و من خطبه له علیه السّلام تسمى القاصعه و من خطبه له علیه السّلام تسمى القاصعه
و هى تتضمن ذم إبلیس على استکباره و ترکه السجود لآدم علیه السّلام و أنه أول من أظهر العصبیه و تبع الحمیه، و تحذیر الناس من سلوک طریقته و فیها فصول:
الفصل الأوّل:
قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْکِبْرِیَاءَ- وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ- وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَیْرِهِ- وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ- وَ جَعَلَ اللَّعْنَهَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِیهِمَا مِنْ عِبَادِهِ- ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِکَ مَلَائِکَتَهُ الْمُقَرَّبِینَ- لِیَمِیزَ الْمُتَوَاضِعِینَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَکْبِرِینَ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُیُوبِ إِنِّی خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ- فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ- فَسَجَدَ الْمَلائِکَهُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِیسَ اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِیَّهُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ- وَ تَعَصَّبَ عَلَیْهِ لِأَصْلِهِ- فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِینَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَکْبِرِینَ- الَّذِی وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِیَّهِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِیَّهِ- وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ أَ لَا تَرَوْنَ کَیْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَکَبُّرِهِ- وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِی الدُّنْیَا مَدْحُوراً- وَ أَعَدَّ لَهُ فِی الْآخِرَهِ سَعِیراً وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ یَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ- یَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِیَاؤُهُ وَ یَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ- وَ طِیبٍ یَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ- وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَهً- وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِیهِ عَلَى الْمَلَائِکَهِ- وَ لَکِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ابْتَلَی خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا یَجْهَلُونَ أَصْلَهُ- تَمْیِیزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْیاً لِلِاسْتِکْبَارِ عَنْهُمْ- وَ إِبْعَاداً لِلْخُیَلَاءِ مِنْهُمْ
أقول: نقل فی سبب هذه الخطبه: أنّ أهل الکوفه کانوا فی آخر خلافته علیه السّلام قد فسدوا و کانوا قبائل متعدّده فکان الرجل یخرج من منازل قبیلته فیمرّ بمنازل قبیله اخرى فیقع به أدنى مکروه فیستعدى قبیلته، و ینادى باسمها مثلا یا للنخع أو یا لکنده نداء عالیا یقصد به الفتنه و إثاره الشرّ فیتّألب علیه فتیان القبیله الّتی قد مرّ بها و ینادون یا لتمیم یا لربیعه فیضربونه فیمرّ إلى قبیلته و یستصرخ بها و تسّل بینهم السیوف و تثور الفتنه، و لا یکون لها أصل فی الحقیقه و لا سبب یعرف إلّا تعرّض الفتیان بعضهم ببعض، و کثر ذلک منهم فخرج علیه السّلام إلیهم على ناقه فخطبهم هذه الخطبه. إذا عرفت ذلک فنقول:
اللغه
القصع: ابتلاع الماء و الجرّه، و قصعت الرجل قصعا: صغّرته و حقّرته، و قصعت هامّته: إذا ضربتها ببسط کفّک، و قصع اللّه شبابه: إذا بقى قمیئا. فهو مقصوع لا یزداد.
و أصل هذه الکلمه للتصغیر و التحقیر.
و الجبریّه و الجبروت: الکبر.
و ادّرعه: لبسه کالدرع.
و الدحر: الطرد.
و خطف بالکسر. یخطف: أخذ البصر بسرعه استلابا.
و تبهر العقول: أى یغلب نوره أنوارها و ینمحق فیه.
و الرواء: المنظر الحسن.
و العرف: الرائحه الطیّبه.
و الخیلاء: الکبر.
و الإحباط: الإبطال.
و الجهد بفتح الجیم: الاجتهاد.
و الهواده: الصلح.
المعنى
و قد ذکر الشارحون فی تسمیه هذه الخطبه القاصعه وجوها:
أحدها: و هو أقربها أنّه علیه السّلام کان یخطبها على ناقته و هى تقصع بجرّتها فجاز أن یقال: إنّ هذه الحال لمّا نقلت عنه فى أسناد هذه الخطبه نسبت الخطبه إلى الناقه القاصعه فقیل: خطبه القاصعه ثمّ کثر استعمالها فجعلت من صفات الخطبه نفسها، أو لأنّ الخطبه عرفت بهذه الصفه لملازمه قصع الناقه لإنشائها. و العرب یسمّى الشیء باسم لازمه. الثانی: إنّها سمیّت بذلک لأنّ المواعظ و الزواجر فیها متتابعه فأشبهت جرّات الناقه و تتابعها. الثالث: سمیّت بذلک لأنّها هاشمه کاسره لإبلیس، و مصغّره و محقّره لکلّ جبّار. و هو وجه حسن أیضا. الرابع: لأنّها تسکّن نخوه المتکبّرین و کبرهم فأشبهت الماء الّذى یسکّن العطش فیکون من قولهم: قصع الماء عطشه إذا سکّنه و أذهبه.
و اعلم أنّ مدار هذه الخطبه على النهى عن الکبر و التوبیخ علیه و على ما یلزمه
من الحمیّه و العصبیّه لغیر اللّه تعالى لیکون الناس على ضدّ ذلک من التواضع و الرفق، و قد علمت فی المقدّمات أنّ من شأن الخطیب أن یورد فی صدر الخطبه ما ینبّه على المطلوب الّذی یورده بقول کلّىّ لیتنبّه السامعون لما یریده إجمالا فلذلک صدّر علیه السّلام الخطبه بنسبه العزّ و الکبریاء و العظمه إلى من هو أولى به و هو اللّه تعالى، و أشار إلى أنّ ذلک خاصّه له و حرام على غیره، و ذکر إبلیس و قصّته مع آدم علیه السّلام فی معرض الذمّ بتکبّره علیه لیترتّب على ذکره و ذمّه بتلک الرذیله النهى و التحذیر عن ارتکابها و لیحصل التنفیر بحاله إذ کان بذلک ملعونا مطرودا على ألسنه الأنبیاء بأسرهم. و إذ کان مدار الخطبه ذمّ الکبر و النهى عنه فلنشر إلى حقیقته فی الإنسان أوّلا ثمّ إلى ما یلزمه من الآفات و إلى المذامّ الوارده فیه.
فنقول: أمّا حقیقته فهى هیئه نفسانیّه تنشأ عن تصوّر الإنسان نفسه أکمل من غیره و أعلى رتبه و تلک الهیئه تعود إلى ما یحصل للنفس عن ذلک التصوّر من النفخ و الهزّه و التعزّز و التعظّم و الرکون إلى ما تصوّرته من کمالاتها و شرفها على الغیر، و لذلک قال رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: أعوذ بک من نفخه الکبر. و هى رذیله تحت الفجور تقابل فضیله التواضع. و ما یلزم عن ذلک التصوّر أعنى تصوّر الإنسان فضیلته على الغیر إن قطع النظر فیه عن قیاسه على متکبّر علیه و عن إضافته إلى اللّه تعالى باعتبار أنّه منه و لم یکن خائفا من فوت تلک الفضیله بل کان ساکنا إلیها مطمئنّا فذلک هو العجب فإذن العجب هیئه تلزم عن تصوّر الکمال فی النفس و استقطاعه عن المنعم به و الرکون إلیه و الفرح به مع الغفله عن قیاس النفس إلى الغیر بکونها أفضل منه. و بهذا الفصل الأخیر ینفصل عن الکبر. إذ کان لا بدّ فی الکبر من أن یرى الإنسان لنفسه مرتبه و للغیر مرتبه ثمّ یرى مرتبته فوق مرتبه غیره. و أمّا آفاته و هى ثمراته و ما یلزم عنه من الأعمال و التروک فإنّ هذا الخلق یوجب أعمالا إذا ظهرت على الجوارح قد تسمّى کبرا: فمنها باطنه کتحقیر الغیر و ازدرائه، و اعتقاد أنّه لیس أهلا للمجالسه و المواکله و الأنفه عن ذلک. و اعتقاد أنّه یصلح أن یکون ماثلا بین یدیه قائما، بل قد یعتقد من هو أشدّ کبرا أنّ ذلک لا یصلح للمثول بین یدیه، و کحسده و الحقد علیه، و کنظر العالم المتکبّر إلى الجاهل العامّى بعین الاستخفاف و الاستجهال. و أمّا الظاهره فکالتقدّم علیه فی الطرق و الارتفاع علیه فی المجالس، و کإبعاده عن مجالسته و مؤاکلته، و العنف به فی النصح، و الغضب عند ردّ قوله، و الغلظه على المتعلّمین و إذلالهم و استخدامهم، و الغیبه و التطاول بالقول. و أمّا التروک: فکترک التواضع و الاستنکاف عن مجالسه من دونه و معاشرته و عدم الرفق بذوى الحاجات و نحو ذلک ممّا لا یحصى من الرذائل.
و أمّا المذامّ الوارده فیه: فهى کثیره فی القرآن الکریم و السنّه النبویّه کقوله تعالى کَذلِکَ یَطْبَعُ اللَّهُ عَلى کُلِّ قَلْبِ مُتَکَبِّرٍ جَبَّارٍ«» و قوله وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خابَ کُلُّ جَبَّارٍ عَنِیدٍ«» و قول الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: یقول اللّه عزّ و جلّ الکبریاء ردائى و العظمه إزارى فمن ناز عنى واحدا منهما ألقیته فی جهنّم. و قوله علیه السّلام: لا یدخل الجنّه من فی قلبه مثقال ذرّه من کبر. و إنّما صار حجابا عن الجنّه لأنّه یحول بین العبد و بین أخلاق المؤمنین الّتی هى أبواب الجنّه. فالکبر و العجب یغلق تلک الأبواب کلّها لأنّها لا تقدر على أنّ یحبّ للمؤمن ما یحبّ لنفسه و فیه شیء من العزّه، و لا یتمکّن من ترک هذه الرذائل و فعل أضدادها من الفضائل کالتواضع و کظم الغیظ و قبول النصح و الرفق فی القول و غیرها و فیه شیء من العزّه و الکبریاء. و ما من خلق ذمیم إلّا و صاحب العزّه و الکبر مضطرّ إلیه لیحفظ به عزّه. و ما من خلق فاضل إلّا و هو عاجز عنه خوفا أن یفوته عزّه فلذلک لم یدخل الجنّه من فی قلبه مثقال حبّه من کبر. و بعض الأخلاق الذمیمه مستلزم للبعض. و شرّ أنواع الکبر ما منع العلم و استعماله و قبول الحقّ و الانقیاد له.
إذا عرفت ذلک فنقول: إنّه علیه السّلام حمد اللّه تعالى باعتبارات:
أحدها: لبسه للعزّ و الکبریاء.
و لمّا علمت أنّ الکبریاء لا بدّ فیه من أمرین: أحدهما: العلم بکمال الذات. و الثانی: اعتبار الشرف و العلوّ على الغیر فکان هذان الاعتباران صادقین علیه تعالى أتمّ من صدقهما على کلّ موجود لا جرم کان بالکبریاء و العظمه أحقّ من کلّ موجود أمّا الأوّل: فلأنّه لمّا کان کمالات الذات عباره عن الوجود و کماله فکان وجوده تعالى أتمّ الوجودات بحیث لم یفته من کماله شیء بل کلّ ما ینبغی له فهو حاصل بالفعل لا جرم صدق علیه هذا الاعتبار أتمّ صدق. و أمّا الثانی: فلأنّ وجوده تعالى هو الوجود الّذی یصدر عنه وجود کلّ موجود عداه، و هو تعالى عالم بجمیع المعلومات کلّیّها و جزئیّها فهو إذن عالم بکماله و شرفه على عبیده. و استعار لفظ اللبس باعتبار إحاطه کماله بکلّ اعتبار له کما یحیط القمیص و الرداء بجسد لابسه.
الثانی: کونه تعالى اختارهما لنفسه دون خلقه.
و معنى اختیاره هنا تفرّده باستحقاقهما لذاته فإنّ المستحقّ للعزّ و الکبریاء بالذات لیس إلّا هو، و دلّ على ذلک المنقول و المعقول. و أمّا المنقول: فقوله تعالى عالِمُ الْغَیْبِ وَ الشَّهادَهِ الْکَبِیرُ الْمُتَعالِ«» و الألف و اللام هنا یفید حصر الکبریاء و العلوّ فیه، و أمّا المعقول فلأنّه تعالى لمّا استحقّ ذلک الاعتبار لذاته لا بأمر خارج و إلّا لکان مفتقرا إلى الغیر. ثمّ ذمّ المتکبّرین و توعّدهم فی کتابه العزیز و على لسان نبیّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم حیث قال حکایه عنه: الکبریاء ردائى. الخبر. علمنا أنّه قد اختار الاختصاص بهما دون خلقه.
الثالث: و جعلهما حمى و حرما على غیره.
استعار لفظ الحمى و الحرم باعتبار اختیاره لهما و تحریمهما على غیره من خلقه کما یحمى الملک المرعى و الحرم.
الرابع: و اصطفاهما لجلاله
أى لتقدّسه و علوّه عن شبه مخلوقاته استحقّ الانفراد بهذین فتفرّد بهما. و هو معنى اصطفائه لهما.
الخامس: جعله اللعنه على من نازعه فیهما من عباده
إشاره إلى نحو قوله فی الخبر المذکور: فمن نازعنی فیهما ألقیته فی جهنّم. و لا شکّ أنّ الملقى فی جهنّم مبعّد مطرود عن الخیر و الرحمه. و لفظ المنازعه فی الخبر مجاز فی محادّه المتکبّرین و مجانبتهم له و مخالفتهم لأمره فی الاتّصاف بالکبر فکأنّهم یجاذبونه ما اختص به و من لوازم المجاذبه المنازعه القولیّه فاطلقت هنا إطلاقا لاسم اللازم على ملزومه.
السادس: اختباره بذلک ملائکته المقرّبین. إلى قوله: ساجدین
أى ابتلاهم بالتکبّر و عدمه. و قد علمت معنى ابتلائه و اختباره تعالى لخلقه فیما سبق. و نزیده بیانا. فنقول لمّا کانت حقیقه الاختبار طلب الخبر بالشیء و معرفته لمن لا یکون عارفا به، و کان هو تعالى عالما بمضمرات القلوب و خفیّات القلوب فیمیّز المطیعین من عبیده من العصاه لم یکن إطلاق هذا اللفظ فی حقّه حقیقه بل على وجه الاستعاره باعتبار أنّه لمّا کان ثوابه و عقابه للخلق موقوفین على تکلیفهم بما کلّفهم به فإن أطاعوه فیما أمرهم أثابهم و إن عصوه عاقبهم أشبه ذلک اختبار الإنسان لعبیده و تمییزه لمن أطاعه منهم ممّن عصاه، و أطلق علیه لفظه.
و قوله: لیمیز المتواضعین منهم من المتکبّرین.
ترشیح لاستعاره الاختبار لأنّ التمیز من لوازمه و عوارضه. و یحتمل أن یرید لیمیز المطیعین عن العصاه بإعطاء الثواب لهم دونهم فلا یکون التمیز بمعنى العلم بل الانفصال الخارجىّ لکلّ من المطیعین و العصاه بما یستحقّه من ثواب و عقاب.
و قوله: و هو العالم. إلى قوله: العیوب.
قرینه مخرجه للاختبار عن حقیقته، و هى جمله معترضه بین القول و المقول للملائکه و هو قوله تعالى وَ إِذْ إلى آخره. و المختبر به هو قوله فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ«» و قال بعض الشارحین: إنّما اختبرهم مع علمه بمضمراتهم لأنّ اختباره تعالى لیس لیعلم بل لیعلم غیره من خلقه طاعه من یطیع و عصیان من یعصى قال: و قوله لِنَعْلَمَ أَیُّ الْحِزْبَیْنِ و قوله لِنَعْلَمَ مَنْ یَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ یَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَیْهِ أى لتعلم أنت و غیرک. و فیه بعد. و قد شرحنا قصّه الملائکه و إبلیس و آدم فی الخطبه الاولى بقدر الوسع فلا حاجه إلى التطویل بالإعاده غیر أنّ هاهنا ألفاظا یحتاج إلى الإیضاح. و افتخار إبلیس و تعصّبه و تکبّره على آدم فی قوله قالَ ما مَنَعَکَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ و قوله: أ أسجد لمن خلقت طینا أ أسجد لبشر خلقته من صلصال من حماء مسنون. فکان تعصّبه علیه و استکباره نظرا إلى أصلهما، و کونه إمام المتعصّبین باعتبار کونه المنشأ لرذیله العصبیّه فی غیر الحقّ و المعتدى به فیها. و أمّا العصبیّه فی الحقّ فهى محموده کما جاء فی الخبر: العصبیّه فی اللّه تورث الجنّه، و العصبیّه فی الشیطان تورث النار. و کذلک کونه سلفا للمتکبّرین باعتبار تقدّمه للمتکبّرین بالاستکبار على آدم. و السلف هو التقدّم.
و قوله: الّذى وضع أساس العصبیّه.
إذ کانت عصبیّته لأصله کالأساس للخلق یبنى علیه الخلق سائر العصبیّات و یقتدى به فیها.
و قوله: و نازع اللّه رداء الجبریّه.
أى بتجبّره و تکبّره. و قد عرفت وجه الاستعاره فی المنازعه فی الرداء، و کذلک قوله: و ادّرع لباس التعزّز. لمّا استعار لفظ الادّراع لإبلیس من جهه اشتماله و تلبّسه بالتعزّز رشّح بذکر اللباس، و کذلک قوله: و خلع قناع التذلّل. استعاره للفظ الخلع، و ترشیح بلفظ القناع.
و قوله: أ لا ترون. إلى قوله: بترفّعه.
تنبیه على کیفیّه تصغیر اللّه إیّاه و وضعه له بسبب تکبّره و تعظّمه، و ذلک التصغیر و الوضع هو جعله فی الدنیا مدحورا بعد إخراجه من الجنّه بقوله تعالى اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً«» و إعداده له فی الآخره سعیرا بقوله تعالى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْکَ وَ مِمَّنْ تَبِعَکَ مِنْهُمْ أَجْمَعِینَ«» و نحوه.
و قوله: و لو أراد اللّه. إلى قوله: على الملائکه.
فی صوره قیاس اقترانىّ مرکّب من متّصلین صغراهما قوله: و لو اراد اللّه. إلى قوله: لفعل. و کبراهما: قوله: و لو فعل إلى آخره. و تالى الکبرى مرکّب من جملتین عطفت إحداهما على الاخرى. و معنى الصغرى أنّه تعالى لو أراد قبل خلق آدم أن یخلقه من نور شفّاف لطیف یخطف الأبصار، و یبهر العقول حسنه، و طیب یأخذ الأنفاس رائحته و لم یخلقه من طین ظلمانىّ کثیف لفعل لأنّ ذلک أمر ممکن مقدور له، و یحتمل أن یرید بخلقه من النور خلقه روحانیّا مجرّدا عن علاقه الموادّ المظلمه. و قد یوصف المجرّدات بالنور فیقال: أنوار اللّه، و أنوار جلاله، و أنوار حضرته، و قد أضاءنا بنور علمه و یوصف بالرایحه أیضا فیقال: فلان لم یشمّ رائحه العلم. و بالطعم فیقال: فلان لم یذق حلاوه العلم. و کلّ ذلک استعاره لفظ المحسوس للمعقول تقریبا للأفهام. و معنى الکبرى أنّه لو فعل ذلک و خلقه کذلک لظلّت أعناق الملائکه و إبلیس خاضعه له. و ذلک لشرف جوهره على الطین و فضل خلقته على ما یخلق منه و لم یکن ممّن یفسد فی الأرض و یسفک الدماء حتّى تقول الملائکه: أ تجعل فیها من یفسد فیها و یسفک الدماء. و لا من طین منتن حتّى یفخر علیه إبلیس بأصله یقول: أنا خیر منه خلقتنى من نار و خلقته من طین، أ أسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون و لخفّت البلوى فیه على الملائکه. و بیان الخفّه من وجهین: أحدهما: لشرف جوهره فإنّه من العاده أن یستنکف الشریف من الخضوع لمن هو دونه فی أصله و یشقّ علیه التکلیف بذلک فی حقّه فأمّا إذا کان أصله مناسبا لأصله و مقارنا فی الشرف فلا شکّ أنّ تکلیفه بخدمته یکون علیه أسهل و أخفّ. و الثانی: أنّهم ما کانوا عالمین بالسرّ الّذی خلق له آدم و هو کونه صالحا لخلافه اللّه سبحانه فی عماره الأرض و إصلاح أبناء نوعه و إعدادهم للکمالات و غیر ذلک ممّا لا یعلمونه کما قال تعالى فی جواب قولهم أَ تَجْعَلُ فِیها مَنْ یُفْسِدُ فِیها إلى وَ إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَهِ«» و کما علّمه الأسماء و أمره بعرضها علیهم فقال وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِکَهِ فَقالَ أَنْبِئُونِی بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ«» و ظاهر أنّ تکلیف النفس بما یطّلع على سرّه و یعلم وجه الحکمه فیه أسهل علیها من تکلیفها بما تجهله. فلو خلقه تعالى من نور مناسبا لخلقهم لعلموا نوعیّته و سرّ خلقه فلم یشقّ علیهم التکلیف بالسجود له. و یؤیّد هذا الوجه قوله: و لکنّ اللّه سبحانه مبتلى خلقه ببعض ما یجهلون أصله و فی هذا الاستثناء تنبیه على عدم إراده خلق آدم من نور. و ذلک العدم هو نقیض مقدّم نتیجه القیاس المذکور اللازم عن استثناء نقیض تالیها. و تقدیر النتیجه أنّه لو أراد خلقه من نور لظلّت الأعناق له خاضعه و خفّت البلوى على الملائکه لکن لم یکن الأمر کذلک فاستلزم أنّه لم یرد خلقه من نور.
فکان معنى قوله: و لکنّ اللّه ابتلى خلقه. أنّه لم یرد خلقه من نور بل أراد أن یبتلى خلقه ببعض ما یجهلون أصله و هو تکلیفهم بالسجود لآدم مع جهلهم بأصل ذلک التکلیف و الغرض منه أو جهلهم بآدم و سرّ خلقته الّذی هو أصل لذلک التکلیف. و نصب قوله: تمییزا و نفیا و إبعادا على المفعول له: أى لیمیّز بذلک التکلیف و بما یستلزم من الذلّه و الانقیاد و الخضوع المطیع من العاصى، و لینفى رذیله الکبر و الخیلاء عنهم و باللّه التوفیق.
الفصل الثانی:
فی أمر السامعین بالاعتبار بحال إبلیس و ما لزمه من اللعنه و بطلان أعماله الصالحه فی المدّه المتطاوله بسبب التکبّر و العصبیّه الفاسده، و التحذیر من سلوک طریقته و اقتفاء أثره فی الکبر و لوازمه من الرذائل الّتی عدّدناها.
و ذلک قوله: فَاعْتَبِرُوا بِمَا کَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِیسَ- إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِیلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِیدَ- وَ کَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّهَ آلَافِ سَنَهٍ- لَا یُدْرَى أَ مِنْ سِنِی الدُّنْیَا أَمْ مِنْ سِنِی الْآخِرَهِ- عَنْ کِبْرِ سَاعَهٍ وَاحِدَهٍ- فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِیسَ یَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِیَتِهِ- کَلَّا مَا کَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِیُدْخِلَ الْجَنَّهَ بَشَراً- بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَکاً- إِنَّ حُکْمَهُ فِی أَهْلِ السَّمَاءِ وَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ- وَ مَا بَیْنَ اللَّهِ وَ بَیْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَهٌ- فِی إِبَاحَهِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِینَ فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ یُعْدِیَکُمْ بِدَائِهِ- وَ أَنْ یَسْتَفِزَّکُمْ بِنِدَائِهِ وَ أَنْ یُجْلِبَ عَلَیْکُمْ بِخَیْلِهِ وَ رَجْلِهِ- فَلَعَمْرِی لَقَدْ فَوَّقَ لَکُمْ سَهْمَ الْوَعِیدِ- وَ أَغْرَقَ إِلَیْکُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِیدِ- وَ رَمَاکُمْ مِنْ مَکَانٍ قَرِیبٍ- فَقَالَ رَبِّ بِما أَغْوَیْتَنِی لَأُزَیِّنَنَّ لَهُمْ فِی الْأَرْضِ- وَ لَأُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ- قَذْفاً بِغَیْبٍ بَعِیدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ غَیْرِ مُصِیبٍ- صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِیَّهِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِیَّهِ- وَ فُرْسَانُ الْکِبْرِ وَ الْجَاهِلِیَّهِ- حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَهُ مِنْکُمْ- وَ اسْتَحْکَمَتِ الطَّمَاعِیَّهُ مِنْهُ فِیکُمْ- فَنَجَمَتِ فِیهِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِیِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِیِّ- اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَیْکُمْ- وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَکُمْ- فَأَقْحَمُوکُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ- وَ أَحَلُّوکُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ- وَ أَوْطَئُوکُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَهِ طَعْناً فِی عُیُونِکُمْ- وَ حَزّاً فِی حُلُوقِکُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِکُمْ- وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِکُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ- إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّهِ لَکُمْ- فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِی دِینِکُمْ حَرْجاً- وَ أَوْرَى فِی دُنْیَاکُمْ قَدْحاً- مِنَ الَّذِینَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِینَ وَ عَلَیْهِمْ مُتَأَلِّبِینَ- فَاجْعَلُوا عَلَیْهِ حَدَّکُمْ وَ لَهُ جِدَّکُمْ- فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِکُمْ- وَ وَقَعَ فِی حَسَبِکُمْ وَ دَفَعَ فِی نَسَبِکُمْ- وَ أَجْلَبَ بِخَیْلِهِ عَلَیْکُمْ وَ قَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِیلَکُمْ- یَقْتَنِصُونَکُمْ بِکُلِ مَکَانٍ وَ یَضْرِبُونَ مِنْکُمْ کُلَّ بَنَانٍ- لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِیلَهٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِیمَهٍ- فِی حَوْمَهِ ذُلٍّ وَ حَلْقَهِ ضِیقٍ- وَ عَرْصَهِ مَوْتٍ وَ جَوْلَهِ بَلَاءٍ- فَأَطْفِئُوا مَا کَمَنَ فِی قُلُوبِکُمْ- مِنْ نِیرَانِ الْعَصَبِیَّهِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِیَّهِ- فَإِنَّمَا تِلْکَ الْحَمِیَّهُ تَکُونُ فِی الْمُسْلِمِ- مِنْ خَطَرَاتِ الشَّیْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ- وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِکُمْ- وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِکُمْ- وَ خَلْعَ التَّکَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِکُمْ- وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ- مَسْلَحَهً بَیْنَکُمْ وَ بَیْنَ عَدُوِّکُمْ إِبْلِیسَ وَ جُنُودِهِ- فَإِنَّ لَهُ مِنْ کُلِّ أُمَّهٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً- وَ رَجْلًا وَ فُرْسَاناً- وَ لَا تَکُونُوا کَالْمُتَکَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ- مِنْ غَیْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِیهِ- سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَهِ الْحَسَدِ- وَ قَدَحَتِ الْحَمِیَّهُ فِی قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ- وَ نَفَخَ الشَّیْطَانُ فِی أَنْفِهِ مِنْ رِیحِ الْکِبْرِ- الَّذِی أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَهَ- وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِینَ إِلَى یَوْمِ الْقِیَامَهِ أَلَا وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِی الْبَغْیِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِی الْأَرْضِ- مُصَارَحَهً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَهِ- وَ مُبَارَزَهً لِلْمُؤْمِنِینَ بِالْمُحَارَبَهِ- فَاللَّهَ اللَّهَ فِی کِبْرِ الْحَمِیَّهِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِیَّهِ- فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ الشَّیْطَانِ- الَّتِی خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِیَهَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِیَهَ- حَتَّى أَعْنَقُوا فِی حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِی ضَلَالَتِهِ- ذُلُلًا عَنْ سِیَاقِهِ سُلُساً فِی قِیَادِهِ- أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِیهِ وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَیْهِ- وَ کِبْراً تَضَایَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَهِ سَادَاتِکُمْ وَ کُبَرَائِکُمْ- الَّذِینَ تَکَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ- وَ أَلْقَوُا الْهَجِینَهَ عَلَى رَبِّهِمْ- وَ جَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ- مُکَابَرَهً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَهً لِآلَائِهِ- فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِیَّهِ- وَ دَعَائِمُ أَرْکَانِ الْفِتْنَهِ وَ سُیُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِیَّهِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تَکُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَیْکُمْ أَضْدَاداً- وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَکُمْ حُسَّاداً- وَ لَا تُطِیعُوا الْأَدْعِیَاءَ الَّذِینَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِکُمْ کَدَرَهُمْ- وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِکُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِی حَقِّکُمْ بَاطِلَهُمْ- وَ هُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ- اتَّخَذَهُمْ إِبْلِیسُ مَطَایَا ضَلَالٍ- وَ جُنْداً بِهِمْ یَصُولُ عَلَى النَّاسِ- وَ تَرَاجِمَهً یَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ- اسْتِرَاقاً لِعُقُولِکُمْ وَ دُخُولًا فِی عُیُونِکُمْ- وَ نَفْثاً فِی أَسْمَاعِکُمْ- فَجَعَلَکُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ یَدِهِ
اللغه
أقول:
الإحباط: الإبطال.
