google-site-verification: googledc28cebad391242f.html
220-240 خطبه ها شرح ابن ابی الحدیدخطبه ها شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

خطبه 223 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)( اول)

الجزء الثاني عشر

تتمة باب الخطب و الأوامر

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل

223 و من كلام له ع

لِلَّهِ بِلَادُ فُلَانٍ فَلَقَدْ قَوَّمَ الْأَوَدَ وَ دَاوَى الْعَمَدَ- وَ أَقَامَ السُّنَّةَ وَ خَلَّفَ الْفِتْنَةَ- ذَهَبَ نَقِيُّ الثَّوْبِ قَلِيلَ الْعَيْبِ- أَصَابَ خَيْرَهَا وَ سَبَقَ شَرَّهَا- . أَدَّى إِلَى اللَّهِ طَاعَتَهُ وَ اتَّقَاهُ بِحَقِّهِ- رَحَلَ وَ تَرَكَهُمْ فِي طُرُقِ مُتَشَعِّبَةٍ- لَا يَهْتَدِي بِهَا الضَّالُّ وَ لَا يَسْتَيْقِنُ الْمُهْتَدِي العرب تقول لله بلاد فلان- و لله در فلان و لله نادي فلان- و لله نائح فلان- و المراد بالأول لله البلاد التي أنشأته و أنبتته- و بالثاني لله الثدي الذي أرضعه- و بالثالث لله المجلس الذي ربي فيه- و بالرابع لله النائحة التي تنوح عليه و تندبه- ما ذا تعهد من محاسنه- .

و يروى لله بلاء فلان أي لله ما صنع- و فلان المكنى عنه عمر بن الخطاب- و قد وجدت النسخة التي بخط الرضي أبي الحسن- جامع نهج البلاغة- و تحت فلان عمر-حدثني بذلك فخار بن معد الموسوي الأودي الشاعر- و سألت عنه النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي- فقال لي هو عمر- فقلت له أ يثني عليه أمير المؤمنين ع هذا الثناء- فقال نعم- أما الإمامية فيقولون إن ذلك من التقية- و استصلاح أصحابه- و أما الصالحيون من الزيدية فيقولون- إنه أثنى عليه حق الثناء- و لم يضع المدح إلا في موضعه و نصابه- و أما الجارودية من الزيدية فيقولون- إنه كلام قاله في أمر عثمان أخرجه مخرج الذم له- و التنقص لأعماله- كما يمدح الآن الأمير الميت في أيام الأمير الحي بعده- فيكون ذلك تعريضا به- .

فقلت له إلا أنه لا يجوز التعريض- و الاستزادة للحاضر بمدح الماضي- إلا إذا كان ذلك المدح صدقا- لا يخالطه ريب و لا شبهة- فإذا اعترف أمير المؤمنين بأنه أقام السنة- و ذهب نقي الثوب قليل العيب- و أنه أدى إلى الله طاعته و اتقاه بحقه- فهذا غاية ما يكون من المدح- و فيه إبطال قول من طعن على عثمان بن عفان- . فلم يجبني بشي‏ء و قال هو ما قلت لك- .

فأما الراوندي فإنه قال في الشرح- إنه ع مدح بعض أصحابه بحسن السيرة- و إن الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله ص- من الاختيار و الأثرة- . و هذا بعيد لأن لفظ أمير المؤمنين يشعر إشعارا ظاهرا- بأنه يمدح واليا ذا رعية و سيرة- أ لا تراه كيف يقول- فلقد قوم الأود و داوى العمد- و أقام السنة و خلف الفتنة- و كيف يقول أصاب خيرها و سبق شرها- و كيف يقول أدى إلى الله طاعته- و كيف يقول رحل و تركهم في طرق متشعبة- .

و هذا الضمير و هو الهاء و الميم في قوله ع و تركهم- هل يصح أن يعود إلا إلى الرعايا- و هل يسوغ أن يقال هذا الكلام لسوقة من عرض الناس- و كل من مات قبل وفاة النبي ص كان سوقة لا سلطان له- فلا يصح أن يحمل هذا الكلام- على إرادة أحد من الذين قتلوا- أو ماتوا قبل وفاة النبي ص- كعثمان بن مظعون أو مصعب بن عمير- أو حمزة بن عبد المطلب أو عبيدة بن الحارث- و غيرهم من الناس- و التأويلات الباردة الغثة لا تعجبني- على أن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري قد صرح أو كاد يصرح- بأن المعني بهذا الكلام عمر- قال الطبري لما مات عمر بكته النساء- فقالت إحدى نوادبه وا حزناه على عمر- حزنا انتشر حتى ملأ البشر- و قالت ابنة أبي حثمة وا عمراه أقام الأود و أبرأ العمد- و أمات الفتن و أحيا السنن- خرج نقي الثوب بريئا من العيب- .

قال الطبري فروى صالح بن كيسان عن المغيرة بن شعبة قال لما دفن عمر أتيت عليا ع- و أنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئا- فخرج ينفض رأسه و لحيته و قد اغتسل- و هو ملتحف بثوب لا يشك أن الأمر يصير إليه- فقال رحم الله ابن الخطاب لقد صدقت ابنة أبي حثمة- ذهب بخيرها و نجا من شرها- أما و الله ما قالت و لكن قولت – . و هذا كما ترى يقوي الظن- أن المراد و المعني بالكلام إنما هو عمر بن الخطاب- .

قوله فلقد قوم الأود أي العوج- أود الشي‏ء بالكسر يأود أودا أي أعوج- و تأود العود يتأود- . و العمد انفضاخ سنام البعير- و منه يقال للعاشق عميد القلب و معموده- . قوله أصاب خيرها أي خير الولاية- و جاء بضميرها و لم يجر ذكرها- لعادة العرب في أمثال ذلك- كقوله تعالى حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ- . و سبق شرها أي مات أو قتل قبل الأحداث- و الاختلاط الذي جرى بين المسلمين- . قوله و اتقاه بحقه أي بأداء حقه و القيام به- . فإن قلت و أي معنى في قوله و اتقاه بأداء حقه- و هل يتقى الإنسان الله بأداء الحق- إنما قد تكون التقوى علة في أداء الحق- فأما أن يتقي بأدائه فهو غير معقول- . قلت أراد ع أنه اتقى الله- و دلنا على أنه اتقى الله بأدائه حقه- فأداء الحق علة في علمنا بأنه قد اتقى الله سبحانه- .

ثم ذكر أنه رحل و ترك الناس في طرق متشعبة متفرقة- فالضال لا يهتدي فيها- و المهتدي لا يعلم أنه على المنهج القويم- و هذه الصفات إذا تأملها المنصف- و أماط عن نفسه الهوى- علم أن أمير المؤمنين ع لم يعن بها إلا عمر- لو لم يكن قد روي لنا توقيفا و نقلا أن المعني بها عمر- فكيف و قد رويناه عمن لا يتهم في هذا الباب نكت من كلام عمر و سيرته و أخلاقه و نحن نذكر في هذا الموضع- نكتا من كلام عمر و سيرته و أخلاقه- .

