن یصیح و جلا قلقا یقلّب کفّیه حسره و ندما و جلا ممّا یلحقه من سخط اللّه نادما على ما فرّط فی جنب اللّه، و قوله ثمّ بسط اللّه فی توبته و لقّاه کلمه رحمته فالمراد الإشاره إلى أنّ الجود الإلهیّ لا بخل فیه و لا منع من جهته، و إنّما النقصان من جهه القابل و عدم استعداده فإذا استعدّت النفس لتدارک رحمه اللّه و جذبتها العنایه الإلهیّه من ورطات الهلاک الأبدی فأیّدتها بالمعونه على إبلیس و جنوده و بصّرتها بمقابح أحواله (أفعاله) و ما یدعوا إلیه، فأخذت فی مقاومته و الترصّد لدفع مکائده فذلک هو معنى إنابتها و توبتها، و أمّا کلمه رحمه اللّه الّتی لقّاها آدم فتعود إلى السوانح الإلهیّه الّتی تنسخ للعبد فتکون سببا لجذبه عن مهاوی الهلاک و توجیهه عن الجنّه السافله إلى القبله الحقیقیّه و إمداده بالملائکه حالا فحالا و رفعه فی مدارج الجلال الّتی هی درجات الجنّه، و قوله و وعده المردّ إلى جنّته فإشاره إلى وعد القضاء الإلهیّ الناطق عنه لسان الوحی الکریم «فمن اتّبع هداى فلا یضلّ و لا یشقى-  یا أیّها الّذین آمنوا توبوا إلى اللّه توبه نصوحا عسى ربّکم أن یکفّر عنکم سیّئاتکم و یدخلکم جنّات تجری من تحتها الأنهار»«» و کذلک سائر أنواع و عد التائبین فهذا ما یتعلّق بهذه القصّه من التأویل و باللّه العصمه و التوفیق.

شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی جلد اول

بازدیدها: ۱۴۴

خطبه۱ شرح ابن میثم بحرانی قسمت دوم

الفصل الثانی فی نسبه إیجاد العالم إلى قدره اللّه تعالى جملا و تفصیلا و فی کیفیّه ذلک و هو اقتصاص فی معرض المدح.

خطبه۱

أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وَ ابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً-  بِلَا رَوِیَّهٍ أَجَالَهَا وَ لَا تَجْرِبَهٍ اسْتَفَادَهَا-  وَ لَا حَرَکَهٍ أَحْدَثَهَا وَ لَا هَمَامَهِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِیهَا-  أَحَالَ الْأَشْیَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَ لَأَمَ بَیْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا-  وَ غَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَ أَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا-  عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا-  مُحِیطاً بِحُدُودِهَا وَ انْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَ أَحْنَائِهَا: ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ الْأَجْوَاءِ-  وَ شَقَّ الْأَرْجَاءِ وَ سَکَائِکَ الْهَوَاءِ-  فَأَجْرَى فِیهَا مَاءً مُتَلَاطِماً تَیَّارُهُ-  مُتَرَاکِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّیحِ الْعَاصِفَهِ-  وَ الزَّعْزَعِ الْقَاصِفَهِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ-  وَ سَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَ قَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ-  الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِیقٌ وَ الْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِیقٌ-  ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِیحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا-  وَ أَدَامَ مُرَبَّهَا وَ أَعْصَفَ مَجْرَاهَا-  وَ أَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِیقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ-  وَ إِثَارَهِ مَوْجِ الْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ-  وَ عَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ-  تَرُدُّ أَوَّلَهُ إِلَى آخِرِهِ وَ سَاجِیَهُ إِلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ-  وَ رَمَى بِالزَّبَدِ رُکَامُهُ-  فَرَفَعَهُ فِی هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَ جَوٍّ مُنْفَهِقٍ-  فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ-  جَعَلَ سُفْلَاهُنَّ مَوْجاً مَکْفُوفاً-  وَ عُلْیَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ سَمْکاً مَرْفُوعاً-  بِغَیْرِ عَمَدٍ یَدْعَمُهَا وَ لَا دِسَارٍ یَنْظِمُهَا ثُمَّ زَیَّنَهَا بِزِینَهِ الْکَوَاکِبِ وَ ضِیَاءِ الثَّوَاقِبِ-  وَ أَجْرَى فِیهَا سِرَاجاً مُسْتَطِیراً وَ قَمَراً مُنِیراً-  فِی فَلَکٍ دَائِرٍ وَ سَقْفٍ سَائِرٍ وَ رَقِیمٍ مَائِرٍ. ثُمَّ فَتَقَ مَا بَیْنَ‏ السَّمَوَاتِ الْعُلَا-  فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلَائِکَتِهِ-  مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا یَرْکَعُونَ وَ رُکُوعٌ لَا یَنْتَصِبُونَ-  وَ صَافُّونَ لَا یَتَزَایَلُونَ وَ مُسَبِّحُونَ لَا یَسْأَمُونَ-  لَا یَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُیُونِ وَ لَا سَهْوُ الْعُقُولِ-  وَ لَا فَتْرَهُ الْأَبْدَانِ وَ لَا غَفْلَهُ النِّسْیَانِ-  وَ مِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْیِهِ وَ أَلْسِنَهٌ إِلَى رُسُلِهِ-  وَ مُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَ أَمْرِهِ-  وَ مِنْهُمُ الْحَفَظَهُ لِعِبَادِهِ وَ السَّدَنَهُ لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ-  وَ مِنْهُمُ الثَّابِتَهُ فِی الْأَرَضِینَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ-  وَ الْمَارِقَهُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْیَا أَعْنَاقُهُمْ-  وَ الْخَارِجَهُ مِنَ الْأَقْطَارِ أَرْکَانُهُمْ-  وَ الْمُنَاسِبَهُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَکْتَافُهُمْ-  نَاکِسَهٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ-  مَضْرُوبَهٌ بَیْنَهُمْ وَ بَیْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّهِ-  وَ أَسْتَارُ الْقُدْرَهِ-  لَا یَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِیرِ-  وَ لَا یُجْرُونَ عَلَیْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِینَ-  وَ لَا یَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاکِنِ وَ لَا یُشِیرُونَ إِلَیْهِ بِالنَّظَائِرِ ب‏ئ

 

اللغه

ب‏ئ‏أقول: لم أجد لأهل اللغه فرقا بین الإنشاء و الابتداء و هو الإیجاد الّذی لم یسبق بمثله إلّا أنّه یمکن أن یفرق هاهنا بینهما صونا لکلامه علیه السّلام عن التکرار بأن یقال: المفهوم من الإنشاء هو الإیجاد الّذی لم یسبق غیر الموجد إلیه و المفهوم من الابتداء هو الإیجاد الّذی لم یقع من الموجد قبل، و الرویّه الفکر، و همامه النفس اهتمامها بالامور و من روى همامه نفس فالمراد تردید العزوم مأخوذ من الهمهمه و هى تردید الصوت الخفیّ، و روى أیضا همّه نفس، و الإحاله التحویل و النقل و التغییر و الانقلاب من حال إلى آخر، و روى أجال بالجیم، و روى أیضا أجلّ أی وقّت، و الملائمه الجمع، و الغرائز جمع غریزه و هى الطبیعه الّتی طبع علیها الإنسان کأنّها غرّزت فیه، و النسخ الأصل، و روى أشباحها جمع شبح و هو

الملائک مئالک بتقدیم الهمزه من الألوک و هى الرساله ثمّ قلّبت و قدّمت اللام، و قیل ملأک ثمّ ترکت همزته لکثره الاستعمال فقیل ملک فلمّا جمعوه ردّوها إلیه فقالوا ملائکه و ملائک، و السأم الملال، و السدنه جمع سادن و هو الخازن، و مرق السهم من الرمیه إذا خرج من الجانب الآخر، و القطر الناحیه، و الرکن الجانب، و تلفع بثوبه التحف به، و النظائرالشخص، و القرائن جمع قرینه و هى ما یقترن بالشی‏ء، و الأحناء جمع حنو و هی الناحیه، و الأجواء جمع جوّ و هو الفضاء الواسع، و فتقها شقّها، و الأرجاء جمع رجاء مقصور و هى الناحیه، و السکائک جمع سکاکه کذؤابه و ذوائب و هى الفضاء ما بین السماء و الأرض و کلّ مکان خال فهو هواء، و أجار أى أجرى و من روى أحار أی أدار و جمع، و تلاطم الماء تراد أمواجه و ضرب بعضها بعضا، و الزخّار مبالغه فی الزاخر و هو الممتلی، و متن کلّ شی‏ء ما صلب منه و اشتدّ، و عصف الریح شدّه جریانها، و ریح زعزع تحرّک الأشیاء بقوّه و تزعزعها، و الریح العاصفه الشدیده کأنّها لشدّتها تکسّر الأشیاء و تقصفها، و سلّطها أی جعل لها سلاطه و هى القهر، و الفتیق المنفتق و الدقیق المندفق. و الاعتقام الشدّ و العقد و اعتقم الأرض مهبّها أی جعله خالیا لا نبت به من قولهم عقمت الرحم إذا لم یقدر بها ولد، و روى بغیر تاء أی جعلها عقیمه لا تلقح شجرا و لا سحابا، و المربّ المجمع، و العصف الجری بشدّه و قوّه، و الصفق و التصفیق الضرب المترادّ المصوّت، و إناره الموج رفعه و هیّجه، و أصل البحر الماء المتّسع الغمر، و ربّما خصّص فی العرف بالمالح، و تموّج البحر اضطرابه و توجّه ما ارتفع منه حال هیجانه و حرکته، و الخض التحریک، و السقاء وعاء اللبن و الماء أیضا، و المائر المتحرّک، و العباب بالضمّ معظم الماء و عبّ أی علا و تدفّق، و الرکام الماء المتراکم، و المنفهق الواسع، و التسویه التعدیل، و المکفوف الممنوع من السقوط الجوهری، السقف اسم للسماء، و سمک البیت سقفه و السموک الارتفاع، و العمد جمع کثره لعموم البیت و عامه البیت عموده و ما یمنعه من السقوط، و الدسار کلّ شی‏ء أدخلته فی شی‏ء لشدّه کمسمار و حبل و نحوهما، و المستطیر المنتشر، و الفلک من أسماء السماء قیل مأخوذ من فلکه المغزل فی الاستداره، و الرقیم اسم للفلک أیضا و اشتقاقه من الرقم و هو الکتابه و النقش لأنّ الکواکب به تشبه الرقوم، و الأطوار الحالات المختلفه و الأنواع المتبائنه قال الکسائی: أصل   الأمثال،

 

و لنرجع إلى المعنى

فنقول:

أنشأ الخلق إنشاء و ابتدئه ابتداء

انشاء الخلق إنشاء و ابتدئه ابتداء یشیر إلى کیفیّه، إیجاد الخلق على الجمله عن قدره اللّه تعالى بعد أن ینبّه على أصل الإیجاد بقوله فطر الخلائق بقدرته و أتى بالمصدرین بعد الفعلین تأکیدا لنسبه الفعلین إلی اللّه تعالى و صدق هاتین القضیّتین ظاهر فإنّ الباری تعالى لمّا لم یکن مسبوقا بغیره لا جرم صدق الإنشاء منه، و لمّا لم یکن العالم موجودا قبل وجوده لا جرم صدق ابتداؤه له.

 

قوله بلا رویّه أجالها و لا تجربه استفادها و لا حرکه أحدثها و لا همامه نفس اضطرب فیها.

أقول: لمّا کانت هذه الکیفیّات الأربع من شرائط علوم الناس و أفعالهم الّتی لا یمکن حصولها إلّا بها أراد تنزیه اللّه سبحانه عن أن یکون إیجاده للعالم موقوفا على شی‏ء منها أمّا الرویّه و الفکر فلمّا کانت عباره عن حرکه القوّه المفکّره فی تحصیل مبادئ المطالب و الانتقال منها إلیها أو عن تلک القوّه أیضا نفسها کان ذلک فی حقّ اللّه تعالى محالا لوجهین: أحدهما أنّ القوّه المفکّره من خواصّ نوع الإنسان، الثانی أنّ فائدتها تحصیل المطالب المجهوله و الجهل على اللّه تعالى محال، و أمّا التجربه فلمّا کانت عباره عن حکم الفعل بأمر على أمر بواسطه مشاهدات متکرّره معدّه للیقین بسبب انضمامه قیاس خفیّ إلیها و هو أنّه لو کان هذا الأمر اتّفاقیّا لمّا کان دائما و لا أکثریّا کان توقّف فعل اللّه تعالى على استفاده الأحکام منها محالا لوجهین: أحدهما أنّها مرکّبه من مقتضى الحسّ و العقل، و ذلک أنّ الحسّ بعد مشاهدته وقوع الإسهال مثلا عقیب شرب الدواء مرّه و مرّه ینتزع العقل منها حکما کلیّا بأنّ ذلک الدواء مسهل، و معلوم أنّ اجتماع الحسّ و العقل من خواصّ نوع الإنسان، الثانی أنّ التجربه إنّما یفید علما لم یکن فالمحتاج إلى التجربه لاستفاده العلم بها ناقص بذاته مستکمل بها و المستکمل بالغیر محتاج إلیه فیکون ممکنا على ما مرّ و ذلک على اللّه محال، و أمّا الحرکه فقد عرفت أنّها من خواصّ الأجسام و الباری سبحانه منزّه عن الجسمیّه فیمتنع صدق المتحرّک علیه و إن صدق أنّه محرّک الکلّ لأنّ المتحرک ما قامت به الحرکه و المحرّک أعمّ من ذلک، و أمّا الهمامه أو الهمّه فلمّا کانت مأخوذه من الاهتمام، و حقیقته المیل النفسانیّ الجازم إلى فعل الشی‏ء مع التألّم و الغمّ‏ بسبب فقد کان ذلک فی حقّ اللّه تعالى محالا لوجهین: أحدهما أنّ المیل النفسانیّ من خواصّ الإنسان طلبا لجلب المنفعه و الباری سبحانه منزّه عن المیول النفسانیّه و جلب المنافع، الثانی أنّه مستلزم للتألّم المطلوب و التألّم على اللّه تعالى محال، و إذ لیس إیجاده تعالى للعالم على أحد الأنحاء المذکوره فهو إذن بمحض الاختراع و الإبداع البری‏ء من الحاجه إلى أمر من خارج ذاته المقدّسه بدیع السماوات و الأرض وَ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما یَقُولُ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ، فاعلم أنّه علیه السّلام أردف کلّا من هذه الامور بما هو کیفیّه فی وجوده فأردف الرویّه بالإحاله و التجربه بالاستفاده و الحرکه بالإحداث و الهمامه بالاضطراب لتنتفی الکیفیّه بانتفاء ما هى له عن ذاته المقدّسه و باللّه التوفیق.

 

قوله أحال الأشیاء لأوقاتها و لائم بین مختلفاتها و غرّز غرائزها و ألزمها أشباحها.

 أقول: لمّا نبّه على نسبه إیجاد العالم إلى اللّه تعالى جمله أشار بعده إلى أنّ ترتیبه و ما هو علیه من بدیع الصنع و الحکمه کان مفصّلا فی علمه و على وفق حکمته البالغه قبل إیجاده، و المراد بقوله أجال الأشیاء لأوقاتها الإشاره إلى ربط کلّ ذی وقت بوقته بحسب ما کتب فی اللوح المحفوظ بالقلم الإلهیّ بحیث لا یتأخّر متقدّم و لا یتقدّم متأخّر منها، و معنى الإجاله نقل کلّ منها إلى وقته، و تحویله من العدم و الإمکان الصرف إلى مدّته المضروبه لوجوده، و اللام فی لأوقاتها لام التعلیل أی لأجل أوقاتها إذ کلّ وقت یستحقّ بحسب قدره اللّه و علمه أن یکون فیه ما لا یکون فی غیره، و على النسخه الاخرى فمعنى تأجیلها جعل أوقاتها أجلالها لا تتقدّم علیها و لا تتأخّر عنها کما قال «وَ لِکُلِّ أُمَّهٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا یَسْتَأْخِرُونَ» و نبّه بقوله و لائم بین مختلفاتها على کمال قدره اللّه تعالى، و بیان ذلک فی صورتین: إحداهما أنّ العناصر الأربع متضادّه الکیفیّات، ثمّ إنّها إذا اجتمعت بقدره اللّه تعالى و على وفق حکمته حتّى انکسرت صوره کلّ واحد منها بالآخر و هو المسمّى بالتفاعل حصلت کیفیّه متوسّطه بین الأضداد متشابهه و هی المزاج فامتزاج اللطیف بالکثیف على ما بینهما من تضادّ الکیفیّات و غایه البعد بقدرته التامّه من أعظم الدلائل الدالّه على کمالها، الثانیه أنّ الملائمه بین الأرواح اللطیفه و النفوس المجرّده الّتی لا حاجه بها فی قوامها فی الوجود إلى مادّه أصلا و بین هذه الأبدان المظلمه الکثیفه و اختصاص کلّ نفس ببدن منها و تدبیره و استعماله فیما یعود إلیها من المصالح على النظام الأقصد و الطریق الأرشد ممّا یشهد بکمال قدرته و لطیف حکمته، و قوله و غرّز غرائزها إشاره إلى رکن القویّ الجسمانیّه النفسانیّه فیما هی قوی له و خلق کلّ ذی طبیعه على خلقه و مقتضى قواه الّتی غرّزت فیه من لوازمه و خواصّه مثلا کقوّه التعجّب و الضحک للإنسان، و قوّه الشجاعه للأسد و الجبن للأرنب، و المکر للثعلب و غیر ذلک، و عبّر عن إیجادها فیها بالغرز و هو الرکز استعاره لما یعقل من المشابهه بینها و بین العود الّذی یرکز فی الأرض من جهه المبدأ و من جهه الغایه، و ذلک أنّ اللّه سبحانه لمّا غرّز هذه الغرائز فی محالّها و اصولها و کانت الغایه من ذلک ما یحصل منها من الآثار الموافقه لمصلحه العالم أشبه ذلک غرز الإنسان العود فی الأرض لغایه أن یثمر ثمره منتفعا بها، و قوله و ألزمها أسناحها إشاره إلى أنّها لا تفارق اصولها و لا یمکن زوالها عنها لأنّ اللازم هذا شأنه، و من روی أشباحها بالشین المعجمه فالمراد أنّ ما غرّز فی الأشخاص من اللوازم و الغرائز لا تفارقها سواء کانت تلک الغرائز من لوازم الشخص کالذکاء و الفطنه بالنسبه إلى بعض الناس و البلاده و الغفله لآخر أو من لوازم المهیّات و طباعها لوجود المهیّات فی أشخاصها هذا إن قلنا إنّ الضمیر فی قوله و ألزمها عائد إلى الغرائز أمّا إن قلنا إنّه عائد إلى الأشیاء کان المراد أنّ اللّه سبحانه لمّا أجال الأشیاء لأوقاتها و لائم بین مختلفاتها و غرّز غرائزها فی علمه و قضائه ألزمها بعد کونها کلّیّه أشخاصها الجزئیّه الّتی وجدت فیها. لا یقال: إنّ لوازم المهیّات مقتضى المهیّات فکیف یمکن نسبه إلزامها لاصولها إلى قدره اللّه تعالى لأنّا نقول: المستند إلى مهیّه الملزوم لیس إلّا مهیّه لازمه، و أمّا وجوده له فبقدره اللّه تعالى فیکون معنى إلزامها لأصولها إیجادها فی اصولها تبعا لإیجاد اصولها على تقدیر وجودها.

 

قوله عالما بها قبل ابتدائها محیطا بحدودها و انتهائها عارفا بقرائنها و أحنائها.

 أقول: المنصوبات الثلاثه و هی قوله عالما و محیطا و عارفا منصوبه على الحال، و العامل فیها قوله ألزمها إعمالا للأقرب، و الأحوال الثلاثه مفسّره لمثلها عقیب الأفعال الثلاثه الأول إذ کانت صالحه لأن یکون أحوالا عنها، و المراد فی القضیّه الاولى إثبات الأفعال الأربعه له‏ حال کونه عالما بالأشیاء قبل إیجادها حاضره فی علمه بالفعل کلّیها و جزئیّها، و فی القضیّه الثانیه نسبه تلک الأفعال إلیه حال إحاطه علمه بحدودها و حقائقها الممیّزه لبعضها عن بعض و إنّ کلّا منته بحدّه واقف عنده و هو نهایته و غایته، و یحتمل أن یرید بانتهائها انتهاء کلّ ممکن إلى سببه و انتهاء الکلّ فی سلسله الحاجه إلى اللّه، و فی القضیّه الثالثه نسبه الأفعال إلى قدرته حال علمه بما یقترن بالأشیاء من لوازمها و عوارضها، و علمه بکلّ شی‏ء یقترن بشی‏ء آخر على وجه الترکیب أو المجاوره کاقتران بعض العناصر ببعض فی أحیازها الطبیعیّه على الترتیب الطبیعی، و علمه بأحنائها و جوانبها الّتی بها تنتهی و تقارن غیرها، و بیان هذه الأحکام له تعالى ببیان أنّه عالم بکلّ المعلومات من الکلّیّات و الجزئیّات و ذلک ممّا علم فی العلم الإلهیّ فإن قلت: إطلاق اسم العارف على اللّه تعالى لا یجوز لقول النبیّ صلى اللّه علیه و آله: إنّ للّه تسعه و تسعین اسما من أحصاها دخل الجنّه، و إجماع علماء النقل على أنّ هذا الاسم لیس منها قلت: الأشبه أنّ أسماء اللّه تعالى تزید على التسعه و التسعین لوجهین أحدهما قول النبیّ صلى اللّه علیه و آله أسئلک بکلّ اسم سمیّت به نفسک أو أنزلته فی کتابک أو علّمته أحدا من خلقک و استأثرت به فی علم الغیب عندک فإنّ هذا صریح فی أنّه استأثر ببعض الأسماء، الثانی أنّه صلى اللّه علیه و آله قال فی رمضان: إنّه اسم من أسماء اللّه تعالى و کذلک کان الصحابه یقولون فلان اوتى الاسم الأعظم و کان ذلک ینسب إلى بعض الأنبیاء و الأولیاء و ذلک یدلّ على أنّه خارج من التسعه و التسعین، فإذا کان کذلک کان کلّ الکلام فی قوله صلى اللّه علیه و آله إنّ للّه تسعه و تسعین اسما من أحصاها دخل الجنّه قضیّه واحده معناها الإخبار بأنّ من أسماء اللّه تعالى تسعه و تسعین من أحصاها یدخل الجنّه و یکون تخصیصها بالذکر لاختصاصها بمزید شرف لا یکون لباقی الأسماء و هی کونها مثلا جامعه لأنواع من المعانی المنبئه عن الکمال بحیث لا یکون لغیرها لا لنفی أن یکون اللّه تعالى اسم غیرها، و إذا کان کذلک جاز أن یکون العارف من تلک الأسماء. لا یقال: إنّ الاسم الأعظم غیر داخل فیها لاشتهارها و اختصاص معرفته بالأنبیاء و الأولیاء و إذا کان کذلک فکیف یصدق علیها أنّها أشرف الأسماء. لأنّا نقول: یحتمل أن یکون خارجا منها و یکون شرفها حاصلا بالنسبه إلى باقی الأسماء الّتی هى غیره و یحتمل أن یکون داخلا فیها إلّا أنّا لا نعرفه بعینه و یکون ما یختصّ به‏ النبیّ أو الولیّ إنّما هو تعیینه منها.