و الجهد بفتح الجیم: الاجتهاد.
و الهواده: الصلح.
و استفزّه: استخفّه و أزعجه.
و فوّق السهم: جعل له فوقا و هو موضع الوتر منه.
و نزع القوس نزعا: أى مدّها.
و الإغراق فی المدّ: استیفائه و استیعابه.
و القذف: الرمى و الطماعیه: الطمع.
و نجمت: ظهرت.
و دلف. مشى و دنا.
و أقحموکم: أدخلوکم قهرا.
و الولجات: جمع و لجه بفتح الجیم و هى الموضع کالکهف و نحوه تستتر به المارّه من المطر و غیره.
و الورطات: جمع ورطه و هى الأرض المطمئنّه لا طریق فیها، و الورطه: الهلاک أیضا.
و الحزّ: القطع.
و الخزائم- جمع خزامه بکسر الخاء- : و هى حلقه من شعر فى أنف البعیر یشدّ فیها الزمام.
و أورى: أفعل من الورى و هو إظهار النار.
و المناصبه: المعاداه و المقابله فی الحرب لأنّ کلّا قد نصب نفسه و شرّه للآخره.
و التألّب: الاجتماع.
و حسب الرجل: ما یعدّه من مفاخر آبائه.
و أجلب علیه: جمع، و أصل الجلبه: الأصوات فی الحرب و الغاره.
و حومه الشیء: معظمه، و ما استدار منه على کثره.
و کذلک الحلقه للقوم. و عرصه موت: أى معرض له، و بصدده. و الجوله: کالحلقه.
و النخوه: الکبر.
و النزع: الإفساد.
و النفث: النفخ و هو أقلّ من التفل.
و المسلحه: قوم ذو سلاح یحفظون الثغور و المراقب، و قد یطلق على تلک الأماکن أنفسها.
و الإمعان فی الشیء: التباعد فیه، و الایصال.
و المصارحه: المکاشفه و المجاهره.
و الملاقح: الفحول- واحدها ملقح بفتح المیم- و یحتمل أن یکون مصدرا.
و الشنئان- بفتح النون و سکونها- : البغضاء.
و أعنق الجمل فی السیر: مدّ عنقه و أوسع خطوته.
و الحنادس جمع حندس بکسر الحاء و الدال- : اللیل شدید الظلمه.
و الذلل: جمع ذلیله فعیله بمعنى مفعوله.
و السلس: جمع سلس و هى سهله القیاد.
و الهجینه: الفعل القبیح بمعنى مفعوله.
و الاعتزاء: الایتماء، و الانتساب إلى أب أو قبیله.
و الأدعیاء: جمع دعىّ و هو الّذی یدعى إلى غیر أبیه و ینسب إلیه.
و الحلس: ما یلزم الشیء.
و أصله من حلس البعیر و هو کساء رقیق یجعل تحت بردعته وقایه لظهره.
و العقوق: مشاقّه الوالد و ذى الرحم، و منع برّه.
المعنى
فقوله: فاعتبروا.
أمر للسامعین باعتبار حال إبلیس فی الکبر بعد شرح حاله فی طاعه اللّه و طول مدّه عبادته له و ما لزمه بسبب کبر ساعه واحده من إحباط عمله و لعنته و البعد عن رحمه اللّه لیتنبّهوا للتخلّی عن هذه الرذیله. وجه الاعتبار أن یقال: إذا کان حال من تکبّر من الملائکه بعد عباده ستّه آلاف سنه کذلک فکیف بالمتکبّرین من البشر على قصر مدّه عبادتهم و کونهم بشرا. فبطریق الأولى أن یکونوا کذلک. و جهده الجهید: أى اجتهاده الّذی جهده و شقّ علیه.
و قوله: و کان قد عبد اللّه. إلى قوله: الآخره.
فیشبه أن یکون قد أشار بسنى الآخره إلى سنین موهومه عن مثل الیوم المشار إلیه بقوله تعالى: وَ إِنَّ یَوْماً عِنْدَ رَبِّکَ کَأَلْفِ سَنَهٍ مِمَّا تَعُدُّونَ«» و قوله فِی یَوْمٍ کانَ مِقْدارُهُ خَمْسِینَ أَلْفَ سَنَهٍ«» و تقریره أنّ الأیّام فی الآخره ممّا لا یمکن حملها على حقائقها لأنّ الیوم المعهود عباره عن زمان طلوع الشمس إلى مغیبها، و بعد خراب العالم على ما نطقت به الشریعه لا یبقى ذلک الزمان، و على رأى من أثبت بقاء الفلک تکون القیامه عباره عن مفارقه النفوس لأبدانها أو عن أحوال تعرض لها بعد المفارقه، و المجرّدات المفارقات لا یکون لأحوالها زمان و لا مکان حتّى تجرى فی یوم أو سنه فتعیّن حمل الیوم على مجازه و هو الزمان المقدّر بحسب الوهم القایس لأحوال الآخره إلى أحوال الدنیا و أیّامها إقامه لما بالقوّه مقام ما بالفعل.
و کذلک السنه. و هذه الأزمنه هى الّتی أشار إلى مثلها المتکلّمون بقولهم: إنّ تقدّم البارى تعالى على وجود العالم بتقدیر أزمنه لا نهایه لها. إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ قوله تعالى فِی یَوْمٍ کانَ مِقْدارُهُ خَمْسِینَ أَلْفَ سَنَهٍ و فی موضع مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَهٍ إشاره إلى تفاوت تلک الأزمنه الموهومه بشدّه أهوال أحوال أهل الآخره و ضعفها و طولها و قصرها و سرعه حساب بعضهم و خفّه ظهره و ثقل أوزار قوم آخرین و طول حسابهم کما روى عن ابن عبّاس فی قوله کانَ مِقْدارُهُ خَمْسِینَ أَلْفَ سَنَهٍ قال: هو یوم القیامه جعله اللّه على الکافرین مقدار خمسین ألف سنه، و أراد أنّ أهل الموقف لشدّه أهوالهم یستطیلون بقاهم فیها و شدّتها علیهم حتّى یکون فی قوّه ذلک المقدار. و عن أبی سعید الخدریّ قال: قیل لرسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم فی یوم القیامه کان مقداره خمسین ألف سنه: ما أطول هذا الیوم فقال: و الّذی نفسى بیده إنّه لیخفّ على المؤمن حتّى یکون علیه أخفّ من صلاه مکتوبه یصلّیها فی الدنیا. و هذا یدلّ على أنّه یوم موهوم و إلّا لما تفاوت فی الطول و القصر إلى هذه الغایه. إذا ثبت هذا فنقول: یحتمل أن یکون مراده علیه السّلام أنّ عباده إبلیس و الملائکه الّذین نقلنا فی الخبر فی الخطبه الاولى أنّهم اهبطوا إلى الأرض و طردوا الجنّ إلى البحار و رءوس الجبال و عبدو اللّه فی الأرض زمانا کانت عباده روحانیّه لا یستدعى زمانا موجودا بل أحوالا موهومه تشبه الزمان، و أنّ إبلیس عبد اللّه فی تقدیر أزمنه مبلغها ستّه آلاف سنه قبل خلق آدم. و یحتمل أن یقال: إنّها کانت جسمانیّه فی زمان من أزمنه الدنیا و لکن یکون فی کمیّه کمقدار خمسین ألف سنه من سنى الدنیا.
فأمّا قوله: لا یدرى.
ففى نسخه الرضى بالبناء للفاعل. و فی غیرها من النسخ بالبناء للمفعول.
و الروایه الاولى تستلزم أنّه ممّن لا یدرى أنّ تلک السنین من أىّ السنین و الثانیه یحتمل فیها کونه ممّن یدرى ذلک. و بالجمله فلمّا کانت مدّه عباده إبلیس قبل آدم یحتمل أن یکون روحانیّه و أن یکون جسمانیّه، و یحتمل أن یکون بحسب ذلک فی زمان موهوم أو موجود. و على تقدیر أن یکون موجودا یحتمل أن یکون ستّه آلاف سنه من السنین المعهوده المتعارفه لنا، و یحتمل أن یکون من سنین کانت قبل ذلک مصطلحا على تقدیر کلّ منها بألف سنه أو بخمسین ألف سنه من سنینا لا جرم لم یمکن الجزم بواحد من هذه الاحتمالات فلذلک قال: لا یدرى. قال بعض الشارحین: و یفهم من تقدیره علیه السّلام تلک المدّه بستّه آلاف سنه لا یدرى من أىّ السنین هی أنّه سمع فیه نصّا من رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم مجملا و لم یفسّره له، أو أنّه سمعه و علم تفصیله لکنّه لم یفصّله للناس بل أبهم القول علیهم فی تعیینه لعلمه أنّ تعیین سنى الآخره ممّا یستعظمونه و لا یحتمله أذهانهم. فإنّ عبادته إذا کانت ستّه آلاف سنه و کل یوم منها خمسین ألف سنه من سنى الدنیا کان مبلغ ذلک ممّا یخرج من ضرب ستّه آلاف سنه فی ثلاث مائه و ستّین مضروبه فی خمسین ألفا و هو مائه و ثمانیه ألف ألف ألف- بتکریر لفظ الألف ثلاث مرات- و على تقدیر أن یکون مقدار کلّ یوم ألف سنه یکون مبلغها ما یخرج من ضرب ستّه آلاف فی ثلاث مائه و ستّین ألفا و هو ألفا ألف ألف سنه- بتکریر الألف ثلاث مرات و تثنیه الأوّل- و مائه ألف ألف- بلفظتین- و ستّون ألف ألف- بلفظتین أیضا- و ذلک مما لا یحتمله أذهان السامعین. فلذلک أبهم القول فیه.
و قوله: فمن. إلى قوله: معصیه.
استفهام إنکار لوجود من یسلم من لعنه اللّه و عقوبته ممّن یکون فیه رذیله الکبر.
و قوله: یسلم على اللّه.
فی معنى یرجع إلیه سالما من طرده و لعنته و عذابه. تقول: سلم علىّ هذا الشیء إذا رجع إلیک سالما و لم یلحقه تلف. و الباء فی قوله: بمثل معصیته. للاستصحاب: أى فمن یرجع إلى اللّه سالما من عذابه و قد استصحب مثل معصیه إبلیس: أى تکبّر کتکبّره و خالف أمر ربّه.
و قوله: کلّا.
ردّ لما عساه یدّعى من تلک السلامه الّتى استنکر وقوعها باستفهامه. و فسّر ذلک الردّ بقوله: ما کان اللّه. إلى قوله: ملکا. و الباء فی قوله: بأمر للاستصحاب أیضا: أى ما کان لیدخل الجنّه بشرا مستصحبا لأمر أخرج به منها ملکا. و ذلک الأمر هو رذیله الکبر الّتی یستصحبها الإنسان بعد الموت ملکه و خلقا فی جوهر نفسه. و القضیّه سالبه عرفیّه عامّه: أى لا یدخل الجنّه بشر بوصف الکبر ما دام له ذلک الوصف.
فإن کان ذلک الوصف یدوم کما فی حقّ الکافر لم یدخل الجنّه أبدا، و إن کان لا یدوم جاز أن یدخل بعد زواله الجنّه. فإذن لا مسکه للرعیه به قول القائلین بتخلید الفاسق من أهل القبله فی هذا الکلام. و أمّا حدیث الإحباط فیقول: إنّما کان بسبب الکفر کما قال تعالى إِلَّا إِبْلِیسَ اسْتَکْبَرَ وَ کانَ مِنَ الْکافِرِینَ«».
فإن قلت: الکلام یقتضى أنّ إحباط عمله و إخراجه من الجنّه کان بسبب تکبّره لا بسبب کفره.
قلت: الأصل هو الکبر إلّا أنّ تکبّره کان تکبّرا على اللّه و إباء لطاعته و استصغارا لما امر به حیث قال: أ أسجد لبشر خلقته من صلصال، أ أسجد لمن خلقت طینا و ذلک محادّه للّه و کفر به مصارحه فکان ذلک مستلزما لکفره. و لا شکّ أنّ الکفر یستلزم إحباط العمل و اللعن و الخروج من الجنّه.
و قوله: إنّ حکمه فی أهل السماء. إلى قوله: لواحد.
أى فی إفاضته للخیر و الشرّ على من یستعدّ لأحدهما فمن استعدّ من أهل السماء أو أهل الأرض لخیر أو شرّ فحکمه فیه أن یفیض على ما استعدّ له و ذلک حکم لا یختلف اعتباره من جهته تعالى.
و قوله: و ما بین اللّه. إلى قوله: العالمین.
أى لیس بینه و بین أحد من خلقه صلح فیخصّصه بإباحه حکم حرّمه على سائر خلقه فیختلف بذلک حکمه فیهم لأنّ الصلح من عوارض الحاجه أو الخوف المحالین علیه تعالى. و قال بعض الشارحین: کلّ ما جاء من الإحباط فی القرآن و الأثر فمحمول على أنّ ذلک الفعل المحبط قد أخلّ فاعله ببعض شرائطه اللازمه إذ لم یوقعه على الوجه المأمور به المرضىّ، أو فعله لا على بصیره و یقین بل على ظنّ و تخمین.
و بالجمله فحیث یقع لا على وجه یستحقّ به ثوابا، لا على أنّه استحقّ به شیئا ثمّ احبط. فإنّ ذلک ممّا قام البرهان على استحالته. ثمّ حذّرهم من إبلیس باعتبار کونه عدوّ اللّه بعد أمرهم باعتبار حاله و ما لزمه من الشقاوه بسبب معصیه له أن یعدیهم بذلک الداء و هو الکبر الّذى بسببه لزمته تلک الشقاوه. و معنى عداوته للّه مجانبته لأوامره و مجاوزته لطاعته إلى معصیته و هو مستعار. و لفظ الداء مستعار للکبر یقرب من الحقیقه فإنّ أدواء النفوس أشدّ من أدواء الأبدان. و محلّ أن یعدیکم نصب على البدل من عدوّ، و نقل عن القطب الراوندى- رحمه اللّه- أنّه مفعول ثان عن احذروا. و هو سهو. إذ هذا الفعل لا یتعدّى إلى مفعولین.
و قوله: بخیله و رجله.
کنایه عن أعوانه من الضالّین المضلّین الّذین یستخفّون الناس بالوسوسه و الدعوه إلى طرق الضلال.
و قوله: فلعمرى. إلى قوله: الشدید.
و قوله: فلعمرى. إلى قوله: الشدید. استعار لفظ السهم لوساوسه و تزییناته فی الوعید المحکىّ عنه بقوله تعالى:قالَ رَبِّ بِما أَغْوَیْتَنِی لَأُزَیِّنَنَّ لَهُمْ فِی«» و وجه الاستعاره کونه یرمى بتلک الوساوس وجوه نفوسهم فیکون سببا لهلاکها فی الآخره کما یکون السهم سببا للقتل. و رشّح بذکر التفویق و الإغراق و النزع و الرمى. و أمّا مکانه القریب فکما نطق به الخبر النبوىّ فی قوله: إنّ الشیطان یجری من ابن آدم مجرى الدم. و قوله: لو لا أنّ الشیاطین یحومون على قلوب بنى آدم لنظروا إلى ملکوت السماوات. و قرب من کان کذلک ظاهر. و الکلام فی قوله: فلعمرى. فی معرض الإغراء به. و فی الباء و ما یتعلّق به وجوه: أحدها: قال أبو عبید: معناها القسم. فإن قلت: کیف نسب الإغواء إلیه تعالى و کیف یصلح الإغواء مقسما به.
قلت: على الأوّل لمّا کان تعالى خالق أسباب الغوایه فیه کالقدره و العلم و غیرهما کانت له تعالى سببیّه فی إیجاد الغوایه و إن کانت بعیده فلذلک صحّ إسناد فعلها إلیه تعالى، و على الثانی أنّه یجوز أن یکون ما بمعنى الّذی و العائد من الصله محذوف و تقدیره بالّذی أغویتنى به لازیّننّ لهم و ذلک هو الأمر بالسجود لآدم إذ کان بسببه استکبر و عصى فغوى، و القسم جایز بأمره تعالى و تکلیفه. و من جعل ما مصدریّه فله أن یقول: إنّ إبلیس أطلق على الأمر و التکلیف الّذی حصل له بسببهما الغوایه لفظ الإغواء مجازا إطلاقا لاسم المسبّب على السبب. ثمّ أقسم به باعتبار ما هو أمر و تکلیف لا باعتبار ما هو غوایه.
الثانی: قال غیره: هی للسببیّه: أی بکونى غاویا لازیّننّ کما یقول: بطاعته لیدخلنّ الجنّه و بمعصیته لیدخلنّ النار. و مفعول التزیین محذوف: أى لازیّننّ لهم الباطل حتّى یقعوا فیه. الثالث: قال بعضهم: یجوز أن یکون الباء للسببیّه و یقدّر قسم محذوف.
و المعنى بسبب ما کلّفتنى فاستلزم غوایتى اقسم لازیّننّ لهم. و قوله: قذفا بغیب بعید.
کقوله تعالى وَ یَقْذِفُونَ بِالْغَیْبِ مِنْ مَکانٍ بَعِیدٍ«» و هو مصدر حذف فعله و سدّ مسدّ الحال. قال المفسّرون: و الغیب هنا بمعنى الظنّ. و فیه نظر لأنّ إطلاق لفظ الغیب على الظنّ مجاز و العدول عن الحقیقه إنّما یکون بعد تعذّر حمل اللفظ علیها و لا تعذّر هاهنا فی ذلک لأنّ مفهوم الغیب هو ما غاب عن الخلق فلم یعلموه فکان القذف بکلّ ما لا یعلم و الحکم به قذفا بالغیب و حکما به. و لمّا کان إبلیس لا یعلم ما حکم به بأنّه یفعله فی الخلق من التزیین و الإغواء و هو بعید عن علمه ثمّ حکم به کان حاکما بما هو غائب عن علمه و عازب عنه و هو معنى قذفه بالغیب البعید. و فی نسخه الرضىّ- رحمه اللّه علیه- بظنّ مصیب. و فی أکثر النسخ غیر مصیب و هو المناسب لقوله: بغیب بعید. لأنّ ما یقال عن غیب بعید قلّما یصیب ظنّه.
فإن قلت: فلم قال غیر مصیب مع أنّ إبلیس صدّق ظنّه فی إغواء الناس و تمّ له ما ظنّ کما قال تعالى وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَیْهِمْ إِبْلِیسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ«» الآیه.
قلت: الجواب عن وجوه: أحدها: أنّه یرید بالظنّ المصیب العلم لأنّه المصیب الحقّ فکأنّه قال: بظنّ لیس بعلم.
الثانی: قال بعض الشارحین: إنّما کان غیر مصیب لأنّه ظنّ أنّ إغوائهم یکون منه فقال: لاغوینّهم. و هذا ظنّ فاسد لأنّ إغواءهم کان منهم اختیارا لأنّهم اختاروا العمى على الهدى فغووا عن طریق اللّه. و تصدیق أبناء الحمیّه له فی ذلک یعود إلى وقوع الغوایه منهم وفق ظنّه لأنّه لمّا ظنّ أنّه یغویهم فقد ظنّ أنّ الغوایه تلحقهم منه فصدّقوه فی الغوایه و أخطأ ظنّه فی تسبّبها إلیه.
الثالث: أنّ الکلام لمّا کان فی معرض ذمّ إبلیس و إغراء الخلق بعداوته وقف علیه السّلام فی الآیه على قوله: أجمعین. فیکون المعنى أنّ إبلیس ظنّ أنّه یغوى جمیع الخلق.
و أمّا استثنائه لعباد اللّه المخلصین فذاک لیس بحسب ظنّه بل تصدیقا لقوله تعالى إِنَ إِنَّ عِبادِی لَیْسَ لَکَ عَلَیْهِمْ«» و معلوم أنّ ذلک الظنّ فاسد و غیر مصیب. إذ کان إنّما قدر على إغواء البعض.
الرابع: قال بعض الشارحین: یحتمل أن یکون أراد بالإغواء الّذی ظنّ أنّه یفعله بالخلق هو إغواء الشرک، و بالإخلاص فی قوله إِلَّا عِبادَکَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِینَ«» العصمه من المعاصى فیکون الناس إذن فی ظنّه إمّا معصوم أو مشرک و هذا ظنّ غیر مصیب إذ وجد من لیس بمشرک و لا معصوم.
و قوله: صدّقه به أبناء الحمیّه.
و قوله: صدّقه به أبناء الحمیّه. فالحمیّه لازم من لوازم الکبر لأنّها مأخوذه من قولک: حمیت. إذا غضبت. فکانت حقیقتها تعود إلى الغضب عن تصوّر المؤذى مع الترفّع على فاعله و اعتقاد الشرف علیه.
و استعار لفظ الأبناء لأصحاب هذه الرذیله و أهل الکبر من الناس. و وجه الاستعاره ملازمتهم لها کما یلازم الولد امّه حتّى صاروا کأنّهم خلقوا منها و هى أصل لهم.
و تصدیقهم له بذلک الظنّ هو ارتکابهم للرذائل و المعاصى اتّباعا له و غوایتهم لها عن سبیل اللّه قال بعض الشارحین: و الباء فی قوله: به. بمعنى فی: أى صدّقه فیه.
و صدّقه فی موضع الجرّ صفه لظنّ.
و قوله: و إخوان العصبیّه.
یحتمل أن یرید إخوانها فیکون قد جعل لها إخوانا على سبیل الاستعاره و هم ملازموها کما جعل للحمیّه أبناء، و یحتمل أن یرید الإخوان فیها: أى الّذین عقدوا الاخوّه بینهم على العصبیّه الباطله فیها. و کذلک فرسان الکبر و الجاهلیّه، و یحتمل أن یکون قد استعار لفظ الفرسان لمرتکبى الکبر و الأفعال الجاهلیّه. و وجه الاستعاره ظاهر، و یحتمل أن یرید فرسان الجاهلیّه الموصوفین بالکبر.
و قوله: حتّى. إلى قوله: الجلىّ.
غایه من قوله: فوّق و أغرق و رماکم. و استعار وصف الجامحه للنفوس الّتی کانت عاصیه لإبلیس آبیه عن الانقیاد له.
و قوله: فنجمت الحال.
أى ظهرت الحال الّتی کان یرومها منکم و یظنّها فیکم و هی الغوایه و الضلال من السرّ الخفىّ إلى الأمر الجلىّ. أى من القوّه فیکم إلى الفعل.
و قوله: استفحل.
جواب الشرط. و استعار لفظ الاستفحال لشدّه سطوته و سلطانه إشاره إلى کمال قدرته على تطویع النفوس و قهرها. و جنوده کنایه عن أهل الفساد فی الأرض کما علمته فیما سبق. و دلفه بهم دخولهم بالفساد على الناس و تزیینهم لهم رذائل الأخلاق و إغواؤهم إیّاهم. و من لوازم ذلک التحاسد و التباغض و التقاطع و التدابر و تفرّق الکلمه، و من لوازم تفرّق الکلمه أن یقحمهم العدوّ و لجأت الذلّ و یحلّهم و رطات القتل و یوطئهم إثخان الجراحه و یحتمل أن یرید بسلطانه الّذی استفحل علیه هو سلطان عدوّهم و من خالفهم کمعاویه و غیره و قوّتهم علیهم بعد تفرّق کلمتهم و قلّه طاعتهم له علیه السّلام و إضافه ذلک السلطان و جنوده إلى الشیطان ظاهره لأنّ سلطان الحقّ و جنوده یقال له سلطان اللّه و جنود اللّه، و سلطان الباطل یقال له سلطان الشیطان و جنوده جنود الشیطان و أولیائه و أعوانه. و ظاهر أنّهم عند تفرّق کلمتهم قد استفحل علیهم سلطان إبلیس و دلف بجنوده إلیهم و هم مخالفوه علیه السّلام. و انتصب إثخان الجراحه على أنّه مفعول ثان لأوطئوکم. و لفظ الولجات و الورطات مستعار ان للأحوال الّتی هى مظانّ الذلّ و القتل کالأماکن الّتی یفرّون إلیها من عدوّهم ذلا و المواطن الّتی قتلوا فیها، أو لطاعتهم و الاستسلام لهم. و إقحامهم و إحلالهم إیّاها إلجاؤهم لهم إلى تلک الأحوال و الأماکن و لذلک استعار وصف إیطائهم إثخان الجراحه ملاحظه لمشابهه وقوعها بهم للوطء فی استلزامه للأذى. و کنّى بذلک المستعار عن إیقاعهم فی حرارات الجراح. و إثخان مصدر قولک: أثخن فی الجراح إذا کثر فیه و بالغ حتّى فشا فکأنّه ثخن.
و قوله: طعنا. إلى قوله: لمقاتلکم.
جعل محلّ الطعن العیون، و الحزّ الحلوق، و الدقّ المناخر، و القصد المقاتل لأنّها محالّها المتعارفه عند إراده الإذلال و الإهانه و الإهلاک. لأنّ الطعن و إن کان قد یقع فی سائر البدن إلّا أنّه أبلغ فی العیون و أفحش. و کذلک فی باقیها. قال بعض الشارحین: انتصب طعنا و حزّا و دقّا و قصدا و سوقا على المصادر عن أفعالها المقدّره. و من روى: لإثخان الجراحه.- بوجود اللام- فیحتمل أن یجعل طعنا مفعولا ثانیا لأوطئوکم، و یکون اللام فی الإثخان لام الغرض: أى أوطأوکم طعنا و حزّا و دقّا لیثخنوا الجراحه فیکم قال: و یکون قصدا و سوقا خالصین للمصدریّه لبعدهما عن المفعول به. و الأظهر هو الوجه الأوّل أعنى کون کلّ منها مصدرا لفعله.
و لمّا کان الفاعل بهم هذه الأفعال کلّها هو إبلیس و جنوده فإن کان المراد بجنوده الساعین بین الناس بالوسوسه و الفساد فی الأرض فمعنى فعلهم بهم هذه الأفعال کونهم أسبابا معدّه لهم بالوسوسه المستلزمه لتفریق الکلمه و مخالفه الإمام لوقوع هذه الأفعال بهم من أعدائهم و محاربیهم ثمّ یتبع فعل العدوّ لهم أن یسوقوهم إلى النار بخزائم القهر. و لفظ الخزائم مستعار لما یمکّن فی جواهر نفوسهم من الرذائل الموبقه و ملکات السوء الّتی لا محیص لهم من النار بسببها لمشابهتها الخزائم الّتی یقاد بها الإبل فی کونها لا مخلص عمّا یقاد إلیه بسببها. و لفظ السوق ترشیح للاستعاره. و إن کان المراد بجنوده هم المخالفون له علیه السّلام و المحاربون لأصحابه ففعلهم بهم تلک الأفعال ظاهر. و أمّا السائق لهم إلى النار فیحتمل أن یکون هؤلاء و ذلک بإذلالهم لهم و إدخالهم فی باطلهم عن قهر و ذلّه. و لا شکّ أنّ الدخول فی باطلهم سبب جاذب إلى النار. و لفظ الخزائم مستعار إذن إمّا لما یتمکّن من باطلهم و عبثهم فی النفوس، و إمّا لأوامرهم بالباطل و حملهم على ارتکاب المنکر، و یحتمل أن یکون السائق لهم هو إبلیس و جنوده من أهل الوسوسه. ثمّ رجع إلى إفراده بالفعل نظرا إلى قوله: و دلف بجنوده. فقال بعده: فأصبح أعظم فی دینکم جرحا. فاستعار لفظ الجرح للفساد المعقول الحاصل بسبب إبلیس فی دینهم. و وجه المشابهه کون الجرح فسادا فی العضو أیضا، و کذلک استعار لفظ القدح لوساوس إبلیس المستلزمه لوجود الإحن و التباغض و التحاسد بینهم الموجب لتفریق کلمتهم المستلزم لتشتّت سلطانهم و فساد نظامهم و ما هم علیه من الابّهه و استقامه المعاش فی الدنیا. و وجه المشابهه إفساد تلک الوساوس لأحوال معاشهم کإفساد قدح النار ما یقدح فیه. و جعله فی حرج دینهم و إفساد دنیاهم أشدّ من أعدائهم الّذین هم مناصبون لهم و الحکم ظاهر الصدق.
إذ کانت پپپفتنه إبلیس لهم فی دینهم و دنیاهم أصلا لکلّ فتنه تلحقهم من أعدائهم باعتبار أنّها سبب تفرّقهم کما سبق. ثمّ أمرهم أن یجعلوا علیه حدّهم: أی بأسهم و سطوتهم لأنّ حدّ الرجل بأسه و سطوته، أو منعهم و دفعهم. و أن یجعلوا له جدّهم: أی یجتهدوا للخلاص من فتنته بمقاومته و قهره.