أتي عمر بمال فقال له عبد الرحمن بن عوف- يا أمير المؤمنين لو حبست من هذا المال في بيت المال- لنائبة تكون أو أمر يحدث- فقال كلمة ما عرض بها إلا شيطان- كفاني حجتها و وقاني فتنتها- أعصي الله العام مخافة قابل أعد لهم تقوى الله- قال الله سبحانه- وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً- وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ- . استكتب أبو موسى الأشعري نصرانيا- فكتب إليه عمر اعزله و استعمل بدله حنيفيا- فكتب له أبو موسى- إن من غنائه و خيره و خبرته كيت و كيت- فكتب له عمر ليس لنا أن نأتمنهم و قد خونهم الله- و لا أن نرفعهم و قد وضعهم الله- و لا أن نستنصحهم في الدين و قد وترهم الإسلام- و لا أن نعزهم- و قد أمرنا بأن يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون- . فكتب أبو موسى أن البلد لا يصلح إلا به- فكتب إليه عمر مات النصراني و السلام- .

و كتب إلى معاوية إياك و الاحتجاب دون الناس- و ائذن للضعيف و أدنه حتى ينبسط لسانه و يجترئ قلبه- و تعهد الغريب فإنه إذا طال حبسه و دام إذنه- ضعف قلبه و ترك حقه عزل عمر زيادا عن كتابة أبي موسى الأشعري- في بعض قدماته عليه- فقال له عن عجز أم عن خيانة- فقال لا عن واحدة منهما- و لكني أكره أن أحمل على العامة فضل عقلك- .

و قال إني و الله لا أدع حقا لله لشكاية تظهر- و لا لضب يحتمل و لا محاباة لبشر- و إنك و الله ما عاقبت من عصى الله فيك- بمثل أن تطيع الله فيه- . و كتب إلى سعد بن أبي وقاص- يا سعد سعد بني أهيب- إن الله إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه- فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس- و اعلم أن ما لك عند الله مثل ما لله عندك- . و سأل رجلا عن شي‏ء فقال الله أعلم- فقال قد شقينا إن كنا لا نعلم أن الله أعلم- إذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقل لا أدري- .

و قال عبد الملك على المنبر- أنصفونا يا معشر الرعية- تريدون منا سيرة أبي بكر و عمر- و لم تسيروا في أنفسكم و لا فينا سيرة أبي بكر و عمر- نسأل الله أن يعين كلا على كل- . و دخل عمر على ابنه عبد الله- فوجد عنده لحما عبيطا معلقا- فقال ما هذا اللحم قال اشتهيت فاشتريت- فقال أ و كلما اشتهيت شيئا أكلته- كفى بالمرء سرفا أن أكل كل ما اشتهاه- . مر عمر على مزبلة فتأذى بريحها أصحابه- فقال هذه دنياكم التي تحرصون عليها- .

و من كلامه للأحنف- يا أحنف من كثر ضحكه قلت هيبته- و من مزح استخف به- و من أكثر من شي‏ء عرف به- و من كثر كلامه كثر سقطه- و من كثر سقطه قل حياؤه- و من قل حياؤه قل ورعه و من قل ورعه مات قلبه- . و قال لابنه عبد الله يا بني اتق الله يقك- و أقرض الله يجزك و اشكره يزدك- و اعلم أنه لا مال لمن لا رفق له- و لا جديد لمن لا خلق له و لا عمل لمن لا نية له- . و خطب يوم استخلف- فقال أيها الناس- إنه ليس فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف- حتى آخذ الحق له- و لا أضعف من القوي حتى آخذ الحق منه- .

و قال لابن عباس يا عبد الله- أنتم أهل رسول الله و آله و بنو عمه- فما تقول منع قومكم منكم- قال لا أدري علتها و الله ما أضمرنا لهم إلا خيرا- قال اللهم غفرا- إن قومكم كرهوا أن يجتمع لكم النبوة و الخلافة- فتذهبوا في السماء شمخا و بذخا- و لعلكم تقولون إن أبا بكر أول من أخركم- أما إنه لم يقصد ذلك- و لكن حضر أمر لم يكن بحضرته أحزم مما فعل- و لو لا رأي أبي بكر في لجعل لكم من الأمر نصيبا- و لو فعل ما هنأكم مع قومكم- إنهم ينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره- . و كان يقول ليت شعري متى أشفى من غيظي- أ حين أقدر فيقال لي لو عفوت- أم حين أعجل فيقال لو صبرت- . و رأى أعرابيا يصلي صلاة خفيفة- فلما قضاها قال اللهم زوجني الحور العين- فقال له لقد أسأت النقد و أعظمت الخطبة- .

و قيل له كان الناس في الجاهلية- يدعون على من ظلمهم فيستجاب لهم- و لسنا نرى‏ ذلك الآن- قال لأن ذلك كان الحاجز بينهم و بين الظلم- و أما الآن فالساعة موعدهم و الساعة أدهى و أمر- . و من كلامه- من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن- و من كتم سره كانت الخيرة بيده- . ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك- و لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم شرا- و أنت تجد لها في الخير محملا- أو عليك بإخوان الصدق و كيس أكياسهم- فإنهم زينة في الرخاء و عدة عند البلاء- و لا تتهاونن بالخلق فيهينك الله- و لا تعترض بما لا يعنيك- و اعتزل عدوك و تحفظ من خليلك إلا الأمين- فإن الأمين من الناس لا يعادله شي‏ء- و لا تصحب الفاجر فيعلمك من فجوره و لا تفش إليه سرك- و استشر في أمرك أهل التقوى- و كفى بك عيبا أن يبدو لك من أخيك- ما يخفى عليك من نفسك- و أن تؤذي جليسك بما تأتي مثله- .

و قال ثلاث يصفين لك الود في قلب أخيك- أن تبدأه بالسلام إذا لقيته- و أن تدعوه بأحب أسمائه إليه- و أن توسع له في المجلس- . و قال أحب أن يكون الرجل في أهله كالصبي- و إذا أصيخ إليه كان رجلا- . بينا عمر ذات يوم إذا رأى شابا يخطر بيديه- فيقول أنا ابن بطحاء مكة كديها و كداها- فناداه عمر فجاء فقال إن يكن لك دين فلك كرم- و إن يكن لك عقل فلك مروءة- و إن يكن لك مال فلك شرف- و إلا فأنت و الحمار سواء- .

و قال يا معشر المهاجرين- لا تكثروا الدخول على أهل الدنيا- و أرباب الإمرة و الولاية- فإنه مسخطة للرب- و إياكم و البطنة فإنها مكسلة عن الصلاة- و مفسدة للجسد مورثة للسقم- و إن الله يبغض الحبر السمين- و لكن عليكم بالقصد في قوتكم- فإنه أدنى من الإصلاح و أبعد من السرف- و أقوى على عبادة الله- و لن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه- . و قال تعلموا أن الطمع فقر و أن اليأس غنى- و من يئس من شي‏ء استغنى عنه- و التؤدة في كل شي‏ء خير إلا ما كان من أمر الآخرة- . و قال من اتقى الله لم يشف الله غيظه- و من خاف الله لم يفعل ما يريد- و لو لا يوم القيامة لكان غير ما ترون- . و قال إني لأعلم أجود الناس و أحلم الناس- أجودهم من أعطى من حرمه- و أحلمهم من عفا عمن ظلمه- . و كتب إلى ساكني الأمصار- أما بعد فعلموا أولادكم العوم و الفروسية- رووهم ما سار من المثل و حسن من الشعر- .

و قال لا تزال العرب أعزة ما نزعت في القوس- و نزت في ظهور الخيل- و قال و هو يذكر النساء- أكثروا لهن من قول لا- فإن نعم مفسدة تغريهن على المسألة- . و قال ما بال أحدكم يثني الوسادة عند امرأة معزبة- إن المرأة لحم على وضم إلا ما ذب عنه- .