قوله ثمّ أنشأ سبحانه فتق الأجواء إلى قوله فسوّى منه سبع سماوات

 أقول: لمّا أشار علیه السّلام فی الفصل المتقدّم إلى نسبه خلق العالم إلى قدره اللّه تعالى على سبیل الإجمال شرع بعده فی تفصیل الخلق و کیفیّه إیجاده و الإشاره إلى مبادیه و لذلک حسن إیراد ثمّ هاهنا. و فی هذا الفصل أبحاث:

البحث الأوّل

–  اعلم أنّ خلاصه ما یفهم من هذا الفصل أنّ اللّه قدّر أحیازا و أمکنه أجرى فیها الماء الموصوف و خلق ریحا قویّه على ضبطه و حفظه حمله علیها و أمرها بضبطه، و یفهم من قوله الهواء من تحتها فتیق و الماء من فوقها دفیق أنّ تلک الأحیاز و الأمکنه تحتها و أنّها امرت بحفظه و ضبطه لتوصّله إلى تلک الأحیاز، و ربّما فهم منه أنّ تلک الأحیاز تحتها للماء و هى سطح الریح الحاوی له، و أنّ تحت تلک الریح فضاء آخرا واسعا و هی محفوظه بقدره اللّه تعالی کما ورد فی الخبر ثمّ خلق سبحانه ریحا آخرا لأجل تموّج ذلک الماء فأرسلها و عقدّ مهبّها أى أرسلها بمقدار مخصوص علی وفق الحکمه و المصلحه الّتی أرادها بإجرائها و لم یرسلها مطلقا، و من روى بالتاء فالمراد أنّه أخلى مهبّها عن العوائق أو أنّه أرسلها بحیث لا یعرف مهبّها و أدام حرکتها و ملازمتها لتحریک الماء و أعصف جریانها و أبعد مبتداهما ثمّ سلّطها على تموّج ذلک الماء فلمّا عبّ عبابه و قذف بالزبد رفع تعالى ذلک الزبد فی الفضاء و کوّن منه السماوات العلى.

البحث الثانی

أنّ هذه الإشاره وردت فی القرآن الکریم

فإنّه اشیر فیه إلى أنّ السماوات تکوّنت من الدخان کقوله تعالى «ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِیَ دُخانٌ» و المراد بخار الماء کذلک وردت فی أقوال کثیره:«» ما روی عن الباقر محمّد بن علی علیهما السلام قال: لمّا أراد اللّه سبحانه و تعالى أن یخلق السماء أمر الریاح فضربن البحر حتّى أزبد فخرج من ذلک الموج و الزبد دخان ساطع من وسطه من غیر نار فخلق اللّه منه السماء (ب) ما نقل أنّه جاء فی السفر الأوّل من التوریه أنّ مبدء الخلق جوهر خلقه اللّه ثمّ نظر إلیه نظر الهیبه فذابت أجزاؤه فصارت ماء فثار من الماء بخار کالدخان فخلق منه السماوات و ظهر على وجه الماء زبد البحر فخلق منه الأرض ثمّ أرسلها بالجبال و فی روایه اخرى فخلق منه أرض مکّهثمّ بسط الأرض من تحت الکعبه و لذلک تسمّى مکه امّ القرى (ج) نقل عن کعب ما یقرب من ذلک قال إنّ اللّه تعالى خلق یاقوته خضراء ثمّ نظر إلیها بالهیبه فصارت ماء یرتعد ثمّ خلق الریح فجعل الماء على متنها ثمّ وضع العرش على الماء کما قال تعالى «وَ کانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» (د) ما نقل عن تالیس الملطی و کان من مشاهیر الحکماء القدماء فإنّه نقل عنه بعد أن وحّد الصانع الأوّل للعالم و تنزّهه أنّه قال: لکنّه أبدع العنصر الّذی فیه صور الموجودات و المعلومات کلّها و سمّاه المبدع الأوّل، ثمّ نقل عنه أنّ ذلک العنصر هو الماء قال: و منه أنواع الجوهر کلّها من السماء و الأرض و ما بینهما و هو علّه کلّ مبدع و علّه کلّ مرکّب من العنصر الجسمانیّ فذکر أن من جمود الماء تکوّنت الأرض و من انحلاله تکوّن الهواء و من صفوته تکوّنت النار و من الدخان و الأبخره تکوّنت السماء، و قیل: إنّه أخذ ذلک من التوراه (ه) ما وجدته فی کتاب بلینوس الحکیم الّذی سمّاه الجامع لعلل الأشیاء قریبا من هذه الإشاره و ذلک أنّه قال: إنّ الخالق تبارک و تعالی کان قبل الخلق و أراد أن یخلق الخلق فقال: لیکن کذا و کذا فکان ما أراد بکلمته فأوّل الحدث کلمه اللّه المطاعه الّتی کانت بها الحرکه ثمّ قال: بعده إنّ أوّل ما حدث بعد کلام اللّه تعالى الفعل فدلّ بالفعل على الحرکه و دلّ بالحرکه على الحراره ثمّ لمّا نقصت‏  الحراره جاء السکون عند فنائها فدلّ بالسکون على البرد، ثمّ ذکر بعد ذلک أنّ طبائع العناصر الأربعه إنّما کانت من هاتین القوّتین أعنى الحرّ و البرد قال: و ذلک أنّ الحراره حدث منها اللین و من البروده أ لیس فکانت أربع قوى مفردات فامتزج بعضها ببعض فحدث من امتزاجها الطبائع الأربع و کانت هذه الکیفیّات قائمه بأنفسها غیر مرکّبه فمن امتزاج الحراره و الیبس حصلت النار و من الرطوبه و البروده حدث الماء و من الحراره و الرطوبه حدث الهواء و من امتزاج البرد و الیبس حصلت الأرض ثمّ قال: إنّ الحراره لمّا حرّکت طبیعه الماء و الأرض تحرّک الماء للطفه عن ثقل الأرض و أثقلت ما أصابه من الأرض فصار بخارا لطیفا هوائیّا رقیقا روحانیّا و هو أوّل دخان طلع من أسفل الماء و امتزج بالهواء فسما إلی العلو لخفّته و لطافته و بلغ الغایه فی صعوده على قدر قوّته و نفرته من الحراره فکان منه الفلک الأعلى و هو فلک زحل، ثمّ حرّکت النار الماء أیضا فطلع منه دخان هو أقلّ لطفا ممّا صعد

أوّلا و أضعف فلمّا صار بخارا سما العلوّ بجوهره و الطاقته و لم یبلغ فلک زحل لعلّه لطافته عمّا قبله فکان منه الفلک الثانی و هو فلک المشتری و هکذا بیّن فی طلوع الدخان مرّه مرّه و تکون الأفلاک الخمسه الباقیه عنه. فهذه الإشارات کلّها متطابقه على أنّ الماء هو الأصل الّذی تکوّنت عنه السماوات و الأرض و ذلک مطابق لکلامه علیه السّلام.

 

البحث الثالث

قوله و أدام مربّها

قال قطب الدین الراوندی: أی أدام جمع الریح للماء و تسویتها له. قلت: تقریر ذلک أنّ الماء لمّا کان مقرّ الریح الّذی انتهت إلیه و عملت فی تحریکه کان ذلک هو مربَّها أی الموضع الّذی لزمته و أقامت به، فقوله و أدام مربّها أی أدام حرکه الماء و اضطرابه، و محتضه و هو محلّ إربابها و یحتمل أن یکون قد استعمل اسم الموضع استعمال المصدر، و التقدیر أدام إربابها أی ملازمتها لتحریک الماء و أیضا فیحتمل أن یکون قد شبّهها فی کونها سببا للآثار الخیریّه و فی کثرتها و قوّتها بالدیمه فکان محلّها و مقرّها الّذی تصل إلیه و تقیم بها قد أدامه اللّه أى سقاه اللّه دیمه، و قوله و أبعد منشأها قال: أی أبعد ارتفاعها قلت: المنشأ محلّ النشو و هو الموضع الّذی أنشأها منه فلا یفهم منه الارتفاع اللهمّ إلّا على تقدیر استعماله لموضع الإنشاء استعمال المصدر أی بلغ بإنشائها غایه بعیده، و الأقرب أنّه یشیر إلى أنّها نشأت من مبدء بعید و لا یمکن الوقوف على أوّله و هو قدره الحقّ سبحانه وجوده، و قوله و أمرها. قال-  رحمه اللّه- : أمر المؤکلّین بها من الملائکه بضرب الماء بعضه بعضا و تحریکه کمحض اللبن للزبد و أطلق الأمر علیها مجازا لأنّ الحکیم لا یأمر الجماد. قلت: بل حمله على أمر الریح أولى لأنّ فی التقدیر الّذی ذکره یکون التجوّز فی لفظ الأمر لعدم القول المخصوص هناک فیحمل على قهر ملائکتها و فی نسبته الى الریح أیضا مجاز إذا ارید ملائکتها أمّا إذا حملناه على ظاهره کان التجوّز فی لفظ الأمر دون النسبه فکان أولى، و قوله مخض السقاء و عصفها بالفضاء أی مثل مخض السقاء و مثل عصفها فحذف المضاف الّذی هو صفه المصدر و أقام المضاف إلیه مقامه فلذلک نصبه نصب المصادر، و اعلم أنّ اللام فی قوله بتصفیق الماء للمعهود السابق فی قوله ماء متلاطما لأنّ المائین واحد، و مثل هذا التکرار جاز فی الکلام الفصیح کقوله تعالى «کَما أَرْسَلْنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى‏ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ»

 

فإن قلت: إنّ الأجواء و الأرجاء و سکائک‏ الهواء امور عدمیّه فکیف یصحّ نسبتها إلى الإنشاء عن القدره. قلت: إنّ هذه الأشیاء عباره عن الخلاء و الأحیاز، و الخلاف فی أنّ الخلاء و الحیّز و المکان هل هی امور وجودیّه أو عدمیّه مشهور فإن کانت وجودیّه کانت نسبتها إلى القدره ظاهره، و یکون معنى فتقها و شقّها و نسبتها إلى القدره تقدیرها و جعلها أحیازا للماء و مقرّا له لأنّه لمّا کان تمییزها عن مطلق الهواء و الخلاء بإیحاد اللّه فیها الماء صار تعیّنها له بسبب قدرته تعالى فیصحّ نسبتها إلى إنشائه فکأنّه سبحانه شقّها و فتقها بحصول الجسم فیها، روی أنّ زراره و هشاما اختلفا فی الهواء أهو مخلوق أم لا فرفع بعض موالی الصادق جعفر بن محمّد علیهما السلام إلیه ذلک و قال: إنّی متحیّر و أرى أصحابنا یختلفون فیه فقال علیه السّلام: لیس هذا بخلاف یؤدّی إلى الکفر و الضلال، و اعلم أنّه علیه السّلام إنّما أعرض عن بیان ذلک لأنّ أولیاء اللّه الموکّلین بإیضاح سبیله و تثبیت خلقه على صراط المستقیم لا یلتفتون بالذات إلّا إلى أحد أمرین، أحدهما ما یؤدّی إلى الهدى أداء ظاهرا واضحا، و الثانی ما یصرف عن الضلال و یردّ إلى سواء السبیل، و بیان أنّ الهواء مخلوق أو غیر مخلوق لا یفید کثیر فائده فی أمر المعاد فلا یکون الجهل به ممّا یضرّ فی ذلک فکان ترک بیانه و الاشتغال بما هو أهمّ منه أولى.

 

البحث الرابع

أنّ القرآن الکریم نطق بأنّ السماء تکوّنت من الدخان

و کلامه علیه السّلام ناطق بأنّها تکوّنت من الزبد و ما ورد فی الخبر أنّ ذلک الزبد هو الّذی تکوّنت منه الأرض فلا بدّ من بیان وجه الجمع بین هذه الإشارات. فنقول: وجه الجمع بین کلامه علیه السّلام و بین لفظ القرآن الکریم ما ذکره الباقر علیه السّلام و هو قوله فیخرج من ذلک الموج و الزبد دخان ساطع من وسطه من غیر نار فخلق منه السماء و لا شکّ أنّ القرآن الکریم لا یرید بلفظ الدخان حقیقته لأنّ ذلک إنّما یکون عن النار و اتّفق المفسّرون على أنّ هذا الدخان لم یکن عن نار بل عن تنفّس الماء و تبخیره بسبب تموّجه، فهو إذن استعاره للبخار الصاعد من الماء و إذا کان کذلک فنقول: إنّ کلامه علیه السّلام مطابق للفظ القرآن الکریم و ذلک أنّ الزبد بخار یتصاعد على وجه الماء عن حراره حرکته إلّا أنّه ما دامت الکثافه غالبه علیه و هو باق على وجه الماء لم ینفصل فإنّه یخصّ باسم الزبد و ما لطف و غلبت علیه الأجزاء الهوائیّه فانفصل خصّ باسم البخار، و إذا کان الزبد بخارا و البخار هو المراد بالدخان‏

 

فی القرآن الکریم کان مقصده و مقصد القرآن واحد فکان البخار المنفصل هو الّذی تکوّنت عنه السماوات و الّذی لم ینفصل هو الّذی تکوّنت عنه الأرض و هو الزبد، و أمّا وجه المشابهه بین الدخان و البخار الّذی صحّت لأجله استعاره لفظه فهو أمران: أحدهما حسّی و هو الصوره المشاهده من الدخان و البخار حتّى لا یکاد یفرق بینهما فی الحسّ البصری، و الثانی معنویّ و هو کون البخار أجزاء مائیّه خالطت الهواء بسبب لطافتها عن حراره الحرکه کما أنّ الدخان کذلک و لکن عن حراره النار فإنّ الدخان أیضا أجزاء مائیّه انفصلت من جرم المحترق بسبب لطافتها عن حرّ النار فکان الاختلاف بینهما لیس إلّا بالسبب فلذلک صحّ استعاره اسم أحدهما للآخر و باللّه التوفیق.

البحث الخامس

قال المتکلّمون: إنّ هذه الظواهر من القرآن و کلام علیّ علیه السّلام لمّا دلّت على ما دلّت علیه من کون الماء أصلا تکوّنت عنه السماوات و الأرض و غیر ذلک و ثبت أنّ الترتیب المذکور فی المخلوقات أمر ممکن فی نفسه و ثبت أنّ الباری تعالى فاعل مختار قادر على جمیع الممکنات ثمّ لم یقم عندنا دلیل عقلیّ یمنع من أجزاء هذه الظواهر على ما دلّت علیه بظاهرها وجب علینا القول بمقتضی تلک الظواهر و لا حاجه بنا إلى التأویل.

لا یقال: إنّ جمهور المتکلّمین یتّفقون على إثبات الجواهر الفرد و أنّ الأجسام مرکّبه عنه فبعضهم یقول: إنّ الجوهر کانت ثابته فی عدمها و الفاعل المختار کساها صفه التألیف و الوجود، و بعضهم و إن منع ثبوتها فی العدم إلّا أنّه یقول: إنّ اللّه تعالى یوجد أوّلا تلک الجواهر ثمّ یؤلّف بینها فیوجد منها الأجسام فکیف یقال إنّ السماوات و الأرض تکوّنت من الماء لأنّا نقول: هذا ظاهر لأنّه یجوز أن یخلق اللّه تعالى أوّل الأجسام من تلک الجواهر ثمّ تکوّن باقی الأجسام عن الأجسام الأول، و أمّا الحکماء فلمّا لم یکن الترتیب الّذی اقتضته هذه الظواهر فی تکوین الأجسام موافقا لمقتضی أدلّتهم لتأخّر وجود العناصر عندهم عن وجود السماوات لا جرم عدل بعضهم إلى تأویلها توفیقا بینها و بین مقتضی أدلّتهم و ذکروا من التأویل وجهین:

الوجه الأوّل

–  قالوا: العالم عالمان عالم یسمّى عالم الأمر و هو عالم الملائکه الروحانیّه و المجرّدات، و عالم یسمّى عالم الخلق و هو عالم الجسمانیّه و على ذلک حملوا قوله تعالى‏

«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ» ثمّ قالوا: ما من موجود فی عالم الجسمانیّه إلّا و له نسبه إلى عالم الروحانیّه و هو مثال له بوجه ما و لو لا ذلک لأنسدّ طریق الترقّی إلى العالم الروحانیّ و تعذّر السفر إلى الحضره الإلهیّه، ثمّ کان من بحثهم أن بیّنوا أنّ قدره اللّه سبحانه ترجع إلى کون ذاته عامله بالکلّ علما هو مبدء الکلّ مبدئیّه بالذات غیر مأخوذه عن شی‏ء و لا متوقّفه على وجود شی‏ء، ثمّ لمّا دلّ دلیلهم على أنّ رتبه صدور عالم الأمر أعلى فی الوجود و أسبق نسبه إلى قدره المبدع الأوّل من عالم الخلق إذ کان صدور عالم الخلق إنّما هو بواسطه عالم الأمر کان اعتبار إیجاد عالم الأمر عن القدره أمرا أوّلا و اعتبار إیجاد عالم الخلق عنها أمرا ثانیا متأخّرا عنه فعند ذلک قالوا: إنّ الّذی أشار إلیه علیه السّلام هاهنا موافق لما أصّلناه و متناسب له، و ذلک أنّه أشار بالأجواء و الأرجاء و سکائک الهواء إلى سلسله وجود الملائکه المسمّاه بالعقول الفعّاله على مراتبها متنازله، و بإنشائها إلى إیجادها، و و بفتقها و شقّها إلى وجودها، و بالماء المتلاطم المتراکم إلى الکمالات الّتی وجبت عنه سبحانه و بإجرائها فیها إلى افاضته على کلّ واحد منها ما استحقّه بواسطه ما قبله، و بالریح العاصف إلى الأمر الأوّل الّذی أشرنا إلیه عن القدره، و أمّا وجه المناسبه بین هذه الامور و بین ما ذکره فأمّا فی التعبیر عن العقول بالأرجاء و الأجواء و السکائک فمن جهه أنّها قابله للفیض و الکمالات عن مبدئها الأوّل کما أنّ الأرجاء و الأجواء و سکائک الهواء قابله للماء عمّا یخرج عنه من سحاب أو ینبوع، و أمّا فی تشبیه الفیض بالماء فلأنّه لمّا لم یکن بحیث یتوقّف إلّا على تمام القابل فحیث وجد سال بطبعه إلیه کذلک الفیض الإلهیّ لا یتوقّف صدوره عن واهبه إلّا على تمام القابل لکون الفاعل تامّ الفاعلیّه فی ذاته، و لأنّ الماء لمّا کان به قوام کلّ حیّ جسمانیّ فی عالم الکون کذلک الفیض الإلهیّ هو مبدء قوام کلّ موجود قالوا: و مثل هذا التشبیه جاء فی القرآن الکریم قال جمهور المفسّرین و منهم ابن عباس-  رضى اللّه عنه-  فی قوله تعالى «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِیَهٌ بِقَدَرِها»«»: إنّ المراد بالماء هو العلم، و بالأودیه قلوب العباد، و بإنزاله إفاضته على القلوب، و بقوله فَسالَتْ أَوْدِیَهٌ بِقَدَرِها أنّ کلّ قلب منها یصل إلیه مقدار ما یستحقّه و یقبله.