و قوله: فلعمر اللّه. إلى قوله: بلاء.
عود إلى الإغراء بعداوته یذکر أسباب العداوه المنفّره، و هى کونه فخر على أصلهم، و ذلک قوله تعالى حکایه عنه قالَ ما مَنَعَکَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ قالَ أَنَا خَیْرٌ«» و وقع فی نسبهم. و ذلک قوله قالَ لَم ْ أَکُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ«» فبیّن بذکر أصلهم و هو الصلصال و الحمأ المسنون المنتن و نسبهم منه أنّه ساقط عن درجه الافتخار به. و خیله و رجله کنایه عن جنوده من أهل الباطل، و إجلابه بخلیه علیهم جمعه لجنوده على محاربتهم أو على الوسوسه لهم و الإضلال، و قصده لسبیلهم: أى السبیل الحقّ الّذی هم سالکوه إلى اللّه کقوله تعالى حکایه عنه لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَکَ الْمُسْتَقِیمَ«» و هو کنایه عن جذبه لهم إلى طرف الباطل عند توجّههم إلى طرف الحقّ و سبیل الدین، و اقتناصهم لهم بکلّ مکان کقوله ثُمَّ لَآتِیَنَّهُمْ مِنْ بَیْنِ أَیْدِیهِمْ«» الآیه و هو کنایه عن أخذه بوسوسته لهم من کلّ وجه و إغوائه لهم عن کلّ سبیل حقّ، و ضربهم منهم کلّ بنان کنایه أیضا عن کونه هو و جنوده أسبابا معدّه لقتلهم و قطعهم بأیدی أعدائهم. و على احتمال أن یرید بجنوده هم مخالفوه علیه السّلام من أهل الضلال فمعنى قصدهم لسبیلهم ابتلائهم بالفتن و القتل و منعهم لهم بذلک عن إقامه حدود اللّه و الاستقامه على سبیله، و اقتناصهم بکلّ مکان و ضربهم منهم کلّ بنان کنایه عن استقصائهم و قتلهم و أذاهم، و لفظ الاقتناص مستعار، و ظاهر أنّهم لا یمتنعون من أفعاله بعد استحکام طمعه فیهم و استفحال سلطانه علیهم بحیله، و لا یدفعون عن الفتهم بعزیمه: أى جدّ و اجتهاد و صرامه فی أمر لما سبق منهم من التخاذل و الانفعال، و الحومه و الحلقه و العرصه و الجوله ألفاظ کنّى بها عن الدنیا. إذ کانت محلّ ذلّهم و الضیق علیهم و عرصه موتهم و منصه بلائهم. و الإضافات الأربع بمعنى اللام. ثمّ عاد إلى أمرهم بتطهیر قلوبهم من رذیله العصبیّه و أحقاد الجاهلیّه، و استعار لفظ النیران لما یثور من حراره الغضب و عنه العصبیّه، و قد علمت أنّ مبدء تلک الحراره القلب، و رشّح بذکر الإطفاء، و لک أن تسمّى تلک النیران حمیّه کما سبق فلذلک فسرّها بها فقال: و إنّما تلک الحمیّه. و یفهم من الحمیّه أنّها خبر المبتدأ، و قوله: تکون. خبر بعد خبر، و یحتمل أن یکون صفه لتلک و الخبر تکون، و ظاهر أنّ الحمیّه و العصبیّه الباطله من خطرات الشیطان الّتی یخطرها للنفوس، و نخواته الّتی یحدثها فیها بتحسینه الغلبه و الانتقام و الترفّع و الترأس على الخلق، و من نزغاته الّتی یفسد بها الناس، و نفثاته الّتی یلقیها إلى أذهانهم لغرض الإفساد و الإضلال، و أراد بإضافتها إلى الشیطان التنفیر عنها. ثمّ أردفه بالأمر بالتذلل و أراد به التواضع و أمرهم أن یعتمدوا وضعه على رؤوسهم و هو کنایه عن إعزازهم و العنایه به لکونه فضیله، و أن یلقوا التعزّز تحت أقدامهم و هو کنایه عن إطراحه و عدم العنایه به لکونه رذیله، و أن یخلعوا التکبّر من أعناقهم. و استعار لفظ الخلع لطرح التکبّر و نسبه إلى الأعناق ملاحظه لشبهه بما یلبس من قمیص أو طوق فأمرهم بخلعه إذ لیسوا أهلا له و لیس ممّا ینبغی لهم، و أن یلزموا التواضع. و استعار له لفظ المسلحه، و وجه المشابهه أنّه لمّا کان المتواضعون بسبب تواضعهم و تخلّقهم به حافظین لدینهم و أنفسهم من دخول إبلیس و جنوده علیهم برذیله الکبر و ما یلزمها من سائر الرذائل المعدوده المهلکه أشبه تواضعهم المسلحه الّتی هى محلّ الحفظ بها من غارات العدوّ. و لمّا علمت ما یلزم الکبر من الرذائل فلا یخفى علیک ما یلزم التواضع من أضدادها و نقائضها.
و قوله: فإنّ له من کلّ امّه. إلى قوله: فرسانا.
بیان لجنوده و إشاره إلى أنّ له من هذه الامّه جنودا و أعوانا و رجلا و فرسانا اتّصفوا بصفته و استشعروا شعاره و هو الکبر فینبغى أن یجتنبوهم و یطرحوا شعارهم.
و قوله: و لا تکونوا کالمتکبّرین على ابن امّه.
أراد بذلک المتکبّر قابیل حین قتل أخاه هابیل عن کبر و حسد، و هو نهى عن الکبر أیضا من بعضهم على بعض. و إلى قصّه قابیل و هابیل أشار القرآن الکریم بقوله وَ اتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ ابْنَیْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً إلى قوله جَزاءُ الظَّالِمِینَ«» و المنقول فی السبب أنّ حوّاء کانت تلد فی بطن اثنین ذکرا و انثى. فولدت فی أوّل بطن قابیل و اخته ثمّ مکثت سنین فولدت هابیل و اخته. فلمّا أدرکوا أمر اللّه آدم أن ینکح قابیل اخت هابیل و ینکح هابیل أخت قابیل فرضى هابیل بذلک و لم یرض قابیل لأنّ أخته کانت أحسنهما فقال آدم: قرّ باقربانا فأیّکما تقبّل قربانه زوّجتها منه. و قیل: بل قال آدم لهابیل و قابیل: إنّ ربّى أوحى إلىّ أنّه یکون من ذرّیّتى من یقرّب القربان فقرّبا قربانا حتّى تقرّ عینى إذا تقبّل قربانکما. و کان قابیل صاحب زرع و هابیل صاحب ضرع. فتقرّب قابیل بأردء قمح عنده، و تقرّب هابیل بأجود حمل عنده و وضعا قربانهما على الجبل فدعا آدم فنزلت نار بیضاء من السماء فدفعت قربان هابیل دون قابیل لأنّ نیّته لم تکن خالصه فی قربانه.
و قیل: لأنّه کان مصرّا على کبیره لا یقبل اللّه معها طاعه. فذلک قوله تعالى وَ اتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ ابْنَیْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ یُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ«» فحسده قابیل و کان أکبر منه سنّا. فقال: لأقتلنّک. قال هابیل: إنّما یتقبّل اللّه من المتّقین لئن بسطت إلىّ یدک. الآیه. إلى قوله فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِینَ«» أى لأخیه فی الدنیا و للجنّه فی الآخره. و روى أنّه بقى زمانا یحمله على ظهره لا یدرى ما ذا یصنع به حتّى بعث اللّه غرابا یبحث فی الأرض لیریه کیف یوارى سوأه أخیه. و روى أنّه کان غرابان قتل أحدهما الآخر و احتفر له و دفّنه. فقال قابیل: یا ویلتى أعجزت أن أکون مثل هذا الغراب. الأیه. إذا عرفت ذلک فنقول: قال الثعلبى: إنّما أضافه إلى الامّ دون الأب لأنّ الولد فی الحقیقه من الامّ: أى الولد بالفعل فإنّ النطفه فی الحقیقه لیست ولدا بل جزء مادّى له و نسبه الولد إلیه فی الحکم دون الحقیقه. و قیل: لأنّ قابیل لقتله هابیل فإنّه قطع نسبه عن أبیه کما قال تعالى فی ولد نوح إِنَّهُ لَیْسَ مِنْ أَهْلِکَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَیْرُ صالِحٍ«» و قیل: لأنّ شفقّه الأخ من الامّ أزید من شفقّه الأخ من الأب لزیاده شفقّه الأمّ. و الأوّل ألیق. و قد أشار بهذه الإضافه إلى جهه مساواته له فی کونهما من محلّ واحد لتبیّن قبح تکبّره علیه لیتنبّه السامعون لنهى الإنسان عن التکبّر على غیره من أبناء نوعه. و أکّد ذلک بقوله: من غیر ما فضل جعله اللّه فیه.
و قوله: سوى ما ألحقت العظمه. إلى قوله: ریح الکبر.
إشاره إلى تکبّره علیه و أسبابه و هى العداوه عن حسد، و جعل تلک العداوه مسبّبه عن العظمه و هو ظاهر کما علمت فإنّ المتعظّم معتقد لکمال نفسه و أنّه أولى بکلّ کمال یلیق به من غیره و أنّه لا ینبغی أن تشارکه فیه أحد، و ذلک یستلزم حسده للغیر على ما یعتقده کمالا یصل إلیه کاعتقاد قابیل أنّه أولى بالأخت الحسناء من أخیه لکونه أکبر سنّا منه إلى غیر ذلک من الأسباب، و عن ذلک الحسد تکون الحمیّه و ثوران نار الغضب و العصبیّه، و لفظ النار مستعار کما سبق، و لفظ القدح ترشیح، و کذلک لفظ الریح مستعار لتلک الوساوس و الخطرات الّتى ینفثها إبلیس فی روع المتکبّر من کونه أولى فأحقّ بذلک الکمال و نحوه، و کذلک لفظ النفخ لإلقاء تلک الخطرات و نفثها.
و قوله: الّذی أعقبه اللّه.
أى الندامه المشار إلیه کما ذکرناه.
و قوله: و ألزمه آثام القاتلین إلى یوم القیامه.
إشاره إلى مقتضى قوله تعالى مِنْ أَجْلِ ذلِکَ کَتَبْنا عَلى بَنِی إِسْرائِیلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَیْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِی الْأَرْضِ فَکَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِیعاً«» أى یکون عقابه فی الغلظ و الشدّه و التأبید کعقاب قاتل الناس جمیعا کما قال تعالى وَ مَنْ یَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً«» الآیه، و کذلک مقتضى قول الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: من سنّ سنّه سیّئه فعلیه وزرها و وزر من یعمل بها إلى یوم القیامه. و قابیل هو من أوّل من سنّ القتل فلا جرم لزمه آثام القاتلین إلى یوم القیامه، و کذلک قوله صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: ما من نفس فقتل ظلما إلّا کان على ابن آدم الأوّل کفل منها. ذلک بأنّه أوّل من سنّ القتل. ثمّ شرع فی تنبیههم على إمعانهم و تشمّرهم فی البغى و الإفساد فی الأرض و إعلامهم بذلک من أنفسهم. و الخطاب أشبه أن یکون للبغاه من أصحاب معاویه و هم الّذین کاشفوا اللّه بمحادّه أولیائه و معاداه دینه و بارزوا المؤمنین بالمحاربه. و مصارحه و مبارزه مصدران سدّا مسدّ الحال. ثمّ کرّر التحذیر من اللّه تعالى فی الکبر و أضافه إلى الحمیّه لیتمیّز الکبر المحمود، و کذلک إضافه الفخر إلى الجاهلیّه فإنّ من التکبّر و الفخر ما هو محمود کتکبّر الفقراء على الأغنیاء. ثمّ ذکر فی ذکر ما نفرّ عنه من الأوصاف کونه ملاقح الشنئان و هو البغض و العداوه. و لفظ الملاقح مستعار من الفحول للکبر و الفخر، و وجه المشابهه کونهما مظنّه وجود البغضاء بین الناس و سبب له کما أنّ الفحول سبب الإلقاح، و أمّا على تقدیر کونه مصدرا فاستعاره لإثمار الفخر للبغضاء للمشابهه المذکوره.
ثمّ إنّه أخبر بذلک المصدر نفسه عن الفخر حیث جعله خبر إنّ فکأنّه قال: فإنّ الفخر لقح الشنئان، و لقح الشنئان نفسه لیس عین الفخر بل من ثماره و لوازمه فکان إطلاقا لاسم السبب على المسبّب و هو فی الدرجه الثانیه، و إنّما ذکره بلفظ الجمع نظرا إلى تکثّر معنى الفخر فی موارده و هى أذهان المتکبّرین. و منافخ الشیطان. جمع منفخ مصدر نفخ، و ظاهر أنّ أفراد مهیّه الفخر المنتشره فی الأدمغه نفخات و نفثات من إبلیس. و یقال فی العرف للمتکبّر و المترّفع قدره: قد نفخ الشیطان فی أنفه. و وصف تلک المنافخ بأنّها اللاتى خدع بها الامم الماضیه و القرون الخالیه. و صوره الخداع هاهنا کونهم أراهم الباطل فی صوره الحقّ کتزیه الکبر و تحسینه للوازمه و تخییل أنّ ذلک هو الأصلح و الأنفع مع أنّه فی نفس الأمر لیس بحقّ حتّى کان ذلک سببا لارتکابهم فی ظلمات الجهالات و مهاوى الضلالات، و استعار وصف الإعناق لما یتوهّم من شدّه دخولهم فی ظلمات الجهالات و قوّه سیرهم فیها، و کذلک لفظ الحنادس مستعار لما یتخیّل من ظلمه الجهل، و لفظ المهاوى مستعار لما یتخیّل من کون الضلاله و طرقها محالّ للهوىّ عن افق الکمال و مدارج السعاده، و أضاف الجهاله و الضلاله إلیه إضافه للمسبّب إلى السبب. و ذلل جمع ذلیل، و سلس: جمع سلس و هما سهلا الانقیاد. و انتصابهما على الحال من الضمیر فی أعنقوا: أى أسرعوا سهلى الانقیاد لسوقه.
و قوله أمرا.
منصوب بفعل مضمر تقدیره فاعتمد أمرا تشابهت قلوبهم فیه و تتابعت القرون الماضیه منهم على اعتماده و هو الفخر و نفخ الشیطان و الإعناق فی جهالته و ضلالته، و کبرا عطف علیه، و کنّى بتضایق الصدور به من کثرته و عظمته. ثمّ عقّب بالتحذیر من طاعه ساداتهم و کبرائهم تذکیرا بما نبّه علیه القرآن الکریم بذمّ المطیعین لساداتهم و کبرائهم على طاعتهم فیما حرّم اللّه علیهم و خروجهم بذلک عن سبیل اللّه، و ذلک قوله تعالى حکایه لما یقولونه یوم القیامه وَ قالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ کُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِیلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَیْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً کَبِیراً«» و التابعین على متابعه متبوعهم فی قوله حکایه عنهم تَاللَّهِ إِنْ کُنَّا لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ إِذْ نُسَوِّیکُمْ بِرَبِّ الْعالَمِینَ«».
و قوله: الّذین تکبّروا عن حسبهم و ترفّعوا فوق نسبهم.
فحسبهم و نسبهم إشاره إلى الطین و الصلصال من الحمأ المسنون و الماء المهین الّذى هو أصلهم، و لمّا کان من شأنه أن لا فخر فیه و لا تکبّر لمن هو أصل له ثمّ تکبّروا فقد تکبّروا عن ذلک الأصل و ترفّعوا علیه و ترکوا ما ینبغی لهم من النظر إلیه و التواضع لحسبه، و إلیه أشار القائل: ما بال من أوّله نطفه، و جیفه آخره یفخر لا یملک تقدیم ما یرجو و لا تأخیر ما یحذر.
و قوله: و ألقوا الهجینه على ربّهم.
أى نسبوا ما فی الإنسان من القبایح بزعمهم إلى ربّهم کما قال بعض الشارحین: کأن یقول أحدهم فی الافتخار على غیره: أنا عربىّ و أنت أعجمىّ. فإنّ ذلک عیب و إزراء لخلق اللّه فهو عیب على اللّه و نسبه للقبح إلیه، و هم فی ذلک مقتفون لأثر إبلیس حیث قال: أ أسجد لبشر خلقته من صلصال. إذ کان ذلک عیبا لخلق اللّه و نسبه للفعل القبیح.
و قوله: و جاحدوا اللّه ما صنع بهم.
و وجه المجاحده هنا أنّهم لمّا غفلوا عن اللّه تعالى و جحدوا حقّه لم یشکروا على نعمائه و صنیعه بهم. و لمّا کان الشکر یعود إلى الاعتراف بالنعمه کان الجحد و الإنکار منهم عباره عن عدم ذلک الاعتراف لغفلتهم، و أیضا فإنّ الشکر کما یکون بالاعتراف بالنعمه کذلک یکون بالاتیان بما یوافق ذلک الاعتراف و یدلّ علیه من الأقوال و الأفعال الصالحه المطلوبه للمنعم و الموافقه لأوامره و نواهیه و یسمّیان شکرا أیضا فکان الإصرار على ترکهما و عدم الاتیان بهما جحدا لنعمه اللّه، و ذلک هو مجاحدتهم. فأمّا مجاحده اللّه لهم فیعود إلى ما یتخیّل من إنکاره علیهم جحدهم، و تقریره علیهم صنعه بهم، و تذکیره نعمته فی حقّهم. و ما مصدریّه. و یحتمل أن تکون بمعنى الّذی و العائد من الصله محذوف: أى ما صنعه بهم.
و قوله: مکابره لقضائه.
أى مقابله لحکمه علیهم بوجوب شکره و لزوم طاعته بردّ ذلک الحکم و إنکاره و عدم الانقیاد له. و حقیقه المکابره یعود إلى المقابله بالقول فی الأمر و المنازعه فیه على وجه المغالبه و التکبّر من الطرفین. و هى هنا ترشیح لاستعاره المجاحده. و کذلک المغالبه لآلائه. و النصب فیهما على المفعول له. و المغالبه هنا لشبه الغایه من المجاحده و لیست غایه على الحقیقه. و بیان ذلک أنّه لمّا کان من لوازم المجاحده و کفران النعمه زوالها و انقطاعها کانوا بفعلهم لتلک المجاحده و ذلک الکفران کالمغالبین للنعم و القاصدین لزوالها و عدمها. إذ کان زوالها لازما لفعلهم.
و قوله: فإنّهم. إلى قوله: الجاهلیّه.
تنبیه على ما یلزم ساداتهم من الرذائل المنفّره، و استعار لفظ الأساس للکبر.
إذ کان مبدء للعصبیّه و أصلا لها، و لفظ القواعد لهم باعتبار قیام الکبر بهم و ثباته فیهم کما یقوم الأساس بقواعده و هى الصخور العظیمه و نحوها. و کذلک استعار لفظ الأرکان لأجزاء الفتنه و أبعاضها، و لفظ الدعائم لهم باعتبار قیام الفتن بهم و اعتمادها علیهم کما یعتمد أرکان البیت و جوانبه بدعائمه. و استعار لفظ السیوف لهم باعتبار صرامه عزومهم و مضیّهم عند الاعتزاء فیما یعتزى له کمضىّ السیوف و صرامتها فی مضاربها. قال بعض الشارحین: و یحتمل أن یرید و أصحاب سیوف اعتزاء الجاهلیّه، و ذلک عند قولهم: یالفلان. کما نقل فی سبب الخطبه. و الاعتزاء منهىّ عنه لکونه مبدء للفتن. و روى أنّ ابىّ بن کعب سمع رجلا یقول: یا لفلان فقال: عضضت بهن أبیک. فقیل له: یا أبا المنذر ما کنت فاحشا. قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم یقول: من تعزّى بعزاء الجاهلیّه فأعضّوه بهن أبیه و لا تکنّوا. و العزاء الاسم من الاعتزاء. ثمّ عاد إلى الأمر بتقوى اللّه. فقوله: و لا تکونوا لنعمه علیکم أضدادا. نهى لهم عن ارتکاب ما یزیل نعمه اللّه عنهم و تضادّها فلا یجامعها من کفرانها و مقابلتها بسائر المعاصى الّتی یستلزم تبدیل النعمه نقمه، و کذلک قوله: و لا لفضله عندکم حسّادا. استعار لفظ الحسّاد هنا باعتبار کفرهم المزیل للنعم. فحسّاد النعمه باعتبار حسدهم المزیل لها.
و قوله: و لا تطیعوا الأدعیاء.
قال بعض الشارحین: مراده بالأدعیاء الّذین ینسبون إلى الإسلام ظاهرا و هم منافقون. قلت: و یحتمل أن یرید بهم حقیقه الأدعیاء، و هم الّذین ینتسبون إلى غیر آبائهم ممّن لا دین له و قد ترأس فی قبیلته الّتی انتسب إلیها. ثمّ وصفهم فقال:الّذین شربتم بصفوکم کدرهم فاستعار لفظ الصفو و هو خالص الشراب إمّا لخلاص دینهم و إیمانهم أو لخالص دنیاهم و صافیها، و لفظ الکدر للنفاق و سایر الرذائل النفسانیّه الّتی تخالط إیمان المرء کالحسد و نحوه فتکدّره و تکدّر بسبب ذلک ما صفا من دنیاه لسبب ثوران الفتنه عنها، و رشّح بذکر الشرب. و المعنى أنّکم مزجتم بایمانکم نفاقهم فشربتموه به کما یمزج بالماء الشراب فیساغ به. و إنّما قال: شربتم بصفوکم کدرهم، و لم یقل: بکدرهم صفوکم لأنّ غرضه أن یقرن علیهم شرب الکدر بالقصد الأوّل و لا یتمّ ذلک الغرض إلّا بعبارته علیه السّلام. و الباء هنا للمصاحبه، و کذلک قوله: و خلطتم بصحّتکم مرضهم. و أراد بمرضهم نفاقهم و کبرهم و سائر الرذائل النفسانیّه فیهم، و بالصحّه سلامه نفوس المؤمنین بایمانهم عن شوب تلک الرذائل. و وبّخهم بتخلیطهم ایمانهم بها، و کذلک قوله: و أدخلتم فی حقّکم باطلهم. و أراد بالحقّ الایمان و الجدّ فی العمل الصالح أو ما یستحقّونه من الملک و الخلافه فی الأرض، و بباطل اولئک الکذب و النفاق و اللعب و سائر الرذائل أو ما لا یستحقّ لهم من أمر الدنیا، و ذلک الخلط و الإدخال بسبب تخاذلهم عن نصرته علیه السّلام و عدم اجتماعهم على ما ینبغی لهم من طاعته. ثمّ عاد إلى وصف اولئک الکبراء بأوصاف: الأوّل: استعار لهم لفظ الأساس باعتبار
کونهم أصلا للفسوق یقوم بهم کما یقوم البناء بأساسه. الثانی: لفظ الأحلاس باعتبار ملازمتهم للعقوق و قطع الرحم کما یلازم حلس البعیر ظهره، و روى: أسئاس- بسکون السین- بوزن أحلاس، و هو جمع أسّ کحمل و أحمال و هو الاسّ. الثالث: کون إبلیس اتّخذهم مطایا ضلال. فاستعار لهم لفظ المطایا باعتبار کونهم أسبابا موصله إلى الضلال لمن اتّبعهم و اعتمد أقوالهم نیابه عن إبلیس، و کانوا فی ذلک المطایا الّتی یرکبها الناس و یقودها فی طرق الضلال. الرابع: کونهم جندا بهم یصول على الناس، و ذلک باعتبار کونهم جاذبین للخلق إلى طریقته داعین لهم إلى الهلاک الأبد من جهته.
الخامس: کونهم تراجمه ینطق على ألسنتهم. و لفظ التراجمه مستعار لهم باعتبار نطقهم بما یریده إبلیس من الوساوس للناس فأشبهوا التراجمه له. ثمّ أشار إلى کیفیّات اتّخاذهم مطایا و جندا و تراجمه فمنها الاستراق لعقول الناس بالأقوال الکاذبه و الأفعال الباطله و العادات المضلّه جذبا إلى محبّه الدنیا و باطلها و التفاتا لهم إلیها عمّا لأجله خلقوا و إلیه دعوا، و منها الدخول فی عیونهم بزینه الحیاه الدنیا أیضا و سائر ما یجذب إلیها من جهه حسّ البصر، و منها النفث فی أسماعهم و إلقاء الوساوس بالأقوال الواصفه للدنیا و باطلها و المنفّره عن الآخره و سائر ما یجذب عن الافق الأعلى من الجواذب السمعیّه. و انتصب استراقا و دخولا و نفثا على المصدر کلّ عن فعله: أى یسترق عقولکم استراقا. و کذلک الآخران.
و قوله: فجعلکم مرمى نبله
أى غرضا، و استعار لفظ النبل لجزئیّات وساوسه المردیه لکلّ من أصابته إلى مهاوى الهلاک کما یردى النبل من رمى به، و لفظ المرمى باعتبار کونهم مقصد الوساوسه کالهدف، و کذلک استعار لهم لفظ الموطىء باعتبار کونهم مظنّه إذلاله و إهانته. و رشّح بذکر القدم إذ الموطىء یستدعى موطوءا به و هو القدم، و کذلک استعار لفظ المأخذ باعتبار کونهم مقتنصین فی حبایل وساوسه، و رشّح بذکر الید. إذ من شأن المأخوذ أن یکون أخذه بالید.
الفصل الثالث:
فی أمرهم بالاعتبار بحال الماضین، و ما أصاب الامم المستکبرین منهم من بأس اللّه و صولاته و عقوباته و مصارعهم و بحال الأنبیاء على جلاله قدرهم فی التواضع لمن ارسلوا إلیه من المتکبّرین، و حال اختبار اللّه تعالى خلقه بأحجار نصبها بیتا لعبادته اختبارا للمتواضعین له و تمییزا لهم من المستکبرین عن عبادته.