و كتب إلى أبي موسى أما بعد- فإن للناس نفرة عن سلطانهم- فأعوذ بالله أن يدركني و إياك عمياء مجهولة- و ضغائن محمولة و أهواء متبعة و دنيا مؤثرة- أقم الحدود و اجلس للمظالم و لو ساعة من نهار- و إذا عرض لك أمران أحدهما لله و الآخر للدنيا- فابدأ بعمل الآخرة فإن الدنيا تفنى و الآخرة تبقى- و كن من مال الله عز و جل على حذر- و اجف الفساق و اجعلهم يدا و يدا و رجلا و رجلا- و إذا كانت بين القبائل نائرة يا لفلان يا لفلان- فإنما تلك نجوى الشيطان- فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا إلى أمر الله- و تكون دعواهم إلى الله و إلى الإسلام- و قد بلغني أن ضبة تدعو يا لضبة- و إني و الله أعلم أن ضبة ما ساق الله بها خيرا قط- و لا منع بها من سوء قط- فإذا جاءك كتابي هذا فأنهكهم ضربا و عقوبة- حتى يفرقوا إن لم يفقهوا- و الصق بغيلان بن خرشة من بينهم- و عد مرضى المسلمين و اشهد جنائزهم- و افتح لهم بابك و باشر أمورهم بنفسك- فإنما أنت رجل منهم غير إن الله قد جعلك أثقلهم حملا- و قد بلغني أنه فشا لك و لأهل بيتك هيئة في لباسك و مطعمك- و مركبك ليس للمسلمين مثلها- فإياك يا عبد الله بن قيس أن تكون بمنزلة البهيمة- التي مرت بواد خصيب- فلم يكن لها همة إلا السمن- و إنما حظها من السمن لغيرها-

و اعلم أن للعامل مردا إلى الله- فإذا زاغ العامل زاغت رعيته- و إن أشقى الناس من شقيت به نفسه و رعيته و السلام و خطب عمر فقال أما بعد- فإني أوصيكم بتقوى الله الذي يبقى و يفنى ما سواه- و الذي بطاعته ينفع أولياءه و بمعصيته يضر أعداءه- إنه ليس لهالك هلك عذر في تعمد ضلالة حسبها هدى- و لا ترك حق حسبه ضلالة- قد ثبتت الحجة و وضحت الطرق- و انقطع العذر و لا حجة لأحد على الله عز و جل- ألا إن أحق ما تعاهد به الراعيرعيته- أن يتعاهدهم بالذي لله تعالى عليهم في وظائف دينهم- الذي هداهم به- و إنما علينا أن نأمركم بالذي أمركم الله به من طاعته- و ننهاكم عما نهاكم الله عنه من معصيته- و أن نقيم أمر الله في قريب الناس و بعيدهم- و لا نبالى على من قال الحق- ليتعلم الجاهل و يتعظ المفرط و يقتدي المقتدي- و قد علمت أن أقواما يتمنون في أنفسهم- و يقولون نحن نصلي مع المصلين- و نجاهد مع المجاهدين- إلا أن الإيمان ليس بالتمني و لكنه بالحقائق- إلا من قام على الفرائض و سدد نيته و اتقى الله- فذلكم الناجي- و من زاد اجتهادا وجد عند الله مزيدا- .

و إنما المجاهدون الذين جاهدوا أهواءهم- و الجهاد اجتناب المحارم- ألا إن الأمر جد- و قد يقاتل أقوام لا يريدون إلا الذكر- و قد يقاتل أقوام لا يريدون إلا الأجر- و إن الله يرضى منكم باليسير- و أثابكم على اليسير الكثير- . الوظائف الوظائف أدوها تؤدكم إلى الجنة- و السنة السنة الزموها تنجكم من البدعة- . تعلموا و لا تعجزوا فإن من عجز تكلف- و إن شرار الأمور محدثاتها- و إن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في الضلالة- فافهموا ما توعظون به- فإن الحريب من حرب دينه- و إن السعيد من وعظ بغيره- .

و قال و عليكم بالسمع و الطاعة فإن الله قضى لهما بالعزة- و إياكم و التفرق و المعصية فإن الله قضى لهما بالذلة- . أقول قولي هذا و أستغفر الله العظيم لي و لكم- . بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر- قباء كسرى و سيفه و منطقته-و سراويله و تاجه و قميصه و خفيه- فنظر عمر في وجوه القوم عنده- فكان أجسمهم و أمدهم قامة- سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي- فقال يا سراق قم فالبس- قال سراقة طمعت فيه فقمت فلبست- فقال أدبر فأدبرت و قال أقبل فأقبلت- فقال بخ بخ أعرابي من بني مدلج عليه قباء كسرى- و سراويله و سيفه و منطقته و تاجه و خفاه- رب يوم يا سراق لو كان فيه دون هذا- من متاع كسرى و آل كسرى- لكان شرفا لك و لقومك- انزع فنزعت- فقال اللهم إنك منعت هذا نبيك و رسولك- و كان أحب إليك مني و أكرم- و منعته أبا بكر و كان أحب إليك مني و أكرم- ثم أعطيتنيه- فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي- ثم بكى حتى رحمه من كان عنده- .

و قال لعبد الرحمن بن عوف- أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي- فما أدركه المساء إلا و قد بيع و قسم ثمنه على المسلمين- . جي‏ء بتاج كسرى إلى عمر فاستعظم الناس قيمته- للجواهر التي كانت عليه- فقال إن قوما أدوا هذا لأمناء- فقال علي ع إنك عففت فعفوا و لو رتعت لرتعوا- . كان عمر يعس ليلا فنزلت رفقة من التجار بالمصلى- فقال لعبد الرحمن بن عوف- هل لك أن تحرسهم الليلة من السرق- فباتا يحرسانهم و يصليان ما كتب الله لهما- فسمع عمر بكاء صبي فأصغى نحوه- فطال بكاؤه فتوجه إليه- فقال لأمه اتقي الله و أحسني إلى صبيك- ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه فعاد إلى أمه- فقال لها مثل ذلك ثم عاد إلى مكانه- فسمع بكاءه فأتى أمه فقال ويحك إني لأراك أم سوء- لا أرى ابنك يقر منذ الليلة- فقالت يا عبد الله لقد آذيتني منذ الليلة- إني أريغه‏ على الفطام فيأبى-

قال و لم قالت لأن عمر لا يفرض لرضيع- و إنما يفرض للفطيم- قال و كم له قالت اثنا عشر شهرا- قال ويحك لا تعجليه- فصلى الفجر و ما يستبين الناس قراءته- من غلبة البكاء عليه- فلما سلم قال يا بؤسا لعمركم- كم قتل من أولاد المسلمين- فطلب مناديا فنادى ألا لا تعجلوا صبيانكم عن الرضاع- و لا تفطموا قبل أوان الفطام- فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام- . و كتب بذلك إلى سائر الآفاق- . مر عمر بشاب من الأنصار و هو ظمآن- فاستسقاه فخاض له عسلا- فرده و لم يشرب و قال إني سمعت الله سبحانه يقول- أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها- فقال الفتى إنها و الله ليست لك- فاقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها- وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ- أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا- أ فنحن منهم فشرب و قال كل الناس أفقه من عمر- .

