و من خطبة له عليه السّلام
اللغة
أقول: الوهل بالتحريك الفزع يقال و هل يوهل وهلا: فزع،
المعنى
و اعلم أنّ الإنسان ما دام ملتحفا بجلباب البدن فإنّه محجوب بظلمة الهيئات البدنيّة و المعارضات الوهميّة و الخياليّة عن مشاهدة أنوار عالم الغيب و الملكوت و ذلك الحجاب أمر قابل للزيادة و النقصان و القوّة و الضعف، و الناس فيها على مراتب فأعظمهم حجبا و أكثفهم حجابا الكفّار كما أشار إليه القرآن الكريم مثلا في حجبهم «أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ»«» الآية فمثل الكافر كرجل وقع في بحر لجّيّ صفته كذلك فأشار بالبحر اللجّيّ إلى الدنيا بما فيها من الأخطار المهلكة، و الموج الأوّل موج الشهوات الداعية إلى الصفات البهيميّة، و بالحريّ أن يكون هذا الموج مظلما إذ حبّك الشيء يعمي و يضمّ، و الموج الثاني موج الصفات السبعيّة الباعثة على الغضب و العداوة و الحقد و الحسد و المباهات فبالحريّ أن يكون مظلما لأنّ الغضب غول العقل و بالحريّ أن يكون هو الموج الأعلى لأنّ الغضب في الأكثر مستول على الشهوات حتّى إذا هاج أذهل عنها، و السحاب هو الاعتقادات الباطلة و الخيالات الفاسدة الّتي صارت حجابا لبصيرة الكافر عن إدراك نور الحقّ إذ خاصيّة الحجاب أن يحجب نور الشمس عن الأبصار الظاهرة و إذا كانت هذه كلّها مظلمة فبالحريّ أن يكون ظلمات بعضها فوق بعض، و أمّا أخفّهم حجبا و أرّقهم حجابا فهم الّذين بذلوا جهدهم في لزوم أوامر اللّه و نواهيه و بالغوا في تصفية بواطنهم و صقال ألواح نفوسهم و إلقاء حجب الغفلة و أستار الهيئات البدنيّة فأشرقت عليهم شموس المعارف الإلهيّة و سالت إلى أودية قلوبهم مياه الجود الربانيّ المعطي لكلّ قابل ما يقبله، فهؤلاء و إن كانوا قد بلغوا الغاية من الجهد في رفع الحجب و غسل دون الباطل عن نفوسهم إلّا أنّهم ما داموا في هذه الأبدان فهم في أغطية من هيئاتها و حجب من أستارها و إن ضعفت تلك الحجب و رقّت تلك الأغشية، و ما بين هاتين المرتبتين درجات من الحجب متفاوتة و مراتب متصاعدة متنازلة و بحسب تفاوتها يكون تفاوت النفوس في الاستضاءة بأنوار العلوم و قبول الانتقاش بالمعارف الإلهيّة و الوقوف على أسرار الدين، و بحسب تفاوت هذه الحجب تكون تفاوت ورود النار كما قال تعالى «وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها»«» و لن يخلص الإنسان من شوائب هذه الحجب و ظلمتها إلّا بالخلاص عن هذا البدن، و طرحه، و حينئذ «تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً»«» فتكون مشاهدة بعين اليقين ما أعدّ لها من خير و ماهيّىء لها من شرّ بحسب استعدادها بما كسبت من قبل، فأمّا قبل المفارقة فإنّ حجاب البدن مانع لها عن مشاهدة تلك الامور كما هي و إن حصلت على اعتقاد جازم برهانيّ أو نوع من المكاشفة الممكنة كما في حقّ كثير من أولياء اللّه إلّا أنّ ذلك الوقوف و الاطّلاع يكون كالمشاهدة لا أنّها مشاهدة حقيقيّة خالصة إذ لا تنفّك عن شائبة الوهم و الخيال،
و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله حاكيا عن ربّه: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر بل ما اطّلعتهم عليه أي وراء ما اطّلعتهم عليه، و هو إشارة إلى طور المشاهدة الخالصة عن الشوائب الّتي هي عين اليقين بعد الموت، و قد يسمّى ما أدركه أهل المكاشفات بمكاشفاتهم في حياتهم الدنيا عين اليقين، فأمّا إدراك من دون هؤلاء لتلك الامور فما كان منها مؤكّدا بالشعور بعدم إمكان النقيض فهو علم اليقين، و قد يختصّ علم اليقين في عرف الصوفيّة بما تميل النفس إلى التصديق به و يغلب عليها و يستولى حتّى يصير هو المتحكّم المتصرّف فيها بالتحريص و المنع فيقال فلان ضعيف اليقين بالموت إذا لم يهتمّ بالاستعداد له فكأنّه غير موقن به مع أنّه لا يتطرّق إليه فيه شكّ، و قويّ اليقين به إذا غلب ذلك على قلبه حتّى استغرق همّته بالتهيّؤ له. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ قوله عليه السّلام فإنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم و وهلتم. شرطيّة متّصلة نبّه فيها على أنّ ورائهم من أهوال الآخرة و عذابها ممّا شاهده من سبق منهم إلى الآخرة ما لا يشاهدونه الآن بعين و إن علموه يقينا، و بيّن فيها لزوم جزعهم و فزعهم و سمعهم و طاعتهم لداعي اللّه على تقدير مشاهدتهم بعين اليقين لتلك الامور، و هذه الملازمة ممّا شهد البرهان بصحّتها و أشار التنزيل الإلهيّ إلى حقيقتها، و ذلك قوله تعالى «رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ»«» و ذلك مقتضى شهادتهم لأهوال الآخرة، و جزعهم من تلك المشاهدة فيجيبهم لسان العزّة «أو لم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر و جائكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير»«» قوله و لكن محجوب عنكم ما قد عاينوا.