إلى غیر ذلک، و ذلک قوله: فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَکْبِرِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ- مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ- وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِی خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ- وَ اسْتَعِیذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْکِبْرِ- کَمَا تَسْتَعِیذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِی الْکِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ- لَرَخَّصَ فِیهِ لِخَاصَّهِ أَنْبِیَائِهِ- وَ مَلائِکَتِهِ وَ لَکِنَّهُ سُبْحَانَهُ کَرَّهَ إِلَیْهِمُ التَّکَابُرَ- وَ رَضِیَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ- فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ- وَ عَفَّرُوا فِی التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ- وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِینَ- وَ کَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِینَ- قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَهِ وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَهِ- وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَحَّصَهُمْ بِالْمَکَارِهِ- فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَا وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ- جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَهِ- وَ الِاخْتِبَارِ فِی مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الِاقْتِدَارِ وَ قَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- أَ یَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِینَ- نُسارِعُ لَهُمْ فِی الْخَیْراتِ بَلْ لا یَشْعُرُونَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ یَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَکْبِرِینَ فِی أَنْفُسِهِمْ- بِأَوْلِیَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِینَ فِی أَعْیُنِهِمْ وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ع- عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَیْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ- وَ بِأَیْدِیهِمَا الْعِصِیُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ- بَقَاءَ مُلْکِهِ وَ دَوَامَ عِزِّهِ- فَقَالَ أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَیْنِ یَشْرِطَانِ لِی دَوَامَ الْعِزِّ- وَ بَقَاءَ الْمُلْکِ- وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ- فَهَلَّا أُلْقِیَ عَلَیْهِمَا أَسَاوِرُ مِنْ ذَهَبٍ- إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ- وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ- وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِیَائِهِ- حَیْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ یَفْتَحَ لَهُمْ کُنُوزَ الذِّهْبَانِ- وَ مَعَادِنَ الْعِقْیَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ- وَ أَنْ یَحْشُرَ مَعَهُمْ طُیُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِ لَفَعَلَ- وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُ وَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِینَ أُجُورُ الْمُبْتَلَیْنَ- وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِینَ- وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِیَهَا- وَ لَکِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِی قُوَّهٍ فِی عَزَائِمِهِمْ- وَ ضَعَفَهً فِیمَا تَرَى الْأَعْیُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ- مَعَ قَنَاعَهٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُیُونَ غِنًى- وَ خَصَاصَهٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى وَ لَوْ کَانَتِ الْأَنْبِیَاءُ أَهْلَ قُوَّهٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّهٍ لَا تُضَامُ- وَ مُلْکٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَیْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ- لَکَانَ ذَلِکَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِی الِاعْتِبَارِ- وَ أَبْعَدَ لَهُمْ فِی الِاسْتِکْبَارِ- وَ لَآمَنُوا عَنْ رَهْبَهٍ قَاهِرَهٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَهٍ مَائِلَهٍ بِهِمْ- فَکَانَتِ النِّیَّاتُ مُشْتَرَکَهً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَهً- وَ لَکِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ یَکُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ- وَ التَّصْدِیقُ بِکُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ- وَ الِاسْتِکَانَهُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ- أُمُوراً لَهُ خَاصَّهً لَا یَشُوبُهَا مِنْ غَیْرِهَا شَائِبَهٌ وَ کُلَّمَا کَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ- کَانَتِ الْمَثُوبَهُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ- الْأَوَّلِینَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ص إِلَى الْآخِرِینَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ- بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَا تَسْمَعُ- وَ لَا تُبْصِرُ فَجَعَلَهَا بَیْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِی جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِیَاماً- ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً- وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْیَا مَدَراً- وَ أَضْیَقِ بُطُونِ الْأَوْدِیَهِ قُطْراً- بَیْنَ جِبَالٍ خَشِنَهٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَهٍ- وَ عُیُونٍ وَشِلَهٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَهٍ- لَا یَزْکُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ- ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ع وَ وَلَدَهُ أَنْ یَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ- فَصَارَ مَثَابَهً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَایَهً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ- تَهْوِی إِلَیْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَهِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِیقَهٍ- وَ مَهَاوِی فِجَاجٍ عَمِیقَهٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَهٍ- حَتَّى یَهُزُّوا مَنَاکِبَهُمْ ذُلُلًا- یُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ یَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ- شُعْثاً غُبْراً لَهُ قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِیلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ- وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ- ابْتِلَاءً عَظِیماً وَ امْتِحَاناً شَدِیداً- وَ اخْتِبَاراً مُبِیناً وَ تَمْحِیصاً بَلِیغاً- جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَهً إِلَى جَنَّتِهِ- وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ- أَنْ یَضَعَ بَیْتَهُ الْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ- بَیْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ- جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِیَ الثِّمَارِ- مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى- بَیْنَ بُرَّهٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَهٍ خَضْرَاءَ- وَ أَرْیَافٍ مُحْدِقَهٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَهٍ- وَ رِیَاضٍ نَاضِرَهٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَهٍ- لَکَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ- وَ لَوْ کَانَ الْأَسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَیْهَا- وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا- بَیْنَ زُمُرُّدَهٍ خَضْرَاءَ وَ یَاقُوتَهٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِیَاءٍ- لَخَفَّفَ ذَلِکَ مُصَارَعَهَ الشَّکِّ فِی الصُّدُورِ- وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَهَ إِبْلِیسَ عَنِ الْقُلُوبِ- وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّیْبِ مِنَ النَّاسِ- وَ لَکِنَّ اللَّهَ یَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ- وَ یَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ- وَ یَبْتَلِیهِمْ بِضُرُوبِ الْمَکَارِهِ- إِخْرَاجاً لِلتَّکَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ- وَ إِسْکَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِی نُفُوسِهِمْ- وَ لِیَجْعَلَ ذَلِکَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ- وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ فَاللَّهَ اللَّهَ فِی عَاجِلِ الْبَغْیِ- وَ آجِلِ وَخَامَهِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَهِ الْکِبْرِ- فَإِنَّهَا مَصْیَدَهُ إِبْلِیسَ الْعُظْمَى وَ مَکِیدَتُهُ الْکُبْرَى- الَّتِی تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَهَ السُّمُومِ الْقَاتِلَهِ- فَمَا تُکْدِی أَبَداً وَ لَا تُشْوِی أَحَداً- لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِی طِمْرِهِ- وَ عَنْ ذَلِکَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِینَ- بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّکَوَاتِ- وَ مُجَاهَدَهِ الصِّیَامِ فِی الْأَیَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ- تَسْکِیناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِیعاً لِأَبْصَارِهِمْ- وَ تَذْلِیلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِیضاً لِقُلُوبِهِمْ- وَ إِذْهَاباً لِلْخُیَلَاءِ عَنْهُمْ- وَ لِمَا فِی ذَلِکَ مِنْ تَعْفِیرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً- وَ الْتِصَاقِ کَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً- وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّیَامِ تَذَلُّلًا- مَعَ مَا فِی الزَّکَاهِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ- وَ غَیْرِ ذَلِکَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْکَنَهِ وَ الْفَقْرِ انْظُرُوا إِلَى مَا فِی هَذِهِ الْأَفْعَالِ- مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْکِبْرِ
اللغه
أقول:
المثلات: العقوبات.
و المثاوى: جمع مثوى و هو المقام.
و التکابر: التعاظم.
و التعفیر: إلصاق الخدود بالعفر و هو التراب.
و المخمصه. المجاعه: و المجهده: المشقّه.
و الإقتار: الفقر.
و الأساوره: جمع أسوره جمع سوار، و یجوز أن یکون جمع أساور، و قال أبو عمرو بن العلاء: هو جمع أسوار، و هو السوار.
و الذهبان: جمع ذهب کحزب لذکر الحبارى و حزبان.
و العقیان: خالص الذهب.
و اضمحلّ: فنى.
و الأنباء: الأخبار.
و الخصاصه: الجوع.
و الشوب: الخلط.
و الوعر بالتسکین: الصعب.
و النتائق: جمع نتیقه فعیله بمعنى مفعوله، و النتق: الجذب، و سمیت المدن و الأماکن المشهوره و المرتفعه نتائق لارتفاع بنائها و شهرتها و علوّها عن غیرها من الأرض کأنّها جذبت و رفعت.
و القطر: الجانب.
و الدمثه: اللیّنه.
و الوشله: قلیله الماء.
و المثابه: المرجع.
و المنتجع: اسم المفعول من الانتجاع و هو طلب الکلاء و الماء. و المفاوز: الفلوات الواسعه.
و القفار: جمع قفر و هى المفازه الّتی لا نبت فیها و لا ماء.
و سحیقه: بعیده.
و الفجاج: جمع فجّ و هی الطریق الواسع بین الجبلین.
و یهلّلون: یرفعون أصواتهم بالتلبیه، و الإهلال: رفع الصوت.
و الرمل بالتحریک: الهروله: و الأشعث: أغبر الراس متفرّق الحال.
و النبذ: الإلقاء.
و السرابیل: القمصان.
و التشویه: تقبیح الخلقه.
و التمحیض: الابتلاء و الاختبار، و أصله التخلیص و التمییز.
و المشاعر: مواضع المناسک.
و القرار: المستقرّ من الأرض.
و الجمّ: الکثیر.
و البنى: جمع بنیه- بالضمّ- .
و الأریاف: جمع ریف بالکسر، و هى الأرض ذات الزرع و الخصب.
و المحدقه: المحیطه.
و المغدقه: کثیره الماء و الخصب.
و المعتلج: اسم المفعول من الاعتلاج و هو التغالب و الاضطراب، یقال: اعتلجت الأمواج: أى تلاطمت و اضطربت.
و فتحا: فعل بمعنى مفعوله: أى مفتوحه موسّعه، و کذلک ذللا مسّهله.
و وخامه الظلم: و باره و سوء عاقبته.
و المصیده- بکسر المیم- : الشبکه و ما یصاد به.
و المساوره: المواثبه.
و أکدى الحافر: إذا بلغ فی حفره إلى موضع صلب لا یمکنه حفره.
و أکدت المطالب: إذا صعبت فی وجه طالبها فعجز عنها.
و أشوت الضربه تشوى: إذا لم تصب المقتل، یقال: أشواه یشویه: إذا رماه فلم یصب مقتله.
و الطمر: الثوب الخلق.
و عتائق: جمع عتیقه و هى کرایم الوجوه و حسانها.
و القمع: الردّ.
و النواجم: الطوالع جمع ناجمه.
و القدع: الکفّ.
المعنى
و اعلم أنّه علیه السّلام أمرهم بأوامر:
أحدها: الأمر بالاعتبار بما أصاب المتکبّرین من سابق الامم من عقوبات اللّه
و وجه الاعتبار أن یفکّر العاقل فی حال اولئک فیرى ما أصابهم إنّما هو بسبب استعدادهم بالاستکبار عن طاعه اللّه و الرفع على عباده کما أشار إلیه تعالى قالَ الْمَلَأُ الَّذِینَ اسْتَکْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ إلى قوله فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَهُ فَأَصْبَحُوا فِی دارِهِمْ جاثِمِینَ«» و نحوه فی القرآن کثیر فینتقل ذهنه منه إلى نفسه و یقیس حال استکباره على استکبارهم فیما یلزمه من أمثال العقوبات بهم.
الثانی: أن یتّعظوا بمثاوى خدودهم و مصارع جنوبهم
أى یلحظوا مقاماتهم من التراب و محالّ انصراعهم فی القبور لیحصل لهم بذلک الانزجار عن الکبر.
إذ کانت عاقبته و غایته ذلک الهوان و الذلّ فی تلک المثاوى و المصارع.
الثالث: أن یستعیذوا باللّه من لواقح الکبر.
و استعار اللواقح لما یستلزم الکبر من أسبابه، و أراد استعاذه کثیره خالصه کاستعاذتکم من طوارق الدهر و آفاته.
و قوله: فلو رخّص اللّه. إلى قوله: التواضع.
استدلال على تحریم الکبر مطلقا، و أنّه لا رخصه فیه لأحد من خلق اللّه بقیاس شرطىّ متّصل، و وجه الملازمه فیه أنّ الأنبیاء خواصّ اللّه و أحبّاؤه و أهل طاعته فلو کان له فیه رخصه لم یجعلها إلّا لهم، و تقدیر الاستثناء فیه لنقیض التالى: لکنّه لم یرخّص فیه لهم فینتج أنّه لم یرخّص فیه لأحد من عباده، لکنّه حذف هنا استثناء النقیض و استثنى بعض لوازمه و هو تکریهه التکابر إلیهم، و ذلک بوعیده للمستکبرین على الکبر. ثمّ برضى التواضع لهم، و ذلک بأمرهم فیه کما قال تعالى وَ اخْفِضْ جَناحَکَ لِلْمُؤْمِنِینَ«» و نحوه.
قوله: فألصقوا. إلى قوله: مستضعفین.
إشاره إلى امتثالهم لما أمرهم به من التواضع و موافقتهم له فیما رضیه لهم فإلصاق خدودهم بالأرض و تعفیر وجوههم إشاره إلى معاملتهم له فی عبادته مع أنفسهم و خفض أجنحتهم للمؤمنین، و کونهم أقواما مستضعفین إشاره إلى امتثالهم و معاملتهم له فی خلقه، و لفظ الأجنحه مستعار من الطائر لید الإنسان و جانبه باعتبار ما هو محلّ البطش و النفره. و خفض الجناح کنایه عن لین الجانب. و قال ابن عبّاس فی قوله تعالى وَ اخْفِضْ جَناحَکَ لِلْمُؤْمِنِینَ أى ارفق بهم و لا تغلظ علیهم قال: و العرب تقول لمن کان ساکنا و قورا: إنّه خافض الجناح.
و قوله: قد اختبرهم. إلى قوله: بالمکاره.
إشاره إلى أنّه أعدّهم بأنواع الشقاوه الدنیویّه من الجوع و المشاقّ و المخاوف و المکاره، و التنفیر بها عن الدنیا للإقبال علیه تعالى و محبّه ما عنده من الثواب الجزیل و قد علمت معنى ابتلائه تعالى لعباده و اختباره لهم غیر مرّه.
و قوله: فلا تعتبروا الرضا و السخط بالمال و الولد إلى قوله: الاقتدار [الإقتار خ].
أى لا تعتبروا رضاه تعالى عن عباده بإعطائه لهم المال و الولد و سخطه علیهم بمنعه لهم ذلک. و کأنّه جواب اعتراض مقدّر کأنّ قائلا قال: فإذا کانوا هؤلاء خواصّه و أهل طاعته و رضاه فلم امتحنهم بالشدائد و ابتلاهم بالمخاوف و المکاره و لم یعطهم الأموال و الأولاد کما قال فرعون لموسى علیه السّلام: فلو لا القى علیه أساوره من ذهب، و کما قالت کفّار قریش: أو یلقى إلیه کنز أو تکون له جنّه تأکل منها فأجاب علیه السّلام بأنّ ذلک الوهم للجهل بمواقع الفتنه و الاختبار فی مواضع الغنى و الإقتار: أى أنّ الاختبار کما یکون بالفقر و المشاقّ و المکاره کذلک یکون بالمال و الولد، و لیس المال و الولد من الخیرات الّتی تعجّل فی الدنیا لمن یعطى إیّاهما کما یزعمون، و استشهد على ذلک بقوله تعالى أَ یَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِینَ نُسارِعُ لَهُمْ فِی الْخَیْراتِ بَلْ لا یَشْعُرُونَ«» أى یحسبون أنّا نعجّل فی تقدیم ثواب أعمالهم لرضانا عنهم حتّى بسطناهم الرزق و أکثرنا لهم أولادهم بل لا یعلمون أنّ ذلک استدراج لهم من اللّه و محنه و بلاء. و جهلا نصب على المفعول له.
و قوله: فإنّ اللّه سبحانه یختبر عباده المستکبرین. إلى قوله: فی أعینهم.
کلام منقطع یستدعى ابتداء یکون معلّلا به. و قد فصّل الرضىّ- رحمه اللّه- بینه و بین ما قبله بصفر لکنّه بیان لنوع آخر من ابتلاء اللّه تعالى عباده المستکبرین فی أنفسهم و اختبارهم بأولیائه المستضعفین و هم الأنبیاء فی أعینهم: أى فی أعین المتکبّرین و هو فی معنى ما قبله، و فیه تنبیه على بعض أسراره تعالى فی خلقه لسائر أنبیائه و أولیائه المستضعفین، و هو أن یبتلى بهم المستکبرین عن عبادته فی أرضه کما سیشیر إلیه علیه السّلام فی الحکمه فی خلقهم کذلک. ثمّ ضرب مثل ذلک الابتلاء فی موسى و هرون علیهما السّلام حین دخلا على فرعون یدعوانه إلى اللّه تعالى، و ذلک قوله: و لقد دخل. إلى قوله: و لبسه روى الطبرىّ فی تاریخه: أنّ موسى و هرون قدما مصر حین بعثهما اللّه إلى فرعون فمکثا سنتین یغدوان على بابه و یروحان یلتمسان الإذن علیه فلا یعلم بهما و لا یجترى أحد أن یخبره بشأنهما و کانا یقولان فی الباب: إنّا رسولا ربّ العالمین إلى فرعون حتّى دخل علیه بطّال له یلاعبه و یضحکه فقال: أیّها الملک إنّ ببابک رجلا یقول قولا عجیبا، و یزعم أنّ له إلها غیرک. فقال: أدخلوه. فدخل و بیده عصاه و معه أخوه هرون فقال: أنا رسول ربّ العالمین. و ذکر تمام الخبر و صریح قصّتهما و محاورتهما مستوفى فی القرآن الکریم کسوره الشعراء و القصص و غیرهما، و الّذى ذکره علیه السّلام منها واضح بیّن، و قال کعب: کان موسى علیه السّلام من رجال شنوءه، و کان آدم طوالا، و کان أخوه هارون أطول منه و أکثر لحما و أشدّ بیاضا و أغلظ ألواحا و أسنّ من موسى بثلاث سنین، و کانت فی جبهه هرون شامه و فی طرف أرنبه موسى شامه و على طرف لسانه شامه، و لم یعرف أحد قبله و لا بعده کذلک. قال: و هى العقده الّتی ذکرها اللّه تعالى. قال: و فرعون موسى هو فرعون یوسف علیه السّلام عمّر أکثر من أربع مائه سنه. و اسمه الولید بن مصعب، و أنکر غیره ذلک. و قالوا: هو غیره. و قبض هارون قبل موسى و هو ابن مائه و سبع عشره سنه، و بقى موسى بعده ثلاث سنین، و مات موسى فی سنّه یوم مات. فأمّا شرطهما له بقاء ملکه بإسلامه فلما علمته من کون النوامیس الشرعیّه و التمسّک بها و العمل بقوانینها ناظما لحال أبناء النوع الإنسانىّ و سببا لصلاح معاشهم و معادهم. و بانتظام شمل مصلحتهم باستعمال تلک القوانین تکون بقاؤهم و ثبات دولهم و ملکهم و دوام عزّهم. فأمّا استبکاره لشرطهما له دوام العزّ و الملک بإسلامه و تعجّبه منهما فی ذلک فمستنده اعتقاده الجهل أنّ مبدء التمکّن من ذلک الشرط و القدره على الوفاء به هو الغنى و جمع المال فلذلک احتقرهما من حیث کانا بزىّ الفقر و الذلّ و لبس الصوف و لیس علیهما آثار الغنى و المال و هو التحلّى بأساوره الذهب. فکان إعظام الذهب و لبسه الّذی هو شعار الغنىّ و احتقار الصوف و لبسه ممّا هو شعار الفقر سببا حاملا له على ذلک الاستکبار و التعجّب.
و قوله: و لو أراد اللّه سبحانه لأنبیائه. إلى قوله: معانیها.
قیاس إقترانىّ من الشکل الأوّل من متّصلتین: إحداهما: قوله: و لو أراد اللّه. إلى قوله: لفعل، و الثانیه: قوله: و لو فعل لسقط البلاء. إلى آخره، و النتیجه أنّه لو أراد اللّه بأنبیائه ذلک لزمت المحالات المذکوره. بیان الملازمه فی الصغرى أنّ الامور المعدوده و هى فتح کنوز الذهب و معادنه و مغارس الجنان و حشر الطیر و الوحش امور ممکنه فی أنفسها و اللّه سبحانه قادر على جمیع الممکنات و عالم بها فلو حصل مع قدرته علیها إراده وقوعها عن قدرته کان مجموعها مستلزما لوقوعها عنها، و أمّا الکبرى فإنّه جعل مقدّمتها و هو فعله لتلک الامور ملزوما لامور خمسه: أحدها: أنّه کان یسقط البلاء: أى ذلک البلاء المشار إلیه و هو بلاء المتکبّرین بالمستضعفین من أولیاء اللّه و هو ظاهر. إذ لا مستضعف یبتلون به إذن، و ذلک أنّ الأنبیاء علیه السّلام کانوا ینقطعون إلى الدنیا حینئذ عن جناب اللّه فینقطع عنهم الوحى کما سیشیر إلیه علیه السّلام و حینئذ ینقطع الابتلاء بهم و بما أتوا به من التکلیف، و کذلک یسقط بلاء الأنبیاء بالفقر و الصبر على أذى المسکنه من المکذّبین لهم بالضرب و القتل. الثانی: و کان یبطل الجزاء: أى جزاء العبادات و الطاعات إمّا لسقوط البلاء بها أو لأنّ الطاعات إذن تکون عن رهبه أو رغبه فیسقط الجزاء الاخروىّ علیها و کذلک یبطل جزاء الأنبیاء الّذی کانوا یسحقّونه بحسب فقرهم و صبرهم علیه. الثالث: و کان تضمحلّ الأنباء: أى الأخبار الوارده من قبل اللّه تعالى على ألسنه رسله و الوحى إلیهم، و ذلک أنّک علمت أنّ الدنیا و الآخره ضرّتان بقدر ما یقرب من إحداهما یبعد من الاخرى، و الأنبیاء علیهم السّلام و إن کانوا أکمل الخلق نفوسا و أقواهم استعدادا لقبول الکمالات النفسانیّه کما أشرنا إلیه إلّا أنّهم محتاجون أیضا إلى الریاضه التامّه بالإعراض عن الدنیا و طیّباتها و هو الزهد الحقیقىّ، و إلى تطویع نفوسهم الأمّاره بالسوء لنفوسهم المطمئنّه بالعباده التامّه کما هو المشهور من أحوالهم علیهم السّلام فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم کان یربط على بطنه الحجر من الجوع و یسمّیه المشبع لا لأنّه کان لا یقدر على شیء یأکله، و کان یرقع ثوبه لا لعدم قدرته على ثوب یلبسه، و کان یرکب الحمار العارى و یردف خلفه لا لعجزه عن فرس یرکبه و غلام یمشى معه، و کیف و قد توفّى و بیده هذه القطعه العظیمه من المعموره، بل ذلک و أمثاله ممّا سیحکیه عنه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم فی آخر هذه الخطبه زهاده فی الدنیا و إعراض عن متاعها و زینتها لأنّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم وجد من الکمالات العقلیّه و الموعوده ما هو أشرف و أعلى من هذه الکمالات الحسیّه الفانیه، و اعلم أنّ الوصول إلى تلک الکمالات لا یتمّ و لا یتحقّق إلّا بالإعراض عن هذه فرفض به ما هو أخسّ فی جنب ما هو أشرف و لذلک قام صلّى اللّه علیه و آله و سلّم فی العباده حتّى تورّمت قدماه.
فقیل له: یا رسول اللّه ألیس قد بشّرک اللّه بالجنّه فلم تفعل ذلک قال: أفلا أکون عبدا شکورا. و ذلک لعلمه أنّ الاستعداد بالشکر یفید کمالا أعلى و أزید ممّا اوتى.
و إذا کان حال أشرف الأنبیاء و أکملهم کذلک فما ظنّک بسایرهم و حینئذ تعلم أنّ ترکهم للدنیا و عدم اشتغالهم بها شرط فی بلوغهم درجات الوحى و الرساله و تلقّى أخبار السماء، و أنّهم لو خلقوا منغمسین فی الدنیا و فتحت علیهم أبوابها فاشتغلوا بقیناتها لا نقطعوا إلیها عن حضره جلال اللّه و اضمحلّ بسبب ذلک عنهم الأنباء و انقطع عنهم الوحى و انحطّوا عن مراتب الرساله، و قال بعض الشارحین: أراد باضمحلال الأنباء سقوط الوعد و الوعید و الإخبار عن أحوال الجنّه و النار و أحوال القیامه. و هو لازم من لوازم سقوط النبوّه فیکون راجعا إلى ما قلناه. الرابع: و لکان لا یجب للقابلین اجور المبتلین: أى لقابلى کلام الأنبیاء لأنّه إذا سقط البلاء عنهم لم یکن لهم أجر المبتلین، و کذلک لا یجب لقابلى النبوّه منهم اجور المبتلین بالتکذیب و الأذى. الخامس: و کان لا یستحقّ المؤمنون ثواب المحسنین إلى أنفسهم بمجاهده الشیطان عنها و تطهیرها عن الرذائل و تحلیتها بالفضائل، و ذلک لأنّ ایمانهم بهم یکون عن رغبه أو رهبه کما علمته لا عن حقیقه و إخلاص للّه. السادس: و لا لزمت الأسماء معانیها. روى بنصب الأسماء على أن تکون هى المفعول و معانیها الفاعل، و المعنى أنّه لم تکن المعانی لازمه الأسماء فیمن سمّى بها، مثلا من سمّى مؤمنا لا یکون معنى الإیمان الحقّ لازما لاسمه فیه. إذ کان إیمانه بلسانه فقط عن رغبه أو رهبه، و کذلک من سمّى مسلما أو زاهدا بل من سمّى نبیّا أو رسولا لا یکون فی الحقیقه کذلک لانقطاع النبوّه و الرساله عنه، و فی نسخه الرضىّ- رحمه اللّه- برفع الأسماء، و المراد أنّها کانت تنفکّ عنها فتصدق الأسماء بدون مسمّیاتها و هو کالأوّل. و ببیان هذه اللوازم ظهرت کبرى القیاس. و النتیجه إذن متّصله مقدّمها قوله: لو أراد اللّه. إلى قوله: الأرض، و تالیها قوله: لسقط البلاء. إلى قوله: معانیها، و حاصل النتیجه أنّه کان یلزم من إرادته تعالى بأنبیائه تلک الامور وقوع جمیع هذه المفاسد. ثمّ یرجع البیان إلى استثناء نقیض تالى هذه النتیجه لاستثناء نقیض مقدّمها و هو أنّ هذه المفاسد لم توجد و لیست ممّا ینبغی أن توجد فلذلک لم یرد بهم تلک الامور.
و قوله: و لکنّ اللّه سبحانه جعل رسله. إلى قوله: أذى.
کاللازم لنقیض مقدّم النتیجه المذکوره ذکره بعد بیانه. إذ کان اللّه تعالى لمّا لم یرد بعث أنبیائه على ذلک الوجه أراد بعثهم على هذا الوجه، و هو أن جعلهم أصحا ب قوّه فی عزائمهم و إجماع على إنفاذ ما امروا به و تبلیغ رسالات ربّهم، و لذلک سمّوا أولى العزم لمضاء عزائمهم و قوّتهم فی دین اللّه بالقتال و المجاهده و الصبر على الأذى، و جعلهم مع ذلک ضعفه فیما ترى الأعین من حالاتهم من المسکنه و الذلّ و الفقر و القناعه و الصبر على العرى و الجوع. و استعار وصف الملأ للقناعه باعتبار استلزامها لقوّه غنائهم و قلّه حاجتهم إلى شیء من متاع الدنیا بحیث لا تمیل نفوسهم و لا عیونهم إلى شیء من زینتها و قیناتها فکأنّها قد امتلأت فلا- تتّسع لشیء من ذلک فتطلبه، و کذلک للخصاصه باعتبار استلزامها لقوّه الأذى فی أسماعهم و أبصارهم. إذ الجوع المفرط مستلزم لأذى هاتین القوّتین لتحلّل الأرواح الحامله لهما و ضعفهما فکان الأذى حشو أبصارهم و أسماعهم بحیث لا یتّسع لغیره کلّ ذلک طلب لکمال الاستعداد لما علمت أنّ البطنه تذهب الفطنه و تورث القسوه و تزیل الرقّه و تستلزم رذائل کثیره لا دواء لها إلّا بالخصاصه و القناعه فضیله تحت العفّه.
و قوله: و لو کانت الأنبیاء. إلى قوله: مقتسمه.
متّصله اخرى هى کبرى قیاس من الشکل الأوّل أیضا من متّصلتین مقدّم الصغرى منهما هو من مقدّم کبرى القیاس الأوّل، و هو قوله: و لو فعل. و نبّه على تالیها بمقدّم هذه الکبرى، و تقدیر الکلام: و لأنّه تعالى لو فعل بأنبیائه ما ذکرناه لکانوا أهل قوّه لا ترام و عزّه لا تضام و ملک تمتدّ نحوه الأعناق، و لو کانوا کذلک لکان فی کونهم کذلک مفاسد اخرى فینتج أنّه لو فعل بأنبیائه ما ذکرناه للزمت مفاسد اخرى: أحدها: أنّه لکان ذلک أى ما حصلوا علیه من العزّ و الملک أهون على الخلق و أسهل من حیث إنّ اعتبارهم لما یدعوهم إلیه أسهل و إجابتهم إلى دعوتهم أسرع. إذ کانت الملوک فی اعتبار الخلق أهلا لأن یطاعوا فلا تصعب علیهم إجابتهم کما تصعب إجابه الفقراء على من یدعونه من المتکبّرین. الثانی: و أبعد لهم عن الاستکبار، و هو ظاهر لأنّ الملوک أبعد من أن یتکبّر علیهم الناس و یأنفوا من طاعتهم و حینئذ لم یکن للخلق ثواب من ترک رذیله الکبر عن مجاهده نفسه فی ترک الرذیله. الثالث: و لآمنوا عن رهبه قاهره لهم. أى على الایمان أو رغبه مایله بهم إلیه فلم یکن نیّاتهم و لا حسناتهم خالصه للّه بل هى مشترکه و مقتسمه بعضها له و بعضها للرغبه و بعضها للرهبه، و حینئذ لا یکون لهم ثواب من جاهد إبلیس فقهره و قمع نواجم وسوسته الجاذبه عن سبیل اللّه، و استعدّ بذلک للخیرات الباقیه.
و قوله: و ملک تمتدّ نحوه أعناق الرجال، و تشدّ إلیه عقد الرحال.
کنایتان عن قوّته و عظمته لأنّ الملک إذا کان عظیما قویت الآمال فیه و توجّهت نحوه و امتدّت أعناق الرجال إلیه بالرجاء و شدّت عقد الرحال إلیه.
و قوله: و لکنّ اللّه سبحانه. إلى قوله: شائبه.
کالمقدّمه لصغرى فی بیان أنّ القسم الأخیر من التالى لیس ممّا ینبغی أن یکون و یراد للّه تعالى. کأنّه قال لو جعل اللّه تعالى الأنبیاء أهل الملک و العزّ لکان ایمان الخلق بهم إمّا لرغبه أو رهبه فکانت النیّات و الایمان و العباده منهم مشترکه غیر خالصه للّه و ذلک مفسده لیس ممّا ینبغی أن تکون و لا أن تراد للّه تعالى لأنّه تعالى إنّما أراد أن یکون ایمانهم بالرسل و اتّباعهم و تصدیقهم لما جاءوا به من کتبه و امروا به من الخشوع لوجهه و الاستکانه لأمره و الاستسلام لطاعته امورا له خاصّه لا یشوبها من غیرها شائبه رغبه و رهبه. و تقدیر الکبرى: و کلّ ما أراد اللّه إخلاصه له فلیس ممّا ینبغی أن یکون مشترکا بینه و بین غیره و لا مشوبا بشائبه غیره فینتج أنّ ایمانهم بأقسامه لیس ممّا ینبغی أن یکون مشترکا لشائبه رغبه أو رهبه.