 

قالوا: و ذلک أنّ اللّه سبحانه أنزل من سماء الکبریاء و الجلاله   و الإحسان ماء بیان القرآن و علومه على قلوب العباد لأنّ القلوب یستقرّ فیها أنوار علوم القرآن کما أنّ الأودیه یستّقر فیها المیاه النازله من السماء و کما أنّ کلّ واد فإنّما یحصل فیه من میاه الأمطار ما یلیق بسعته و ضیقه فکذلک هاهنا کلّ قلب إنّما یحصل فیه أنوار علم القرآن ما یلیق بذلک القلب من طهارته و خبثه و قوّه فهمه و بصره و تمام التشبیه فی الآیه مذکور فی التفاسیر، و أمّا تشییه الأمر الأوّل بالریح العاصفه فلأنّ وقوعه لمّا کان دفعه غیر منسوب إلى زمان یتوقّف علیه کان أنسب ما یشبه به من الأجسام فی السرعه و النفوذ و هو الریح العاصف لکونها أسرع الأجسام حرکه و لذلک أکّدها بوصف العصف تقریرا للسرعه التامّه و ما أمرنا إلّا واحده کلمح بالبصر و بوصف الزعزعه و القصف تحقیقا للقوّه العالیه و الشدّه الشدیده، و أمّا أمره لها بردّه و تسلیطها على شدّه فلأنّه لمّا صوّرها بصوره الریح ساغ أن یقال: إنّه أمرها و هو عباره عن نسبه ذلک الأمر إلى ذاته تعالى النسبه الّتی تحدثها عقولنا الضعیفه، و فائده الردّ و الشدّ هاهنا ضبط أمره سبحانه على وفق حکمته الکمالات الفائضه عنه على کلّ مورد مورد بحسب نوعه المستلزم لردّه عمّن لیس له ذلک الکمال المعیّن، و أمّا قرنها إلى حدّه فإشاره إلى إحاطه أمره سبحانه بما لتلک القوابل من الکمالات الفائضه و اشتماله علیها، و قوله الهواء من تحتها فتیق إشاره إلى قبول القوابل المذکوره، و الماء من فوقها دفیق إشاره إلى ما یحمله أمر اللّه من الفیض المذکور و یلقیه على تلک القوابل و کلّ ذلک بترتیب عقلیّ لأزمان تلحقه فیعقل فیه التراخی، و أمّا الریح الثانیه فأشار بها علیه السّلام إلى الأمر الثانی و وصفها باعتقام مهبّها إشاره إلى عقد ذلک الأمر و إیقاعه على وفق الحکمه الإلهیّه و إلى عدم مانع لجریان ذلک الأمر، و بإدامه مربّها إلى إفاضه مقارّ ذلک الأمر فکأنّه شبّه الفیض الصادر بهذا الأمر على هیولى الأجسام الفلکیّه بالدیمه الهاطله على الأماکن الّتی یجتمع بها و یقیم، أو أراد أنّ المحالّ القابله لذلک الأمر المستلزمه له ذاتیّه دائمه، و أشار بعصف مجراها إلى سرعه ذلک الأمر کما وصف به الریح الاولى، و ببعد منشأها إلى عدم أوّلیّه مبدؤه، و بأمره لهذه الریح إلى نسبه ذلک الأمر إلى ذاته کما مرّ، و بتصفیق الماء الزخّار و إثاره أمواج البحار إلى نسبه فیضان صور الأفلاک و کمالاتها إلى أمره سبحانه

بواسطه تلک الکمالات الفعلیّه للملائکه و أنّها غیر مستقلّه بإیجاد شی‏ء بل على شرائط بعضها لبعض و لغیرها، و بالبخار إلى تلک الملائکه و بمخضها له مخض السقاء و عصفها به کعصفها بالفضاء و تردید بعضه على بعض و إلى قوّه أمر اللّه علیها و تصریفها على حسب علمه بنظام الکلّ و تقدیر ما لکلّ فلک من الکمالات فی ذات کلّ مبدء من تلک المبادی‏ء، و قوله حتّى عبّ عبابه إشاره إلى بلوغ کمالات تلک الملائکه الحاصله لها بالفعل عن أمر اللّه إلى رتبه أن یعطى بواسطتها الفیض لغیرها، و کذلک قوله ورمى بالزبد رکامه إشاره إلى إعطاء صور الأفلاک و کمالاتها بواسطتها، و لمّا کانت صور الأفلاک محتاجه فی قیامها فی الوجود إلى الهیولى کانت نسبتها إلى الملائکه المجرّده نسبه أخسّ إلى أشرف فبالحریّ أن اطلق علیها اسم الزبد و لأنّ هذه الصور حاصله من تلک الکمالات العقلیّه و فائضه عنها کما أنّ الزبد منفصل عن الماء و مکوّن عنه فتشابها، و أمّا رفعه فی أهواء منفتق و جوّ منفهق فإشاره إلى إلحاق صور الأفلاک بموادّها المستعدّه أو إلى تخصیص وجودات الأفلاک بأحیازها و رفعها إلیها، و قوله فسوّى عنه سبع سماوات إشاره إلى کمال الأفلاک بما هى علیه من الوضع و التعدیل و الترتیب، و أمّا تخصیصه بالسبع فلأنّ الفلکین الباقیین فی الشریعه معروفان باسمین آخرین و هما العرش و الکرسیّ، ثمّ قالوا: و إلى هذا أشار الحکماء السابقون أیضا فإنّ مرادتا لیس الملطی بالعنصر الأوّل هو المبدع الأوّل و کونه هو الماء لأنّ المبدع الأوّل واسطه فی باقی الموجودات و فیه صورها و عنه تفاض کمالاتها کما أنّ بالماء قوام کلّ حیّ عنصریّ و بواسطته تکوّن و کذلک سرّ ما جاء فی التوراه فإنّ المراد بالجوهر المخلوق للّه أوّلا هو المبدع الأوّل و کونه تعالى نظر إلیه نظر الهیبه، و ذوبان أجزائه إشاره إلى صدور الفیض عنه بأمر اللّه سبحانه و قدرته، و الزبد الّذی تکوّنت منه الأرض و الدخان الّذی تکوّنت منه السماوات إشاره إلى کمالات السماوات و الأرض و صورها الصادره عن کمالات عللها صدور البخار و الزبد عن الماء و کلّ هذا تجوّزات و استعارات یلاحظ فی تفاوت حسنها قرب المناسبه و بعدها.

 

الوجه الثانی 

 

–  قالوا: یحتمل أن یکون مراده بالریح الأولی هو العقل الأوّل فإنّه الحامل للفیض الإلهىّ إلى ما بعده و هو المحیط بصور الموجودات، و یؤیّد ذلک قوله الهواء من تحتها فتیق و الماء من فوقها دفیق فإنّ الهواء إشاره إلى القوابل بعده و بواسطته، و بالماء إشاره إلى الفیض الصادر عن الأوّل سبحانه فإنّ التدفّق لمّا کان مستلزما لسرعه حرکه الماء و جریانه عبر به عن الفیض الّذی لا توقّف فیه، و الریح الثانیه عن العقل الثانی فإنّه هو الواسطه فی إفاضه أنوار اللّه سبحانه على ما بعده من العقول الّتی بواسطتها تصوّر السماوات السبع، و وصف الریحین بالعصف و القصف إشاره إلى ما یخصّ هذین المبدئین من القدره، و أمره للریح الثانیه بتصفیق الماء الزخّار و إثاره موج البحار إشاره إلى تحریک العقل الثانی للعقول الّتی بعده إلى إفاضه کمالات الأفلاک بأمر اللّه تعالى و باقی التأویل کما فی التأویل الأوّل.

 

قوله جعل سفلاهنّ مفوفا إلى قوله و سقف سائر و رقیم مائر.

أقول: هاهنا أبحاث.

البحث الأوّل-  هذا الکلام یجری مجرى الشرح و التفسیر لقوله فسوّى

لانّ التسویه عباره عن التعدیل و الوضع و الهیئه الّتی علیها السماوات إنّما فیهنّ، و الغرض بهذا التفصیل تنبیه الأذهان الغافله عن حکمه الصانع سبحانه فی ملکوت السماوات و بدائع صنعه و ضروب نعمه لیتذکّروا نعمه ربّهم فیواظبوا على عبادته و حمده على تمام ذلک الإحسان کما قال تعالى «لِتَسْتَوُوا عَلى‏ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْکُرُوا نِعْمَهَ رَبِّکُمْ إِذَا اسْتَوَیْتُمْ عَلَیْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِی سَخَّرَ لَنا هذا وَ»«» فإنّ کلّ هذه نعم على العباد و هى إن کان فیها ما یبعد عن الأذهان الضعیفه کونه نعمه على العباد کحرکات السماوات مثلا فإنّی أحسب أنّ کثیرا من الغافلین یقولون: و ما فائده حرکه السماء فی حقّنا لکنّه إذا انتبهت أذهانهم لذلک علمت أنّه لو لا تلک الحرکه لم یحصل شی‏ء من المرکّبات فی هذا العالم أصلا فلم یکن العبد فی نفسه فضلا عمّا یجرى علیه من النعم الخارجه عنه إلّا أنّ تلک الحرکه قد تستلزم نعمه هى أقرب إلى العبد من غیرها کالاستضاءه بنور الکواکب و الاهتداء بها فی ظلمات البرّ و البحر و إعدادها الأبدان للصحّه و نحو ذلک، و قد یستلزم نعما اخرى إلى أن یتّصل بالعبد کإعدادها الأرض مثلا لحصول المرکّبات الّتی منها قوام حیاه العبد، و اعلم أنّ اللّه‏ سبحانه ذکر أمر السماوات فی کتابه فی مواضع کثیره، و لا شکّ أن إکثاره من ذکرها دلیل عظم شأنها و على أنّ له سبحانه فیها أسرار لا تصل إلیها عقول البشر إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ قوله علیه السّلام: و علیاهنّ سقفا محفوظا کقوله تعالى «وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً»«» و قوله تعالى «وَ حَفِظْناها مِنْ کُلِّ شَیْطانٍ رَجِیمٍ»«» و قوله «وَ حِفْظاً مِنْ کُلِّ شَیْطانٍ مارِدٍ»«» و قوله: و سمکا مرفوعا بغیر عمد تدعمها و لا دسار ینتظمها کقوله تعالى «خَلَقَ السَّماواتِ بِغَیْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها»«» و قوله «وَ یُمْسِکُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ»«» و قوله: ثمّ زیّنها بزینه الکواکب و ضیاء الثواقب کقوله تعالى «إِنَّا زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنْیا بِزِینَهٍ الْکَواکِبِ» و قوله: فأجرى فیها سراجا مستطیرا و قمرا منیرا کقوله «وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِیهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً»«»

البحث الثانی–  فی هذا الفصل استعارات:

الأولى قوله: جعل سفلاهنّ موجا مکفوفا. استعار لفظ الموج للسمکه لما بینهما من المشابهه فی العلوّ و الارتفاع و ما یتوهّم من اللون، و قال بعض الشارحین: أراد أنّها کانت فی الاولى موجا ثمّ عقدها و کفّها أی منعها من السقوط، و الثانیه قوله: سقفا محفوظا استعار لفظ السقف من البیت للسماء فی الأصل لما بینهما من المشابهه فی الارتفاع و الإحاطه ثمّ کثر ذلک الاستعمال حتّى صار اسما من أسماء السماء و یحتمل أن لا یکون منقولا، و أراد بقوله محفوظا أى من الشیاطین قال ابن عبّاس-  رضی اللّه عنه- : کانت الشیاطین لا تحجب عن السماوات و کانوا یدخلونها و یختبرون أخبارها فلمّا ولد عیسى علیه السّلام منعوا من ثلاث سماوات فلمّا ولد محمّد صلى اللّه علیه و آله منعوا من السماوات کلّها فما منهم أحد استرق السمع إلّا رمى بشهاب فلذلک معنى قوله تعالى «وَ حَفِظْناها مِنْ کُلِّ شَیْطانٍ رَجِیمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِینٌ» و سنشیر إلى سرّ ذلک إنشاء اللّه تعالى.

 

قوله بغیر عمد تدعمها و لا دسار ینتظمها.

أقول: لمّا کان مقتضى قدره العبد و غایتها إذا تمکّن من بناء بیت و إنشاء سقف أنّه لا بدّ له من أساطین و عمد یقوم علیها ذلک السقف و روابط تشدّ بعضه إلى بعض و کانت قدره الحقّ سبحانه و تعالى أجلّ و أعلى من الحاجه إلى أمثال ذلک أراد أن یشیر إلى عظمته سبحانه و قوّه قهره بسلب صفات المخلوقین عنه و شرائط آثارهم عن قدرته و المعنى أنّ هذه الأجرام العظیمه بقیت واقعه فی الجوّ العالی و یستحیل أن یکون وقوفها هناک لذواتها لأنّ الأجسام متساویه فی الجسمیّه فلو وجب حصول جسم فی حیّز لوجب حصول کلّ جسم فی ذلک الحیّز و لأنّ الأحیاز و الخلاء متشابهه فلا اختصاص فیه لموضوع دون آخر و لا یجوز أن یقال: إنّها معلّقه بجسم آخر و إلّا لکان الکلام فی وقوف ذلک الجسم فی الجوّ کالکلام فی الأوّل و یلزم التسلسل فلم یبق إلّا أن یقال: إنّ وقوفها بقدره الصانع الحکیم القادر المختار، و إن قلت: قوله تعالى تَرَوْنَها یفهم منه أنّ هناک عمد و لکنّها غیر مرئیّه لنا و ذلک ینافی سلبه علیه السّلام للعمد مطلقا قلت: الجواب عنه من وجوه.

أحدها أنّه یحتمل أن یکون قوله تَرَوْنَها کلاما مستأنفا و التقدیر غیر عمد و أنتم ترونها کذلک. الثانی یحتمل أن یکون فی الکلام تقدیم و تأخیر کما نقل عن الحسن البصریّ أنّه قال: التقدیر ترونها بغیر عمد. الثالث و هو الألطف ما ذکره الإمام فخر الدین-  رحمه اللّه-  فقال: إنّ العماد هو ما یعمد علیه و السماوات معتمده و قائمه على قدره اللّه تعالى فکانت هی العمد الّتی لا ترى و ذلک لا ینافی کلامه علیه السّلام الرابع و هو الأحقّ ما ذکرته و هو أنّه قد ثبت فی اصول الفقه أنّ تخصیص الشی‏ء بحکم لا یدلّ على أنّ حکم غیره بخلاف ذلک الحکم فتخصیص العمد المرئیّه للسماوات بالسلب لا یستلزم ثبوت العمد غیر المرئیّه لها. الثالثه الثواقب استعاره فی الأصل للشهب عن الأجسام الّتی یثقب جسما آخر و ینفذ فیه، و وجه المشابهه الّتی لأجلها سمّى الشهاب ثاقبا أنّه یثقب بنوره الهواء کما یثقب جسم جسما لکنّه لکثره الاستعمال فیه صار إطلاقه علیه حقیقه أو قریبا منها. الرابعه قوله: سراجا مستطیرا استعاره للشمس و وجه المشابهه أنّ‏ السراج القویّ المستطیر لمّا کان من شأنه أن یضی‏ء ما حوله و ینتشر فی جمیع نواحی البیت و یهتدی به من الظلمه کذلک الشمس مضیئه لهذا العالم و یهتدی بها المتصرّف فیه. الخامسه رقیم استعاره أصلیّه للفلک تشبیها له باللوح المرقوم فیه ثمّ کثر استعمال هذا اللفظ فی الفلک حتّى صار اسما من أسمائه.

البحث الثالث-  اعلم أنّ هذه الاستعارات تستلزم ملاحظه اخرى

و هو تشبیه هذا العالم بأسره ببیت واحد فالسماء کقبّه خضراء نصبت على الأرض و جعلت سقفا محفوظا محجوبا عن أن تصل إلیه مرده الشیاطین کما تحمى غرف البیت بالسهام و الخراب عن مرده اللصوص، ثمّ هو مع غایه علوّه و ارتفاعه غیر محمول بعمد یدعمه و لا منظوم بدسار یشدّه بل بقدره صانعه و مبدعه، ثمّ إنّ القبّه متزیّنه بالکواکب و ضیائها الّذی هو أحسن الزینه و أکملها فلو لم یحصل صور الکواکب فی الفلک لیبقى سطحا مظلما فلمّا خلق اللّه تعالى هذه الکواکب المشرقه فی سطحه لا جرم استنار و ازدان بذلک النور و الضوء کما قال ابن عبّاس فی قوله بِزِینَهٍ الْکَواکِبِ أی بضوئها و أنت إذا تأمّلت هذه الکواکب المشرقه المضیئه فی سطح الفلک وجدتها عند النظر إلیها کجواهر مرصوصه فی سطح من زمرّد على أوضاع اقتضتها الحکمه أو کما قال:

 

و کأنّ أجرام النجوم لوامعا            درر نثرن على بساط أزرق‏

 

ثمّ جعل من جملتها کوکبین هما أعظم الکواکب جرما و أشدّها إشراقا و أتمّها ضیاء مع اشتمالهما على تمام الحسن و الزینه جعل أحدهما ضیاء للنهار و الآخر ضیاء للّیل ثمّ لم یجعل ذلک السقف ساکنا بل جعله متحرّکا لیکون أثر صنعه فیه أظهر و صنع حکمته فیه أبدع و لم یجعل ذلک السقف طبقا واحدا بل طباقا أسکن فی کلّ طبق ملاء من جنوده و خواصّ ملکه الّذین ضربت بینهم و بین من دونهم حجب العزّه و أستار القدره فلا یستطیع أحد أن ینظر إلیهم فضلا عن أن یتشبّه بمالکهم و خالقهم سبحانه و تعالى عمّا یقول الظالمون علوّا کبیرا هذا هو الحکمه الظاهره الّتی یتنبّه لها من له أدنى فطنه فیحصل منها عبره شامله لأصناف الخلق بحیث إذا لاحظوا مع جزئیّ من جزئیّات آثار هذه القدره أیّ أثر کان استعظم و استحسن من أیّ ملک فرض من ملوک الدنیا لم یکن بینهما من المناسبه إلّا خیال ضعیف، فإنّ أیّ ملک فرض إذا همّ بوضع بنیان و بالغ فی تحسینه و تزریق سقوفه و ترصیعها بأنواع‏  الجواهر و تزیینه بالأوضاع المعجبه لأبناء نوعه و بذل فیه جهده و استفرغ فیه فکره لم یکن غایته إلّا أن یلحظ ممّا عمله نسبه خیالیّه بعیده إلى ظاهر هذا الصنع العجیب و الترتیب اللطیف هذا مع ما اشتمل علیه من الحکم الخفیّه و الأسرار الإلهیّه الّتی یعجز القوى البشریّه عن إدراکها و یحتاج فیها لاح منها إلى لطف قریحه و توقدّ ذهن فسبحان الّذی بیده ملکوت کلّ شی‏ء و إلیه ترجعون فانظر أیّها المستبصر بعین بصیرتک المناسبه بین بیتک الّتی تبنیه و هذا البیت العظیم و قس سراجک إلى سراجه و زینتک إلى زینته ثمّ لاحظ مع ذلک أنّه إنّما خلقه لک و لأبناء نوعک لیکون فیه و منه قوام حیاتکم و وجودکم و لتستدلّوا بملکوت ما خلق على کمال قدرته و حکمته لترجعوا بذلک إلى حضرته طاهرین من الرجس متشبّهین بسکّان سقف هذا البیت و غرفه لا أنّ له حاجه إلیه فإنّه الغنیّ المطلق الّذی لا حاجه به إلى شی‏ء، و العجب من الإنسان أنّه ربما رأى خطّا حسنا أو تزریقا على حائط فلا یزال یتعجّب من حسنه و حذق صانعه ثمّ یرى هذا الصنع العجیب و الإبداع اللطیف فلا یدهشه عظمه صانعه و قدرته و لا یحیّره جلال مبدعه و حکمته.