و أوصى عمر حين طعنه أبو لؤلؤة- من يستخلفه المسلمون بعده من أهل الشورى- فقال أوصيك بتقوى الله لا شريك له- و أوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا- أن تعرف لهم سابقتهم و أوصيك بالأنصار خيرا- أقبل من محسنهم و تجاوز عن مسيئهم- و أوصيك بأهل الأمصار خيرا- فإنهم ردء العدو و جباة الفي‏ء- لا تحمل فيئهم إلى غيرهم إلا عن فضل منهم- و أوصيك بأهل البادية خيرا- فإنهم أصل العرب و مادة الإسلام- أن يؤخذ من حواشي أموالهم فيرد على فقرائهم- و أوصيك بأهل الذمة خيرا- أن تقاتل‏ من ورائهم و لا تكلفهم فوق طاقتهم- إذا أدوا ما عليهم للمسلمين طوعا أو عن يد و هم صاغرون- .

و أوصيك بتقوى الله- و شدة الحذر منه و مخافة مقته- أن يطلع منك على ريبة- و أوصيك أن تخشى الله في الناس- و لا تخشى الناس في الله- و أوصيك بالعدل في الرعية- و التفرغ لحوائجهم و ثغورهم- و ألا تعين غنيهم على فقيرهم- فإن في ذلك بإذن الله سلامة لقلبك- و حطا لذنوبك و خيرا في عاقبة أمرك- و أوصيك أن تشتد في أمر الله و في حدوده- و الزجر عن معاصيه على قريب الناس و بعيدهم- و لا تأخذك الرأفة و الرحمة في أحد منهم- حتى تنتهك منه مثل جرمه- و اجعل الناس عندك سواء- لا تبال على من وجب الحق- لا تأخذك في الله لومة لائم- و إياك و الأثرة و المحاباة فيما ولاك الله- مما أفاء الله على المسلمين- فتجور و تظلم- و تحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك- فإنك في منزلة من منازل الدنيا- و أنت إلى الآخرة جد قريب- فإن صدقت في دنياك عفة و عدلا فيما بسط لك- اقترفت رضوانا و إيمانا- و إن غلبك الهوى اقترفت فيه سخط الله و مقته- .

و أوصيك ألا ترخص لنفسك و لا لغيرك في ظلم أهل الذمة- . و اعلم أني قد أوصيتك و خصصتك و نصحت لك- أبتغي بذلك وجه الله و الدار الآخرة- و دللتك على ما كنت دالا عليه نفسي- فإن عملت بالذي وعظتك و انتهيت إلى الذي أمرتك- أخذت منه نصيبا وافرا و حظا وافيا- و إن لم تقبل ذلك و لم تعمل- و لم تترك معاظم الأمور عند الذي يرضي الله به سبحانه عنك- يكن ذاك بك انتقاصا و يكن رأيك فيه مدخولا- فالأهواء مشتركة- و رأس الخطيئة إبليس الداعي إلى كل هلكة- قد أضل القرون السالفة قبلك و أوردهم النار- و لبئس الثمن أن يكون حظ امرئ من دنياه- موالاة عدو الله الداعي إلى معاصيه اركب الحق و خض إليه الغمرات- و كن واعظا لنفسك- .

و أنشدك لما ترحمت إلى جماعة المسلمين- و أجللت كبيرهم و رحمت صغيرهم- و قربت عالمهم- لا تضربهم فيذلوا و لا تستأثر عليهم بالفي‏ء فتغضبهم- و لا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم- و لا تجمرهم في البعوث فتقطع نسلهم- و لا تجعل الأموال دولة بين الأغنياء منهم- و لا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم- . هذه وصيتي إياك و أشهد الله عليك- و أقرأ عليك السلام و الله على كل شي‏ء شهيد- . و خطب عمر فقال- لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها- صداق زوجات رسول الله ص- إلا ارتجعت ذلك منها- فقامت إليه امرأة- فقالت و الله ما جعل الله ذلك لك إنه تعالى يقول- وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً- فقال عمر أ لا تعجبون من إمام أخطأ- و امرأة أصابت ناضلت إمامكم فنضلته- .

و كان يعس ليلة فمر بدار سمع فيها صوتا- فارتاب و تسور فرأى رجلا عند امرأة و زق خمر- فقال يا عدو الله- أ ظننت أن الله يسترك و أنت على معصيته- فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين- إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث- قال الله تعالى- وَ لا تَجَسَّسُوا و قد تجسست- و قال وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهاو قد تسورت- و قال فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا و ما سلمت- فقال هل عندك من خير إن عفوت عنك- قال نعم و الله لا أعود- فقال اذهب فقد عفوت عنك- . و خطب يوما- فقال أيها الناس ما الجزع مما لا بد منه- و ما الطمع فيما لا يرجى و ما الحيلة فيما سيزول- و إنما الشي‏ء من أصله- و قد مضت قبلكم الأصول و نحن فروعها- فما بقاء الفرع بعد ذهاب أصله- .

إنما الناس في هذه الدنيا أغراض- تنتبل فيهم المنايا نصب المصائب- في كل جرعة شرق و في كل أكلة غصص- لا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى- و لا يستقبل معمر من عمره يوما- إلا بهدم آخر من أجله- و هم أعوان الحتوف على أنفسهم- فأين المهرب مما هو كائن- ما أصغر المصيبة اليوم مع عظم الفائدة غدا- و ما أعظم خيبة الخائب و خسران الخاسر- يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ- . و أكثر الناس روى هذا الكلام لعلي ع- و قد ذكره صاحب نهج البلاغة و شرحناه فيما سبق- . حمل من العراق إلى عمر مال فخرج هو و مولى له- فنظر إلى الإبل فاستكثرها- فجعل يقول الحمد لله يكررها و يرددها- و جعل مولاه يقول هذا من فضل الله و رحمته- و يكررها و يرددها- .

فقال عمر كذبت لا أم لك- أظنك ذهبت إلى أن هذا هو ما عناه سبحانه-بقوله قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا- و إنما ذلك الهدى- أ ما تسمعه يقول هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ- و هذا مما يجمعون- . و روى الأحنف بن قيس- قال قدمنا على عمر بفتح عظيم نبشره به- فقال أين نزلتم قلنا في مكان كذا- فقام معنا حتى انتهينا إلى مناخ ركابنا- و قد أضعفها الكلال و جهدها السير- فقال هلا اتقيتم الله في ركابكم هذه- أ ما علمتم أن لها عليكم حقا هلا احترموها- هلا حللتم بها فأكلت من نبات الأرض- فقلنا يا أمير المؤمنين إنا قدمنا بفتح عظيم- فأحببنا التسرع إليك و إلى المسلمين بما يسرهم- .

فانصرف راجعا و نحن معه- فأتى رجل فقال يا أمير المؤمنين إن فلانا ظلمني- فأعدني عليه فرفع في السماء درته- و ضرب بها رأسه- و قال تدعون عمر و هو معرض لكم- حتى إذا شغل في أمر المسلمين أتيتموه أعدني أعدني- فانصرف الرجل يتذمر- فقال عمر علي بالرجل فجي‏ء به فألقى إليه المخفقة- فقال اقتص قال بل أدعه لله و لك- قال ليس كذلك بل تدعه إما لله و إرادة ما عنده- و إما تدعه لي- قال أدعه لله قال انصرف- ثم جاء حتى دخل منزله و نحن معه- فصلى ركعتين خفيفتين- ثم جلس فقال يا ابن الخطاب- كنت وضيعا فرفعك الله- و كنت ضالا فهداك الله- و كنت ذليلا فأعزك الله- ثم حملك على رقاب الناس- فجاء رجل يستعديك على من ظلمه فضربته- ما ذا تقول لربك غدا- فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه من خير أهل الأرض- .

و ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث- أن رجلا أتى عمر يسأله و يشكو إليه الفقر- فقال هلكت يا أمير المؤمنين- فقال أ هلكت و أنت تنث نثيث الحميت أعطوه- فأعطوه ربعة من مال الصدقة تبعها ظئراها- ثم أنشأ يحدث عن نفسه- فقال لقد رأيتني و أختا لي نرعى على أبوينا ناضحا لنا- قد ألبستنا أمنا نقبتها- و زودتنا يمنتيها هبيدا فنخرج بناضحنا- فإذا طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى أختي- و خرجت أسعى عريان فنرجع إلى أمنا- و قد جعلت لنا لفيته من ذلك الهبيد فيا خصباه- .

و روى ابن عباس رضي الله عنه- قال دخلت على عمر في أول خلافته- و قد ألقي له صاع من تمر على خصفة- فدعاني إلى الأكل فأكلت تمرة واحدة- و أقبل يأكل حتى أتى عليه- ثم شرب من جر كان عنده- و استلقى على مرفقه له و طفق يحمد الله يكرر ذلك- ثم قال من أين جئت يا عبد الله قلت من المسجد- قال كيف خلفت ابن عمك- فظننته يعنى عبد الله بن جعفر- قلت خلفته يلعب مع أترابه- قال لم أعن ذلك إنما عنيت عظيمكم أهل البيت- قلت خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان- و هو يقرأ القرآن- قال يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها- هل بقي في نفسه‏ شي‏ء من أمر الخلافة قلت نعم- قال أ يزعم أن رسول الله ص نص عليه قلت نعم- و أزيدك سألت أبي عما يدعيه فقال صدق- فقال عمر لقد كان من رسول الله ص في أمره ذرو من قول- لا يثبت حجة و لا يقطع عذرا- و لقد كان يربع في أمره وقتا ما- و لقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه- فمنعت من ذلك إشفاقا و حيطة على الإسلام- لا و رب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا- و لو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها- فعلم رسول الله ص أني علمت ما في نفسه- فأمسك و أبى الله إلا إمضاء ما حتم- .

ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر- صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسندا- . ابتنى أبو سفيان دارا بمكة فأتى أهلها عمر- فقالوا إنه قد ضيق علينا الوادي و أسال علينا الماء- فأتاه عمر فقال خذ هذا الحجر فضعه هناك- و ارفع هذا و اخفض هذا ففعل- فقال الحمد لله الذي أذل أبا سفيان بأبطح مكة- . و قال عمر- و الله لقد لان قلبي في الله حتى لهو ألين من الزبد- و لقد اشتد قلبي في الله حتى لهو أشد من الحجر- . كان عمر إذا أتاه الخصمان برك على ركبتيه- و قال اللهم أعني عليهما- فإن كلا منهما يريدني عن ديني- .

و خطب عمر فقال أيها الناس- إنما كنا نعرفكم و النبي ص بين أظهرنا- إذ ينزل الوحي و إذ ينبئنا الله من أخباركم- ألا و إن النبي ص قد انطلق و الوحي قد انقطع- و إنما نعرفكم بما يبدو منكم- من أظهر خيرا ظننا به خيرا و أحببناه عليه- و من أظهر شرا ظننا به شرا و أبغضناه عليه- سرائركم بينكم و بين ربكم- ألا إنه قد أتى علي حين- و أنا أحسب أنه لا يقرأ القرآن أحد- إلا يريد به وجه الله و ما عند الله- و قد خيل إلي بأخرة- أن رجالا قد قرءوه يريدون به ما عند الناس- فأريدوا الله بقراءتكم و أريدوا الله بأعمالكم- . ألا و إني لا أرسل عمالي إليكم أيها الناس- ليضربوا أبشاركم- و لا ليأخذوا أموالكم- و لكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم و سنتكم- فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي لأقتص له- فقد رأيت رسول الله ص يقتص من نفسه- . ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم- و لا تمنعوهم حقوقهم فتفقروهم- و لا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم- .

و قال مرة قد أعياني أهل الكوفة- إن استعملت عليهم لينا استضعفوه- و إن استعملت عليهم شديدا شكوه- و لوددت أني وجدت رجلا قويا أمينا استعمله عليهم- فقال له رجل- أنا أدلك يا أمير المؤمنين على الرجل القوي الأمين- قال من هو قال عبد الله بن عمر- قال قاتلك الله و الله ما أردت الله بها- لاها الله لا أستعمله عليها و لا على غيرها- و أنت فقم فاخرج فمذ الآن لا أسميك إلا المنافق- فقام الرجل و خرج- . و كتب إلى سعد بن أبي وقاص- أن شاور طليحة بن خويلد و عمرو بن معديكرب- فإن كل صانع أعلم بصنعته- و لا تولهما من أمر المسلمين شيئاو غضب عمر على بعض عماله- فكلم امرأة من نساء عمر في أن تسترضيه له- فكلمته فيه فغضب- و قال و فيم أنت من هذا يا عدوة الله- إنما أنت لعبة نلعب بك و تفركين- . و من كلامه أشكو إلى الله جلد الخائن و عجز الثقة- .

قال عمرو بن ميمون- لقد رأيت عمر بن الخطاب قبل أن يصاب بأيام- واقفا على حذيفة بن اليمان و عثمان بن حنيف- و هو يقول لهما- أ تخافان أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيقه- فقالا لا إنما حملناها أمرا هي له مطيقة- فأعاد عليهما القول- انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيقه- فقالا لا فقال عمر- إن عشت لأدعن أرامل العراق لا يحتجن بعدي إلى رجل أبدا- فما أتت عليه رابعة حتى أصيب- . كان عمر إذا استعمل عاملا كتب عليه كتابا- و أشهد عليه رهطا من المسلمين- ألا يركب برذونا و لا يأكل نقيا- و لا يلبس رقيقا و لا يغلق بابه دون حاجات المسلمين- ثم يقول اللهم اشهد- . و استعمل عمر النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان- فبلغه عنه الشعر الذي قاله و هو-

و من مبلغ الحسناء أن حليلها
بميسان يسقى من زجاج و حنتم‏

إذا شئت غنتني دهاقين قرية
و صناجة تحدو على كل منسم‏

فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
و لا تسقني بالأصغر المتثلم‏

لعل أمير المؤمنين يسوءه‏
تنادمنا بالجوسق المتهدم‏

فكتب إليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ- حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ- غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ- ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ- أما بعد فقد بلغني قولك- لعل أمير المؤمنين يسوءه‏- البيت و ايم الله إنه ليسوءني فاقدم فقد عزلتك- . فلما قدم عليه- قال يا أمير المؤمنين و الله ما شربتها قط- و إنما هو شعر طفح على لساني و إني لشاعر- . فقال عمر أظن ذاك و لكن لا تعمل لي على عمل أبدا- . استعمل عمر رجلا من قريش على عمل- فبلغه عنه أنه قال-

اسقني شربة تروي عظامي
و اسق بالله مثلها ابن هشام‏

فأشخصه إليه و فطن القرشي فضم إليه بيتا آخر- فلما مثل بين يديه قال له أنت القائل-

اسقني شربة تروي عظامي‏

قال نعم يا أمير المؤمنين فهلا أبلغك الواشي ما بعده- قال ما الذي بعده قال-

عسلا باردا بماء غمام
إنني لا أحب شرب المدام‏

قال آلله آلله ثم قال ارجع إلى عملك- .قال عمر أيما عامل من عمالي ظلم أحدا- ثم بلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا الذي ظلمته- . و قال للأحنف بن قيس- و قد قدم عليه فاحتبسه عنده حولا- يا أحنف إني قد خبرتك و بلوتك فرأيت علانيتك حسنة- و أنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك- و إن كنا لنحدث أنه إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم- . و كتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص- أن مترس بالفارسية هو الأمان- فمن قلتم له ذلك ممن لا يفقه لسانكم فقد أمنتموه- .