و قوله: و کلّما کانت البلوى. إلى قوله: أجزل.
یحتمل أن یکون کبرى قیاس بیّن به أنّ الأجزاء الثلاثه للتالى و هو قوله: لکان ذلک أهون. إلى آخره لیس ممّا ینبغی أن یکون، و تقدیر البیان أنّ ذلک مستلزم کون الاعتبار معه أهون على الخلق و أن یکونوا معه أبعد عن الاستکبار و أن یؤمنوا عن رغبه أو رهبه و هذه الامور لیس ممّا ینبغی أن تکون. و إنّما قلنا ذلک لأن نقایضها و هی مشقّه الاعتبار على الخلق و قربهم من الاستکبار و خلوص إیمانهم للّه ممّا ینبغی أن یکون، و بیان ذلک أنّ مع هذه الامور یکون البلوى و الاختبار علیهم أعظم. و ذلک هو صغرى القیاس. ثمّ نقول: و کلّما کانت البلوى و الاختبار لهم أعظم کانت المثوبه و الجزاء على الایمان و الطاعه موافقه لتلک البلوى أجزل فینتج أنّ مع مشقّه الاعتبار و القرب من الاستکبار و إخلاص الایمان تکون المثوبه لهم و الجزاء على الإیمان و الطاعه أجزل، و یحتمل أن یکون من تمام البیان الأوّل کأنّه قال: و لکنّه تعالى أراد أن تکون هذه الامور خالصه له لا یشوبها شائبه، و ذلک الإخلاص و إن کانت فیه مشقّه و کانت البلوى فیه عظیمه إلّا أنّه کلّما کانت البلوى أعظم کان الثواب فیها أجزل. ثمّ أردف ذلک بالتنبیه على صدق هذه المقدّمه بالمثال و ذلک قوله: أ لا ترون. إلى قوله: و وصله إلى جنّته، و أراد بالأحجار الّتی بنى بها البیت الحرام.
قوله: جعله للناس قیاما.
أى مقیما لأحوالهم فی الآخره. یقال: فلان قیام أهله و قوام بیته. إذا کانت به استقامه أحوالهم، و کون مکّه أقلّ بقاع الأرض مدرا لأنّ الحجریّه أغلب علیها. و إنّما أتى بالرمال اللیّنه فی معرض الذمّ لأنّها أیضا ممّا لا یزکو بها الدوابّ لأنّ ذوات الحافر ترسغ فیها و تتعب فی المشى بها. قال الشارحون: و أراد بالخفّ و الحافر و الظلف دوابّها و هی الجمال و الخیل و الغنم و البقر مجازا إطلاقا لاسم الجزء على الکلّ أو على تقدیر إراده المضاف و إقامه المضاف إلیه مقامه، و أراد بکونها لا تزکو: أى لا تسمن و تزید للجدب و خشونه الأرض، و الضمیر فی بها راجع إلى ما دلّ علیه أو عر من الموصوف فإنّه أراد بواد أوعر بقاع الأرض حجرا کما قال: إنّی أسکنت من ذرّیّتى بواد غیر ذى زرع عند بیتک المحرّم.
و قوله: ثمّ أمر آدم و ولده أن یثنوا أعطافهم نحوه
قد دلّ کلامه علیه السّلام على أنّ البیت الحرام کان منذ آدم علیه السّلام و التواریخ شاهده بذلک. و قال الطبرى: روى عن ابن عبّاس أنّ اللّه تعالى أوحى إلى آدم لما اهبط إلى الأرض أنّ لى حرما حیال عرشى فانطلق فابن لى بیتا فیه ثمّ طف به کما رأیت ملائکتى تحفّ بعرشى فهنا لک استجیب دعاک و دعاء من تحفّ به من ذرّیّتک. فقال آدم: إنّی لست أقوى على بنیانه و لا اهتدى إلیه. فبعث اللّه تعالى ملکا فانطلق به نحو مکّه فکان آدم کلّما رأى روضه أو مکانا یعجبه سأل الملک أن ینزل به هنالک لتبنى فیه فیقول له الملک: لیس هاهنا. حتّى أقدمه مکّه فبنى البیت من خمسه جبال طور سیناء و طور زیتون و لبنان و الجودىّ، و بنى قواعده من حرّاء. فلمّا فرغ من بنیانه خرج به الملک إلى عرفات و أراه المناسک کلّها الّتى یفعلها الناس الیوم، ثمّ قدم به مکّه و طاف بالبیت اسبوعا، ثمّ رجع إلى أرض الهند. و قیل: إنّه حجّ على رجلیه إلى الکعبه أربعین حجّه. و روى عن وهب بن مبنّه أنّ آدم دعا ربّه فقال: یا ربّ أما لأرضک هذه عامر یسّبحک فیها و یقدّسک غیرى فقال له تعالى: إنّى سأجعل فیها من ولدک من یسبّح بحمدى و یقدّسنى، و سأجعل فیها بیوتا ترفع لذکرى یسبّحنى فیها خلقى و یذکر فیها اسمى، و سأجعل من تلک البیوت بیتا اختصّه بکرامتى و اوثره باسمى فاسمیّه بیتى و علیه وضعت جلالتى و عظّمته بعظمتى، و أنا مع ذلک فی کلّ شیء و مع کلّ شیء، أجعل ذلک البیت حرما آمنا یحرم بحرمته من حوله و ما حوله و من تحته و من فوقه فمن حرّمه بحرمتى استوجب کرامتى و من أخاف أهله فقد أباح حرمتى و استحقّ سخطى، و أجعله بیتا مبارکا یأتیه بنوک شعثا غبر اعلى کلّ ضامر من کلّ فجّ عمیق یزجّون بالتلبیه زجیجا و یعجّون بالتکبیر عجیجا، من اعتمده لا یرید غیره و وفد إلىّ و زارنى و استضاف بى أسعفته بحاجته، و حقّ على الکریم أن یکرم و فده و أضیافه. تعمره یا آدم ما دمت حیّا ثمّ تعمره الامم و القرون و الأنبیاء من ولدک امّه بعد امّه و قرنا بعد قرن. ثمّ أمر آدم إلى أن یأتی البیت الحرام فیطوف به کما کان یرى الملائکه تطوف حول العرش. و بقى أساسه بعد طوفان نوح فبوّأه اللّه لإبراهیم فبناه. و لنرجع إلى المتن فنقول: إنّه کنّى بثنى أعطافهم نحوه عن التفاتهم إلیه و قصدهم له.
و قوله: فصار مثابه لمنتجع أسفارهم.
أى مرجعا لما تنجع من أسفارهم: أى لطلب منه النجعه و الخصب کما قال تعالى وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَیْتَ مَثابَهً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً«» و کقوله تعالى لِیَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ یَذْکُرُوا اسْمَ اللَّهِ«» و ذلک أنّه مجمع الخلق و به یقام الموسم أیّام الحجّ فیکون فیه التجارات و الأرباح کما أشرنا إلیه فی الخطبه الاولى. و کذلک کونه غایه لملقى رحالهم: أى مقصدا.
و قوله: تهوى إلیه ثمار الأفئده.
أى تمیل و تسقط. و هوى الأفئده میولها و محبّتها إلّا أنّه لمّا کان الّذی یمیل إلى الشیء و یحبّه کأنّه یسقط إلیه و لا یملک نفسه استعیر لفظ الهوى للحرکه إلى المحبوب و السعی إلیه، و أمّا ثمار الأفئده فقال بعض الشارحین: ثمره الفؤاد سوید القلب. و لذلک یقال للولد: ثمره الفؤاد. و أقول: یحتمل أن یکون لفظ الثمار مستعارا للخلق باعتبار أنّ کلّا منهم محبوب لأهله و آبائه فهو کالثمره الحاصله لأفئدتهم من حیث هو محبوب لهم کأنّ أفئدتهم و محبّتهم له قد أثمرته من حیث إنّها أفادت تربیته و العنایه به حتّى استوى إنسانا کاملا، و یحتمل أن یرید بثمار الأفئده الأشیاء المجبیّه المعجبه من کلّ شیء کما قال تعالى یُجْبى إِلَیْهِ ثَمَراتُ کُلِّ شَیْءٍ«» و وجه إضافتها إلى الأفئده أنّها لمّا کانت محبوبه مطلوبه للأفئده الّتی حصلت عن محبّتها کما تحصل الثمره عن أصلها اضیفت إلیها، و الإضافه یکفى فیها أدنى سبب و نحوه قوله تعالى رَبَّنا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِنْدَ«» و لمّا استعار لفظ الهوى رشّح بذکر المهاوى إذ من شأن الهوى أن یکون له موضع. و عمیقه صفه لفجاج کما قال تعالى یَأْتِینَ مِنْ کُلِّ فَجٍّ عَمِیقٍ«» و وصف العمق له باعتبار طوله و الانحدار فیه من أعالى البلاد إلى مکّه، و وصف الجزائر بالانقطاع لأنّ البحر یقطعها عن سائر الأرض و البحار یحیط بها. و حتّى غایه من قوله: تهوى. بمعنى اللام، و کنّى بهزّ مناکبهم عن حرکاتهم فی الطواف بالبیت. إذ کان ذلک من شأن المتحرّک بسرعه. و ذللا: جمع ذلول. و النصب على الحال من الضمیر فی تهزّ. و قال بعضهم: یحتمل أن یکون من مناکبهم و کذلک موضع یهلّلون النصب على الحال و کذلک شعثا و غبرا من الضمیر فی یرملون. و کنّى بنبذهم للسرابیل وراء ظهورهم عن طرحها و عدم لبسها و تشویههم بإعفاء الشعور محاسن خلقهم لأنّ حلق شعر المحرم أو نتفه و التنظیف منه حرام تجب فیه الفدیه. و ظاهر أنّ إعفاء الشعور یستلزم تقبیح الخلقه و تشویهها و تغییر ما هو معتاد من تحسینها بحلقه و إزالته.
و قوله: ابتلاء. و امتحانا. و اختبارا. و تمحیصا.
منصوبات على المفعول له. و العامل فیه قوله: أمر اللّه آدم، و یحتمل أن یکون على المصدر کلّ من فعله. و عدّد هذه الألفاظ و إن کانت مترادفه على معنى واحد تأکیدا و تقریرا لکون اللّه تعالى شدّد علیهم فی البلوى بذلک لیکون استعدادهم بتلک القوى العظیمه للثواب أتمّ و أشدّ فیکون الجزاء لهم أفضل و أجزل فلذلک قال: جعله اللّه سببا لرحمته و وصله إلى جنّته: أى سببا معدّا لإفاضه رحمه تستلزم الوصول إلى جنّته. و قد تأکّد بهذا المثال صدق قوله: و کلّما کانت البلوى و الاختبار أعظم کان الثواب أجزل. لأنّ اللّه سبحانه لمّا اختبر عباده بأمر الحجّ و مناسکه الّتی یستلزم شقاء الأبدان و احتمال المشاقّ الکثیره المتعبه فی الأسفار من المسافات البعیده و ترک مفاخر الدنیا عنده و نزع التکبّر حتّى کأنّه لم یوضع إلّا لخلع التکبّر من الأعناق مع ما فی جزئیّات مناسکه و مباشرته من المشاقّ المتکلّفه مع کونه کما ذکر أحجارا لا تضرّ و لا تنفع و لا تسمع و لا تبصر لا جرم کان الاستعداد به لقبول آثار اللّه و إفاضه رحمته أتمّ من أکثر وجوه الاستعدادات لسائر العبادات فکان الثواب علیه و الرحمه النازله بسببه أتمّ و أجزل.
و قوله: و لو أراد اللّه. إلى قوله: ضعف البلاء.
صغرى قیاس ضمیر استثنائى حذف استثنائه. و هى نتیجه قیاس آخر من متّصلتین تقدیر صغراهما: أنّه لو أراد أن یضع بیته الحرام بین هذه المواضع الحسنه المبهجه لفعل، و تقدیر الکبرى: و لو فعل لکان یجب منه تصغیر قدر الجزاء على قدر ضعف البلاء، و تقدیر استثناء هذه المتّصله: لکنّه لا یجب منه ذلک و لا یجوز لأنّ مراد العنایه الإلهیّه مضاعفه الثواب و بلوغ کلّ نفس غایه کمالها و ذلک لا یتمّ إلّا بکمال الاستعداد بالشدائد و المیثاق فلذلک لم یرد أن یجعل بیته الحرام فی تلک المواضع لاستلزامها ضعف البلاء. و کنّى بدنوّ الثمار عن سهوله تناولها و حضورها، و بالتفاف البنى عن تقارب بعضه من بعض. و البرّه: واحده البرّ و قد یقام مقام اسم الجنس فیقال: هذه برّه حسنه، و لا یراد بها الحبّه الواحده و اعتبار السمره لها لأنّ وصفها بعد الخضره السمره.
و قوله: و لو کان الأساس. إلى قوله: من الناس.
فی تقدیر قیاس ضمیر آخر استثنائى کالّذی قبله، و تلخیصه أنّه تعالى لو جعل الأساس المحمول علیها بیته الحرام بین هذه الأحجار المنیره المضیئه لخفّف ذلک مسارعه الشکّ فی الصدور. و أراد شکّ الخلق فی صدق الأنبیاء و عدم صدقهم و شکّهم فی أنّ البیت بیتا للّه أو لیس. فإنّه على تقدیر کون الأنبیاء علیهم السّلام بالحال المشهوره من الفقر و الذلّ و کون البیت الحرام من هذه الأحجار المعتاده یقوى الشکّ فی کونهم رسلا من عند اللّه و فی کون البیت بیتا له، و على تقدیر کونهم فی الملک و العزّ و کون البیت من الأحجار النفیسه المذکوره ینتفی ذلک الشکّ.
إذ یکون ملکهم و نفاسه تلک الأحجار من الامور الجاذبه إلیهم و الداعیه إلى محبّتهم و المسارعه إلى تصدیقهم و الحکم بکون البیت بیت اللّه لمناسبته فی کماله ما ینسبه الأنبیاء إلى اللّه سبحانه من الوصف بأکمل طرفی النقیض و لکون الخلق أمیل إلى المحسوس، و استعار لفظ المسارعه هنا للمغالبه بین الشکّ و صدق الأنبیاء و الشکّ فی کذبهم فإنّ کلّا منهما یترجّح على الآخر و کذلک کان وضع مجاهده إبلیس عن القلوب لأنّ الایمان بکونه بیتا للّه ینبغی حجّه و القصد إلیه لا یکون عن مجاهده إبلیس فی تصدیق الأنبیاء فی ذلک و فی وجوب عباده اللّه بل لعزّه البیت و حسن بنیانه و میل النفوس إلى شریف جواهره لکن هذه الامور و هى مسارعه الشکّ و مجاهده إبلیس و معتلج الریب لا تخفّف و لا تنتفى لکونها مراده من الحکمه الإلهیّه لإعداد النفوس بها لتدرک الکمالات الباقیه و السعادات الدائمه فلذلک لم- یجعل تعالى بنیان بیته من تلک الأحجار النفیسه.
و قوله: و لکنّ اللّه یختبر عباده. إلى قوله: المکاره.
استثناء لعلّه النقائض المذکوره فیقوم مقام استثناء مسارعه الشکّ و مجاهده إیلیس من جمله أنواع الشدائد و ألوان المجاهد و المشاقّ و اختباره لعباده بها علّه لوجودها.
و قوله: إخراجا للتکبّر. إلى قوله: لعفوه.
إشاره إلى کونها أسبابا غائیّه من العنایه الإلهیّه لإعداد النفوس لإخراج الکبر منها و إفاضه ضدّه و هو التذلّل و التواضع علیها و إلى کونها أسبابا معدّه لفضله و عفوه، و استعار لفظ الأبواب لها باعتبار الدخول منها إلى رضوان اللّه و ثوابه. و لفظ الذلل لکون الدخول منها إلى ذلک سهلا للمستعدّین لها. ثمّ عاد إلى التحذیر من اللّه تعالى فی البغى و الظلم و عاقبته. و حاصل الکلام أنّه جعل عاجل البغى و آجل الهلاک عنه و سوء عاقبه الکبر محلّا للحذر من اللّه تعالى و ذلک باعتبار وعیده تعالى عند التلبّس بالبغى و النظر فی تلک الحال إلى ما یستلزم من الهلاک فی الآخره و ما یستلزمه التکبّر من سوء العاقبه. و الضمیر فی قوله: فإنّها قال السیّد فضل اللّه الراوندى- رحمه اللّه- : یعود إلى الجمله من البغى و الظلم و الکبر و إن لم یجر لها ذکر. و قال غیره: الضمیر للکبر و إنّما أنّثه باعتبار جعله مصیده باعتبار أنّه یصیر الداخل فیه من حزب إبلیس و فی قبضته کالشبکه و حبائل الصاید.
و وصفها بالعظم باعتبار قوّته و کثره ما یستلزمه من الرذائل، و کذلک استعار له لفظ المکیده الکبرى باعتبار ما هو سبب قوىّ فی جذب الخلق إلى الباطل و ضلالهم عن طریق اللّه کالحیله و الخدعه، و استعار وصف المساوره له باعتبار مواثبته النفوس و مغالبته لها بالکبر و ذلک أنّه تاره یلقى إلیها تحسین الکبر و تزیینه فتنفعل عنه و تقبل الکبر و تلک هى الوثبه من جانبه. و تاره تقوى النفس علیه فتردّ وسوسته بقهره و تلک الوثبه من قبلها. ثمّ شبّه مساورته للقلوب بالکبر بمساوره السموم القاتله للطبیعه البدنیّه، و کنّى عن وجه الشبه بقوله: فما تکدى أبدا و لا تشوى أحدا: أى إنّ مساورته بالکبر لا تکاد یقابلها ما یقاومها من العقول و یمنع تأثیرها فی النفوس کما لا یکاد یقاوم مواثبه السموم القاتله من طبایع الحیوان و لا تکاد تخطىء المقاتل کما لا یخطىء السموم و حرکاتها فی الأبدان مقاتلها. و یحتمل أن یکون وجه الشبه کون مساورته غالبه قویّه کمشاوره السموم للأبدان، و یکون قوله: لا تکدى أبدا و لا تشوى أحدا استعارتین لوصفى السمّ الّذی لا یکاد یقف دون المقاتل و لا یخطئها لتلک المساوره باعتبار أنّها لا یخطىء رمیتها القلوب بسهام الکبر و البغى و سایر ما یلقى من الوساوس المهلکه.
و قوله: لا عالما لعلمه و لا مقلّا فی طمره.
أى أنّ هذه الرذیله تؤثّر فی نفس العالم فی علمه و الفقیر فی فقره فلا یردّها العالم بعلمه أنّها رذیله و لا المقلّ المفتقر فی طمره لمنافاه حاله فی قلّته و فقره الکبر.
و قوله: و عن ذلک ما حرس اللّه. إلى قوله: تذلّلا.
تنبیه على الامور الّتی حرس اللّه تعالى بها عباده من هذه الرذیله و جعلها أسبابا للتحرّز من نزغات الشیطان بها، و أشار إلى ثلاثه منها و هى الصلوات و الزکوات و مجاهده الصیام فی الأیّام المفروض صومها. أمّا الصلوات فلکونها بأجزائها و أوضاعها منافیه للکبر. إذ کان مدارها على تضرّع و خضوع و خشوع و رکوع.
و کلّ واحد من هذه الأجزاء بکیفیّاته و هیئاته موضوع على المذلّه و التواضع و الاستسلام لعزّه اللّه و عظمته و تصوّر کماله و تذکّر وعده و وعیده و أهوال الموقف بین یدیه و کلّ ذلک ینافی التکبّر و التعظّم، و إلى ذلک أشار بقوله: تسکینا لأطرافهم و تخشّعا لأبصارهم. إلى قوله: تصاغرا، و نصب تسکینا و تخشیعا و تذلیلا و تخفیضا و إذهابا على المفعول له، و العامل ما دلّ علیه قوله: حرس. من معنى الأمر: أى حرسهم بهذه و أمرهم بکذا و کذا. و انتصب تواضعا و تصاغرا، و العاملان المصدران: تعفیر، و التصاق.
فأمّا الزکاه فوجه منفعتها فی دفع هذه الرذیله أمران: أحدهما: أنّها شکر للنعمه المالیّه کما أنّ العبادات البدنیّه شکر للنعمه البدنیّه، و ظاهر أنّ شکر النعمه مناف للتکبّر عن المنعم و الاستنکاف عن عبادته. الثانی: أنّ من أوجبت علیه الزکاه یتصوّر قدره موجبها و سلطانه و قهره على إخراجها فینفعل عن حکمه و ینقهر تحت أوامره مع تصوّره لغنائه المطلق و ذلک مناف لتکبّره و استنکافه عن عبادته. و أمّا مجاهده الصیام فلما فیها من المشقّه الشاقّه و مکابده الجوع و العطش فی الأیّام الصیفیّه کما کنّى عنه علیه السّلام بقوله: و إلصاق البطون بالمتون من الصیام. و الإنسان فی کلّ تلک الأحوال متصوّر لجلال اللّه و عظمته و أنّه إنّما یفعل ذلک امتثالا لواجب أمره و خضوعا تحت عزّ سلطانه، و ذلک مناف للکبر و الترفّع، و قد علمت ما فی الصوم من کسر النفس الأمّاره بالسوء کما قال صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: إنّ الشیطان لیجرى من ابن آدم مجرى الدم فضیّقوا مجاریه بالجوع، و ذلک أنّ وسیله الشیطان هى الشهوات و مبدء الشهوات و قوّتها مداومه الأکل و الشرب. و بتضییق مجاریه ینقهر و ینکسر نواجم وسوسته بالرذائل عن العبد، و یسکن حرکات الأطراف الّتى مبدءها تلک الوساوس، و تخشع الأبصار، و تذلّ النفوس، و تنخفض القلوب.
و قوله: مع ما فی الزکاه. إلى قوله: الفقیر.
إشاره إلى سرّ آخر من أسرار الزکاه و هو ظاهر. و قد ذکرنا أسرارها مستقصاه فی الفصل الّذی أوّله: إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون.
قوله: انظروا. إلى آخره.
أمر باعتبار ما فی هذه الأفعال: أى الّتی تقع فی الصلاه و الزکاه و الصیام من تعفیر عتائق الوجوه و إلصاق کرائم الجوارح و هى الأیدى و الأرجل و لحوق البطون بالمتون إلى غیر ذلک من الأفعال المستلزمه للتواضع و التذلّل تأکیدا لما قرّره أوّلا من کون هذه العبادات حارسه لعباد اللّه عن رذیله الکبر. و باللّه التوفیق.
الفصل الرابع:
فی توبیخهم على المعصیه
من غیر سبب یعرف أو حجّه یقبلها عقل، و أمرهم بالتعصّب لمحامد الأخلاق و مکارمها، و تحذیرهم من العقوبات النازله بمن قبلهم من الامم و النظر فی عاقبه أمرهم، و غیر ذلک من الامور الواعظه.
و ذلک قوله: وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِینَ- یَتَعَصَّبُ لِشَیْءٍ مِنَ الْأَشْیَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّهٍ- تَحْتَمِلُ تَمْوِیهَ الْجُهَلَاءِ- أَوْ حُجَّهٍ تَلِیطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَیْرَکُمْ- فَإِنَّکُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا یُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّهٌ- أَمَّا إِبْلِیسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ- وَ طَعَنَ عَلَیْهِ فِی خِلْقَتِهِ- فَقَالَ أَنَا نَارِیٌّ وَ أَنْتَ طِینِیٌّ- وَ أَمَّا الْأَغْنِیَاءُ مِنْ مُتْرَفَهِ الْأُمَمِ- فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ- فَ قالُوا نَحْنُ أَکْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً- وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِینَ- فَإِنْ کَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِیَّهِ- فَلْیَکُنْ تَعَصُّبُکُمْ لِمَکَارِمِ الْخِصَالِ- وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ- الَّتِی تَفَاضَلَتْ فِیهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ- مِنْ بُیُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ یَعَاسِیبِ القَبَائِلِ- بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِیبَهِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِیمَهِ- وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِیلَهِ وَ الْآثَارِ الْمَحْمُودَهِ- فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ- وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَهِ لِلْبِرِّ- وَ الْمَعْصِیَهِ لِلْکِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ- وَ الْکَفِّ عَنِ الْبَغْیِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ- وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْکَظْمِ لِلْغَیْظِ- وَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِی الْأَرْضِ وَ احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَکُمْ- مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَ ذَمِیمِ الْأَعْمَالِ- فَتَذَکَّرُوا فِی الْخَیْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ- وَ احْذَرُوا أَنْ تَکُونُوا أَمْثَالَهُمْ- فَإِذَا تَفَکَّرْتُمْ فِی تَفَاوُتِ حَالَیْهِمْ- فَالْزَمُوا کُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّهُ بِهِ شَأْنَهُمْ- وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ- وَ مُدَّتِ الْعَافِیَهُ بِهِ عَلَیْهِمْ- وَ انْقَادَتِ النِّعْمَهُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْکَرَامَهُ عَلَیْهِ حَبْلَهُمْ- مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَهِ وَ اللُّزُومِ لِلْأُلْفَهِ- وَ التَّحَاضِّ عَلَیْهَا وَ التَّوَاصِی بِهَا- وَ اجْتَنِبُوا کُلَّ أَمْرٍ کَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ- مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ- وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَیْدِی وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِینَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ قَبْلَکُمْ- کَیْفَ کَانُوا فِی حَالِ التَّمْحِیصِ وَ الْبَلَاءِ- أَ لَمْ یَکُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً- وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَ أَضْیَقَ أَهْلِ الدُّنْیَا حَالًا- اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَهُ عَبِیداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ- وَ جَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِی ذُلِّ الْهَلَکَهِ وَ قَهْرِ الْغَلَبَهِ- لَا یَجِدُونَ حِیلَهً فِی امْتِنَاعٍ وَ لَا سَبِیلًا إِلَى دِفَاعٍ- حَتَّى إِذَا رَأَى اللَّهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِی مَحَبَّتِهِ- وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَکْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ- جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَایِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً- فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَکَانَ الذُّلِّ وَ الْأَمْنَ مَکَانَ الْخَوْفِ- فَصَارُوا مُلُوکاً حُکَّاماً وَ أَئِمَّهً أَعْلَاماً- وَ قَدْ بَلَغَتِ الْکَرَامَهُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَیْهِ بِهِمْ فَانْظُرُوا کَیْفَ کَانُوا حَیْثُ کَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَهً- وَ الْأَهْوَاءُ مُتَّفَقَهً وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَهً- وَ الْأَیْدِی مُتَرَادِفَهً وَ السُّیُوفُ مُتَنَاصِرَهً- وَ الْبَصَائِرُ نَافِذَهً وَ الْعَزَائِمُ وَاحِدَهً- أَ لَمْ یَکُونُوا أَرْبَاباً فِی أَقْطَارِ الْأَرَضِینَ- وَ مُلُوکاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِینَ- فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَیْهِ فِی آخِرِ أُمُورِهِمْ- حِینَ وَقَعَتِ الْفُرْقَهُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَهُ- وَ اخْتَلَفَتِ الْکَلِمَهُ وَ الْأَفْئِدَهُ- وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِینَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِینَ- وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ کَرَامَتِهِ- وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَهَ نِعْمَتِهِ- وَ بَقِیَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِیکُمْ- عِبْرَهً لِلْمُعْتَبِرِینَ مِنْکُمْ فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِیلَ- وَ بَنِی إِسْحَاقَ وَ بَنِی إِسْرَائِیلَ ع- فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ- تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِی حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ- لَیَالِیَ کَانَتِ الْأَکَاسِرَهُ وَ الْقَیَاصِرَهُ أَرْبَاباً لَهُمْ- یَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِیفِ الْآفَاقِ وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ- وَ خُضْرَهِ الدُّنْیَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّیحِ- وَ مَهَافِی الرِّیحِ وَ نَکَدِ الْمَعَاشِ- فَتَرَکُوهُمْ عَالَهً مَسَاکِینَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ- أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً- لَا یَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَهٍ یَعْتَصِمُونَ بِهَا- وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَهٍ یَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا- فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَهٌ وَ الْأَیْدِی مُخْتَلِفَهٌ- وَ الْکَثْرَهُ مُتَفَرِّقَهٌ- فِی بَلَاءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ- مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَهٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَهٍ- وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَهٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَهٍ فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَیْهِمْ- حِینَ بَعَثَ إِلَیْهِمْ رَسُولًا- فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ- کَیْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَهُ عَلَیْهِمْ جَنَاحَ کَرَامَتِهَا- وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِیمِهَا- وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّهُ بِهِمْ فِی عَوَائِدِ بَرَکَتِهَا- فَأَصْبَحُوا فِی نِعْمَتِهَا غَرِقِینَ- وَ فِی خُضْرَهِ عَیْشِهَا فَکِهِینَ- قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِی ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ- وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى کَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ- وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَیْهِمْ فِی ذُرَى مُلْکٍ ثَابِتٍ- فَهُمْ حُکَّامٌ عَلَى الْعَالَمِینَ- وَ مُلُوکٌ فِی أَطْرَافِ الْأَرَضِینَ- یَمْلِکُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ کَانَ یَمْلِکُهَا عَلَیْهِمْ- وَ یُمْضُونَ الْأَحْکَامَ فِیمَنْ کَانَ یُمْضِیهَا فِیهِمْ- لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاهٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاهٌ أَلَا وَ إِنَّکُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَیْدِیَکُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَهِ- وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَیْکُمْ بِأَحْکَامِ الْجَاهِلِیَّهِ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَهِ هَذِهِ الْأُمَّهِ- فِیمَا عَقَدَ بَیْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَهِ- الَّتِی یَنْتَقِلُونَ فِی ظِلِّهَا وَ یَأْوُونَ إِلَى کَنَفِهَا- بِنِعْمَهٍ لَا یَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِینَ لَهَا قِیمَهً- لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ کُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ کُلِّ خَطَرٍ- وَ اعْلَمُوا أَنَّکُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَهِ أَعْرَاباً- وَ بَعْدَ الْمُوَالَاهِ أَحْزَاباً- مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ- وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِیمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ- تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ- کَأَنَّکُمْ تُرِیدُونَ أَنْ تُکْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ- انْتِهَاکاً لِحَرِیمِهِ وَ نَقْضاً لِمِیثَاقِهِ الَّذِی وَضَعَهُ اللَّهُ لَکُمْ- حَرَماً فِی أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَیْنَ خَلْقِهِ- وَ إِنَّکُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَیْرِهِ حَارَبَکُمْ أَهْلُ الْکُفْرِ- ثُمَّ لَا جَبْرَائِیلُ وَ لَا مِیکَائِیلُ- وَ لَا مُهَاجِرُونَ وَ لَا أَنْصَارٌ یَنْصُرُونَکُمْ- إِلَّا الْمُقَارَعَهَ بِالسَّیْفِ حَتَّى یَحْکُمَ اللَّهُ بَیْنَکُمْ- وَ إِنَّ عِنْدَکُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ- وَ أَیَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ- فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِیدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ- وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ یَأْساً مِنْ بَأْسِهِ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ یَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِیَ بَیْنَ أَیْدِیکُمْ- إِلَّا لِتَرْکِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْیَ عَنِ الْمُنْکَرِ- فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُکُوبِ الْمَعَاصِی وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْکِ التَّنَاهِی أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَیْدَ الْإِسْلَامِ- وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْکَامَهُ
اللغه
أقول:
التمویه: التلبیس.