البحث الرابع

الشرع و البرهان قد تطابقا على أنّ هاهنا تسع أفلاک بعضها فوق بعض

فمنها سبع سماوات ثمّ الکرسیّ و العرش بعباره الناموس الإلهی ثمّ أکثرها یشتمل على الکواکب و هی أجرام نورانیّه مستدیره مصمته مرکوزه فی أجرام الأفلاک فأوّل الأفلاک ممّا یلینا لیس فیه من الکواکب إلّا القمر، و لیس فی الثانی إلّا عطارد، و لیس فی الثالث إلّا الزهره، و لیس فی الرابع إلّا الشمس، و لیس فی الخامس إلّا المریّخ، و لیس فی السادس إلّا المشتری، و لیس فی السابع إلّا زحل، و هذه هی المسمّاه بالکواکب السبعه السیاره و ما سواها من الکواکب فیشتمل علیها الفلک الثامن، و أمّا التاسع فخال عن الکواکب و إن کان فلیس بمدرک لنا، ثمّ قد دلّ البرهان على أنّ الأفلاک هی المتحرّکه بما فیها من الکواکب و أنّ تلک الحرکه دوریّه و کان کلامه علیه السّلام مطابقا لذلک حیث قال: فی فلک دائر و سقف سائر و رقیم مائر. إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ اللّه سبحانه خلق الموجودات کلّها على أتمّ أنحاء الوجود و أکمله فجمیع الموجودات من الأفلاک و مقادیرها و أعدادها و حرکاتها المختلفه و هیئاتها و هیئه الأرض و ما علیها من حیوان و نبات و معدن و نحوه إنّما وجد على الوجه الّذی وجد علیه لحصول النظام الکلّی للعالم و لو کان بخلاف ما علیه لکان شرّا، و ناقصا فخلق الأفلاک و الکواکب و ما هی علیه من الحرکات و الأوضاع و جعلها أسبابا لحدوث الحوادث فی عالم الکون و الفساد بواسطه کیفیّات تحدثها فیها من حراره و بروده و رطوبه و یبوسه یوجب ذلک امتزاج بعضها ببعض امتزاجات مختلفه و مستعدّه لقبول صور مختلفه من حیوان و نبات و معدن، و أظهر الکواکب تأثیرا هو الشمس و القمر فإنّ بحرکه الشمس الیومیّه یحصل النهار و اللیل فالنهار هو زمان طلوعها یکون زمان التکسب و الطلب للمعاش الّذی به یحصل قوام الحیاه و یکون سببا إلى السعاده الاخرویّه ثمّ إنّها فی مدّه حرکتها الیومیّه لا تزال تدور فتغشى جهه بعد جهه حتّى تنتهى إلى المغرب و قد أخذت کلّ جهه من الجهات حظّا من الإشراق و الاستعداد به، و أمّا اللیل و هو زمان غروبها فإنّ فیه هدوء الخلق و قرارهم الّذی به تحصل الراحه و انبعات القوّه الهاضمه و تنفیذ الغذاء إلى الأعضاء کما قال تعالى «هُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ اللَّیْلَ لِتَسْکُنُوا فِیهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً»«» «وَ جَعَلْنَا اللَّیْلَ لِباساً وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً»«» ثمّ کانت الشمس من جهه ضوئها کسراج یرتفع لأهل کلّ بیت بمقدار حاجتهم ثمّ یرفع عنهم فصار النور و الظلمه على تضادّها متظاهرین على ما فیه مصلحه هذا العالم، و أمّا بحسب حرکاتها الجنوبیّه و الشمالیّه فقد جعل سبحانه ذلک سببا لإقامه الفصول الأربعه ففی الشتاء تغور الحراره و النبات فیتولّد منها موادّ البحار و یکثر السحاب و الأمطار و یقوى أبدان الحیوانات بسبب احتقان الحراره الغریزیّه فی البواطن، و فی الربیع تتحرّک الطبائع و تظهر الموادّ المتولدّه فی الشتاء فیطلع النبات و ینوّر الشجر و یهیجّ الحیوان للفساد، و فی الصیف یحتدم الهواء فینضج الثمار و تنحلّ فضول الأبدان و یجفّ وجه الأرض و یتهیّی‏ء للبناء و العماره، و فی الحزیف یظهر الیبس و البرد فینتقل فیه الأبدان على التدریج إلى الشتاء فإنّه لو وقع الانتقال دفعه لهلکت و فسدت، و أمّا القمر فإنّ بحرکته تحصل الشهور و الأعوام کما قال سبحانه «لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِینَ وَ الْحِسابَ»«» فیتمکّن العبد بالحساب من ترتیب معاشه بالزراعه و الحراثه و إعداد مهمّات الشتاء و الصیف، و باختلاف حاله فی زیادته و نقصانه یختلف أحوال الرطوبات فی هذا العالم، فلو أنّه سبحانه خلق الأفلاک دون الکواکب لکان إن خلقها مظلما لم یحصل ما ذکرنا من اختلاف الفصول و الحرّ و البرد فلم یتمّ فی هذا العالم ما کانت أسبابا فیه من الاستعدادات و لم یتمیّز لها فصل عن فصل کما قال تعالى «وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ، هُمْ یَهْتَدُونَ»«» و قوله: وَ هُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِی ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ و ان خلقها مضیئه تشابه أثرها فی الأمکنه و الأزمنه. بل خلق فیها الکواکب و لم یخلقها ساکنه و إلّا لأفرط أثرها فی موضع بعینه فیفسد استعداده و یخلو موضع آخر عن التأثیرات، و لمّا تمیزّت فصول السنه و لمّا حصل البرد المحتاج إلیه و الحرّ المحتاج إلیه فلم یتمّ نشو النبات و الحیوان، و على الجمله فالنظام الکلیّ لا یحصل إلّا بهذا الوجه فهو أکمل أنحاء الوجود کلّ ذلک یدلّ على کمال رحمه اللّه بخلقه و شمول عنایته لهم إذ کان جمیع ما ذکرناه من المنافع الحاصله فی هذا العالم مستنده إلى علوّ تدبیره و کمال حکمته کما قال تعالى «وَ سَخَّرَ لَکُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَیْنِ وَ سَخَّرَ لَکُمُ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ وَ آتاکُمْ مِنْ کُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ کَفَّارٌ«» لا یقال: السؤال علی ما ذکرتم من وجهین أحدهما أنّ الترتیب الّذی ذکرتموه فی تخصیص کلّ فلک ببعض الکواکب یشکل بقوله تعالى «إِنَّا زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنْیا بِزِینَهٍ الْکَواکِبِ»«» و قوله تعالى «وَ لَقَدْ زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنْیا بِمَصابِیحَ»«» الثانی أنّ الشهب الثواقب الّتی جعلت رجوما للشیاطین على ما نطق به القرآن الکریم إمّا أن یکون من الکواکب الّتی زیّنت بها السماء أو لا تکون، و الأوّل باطل لأنّ هذه الشهب تبطل بالانقضاض و تضمحلّ فکان یلزم من ذلک على مرور الزمان فناء الکواکب و نقصان أعدادها، و معلوم أنّه لم یوجد ذلک النقصان البتّه، و الثانی أنّه یشکل بقوله تعالى «وَ لَقَدْ زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنْیا بِمَصابِیحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّیاطِینِ» فإنّه نصّ على کون الشهب الّتی جعلت رجوما للشیاطین هى تلک المصابیح و الکواکب الّتی زیّنت بها السماء لأنّا نجیب عن الأوّل بأنّه لا تنافی بین ظاهر الآیه و بین ما ذکرناه، و ذلک أنّ السماء الدنیا لمّا کانت لا تحجب ضوء الکواکب و کانت أوهام الخلق حاکمه عند النظر إلى السماء و مشاهده الکواکب بکونها مزیّنه بها لا جرم صحّ قوله تعالى «إِنَّا زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنْیا بِزِینَهٍ الْکَواکِبِ» لأنّ الزینه بها إنّما هى بالنسبه إلی أوهام الخلق للسماء الدنیا، و عن الثانی أنّا نقول: هذه الشهب غیر تلک الثواتب الباقیه فأمّا قوله: «وَ لَقَدْ زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنْیا بِمَصابِیحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّیاطِینِ» فنقول: کلّ مضی‏ء حصل فی الجوّ العالى أو فی السماء فهو مصباح لأهل الأرض إلّا أنّ تلک المصابیح منها باقیه على طول الزمان و هو الثوابت و منها متغیّره و هی هذه الشهب الّتی یحدثها اللّه تعالى و یجعلها رجوما للشیاطین و یصدق علیها أنّها زینه للسماء أیضا بالنسبه إلى أوهامنا و باللّه التوفیق.

 

قوله ثمّ فتق ما بین السماوات و العلى إلى قوله و لا یشیرون إلیه بالنظائر

قوله ثمّ فتق ما بین السماوات و العلى إلى قوله و لا یشیرون إلیه بالنظائر، و فیه أبحاث.

البحث الأوّل-  هذا الفصل أیضا من تمام التفسیر

لقوله فسوّى منه سبع سماوات إذ کان ما أشار إلیه هاهنا من فتق السماوات إلى طبقاتها و إسکان کلّ طبقه منها ملاء معیّنا من ملائکته هو من تمام التسویه و التعدیل لعالم السماوات فإن قلت: لم أخّر ذکر فتق السماوات و إسکان الملائکه لها عن ذکر إجراء الشمس و القمر فیها و تزیینها بالکواکب، و معلوم أنّ فتقها متقدّم على اختصاص بعضها ببعض الکواکب. قلت: إنّ إشارته علیه السّلام إلى تسویه السماوات إشاره جملیّه فکأنّه قدّر أوّلا أنّ اللّه خلق السماوات کره واحده کما علیه بعض المفسّرین لقوله تعالى «أَ وَ لَمْ یَرَ الَّذِینَ کَفَرُوا» ثمّ ذکر علیاهنّ و سفلاهنّ لجریانهما مجرى السطحین الداخل و الخارج لتلک الکره، ثمّ أشار إلى بعض کمالاتها و هى الکواکب و الشمس و القمر جمله، ثمّ بعد ذلک أراد التفصیل فأشار إلى تفصیلها و تمییز بعضها عن بعض بالفتق، و إسکان کلّ واحده منهنّ ملاء معیّنا من الملائکه ثمّ عقّب‏ ذلک بتفصیل الملائکه، و لا شکّ أنّ تقدیم الإجمال فی الذکر و تعقیبه بالتفصیل أولى فی الفصاحه و البلاغه فی الخطابه من العکس. إذا عرفت ذلک فنقول: قوله علیه السّلام ثمّ فتق ما بین السماوات العلى کقوله تعالى «أَ وَ لَمْ یَرَ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ کانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما»«» و قوله: فملأهنّ أطوارا من ملائکته منهم سجود لا یرکعون کقوله تعالى «وَ لِلَّهِ یَسْجُدُ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» و قوله: وَ لَهُ یَسْجُدُونَ و نحوه و قوله: و صافّون لا یتزایلون کقوله تعالى «وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا» و قوله: و مسبّحون لا یسأمون کقوله تعالى «یُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّیْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا یَسْأَمُونَ» و قوله: و لافتراه الأبدان کقوله تعالى «لا یَفْتُرُونَ» و قوله: و منهم امناء على وحیه کقوله تعالى «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِینُ عَلى‏ قَلْبِکَ» و قوله: و ألسنه إلى رسله کقوله تعالى «جاعِلِ الْمَلائِکَهِ رُسُلًا» و قوله: مختلفون بقضائه و أمره کقوله «تَنَزَّلُ الْمَلائِکَهُ وَ الرُّوحُ فِیها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ»«» و قوله تعالى «تَنَزَّلُ الْمَلائِکَهُ وَ الرُّوحُ فِیها… مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» و قوله: و منهم الحفظه لعباده کقوله تعالى «یُرْسِلُ عَلَیْکُمْ حَفَظَهً»«» و قوله: «وَ إِنَّ عَلَیْکُمْ لَحافِظِینَ»، و قوله: «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ یَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ»، و قوله: و السدنه لأبواب جنانه کقوله تعالى «وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها» و قوله: و المناسبه لقوائم العرش أکنافهم کقوله تعالى «وَ یَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّکَ فَوْقَهُمْ یَوْمَئِذٍ ثَمانِیَهٌ»«» و قوله: بأجنحتهم کقوله تعالى «الْحَمْدُ لِلَّهِ»

 

البحث الثانی

اعلم أنّ للناس فی تفسیر قوله «أَ وَ لَمْ یَرَ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ کانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» أقوالا: أحدها قال ابن عبّاس و الضحّاک و عطاء و قتاده: إنّ السماء و الأرض کانتا شیئا واحدا ملتزمتین ففصّل اللّه بینهما فی الهواء، الثانی قال کعب: خلق اللّه السماوات و الأرض بعضها على بعض ثمّ خلق ریحا توسّطها ففتحها بها، الثالث قال مجاهد و السدی: کانت السماوات طبقه واحده ففتقها و جعلها سبع سماوات و کذلک الأرض، الرابع قال عکرمه و عطیّه و ابن عبّاس بروایه اخرى عنه: إنّ معنى‏ کون السماء رتقا أنّها کانت لا تمطر و کانت الأرض رتقا أی لا تنبت نباتا ففتق اللّه السماء بالمطر و الأرض بالنبات، و یؤیّد ذلک قوله تعالى بعد ذلک «وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ کُلَّ شَیْ‏ءٍ حَیٍّ» و نظیره قوله تعالى «فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ» و قوله: «وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ» و قوله تعالى «أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِیها حَبًّا» الآیه، الخامس قال بعض الفضلاء: إنّ معنى قوله کانَتا رَتْقاً أی کانت امورا کلیّه فی علم اللّه تعالى و فی اللوح المحفوظ، و قوله فَفَتَقْناهُما إشاره إلى تشخّصاتها فی الوجود الخارجیّ و تمییز بعضها عن بعض، و هذا القول مناسب للأقوال الثلاثه الاول و یصحّ تحقیقا لها و یحمل الریح الّتی ذکرها کعب على أمر اللّه تعالى استعاره لما بینهما من المشابهه فی السرعه، السادس قال بعضهم: إنّ معنى الرتق فی هذه الآیه هو انطباق دائره معدّل النهار على ذلک البروج ثمّ إنّ الفتق بعد ذلک عباره عن ظهور المیل قالوا: و ممّا یناسب ذلک قول ابن عبّاس و عکرمه فإنّهم لمّا قالوا إنّ معنى کون السماء رتقا أنّها لا تمطر و معنى کون الأرض رتقا أنّها لا تنبت کان الفتق و الرتق بالمعنى الّذی ذکرناه إشاره إلى أسباب ما ذکروه إذ انطباق الدائرتین و هو الرتق یوجب خراب العالم السفلى و عدم المطر، و ظهور المیل الّذی هو الفتق یوجب وجود الفصول و ظهور المطر و النبات و سائر أنواع المرکّبات. إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ قوله علیه السّلام ثمّ فتق ما بین السماوات العلى إنّما هو موافق للأقوال الثلاثه الاول مع القول الخامس و التحقیق به ألیق، و أمّا القول السادس فهو بعید المناسبه لقوله علیه السّلام و بیان ذلک أنّ قوله ثمّ فتق ما بین السماوات العلى إنّما هو فی معرض بیان کیفیّه تخلیق العالم الأعلى و لذلک أردفه و عقّبه بالفاء فی قوله فملأهنّ أطوارا من ملائکته، و الرتق و الفتق فی هذا القول متأخّر عن کلام الأجرام العلویّه بما فیها و ما یتعلّق بها و لا یقبل تقدّم ظهور المیل بوجه ما على وجود الملائکه السماویّه و إسکانها أطباق السماوات و باللّه التوفیق.

 

 

البحث الثالث-  الملائکه على أنواع کثیره و مراتب متفاوته

فالمرتبه الاولى الملائکه المقرّبون کما قال تعالى «لَنْ یَسْتَنْکِفَ الْمَسِیحُ أَنْ یَکُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِکَهُ الْمُقَرَّبُونَ»«»

الثانیه الملائکه الحاملون للعرش کقوله «الَّذِینَ یَحْمِلُونَ الْعَرْشَ» و قوله «وَ یَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّکَ فَوْقَهُمْ یَوْمَئِذٍ ثَمانِیَهٌ» الثالثه الحافّون حول العرش کما قال تعالى «وَ تَرَى الْمَلائِکَهَ حَافِّینَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ»«» و قوله «و من حوله» الرابعه ملائکه السماوات و الکرسیّ، الخامسه ملائکه العناصر، السادسه الملائکه الموکلّون بالمرکّبات من المعدن و النبات و الحیوان، السابعه الملائکه الحفظه الکرام الکاتبین کما قال تعالى «وَ إِنَّ عَلَیْکُمْ لَحافِظِینَ کِراماً کاتِبِینَ» و یدخل فیهم المعقّبات المشار إلیه بقوله تعالى «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ یَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ»، الثامنه ملائکه الجنّه و خزنتها کما قال تعالى «وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَیْکُمْ»، التاسعه ملائکه النار کما قال تعالى «عَلَیْها مَلائِکَهٌ غِلاظٌ شِدادٌ» و قال «عَلَیْها تِسْعَهَ عَشَرَ» و قال وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِکَهً» إذا عرفت ذلک فنقول اتّفق الکلّ على أنّ الملائکه لیس عباره عن أشخاص جسمانیّه کثیفه تجى‏ء و تذهب کالناس و البهائم بل القول المحصّل فیها قولان: الأوّل هو قول المتکلّمین إنّها أجسام نورانیّه إلهیّه خیّره سعیده قادره على التصرّفات السریعه و الأفعال الشاقّه ذوات عقول و أفهام و بعضها أقرب عند اللّه من البعض و أکمل درجه کما قال تعالى حکایه عنهم «وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ»«»، و القول الثانی قول غیرهم و هی أنّها لیست بأجسام لکنّ منها ما هو مجرّد عن الجسمیّه و عن تدبیر الأجسام، و منها من له الأمر الأوّل دون الثانی، و منها من لیس بمجرّد بل جسمانیّ حالّ فی الأجسام و قائم بها و لهم فی تنزیل المراتب المذکوره على قولهم تفصیل، أمّا المقرّبون فإشاره إلى الذوات المقدّسه عن الجسمیّه و الجهه و عن حاجتها إلى القیام بها و عن تدبیرها، و أمّا حمله العرش فالأرواح الموکّله بتدبیر العرش، و قیل هم الثمانیه المذکوره فی القرآن الکریم «و یحمل عرش ربّک فوقهم یومئذ ثمانیه» و هم رؤساء الملائکه المدّبرین للکرسیّ و السماوات السبع، و ذلک أنّ هذه الأجرام لها کالأبدان فهى بأبدانها أشخاص حاملون للعرش فوقهم، و أمّا الحافّون حول العرش هى الأرواح الحامله للکرسی، و الموکّله و المتصرّفه فیه، و أمّا ملائکه السماوات فالأرواح الموکّله بها و المتعرّفه فیها بالتحریک و الإراده بإذن اللّه عزّ و جلّ، کذلک ملائکه العناصر و الجبال و البحار و البراری و الغفار و سائر المرکّبات من المعدن و النبات و الحیوان المسخّر کلّ منها لفعله المخصوص على اختلاف مراتبها، فأمّا الملائکه الحافظون الکرام الکاتبون فلهم فیها أقوال. أحدها قال بعضهم: إنّ اللّه تعالى خلط الطبائع المتضادّه و مزّج بین العناصر المتنافره حتّى استعدّ ذلک الممتزج بسبب ذلک الامتزاج لقبول النفس المدبّره و القوى الحسیّه و المحرّکه، فالمراد بتلک الحفظه الّتی أرسلها اللّه هى تلک النفوس و القوى الّتی یحفظ تلک الطبائع المقهوره على امتزاجاتها و هى الضابطه على أنفسها أعمالها، و المکتوب فی ألواحها صور ما تفعله لتشهد به علی أنفسها یوم القیامه کما قال تعالى «قالُوا شَهِدْنا عَلى‏ أَنْفُسِنا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَیاهُ الدُّنْیا وَ شَهِدُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ کانُوا کافِرِینَ»«» و هى المعقّبات من بین یدی الإنسان و من خلفه الحافظون له من أمر اللّه، و قیل: الحفظه للعباد غیر الحفظه على العباد و الکاتبین لأعمالهم، و سنشیر إلى ذلک. و الثانی قال بعض القدماء: إنّ هذه النفوس البشریّه و الأرواح الإنسانیّه مختلفه بجواهرها، فبعضها خیّره و بعضها شریره، و کذا القول فی البلاده و الزکاء و الفجور و العفّه و الحریّه و النذاله و الشرف و الدنائه، و غیرها من الهیئات، و لکلّ طائفه من هذه الأرواح السفلیّه روح سماویّ هو لها کالأب المشفق و السیّد الرحیم یعینها على مهمّاتها فی یقظتها و مناماتها تاره على سبیل الرؤیا و اخرى على سبیل الإلهامات، و هى مبدء لما یحدث فیها من خیر و شرّ، و تعرف تلک المبادی‏ء فی مصطلحهم بالطیاع التامّ یعنى أنّ تلک الأرواح الفلکیّه فی تلک الطباع و الأخلاق تامّه کامله بالنسبه إلى هذه الأرواح السفلیّه و هى الحافظه لها و علیها کما قال تعالى «فِی صُحُفٍ مُکَرَّمَهٍ مَرْفُوعَهٍ مُطَهَّرَهٍ بِأَیْدِی سَفَرَهٍ کِرامٍ بَرَرَهٍ»«» الثالث قول بعضهم: إنّ للنفوس المتعلّقه بهذه الأجساد مشاکله و مشابهه مع النفوس المفارقه عن الأجساد فیکون لتلک المفارقه میل إلى النفوس الّتی لم تفارق فیکون لها تعلّق أیضا بوجه ما بهذه الأبدان بسبب ما بینها و بین نفوسها من المشابهه و الموافقه فتصیر معاونه لهذه النفوس على مقتضى طباعها، و شاهده علیها کما قال تعالى:

 

«ما یَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَیْهِ رَقِیبٌ عَتِیدٌ…-  وَ جاءَتْ کُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِیدٌ»«»، و أمّا ملائکه الجنّه فاعلم أنّ الجنان المذکوره فی القرآن ثمان، و هى جنّه النعیم و جنّه الفردوس و جنّه الخلد و جنّه المأوى و جنّه عدن و دار السلام و دار القرار و جنّه عرضها السماوات و الأرض اعدّت للمتّقین، و من وراء الکلّ عرش الرحمن ذى الجلال و الإکرام. إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ لهذه الجنان سکّانا و خزّانا من الملائکه، أمّا السکّان فهم الّذین عند ربّک لا یستکبرون عن عبادته و لا یستحضرون یسبّحون اللیل و النهار لا یفترون و هم الّذین یتلّقون عباد اللّه الصالحین المخلصین بالشفقه و البشاره بالجنّه، و ذلک أنّ الإنسان الطائع إذا اکملت طاعته و بلغ النهایه فی الصوره الإنسانیّه و استحقّ بأعماله الصالحه و ما اکتسبه من الأفعال الزکیّه صوره ملکیّه و رتبه سماویّه تلقّیه الملائکه الطیّبون بالرأفه و الرحمه و الشفقه، و تقبّلوه بالروح و الریحان، و قبلوه کما تقبل القوابل و الدایات أولاد الملوک بفاخر امور الدنیا و طیّبات روائحها من منادیل السندس و الإستبرق، و بالفرح و السرور مرّوا به إلى الجنّه فیعاین من البهجه و السرور ما لا عین رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر، و یبقی معهم عالما درّاکا ما شاء ربّک عطاء غیر مجذوذ، و یتّصل بإخوانه المؤمنین فی الدنیا أخباره و أحواله و یتراءى لهم فی مناماتهم بالبشاره و السعاده و حسن المنقلب، و إذا کان یوم القیامه الکبرى عرجت به ملائکه الرحمه إلى جنان النعیم و السرور المقیم لا یذوقون فیها الموت إلّا الموته الاولى فی غرف من فوقها غرف مبنیّه تجری من تحتهم الأنهار و آخر دعویهم أن الحمد اللّه ربّ العالمین.