و قال لأمير من أمراء الشام- كيف سيرتك كيف تصنع في القرآن و الأحكام- فأخبره فقال أحسنت اذهب فقد أقررتك على عملك- فلما ولي رجع فقال يا أمير المؤمنين- إني رأيت البارحة رؤيا أقصها عليك- رأيت الشمس و القمر يقتتلان- و مع كل واحد منهما جنود من الكواكب- فقال فمع أيهما كنت قال مع القمر- فقال قد عزلتك قال الله تعالى- وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ- وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً- .

كان عمر جالسا في المسجد فمر به رجل- فقال ويل لك يا عمر من النار- فقال قربوه إلي فدنا منه فقال لم قلت لي ما قلت- قال تستعمل عمالك و تشترط عليهم-ثم لا تنظر هل وفوا لك بشروط أم لا- قال و ما ذاك قال عاملك على مصر اشترطت عليه- فترك ما أمرته به و ارتكب ما نهيته عنه- ثم شرح له كثيرا من أمره- فأرسل عمر رجلين من الأنصار- فقال لهما انتهيا إليه فاسألا عنه- فإن كان كذب عليه فأعلماني- و إن رأيتما ما يسوءكما- فلا تملكاه من أمره شيئا حتى تأتيا به- فذهبا فسألا عنه فوجداه قد صدق عليه- فجاءا إلى بابه فاستأذنا عليه-

فقال حاجبه إنه ليس عليه اليوم إذن- قالا ليخرجن إلينا أو لنحرقن عليه بابه- و جاء أحدهما بشعلة من نار- فدخل الآذن فأخبره فخرج إليهما- قالا إنا رسولا عمر إليك لتأتيه- قال إن لنا حاجة تمهلانني لأتزود- قالا إنه عزم علينا ألا نمهلك فاحتملاه فأتيا به عمر- فلما أتاه سلم عليه فلم يعرفه- و قال من أنت و كان رجلا أسمر- فلما أصاب من ريف مصر ابيض و سمن- فقال أنا عاملك على مصر أنا فلان- قال ويحك ركبت ما نهيت عنه و تركت ما أمرت به- و الله لأعاقبنك عقوبة أبلغ إليك فيها- ائتوني بكساء من صوف و عصا- و ثلاثمائة شاة من غنم الصدقة- فقال البس هذه الدراعة- فقد رأيت أباك و هذه خير من دراعته- و خذ هذه العصا فهي خير من عصا أبيك- و اذهب بهذه الشياه فارعها في مكان كذا- و ذلك في يوم صائف- و لا تمنع السابلة من ألبانها شيئا إلا آل عمر- فإني لا أعلم أحدا من آل عمر أصاب من ألبان غنم الصدقة- و لحومها شيئا- . فلما ذهب رده- و قال أ فهمت ما قلت فضرب بنفسه الأرض- و قال يا أمير المؤمنين لا أستطيع هذا- فإن شئت فاضرب عنقي- قال فإن رددتك فأي رجل تكون- قال و الله لا يبلغك بعدها إلا ما تحب- فرده فكان نعم الرجل- و قال عمر و الله‏ لا أنزعن فلانا من القضاء- حتى أستعمل عوضه رجلا إذا رآه الفاجر فرق- . و روى عبد الله بن بريدة- قال بينا عمر يعس ذات ليلة انتهى إلى باب متجاف- و امرأة تغني نسوة-

هل من سبيل إلى خمر فأشربها
أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج‏

فقال عمر أما ما عشت فلا- . فلما أصبح دعا نصر بن حجاج- و هو نصر بن الحجاج بن علابط البهزي السلمي- فأبصره و هو من أحسن الناس وجها- و أصبحهم و أملحهم حسنا فأمر أن يطم شعره- فخرجت جبهته فازداد حسنا- فقال له عمر اذهب فاعتم فاعتم فبدت وفرته- فأمر بحلقها فازداد حسنا- فقال له فتنت نساء المدينة يا ابن حجاج- لا تجاورني في بلدة أنا مقيم بها- ثم سيره إلى البصرة- . فروى الأصمعي- قال أبرد عمر بريدا إلى عتبة بن أبي سفيان بالبصرة- فأقام بها أياما ثم نادى منادي عتبة- من أراد أن يكتب إلى أهله بالمدينة- أو إلى أمير المؤمنين شيئا- فليكتب فإن بريد المسلمين خارج- . فكتب الناس و دس نصر بن حجاج كتابا فيه- لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصر بن حجاج- سلام عليك أما بعد يا أمير المؤمنين-

لعمري لئن سيرتني أو حرمتني
لما نلت من عرضي عليك حرام‏

أ إن غنت الذلفاء يوما بمنية
و بعض أماني النساء غرام‏

ظننت بي الظن الذي ليس بعده
بقاء فما لي في الندي كلام‏

و أصبحت منفيا في غير ريبة
و قد كان لي بالمكتين مقام‏

سيمنعني مما تظن تكرمي
و آباء صدق سالفون كرام‏

و يمنعها مما تمنت صلاتها
و حال لها في دينها و صيام‏

فهاتان حالانا فهل أنت راجع
فقد جب مني كاهل و سنام‏

فقال عمر أما ولي ولاية فلا- و أقطعه أرضا بالبصرة و دارا- . فلما قتل عمر ركب راحلته و لحق بالمدينة- . و ذكر المبرد محمد بن يزيد الثمالي- قال كان عمر أصلع- فلما حلق وفرة نصر بن حجاج قال نصر و كان شاعرا-

تضن ابن خطاب علي بجمة
إذا رجلت تهتز هز السلاسل‏

فصلع رأسا لم يصلعه ربه‏
يرف رفيفا بعد أسود جائل‏

لقد حسد الفرعان أصلع لم يكن
إذا ما مشى بالفرع بالمتخايل‏

محمد بن سعيد- قال بينا يطوف عمر في بعض سكك المدينة- إذ سمع امرأة تهتف من خدرها-

هل من سبيل إلى خمر فأشربها
أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج‏

إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل
سهل المحيا كريم غير ملجاج‏

تنميه أعراق صدق حين تنسبه‏
أخي قداح عن المكروب فراج‏

سامي النواظر من بهز له قدم
تضي‏ء صورته في الحالك الداجي‏

فقال عمر- ألا لا أدري معي رجلا يهتف به العواتق في خدورهن- علي بنصر بن حجاج فأتي به- فإذا هو أحسن الناس وجها و عينا و شعرا- فأمر بشعره فجز- فخرجت له وجنتان كأنه قمر- فأمره أن يعتم فاعتم ففتن النساء بعينيه- فقال عمر لا و الله لا تساكنني بأرض أنا بها- قال و لم يا أمير المؤمنين قال هو ما أقول لك- فسيره إلى البصرة- . و خافت المرأة التي سمع عمر منها ما سمع- أن يبدر إليها منه شي‏ء فدست إليه أبياتا-