و تلیط: تلتصق و تختلط.
و السفه: خفّه العقل.
و المجداء: جمع ماجد و هو کریم الآباء و شریفهم.
و النجداء: جمع نجید، و هو دو النجده و هى فضیله تحت الشجاعه.
و یعاسیب القبایل: ساداتها.
و زاحت: بعدت.
و التحاضّ: التحاثّ و الفقره: الواحده من خرزات الظهر.
و روى فقرهم: جمع فقره.
و المنّه: القوّه.
و التضاغن: التحاقد.
و التشاحن: التعادى.
و التدابر: التقاطع.
و التخاذل: عدم التناصر.
و العبء: الحمل.
و أجهد: أشقّ.
و سمته کذا: أولیته إیّاه.
و المرار بضمّ المیم: شجر مرّ إذا أکلت منه الإبل قلصت عنه مشافرها.
و الترادف: التعاضد و التعاون.
و غضاره النعمه: طیبها.
و الاحتیاز: الاقتطاع عن الشیء و الأخذ عنه.
و الریف: الأرض ذات الزرع و الخصب.
و مها فی الریح: جمع مهفاه و هى محلّ هفو الریح: أى حرکتها و هبوبها.
و نکد المعاش: قلّته و شدّته و العاله: جمع عائل و هو دو العیله و هى الفقر.
و الدبر: الجرح فی ظهر البعیر.
و الوتر: الحقد.
و فی بعض النسخ: دبر و وبر.
و الأزل: الضیق.
و الموءوده: البنت تدفن فی التراب حیّه.
و شنّ الغاره: فرّقها من کلّ جانب.
و الفکه: طیّب النفس المسرور، و الفکه: الأشر البطر.
و تربّعت: أقامت.
و أصله الإقامه فی الربیع، و یحتمل أن یرید تمکّنت کالمتربّع بجلسته المخصوصه بکونها ذات تمکّن.
و الذرى: جمع ذروه و هى أعلى الجبل.
و عطف علیه و تعطّف: إذا أشفق علیه و التفت إلیه بإحسانه.
و الخطر: المنزله و القدر.
و الأعراب: سکّان البادیه.
و إکفاء الإناء: قلبه لوجهه.
و انتهاک الحرمه: أخذها بما لا یحلّ.
و المقارعه: المضاربه.
المعنى
فقوله: و لقد نظرت. إلى قوله: بمعذّبین.
فقوله: و لقد نظرت. إلى قوله: بمعذّبین.
فی معرض التوبیخ لهم على تعصّبهم الباطل الّذی تثور به الفتن مع أنّه لیس لأمر یعرف من وجه المنفعه و المصلحه الحامله علیه. و لفظ إلّا یقتضى حصر وجدانه لمن یتعصّب لشیء فی وجدانه له متعصّبا عن علّه تحتمل تشبیه الأمر على أهل الجهل بحیث یظنّ سببا صحیحا للتعصّب أو عن حجّه ملتصق بعقول السفهاء فیقبلها، و هذا هو مقتضى العقل. إذ کان الترجیح من غیر مرجّح محال فی بدایه العقول. و تقدیر الکلام: فما وجدت أحدا یتعصّب إلّا وجدته یتعصّب عن علّه.
و قوله: غیرکم.
استثناء من معنى الإثبات فی الجمله المفیده للحصر کأنّه قال: وجدت کلّ أحد یتعصّب عن علّه إلّا أنتم.
و قوله: تتعصّبون لأمر ما یعرف له سبب و لا علّه.
أی سبب یحتمل التمویه على الجهلاء و علّه ملتصق بعقول السفهاء و لم یرد نفى مطلق السبب. إذ سبب تعصّبهم و ثوران الفتنه بینهم هو الاعتزاء الّذی کان بینهم و کان یقع من جهّالهم کما ذکرناه فی سبب الخطبه لکنّه ترک الوصف هنا لتقدّمه. ثمّ أخذ فی تفصیل وجوه العصبیّه و أسبابها فبدء بذکر مبدء العصبیّه لإبلیس. و سبب عصبیّته لأصله اعتقاده لطف جوهره و شرفه. إذا لنار أشرف من الطین مع جهله بسرّ البشریّه و وضع آدم على هذه الخلقه و خلقته الّتی وضع علیها خلقه فلذلک فضّل نفسه قیاسا للفرع على الأصل فی الشرف و الخسّه فقال: أنا نارىّ و أنت طینىّ. و لذلک قیل: إنّ أوّل من قاس إبلیس. ثمّ بعصبیّه الأغنیاء و الجهّال من مترفه الامم لکونهم تلامذه إبلیس فی العصبیّه، و أشار إلى علّه تعصّبهم و هى آثار مواقع النعم، و مواقعها هى الأموال و الأولاد و سائر ما ینتفع به کما قال تعالى حکایه عنهم نَحْنُ أَکْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً«» و آثار تلک المواقع هى الغنى و الترفّه بها و التنعّم و الالتذاذ، و کان تعصّبهم لذلک و فخرهم به. و یجب أن یعلم أنّ الأموال و الأولاد أنفسها لیست نعما مطلقا لأنّ النعمه من الامور الإضافیّه إنّما یقال بالنسبه إلى منعم و منعم علیه و لیس المال مطلقا کذلک و لا الولد باعتبار ذاته بل إنّما یطلق علیهما لفظ النعمه باعتبار انتفاع الإنسان بهما حتّى لو کانا سببا لهلاکه و أذاه لم یکونا بذلک الاعتبار إلّا نعمه علیه و فتنه له فلذلک جعلها مواقع النعم: أى محالّ قابله لکونها نعما، و یحتمل أن یرید بالنعم الأموال و الأولاد و بمواقعها وقوعها فإنّه کثیرا ما یرید بمفعل المصدر و آثارها هى الغنى و الترفّه کما قدّمناه.
ثمّ لمّا وبّخهم على التعصّبات الباطله نبّههم على مواقع العصبیّه و ما ینبغی أن یکون له و هى مکارم الأخلاق و محامد الأفعال و محاسن الامور الّتی تفاضلت فیها أهل المجد و الشرف و النجده من بیوتات العرب و سادات القبائل. و الباء فی قوله: بالأخلاق. متعلّقه بتفاضلت فإنّ المذکورین تفاضلوا فی محاسن الامور بالأخلاق الرغیبه: أى المرغوب فیها، و قد علمت فیما سبق اصول الأخلاق الفاضله و ما تحتها من أنواعها، و الحلم ملکه تحت الشجاعه و هى الإناءه و الرزانه عند الغضب و موجباته و المفاضله بالأخطار الجلیله مراعاتا للمراتب المحموده و منازل الشرف بالمحافظه على تلک الأخلاق المحموده و ملازمتها، و کذلک المفاضله بالآثار المحموده یعود إلى ملازمه الأفعال الجمیله الموافقه للأخلاق النفسانیّه کفعل البذل عن السخاء و کقتل القریب مثلا مراعاه للعدل و الوفاء. ثمّ أمرهم بعد التنبیه على تلک المکارم بالعصبیّه لها فقال: فتعصّبوا لخلال الحمد. و أشار إلى تفصیلها: فمنها: حفظ الجوار و هى فضیله تتشعّب عن فضیلتین لأنّ حفظه یکون بالکفّ عن أذاه و ذلک فضیله تحت العدل، و یکون بالإحسان إلیه و مصادقته و مسامحته و مواساته و تلک امور تحت العفّه. و منها: الوفاء بالذمام و هو تحت العفّه. و منها: الطاعه للبرّ و الأولى أن یرید بالبرّ هنا ما أراد به القرآن الکریم بقوله لَیْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَکُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لکِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. إلى قوله لَیْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا و لکِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى«». فإنّ المراد فی هاتین القرینتین بالبرّ کمال الایمان و التقوى و الأعمال الجمیله، و معنى طاعه البرّ التلبّس بهذه الأفعال و ملازمتها و اعتقاد وجوبها، و یحتمل أن یرید و الطاعه للأمر بالبرّ فحذف الأمر للعلم به. و قد یطلق البرّ و یراد به العفّه و بذلک الاعتبار یقابله الفجور، و یحتمل أن یرید هاهنا ما یقابل العقوق و هو الشفقّه على ذوى الرحم و الإحسان إلى الوالدین، و هو داخل تحت العفّه. و منها: المعصیه للکبر و المراد بمعصیه الکبر مجانبته مجازا إطلاقا لاسم السبب على المسبّب أو معصیه الأمر بالکبر و هو کنایه عن التواضع و هو فضیله تحت العفّه، و المعصیه هنا فی مقابله الطاعه. و منها: الأخذ بالفضل و أراد استکمال الفضیله و لزومها، و یحتمل أن یرید بالفضل التفضّل على الغیر و الإحسان إلیه و الأخذ به فیکون أمرا بالإحسان و الجود و هو فضیله تحت العفّه. و منها: الکفّ عن البغى و یعود إلى فضیله العدل. و منها: تعظیم القتل و هو کنایه عن ترکه لما یستلزمه من رذیله الظلم ثمّ للوعید علیه فی الآخره و یعود إلى فضیله العدل أیضا، و کذلک الانصاف للخلق هو لزوم العدل فی معاملاتهم. و منها: کظم الغیظ و هو فضیله تحت فضیله الشجاعه. و منها: اجتناب الفساد فی الأرض و هو من لوازم فضیله العدل. ثمّ لمّا أمر بلزوم مکارم الأخلاق و الأعمال الجمیله أردفه بالتنفیر عن الکون على ذلک من رذائلها و ذمائمها، و ذلک التنفیر بتذکیر السامعین حال الامم الماضین و ما أصابهم من عقوبات اللّه بسبب سوء أفعالهم و ذمیم أعمالهم، و تحذیرهم أن یرتکبوا تلک الرذائل فیصیبهم ما أصاب اولئک من بأس اللّه. و أمرهم أن یتذکّروا حالهم فی الخیر أوّلا حین کانوا فی طاعه أنبیائهم و الالفه الجامعه بینهم و حالهم فی الشرّ الّتی انقلبوا إلیها عن تلک الحال حین خالفوا صالح الأعمال و حالفوا ذمیم الأفعال، و حذّرهم أن یکونوا أمثالهم: أى فی ذلک الانقلاب و استبدال الشرّ بالخیر و أن یلزموا عند تفکّرهم فی تفاوه حالیهم کلّ أمر لزمت العزّه به حالهم و أزالت الأعداء عنهم و مدّت العافیه فیه بهم. و الباء للاستصحاب: أى مدّت مستصحبه لهم. و فی نسخه الرضى- رحمه اللّه- و مدّت بالفتح على البناء للفاعل کقولک مدّ الماء: أى جرى و سال. و کذلک انقادت النعم لذلک الأمر معهم: أى بسببه. إذ کان سببا معدّا لإفاضه النعم علیهم، و وصلت الکرامه علیه حبلهم. و استعار لفظ الوصل لاجتماعهم عن کرامه اللّه لهم حال کونهم على ذلک الأمر، و رشّح بذکر الحبل.
و قوله: من الاجتناب. إلى قوله: و التواصى بها.
و قوله: من الاجتناب. إلى قوله: و التواصى بها. و ظاهر أنّ لزوم الالفه سبب للامور الّتی عددّها.
و قوله: و اجتنبوا. إلى قوله: و تخاذل الأیدى.
و قوله: و اجتنبوا. إلى قوله: و تخاذل الأیدى. أى و اجتنبوا کلّ أمر استبدلوا به تلک الامور الّتی أوجبت لهم العزّه و الکرامه و کان سببا لکسر فقرتهم و وهن قوّتهم و هو التضاغن و التشاحن و التقاطع و التخاذل لأنّها امور تضادّ الالفه و تنافیها فکانت مضادّه لما یستلزمه الالفه، و أراد التخاذل المطلق. و إضافته إلى الأیدى کنایه لأنّ الأغلب أن یکون التناصر بالأیدی، و هؤلاء الّذین أمر باعتبار حالهم لا یرید بهم امّه معیّنه بل الحال عامّ فی کلّ امّه سبقت فإنّ کلّ امّه ترادفت أیدیهم و تعاونوا و تناصروا کان ذلک سببا لعزّه حالهم و دفع الأعداء عنهم، و کلّ قوم افترقوا و تقاطعوا استلزم ذلک ذلّهم و قهر الأعداء لهم.
و قوله: و تدبّروا أحوال الماضین من المؤمنین. إلى قوله: إلیه بهم.
أمر لهم باعتبار هذه الأحوال فیمن هو أخصّ و هم المؤمنون من الماضین فی أزمان الأنبیاء السابقین فإنّهم حیث کانوا مع کلّ نبىّ فی مبدء أمرهم فی حال التمحیص و الاستخلاص لقلوبهم بالبلاء أثقل أهل الأرض أعباء قد اتّخذتهم الفراعنه عبیدا یسومونهم سوء العذاب و هؤلاء کیوسف علیه السّلام مع فرعون زمانه، و کموسى و هرون و من آمن معهما من بنی إسرائیل فی مبدء أمرهم فإنّهم کانوا حال التمحیص و البلاء بالصفات الّتی ذکرها علیه السّلام قد اتّخذتهم الفراعنه عبیدا یسومونهم سوء العذاب و یجرّعونهم المرار فلم یزالوا کذلک مقهورین حتّى إذا رأى استعدادهم بالصبر على دینه لإفاضه رحمته علیهم أفاضها علیهم و جعل لهم من مضایق البلاء فرجا فأبدلهم بالعزّ مکان الذلّ و الأمن مکان الخوف کما امتنّ علیهم تعالى فی کتابه حیث قال وَ إِذْ نَجَّیْناکُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَسُومُونَکُمْ سُوءَ الْعَذابِ یُذَبِّحُونَ أَبْناءَکُمْ وَ یَسْتَحْیُونَ نِساءَکُمْ وَ فِی ذلِکُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّکُمْ عَظِیمٌ وَ إِذْ فَرَقْنا بِکُمُ الْبَحْرَ«» الآیه. و قبل ذلک ما کان المؤمنون مع نوح علیه السّلام و إبراهیم علیه السّلام و غیرهما. فأمّا کونهم ملوکا و حکّاما و أئمّه أعلاما و بلوغهم الکرامه من اللّه لهم ما لم یذهب آمالهم إلیه فإنّ موسى علیه السّلام و هرون علیه السّلام بعد هلاک فرعون ملکا مصر و استقرّ لهما الملک و الدین و کطالوت و داود بعد مجاهدتهما بجالوت و قتله، و ذلک أنّ طالوت لمّا جاوز النهر هو و من معه لقتال جالوت کان معه داود علیه السّلام فرماه من مقلاعه بحجر فقتله و انکسر أصحابه فکان الملک و الغلبه لطالوت و أصحابه و کان الملک بعده لداود علیه السّلام کما قال تعالى وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْکَ وَ الْحِکْمَهَ«» و کذلک لم یزل الملک و النبوّه فی سلیمان و ولده و أولادهم إلى الأعرج من ولده فطمعت الملوک فی بیت المقدس لضعفه و زمنه و أنّه لم یکن نبیّا فسار إلیه ملک الجزیره و کان یسکن بریّه سنجار و کان بخت نصر کاتبه فأرسل اللّه تعالى علیه ریحا فأهلکت جیشه و أفلت هو و کاتبه فقتله ابنه فغضب له بخت نصر فاغترّه حتّى قتله و ملک بعده و کان ذلک أوّل ملک بخت نصر.
و قوله: فانظروا کیف کانوا. إلى قوله: للمعتبرین منکم.
أمر لهم باعتبار حالهم فی الفتهم و اجتماعهم، و إشاره إلى أنّ المستلزم لتلک الخیرات کلّها إنّما کان هو الالفه و الاجتماع و باعتبار ما صاروا إلیه فی آخر امورهم حین وقعت الفرقه بینهم و تشتّت الفتهم و اختلفت کلمتهم و أفئدتهم فخلع اللّه عنهم لباس کرامته و سلبهم غضاره نعمته و بقى قصص أخبارهم عبره للمعتبرین، و هو إشاره إلى أنّ المستلزم لتلک الشرور هو ما حصلوا علیه من تفرّق الکلمه و ذلک صادق على کلّ قرن قرن و امّه امّه آمنوا و لحلقتهم المجاهد من الفراعنه و الجبابره ثمّ صبروا فانتصروا على أعدائهم. و أراد باعتدال القلوب استقامتها على الحقّ.
و قوله: و السیوف متناصره.
قال بعضهم: أراد أهل السیوف فحذف المضاف، و یحتمل أن یکون قد استعار وصف التناصر لها باعتبار کونها أسبابا یقوّى بعضها بعضا فصارت کالجماعه الّتی ینصر بعضها بعضا. و نفوذ البصایر خرقها حجب الشبهات عن الحقّ واصله إلیه. و اتّحاد العزائم اتّفاق الإرادات الجازمه على طلب الحقّ. و مختلفین و متحاربین منصوبان على الحال، و کذلک موضع قوله: قد خلع، و کذلک عبرتا.
و قوله: فاعتبروا بحال ولد إسماعیل و بنى إسحاق و إسرائیل علیهم السّلام. إلى قوله: صفاه.
و قوله: فاعتبروا بحال ولد إسماعیل و بنى إسحاق و إسرائیل علیهم السّلام. إلى قوله: صفاه. أمر لهم باعتبار أخصّ. و ولد إسماعیل إشاره إلى العرب من آل قحطان و آل معد، و من بنى إسحاق أولاد روم بن عیص بن إسحاق و بنو إسرائیل و هو یعقوب ابن إسحاق. فأمّا حال تشتّتهم و تفرّقهم و استیلاء الأکاسره و القیاصره علیهم و فعلهم بهم ما ذکر فتفرّق کلمه العرب قبل ظهور محمّد صلّى اللّه علیه و آله و سلّم أمر ظاهر معلوم لکلّ من طالع کتب السیر، و بسبب ذلک کانت الأکاسره أربابا لهم یحتازونهم و یبعّدونهم عن ریف الآفاق و بحر العراق و خضره الدنیا إلى البادیه، و أمّا حال بنی إسحاق و إسرائیل فی ذلک فنحو ما جرى لأولاد روم بن عیص من اختلاف النسطوریّه و الیعقوبیّه و الملکاتیّه حتّى کان ذلک سببا لضعفهم و استیلاء القیاصره علیهم فی الروم و على بنی إسرائیل فی الشام و إزعاج بخت نصر لهم عن بیت المقدس حتّى غزاهم المرّه الثانیه کما أشار إلیه القرآن الکریم بقوله فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَهِ لِیَسُوؤُا وُجُوهَکُمْ وَ لِیَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ«» الآیه. و قد کان غزاهم مرّه اولى حین أحدثوا و غیّروا فرغبوا إلى اللّه تعالى و تابوا فردّه عنهم و هی المرّه الاولى الّتى حکى اللّه تعالى بقوله فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما«» الآیه ثمّ أحدثوا بعد ذلک فبعث اللّه إلیهم أرمیا فقام فیهم بوحى اللّه فضربوه و قیّدوه و سجنوه فغضب اللّه علیهم فبعث إلیهم عند ذلک بخت نصر فقتل منهم و صلب و أحرق و جدع و باع ذراریهم و نسائهم و سارت منهم طایفه إلى مصر و لجئوا إلى ملکها فسار إلیه بخت نصر فأسره و أسر بنی إسرائیل. و الّذین فرّوا منهم ارتحلوا إلى حدود المدینه کیهود خیبر و بنى قریظه و النضیر و وادى قرى و قینقاع. إذا عرفت ذلک فنقول: إنّه علیه السّلام أمر باعتبار حالهم و تأمّل أمرهم فی حال تشتّتهم و تفرّقهم قبل بعثه الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و فعل أعدائهم ما کانوا یفعلون کیف فرجّ اللّه عنهم من تلک الشدائد بظهور محمّد صلّى اللّه علیه و آله و سلّم لهم نبیّا.
و اعلم أنّ غایته علیه السّلام عن أمره باعتبار حال المؤمنین من الامم الماضیه قبلهم اقتدائهم فی الصبر على المکاره و لزوم الالفه و الاجتماع مع ذلک و انتظار الفرج به.
و قوله: فما أشدّ اعتدال الأحوال.
أى تساویها، و أراد أنّ أحوالکم الشبه و المساواه لأحوالهم، و کذلک ما أقرب اشتباه الأمثال: أى إنّ أحوالکم شدیده المماثله لأحوالهم لأنّکم أمثالهم.
و هو إشاره إلى وجه علّه الاعتبار فإنّهم إذا کانوا أمثالهم و اعتدلت أحوالهم و تشابهت امورهم وجب اعتبار حالهم بحالهم و لذلک أتى بالفاء للتعلیل.
و قوله: تأمّلوا أمرهم فی حال تشتّتهم. إلى آخر الکلام.
إشاره إلى حال شدّتهم و رخائهم لتنقل أذهان السامعین إلى إثبات تلک الحال لأنفسهم. فالماضون أصل ذلک الاعتبار، و السامعون فرعه، و حکم الأصل أحوالهم الخیریّه و الشریّه، و علّه ذلک الحکم کونهم أمثالا لهم.
و قوله: لیالى کانت الأکاسره و القیاصره أربابا لهم.
أى مالکون لامورهم یحتازونهم: أى کانت القیاصره یحتازون بنی إسرائیل و بنی إسحاق، و الأکاسره یحتازون بنی إسرائیل و یمنعونهم من أعمال العراق فصار الجمیع مطرودا للجمیع عن خضره الآفاق و جنان الشام و بحر العراق. و أراد دجله و الفرات.
و قوله: إلى منابت الشیح و مها فی الریح.
کنایتان عن البریّه و ظاهر أنّها محلّ نکد العیش و ضیقه کما وبّخهم علیه السّلام بوصف معاشهم فی الفصول السابقه. و یختصّ الأکاسره- و هو جمع کسرى- بملوک الفرس و القیاصره بملوک الروم و هو جمع على غیر قیاس. و کنّى بالدبر و الوبر عن الجمال، و فیه إیماء إلى فقرهم و ضیق معاشهم لأنّ دبر الجمال و استعمال الوبر و أکله بالدم من لوازم الفقر و ضیق الحال، و على الروایه الاخرى فالدبر کنایه عن الفقر أیضا، و ظاهر أنّهم أذلّ الأمم دارا لأنّ أهل البادیه لیسوا أصحاب حصون و قلاع یعتصم بها و إن کان لبعضهم حصون فعساه یحمیهم عن أمثالهم فیما یجرى بینهم من الغارات، و لیس ذلک ممّا یدفع عدوّا ذا قوّه أو یحتمل حصارا.
و قوله: و أجد بهم قرارا.
أى مستقرّا. إذ کانت البادیه لا تقاس إلى المدن فی الخصب، و استعار لفظ الجناح لما ینهض به دعوتهم و یقوى إذا دعوا، و کنّى بذلک عن کونهم لا یأوون إلى من یجیب دعوتهم فیعتصمون به، و کذلک استعار لفظ الظلّ لما یستلزمه الالفه من التعاون و التعاضد و التناصر، و وجه المشابهه هو ما یستلزمه هذه الامور من الراحه و السلامه من حراره نار العدوّ و الحرب کما یستلزمه الظلّ من الراحه من حرّ الشمس.
و قوله: فالأحوال مضطربه.
شرح لحالهم یومئذ و کونهم على غیر نظام، و کنّى باختلاف أیدیهم عن عدم اتّفاقهم على التناصر و بتفرّق کلمتهم عن عدم الفتهم و اجتماعهم على مصالحهم.
و إضافه بلاء إلى الأزل بمعنى من. و کذلک إضافه أطباق، و قد علمت أنّ للجهل صفات و درکات متراکم بعضها فوق بعض أولاها عدم العلم بالحقّ، و فوقها الاعتقاد بغیر الحقّ، و فوقها اعتقاد شبهه یقوى ذلک و یعضده مع تجویز نقیضه، و فوقها اعتقاد تلک الشبهه جزما. و فی نسخه الرضى- رحمه اللّه- و إطباق بکسر الهمزه على أنّه مصدر و المعنى و جهل مطبق علیهم.
و قوله: من بنات.
تفصیل للوازم ذلک الجهل، و ذکر منها أربعه أنواع: أحدها: وءد البنات، و أشار إلیه القرآن الکریم وَ إِذَا الْمَوْؤُدَهُ سُئِلَتْ بِأَیِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ«» قیل کان ذلک فی بنى تمیم و قیس و أسد و هذیل و بکر بن وابل.
قالوا: و السبب فی ذلک أنّ رسول اللّه دعا علیهم فقال: اللّهمّ اشدد وطأتک على مضر و اجعلها علیهم سنین کسنى یوسف فأجدبوا سبع سنین حتّى أکلوا الوبر بالدم کانوا یسمّونه العلهز فوءدوا البنات لإملاقهم و فقرهم. و یؤیّد ذلک قوله تعالى وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَکُمْ خَشْیَهَ إِمْلاقٍ«» و قال قوم: بل کان وءدهم للبنات أنفه، و ذلک أنّ تمیما منعت النعمان الإماره سنه من السنین فوجّه إلیهم أخاه الریّان بن المنذر و جلّ من معه من بکر بن وایل فاستاق النعم و سبا الذرارى فوفدت بنو- تمیم إلى النعمان فاستعطفوه فرقّ لهم و أعاد علیهم السبى و قال: کلّ امرأه اختارت أباها ردّت إلیه و إن اختارت صاحبها ترکت علیه. فکلهنّ اخترن أباهنّ إلّا ابنه قیس بن عاصم فإنّها اختارت من سباها. فنذر قیس بن عاصم التمیمىّ أنّه لا تولد له بنت إلّا وءدها. ففعل ذلک، ثمّ اقتدى به کثیر من بنى تمیم. الثانی: عباده الأصنام، و قد کان لکلّ قبیله صنم یعبدونه فکان لهذیل سواع، و لبنى کلب ودّ، و لمذحج یغوث و کان بدومه الجندل، و لذى الکلاع نسر، و لهمدان یعوق، و لثقیف اللات و العزّى، و لقریش و بنى کنانه و الأوس و الخزرج مناه، و کان هبل على الکعبه و إساف و نایله کانا على الصفا و المروه و من نوادر جهلهم المشهوره أنّ بنى حنیفه اتّخذوا فی الجاهلیّه صنما من خبش فعبدوه دهرا طویلا ثمّ أصابتهم مجاعه فأکلوه فقال بعضهم فی ذلک:
أکلت حنیفه ربّها زمن التقحّم و المجاعه
لم یحذروا من ربّهم
سوء العواقب و التباعه
الثالث: قطع أرحامهم و قد کان أحدهم یقتل أباه و أخاه عند الحمیّه لأدنى سبب کما هو معلوم من حالهم. الرابع: الغارات و الحروب کیوم ذى قار و کأیّام حرب بکر و تغلب فی بنى وابل و کحرب داحس و غیر ذلک من الأیّام المشهوره. و مقاماتهم فی الحروب و الغارات أکثر من أن تحصر و کلّ ذلک من لوازم الجهل.