 

قال بعض حکماء الإسلام: إنّ تلک الملائکه المتلّقیه له بالروح و الریحان هى روحانیّات الزهره و المشتری و کأنّ القائل یقول: إنّ النفوس الإنسانیّه السعیده إذا فارقت أبدانها و حملت القوّه المتوهّمه معها و الهیئات المتخیّله الّتی حصلت من الوعد الکریم فی دار الدنیا من الجنان و الحدائق و الأنهار و الأثمار و الحور العین و الکأس المعین و اللؤلؤ و المرجان و الولدان و الغلمان فإنّه یفاض علیها بحسب استعدادها و طهارتها و رجاء ثواب الآخره صور عقلیّه فی غایه البهاء و الزینه مناسبه لما کانت متخیّله من الامور المذکوره مناسبه ما، و لمّا کان لهذین الکوکبین أثر تامّ فی إعداد النفوس‏

للمتخیّلات البهیّه الحسنه و للفرح و السرور کما ینسب فی المشهور إلى روحانیّتهما من الأفعال الحسنه نسب تلقّى الإنسان بعد المفارقه بالرأفه و الرحمه و الشفقه إلى روحانیّتهما، و اللّه أعلم، و أمّا الخزنه للجنان فیشبه أن یکون هم السکّان لها أیضا باعتبار آخر، و ذلک أنّه لمّا کان الخازن هو المتولّی لأحوال أبواب الخزانه بفتحها و تفریق ما فیها على مستحقّها بإذن ربّ الخزانه و مالکها و غلقها و منعها عن غیر مستحقّها و کانت الملائکه هم المتولّون لإفاضه الکمالات و تفریق ضروب الإحسان و النعم على مستحقیّها و حفظها و منعها من غیر مستحقّیها و المستعدّین بالطاعه لها بإذن اللّه و حکمته لا جرم صدق أنّهم خزّان الجنان بهذا الاعتبار، و هم الّذین یدخلون على المؤمنین من کلّ باب سلام علیکم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. قال بعض الفضلاء: إنّ العبد إذا راض نفسه حتّى استکمل مراتب القوّه النظریه و مراتب القوّه العملیّه فإنّه یستعدّ بکلّ مرتبه من تلک المراتب لکمال خاصّ یفاض علیه من اللّه تعالى و یأتیه الملائکه فیدخلون علیه من کلّ باب من تلک الأبواب فالملک الّذی یدخل على الإنسان منه رضاء اللّه کما قال تعالى «رَضِیَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ» هو رضوان خازن الجنان و اللّه أعلم، و أمّا ملائکه النار فقال بعض الفضلاء: هی تسعه عشر نوعا من الزبانیه لا یعصون اللّه ما أمرهم و هم الخمسه الّذین ذکرنا أنّهم یوردون علیه الأخبار من خارج، و رئیسهم و الخازنان و الحاجب و الملک المتصرّف بین یدیه بإذن ربّه، و ملکا الغضب و الشهوه، و السبعه الموکّلون بأمر الغذاء و ذلک أنّه إذا کان یوم الطامّه الکبرى و کان الإنسان ممّن طغى و آثر الحیاه الدنیا حتّى کانت الجحیم هی المأوى کانت اولئک التسعه عشر من الزبانیه هم الناقلین له إلى الهاویه بسبب ما استکثر من المشتهیات، و اقترف من السیّئات و أعرض عن قوله تعالى «وَ أَنْ لَیْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏ وَ أَنَّ سَعْیَهُ سَوْفَ یُرى‏ ثُمَّ یُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى‏ وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّکَ الْمُنْتَهى‏» و اعلم وفّقک اللّه أنّ هؤلاء الّذین ذکر هذا القائل أنّهم ملائکه النار ربّما کانوا أیضا مع إنسان آخر من ملائکه الجنان و ذلک إذا استخدمهم ذلک الإنسان فی دار الدنیا على وفق أوامر اللّه و أوفقهم على طاعه اللّه دون أن یطلب منهم فوق ما خلقو الأجله و امروا به من طاعته و یعبّر بهم إلى معصیه اللّه و ارتکاب نواهیه و محارمه و باللّه التوفیق.

 

البحث الرابع-  أنّه علیه السّلام ذکر من الملائکه أنواعا

و أشار بالسجود و الرکوع و الصفّ و التسبیح إلى تفاوت مراتبهم فی العباده و الخشوع، و ذلک أنّ اللّه سبحانه قد خصّ کلّا منهم بمرتبه معیّنه من الکمال فی العلم و القدره لا یصل إلیها من دونه، و کلّ من کانت نعمه اللّه علیه أکمل و أتمّ کانت عبادته أعلى و طاعته أو فی ثمّ إنّ السجود و الرکوع و الصفّ و التسبیح عبادات متعارفه بین الخلق و متفاوته فی استلزام کمال الخضوع و الخشوع، و لا یمکن حملها على ظواهرها المفهومه منها لأنّ وضع الجبهه على الأرض و انحناء الظهر و الوقوف فی خطّ واحد و حرکه اللسان بالتسبیح امور مبنیّه على وجود هذه الآلات الّتی هی خاصّه ببعض الحیوانات فبالحریّ أن یحمل تفاوت المراتب المذکوره لهم على تفاوت کمالاتهم فی الخضوع و الخشوع لکبریاء اللّه و عظیمته إطلاقا للّفظ الملزوم على لازمه على أنّ السجود فی اللغه هو الانقیاد و الخضوع کما مرّ. إذا عرفت ذلک فنقول: یحتمل أن یکون قوله علیه السّلام منهم سجود إشاره إلى مرتبه الملائکه المقرّبین لأنّ درجتهم أکمل درجات الملائکه فکانت نسبه عبادتهم و خضوعهم إلى خضوع من دونهم کنسبه خضوع السجود إلى خضوع الرکوع. فإن قلت إنّه قد تقدّم أنّ الملائکه المقرّبین مبرّؤن عن تدبیر الأجسام و التعلّق بها فکیف یستقیم أن یکونوا من سکّان السماوات و من الأطوار الّذین ملئت بهم. قلت: إنّ علاقه الشی‏ء بالشی‏ء و إضافته إلیه یکفی فیها أدنى مناسبه بینهما، و المناسبه هاهنا حاصله بین الأجرام السماویّه و بین هذا الطور من الملائکه و هی مناسبه العلّه للمعلول أو الشرط للمشروط فکما جاز أن ینسب الباری جلّ جلاله إلى الاختصاص بالعرش و الاستواء علیه فی لفظ القرآن الکریم مع تنزیهه تعالى و تقدّسه من هذا الظاهر و لم یجر فی الحکمه أن یکشف للخلق من عظمه الحقّ سبحانه أکثر من هذا القدر فکذلک جاز أن ینسب الملائکه المقرّبون إلى الکون فی السماوات بطریق الأولى و إن تنزّهوا عن الأجسام و تدبیرها لأنّ علیّا علیه السّلام قاصد قصد الرسول صلى اللّه علیه و آله و قصد القرآن الکریم و ناطق به فلیس له أن یفصح بما تنبوا عنه الأفهام، و باللّه التوفیق.

 

قوله و رکوع یشبه أن یکون

إشاره إلى حمله العرش إذا کانوا أکمل ممّن دونهم فکانت نسبه عبادتهم الى عباده من دونهم کنسبه خضوع الرکوع إلى خضوع الصفّ.

قوله و صافّون یحتمل أن یکون إشاره إلى الملائکه الحافّین من حول العرش قیل:

إنّهم یقفون صفوفا لأداء العباده کما أخبر تعالى عنهم «وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ» و تحقیق ذلک أنّ لکلّ واحد منهم مرتبه معیّنه و درجه معیّنه من الکمال یخصّه و تلک الدرجات باقیه غیر متغیّره و ذلک یشبه الصفوف، و ممّا یؤیّد القول بأنّهم‏  الحافّون حول العرش ما جاء فی الخبر أنّ حول العرش سبعین ألف صفّ قیام قد وضعوا أیدیهم على عواتقهم رافعین أصواتهم بالتهلیل و التکبیر و من ورائهم مائه ألف صفّ قد وضعوا الأیمان على الشمائل ما منهم أحد إلّا و هو یسبّح.

 

قوله و مسبّحون یحتمل أن یکون المراد بهم الصافّون و غیرهم من الملائکه، و الواو العاطفه و إن اقتضت المغائره إلّا أن المغائره حاصله إذ هم من حیث هم صافّون غیرهم من حیث هم مسبّحون و تعدّد هذه الاعتبارات یسوّغ تعدید الأقسام بحسبها و عطف بعضها على بعض، و یؤیّد ذلک الجمع بین کونهم صافّین و بین کونهم مسبّحین فی قوله تعالى «وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ» و یحتمل أن یرید نوعا و أنواعا اخر من ملائکه السماوات، فأمّا سلب الرکوع عن الساجدین، و سلب الانتصاب عن الراکعین، و سلب المزائله عن الصافّین، و سلب السأم عن المسبّحین فإشاره إلى کمال فی مراتبهم المعینّه کلّ بالنسبه إلى من هو دونه و تأکید لها بعدم النقصانات اللاحقه فإنّ الرکوع و إن کان عباده إلّا أنّه نقصان بالنسبه إلى السجود، و الانتصاب نقصان فی درجه الراکع بالنسبه إلى رکوعه، و کذلک التزایل عن مرتبه الصفّ نقص فیها، و کذلک السأم فی التسبیح نقصان فیه و إعراض عن الجهه المقصوده به و أیضا فالسأم و الملال عباره عن إعراض النفس عن الشی‏ء بسبب کلال بعض القوى الطبیعیّه عن أفعالها، و ذلک غیر متصوّر فی حقّ الملائکه السماویّه، و أمّا سلب غشیان النوم عنهم فی قوله لا یغشاهم نوم العیون فهو ظاهر الصدق، و بیانه أنّ غشیان النوم لهم مستلزم لصحّه النوم علیهم و اللازم باطل فی حقّهم فالملزوم مثله أمّا الملازمه فظاهره، و أمّا بطلان اللازم فلأنّ النوم عباره عن تعطیل الحواسّ الظاهره عن أفعالها لعدم انصباب الروح النفسانیّ إلیها و رجوعها بعد الکلال و الضعف، و الملائکه السماویّه منزّهون عن هذه الأسباب و الآلات، فوجب أن یکون النوم غیر صحیح فی حقهم فوجب أن لا یغشاهم، و أمّا سلب سهو العقول و غفله النسیان، فاعلم أنّ الغفله عباره عن عدم التفطّن للشی‏ء و عدم تعقّله بالفعل و هى أعمّ من السهو و النسیان و کالجنس لهما، بیان ذلک أنّ السهو هو الغفله عن الشی‏ء مع بقاء صورته أو معناه فی الحیال أو الذکر بسبب اشتغال النفس و التفاتها إلى بعض مهّماتها، و أمّا النسیان فهو الغفله عنه مع انمحاء صورته أو معناه عن إحدى الخزانتین بالکلّیه و لذلک یحتاج الناسی للشی‏ء إلى تجشّم کسب جدید و کلفه فی تحصیله ثانیا، و بهذا یظهر الفرق بین الغفله و السهو و النسیان، و إذا عرفت ذلک ظهر أنّ هذه الامور الثلاثه من لواحق القوى الإنسانیّه فوجب أن تکون مسلوبه عن الملائکه السماویّه لسلب معروضاتها عنهم، و لمّا ذکر سهو العقول و نفاه عنهم أردفه بسلب ما هو أعمّ منه و هو الغفله لاستلزام سلبها سلب النسیان، و قد کان ذلک کافیا فی سلب النسیان إلّا أنّه أضاف الغفله إلیه لیتأکّد سلبه بسلبها،

 

و أمّا قوله و لا فتره الأبدان، فلأنّ الفتره هی وقوف الأعضاء البدنیّه عن العمل و قصورها بسبب تحلّل الأرواح البدنیّه و ضعفها و رجوعها للاستراحه، و کلّ ذلک من توابع المزاج الحیوانیّ فلا جرم صدق سلبها عنهم. قوله و منهم امناء على وحیه و ألسنه إلى رسله مختلفون بقضائه و أمره یشبه أن یکون هذا القسم داخلا فی الأقسام السابقه من الملائکه، و إنّما ذکره ثانیا باعتبار وصف الأمانه على الوحی و الرساله و الاختلاف بالأمر إلى الأنبیاء علیهم السلام و غیرهم لأنّ من جمله الملائکه المرسلین جبرئیل علیه السلام و هو من الملائکه المقربّین، و اعلم أنّه لمّا ثبت أنّ الوحى و سائر الإفاضات من اللّه تعالى على عباده إنّما هو بواسطه الملائکه کما علمت کیفیّه ذلک لا جرم صدق أنّ منهم امناء على وحیه و ألسنه إلى رسله إذ کان الأمین هو الحافظ لما کلّف بحفظه على ما هو علیه لیؤدّیه إلى مستحقّه، و إفاضه الوحی النازل بواسطه الملائکه محفوظه نازله کما هی مبرّاه عن الخلل الصادره عن سهو لعدم معروضات السهو هناک أو عن عمد لعدم الداعی إلیه و لقوله تعالى «یَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ یَفْعَلُونَ ما یُؤْمَرُونَ»«» و أمّا کونهم ألسنه إلى رسله فهی استعاره حسنه إذ یقال: فلان لسان قومه أی المفصح عن أحوالهم و المخاطب عنهم فیطلق علیه اسم اللسان لکونه مفصحا عمّا فی النفس، و لمّا کانت الملائکه وسائط بین الحقّ سبحانه و بین رسله فی تأدیه خطابه الکریم إلیهم لا جرم حسن استعاره

هذا اللفظ لهم لمکان المشابهه، و المراد هاهنا بالاختلاف التردّد بأمر اللّه و ما قضى به مرّه بعد اخرى و بالقضاء الامور المقضیّه إذ یقال: هذا قضاء اللّه أی مقضیّ اللّه، و لا یراد به المصدر فإنّ معنى ذلک هو سطر ما کان و ما یکون فی اللوح المحفوظ بالقلم الإلهی و ذلک أمر قد فرغ منه کما قال صلى اللّه علیه و آله: جفّ القلم بما هو کائن، فإن قلت: کیف یصحّ أن یکون هذا القسم داخلا فی السجود لأنّ من کان أبدا ساجدا کیف یتصورّ أن یکون مع ذلک متردّدا فی الرساله و النزول و الصعود مختلفا بالأوامر و النواهی إلى الرسل علیهم السلام قلت: إنّا بیّنا أنّه لیس المراد بسجود الملائکه هو وضع الجبهه على الأرض بالکیّفیه الّتی نحن علیها، و انّما هو عباره عن کمال عبودیّتهم للّه تعالى و خضوعهم تحت قدرته و ذلّتهم فی الإمکان و الحاجه تحت ملک وجوب وجوده، و معلوم أنّه لیس بین السجود بهذا المعنى و بین تردّدهم بأوامر اللّه تعالى و اختلافهم بقضائه على وفق مشیئته و أمره منافاه بل کلّ ذلک من کمال عبودیّتهم و خضوعهم لعزّته و اعترافهم بکمال عظمته. قوله و منهم الحفظه لعباده. فاعلم أنّ فی هذا القسم مطلوبین أحدهما ما الحفظه، و الثانی ما المراد منهم ثمّ الحفظه منهم حفظه للعباد کما قال تعالى «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ یَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ»«» و منهم حفظه على العباد کما قال تعالى «وَ یُرْسِلُ عَلَیْکُمْ حَفَظَهً» و المراد من الأوّلین حفظ العباد بأمر اللّه تعالى من الآفات الّتی تعرض لهم و من الآخرین ضبط الأعمال و الأقوال من الطاعات و المعاصی کما قال «کِراماً کاتِبِینَ یَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» و کقوله «ما یَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَیْهِ رَقِیبٌ عَتِیدٌ» قال ابن عبّاس: إنّ مع کلّ إنسان ملکین أحدهما على یمینه و الآخر على یساره فإذا تکلّم الإنسان بحسنه کتبها من على یمینه، و إذا تکلّم بسیّئه قال من على الیمین لمن على الیسار: انتظر لعلّه یتوب منها فإن لم یتب کتبت علیه قال المفسّرون: فائده ذلک أنّ المکلّف إذا علم أنّ الملائکه موکلّون به یحضرون علیه أعماله و یکتبونها فی صحائف تعرض على رؤس الأشهاد فی موقف القیامه کان ذلک أزجر له عن القبائح، و اعلم أنّه یحتمل أن یکون التعدّد المذکور فی الحفظه تعدّدا بحسب الذوات، و یحتمل أن یکون بحسب الاعتبار.

 

قال بعض من زعم أنّ‏ الحفظه للعباد هی القوى الّتی أرسلها اللّه تعالى من سماء جوده على الأبدان البشریّه: یحتمل أن یکون الحفظه على العباد هی مبادئ تلک القوى، و یکون معنى کتبه السیّئات و الحسنات و ضبطهما على العباد إمّا باعتبار ما یصدر و یتعدّد عن العبد من السیّئات و الحسنات فی علم تلک المبادی‏ء أو یکون معناها کتبه صور الأفعال الخیریّه و الشریه إلى العبد بقلم الإفاضه فی لوح نفسه بحسب استعدادها لذلک قال: و یشبه أن تکون إشاره ابن عبّاس بانتظار ملک الیسار کاتب السیّئات توبه العبد إلى أنّه ما دامت السیّئه حاله غیر ممکنه من جوهر نفس العبد فإنّ رحمه اللّه تعالى تسعه فإذا تاب من تلک السیّئه لم تکتب فی لوح نفسه، و إن لم یتب حتّى صارت ملکه راسخه فی نفسه کتبت و عذّب بها یوم تقوم الساعه. قال: و یحتمل أن یکون الحفظه على العباد هم بأعیانهم من الحفظه لهم فإنّ النفس تحفظ فی جوهرها ما یفعله من خیر و شرّ و تحصیه یوم البعث على نفسها إذا زالت عنها الغواشی البدنیّه و تجده مصوّرا مفصّلا لا تغیب عنها منه شی‏ء کما قال تعالى «یَوْمَ تَجِدُ کُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَیْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَیْنَها وَ بَیْنَهُ أَمَداً بَعِیداً»«» و کما قال تعالى «وَ کُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِی عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ یَوْمَ الْقِیامَهِ کِتاباً یَلْقاهُ مَنْشُوراً»«» و کما قال «إِذا بُعْثِرَ ما فِی الْقُبُورِ وَ حُصِّلَ ما فِی الصُّدُورِ»«» و قال: و أمّا معنى کونهم من ملائکه السماء فلأنّ أصلهم من ملائکه السماء ثمّ ارسلوا إلى الأرض، و اللّه اعلم، و أمّا السدنه لأبواب جنانه فقد عرفت ما قیل فیهم.

 

قوله فمنهم الثابته فی الأرضیین السفلى أقدامهم المارقه من السماء العلیا أعناقهم و الخارجه من الأرکان أقطارهم و المناسبه لقوائم العرش أکنافهم:

فاعلم أنّ هذه الأوضاف وردت فی صفه الملائکه الحاملین للعرش فی کثیر من الأخبار فیشبه أن یکونوا هم المقصودون بها هاهنا، و روى عن میسره أنّه قال: أرجلهم فی الأرض السفلى رؤسهم قد خرقت العرش و هم خشوع لا یرفعون طرفهم و هم أشدّ خوفا من أهل السماء السابعه، و أهل السماء السابعه أشدّ خوفا من أهل السماء السادسه و هکذا إلى سماء الدنیا، و عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله: لا تتفکرّوا فی عظمه ربّکم و لکن تفکّروا فیما خلق من الملائکه فإنّ خلقا منهم یقال له إسرافیل زاویه من زوایا العرش على کاهله و قدماه فی الأرض السفلى و قد مرق رأسه‏ من سبع سماوات و أنّه لیتضاءل من عظمه اللّه حتّى یصیر کأنّه الوصع، و الوصع طائر صغیر، و عن ابن عبّاس أیضا أنّه قال: لمّا خلق اللّه تعالى حمله العرش قال لهم احملوا عرشی فلم یطیقوا فقال لهم: قولوا لا حول و لا قوّه إلّا باللّه فلمّا قالوا ذلک استقل فنفذت أقدامهم فی الأرض السابعه على متن الثرى فلم تستقرّ فکتب فی قدم کلّ ملک منهم اسما من أسمائه فاستّقرت أقدامهم، و وجه هذا الخبر أنّ وجودهم و بقائهم و حولهم و قوّتهم الّتی بها هم على ما هم إنّما هو من حوله و قوّته و هیبته فلو أنّه سبحانه خلقهم و قال لهم: احملوا عرشی و لم تکن لهم استعانه و لا مدد بحول اللّه و قوّته و معونه لم ینتهضوا بحمل ذرّه من ذرّاه مبدعاته و مکوّناته فضلا عن تدبیر العرش الّذی هو أعظم الأجرام الموجوده فی العام.

 

إذا عرفت ذلک فنقول: أمّا من قال بأنّ الملائکه أجسام کان حمل صفاتهم المذکوره فی هذه الأخبار فی کلامه علیه السلام على ظاهرها أمرا ممکنا و أنّه تعالى قادر على جمیع الممکنات، و أمّا من نزههم عن الجسمیّه فقال إنّ اللّه سبحانه لمّا خلق الملائکه السماویّه مسخّرین لأجرام السماوات مدبّرین لعالمنا عالم الکون و الفساد و أسبابا لما یحدث فیه کانوا محیطین بإذن اللّه علما بما فی السماوات و الأرض فلا جرم کان منهم من ثبت فی تخوم الأرض السفلى أقدام إدراکاتهم الّتی ثبتت و استقرّت باسم اللّه الأعظم و علمه الأعزّ الأکرم و نفذت فی بواطن الوجودات الموجودات خبر او مرقت من السماء العلیا أعناق عقولهم و خرجت من أقطارها أرکان قواهم العقلّیّه، و قوله المناسبه لقوائم العرش أکتافهم یرید أنّهم مشبّهون و مناسبون لقوائم العرش فی بقائهم و ثباتهم عن الزائل من تحته أبدا إلى ما شاء اللّه. فإن قلت: فهل هناک قوائم غیر الحاملین للعرش الّذی أشار إلیهم، و تکون هذه الطائفه من الملائکه مناسبه لتلک القوائم أم لا. قلت: قد جاء فی الخبر أنّ العرش له قوائم، روى عن جعفر بن محمّد الصادق عن أبیه علیه السلام عن جدّه صلى اللّه علیه و آله أنّه قال: إنّ بین القائمین من قوائم العرش و القائمه الاخرى خفقان الطیر المسرع ثمانین ألف عام قال بعض المحقّقین: إنّ هناک قوائم ثمان قد فوّض اللّه تعالى إلى کلّ ملک من الملائکه الثمانیه الحاملین للعرش تدبیر قائمه منها و حملها و وکلّه بها. إذا عرفت ذلک فنقول: یحتمل أن یکون قد أشار علیه السلام بقوله تلک القوائم و وجه المناسبه أنّ الکتف لمّا کان محلّ القوّه و الشدّه استعاره علیه السلام هاهنا للقوّه و القدره الّتی یخصّ کلّ ملک من تلک الملائکه و بها یدبّر تلک القوائم من العرش، و لا شکّ أنّ بین کلّ قائمه من تلک القوائم و بین کلّ قدره من تلک القدره مناسبه ما لأجلها خصّ اللّه سبحانه ذلک الملک بحمل تلک القائمه و ذلک معنى قوله المناسبه لقوائم العرش أکتافهم و یحتمل أن یکون کما استعار لهم لفظ الأقدام استعار لهم أیضا لفظ الأکتاف ثمّ شبّه قیامهم بأمر اللّه فی حملهم للعرش بقیام الأساطین الّتی یبنی علیها الواحد منّا عرشه فهم مناسبون مشابهون لقوائم العرش الّتی یبنى علیها من غیر أن یکون هناک تعرّض لإثبات قوائم بل ما یشبه القوائم.