قل للأمير الذي تخشى بوادره
ما لي و للخمر أو نصر بن حجاج‏

إني بليت أبا حفص بغيرهما
شرب الحليب و طرف فاتر ساج‏

لا تجعل الظن حقا أو تبينه
إن السبيل سبيل الخائف الراجي‏

ما منية قلتها عرضا بضائرة
و الناس من هالك قدما و من ناج‏

إن الهوى رعية التقوى تقيده
حتى أقر بإلجام و إسراج‏

فبكى عمر- و قال الحمد لله الذي قيد الهوى بالتقوى- . و أتته يوما أم نصر حين اشتدت عليها غيبة ابنها- فتعرضت لعمر بين الأذان و الإقامة- فقعدت له على الطريق فلما خرج يريد الصلاة هتفت به- و قالت يا أمير المؤمنين لأجاثينك غدا بين يدي الله عز و جل- و لأخاصمنك إليه- يبيت عاصم و عبد الله إلى‏جانبيك- و بيني و بين ابني الفيافي و القفار و المفاوز و الجبال- قال من هذه قيل أم نصر بن حجاج- فقال يا أم نصر- إن عاصما و عبد الله لم تهتف بهما العواتق من وراء الخدور- .

و يروى أن نصر بن الحجاج- لما سيره عمر إلى البصرة نزل بها على مجاشع بن مسعود السلمي- و كان خليفة أبي موسى عليها- و كانت له امرأة شابة جميلة فهويت نصرا و هويها- فبينا الشيخ جالس و نصر عنده إذ كتب في الأرض شيئا- فقرأته المرأة فقالت أنا و الله- فقال مجاشع ما قال لك- قالت إنه قال ما أصفى لقحتكم هذه- فقال مجاشع إن الكلمة التي قلت ليست أختا لهذا الكلام- عزمت عليك لما أخبرتني- قالت إنه قال ما أحسن سوار ابنتكم هذه- قال و لا هذه فإنه كتب في الأرض- فرأى الخط فدعا بإناء فوضعه عليه- ثم أحضر غلاما من غلمانه- فقال اقرأ فقرأه و إذا هو أنا و الله أحبك- فقال هذه لهذه- اعتدي أيتها المرأة و تزوجها يا ابن أخي إن أردت- .

ثم غدا على أبي موسى فأخبره- فقال أبو موسى أقسم ما أخرجه عمر عن المدينة من خير- ثم طرده إلى فارس و عليها عثمان بن أبي العاص الثقفي- فنزل على دهقانة فأعجبها فأرسلت إليه- فبلغ خبرها عثمان- فبعث إليه أن اخرج عن أرض فارس- فإنك لم تخرج عن المدينة و البصرة من خير- فقال و الله لئن أخرجتموني لألحقن ببلاد الشرك- فكتب بذلك إلى عمر- فكتب أن جزوا شعره و شمروا قميصه و ألزموه المساجد- .

و روى عبد الله بن بريدة أن عمر خرج ليلا يعس- فإذا نسوة يتحدثن- و إذا هن‏يقلن أي فتيان المدينة أصبح- فقالت امرأة منهن أبو ذؤيب و الله- فلما أصبح عمر سأل عنه فإذا هو من بني سليم- و إذا هو ابن عم نصر بن حجاج- فأرسل إليه فحضر فإذا هو أجمل الناس و أملحهم- فلما نظر إليه قال أنت و الله ذئبها- يكررها و يرددها- لا و الذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أبدا- .

فقال يا أمير المؤمنين إن كنت لا بد مسيري- فسيرني حيث سيرت ابن عمي نصر بن حجاج- فأمر بتسييره إلى البصرة فأشخص إليها- . خطب عمر في الليلة التي دفن فيها أبو بكر- فقال إن الله تعالى نهج سبيله و كفانا برسوله- فلم يبق إلا الدعاء و الاقتداء- الحمد لله الذي ابتلاني بكم و ابتلاكم بي- و أبقاني فيكم بعد صاحبي- و أعوذ بالله أن أزل أو أضل- فأعادي له وليا أو أوالي له عدوا- ألا إني و صاحبي كنفر ثلاثة قفلوا من طيبة- فأخذ أحدهم مهلة إلى داره و قراره- فسلك أرضا مضيئة متشابهة الأعلام- فلم يزل عن الطريق و لم يحرم السبيل- حتى أسلمه إلى أهله- ثم تلاه الآخر فسلك سبيله و اتبع أثره- فأفضى إليه و لقي صاحبه ثم تلاهما الثالث- فإن سلك سبيلهما و اتبع أثرهما أفضى إليهما و لاقاهما- و إن زل يمينا أو شمالا لم يجامعهما أبدا- . ألا و إن العرب جمل أنف قد أعطيت خطامه- ألا و إني حامله على المحجة و مستعين بالله عليه- .

ألا و إني داع فأمنوا اللهم إني شحيح فسخني- اللهم إني غليظ فليني اللهم إني ضعيف فقوني- اللهم أوجب لي بموالاتك- و موالاة أوليائك ولايتك و معونتك- و أبرئنيمن الآفات بمعاداة أعدائك- و توفني مع الأبرار و لا تحشرني في زمرة الأشقياء- اللهم لا تكثر لي من الدنيا فأطغى- و لا تقلل لي فأشقى- فإن ما قل و كفى خير مما كثر و ألهى- . وفد على عمر قوم من أهل العراق- منهم جرير بن عبد الله فأتاهم بجفنة قد صبغت بخل و زيت- و قال خذوا فأخذوا أخذا ضفيفا- فقال ما بالكم تقرمون قرم الشاة الكسيرة- أظنكم تريدون حلوا و حامضا و حارا و باردا- ثم قذفا في البطون- لو شئت أن أدهمق لكم لفعلت- و لكنا نستبقي من دنيانا ما نجده في آخرتنا- و لو شئنا أن نأمر بصغار الضأن فتسمط- و لبأت الخبز فيخبز- و نأمر بالزبيب فينبذ لنا في الأسعان- حتى إذا صار مثل عين اليعقوب- أكلنا هذا و شربنا هذا لفعلت- و الله إني ما أعجز عن كراكر- و أسنمة و صلائق و صناب- لكن الله تعالى قال لقوم عيرهم أمرا فعلوه- أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا- و إني نظرت في هذا الأمر-فجعلت إن أردت الدنيا أضررت بالآخرة- و إن أردت الآخرة أضررت بالدنيا- و إذا كان الأمر هكذا فأضروا بالفانية- . خرج عمر يوما إلى المسجد- و عليه قميص في ظهره أربع رقاع- فقرأ حتى انتهى إلى قوله وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا- فقال ما الأب ثم قال إن هذا لهو التكلف- و ما عليك يا ابن الخطاب ألا تدري ما الأب- .

و جاء قوم من الصحابة إلى حفصة- فقالوا لو كلمت أباك في أن يلين من عيشه- لعله أقوى له على النظر في أمور المسلمين- فجاءته فقالت- إن ناسا من قومك كلموني- في أن أكلمك في أن تلين من عيشك- فقال يا بنية غششت أباك و نصحت لقومك- .