و قوله: فانظروا إلى مواقع نعم اللّه علیهم.
أمر باعتبار حالهم عند مقدم محمّد صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و بعثته فیهم بعد تلک الأحوال الشریّه.
و الضمیر فی عقد و جمع راجعان إلى اللّه تعالى لشهاده القرآن الکریم بنسبه الالفه بینهم إلیه فی قوله لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً ما أَلَّفْتَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لکِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَیْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ«» و معنى عقده لطاعتهم بملّته جمعها بعد الانتشار و نظمها بعد التفرّق. إذ کانت طاعاتهم فی الجاهلیّه موافقه لأهوائهم المختلفه و منتشره بحسب اختلافها، و استعار لفظ الجناح لما أسبغت علیهم رحمه اللّه من النعمه و عمّتهم به من الکرامه، و رشّح بذکر النشر، و کنّى به عن عمومهم بها. و کذلک استعار لفظ الجداول و هى الأنهار لأنواع نعیمها و سیول الخیرات الّتی جرت علیهم من الکمالات النفسانیّه و البدنیّه ملاحظه لشبه تلک الطرق و الأسباب بالجداول فی جریان الماء بها، و رشّح بذکر الإساله.
و قوله: و التقت الملّه بهم فی عوائد برکتها.
أى اجتمعت بهم و لقیتهم فی منافعها الّتی حصلت ببرکتها. یقال: التقیت بفلان فی موضع کذا: أى لقیته. و قیل: قوله: فی موضع عواید نصب على الحال: أى الحال کونها کذلک. و لفظ الالتقاء کنایه عن ورود الدین علیهم و تلبّسهم به، و لذلک استعار لفظ الغرقى ملاحظه لشبههم بالغرقى فی شمول نعمه الدین لهم و غمر نعمه الإسلام إیّاهم حتّى کأنّهم لاستیلائها علیهم کالغرقى فاستلزم ذلک لملاحظه تشبیهها بالبحر الذاخر، و کنّى بخضره عیشها عن سعه المعاش بسبب الملّه و طیبه. و أراد بالسلطان هنا إمّا الحجّه و البرهان و الاقتداء، أو الغلبه و الدوله. و استعار لفظ الظلّ لما یستلزمه ذلک السلطان من النعمه: أى و تمکّنت بهم الامور و الأسباب الّتی أعدّتهم لنعمه اللّه فی ذلک الظلّ و کذلک قوله: و آوتهم الحال: أى ألجأتهم و ضمنتهم الحال الّتی کانوا علیها إلى عزّ غالب، و هو عزّ الإسلام و دولته ملاحظه لشبهه بأعالى الجبل المنیع فی علوّه و منعته. و کذلک استعار لفظ التعطّف لإقبال السعادات الدنیویّه و الاخرویّه علیهم بالإسلام و هى الّتی عنى بالامور. و لا حظ فی ذلک مشابهه ذلک الإقبال بتعطّف ذى الرحمه و الشفقّه على غیره.
و قوله: فهم حکّام. إلى قوله: یمضیها فیهم.
ظاهر، و کنّى بکونهم لا تغمز قناتهم عن قوّتهم و عدم انقهارهم للغیر، و کذلک لا یقرع لهم صفاه. و هما یجریان مجرى المثل. ثمّ عقّب بتوبیخهم على قلّه طاعتهم، و استعار لفظ الحبل لما نظم بینهم من طاعتهم للّه و رسوله، و کنّى بوصف نفض الأیدى عن خروجهم من الطاعه و شدّه إطراحهم لها بکثیر من أفعالهم، و کذلک استعار لفظ الحصن للإسلام و وجه المشابهه کونه حافظا لهم من أعدائهم الظاهره و الباطنه کالحصن المضروب على أهله، و رشّح بذکر المضروب، و کذلک استعار لفظ الثلم لکسرهم الإسلام بأحکامهم الجاهلیّه و مخالفتهم لکثیر من أحکامه و نفّر عن تلک المخالفه بما یستلزمه من ذلک الثلم.
و قوله: و إنّ اللّه سبحانه قد امتنّ. إلى قوله: کلّ خطر.
. ترغیب فی لزوم حبل الالفه و التمسّک به. و النعمه الّتی امتنّ اللّه تعالى بها فی عقد حبل الالفه الّتی لا یعرف أحد لها قیمه هى الالفه نفسها باعتبار ما استلزمه من المنافع العظیمه و دفع المضارّ و علّل عدم معرفه الخلق لقیمتها بکونها أرجح من کلّ ثمن و أجلّ من کلّ خطر و هى صغرى قیاس ضمیر تقدیر کبراه: و کلّ ما کان کذلک لم یعرف أحد قیمته، و صدق الصغرى ظاهر. إذ کانت تلک الالفه و الاجتماع على الدین سببا عظیما فی استعدادهم لسعادتى الدنیا و الآخره.
و قوله: و علموا. إلى قوله: بین خلقه.
توبیخ لهم بانتقالهم عن الأحوال و الأقوال الإسلامیّه إلى الأحوال الجاهلیّه: أى قد صرتم بعد کونکم مهاجرین أعرابا، و لمّا کانت الأعراب أنقص رتبه من المهاجرین و أهل المدن لجفاهم و قسوتهم و بعدهم عن الفضائل النفسانیّه و تعلّمها و عن سماع ألفاظ الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و مجالسته و اقتباس الآداب من أهل الحضاره کما قال تعالى الْأَعْرابُ أَشَدُّ کُفْراً وَ نِفاقاً«» الآیه لا جرم وبّخهم لصیرورتهم کذلک. و لیس کلّ الأعراب بالصفه المذکوره لقوله تعالى وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ یُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ«» الآیه. و کونهم بعد الموالاه أحزابا فالأحزاب الفرق الّتی ینقسم لمحاربه الرسل و أوصیائهم و یجتمع لمخالفتهم و ظاهر أنّ هؤلاء کذلک لانفسامهم و تشعّبهم إلى ناکثین و مارقین و قاسطین و منافقین و محاربتهم له حتّى لیس لهم إذن جامع فی الإسلام یتعلّقون به إلّا اسم الإسلام و لا یعرفون من الایمان إلّا رسمه و أثره و شعاره الظاهر بالشهادتین و حضور الصلاه دون الشرائط الحقّه و ما ینبغی له. و قولهم: النار و لا العار کلمه یقولها أهل الکبر و الأنفه من احتمال الأذى و الضیم لأنفسهم أو لقومهم فی الاستنهاض إلى الفتنه. و النار و العار منصوبان بفعلین مضمرین تقدیرهما ادخلوا النار و لا تحتملوا العار. ثمّ شبّههم فی حالهم و قولهم ذلک بمن یقصد أن یقلّب الإسلام على وجهه، و کنّى بذلک عن إفساده کنایه بالمستعار ملاحظه لشبههه بالإناء یقلب فیخرج ما فیه عن الانتفاع به، و وجه التشبّه المذکور أنّ أفعالهم المذکوره کأفعال من یقصد ذلک من أعداء الإسلام لإراده إفساده.
و قوله: انتهاکا و نقضا.
منصوبان على المفعول له و العامل قوله: تکفئوا، و یصلحان غایتین عقیب کلّ فعل نسبه إلیهم یفسّرهما ذکرهما هاهنا، و میثاقه ما اخذ علیهم فیه و أسلموا من جزئیّاته و هى الایمان الصادق باللّه و رسوله و ما جاء به من القوانین الشرعیّه. ثمّ وصف ذلک المیثاق بکون اللّه تعالى قد وضعه لهم حرما فی أرضه یمنعهم من کلّ عدوّ و أمنا بین خلقه لمن دخله و أراد محلّ أمن فحذف المضاف أو تجوّز بلفظ الأمن فی المأمن إطلاقا لاسم الحال على المحلّ.
و قوله: و إنّکم. إلى قوله: بینکم.
تحذیر من الاعتماد على غیر الإسلام و اللجأ إلیه من شجاعه أو حمیّه أو کثره فی قبیله مع الخروج عن طاعه سلطان الإسلام و التفرّق فیه فإنّ ذلک یستلزم طمع الکفّار فیهم. و عدم نصره الملائکه و المهاجرین و الأنصار حینئذ لهم إمّا لأنّ النصره کانت مخصوصه بوجود الرسول و الاجتماع على طاعته و قد زالت بفقده أو لأنّها مشروطه بالاجتماع على الدین و الالفه فیه و الذبّ عنه و إذا التجئوا إلى غیره و حاربهم الکفّار لم یکن ناصر من الملائکه لعدم اجتماعهم على الدین، و لا من المهاجرین و الأنصار لفقدهم و هذا اللازم مخوف ینبغی أن یحذر منه فالملزوم و هو الالتجاء إلى غیر الإسلام یجب أن یکون کذلک. و الضمیر المضاف إلیه فی حریمه و میثاقه یعود إلى الإسلام. و قال بعض الشارحین: الضمیر فی قوله یعود إلى اللّه و الأوّل ألیق بسیاق الکلام، و النصب فی جبرئیل و میکائیل على أنّهما اسمان ملاحظا فیهما التنکیر و لذلک أتى عقیبهما بعد لا بالنکرتین، و ینصرونکم هو خبرها مفسّرا لمثله عقیب ما یکون منها.
و قوله: إلّا المقارعه بالسیف.
استثناء منقطع، و حکم اللّه الّذی جعله غایه للمقارعه هو إفاضه لصوره النصر على أحد الفریقین و الانقهار على الآخر.
و قوله: و إنّ عندکم الأمثال. إلى قوله: و وقائعه.
تذکیر لهم بما ضرب اللّه لهم من الأمثال بالقرون الماضیه و ما أصابهم من بأس اللّه و قوارعه و هى الدواهى العظام و أیّامه و هى کنایه عن الأیّام الّتی أوقع بهم فیها عقوباته و بأسه حین استعدّوا لذلک بمعصیته و تهدید لهم بذلک إن خالفوا أمره.
و قوله: فلا تستبطئوا. إلى قوله: بأسه.
تهدید لهم أیضا و توعید بقرب العقوبه على المعصیه، و إطلاق لفظ الاستبطاء هنا مجاز لأنّ الاستبطاء للشیء استبعاد لوقوعه مع انتظار وقوعه المستلزم لطلبه و طلب تحقیق الوعید لیس من مقاصد العقلاء حتّى ینهون عنه لکن لمّا کان الإنسان إذا همّ بالمعصیه قد یستبعد تحقیق الوعید و قربه فیکون ذلک ممّا یقوّى معه داعیته و شهوته لفعلها کان لذلک الاستبعاد سببیّه بوجه ما للمعصیه، و لمّا کان ذلک الاستبطاء أطلق علیه إطلاقا لاسم الجزء على الکلّ فیکون التهدید و التوبیخ علیه أبلغ، و لأنّ الّذی یقدم على المعصیه مع علمه بما یستلزمه من الإعداد لنزول العذاب یناسب فی الحقیقه من یستبطىء العقوبه و یطلب تعجیلها بفعله و کانوا بمعصیتهم کالمستبطئین للوعید فأطلق فی حقّهم لفظه الاستبطاء و نهاهم عنه. و نصب جهلا و تهاونا و بأسا على المفعول له لصلوح الثلاثه عللا غائیّه لاستبطاء الوعید بمعنى استبعاده لأنّ جهل العبد بکیفیّه أخذه تعالى له بالموت و أهواله و شدائد الآخره ممّا یستبعد معه وقوع تلک الامور فی حقّه کما هى. و کذلک تهاونه ببسطه و إملائه لعدم علمه بما فی ذلک البسط من الاستدراج ممّا یحمله على استبعاد وعیده، و بعزمه بالمعصیه و کذلک یأسه من بأسه بسبب ذلک الجهل و ذلک البسط ممّا یحمله على ذلک الاستبعاد أیضا.
و قوله: و إنّ اللّه. إلى قوله: التناهى.
تنبیه لهم على أنّ لعنه اللّه للقرن الماضى بین أیدیهم قبل الإسلام کان لازما مساویا لترکهم الأمر بالمعروف و النهى عن المنکر منحصرا فیه، و کانت لعنته لسفهائهم و ناقصى عقولهم لرکوبهم المعاصى المنکره، و أمّا للحکماء منهم و لذوى العقول فلعدم إنکارهم و تناهیهم عمّا یشاهدونه من ذلک المنکر. و ذلک اللعن فی قوله تعالى لُعِنَ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْ بَنِی إِسْرائِیلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِیسَى ابْنِ مَرْیَمَ ذلِکَ بِما عَصَوْا وَ کانُوا یَعْتَدُونَ«» و کانوا لا یتناهون عن منکر فعلوه. و نبّههم بقوله: ألا و قد قطعتم قید الإسلام. إلى قوله: أحکامه. على أنّهم من جمله من اتّصف بذلک الملزوم أعنى ترک الأمر بالمعروف و النهى عن المنکر و رکوب المعاصى فلزمهم الدخول فی زمره من لعنه اللّه بذلک الترک، و غایه هذا الشبه الجذب عن رکوب المعاصى إلى الانتهاء و التناهى عنها. و استعار لفظ قید الإسلام للالفه و الاجتماع علیه و على امتثال أوامر اللّه فیه باعتبار کون ذلک حافظا للإسلام علیهم و مانعا له من التشرّد و الذهاب کما یمنع الجمل قیده من الشرود و التشتّت. و حدود اللّه: أحکامه الّتی حدّها للناس و منعهم من تجاوزها. و تعطیلهم لهم بإطراحها و تجاوزها، و کذلک إماته أحکامه عدم العمل بها و وصف الإماته مستعار لترکها و إهمالها لاعتبار أنّهم أخرجوها بذلک الإهمال عن انتفاعهم بها کما أنّ ممیت الشیء یخرجه عن حدّ الانتفاع. و باللّه التوفیق.
الفصل الخامس:
فی اقتصاصه علیه السّلام لحاله فی تکلیفه و موافقته لأوامر اللّه
ببلائه الحسن فی سبیله، و شرح حاله مع رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و التنبیه على موضعه منه و کیفیّه تربیته له من أوّل عمره، و الإشاره إلى قوّته فی دین اللّه. و ذلک قوله:
أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِیَ اللَّهُ- بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْیِ وَ النَّکْثِ وَ الْفَسَادِ فِی الْأَرْضِ فَأَمَّا النَّاکِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ- وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ- وَ أَمَّا الْمَارِقَهُ فَقَدْ دَوَّخْتُ- وَ أَمَّا شَیْطَانُ الرَّدْهَهِ فَقَدْ کُفِیتُهُ- بِصَعْقَهٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَهُ قَلْبِهِ وَ رَجَّهُ صَدْرِهِ- وَ بَقِیَتْ بَقِیَّهٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْیِ- وَ لَئِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِی الْکَرَّهِ عَلَیْهِمْ- لَأُدِیلَن َّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا یَتَشَذَّرُ فِی أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً أَنَا وَضَعْتُ فِی الصِّغَرِ بِکَلَاکِلِ الْعَرَبِ- وَ کَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِیعَهَ وَ مُضَرَ- وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِی مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص- بِالْقَرَابَهِ الْقَرِیبَهِ وَ الْمَنْزِلَهِ الْخَصِیصَهِ- وَضَعَنِی فِی حَجْرِهِ وَ أَنَا وَلِیدٌ یَضُمُّنِی إِلَى صَدْرِهِ- وَ یَکْنُفُنِی فِی فِرَاشِهِ وَ یُمِسُّنِی جَسَدَهُ- وَ یُشِمُّنِی عَرْفَهُ- وَ کَانَ یَمْضَغُ الشَّیْءَ ثُمَّ یُلْقِمُنِیهِ- وَ مَا وَجَدَ لِی کَذْبَهً فِی قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَهً فِی فِعْلٍ- وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ ص- مِنْ لَدُنْ أَنْ کَانَ فَطِیماً أَعْظَمَ مَلَکٍ مِنْ مَلَائِکَتِهِ- یَسْلُکُ بِهِ طَرِیقَ الْمَکَارِمِ- وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَیْلَهُ وَ نَهَارَهُ- وَ لَقَدْ کُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِیلِ أَثَرَ أُمِّهِ- یَرْفَعُ لِی فِی کُلِّ یَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً- وَ یَأْمُرُنِی بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ- وَ لَقَدْ کَانَ یُجَاوِرُ فِی کُلِّ سَنَهٍ بِحِرَاءَ- فَأَرَاهُ وَ لَا یَرَاهُ غَیْرِی- وَ لَمْ یَجْمَعْ بَیْتٌ وَاحِدٌ یَوْمَئِذٍ فِی الْإِسْلَامِ- غَیْرَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَ خَدِیجَهَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا- أَرَى نُورَ الْوَحْیِ وَ الرِّسَالَهِ وَ أَشُمُّ رِیحَ النُّبُوَّهِ- وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّهَ الشَّیْطَانِ حِینَ نَزَلَ الْوَحْیُ عَلَیْهِ ص- فَقُلْتُ یَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّهُ- فَقَالَ هَذَا الشَّیْطَانُ قَدْ أَیِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ- إِنَّکَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى- إِلَّا أَنَّکَ لَسْتَ بِنَبِیٍّ وَ لَکِنَّکَ لَوَزِیرٌ- وَ إِنَّکَ لَعَلَى خَیْرٍ وَ لَقَدْ کُنْتُ مَعَهُ ص لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَیْشٍ- فَقَالُوا لَهُ یَا مُحَمَّدُ إِنَّکَ قَدِ ادَّعَیْتَ عَظِیماً- لَمْ یَدَّعِهِ آبَاؤُکَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَیْتِکَ- وَ نَحْنُ نَسْأَلُکَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَیْهِ وَ أَرَیْتَنَاهُ- عَلِمْنَا أَنَّکَ نَبِیٌّ وَ رَسُولٌ- وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّکَ سَاحِرٌ کَذَّابٌ- فَقَالَ ص وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا- تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَهَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا- وَ تَقِفَ بَیْنَ یَدَیْکَ فَقَالَ ص- إِنَّ اللَّهَ عَلى کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ- فَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَکُمْ ذَلِکَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ- قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنِّی سَأُرِیکُمْ مَا تَطْلُبُونَ- وَ إِنِّی لَأَعْلَمُ أَنَّکُمْ لَا تَفِیئُونَ إِلَى خَیْرٍ- وَ إِنَّ فِیکُمْ مَنْ یُطْرَحُ فِی الْقَلِیبِ وَ مَنْ یُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ- ثُمَّ قَالَ ص یَا أَیَّتُهَا الشَّجَرَهُ- إِنْ کُنْتِ تُؤْمِنِینَ بِاللَّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ- وَ تَعْلَمِینَ أَنِّی رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِی بِعُرُوقِکِ- حَتَّى تَقِفِی بَیْنَ یَدَیَّ بِإِذْنِ اللَّهِ- وَ الَّذِی بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا- وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِیٌّ شَدِیدٌ- وَ قَصْفٌ کَقَصْفِ أَجْنِحَهِ الطَّیْرِ- حَتَّى وَقَفَتْ بَیْنَ یَدَیْ رَسُولِ اللَّهِ ص مُرَفْرِفَهً- وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص- وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْکِبِی وَ کُنْتُ عَنْ یَمِینِهِ ص- فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِکَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِکْبَاراً- فَمُرْهَا فَلْیَأْتِکَ نِصْفُهَا وَ یَبْقَى نِصْفُهَا- فَأَمَرَهَا بِذَلِکَ فَأَقْبَلَ إِلَیْهِ نِصْفُهَا- کَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِیّاً- فَکَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ص- فَقَالُوا کُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ- فَلْیَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ کَمَا کَانَ- فَأَمَرَهُ ص فَرَجَعَ- فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّی أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِکَ یَا رَسُولَ اللَّهِ- وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَهَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى- تَصْدِیقاً بِنُبُوَّتِکَ وَ إِجْلَالًا لِکَلِمَتِکَ- فَقَالَ الْقَوْمُ کُلُّهُمْ بَلْ ساحِرٌ کَذَّابٌ- عَجِیبُ السِّحْرِ خَفِیفٌ فِیهِ- وَ هَلْ یُصَدِّقُکَ فِی أَمْرِکَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا یَعْنُونَنِی- وَ إِنِّی لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِی اللَّهِ لَوْمَهُ لَائِمٍ- سِیمَاهُمْ سِیمَا الصِّدِّیقِینَ وَ کَلَامُهُمْ کَلَامُ الْأَبْرَارِ- عُمَّارُ اللَّیْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ- مُتَمَسِّکُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ یُحْیُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ- لَا یَسْتَکْبِرُونَ وَ لَا یَعْلُونَ- وَ لَا یَغُلُّونَ وَ لَا یُفْسِدُونَ- قُلُوبُهُمْ فِی الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِی الْعَمَلِ
اللغه
أقول:
النکث: نقض العهد.
و القسوط: الجور.
و دوّخت القوم، غلبتهم و قهرتهم.
و الردهه: نقره فی الجبل یجتمع فیها الماء.
و الصعقه: الغشیه من صیحه و نحوها.
و الوجبه: واحده الوجیب و هو اضطراب القلب.
و الرجّه: واحده الرجّ: و هى الحرکه و الزلزله.
و الکرّه: الرجعه.
و لادیلنّهم: أى لا قهرنّهم و أکون ذا إداله منهم و غلبه علیهم.
و التشذّر: التفرّق.
و الکلکل: الصدر.
و النواجم: جمع ناجمه و هو الطالع و الخارج.
و یکنفنی فی فراشه: أى یحفظنی فیه و یحوطنی و یلفّنى.
و عرفه: رائحته.
و الخطله: السیّئه و القبیحه من قول أو فعل.
و الفطیم: المفطوم.
و حراء- بالمدّ و الکسر- : جبل بمکّه یذکّر و یؤنّث و یصرف و لا یصرف.
و الرنّه: صوت یصدر عند حصول المکاره کالحزن و نحوه.
القلیب: البئر قبل أن تطوى یذکّر و یؤنّث.
و قال أبو عبیده: هى البئر القدیمه العادیه.
و الدوىّ: صوت حفیف الریح و النحل.
و القصف: صوت جناح الطیر و إصفاقه فی الهواء.
و السیما- مقصورا و ممدودا- : العلامه و الأثر فی الشیء یعرف به.
و المنار: الأعلام.
و غلّ من المغنم یغلّ بالضمّ: إذا خان فیه. قال أبو عبید: یقال منه: یغلّ- بالضمّ- و من الحقد:
یغلّ- بالکسر- و من الخیانه المطلقه: أغلّ یغلّ.
المعنى
و اعلم أنّه علیه السّلام نبّه فی هذا الفصل على أنّ قتاله لهذه الفرق کان بأمر اللّه على لسان رسوله صلّى اللّه علیه و آله و سلّم، و ذلک الأمر إمّا من القرآن الکریم من قوله تعالى وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى«» أو من السنّه بأمر خاصّ و هو من أوامر اللّه أیضا. و قد ثبت عن رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم أنّه قال: سیقاتل بعدى الناکثین و القاسطین و المارقین. فکان الناکثون أصحاب الجمل لنکثهم بیعته علیه السّلام، و کان القاسطون أهل الشام، و المارقون الخوارج بالنهروان و الفرق الثلاث یصدق علیهم أنّهم أهل البغى و قاسطون لخروجهم عن سواء العدل إلى طرف الظلم و الجور، و تخصیص کلّ فرقه منهم بما سمیّت به عرف شرعىّ. فأمّا وصف الخوارج بالمارقین فمستنده قول الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلّم لذی الثدیه: یخرج من ضئضئ هذا قوم یمرقون من الدین کما یمرق السهم من الرمیه و قد ذکرناه قبل. و الضئضىء: الأصل. و هذا الخبر من أعلام نبوّته صلّى اللّه علیه و آله و سلّم. و دلّ قوله علیه السّلام: و أمّا القاسطون فقد جاهدت و أمّا المارقه فقد دوّخت. على أنّ هذه الخطبه فی آخر خلافته بعد وقایع صفّین و النهروان. و أمّا شیطان الردهه فالأشبه أنّ المراد به ذو الثدیه من الخوارج لما ورد الحدیث أنّ النبىّ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم ذکره فقال: شیطان الردهه یحتذره رجل من بجیله. فأمّا کونه شیطانا فباعتبار کونه ضالّا مضلّا، و أمّا نسبته إلى الردهه فیشبه أن یکون لما روى أنّه حین طلبه علیه السّلام فی القتلى وجده فی حفره دالیه فیها خریر الماء فنسبه رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم إلیها لما کان یعلم من کیفیّه حاله فی مقتله.
و روى عن یزید بن رویم قال: قال لى على علیه السّلام فی ذلک الیوم: یقتل الیوم أربعه ألف من الخوارج أحدهم ذو الثدیه فلمّا طحن القوم ورام إخراج ذى الثدیه فأتعبه أمرنى أن أقطع أربعه ألف قصبه و رکب بغله رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم ثمّ أمرنى أن أضع على کلّ رجل منهم قصبه فلم أزل کذلک و هو راکب خلفى و الناس حوله حتّى بقیت فی یدی واحده فنظرت إلیه و قد اربدّ وجهه و هو یقول و اللّه ما کذبت و لا کذّبت فإذا نحن بخریر الماء فی حفره عند موضع دالیه. فقال لى: فتّش هذا. ففتشّته فإذا قتیل قد صار فی الماء و إذا رجله فی یدی فجذبتها و قلت: هذه رجل إنسان. فنزل عن البغله مسرعا فجذب الرجل الاخرى و جرّرناه فإذا هو المخدج. فکبّر علیه السّلام ثمّ سجد و کبّر الناس بأجمعهم. و أمّا الصعقه الّتی أشار إلیها فهى ما أصاب ذا الثدیه من الغشى و الموت بضربته علیه السّلام حتّى استلزم ذلک ما حکاه من سماعه لرجّه صدره و وجیب قلبه. و قال بعضهم المراد بالصعقه هنا الصاعقه و هى صیحه العذاب و ذلک أنّه روى أنّ علیّا علیه السّلام لمّا قابل القوم صاح القوم فکان ذو الثدیه ممّن هرب من صیحته حتّى وجد قتیلا فی الحفره المذکوره. و قال بعضهم: یحتمل أن یشیر بالشیطان إلى إبلیس المتعارف کما أشرنا إلیه فی الخطبه الاولى و هو القوّه الوهمیّه فاستعار لفظ الردهه و هى النقره فی الجبل للبطن الأوسط من الدماغ الّذی هو محلّ هذه القوّه لمکان المشابهه، و قد یعبّر بالجبل عن الدماغ فی عرف المجرّدین و عن القوى فیه، و بالجنّ الشیاطین تاره و بالملائکه اخرى. و لمّا کانت الأنبیاء علیهم السّلام و الأولیاء قد یشاهدون الامور المجرّده و المعانی المقبوله کالملائکه و الجنّ و الشیاطین فی صوره محسوسه باستعانه من القوّه المحصّله کما علمت فی المقدّمات و کما سنشیر إلیه عن قرب احتمل أن یقال أنّه علیه السّلام رأى الشیطان المذکور بصوره محسوسه ذات صدر و قلب و أنّه علیه السّلام لمّا کان فی مقام العصمه و ملکه للنصر على الشیطان و قهره و إبعاده سمع من الجناب الإلهىّ صیحه العذاب أرسلت على الشیطان فسمع لها وجیب قلبه ورّجه صدره کما سمعت رنّته فیما یحکیه فی باقى الکلام. و اللّه أعلم. و أمّا البقیّه من أهل البغى فمعاویه و من بقى من جند الشام حیث وقعت الحرب بینهم و بینه بمکیده التحکیم. و حکمه علیه السّلام بأنّه إن أذن اللّه سبحانه فی الرجوع إلیهم لیغلبنّهم و لتکونّن الدایره علیهم ثقه بعموم توعّده تعالى فی قوله و من بغى علیه لینصرنّه اللّه و قوله تعالى یا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْیُکُمْ عَلى أَنْفُسِکُمْ«» و قوله إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ یَنْصُرْکُمْ«» و أمثاله. و کنّى بإذن اللّه عن توفیق أسباب العود إلیهم و إتمامها من الفسحه فی الأجل و غیرها. و استعمل ما هاهنا بمعنى من إطلاقا لاسم العامّ على الخاصّ أو تکون بمعنى الّذی.