 

قوله ناکسه دونه أبصارهم متلفعّون تحته بأجنحتهم:

الضمیران فی دونه و تحته راجعان إلى العرش و قد جاء فی الخبر عن وهب ابن منبّه قال: إنّ لکلّ ملک من حمله العرش و من حوله أربعه أجنحه أمّا جناحان فعلى وجهه مخافه أن ینظر إلى العرش فیصعق و أمّا جناحان فیفهوا بهما لیس لهم کلام إلّا التسبیح و التحمید، و کنى علیه السلام بنکس أبصارهم عن کمال خشیتهم للّه تعالى و اعترافهم بقصور أبصار عقولهم عن إدراک ما وراء کمالاتهم المقدّره لهم و ضعفها عمّا لا یحتمله من‏  أنوار اللّه و عظمته المشاهده فی خلق عرشه و ما فوقهم من مبدعاته فإنّ شعاع أبصارهم منته واقف دون حجب عزّه اللّه. و عن برید الرقاشیّ أنّ للّه تعالى ملائکه حول العرش یسموّن المخلخلین تجری أعینهم مثل الأنهار إلى یوم القیامه یمیدون کأنّما تنقضهم الریاح من خشیه اللّه تعالى فیقول لهم الربّ جل جلاله ملائکتی ما الّذی یخیفکم فیقولون: ربّنا لو أنّ أهل الأرض اطّلعوا من عزّتک و عظمتک على ما اطّلعنا علیه ما ساغوا طعاما و لا شرابا و لا انبسطوا فی فرشهم و لخرجوا إلى الصحراء یخورون کما یخور الثور، و اعلم أنّه لمّا کان الجناح من الطائر و الإنسان عباره عن محل القوّه و القدره و البطش صحّ أن یستعار للملائکه على سبیل الکنایه عن کمالهم فی قدرتهم و قوّتهم الّتی یطیرون فی بیداء جلال اللّه و عظمته و تصدر بواسطتهم کمالات ما دونهم من مخلوقات اللّه، و صحّ أن توصف تلک الأجنحه بالقلّه و الکثره فی آحادهم، و یکون ذلک کنایه عن تفاوت قرابتهم و زیاده کمال بعضهم على بعض، و لمّا استعار لفظ الأجنحه استلزم ذلک أن یکون قد شبّههم بالطائر ذی الجناح، ثمّ لمّا کان الطائر عند قبض جناحه یشبه المتلفّع بثوبه و الملتحف به و کانت أجنحه الملائکه الّتی هی عباره عن کما لهم فی قدرهم و علومهم مقبوضه قاصره عن التعلّق بمثل مقدورات اللّه و مبدعاته واقفه دون جلاله و عظمته فی صنعه لا جرم أشبه ذلک قبض الأجنحه المشبّه للتلفّع بالثوب فاستعار علیه السلام لفظ التلفّع أیضا و کنّى به عن کمال خضوعهم و انقهارهم تحت سلطان الله و قوّته و المشاهده فی صوره عرشه. فإن قلت: إنّک بیّنت أنّ المراد بالرکوع هم حمله العرش فکیف یستقیم مع ذلک أن یقال إنّ هذا القسم هم حمله العرش أیضا فإنّ من کان أقدامهم فی تخوم الأرضین، و أعناقهم خارجه من السماوات السبع و من الکرسیّ و العرش کیف یکون مع ذلک راکعا قلت: الجواب عنه قد سبق فی قوله و منهم امناء على وحیه فإنّ الرکوع أیضا المقصود منه الخشوع لعزّ اللّه و عظمته و ذلک غیر مناف للأوصاف المذکوره هاهنا، و باللّه التوفیق.

 

قوله مضروبه بینهم و بین من دونهم حجب العزّه و أستار القدره

إشاره إلى أنّ الآلات البشریّه قاصره عن إدراکهم و الوصول إلیهم، و ذلک لتنزّههم عن الجسمیّه و الجهه و قربهم من عزّه مبدعهم الأوّل جلّ جلاله، و بعد القوى الإنسانیّه عن الوقوف على أطوارهم المختلفه و مراتبهم المتفاوته، و إذا کان الحال فی الملک العظیم من ملوک الدنیا إذا بلغ فی التعزّز و التعظیم إلى حیث لا یراه إلّا أجلاء خواصّه، و کان الحال أیضا فی بعض خواصّه کذلک کالوزیر و الحاجب و الندیم فإنّهم لا یصل إلیهم کلّ الناس بل لا یصل إلیهم إلّا من کانت له إلیهم وسیله تامّه و علاقه قویّه و کان منشأ ذلک إنّما هو عظمه الملک و هیبته و قربهم منه فکان الحائل بینهم و بین غیرهم إنّما هو حجب عزّه الملک و أستار قدرته و قهره، فکیف الحال فی جبّار الجبابره و مالک الدنیا و الآخره، و حال ملائکته المقرّبین و من یلیهم من حمله العرش الروحانییّن، فبالحریّ أن ینسب عدم وصول قوانا الضعیفه إلیهم و إدراکها لمراتبهم إلى حجب عزّه اللّه و عظمته لهم و کمال ملکه و تمام قدرته و ما أهلّهم له من قربه و مطالعه أنوار کبریائه عزّ سلطانه و لا إله إلّا هو.

 

قوله و لا یتوهّمون ربّهم بالتصویر

إشاره إلى تنزیههم عن الإدراکات الوهمیّه و الخیالیّه فی حقّ مبدعهم عزّ سلطانه إذ کان الوهم إنّما یتعلّق بالامور المحسوسه ذات الصور و الأحیاز و المحالّ الجسمانیّه فالوهم و إن أرسل طرفه إلى قبله وجوب الوجود و بالغ فی تقلیب حدقه فلن یرجع إلّا بمعنى جزئیّ یتعلّق بمحسوس حتّى أنّه لا یقدر نفسه و لا یدرکها إلّا ذات مقدار و حجم، و لمّا کان الوهم من خواصّ المزاج الحیوانیّ لا جرم سلب‏ التوهّم عن هذا الطور من الملائکه لعدم قوّه الوهم هناک فإنّ هذه القوّه لمّا کانت موجوده للإنسان لا جرم کان یرى ربّه فی جهه و یشیر إلیه متحیّزا ذا مقدار و صوره، و لذلک وردت الکتب الإلهیّه و النوامیس الشرعیّه مشحونه بصفات التجسیم کالعین و الید و الإصبع و الاستواء على العرش و نحو ذلک خطابا للخلق بما تدرکه أوهامهم و توطینا لهم و إیناسا حتّى أنّ الشارع لو أخذ فی مبدء الأمر بیّن لهم أنّ الصانع الحکیم لیس داخل العالم و لا خارجه و لا فی جهه و لیس مجسم و لا عرض لاشتدّ نفار أکثرهم من قبول ذلک و عظم إنکارهم له فإنّ الوهم فی طبیعته لا یثبت موجودا بهذه الصفه و لا یتصوّره، و من شأنه أن ینکر ما لا یتصوّر فکان منکرا لهذا القسم من الموجودات و الخطابات الشرعیّه و إن وردت بصفات التجسیم إلّا أنّ الألفاظ الموهمه لذلک لمّا کانت قابله للتأویل محتمله له کانت وافیه بالمقاصد إذ ال عامیّ المغمور فی ظلمات الجهل یحمله على ظاهره و یحصل بذلک تقییده عن تشتّت اعتقاده و ذو البصیره المترقّی عن تلک الدرجه یحمله على ما یحتمله عقله من التأویل، و کذلک حال من هو أعلى منه، و الناس فی ذلک على مراتب فکان إیرادها حسنا و حکمه. قوله و لا یجرؤن علیه صفات المصنوعین. أقول: إجراء صفات المصنوعین علیه إنّما یکون بمناسبته و مما ثلثته مع مصنوعاته و مکوّناته و کلّ ذلک بقیاس من الوهم و محاکاه من المتخیّله له بصوره المصنوع، فکان الوهم یحکم أوّلا یکون الباری عزّ سلطانه مثلا لمصنوعاته الّتی یتعلّق إدراکه بها من المتحیّزات و ما یقوم بها و یخیّله بصوره منها ثمّ یساعده العقل فی مقدّمه اخری هی أنّ حکم الشی‏ء حکم مثله فیجری حینئذ علیه صفات مصنوعاته التی حکم بمثلیّته لها، و لما کانت الملائکه السماویّه منزّهین عن الوهم و الخیال لا جرم وجب تنزیههم عن أن یجروا علیه صفات مصنوعاته سبحانه و تعالى عمّا یقول الظالمون علوّا کبیرا، و کذلک قوله و لا یحدّونه بالأماکن و لا یشیرون إلیه بالنظائر فإنّ الحاکم بحدّه فی مکان و تحیّزه فیه و المشیر إلیه بالمثل المتصوّر له بالقیاس إلى نظیر یشاکله و یشابهه إنّما هو الوهم و الخیال، و لمّا عرفت أنّهما یخصّان للحیوان العنصریّ لا جرم کانت هذه الأحکام مسلوبه عن الملائکه السماویّه مطلقا و باللّه التوفیق.

 

شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی جلد۱

بازدیدها: ۹۷

خطبه۱شرح ابن میثم بحرانی قسمت اول

۱-  و من خطبه له علیه السّلام یذکر فیها ابتداء خلق السماء و الأرض، و خلق آدم. و فیها ذکر الحج

الفصل الاول فی تصدیرها بذکر اللّه جلّ جلاله و تمجیده و الثناء علیه بما هو أهله

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی لَا یَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ-  وَ لَا یُحْصِی نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ-  وَ لَا یُؤَدِّی حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ-  الَّذِی لَا یُدْرِکُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ-  وَ لَا یَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ-  الَّذِی لَیْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ-  وَ لَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ-  وَ لَا أَجَلٌ مَمْدُودٌ-  فَطَرَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ-  وَ نَشَرَ الرِّیَاحَ بِرَحْمَتِهِ-  وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَیَدَانَ أَرْضِهِ: أَوَّلُ الدِّینِ مَعْرِفَتُهُ وَ کَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِیقُ بِهِ-  وَ کَمَالُ التَّصْدِیقِ بِهِ تَوْحِیدُهُ-  وَ کَمَالُ تَوْحِیدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ-  وَ کَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْیُ الصِّفَاتِ عَنْهُ-  لِشَهَادَهِ کُلِّ صِفَهٍ أَنَّهَا غَیْرُ الْمَوْصُوفِ-  وَ شَهَادَهِ کُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَیْرُ الصِّفَهِ-  فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ-  وَ مَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ وَ مَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ-  وَ مَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ وَ مَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَیْهِ-  وَ مَنْ أَشَارَ إِلَیْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ-  وَ مَنْ قَالَ فِیمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ-  وَ مَنْ قَالَ عَلَا مَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ: کَائِنٌ لَا عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لَا عَنْ‏  عَدَمٍ-  مَعَ کُلِّ شَیْ‏ءٍ لَا بِمُقَارَنَهٍ وَ غَیْرُ کُلِّ شَیْ‏ءٍ لَا بِمُزَایَلَهٍ-  فَاعِلٌ لَا بِمَعْنَى الْحَرَکَاتِ وَ الْآلَهِ-  بَصِیرٌ إِذْ لَا مَنْظُورَ إِلَیْهِ مِنْ خَلْقِهِ-  مُتَوَحِّدٌ إِذْ لَا سَکَنَ یَسْتَأْنِسُ بِهِ وَ لَا یَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ

 

أقول: اعلم أنّ هذه الخطبه مشتمله على مباحث عظیمه و نکت مهمه على ترتیب طبیعیّ فلنعقد فیها خمسه فصول.

                  

الفصل الاول فی تصدیرها بذکر اللّه جلّ جلاله و تمجیده و الثناء علیه بما هو أهله و هو قوله:

الحمد للّه إلى قوله: و لا یستوحش لفقده.

أقول: المدح و المدیح الثناء الحسن، و المدحه فعله من المدح و هی الهیئه و الحاله التی ینبغی أن یکون المدح علیها، و الإحصاء إنهاء العدّ و الإحاطه بالمعدود یقال: أحصیت الشی‏ء أی أنهیت عدّه، و هو من لواحق العدد و لذلک نسبه إلى العادّین، و النعماء النعمه، و هو اسم یقام مقام المصدر، و أدّیت حقّ فلان إذا قابلت إحسانه بإحسان مثله، و الإدراک اللحقوق و النیل و الإصابه و الوصول و الوجدان، و الهمّه هی العزم الجازم و الإراده یقال: فلان بعید الهمّه إذا کانت إرادته تتعلّق بعلیّات الامور دون محقرّاتها، و الغوص الحرکه فی عمق الشی‏ء من قولهم غاض فی الماء إذا ذهب فی عمقه، و الفطن جمع فطنه و هی فی اللغه الفهم، و هو عند العلماء عباره عن جوده استعداد الذهن لتصوّر ما یرد علیه، و حدّ الشی‏ء منتهاه، و الحدّ المنع، و منه سمّى العلماء تعریف الشی‏ء بأجزائه حدّا لأنّه یمنع أن یدخل فی المحدود ما لیس منه أو یخرج منه ما هو منه، و النعت الصفه، و الأجل المدّه المضروبه للشی‏ء، و الفطره الشقّ و الابتداع قال ابن عبّاس: ما کنت أدری ما معنى قوله تعالى: «فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» حتّى جائنی أعرابیّان یختصمان على بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أی ابتدعتها، و الخلائق جمع خلیقه و هی إمّا بمعنى المخلوق یقال: هم خلیقه اللّه و خلق اللّه أی مخلوقه أو بمعنی الطبیعه لأنّ الخلیقه هی الطبیعه أیضا، و النشر البسط، و وتد بالفتح أی ضرب الوتد فی حائط أو فی غیره، و الصخوره الحجاره العظام، و المیدان الحرکه بتمایل و هو الاسم من ماد یمید میدا و منه غصن میّاد متمایل، و الدین فی أصل‏ اللغه یطلق على معان، منها العاده، و منها الإذلال یقال دانه أی أذّله و ملّکه و منه بیت الحماسه دنّاهم کما دانوا، و منها المجازاه کقوله تعالى «إِنَّا لَمَدِینُونَ» أی مجزیّون، و المثل المشهور کما تدین تدان، و منها الطاعه یقال: دان له أی أطاعه کقول عمرو بن کلثوم: عصینا لملک فینا أن تدینا، و یطلق فی العرف الشرعی على الشرائع الصادره بواسطه الرسل علیهم السّلام و قرنه أی جعل له قرینا و المقارنه الاجتماع مأخوذ من قرن الثور و غیره و منه القرن للمثل فی السنّ و کذلک القرن من الناس أهل الزمان الواحد قال

         إذا ذهب القرن الّذی أنت فیهم            و خلّفت فی قرن فأنت قریب‏

 

و المزائله المفارقه و هی مفاعله من الطرفین و المتوحّد بالأمر المنفرد به عمّن یشارکه فیه، و السکن بفتح الکاف کلّ ما سکت إلیه، و الاستیناس بالشی‏ء میل الطبع إلیه و سکون و کذلک التأنّس و منه الأنیس و هو المونس، و الاستیحاش ضدّ الاستیناس و هو نفره الطبع بسبب فقد المؤانس، و اعلم أنّا نفتقر فی بیان نظام کلامه علیه السّلام فی هذا الفصل إلى تقدیم مقدّمه فنقول: الصفه أمر یعتبره العقل لأمر آخر و لا یمکن أن یعقل إلّا باعتباره معه، و لا یلزم من تصوّر العقل شیئا لشی‏ء أن یکون ذلک المتصوّر موجودا لذلک الشی‏ء فی نفس الأمر بیان ذلک ما قیل فی رسم المضاف: إنّه الأمر الّذی تعقّل ماهیّته بالقیاس إلى غیره و لیس له وجود سوى معقولیّته بالقیاس إلى ذلک الغیر، و الصفه تنقسم باعتبار العقل إلى حقیقیّه و إضافیّه و سلبیّه، و ذلک لأنّ نسبه العقل للصفه إلى غیرها إمّا أن یعقل معها نسبته من المنسوب إلیه أو لا یعقل فإن کان الأوّل فهو المضاف الحقیقیّ و حقیقته أنّه المعقول بالقیاس إلى غیر یکون بإزائه یعقل له إلیه نسبه و لا یکون له وجود سوى معقولیّته بالقیاس إلیه ککونه تعالى خالقا و رازقا و ربّا فإنّ حقیقه هذه الصفات هی کونها معقوله بالقیاس إلى مخلوقیّه و مرزوقیّه و مربوبیّه موازیه، و إن کان الثانی فالمنسوب إلیه إمّا أن یکون موجودا للمضاف أو لیس بموجود له، و الأوّل هو الصفات الحقیقیّه ککونه تعالى حیّا فإنّه أمر یعقل بالقیاس إلى صحّه العلم و القدره له و لیس بإزاء أمر یعقل منه نسبه إلیه، و الثانی هو الصفات السلبیّه ککونه تعالى لیس بجسم و لا بعرض و غیرها فإنّها امور تعقل له بالقیاس إلى امور غیر موجوده له تعالى ثمّ نقول: إنّه لا یلزم من اتّصاف ذاته سبحانه بهذه الأنواع الثلاثه من الصفات ترکیب و لا کثره فی ذاته لأنّها اعتبارات عقلیّه تحدثها عقولنا عند المقائسه إلى الغیر و لم یلزم من ذلک أن تکون موجوده فی نفس الأمر و إن لم تعقل، و لمّا کان دأب العقلاء أن یصفوا خالقهم سبحانه بما هو أشرف طرفی النقیض لما تقرّر فی عقولهم من أعظمیته و مناسبه اشرف الطرفین للأعظمیّته کان ما وصف به تعالى من الصفات الحقیقیّه و الإضافیّه و السلبیّه کلّها کذلک، فإذا عرفت ما قلناه فاعلم أنّه علیه السّلام شرع أوّلا فی الاعتبارات السلبیّه و قدّمها على الثبوتیّه لدقیقه و هى أنّه قد ثبت فی علم السلوک إلى اللّه أنّ التوحید المحقّق و الإخلاص المطلق لا یتقرّر إلّا بنقض کلّ ما عداه عنه و تنزیهه عى کلّ لا حق له و طرحه عن درجه الاعتبار و هو المسمى فی عرف المجرّدین و أهل العرفان بمقام التخلیّه و النقض و التفریق، و ما لا یتحقّق الشی‏ء إلّا به کان اعتباره مقدّما على اعتباره، و لهذا الترتیب کان أجلّ کلمه نطق بها فی التوحید قولنا: لا إله إلّا اللّه إذ کان الجزء الأوّل منها مشتملا على سلب کلّ ما عدا الحقّ سبحانه مستلزما لغسل درن کلّ شبهه لخاطر سواه، و هو مقام التنزیه و التخلیه حتّى إذا أنزح کلّ ثان عن محلّ عرفانه استعدّ بجوده للتخلیه بنور وجوده و هو ما اشتمل علیه الجزء الثانی من هذه الکلمه، و لمّا بیّنا أنّه علیه السّلام کان لسان العارفین و الفاتح لأغلاق الطریق إلى الواحد الحقّ تعالى و المعلّم المرشد لکیفیّه السلوک، و کانت الأوهام البشریّه حاکمه بمثلیته تعالى لمدرکاتها و العقول قاصره عن إدراک حقیقته و الواصل إلى ساحل عزّته و المنزّه له عمّا لا یجوز علیه إذا أمکن وجوده نادرا لم یکن للأوهام الواصفه له تعالى بما لا یجوز علیه معارض فی أکثر الخلق بل کانت جاریه على حکمها قائده لعقولها إلى تلک الأحکام الباطله کالمشبّهه و نحوهم لا جرم بدء علیه السّلام بذکر السلب إذ کان تقدیمه مستلزما لغسل درن الحکم الوهمیّ فی حقّه تعالى عن لوح الخیال و الذکر حتّى إذا أورد عقب ذلک ذکره تعالى بما هو أهله ورد على ألواح صافیه من کدر الباطل فانتقشت بالحقّ کما قال: فصادف قلبا خالیا فتمکّنا، ثمّ إنّه علیه السّلام بدء بتقدیم حمد اللّه تعالى على الکلّ هاهنا و فی سائر خطبه جریا على العاده فی افتتاح الخطب و تصدیرها، و سرّ ذلک تأدیب الخلق بلزوم الثناء على اللّه تعالى، و الاعتراف بنعمته عند افتتاح کلّ خطاب لاستلزام ذلک ملاحظه حضره الجلال و الالتفات إلیها عامّه الأحوال‏ و قد بیّنا أنّ الحمد یفید معنى الشکر و یفید ما هو أعمّ من ذلک و هو التعظیم المطلق و بجمیع أقسامه مراد هاهنا لکون الکلام فی معرض التمجید المطلق.