استثناء لملزوم نقيض تالي هذه المتّصلة إذ حجب تلك الأحوال عن بصائرهم مستلزم لعدم فزعهم و جزعهم و هو في صورة اعتذار منهم نطق به لسان حالهم. قوله و قريب ما يطرح الحجاب. ما مصدريّة في موضع رفع بالابتداء و قريب خبره، و هو إشارة إلى نحو تزييف لذلك العذر في صورة التهديد لهم إن جعلوا ذلك الخيال عمدة في التقصير عن العمل فإنّه عمّا قليل يرفع حجب الأبدان عن أحوالهم القيامة و أهوال يوم الطامّة، و تكشط سماء أغطيتها من بصائر النفوس فتشاهد الجحيم قد سعّرت و الجنّة قد ازلفت «و إذا السماء كشطت و إذا الجحيم سعّرت و إذا الجنّة ازلفت علمت نفس ما أحضرت»«» و كما قال تعالى «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»«» قوله و لقد بصّرتم إن أبصرتم و اسمعتم إن سمعتم و هديتم إن اهتديتم.
إشارة إلى ما يشبه جوابا ثانيا عن صورة العذر السابق لحالهم و هو وجود الحجاب المانع عن مشاهدة ما يوجب الجزع و الفزع، و ذلك أنّ الحجاب و إن كان قائما الآن و سائرا لتلك الامور عنكم فقد نصّرتم بها و أوضحت لكم بالعبر و الأمثال على ألسنة الرسل عليهم السّلام، و اسمعتم إيّاها في الكتب الإلهيّة و السنن النبويّة، و هديتم عليها بالدلائل الواضحة و الحجج القاطعة بحيث صارت كالمشاهدة لكم و المعلومة عيانا لا شكّ فيها، فلا عذر إذن بالحجاب، و تخصيص السمع و البصر بالذكر لأنّهما الآلتان اللتان عليهما مدار الاعتبار بامور الآخرة، و أشار بالهداية إلى حظّ العقل من غير نظر إلى آلة، و نبّه بإيراد إن الشرطيّة في المواضع الثلاثة على أنّه يجد الشكّ في إبصارهم لما بصّروا به و سماعهم لما اسمعوا و اهتدائهم بما هدوا به، و كلّ ذلك تنفير لهم على القرار على الغفلة و تنبيه على الفرار إلى اللّه في طرق الاعتبار. قوله بحقّ أقول لكم لقد جاهرتكم العبر و زجرتم بما فيه مزدجر. لمّا قدّم أنّهم بصّروا و اسمعوا أردف ذلك ببيان ما بصّروا به و اسمعوا إلى ما بصّروا به بمجاهرة العبر بالمصائب الواقعة بهم و بمن خلا قبلهم من القرون، و إلى ما اسمعوا به بالزجر بما فيه مزدجر، و هي النواهي المؤكّدة المردفة بالوعيدات الهائلة و العقوبات الحاضرة الّتي في أقلّها ازدجار لذوي الألباب كما قال تعالى «وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ»«» و قوله و ما يبلغ عن اللّه بعد رسل السماء إلّا البشر. إشارة إلى أنّه ليس في الإمكان وراء ما جذبتم به إلى اللّه تعالى على ألسنة رسله طريقة اخرى تدعون بها، إذ ما يمكن دعوتكم إلّا بالوعد و الوعيد و الأمثال و التذكير بالعبر اللاحقة لقوم حقّت عليهم كلمة العذاب، و نحو ذلك لا يمكن إيضاحه لكم مشاهدة إلّا على ألسنة الرسل البشريّة عليهم السّلام فلا يمكن أن يبلغ إليكم رسالات ربّكم بعد رسل السماء الّتي هي الملائكة إلّا هم فينبغي أن يكون ذلك أمرا كافيا لكم في الالتفات إلى اللّه.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم)، ج 1 ، صفحهى 327