و قوله: أنا وضعت فی الصغر بکلکل العرب. إلى آخره.
تنبیه على فضیلته فی الشجاعه و النجده لغایه أن یخافه أعداؤه و تقوى به قلوب أولیائه لا على سبیل الفخر المجرّد فإن ذلک رذیله قد بنى الخطبه على النهى عنها، و استعار لفظ الکلکل للجماعه من أکابر العرب الّذین قتلهم فی صدر الإسلام و فرّق جمعهم، و وجه المشابهه کونهم محلّ قوّه العرب و مقدّمیهم کما أنّ الصدر من الحیوان کذلک. و من روى کلاکل بلفظ الجمع فهو أیضا استعاره لساداتهم و أشرافهم ممّن قاتلهم و قتلهم، و وجه الاستعاره ما ذکرناه. و یحتمل أن یکون مجازا من باب إطلاق اسم الجزء على الکلّ. و الباء فی قوله: بکلکل. زائده. و المراد بوضعهم إذلالهم و إهانتهم. یقال: وضعه فاتّضع: إذا غضّ منه و حطّ منزلته. و یحتمل أن یکون للإلصاق: أى فعلت بهم الوضع و الإهانه. و کذلک استعار لفظ القرون لأکابر ربیعه و مضر ممّن قاتلهم و قتلهم، و وجه الاستعاره کون کلّ واحد منهم لقبیلته کالقرن یظهر فیها فیصول به و یمنع من عدوّها کذى القرن من الحیوان بقرنه. و أراد بالنواجم من علا منهم و ظهر أمره، و رشّح بذکر الکسر، و کنّى به عن قتلهم. و قتله للأکابر من مضر معلوم فی بدو الإسلام فأمّا القرون من ربیعه فإشاره إلى من قتله منهم فی وقایع الجمل و صفّین بنفسه و جیشه کما یقف على أسمائهم من یقف على تلک الوقایع.
و قوله: و قد علمتم موضعى. إلى آخره.
شرح لتربیه الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلّم من أوّل عمره و إعداده بتلک التربیه للکمالات النفسانیّه من العلوم و الأخلاق الفاضله.
و عدّ أحواله الّتی هى وجوه ذلک الاستعداد و أسبابه:
أحدها: القرابه.
و أشار بها إلى نسبته القریب منه و کان علیه السّلام ابن عمّه دنیا و أبواهما أخوان لأب و امّ دون غیرهما من بنى عبد المطلب إلّا الزبیر.
الثانیه: منزلته الخصیصه به
و أشار بها إلى ما شرحه من فعله به صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و هو وضعه له فی حجره ولیدا و سایر ما ذکره. و مبدء ذلک ما روى عن مجاهد قال: کان من نعمه اللّه على علىّ علیه السّلام ما صنعه اللّه له و أراد به من الخیر أنّ قریشا أصابتهم أزمّه شدیده و کان أبو طالب ذا عیال کثیره فقال رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم لعمّه العبّاس و کان أیسر بنى هاشم: یا عبّاس إنّ أخاک أبا طالب کثیر العیال و قد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمّه فانطلق بنا لنخفّف عنه من عیاله فآخذ واحدا من بنیه و تأخذ واحدا فنکفیهم عنه فانطلقا إلیه و قالا له. فقال: إن ترکتمالى عقیلا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم علیّا علیه السّلام و أخذ العبّاس جعفرا فکفّلاهما. و قد کان أبو طالب کفّل رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم دون غیره من أعمامه و ربّاه فی حجره ثمّ حماه من المشرکین فی مبدء أمره و نصره عند ظهور دعوته و ذلک ممّا یؤکّد اختصاص منزله علىّ علیه السّلام عنده. و من منزلته الخصیصه به ما کان بینهما من المصاهره الّتی أفضت إلى النسل الأطهر دون غیره من الأصهار، و فی معنى قوله: فکان یمضغ الشیء ثمّ یلقمنیه ما رواه الحسن بن زید بن علىّ بن الحسین علیهم السّلام قال: سمعت زیدا أبى یقول: کان رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم یمضغ اللحمه أو التمره حتّى تلین و یجعلها فی فم علىّ علیه السّلام و هو صغیر فی حجره.
الثالثه: أنّه لم یجد له کذبه فی قول و لا خطله فی فعل، و ذلک لما استعدّ به من تربیته صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و سایر متمّمات الریاضه و أعراضها لاستیلاء قوّته العاقله على قوّتى الشهویّه و الغضبیّه و قهر نفسه الأمّاره الّتی هى مبدء خطأ الأقوال و خطل الأفعال حتّى حصلت له عن ذلک ملکه فی ترک الرذائل و اجتناب المئاثم و المعاصى فصار له ذلک خلقا و طبعا. و إذا حقّق معنى العصمه فی حقّه علیه السّلام و فی حقّ من ادّعیت له العصمه من أولاده یعود إلى هذه الملکه. فلیس لاستکبارها [لاستنکارها خ] فی حقّهم علیه السّلام معنى، و أشار بالملک الّذی قرنه به إلى جبرئیل و هو العقل الفعّال فی عرف قوم. و اقترانه به إشاره إلى تولّیه بتربیه نفسه القدسیّه بإفاضه العلوم و مکارم الأخلاق و سائر الطرق المؤدّیه إلى اللّه سبحانه من حین صغره صلّى اللّه علیه و آله و سلّم بحسب حسن استعداد مزاجه و قوّه عقله الطفولىّ. ثمّ أشار فی ذکر معرض أحواله معه إلى تربیه الملک له صلّى اللّه علیه و آله و سلّم لیعلم أنّه حصل بتبعیّته له على تلک المکارم، و ممّا روى فی حاله مع الملک و عصمته به ما روى الباقر محمّد بن علىّ علیهما السّلام أنّه قال: وکّل اللّه بمحمّد صلّى اللّه علیه و آله و سلّم ملکا عظیما منذ فصل عن الرضاع یرشده إلى الخیرات و مکارم الأخلاق و یصدّه عن الشرّ و مساوى الأخلاق و هو الّذی کان ینادیه السلام علیک یا محمّد یا رسول اللّه و هو شابّ لم یبلغ درجه الرساله بعد فیظنّ أنّ ذلک من الحجر و الأرض فیتأمّل فلا یرى شیئا. و روى أنّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم قال: أذکر و أنا ابن سبع سنین و قد بنى ابن جدعان دارا بمکّه فجئت مع الغلمان نأخذ التراب و المدر فی حجورنا فننقله فملأت حجرى ترابا فانکشفت عورتى فسمعت نداء من فوق رأسى یا محمّد أرخ إزارک فجعلت أرفع رأسى فلا أرى شیئا إلّا أنّنى أسمع الصوت فتماسکت و لم ارخه فکأنّ إنسانا ضربنى على ظهرى فخررت لوجهى فانحلّ إزارى فسترنى و سقط التراب إلى الأرض فقمت إلى دار عمّى أبی طالب و لم أعد.
الرابعه: أشار إلى اتّباعه له و ملازمته إیّاه
بقوله: و لقد کنت أتبعه اتّباع الفصیل أثر امّه. و وجه الشبه فی اتّباعه کونه لا ینفکّ عنه کالفصیل لامّه.
الخامسه: أشار إلى ثمره ذلک الاتّباع
بقوله: یرفع لى فی کلّ یوم علما من أخلاقه و یأمرنى بالاقتداء به. و استعار لفظ العلم لکلّ من أخلاقه باعتبار کونه هادیا إلى سبیل اللّه کما یهدى العلم.
السادسه: أنّه کان یجاور معه فی کل سنه بحراء فیراه دون غیره،
و روى فی الصحاح: أنّه کان صلّى اللّه علیه و آله و سلّم یجاور بحراء فی کلّ سنه شهرا و کان یطعم فی ذلک الشهر من جاءه من المساکین فإذا قضى جواره انصرف إلى مکّه و طاف بها سبعا قبل أن یدخل بیته حتّى جاءت السنه الّتی أکرمه اللّه فیها بالرساله فجاء فی حراء فی شهر رمضان و معه أهله خدیجه و علىّ و خادم. و روى الطبرىّ و غیره: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم قبل مبعثه کان إذا حضرت الصلاه یخرج إلى شعاب مکّه و یخرج معه علىّ مستخفین عن أبی طالب و من سائر أعمامه و قومه یصلّیان الصلاه فإذا أمسیا رجعا. فمکثا کذلک ما شاء اللّه. ثمّ إنّ أبا طالب عثر علیهما یوما و هما یصلّیان. فقال لرسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: یابن أخى ما هذا الّذی أراک تدین به فقال: یا عمّ هذا دین اللّه و دین ملائکته و رسله و دین أبینا إبراهیم بعثنى اللّه رسولا إلى العباد و أنت یا عمّ أحقّ من بذلت له النصیحه و دعوته إلى الهدى و أحقّ من أجابنى إلیه و أعاننى علیه. فقال أبو طالب: یابن أخى إنّى لا أستطیع أن افارق دینى و دین آبائى و ما کانوا علیه و لکن و اللّه لا یخلص إلیک شیء تکرهه ما بقیت. و روى أنّه قال لعلىّ: یا بنىّ ما هذا الّذی تدین به فقال یا أبه: إنّى آمنت باللّه و رسوله و صدّقته فیما جاء به و صلّیت للّه معه. قال: فقال له: أما إنّه لا یدعو إلّا إلى خیر فالزمه.
السابعه: أشار إلى کونه أوّل من أسلم من الذکور
بقوله: لم یجمع بیت واحد. إلى قوله: و أنا ثالثهما. و قد مضى منه علیه السّلام مثل ذلک حیث قال: أکذب على اللّه و أنا أوّل من آمن به و قوله: فلا تتبّروا منّى فإنّى ولدت على الفطره و سبقت إلى الإسلام و الهجره. و روی الطبرى فی تاریخه عن عباد بن عبد اللّه قال: سمعت علیّا علیه السّلام یقول: أنا عبد اللّه و أخو رسول اللّه و أنا الصدّیق الأکبر لا یقولها بعدى إلّا کاذب مفتر صلّیت قبل الناس لسبع سنین، و فی روایه اخرى: أنا الصدّیق و الفاروق الأوّل أسلمت قبل إسلام أبی بکر و صلّیت قبل صلاته لسبع سنین، و روى ذلک أیضا من وجوه: أحدها: عن ابن مسعود قال: قدمت إلى مکّه فانتهیت إلى العبّاس بن عبد- المطّلب و هو یومئذ عطّار جالس إلى زمزم و نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا علیه ثوبان أبیضان، علیه، وفره جعده إلى أنصاف اذنیه، أشم أقنى، أدعج العینین، کثّ اللحیه، أبلج برّاق الثنایا، أبیض تعلوه حمره، و على یمینه غلام مراهق أو محتلم حسن الوجه، تقفوهم امرأه قد سترت محاسنها. فقصدوا نحو الحجر فاستلمه الرجل ثمّ الغلام ثمّ طافوا بالبیت ثمّ استقبلوا الحجر و قام الغلام إلى جانب الرجل و المرأه خلفهما فأتوا بأرکان الصلاه مستوفاه فلمّا رأینا ما لا نعرفه بمکّه قلنا للعبّاس: إنّا لا نعرف هذا الدین فیکم. فقال: أجل و اللّه. فسألناه عن هؤلاء فعرّفنا إیّاهم ثمّ قال: و اللّه ما على وجه الأرض أحد یدین بهذا الدین إلّا هؤلاء الثلاثه. و روى مثله عن عفیف بن قیس. الثانی: روى عن معقل بن یسار قال: کنت عند النبی صلّى اللّه علیه و آله و سلّم فقال لی: هل لک أن تعود فاطمه فقلت: نعم یا رسول اللّه فقمنا فدخلنا علیها فقال لها صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: کیف تجدینک قالت: و اللّه لقد طال سقمى و اشتدّ حزنى و قال لى النساء: زوّجک أبوک فقیرا لا مال له فقال لها: أما ترضین أنّى زوّجتک أقدم امّتى سلما و أکثرهم علما و أفضلهم حلما قالت: بلى رضیت یا رسول اللّه.
و روى هذا الخبر عن أبی أیّوب الأنصارىّ، و عن الصادق جعفر بن محمّد علیهما السّلام، و السدى، و ابن عبّاس، و جابر بن عبد اللّه الأنصارىّ، و أسماء بنت عمیس، و امّ أیمن. الثالث: روى عن أبی رافع قال: أتیت أباذرّ بالربذه اودّعه. فقال لى: ستکون فتنه فاتّقوا اللّه و علیکم بالشیخ علىّ بن أبی طالب فاتّبعوه فإنّی سمعت رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم یقول له: أنت أوّل من آمن بى و أوّل من یصافحنی یوم القیامه و أنت الصدّیق الاکبر و أنت الفاروق الّذی یفرّق بین الحق و الباطل و أنت یعسوب المؤمنین. الرابع: عن أبی أیّوب الأنصارىّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم قال: لقد صلّت الملائکه علىّ و على علىّ سبع سنینّ و ذلک أنّه لم یصلّ معى رجل فیها غیره. و اعلم أنّه ربّما اعترض بعض الجهّال فقال: إنّ إسلامه علیه السّلام لم یکن معتبرا لکونه کان دون البلوغ. فجوابه من وجوه: أحدها: لا نسلّم أنّه کان دون البلوغ. و مستند هذا المنع وجوه: أحدها: روایه شدّاد بن أوس قال سألت خباب بن الأرتّ عن سنّ علىّ یوم أسلم. و قال أسلم و هو ابن خمس عشره سنه و هو یومئذ بالغ مستحکم البلوغ. الثانی: ما رواه أبو قتاده عن الحسن أنّ أوّل من أسلم علیّ بن أبی طالب و هو ابن خمس عشره سنه. الثالث: عن حذیفه بن الیمانىّ قال کنّا نعبد الحجاره و نشرب الخمر و علىّ من أبناء أربع عشره سنه یصلّى مع رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم لیلا و نهارا و قریش یومئذ تسافهه ما یذبّ عنه إلّا علىّ. الثانی: أنّ المتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ المسلم و الکافر إنّما هو البالغ دون الصبىّ و المبادره إلى الّذهن دلیل الحقیقه فالواجب إذن أن یرجع إلى إطلاق قولهم أسلم علىّ. فإنّ ذلک یشهد بکونه بالغا عاقلا لما یفعله خصوصا فی البلاد الحارّه مثل مکّه فإنّ- العاده فی المزاج الصحیح فیها أن یبلغ صاحبه فیما دون خمس عشره سنه و ربّما احتلم و هو ابن اثنى عشره سنه. الثالث: و هو الحاسم لمادّه الإشکال أنّه علیه السّلام إمّا أن یکون أسلم و هو بالغ أو لم یکن فإن کان الأوّل فقد حصل الغرض و إن لم یکن فلا معنى للکفر فی حقّه إذ کان علیه السّلام مولودا على الفطره فمعنى الإسلام فی حقّه إذن دخوله فی طاعه اللّه و رسوله و الاستسلام لأوامرهما فله إذن الإسلام الفطرىّ و الإیمان الخالص الوارد على نفس قدسیّه لم تتدّنس بأدناس الجاهلیّه و عباده الأصنام و الاعتقادات الباطله المضادّه للحقّ الّتی صارت ملکات فی نفس من أسلم بعد علوّ السنّ. فکان ایمانه باللّه و رسوله واردا على نفس صاف لوحها عن کدر الباطل فهی المنتقشه بالحقّ متمثّله به. و کانت غایه إسلام غیره أن یمحو على طول الریاضه من نفوسهم الآثار الباطله و ملکات السوء فأین أحدهما من الآخر
الثامنه: کونه علیه السّلام یرى نور الوحى بالرساله و یشمّ ریح النبوّه، و سماعه لرنّه الشیطان.
و هذه أعلى مراتب الأولیاء، و استعار لفظ النور لما یشاهده بعین بصیرته الباقیه من أسرار الوحى و الرساله و علوم التنزیل و دقایق التأویل و إشراقها على لوح نفسه القدسیّه، و وجه الاستعاره کون هذه العلوم و الأسرار هادیه فی سبیل اللّه إلیه من ظلمات الجهل کما یهدى النور من الطرق المحسوسه، و رشّح تلک الاستعاره بذکر الرؤیه لأنّ النور حظّ البصر، و کذلک استعار لفظ الریح لما أدرکه من مقام النبوّه و أسرارها، و رشّح بذکر الشمّ لأنّ الریح حظّ القوّه الشامّه، و أمّا سماعه لرنّه الشیطان فقد علمت کیفیّه سماع الإنسان لصوت الملک و الشیطان و کیفیّه رؤیته لصورته و أنّ ذلک باستعانه من النفس بالقوّه المتخیّله فی اقتناص المعانی المعقوله و حطّها إلى لوح الخیال مشاهده للحسّ المشترک مسموعه.
و قد استلزمت هذه الإشاره أنّه علیه السّلام استعدّ لسماع صوت الشیطان فی حزنه حین أیس من اتّباع الخلق له و انقیادهم لأمره و هو معنى عبادته إذ أصل العباده الخضوع.
و کیفیّه ذلک أنّ نفسه القدسیّه أخذت معنى الشیطان مقرونا بمعنى الیأس و الحزن، و کسته المتخیّله صوره حزین صارخ، و حطّته إلى لوح الخیال فصار مسموع الرنّه له. و یؤیّد ذلک قوله صلّى اللّه علیه و آله و سلّم حین سأله عن ذلک: إنّک تسمع ما أسمع و ترى ما أرى إلّا أنّک لست بنبىّ. فإنّه شهد له فی ذلک بالوصول إلى مقام سماع الوحى و کلام الملک و صوت الشیطان و سائر ما یراه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و یسمعه ممّا قویت علیه نفسه القدسیّه إلّا کونه نبیّا فإنّ مقام النبوّه لا یتحقّق للإنسان إلّا بالشرط الّذی أشرنا إلیه فی المقدّمات و فرّقنا بین النبىّ و غیره من سائر النفوس الکامله، و هو کون الإنسان مخاطبا من السماء بإصلاح أمر أبناء نوعه فی معاشهم و معادهم و ذلک مقام أعلى و أکمل من کلّ مقام یبلغه إنسان بقوّته، و روى عن الصادق علیه السّلام أنّه قال: کان علىّ علیه السّلام یرى مع النبیّ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم قبل الرساله الضوء و یسمع الصوت، و قال له الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: لولا أنّى خاتم الأنبیاء لکنت شریکا فی النبوّه فإن لا تکن نبیّا فأنت وصىّ نبىّ و وارثه بل أنت سیّد الأوصیاء و إمام الأتقیاء. ثمّ لمّا نفى عنه مقام النبوّه جبره [أخبره ح] به مقام الوزاره إشاره إلى أنّه الصالح لتدبیر أحوال الخلق فی معاشهم و معادهم من ورائه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و بعده المعین له على ذلک.
ثمّ شهد له بأنّه على خیر. و أشار به إلى ما هو علیه من الطریقه المحموده و استقامه السیره فی خدمته و تربیته. و ذلک خیر کثیر. و فی مسند أحمد بن حنبل عن علىّ قال: کنت مع رسول اللّه صلّى اللّه علیه و سلّم اللیله الّتی اسری به فیها و هو بالحجر یصلّى فلمّا قضى صلاته و قضیت صلاتى سمعت رنّه شدیده فقلت: یا رسول اللّه ما هذه الرنّه و قال ألا تعلم هذه رنّه الشیطان علم أنّى اسرى الیله إلى السماء فأیس من أن یعبد فی هذه الأرض. و أمّا حدیث الوزاره فروى أنّه لمّا نزل قوله وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ«» دعانى رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و أمرنى أن أصنع صاعا من طعام و أجعل علیه رجل شاه و أملأ له عسّا من لبن ففعلت ما أمرنى به. ثمّ أمرنى بجمع بنى عبد المطّلب فجمعتهم یومئذ و هم أربعون رجلا فیهم أعمامه أبو طالب و حمزه و العبّاس و أبو لهب فلمّا اجتمعوا دعا بالطعام الّذی صنعه فوضعه ثمّ تناول مضغه من لحم فشقّها بأسنانه ثمّ ألقاها فى نواحى الصحفه و قال: کلوا باسم اللّه فأکلوا حتّى ما بهم إلى شیء من حاجه. و الّذی نفس محمّد بیده کان الرجل الواحد منهم لیأکل ما قدّمته لجمیعهم. ثمّ قال اسق القوم یا علىّ. فجئتهم بذلک العسّ فشربوا منه حتّى رووا جمیعا، و أیم اللّه کان الرجل الواحد لیشرب منه مثله. ثمّ قال لهم: یا بنى عبد المطّلب إنّی و اللّه ما أعلم شابّا فی العرب جاء قومه بأفضل ما جئتکم به إنّی قد جئتکم بخیر الدنیا و الآخره و قد أمرنى اللّه أن أدعوکم إلیه فأیّکم یوازرنی على هذا الأمر على أن یکون أخى و وصیّى و خلیفتى فیکم فأحجم القوم عنها جمیعا فقلت و إنّى لأحدثهم سنّا و أرمصهم عینا و أعظمهم بطنا و أحمشهم ساقا: أنا یا رسول اللّه أکون وزیرک علیه فأعاد القول. فأمسکوا. و أعدت ما قلت. فأخذ برقبتى ثمّ قال لهم: هذا أخى و وصیّى و خلیفتى فیکم فاسمعوا له و أطیعوا. فقام القوم یضحکون یقولون لأبی طالب: قد أمرک أن تسمع لابنک و تطیع.
التاسعه: کونه معه حین أتاه الملأ من قریش و سألوه ما سألوا من دعوه الشجره و تصدیقه علیه السّلام له فی ذلک و ایمانه به. و قد علمت فیما سلف أنّ نفوس الأنبیاء علیهم السّلام لها تصرّف فی هیولى عالم الکون و الفساد فیستعدّ عن نفوسهم لقبول الامور الخارقه للعادات الخارجه عن وسع غیرهم من أبناء نوعهم. و صوره الحال فی سؤالهم و کیفیّه دعوته صلّى اللّه علیه و آله و سلّم للشجره و إجابتهم و تکذیبهم بذلک و تصدیقه علیه السّلام له مستوفی فی کلامه، و ذلک من قوله: و لقد کنت. إلى قوله: یعنونی. فأمّا حکمه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم بأنّهم لا یفیئون إلى خیر و أنّ منهم من یطرح فی القلیب و منهم من یحزّب الأحزاب فمن غیب اللّه الّذی اطّلعه علیه و ارتضاه له فعلمه بحسب قوّته الحدسیّه القدسیّه. و القلیب هو قلیب بدر، و من طرح فیه کعتبه و شیبه ابنى ربیعه و امیّه بن عبد شمس و أبی جهل و الولید بن المغیره و غیرهم طرحوا فیه بعد انقضاء الحرب و کان ذلک الخبر من أعلام نبوّته صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و من یحزّب الأحزاب هو أبو سفیان و عمرو بن عبدودّ و صفوان بن امیّه و عکرمه بن أبی جهل و سهل بن عمرو و غیرهم.
و أمّا حدیث الشجره فمشهور مستفاض رواه المحدّثون فی کتبهم، و ذکره المتکلّمون فی معجزاته صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و منهم من روى ذلک مختصرا أنّه دعا شجره فأقبلت تخدّ الأرض خدّا. و نقله البیهقیّ فی کتاب دلایل النبوّه، و أمّا نداؤه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم للشجره.
و قوله لها: إن کنت تؤمنین باللّه. إلى قوله: بإذن اللّه. فقد علمت أنّ الخطاب مخصوص فی عرف العقلاء لمن یعقل لکنّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم لمّا وجّه نفسه القدسیّه من إعداد الشجره لما یروم منها و علم أنّه واجبه الاستعداد بذلک لقبول أمر اللّه بما أراد منها خاطبها خطاب من یعقل استعاره ملاحظه لشبهها بمن یعقل فی إجابه ندائه و إتیانه، و فایده ذلک الخطاب أن یکون وجود ما رام منها عقیب خطابه أغرب و فی نفوس الحاضرین أبلغ و أعجب فإذا کان وقوع تلک الحال بها غریبا کان کونها على تلک الحال وفق خطابه و دعائه لها أغرب لزیاده ایهام کونها سمعت ذلک النداء و عقلت ذلک الخطاب مع أنّها لیس من شأنها ذلک، و أعجب فی نفوس السامعین. و لذلک خرج هذا عن کونه سفها و عبثا.
و قال الإمام الوبرىّ- رحمه اللّه- : و نحو ذلک قوله تعالى وَ قِیلَ یا أَرْضُ ابْلَعِی ماءَکِ وَ یا سَماءُ أَقْلِعِی«».
و اعلم أنّ ذلک على رأى الأشعریّه أمر ظاهر لأنّ البنیه المخصوصه لیست شرطا فی حصول الحیاه و ما یکون مشروطا بها من السمع و الفهم فلذلک جاز أن یکون اللّه تعالى خلق فی الشجره علما و سمعا قبلت بها خطابه علیه السّلام.
و قال الإمام الوبرىّ: الخطاب فی الأصل للّه تعالى فکأنّه قال: اللّهم إن کانت هذه الشجره من آثارک الشاهده بوجودک و أنت مرسل لى فاجعل ما سألت منها شاهدا على صدق دعواى. و لمّا کانت الشجره محلّ ما سأل من اللّه خاطبها لذلک. فعلى هذا یکون مجازا من باب إقامه المسبّب مقام السبب. قال: و یحتمل أن یکون الخطاب فی الأصل للملائکه الموکّلین بالشجر.
قوله: و إنّى لمن قوم. إلى قوله: لائم.
کنایه عن بلوغه فی طاعه اللّه الغایه المطلوبه منه فإنّه علیه السّلام لم یقف دون غایه منها حتّى یلام على النقص فیها.
و قوله: سیماهم سیما الصدّیقین. إلى آخر الصفات.
فالقوم هم المتّقون الّذین سأله همّام عن صفتهم. و الصفات المذکوره بعض صفاتهم و قد سبقت مستوفاه فی خطبه مفرده. و ذکر هاهنا عشرا: إحداها: أنّ علاماتهم علامات الصدّیقین و هم الملازمون للصدق فی أقوالهم و أفعالهم طاعه للّه تعالى و قد عرفت علاماتهم فی خطبه همّام. الثانیه: و کذلک کلامهم کلام الأبرار من الأمر بالمعروف و النهى عن المنکر و الذکر الدائم لمعبودهم الحقّ. الثالثه: کونهم عمّار اللیل. و کنّى بعمارتهم له عن قیامهم فیه بالعباده. روى أنّ أحدهم کان إذا کسل عن العمل علّق نفسه بحبل حتّى یصبح عقوبه لها. الرابعه: استعار لفظ المنار لهم بالنهار باعتبار کونهم یهدون الخلق إلى طریق اللّه کالمنار إلى الطریق المحسوس، و کذلک لفظ الحبل للقرآن باعتبار کونه سببا لمتعلّمیه و متدبّریه إلى التروّى من ماء الحیاه الباقیه کالعلوم و الأخلاق الفاضله کالحبل الّذی هو سبب الارتواء و الاستقاء من الماء، أو باعتبار کونه عصمه لمن تمسّک به صاعدا من درکات الجهل إلى أقصى درجات العقل کالحبل یصعد فیه من السفل إلى العلوّ. و لفظ القرآن مجرور بعطف البیان. الخامسه: و کذلک استعار وصف إحیاء السنن لهم باعتبار إقامتها و إبقاء العمل بها. السادسه: عدم الاستکبار و العلوّ منهم. و لمّا کان الاستکبار فی الإنسان رذیله کان عدمه عنه فضیله. السابعه: عدم الغلول. و هو فضیله، لکون الغلول مستلزما لرذائل کالشره و الخیانه و الحرص و الدنائه و غیرها و کان عدمه کمالا. الثامنه: کونهم لا یفسدون. و لمّا کان کلّ فساد مستلزم رذیله أو رذائل کالزنا المستلزم لرذیله الفجور و کالقتل المستلزم لرذیله الظلم و کذلک سائرها کان عدمه کمالا. التاسعه: کون قلوبهم فی الجنان. و ذلک أنّک علمت أنّ أعلى غرفات الجنان و درجاتها هو المعارف الإلهیّه و القعود فی مقاعد الصدق عند الملیک المقتدر و ذلک من مقامات العارفین و أولیاء اللّه الصدّیقین. العاشره: کون أجسادهم فی العمل. فالواو فی قوله: و أجسادهم. یحتمل أن یکون للحال أى أنّ قلوبهم فی الجنان ما یکون أجسادهم مستغرقه الحرکات و السکنات فی الأعمال الصالحات أُولئِکَ الَّذِینَ صَدَقُوا وَ أُولئِکَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۴ ، صفحهى ۲۳۳
بازدیدها: ۳۰