 

قوله الّذی لا یبلغ مدحته القائلون.

 أقول أراد تنزیهه تعالى عن إطّلاع العقول البشریّه على کیفیّه مدحه سبحانه کما هی، و بیان هذا الحکم أنّ الثناء الحسن على الشی‏ء إنّما یکون کما هو إذا کان ثناء علیه بما هو کذلک فی نفس الأمر، و ذلک غیر ممکن فی حقّ الواجب الوجود سبحانه إلّا بتعقّل حقیقته و ما لها من صفات الجلال و نعوت الکمال کما هی و عقول البشر قاصره عن هذا المقام فالقول و إن صدر عن المادحین بصوره المدح المتعارف بینهم و على ما هو دأبهم من وصفه تعالى بما هو أشرف من طرفی النقیض فلیس بکمال مدحه فی نفس الأمر لعدم اطّلاعهم على ما به یکون المدح الحقّ فی حقّه تعالى و إن تصوّر بصوره المدح الحقّ و أشار إلى تأدیب الخلق و تنبیههم على بطلان ما تحکّم به أوهامهم فی حقّه تعالى من الصفات و أنّه لیس الأمر کما حکمت به إذ قال فی موضع آخر، و قد سأله بعضهم عن التوحید فقال: التوحید أن لا تتوهّمه، فجعل التوحید عباره عن سلب الحکم الوهمیّ فی حقّه تعالى فاستلزم ذلک أنّ من أجرى علیه حکما وهمیّا فلیس بموحّد له على الحقیقه، و إلى هذا النحو أشار الباقر محمّد بن علیّ علیه السّلام مخاطبا و هل سمّى عالما قادرا إلّا لأنّه وهب العلم للعلماء، و القدره للقادرین فکلّ ما میّزتموه بأوهامکم فی أدّق معانیه فهو مخلوق مصنوع مثلکم مردود إلیکم، و الباری تعالى واهب الحیاه و مقدّر الموت، و لعلّ النمل الصغار تتوهّم أن للّه تعالى زبانیین کما لها فإنّها تتصوّر أنّ عدمها نقصان لمن لا یکونان له، فهکذا شأن الخلق فیما یصفون به بآرائهم فإنّ أوهامها حاکمه له بکلّ ما یعدّونه کمالا فی حقّهم ما لم تقو عقولهم على ردّ بعض تلک الأحکام الوهمیّه و لولا رادع الشرع کقوله علیه السّلام تفکّروا فی الخلق و لا تتفکّروا فی الخالق لصرّحوا بکثیر من تلک الأحکام فی حقّه سبحانه و تعالى عمّا یصفون، و یحتمل أن یکون المراد تنزیهه تعالى عن بلوغ العقول و الأوهام تمام الثناء الحسن علیه و إحصائه أتی أنّ العبد کان کلّما بلغ مرتبه من مراتب المدح و الثناء کان ورائها أطوار من استحقاق الثناء و التعظیم أعلى کما أشار إلیه سیّد المرسلین‏ صلى اللّه علیه و آله بقوله: لا احصى ثناء علیک أنت کما أثنیت على نفسک، و فی تخصیصه علیه السّلام القائلین دون المادحین بالذکر نوع لطف فإنّ القائل لمّا کان أعمّ من المادح و کان سلب العامّ مستلزما لسلب الخاصّ من غیر عکس کان ذکر القائلین أبلغ فی التنزیه إذا التقدیر لا واحد من القائلین ببالغ مدحه اللّه سبحانه.

 

قوله و لا یحصى نعماؤه العادّون.

 أقول: المراد أنّ جزئیّات نعم اللّه و أفرادها لا یحیط بها حصر الإنسان و عدّه لکثرتها و بیان هذا الحکم بالنقل و العقل أمّا النقل فقوله تعالى «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها»«» و هذه الآیه هى منشأ هذا الحکم و مصدره، و أمّا العقل فلأنّ نعم اللّه تعالى على العبد منها ظاهره و منها باطنه کما قال تعالى «أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَکُمْ»«» و یکفینا فی صدق هذا الحکم التنبیه على بعض جزئیّات نعم اللّه تعالى على العبد فنقول: إنّ من جمله نعمه تعالى على الإنسان أن أکرمه بملائکته و جعله مسجودا لهم و مخدوما، و جعلهم فی ذلک على مراتب فلنذکر أقربهم إلیه و أخصّهم به، و هم الملائکه الّذین یتولّون إصلاح بدنه و القیام بمهمّاته و حوائجه، و إن کانوا فی ذلک أیضا على مراتب فجعل سبحانه لهم رئیسا هو له کالوزیر الناصح المشفق من شأنه تمییز الأصلح و الأنفع له و الأمر به، و جعل بین یدی ذلک الوزیر ملکا آخرا هو کالحاجب له و المتصرّف بین یدیه من شأنه تمییز صداقه الأصدقاء للملک من عداوه الأعداء له، و جعل لذلک الحاجب ملکا خازنا یضبط عنه ما یتعرّفه من الامور لیطالعها الوزیر عند الحاجه، ثمّ جعل بین یدیه ملکین آخرین أحدهما ملک الغضب و هو کصاحب الشرطه موکّل بالخصومات و الغلبه و البطش و الانتقام، و الثانی ملک اللذّه و المتولّی لمشتهیات الإنسان بالطلب و الأمر بالاستحضار، و بین یدیه ملائکه اخرى تسعى فی تحصیل ما یأمر به و یطلبه، ثمّ جعله سبحانه وراء هؤلاء سبعه اخرى من الملائکه دأبهم إصلاح غذاء الإنسان، فالأوّل موکّل بجذب الغذاء إلى داخل المعده إذ الغذاء لا یدخل بنفسه فإنّ الإنسان لو وضع اللقمه فی فیه و لم یکن لها جاذب لم تدخل، و الثانی موکلّ بحفظه  فی المعده إلی تمام نضجه و حصول الغرض منه، و الثالث موکّل بطبخه و تنضیجه، و الرابع موکّل بتفریق صفوته و خلاصته فی البدن سدّ البدل ما یتحلّل منه، و الخامس موکّل بالزیاده فی أقطار الجسم على التناسب الطبیعی بما یوصله إلیه الرابع فهما کالبانی و المناول، و السادس موکّل بفصل صوره الدم من الغذاء، و السابع الّذی یتولّى دفع الفضله الغیر المنتفع بها عن المعده، ثمّ وکّل تعالى خمسه اخرى فی خدمته شأنهم أن یوردوا علیه الأخبار من خارج، و جعل لکلّ واحد منهم طریقا خاصّا و فعلا خاصّا به، و جعل لهم رئیسا یبعثهم و یرجعون إلیه بما عملوه، و جعل لذلک الرئیس خازنا کاتبا یضبط عنه ما یصل إلیه من تلک الأخبار، ثمّ جعل بین هذا الخازن و بین الخازن الأوّل ملکا قویّا على التصرف و الحرکه سریع الانتقال بحیث ینتقل فی اللحظه الواحده من المشرق إلى المغرب و من تخوم الأرض إلى السماء العلیا قادرا على التصرّفات العجیبه، و جعله مؤتمرا للوزیر تاره و للحاجب اخرى و هو موکّل بتفتیش الخزانتین و مراجعه الخازنین بإذن الوزیر واسطه الحاجب إذا أراد استعلام أمر من تلک الامور، فهذه الملائکه الّتی خصّ اللّه تعالى بها بدنه و جعلها أقرب الملائکه المتصرفین فی خدمته إلیه، ثمّ إنّ وراء هؤلاء أطوارا اخر من الملائکه الأرضیّه کالملائکه الموکّلین بأنواع الحیوانات الّتی ینتفع بها الإنسان و بها تکون مسخّره له و أنواع النبات و المعادن و العناصر الأربعه و الملائکه السماویه الّتی لا یعلم عددهم إلّا اللّه سبحانه و تعالى کما قال «وَ ما یَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّکَ إِلَّا هُوَ»«» فإنّ کلّ واحد منها موکّل بفعل خاصّ و له مقام خاصّ لا یتعدّاه و لا یتجاوزه کما قال تعالى حکایه عنهم «وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ»«» و هم بأسرهم متحرّکون بمصالح الإنسان و منافعه من أوّل حیاته إلى حین وفاته بإذن المدبّر الحکیم دع ما سوى الملائکه من سائر الموجودات فی هذا العالم المشتمله على منافعه و ما أفاض علیه من القوّه العقلیّه الّتی هی سبب الخیرات الباقیه و النعم الدائمه الّتی لا تنقطع موادّها و لا یتناهى تعدادها فإنّ کلّ ذلک فی الحقیقه نعم إلهیّه و مواهب ربانیّه للعبد بحیث لو اختلّ شی‏ء منها لاختلّت منفعته من تلک الجهه، و معلوم أنّه لو قطع وقته أجمع‏ بالنظر إلى آثار رحمه اللّه تعالی فی نوع من هذه النعم لانتها دونها فکره و قصر عنها إحصاؤه و حصره، و هو مع ذلک کلّه غافل عن شکر اللّه جاهل بمعرفه اللّه مصرّ على معصیه اللّه فحقّ أن یقول سبحانه و تعالى بعد تنبیهه له على ضروب نعمه و الامتنان بها علیه «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ کَفَّارٌ»«» ظلوم لنفسه بمعصیه اللّه معتاد للکفر بآلاء اللّه قتل الإنسان ما أکفره إنّ الإنسان لکفور مبین فسبحان الّذی لا تحصى نعماؤه و لا تستقصی آلاؤه، و غایه هذا الحکم تنبیه الغافلین من مراقد الطبیعه على لزوم شکر اللّه سبحانه، و الاعتراف بنعمه المستلزم لدوام إخطاره بالبال.

 

قوله و لا یؤدّی حقّه المجتهدون.

أقول: هذا الحکم ظاهر الصدق من وجهین أحدهما أنّه لمّا کان أداء حقّ النعمه هو مقابله الإحسان بجزاء مثله و ثبت فی الکلمه السابقه أنّ نعم اللّه سبحانه لا تحصى لزم من ذلک أنّه لا یمکن مقابلتها بمثل. الثانی أنّ کلّ ما نتعاطاه من أفعالنا الاختیاریّه مستندا إلى جوارحنا و قدرتنا و إرادتنا و سائر أسباب حرکاتنا و هى بأسرها مستنده إلى جوده و مستفاده من نعمته، و کذلک ما یصدر عنّا من الشکر و الحمد و سائر العبادات نعمه فتقابل نعمه بنعمه، و روى أنّ هذا الخاطر خطر لداود علیه السّلام و کذلک لموسى علیه السّلام فقال: یا ربّ کیف أشکرک و أنا لا أستطیع أن أشکرک إلّا بنعمه ثانیه من نعمک، و فی روایه اخرى و شکری ذلک نعمه اخرى توجب علىّ الشکر لک فأوحى اللّه تعالى إلیه إذا عرفت هذا فقد شکرتنی، و فی خبر آخر إذا عرفت أنّ النعم منّی رضیت منک بذلک شکرا، فأمّا ما یقال فی العرف: من أنّ فلانا مؤدّ لحقّ اللّه تعالى فلیس المراد منه جزاء النعمه بل لمّا کانت المطلوبات للّه تعالى من التکالیف الشرعیّه و العقلیّه تسمّى حقوقا له لا جرم سمّى المجتهد فی الامتثال مؤدّیا لحقّ اللّه، و ذلک الأداء فی الحقیقه من أعظم نعمه تعالى على عبده إذ کانت الامتثال و سائر أسباب السلوک الموصل إلى اللّه تعالى کلّها مستنده إلى جوده و عنایته و إلیه الإشاره بقوله تعالى «یَمُنُّونَ عَلَیْکَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَیَّ إِسْلامَکُمْ بَلِ اللَّهُ یَمُنُّ عَلَیْکُمْ أَنْ هَداکُمْ لِلْإِیمانِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ»«» و ما کان فی الحقیقه نعمه اللّه لا یکون أداء لنعمه اللّه و جزاء لها و إن اطلق ذلک فی العرف إذ کان من شأن الحقّ المفهوم المتعارف بین الخلق استلزامه وجوب الجزاء و الأداء لیسارعوا إلى الإیتان به رغبه و رهبه فیحصل المقصود من التکلیف حتّى لو لم یعتقدوا أنّه حقّ للّه بل هو مجرّد نفع خالص لهم لم یهتمّوا به غایه الاهتمام إذ کانت غایته غیر متصوّره لهم کما هی، و قلمّا تهتمّ النفوس، بأمر لا تتصوّر غایته و منفعته خصوصا مع المشقّه اللازمه فی تحمّله إلّا بباعث قاهر من خارج.

 

قوله الّذی لا یدرکه بعد الهمم و لا یناله غوص الفطن.

 أقول: إسناد الغوص هاهنا إلى الفطن على سبیل الاستعاره إذ الحقیقه إسناده إلى الحیوان بالنسبه إلى الماء و هو مستلزم لتشبیه المعقولات بالماء، و وجه الاستعاره هاهنا أنّ صفات الجلال و نعوت الکمال لمّا کانت فی عدم تناهیها و الوقوف على حقائقها و أغوارها تشبه البحر الخضم الّذی لا یصل السائح له إلى ساحل، و لا ینتهی الغائص فیه إلى قرار، و کان السائح لذلک البحر و الحائض فی تیّاره هى الفطن الثاقبه لا جرم کانت الفطنه شبیهه بالغائص فی البحر فأسند الغوص إلیها، و فی معناه الغوص فی الفکر و الغوص فی النوم، و یقرب منه إسناد الإدراک إلى بعد الهمم إذ کان الإدراک حقیقه فی لحقوق جسم لجسم آخر و إضافه الغوص إلى الفطن و البعد إلى الهم إضافه لمعنى الصفه بلفظ المصدر إلى الموصوف، و التقدیر لا تناله الفطن الغائصه و لا تدرکه الهمم البعیده، و وجه الحسن فی هذه الإضافه و تقدیم الصفه أنّ المقصود لمّا کان هو المبالغه فی عدم إصابه ذاته تعالى بالفطنه من حیث هى ذات غوص و بالهمّه من حیث هى بعیده کانت تلک الحیثیّه مقصوده بالقصد الأوّل، و قد بیّنا أنّ البلاغه تقتضی تقدیم الأهمّ و المقصود الأوّل على ما لیس کذلک، و برهان هذا المطلوب ظاهر فإنّ حقیقته تعالى لمّا کانت بریّه عن جهات الترکیبات عریّه عن اختلاف الجهات مترعه عن تکثّر المتکثّرات، و کانت الأشیاء إنّما تعلم بما هى من جهه حدودها المؤلّفه من أجزائها فإذن صدق أنّ واجب الوجود لیس بمرکّب و ما لیس بمرکّب لیس بمدرک الحقیقه و صدق أنّ واجب الوجود لیس بمدرک الحقیقه فلا تدرکه همّه و إن بعدت و لا تناله فطنه و إن اشتدّت فکلّ سائح فی بحار جلاله غریق فکلّ مدّع للوصول فبأنوار کبریائه حریق لا إله إلّا هو سبحانه و تعالى عمّا یقولون علوّا کبیرا.

 

قوله الّذی لیس لصفته حدّ محدود و لا نعت موجود.

 أقول: المراد لیس لمطلق ما تعتبره عقولنا له من الصفات السلبیّه و الإضافیّه نهایه معقوله تقف عندها فیکون حدّا له، و لیس لمطلق ما یوصف به أیضا وصف موجود یجمعه فیکون نعتا له و منحصرا فیه قال ابو الحسن الکندرى-  رحمه اللّه- : و یمکن أن یؤول حدّ محدود على ما یأوّل به کلام العرب: و لا یرى الضبّ بها ینحجر، أى لیس بها ضبّ فینحجر حتّى یکون المراد أنّه لیس له صفه فتحدّ إذ هو تعالى واحد من کلّ وجه منزّه عن الکثره بوجه ما فیمتنع أن یکون له صفه تزید على ذاته کما فی سائر الممکنات، و صفاته المعلومه لیست من ذلک فی شی‏ء إنّما هى نسب و إضافات لا یوجب وصفه بها کثره فی ذاته قال: و ممّا یؤکّد هذا التأویل قوله بعد ذلک فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، و هذا التأویل حسن و هو راجع إلى ما ذکرناه فی المعنى، و أمّا وصفه الحدّ بکونه محدودا فللمبالغه على طریقه قولهم شعر شاعر، و على هذا التأویل یکون قوله و لا نعت موجود سلبا للنعت عن ذاته سبحانه إذ التقدیر لیس له صفه تحدّ و لا نعت، و قیل معنى قوله لیس لصفته حدّ أى لیس لها غایه بالنسبه إلى متعلّقاتها کالعلم بالنسبه إلى المعلومات و القدره إلى المقدورات.

 

قوله و لا وقت معدود و لا أجل ممدود.

 أقول: وصف الوقت بکونه معدودا کقوله تعالى «فِی أَیَّامٍ مَعْدُوداتٍ» و کقوله «وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ»«» و هو المعلوم الداخل فی الإحصاء و العدّ، و ذلک أنّ العدّ لا یتعلّق بالوقت الواحد من حیث هو واحد فإنّه من تلک الحیثیّه لیس معدودا بل مبدء للعدد و إنّما یتعلّق به من حیث إنّه داخل فی الأوقات الکثیره الموجوده فی الزمان إمّا بالفرض أو بالفعل الّتی یلحق جملتها عند اعتبار التفصیل کونها معدوده إذ یقال: هذا الفرد معدود فی هذه الجمله أى داخل فی عدّها و مراده فی هذین الحکمین نفی نسبه ذاته و ما یلحقها إلى الکون فی الزمان و أن یکون ذات أجل ینتهی إلیه فینقطع وجودها بانتهائه و بیان ذلک من وجهین أحدهما أنّ الزمان من لواحق الحرکه الّتی هى من لواحق الجسم فلمّا کان الباری سبحانه منزّها عن الجسمیّه استحال أن یکون فی زمان، الثانی أنّه‏   تعالى إن أوجد الزمان و هو فی الزمان لزم کون الزمان متقدّما على نفسه و إن أوجده بدون أن یکون فیه کان غنیّا فی وجوده عنه فهو المطلوب فإذن صدق هذین السلبین فی حقّه معلوم، و قد حصل فی هذه القرائن الأربع السجع المتوازی مع نوع من التجنیس.   


قوله الّذی فطر الخلائق بقدرته و نشر الریاح برحمته و وتد بالصخور میدان أرضه.

أقول: لمّا قدّم الصفات السلبیّه شرع فی الصفات الثبوتیّه و هذه الاعتبارات الثلاثه موجوده فی القرآن الکریم أمّا الأوّل فقوله تعالى «الَّذِی فَطَرَکُمْ أَوَّلَ مَرَّهٍ»«» و أمّا الثانی فقوله تعالى «وَ هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ الرِّیاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ»«» و أمّا الثالث فقوله تعالى «وَ أَلْقى‏ فِی الْأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِکُمْ»«» و قوله «وَ الْجِبالَ أَوْتاداً»«»

أمّا المراد بقوله فطر الخلائق بقدرته فاعتباره من حیث استناد المخلوقات إلى قدرته و وجودها عنها، و لمّا کانت حقیقه الفطر الشقّ فی الأجسام کانت نسبته هاهنا إلى الخلق استعاره، و للإمام فخر الدین فی بیان وجه الاستعاره فی أمثال هذا الموضع بحث لطیف قال: و ذلک أنّ المخلوق قبل دخوله فی الوجود کان معدودا محضا و العقل یتصوّر من العدم ظلمه متّصله لا انفراج فیها و لا شقّ، فإذا أخرج الموجد المبتدع من العدم إلى الوجود فکأنّه بحسب التخیّل و التوهّم شقّ ذلک العدم و فطره و أخرج ذلک الموجود منه. قلت: إلّا أنّ ذلک الشقّ و الفطر على هذا التقدیر لا یکون للموجود المخرج بل للعدم الّذی خرج هذا الموجود منه اللّهم إلّا على تقدیر حذف المضاف و إقامه المضاف إلیه مقامه حتّى یکون التقدیر الّذی فطر عدم الخلائق. و هو استعمال شائع فی العرف و العربیّه کثیرا و حسنه بین الناس ظاهر و مثله فالق الحبّ و النوى على قول بعض المفسّرین کما سنبیّنه، و قال ابن‏  الأنباری: لمّا کان أصل الفطر شقّ الشی‏ء عند ابتدائه فقوله فطر الخلائق أی خلقهم و أنشأهم بالترکیب و التألیف الّذی سبیله أن یحصل فیه الشقّ و التألیف عند ضمّ بعض الأشیاء إلى بعض، ثمّ إنّ الفطر کما یکون شقّ إصلاح کقوله تعالى «فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» کذلک یکون شقّ إفساد کقوله تعالى «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» «و هَلْ تَرى‏ مِنْ فُطُورٍ»

و أمّا  قوله و نشر الریاح برحمته فبیانه أنّ نشر الریاح و بسطها لمّا کان سببا عظیما من أسباب بقاء أنواع الحیوان و النبات و استعدادات الأمزجه للصحّه و النموّ و غیرها حتّى قال کثیر من الأطبّاء: إنّها تستحیل روحا حیوانیّا، و کانت عنایه اللّه سبحانه و تعالى و عموم رحمته شامله لهذا العالم و هى مستند کلّ موجود لا جرم کان نشرها برحمته، و من أظهر آثار الرحمه الإلهیّه بنشر الریاح حملها للسحاب المقرع بالماء و إثارتها له على وفق الحکمه لیصیب الأرض المیته فینبت بها الزرع و یملاء الضرع کما قال سبحانه «مَنْ یُرْسِلُ الرِّیاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ»«» و قال «یُرْسِلَ الرِّیاحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِیُذِیقَکُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ»«» و قال «وَ أَرْسَلْنَا الرِّیاحَ لَواقِحَ-  فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَیْناکُمُوهُ»«» و المراد تنبیه الغافلین على ضروب نعم اللّه بذکر هذه النعمه الجلیله لیستدیموها بدوام شکره و المواظبه على طاعته کما قال تعالى «وَ اذْکُرُوا نِعْمَهَ اللَّهِ عَلَیْکُمْ» و لقوله «لِتَسْتَوُوا عَلى‏ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْکُرُوا نِعْمَهَ رَبِّکُمْ إِذَا اسْتَوَیْتُمْ عَلَیْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِی سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما»«» قال إنّ بعض العرب یستعمل الریح فی العذاب و الریاح فی الرحمه و کذلک نزل القرآن الکریم قال تعالى «بِرِیحٍ صَرْصَرٍ» و قال «الرِّیحَ الْعَقِیمَ» و قال «یُرْسِلَ الرِّیاحَ مُبَشِّراتٍ-  و الرِّیاحَ لَواقِحَ» و أمثاله.

قوله و وتد بالصخور میدان أرضه.

أقول: المراد نسبه نظام الأرض إلى قدرته سبحانه، و هاهنا بحثان.

البحث الأوّل فی أنّ قول القائل وتدت کذا بکذا

معناه جعلته و تداله و الموتود هاهنا فی الحقیقه إنّما هو الأرض و قد جعل الموتود هنا هو میدان الأرض و هو عرض من الأعراض لا یتصوّر جعل الجبل وتدا له إلّا أنّا نقول: لمّا کان المیدان علّه حامله على إیجاد الجبال و إیتاد الأرض بها کان الاهتمام به أشدّ فلذلک قدمّه و أضافه إضافه الصفه إلى الموصوف و إن کان التقدیر وتد بالصخور أرضه المائده.

البحث الثانی أنّ تعلیل وجود الجبال بمیدان الأرض

ورد هاهنا و فی القرآن الکریم فی مواضع کقوله تعالى «وَ أَلْقى‏ فِی الْأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِکُمْ» و کقوله «وَ الْجِبالُ‏ کَذَّبَتْ» و لا بدّ من البحث عن وجه هذا التعلیل، و فیه خمسه أوجه

الوجه الأوّل قال المفسّرون فی معنى هذه الآیات:

إنّ السفینه إذا القیت على وجه الماء فإنّها تمیل من جانب إلى جانب و تتحرّک فإذا وضعت الأجرام الثقیله فیها استقرّت على وجه الماء و سکنت قالوا فکذلک لمّا خلق اللّه تعالى الأرض على وجه الماء اضطربت و مادت فخلق اللّه علیها هذا الجبال و وتدها بها فاستقرّت على وجه الماء بسبب ثقل الجبال قال الإمام فخر الدین و یتوجّه على هذا الکلام أن یقال: لا شکّ أنّ الأرض أثقل من الماء و الأثقل یغوص فیه و لا یبقى طافیا علیه و إذا لم یبق کذلک امتنع أن یقال: إنّها تمید و تمیل بخلاف السفینه إذ کانت مرکّبه من الأخشاب و داخلها مجوّف مملوّ من الهواء فلذلک تبقى طافیه على الماء فلا جرم تمیل و تضطرب إلى أن ترسى بالأجرام الثقیله فإذن الفرق ظاهر.

الوجه الثانی ما ذکره هو

قال: إنّه قد ثبت بالدلائل الیقینیّه أنّ الأرض کره، و ثبت أیضا أنّ هذه الجبال على سطح الأرض جاریه مجرى خشونات و تضریسات حاصله على وجه الکره فإذا ثبت هذا فلو فرضنا أن هذه الخشونات ما کانت حاصله بل کانت الأرض کره حقیقیه خالیه عن الخشونات و التضریسات لصارت بحیث تتحرّک بالاستداره بأدنى سبب لأنّ الجرم البسیط یجب کونه متحرّکا على نفسه و إن لم یجب ذلک عقلا إلّا أنّها تصیر بأدنی سبب تتحرّک على هذا الوجه أمّا إذا حصل على سطح کره الأرض هذه الجبال فکانت کالخشونات الواقعه على وجه الکره فکلّ واحد من هذه الجبال إنّما یتوجّه بطبعه إلى مرکز العالم و توجّه ذلک الجبل نحو مرکز العالم بثقله العظیم و قوّته الشدیده یکون جاریا مجرى الوتد الّذی یمنع کره الأرض من الاستداره و کان تخلیق هذه الجبال على الأرض کالأوتاد المعدوده فی الکره المانعه من الحرکه المستدیره.

الوجه الثالث أن نقول:

لمّا کانت فائده الوتد أن یحفظ الموتود فی بعض المواضع عن الحرکه و الاضطراب حتّى یکون قارّا ساکنا، و کان من لوازم ذلک السکون فی بعض الأشیاء صحّه الاستقرار على ذلک الشی‏ء و التصرّف علیه و کان من فائده وجود الجبال و التصریسات الموجوده فی وجه الأرض أن لا یکون مغموره بالماء لیحصل للحیوان الاستقرار و التصرّف علیها لا جرم کان بین الأوتاد و الجبال الخارجه من الماء فی الأرض اشتراک فی کونهمامستلزمین لصحّه الاستقرار مانعین من عدمه لا جرم حسنت استعاره نسبه الإتیاد إلى الصخور و الجبال، و أمّا إشعاره بالمیدان، فلانّ الحیوان کما یکون صادقا علیه أنّه غیره مستقرّ على الأرض بسبب انغمارها فی الماء لو لم توجد الجبال کذلک یصدق على الأرض أنّهما غیر مستقرّه تحته و مضطربه بالنسبه إلیه فثبت حینئذ أنّه لو لا وجود الجبال فی سطح الأرض لکانت مضطربه و مائده بالنسبه إلى الحیوان لعدم تمکّنه من الاستقرار علیها.

الوجه الرابع قال بعض العلماء:

إنّه یحتمل أن تکون الإشاره بالصخور إلى الأنبیاء و الأولیاء و العلماء و بالأرض إلى الدنیا أمّا وجه التجوّز بالصخور عن الأنبیاء و العلماء فلأنّ الصخور و الجبال لمّا کانت على غایه من الثبات و الاستقرار مانعه لما یکون تحتها من الحرکه و الاضطراب عاصمه لما یلتجى‏ء إلیها من الحیوان عمّا یوجب له الهرب فیسکن بذلک اضطرابه و قلقه أشبهت الأوتاد من بعض هذه الجهات، ثمّ لمّا کانت الأنبیاء و العلماء هم السبب فی انتظام امور الدنیا و عدم اضطراب أحوال أهلها کانوا کالأوتاد للأرض فلا جرم صحّت استعاره لفظ الصخور لهم، و لذلک یحسن فی العرف أن یقال: فلان جبل منیع یأوی إلیه کلّ ملهوف إذا کان یرجع إلیه فی المهمّات و الحوائج و العلماء أوتاد اللّه فی الأرض.

الوجه الخامس

أنّ المقصود من جعل الجبال کالأوتاد فی الأرض أن یهتدى بها على طرقها و المقاصد فیها فلا تمید جهاتها المشتبهه بأهلها و لا تمیل بهم فیتیهون فیها عن طرقهم و مقاصدهم و باللّه التوفیق.

قوله أوّل الدین معرفته.

أقول: لمّا کان الدین فی اللغه الطاعه کما سبق و فی العرف الشرعیّ هو الشریعه الصادره بواسطه الرسل علیهم السلام و کان اتّباع الشریعه طاعه مخصوص کان ذلک تخصیصا من الشارع للعامّ بأحد مسمّیاته و لکثره استعماله فیه صار حقیقه دون سائر المسمّیات لأنّه المتبادر إلى الفهم حال إطلاق لفظه الدین، و اعلم أنّ معرفه الصانع سبحانه على مراتب فأولیها و أدناها أن یعرف العبد أنّ للعالم صانعا، الثانیه أن یصدّق بوجوده، الثالثه أن یترقّی بجذب العنایه الإلهیّه إلى توحیده و تنزیهه عن الشرکاء، الرابعه مرتبه الإخلاص له، الخامسه نفی الصفات الّتی تعتبرها الأذهان له عنه و هی غایه العرفان و منتهى قوّه الإنسان، و کلّ مرتبه من المراتب الأربع الاولى مبدء لما بعدها من المراتب، و کلّ من الأربع الأخیره کمال لما قبلها، ثمّ إنّ المرتبتین الأولیین مرکوزتان فی الفطر الإنسانیّه بل فیما هو أعمّ منها و هی الفطر الحیوانیّه و لذلک فإنّ الأنبیاء علیهم السلام لم یدعوا الخلق إلى تحصیل هذا القدر من المعرفه، و أیضا فلو کان حصول هذا القدر من المعرفه متوّقفا على دعوه الأنبیاء و صدقهم مع أنّ صدقهم مبنىّ على معرفه أنّ هاهنا صانعا للخلق أرسلهم للزم الدور، و إنّما کانت أوّل مرتبه دعوا إلیها من المعرفه هی توحید الصانع و نفی الکثره عنه المشتمل علیها أوّل کلمه نطق بها الداعی إلى اللّه و هی قولنا: لا إله إلّا اللّه فقال صلى اللّه علیه و آله من قال لا إله إلّا اللّه خالصا مخلصا دخل الجنّه. ثمّ استعدّت أذهان الخلق بما نطقت به من التوحید الظاهر نبّههم على أنّ فیها قوّه إعداد لتوحید أعلى و أخفى من الأوّل فقال: من قال لا إله إلّا اللّه خالصا مخلصا دخل الجنّه، و ذلک إشاره إلى حذف کلّ قید من درجه الاعتبار مع الوحده المطلقه إذا عرفت ذلک فاعلم أنّه یحتمل أن یکون مراده بالمعرفه المرتبه الاولى من مراتب المعرفه و حینئذ یکون معنى قوله أوّل الدین معرفته ظاهرا فإنّ ذلک القدر أوّل متحصّل فی النفس من الدین الحقّ، و یحتمل أن یکون مراده المعرفه التامّه الّتی هی غایه العارف و نهایه مراتب‏ السلوک و حینئذ یکون المراد من کونها أوّل الدین هو أولیّتها فی العقل و هو إشاره إلى کونها علّه غائیّه إذ العلّه الغائیّه متقدّمه فی العقل على ما هی علّه له و إن تأخّرت فی الوجود، و بیان ذلک أنّ المعرفه التامّه الّتی هی غایه سعى العارف غیر حاصله فی مبدء الأمر بل یحتاج فی کمال ما حصل له من مراتب المعرفه و تحصیل المعرفه التامّه إلى الریاضه بالزهد و العباده و تلقى الأوامر الإلهیّه بالقبول الّتی هی سبب إتمام الدین فیستعدّ أوّلا بسببها للتصدیق بوجوده یقینا ثمّ لتوحیده ثمّ للإخلاص له ثمّ لنفی کلّ ما عداه عنه فیغرق فی تیّار بحار العظمه و کلّ مرتبه أدرکها فهی کمال لما قبلها إلى أن تتمّ المعرفه المطلوبه له بحسب ما فی وسعه و بکمال المعرفه یتمّ الدین و ینتهی السفر إلى اللّه.

 

قوله و کمال معرفته التصدیق إلى قوله نفی الصفات عنه.

أقول: ترتیب هذه المقدّمات على هذا الوجه یسمّى قیاسا مفصولا و هو القیاس المرکّب‏ الّذی تطوی فیه النتائج و عند ذکرها یتبیّن أنّ المقصود منها بیان أنّ کمال معرفته نفی الصفات عنه، و هذا القیاس تنحلّ إلى قیاسات تشبه قیاس المساواه لعدم الشرکه بین مقدّمتی کلّ منها فی تمام الأوسط فیحتاج فی إنتاج کلّ منها إلى قیاس آخر، و المطلوب من الترکیب الأوّل و هو قوله و کمال معرفته التصدیق به و کمال التصدیق به توحیده أنّ کمال معرفته توحیده، و إنّما یلزم عنه هذا المطلوب بقیاس آخر، صورته أنّ معرفته کمال و کمالها توحیده و کلّما کان کمال کماله توحیده کان کماله توحیده فینتج أنّ کمال معرفته توحیده، أمّا المقدّمه الاولى فإنّ التوحید کمال التصدیق و هو کمال المعرفه، و أمّا الثانیه فلأنّ کمال کمال الشی‏ء کمال الشی‏ء و هکذا فی باقی الترکیب و المطلوب من ترکیب هذه النتیجه مع المقدّمه الثالثه و هى قوله و کمال توحیده الإخلاص له أنّ کمال معرفته الإخلاص له، و من ترکیب هذه النتیجه مع المقدّمه الرابعه و هی قوله کمال الإخلاص له نفی الصفات عنه یحصل المطلوب، و اعلم أنّ فی إطلاق الکمال هاهنا تنبیها على أنّ معرفه اللّه تعالى مقوله بحسب التشکیک إذ کانت قابله للزیاده و النقصان، و بیان ذلک أنّ ذات اللّه تعالی لمّا کانت بریّه عن أنحاء الترکیب لم یکن معرفته ممکنه إلّا بحسب رسوم ناقصه تترکّب من سلوب و إضافات تلزم ذاته المقدّسه لزوما عقلیّا فتلک السلوب و الإضافات لمّا لم تکن متناهیه لم یمکن أن تقف المعرفه بحسبها عند حدّ واحد بل تکون متفاوته بحسب زیادتها و نقصانها و خفائها و جلائها، و کذلک کمال التصدیق و التوحید و الإخلاص، و إذا تقرّر ذلک فلنشرع فی تقدیر المقدّمات،

أمّا المقدّمه الاولى و هی أنّ کمال معرفته التصدیق به، و بیان ذلک أن المتصوّر لمعنى إله العالم عارف به من تلک الجهه معرفه ناقصه تمامها الحکم بوجوده و وجوبه إذ من ضروره کونه موجد للعالم کونه موجودا فإنّ ما لم یکن موجودا استحال بالضروره أن یصدر عنه أثر موجود فهذا الحکم اللاحی هو کمال معرفته،

و أمّا الثانیه و هی قوله و کمال التصدیق به توحیده فبیانها أنّ من صدّق بوجود الواجب ثمّ جهل مع ذلک کونه واحدا کان تصدیقه به تصدیقا ناقصا تمامه توحیده، إذ کانت الواحده المطلقه لازمه لوجود الواجب فإنّ طبیعه واجب الوجود بتقدیر أن تکون مشترکه بین اثنین فلا بدّ لکلّ واحد منهما من ممیّز وراء ما به الاشتراک فیلزم الترکیب فی ذاتیهما و کلّ مرکّب ممکن فیلزمه الجهل بکونه واجب الوجود و إن تصوّر معناه و حکم بوجوده،

و أمّا الثالثه و هی قوله و کمال توحیده الإخلاص له ففیها إشاره إلى أنّ التوحید المطلق للعارف نّما یتمّ بالإخلاص له و هو الزهد الحقیقیّ الّذی هو عباره عن تنحیه کلّ ما سوى الحقّ الأوّل عن سنن الإیثار، و بیان ذلک أنّه ثبت فی علم السلوک أنّ العارف ما دام ملتفتا مع ملاحظه جلال اللّه و عظمته إلى شی‏ء سواه فهو بعد واقف دون مقام الوصول جاعل مع اللّه غیرا حتّى أنّ أهل الإخلاص لیعدّون ذلک شرکا خفیّا کما قال بعضهم: من کان فی قلبه مثقال خردله سوى جلالک فاعلم أنّه مریض و إنّهم لیعتبرون فی تحقّق الإخلاص أن یغیب العارف عن نفسه حال ملاحظته لجلال اللّه و أن لحظها فمن حیث هی لاحظه لا من حیث هی متزیّنه بزینه الحقّ فإذن التوحید المطلق أن لا یعتبر معه غیره مطلقا، و ذلک هو المراد بقوله و کمال توحیده الإخلاص له،

 

و أمّا المقدّمه الرابعه و هی أنّ کمال الإخلاص له نفی الصفات عنه فقد بیّن علیه السّلام صدقها بقیاس برهانیّ مطویّ النتائج أیضا استنتج منه أنّ کلّ من وصف اللّه سبحانه فقد جهله،

 

و ذلک قوله علیه السّلام لشهاده کلّ صفه أنّها غیر الموصوف، و شهاده کلّ موصوف أنّه غیر الصفه إلى قوله و من جزّاه فقد جهله، و بیان صحّه المقدّمات

 

أمّا قوله لشهاده کلّ صفه أنّها غیر الموصوف و بالعکس فهو توطئه الاستدلال ببیان المغائره بین الصفه و الموصوف، و المراد بالشهاده هاهنا شهاده الحال فإنّ حال الصفه تشهد بحاجتها إلى الموصوف و عدم قیامها بدونه و حال الموصوف تشهد بالاستغناء عن الصفه و القیام بالذات بدونها فلا تکون الصفه نفس الموصوف،

 

و أمّا قوله فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه فهو ظاهر لأنّه لمّا قرّر کون الصفه مغایره للموصوف لزم أن تکون زائده على الذات غیر منفکّه عنها فلزم من وصفه بها أن تکون مقارنه لها و إن کانت تلک المقارنه على وجه لا یستدعی زمانا و لا مکانا،

 

و أمّا قوله و من قرنه فقد ثنّاه فلأنّ من قرنه بشی‏ء من الصفات فقد اعتبر فی مفهومه أمرین أحدهما الذات و الآخر الصفه فکان واجب الوجود عباره عن شیئین أو أشیاء فکانت فیه کثره و حینئذ ینتج هذا الترکیب أنّ من وصف اللّه سبحانه فقد ثنّاه،

 

و أمّا قوله و من ثنّاه فقد جزّاه فظاهر أنّه إذا کانت الذات عباره عن مجموع امور کانت تلک الامور أجزاء لتلک الکثره من حیث إنّها تلک الکثره و هی مبادئ لها، و ضمّ هذه المقدّمه إلى نتیجه الترکیب الأوّل ینتج أنّ من وصف اللّه سبحانه فقد جزّاه،

 

و أمّا قوله و من جزّاه فقد جهله فلأنّ کلّ ذی جزء فهو یفتقر إلى جزء و جزئه غیره فکلّ ذی جزء فهو مفتقر إلى غیره و المفتقر إلى الغیر ممکن فالمتصوّر فی الحقیقه لأمر هو ممکن الوجود لا الواجب الوجود بذاته فیکون إذن جاهلا به و ضمّ هذه المقدّمه إلى نتیجه ما قبلها ینتج أنّ من وصف اللّه سبحانه فقد جهله و حینئذ یتبیّن المطلوب و هو أنّ کمال الإخلاص له نفی الصفات عنه إذ الإخلاص له و الجهل به ممّا لا یجتمعان، و إذا کان الإخلاص منافیا للجهل به الّذی هو لازم لإثبات الصفه له کان إذن منافیا لإثبات الصفه له لأنّ معانده اللازم تستلزم معانده الملزوم، و إذ بطل أن یکون الإخلاص فی إثبات الصفه له تثبت أنّه فی نفی الصفه عنه و عند هذا یظهر المطلوب الأوّل و هو أنّ کمال معرفته نفی الصفات عنه و ذلک هو التوحید المطلق و الإخلاص المحقّق الّذی هو نهایه العرفان و غایه سعی العارف من کلّ حرکه حسیّه و عقلیّه و ما یکون فی نفس الأمر من غیر تعقّل نقص کلّ ما عداه عنه معه فهو الوحده المطلقه المبرّاه عن کلّ لاحق، و هذا مقام حسرت عنه نوافذ الأبصار، و کلّت فی تحقیقه صوارم الأفکار، و أکثر الناس فیه الأقوال فانتهت بهم الحال إلى إثبات المعانی و ارتکاب الأحوال فلزمهم فی ذلک الضلال ما لزمهم من المحال فإن قلت: هذا یشکل من وجهین أحدهما أنّ الکتب الإلهیّه و السنن النبویّه مشحونه بوصفه تعالى بالأوصاف المشهوره کالعلم و القدره و الحیاه و السمع و البصر و غیرها و على ما قلتم یلزم أن لا یوصف سبحانه بشی‏ء منها، الثانی أنّه علیه السّلام صرّح بإثبات الصفه له فی قوله لیس لصفته حدّ محدود و لو کان مقصوده بنفی الصفات ما ذکرتم لزم التناقض فی کلامه علیه السّلام فالأولى إذن أن یخصّ قوله نفى الصفات عنه بنفی المعانی کما ذهب إلیه الأشعری، و نفی الأحوال کما ذهب إلیه المثبتون من المعتزله و بعض الأشعریّه لیبقى للصفات المشهوره الجاریه علیه تعالى و لإثباته علیه السّلام الصفه للّه فی موضع آخر محمل، أو یختصّ بنفی صفات المخلوقین کما أشار علیه السّلام فی آخر الخطبه لا یجرون إلیه صفات المصنوعین، و کما ذکره الشیخ المفید من الشیعه فی کتاب الإرشاد عنه جلّ أن تحلّه الصفات لشهاده العقول أنّ کلّ من حلّته الصفات مصنوع. قلت: قد سبق منّا بیان أنّ کلّ ما یوصف به تعالى من‏ الصفات الحقیقیّه و السلبیّه و الإضافیّه اعتبارات تحدّثها عقولنا عند مقائسه ذاته سبحانه إلى غیرها، و لا یلزم ترکیب فی ذاته و لا کثره فیکون وصفه تعالى بها أمرا معلوما من الدین لیعمّ التوحید و التنزیه کلّ طبقه من الناس، و لمّا کانت عقول الخلق على مراتب من التف