و روى سالم بن عبد الله بن عمر- قال لما ولي عمر قعد على رزق أبي بكر الذي كان فرضه لنفسه- فاشتدت حاجته فاجتمع نفر من المهاجرين- منهم علي و عثمان و طلحة و الزبير- و قالوا لو قلنا لعمر يزيد في رزقه- فقال عثمان إنه عمر- فهلموا فلنستبن ما عنده من وراء وراء- نأتي حفصة فنكلمها و نستكتمها أسماءنا- فدخلوا عليها و سألوها أن تكلمه- و لا تخبره بأسماء من أتاها إلا أن يقبل- فلقيت عمر في ذلك فرأت الغضب في وجهه- و قال من أتاك قالت لا سبيل إلى ذلك- فقال لو علمت من هم لسؤت أوجههم- أنت بيني و بينهم- نشدتك الله ما أفضل ما اقتنى رسول الله ص- في بيتك من الملبس- قالت ثوبان ممشقان كان يلبسهما للوفد- و يخطب‏ فيهما في الجمع- قال فأي طعام ناله عندك أرفع- قالت خبزنا مرة خبزة شعير- فصببت عليها و هي حارة أسفلها عكة لنا- كان فيها سمن و عسل- فجعلتها هشة حلوة دسمة- فأكل منها فاستطابها-

قال فأي مبسط كان يبسط عندك أوطأ- قالت كساء ثخين كنا نرقعه في الصيف فنجعله ثخينا- فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه و تدثرنا بنصفه- قال فأبلغيهم أن رسول الله ص قدر فوضع الفضول مواضعها- و تبلغ ما أبر- و إني قدرت فو الله لأضعن الفضول مواضعها- و لأتبلغن ما أبر حبة وفد على عمر وفد فيه رجال الناس من الآفاق- فوضع لهم بسطا من عباء- و قدم إليهم طعاما غليظا- فقالت له ابنته حفصة أم المؤمنين- إنهم وجوه الناس و كرام العرب- فأحسن كرامتهم- فقال يا حفصة أخبريني بألين فراش فرشته لرسول الله ص- و أطيب طعام أكله عندك- قالت أصبنا كساء ملبدا عام خيبر- فكنت أفرشه له فينام عليه- و إني رفعته ليلة- فلما أصبح قال ما كان فراشي الليلة- قلت فراشك كل ليلة- إلا أني الليلة رفعته لك ليكون أوطأ- فقال أعيديه لحالته الأولى فإن وطاءته منعتني الليلة من الصلاة- .
و كان لنا صاع من دقيق سلت فنخلته يوما و طبخته له- و كان لنا قعب من سمن فصببته عليه- فبينا هو ع يأكل إذ دخل أبو الدرداء-

فقال أرى سمنكم قليلا و إن لنا لقعبا من سمن- قال ع فأرسل فأت به- فجاء به فصبه عليه فأكل- فهذا أطيب طعام أكله عندي رسول الله ص- . فأرسل عمر عينيه بالبكاء- و قال لها و الله لا أزيدهم على ذلك العباء- و ذلك الطعام‏شيئا- و هذا فراش رسول الله ص و هذا طعامه- . لما قدم عتبة بن مرثد أذربيجان أتي بالخبيص- فلما أكله وجد شيئا حلوا طيبا- فقال لو صنعت من هذا لأمير المؤمنين- فجعل له خبيصا في منقلين عظيمين- و حملهما على بعيرين إلى المدينة- فقال عمر ما هذا قالوا الخبيص فذاقه فوجده حلوا- فقال للرسول ويحك أ كل المسلمين عندكم يشبع من هذا- قال لا قال فارددهما- ثم كتب إلى عتبة أما بعد- فإن خبيصك الذي بعثته ليس من كد أبيك و لا من كد أمك- أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك- و لا تستأثر فإن الأثرة شر و السلام- .

و روى عتبة بن مرثد أيضا- قال قدمت على عمر بحلواء من بلاد فارس في سلال عظام- فقال ما هذه قلت طعام طيب أتيتك به- قال ويحك و لم خصصتني به- قلت أنت رجل تقضي حاجات الناس أول النهار- فأحببت إذا رجعت إلى منزلك أن ترجع إلى طعام طيب- فتصيب منه فتقوى على القيام بأمرك- فكشف عن سلة منها فذاق فاستطاب- فقال عزمت عليك يا عتبة إذا رجعت- إلا رزقت كل رجل من المسلمين مثله- قلت و الذي يصلحك يا أمير المؤمنين- لو أنفقت عليه أموال قيس كلها لما وسع ذلك- قال فلا حاجة لي فيه إذا- ثم دعا بقصعة من ثريد و لحم غليظ و خبز خشن- فقال كل ثم جعل يأكل أكلا شهيا- و جعلت أهوى إلى البضعة البيضاء- أحسبها سناما و إذا هي عصبة- و أهوى إلى البضعة من اللحم أمضغهافلا أسيغها- و إذا هي من علباء العنق- فإذا غفل عني جعلتها بين الخوان و القصعة- فدعا بعس من نبيذ كاد يكون خلا- فقال اشرب فلم أستطعه و لم أسغه أن أشرب- فشرب ثم نظر إلي- و قال ويحك إنه ليس بدرمك العراق و ودكه- و لكن ما تأكله أنت و أصحابك- .

ثم قال اسمع إنا ننحر كل يوم جزورا- فأما أوراكها و ودكها و أطائبها- فلمن حضرنا من المهاجرين و الأنصار- و أما عنقها فلآل عمر- و أما عظامها و أضلاعها فلفقراء المدينة- نأكل من هذا اللحم الغث- و نشرب من هذا النبيذ الخاثر- و ندع لين الطعام ليوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت- و تضع كل ذات حمل حملها- . حضر عند عمر قوم من الصحابة فأثنوا عليه- و قالوا و الله ما رأينا يا أمير المؤمنين رجلا أقضى منك بالقسط- و لا أقول بالحق و لا أشد على المنافقين منك- إنك لخير الناس بعد رسول الله ص- .

فقال عوف بن مالك كذبتم و الله- أبو بكر بعد رسول الله خير أمته رأينا أبا بكر- . فقال عمر صدق عوف و الله و كذبتم- لقد كان أبو بكر و الله أطيب من ريح المسك- و أنا أضل من بعير أهلي- . لما أتى عمر الخبر بنزول رستم القادسية- كان يخرج فيستخبر الركبان كل يوم عن أهل القادسية- من حين يصبح إلى انتصاف النهار- ثم يرجع إلى أهله فلما جاء البشير بالفتح-لقيه كما يلقى الركبان من قبل فسأله فأخبره- فجعل يقول يا عبد الله إيه حدثني- فيقول له هزم الله العدو- و عمر يحث معه و يسأله و هو راجل- و البشير يسير على ناقته و لا يعرفه- فلما دخل المدينة إذا الناس يسلمون عليه باسمه- بإمرة المؤمنين و يهنئونه- فنزل الرجل و قال هلا أخبرتني يا أمير المؤمنين رحمك الله- و جعل عمر يقول لا عليك يا ابن أخي لا عليك يا ابن أخي- .

و روى أبو العالية الشامي- قال قدم عمر الجابية على جمل أورق- تلوح صلعته ليس عليه قلنسوة- تصل رجلاه بين شعبتي رحله بغير ركاب- وطاؤه كساء أنبجاني كثير الصوف- و هو وطاؤه إذا ركب و فراشه إذا نزل- و حقيبته نمرة محشوة ليفا هي حقيبته إذا ركب- و وسادته إذا نزل- و عليه قميص من كرابيس قد دسم و تخرق جيبه- فقال ادعوا إلي رأس القرية- فدعوه له فقال اغسلوا قميصي هذا و خيطوه- و أعيروني قميصا ريثما يجف قميصي- فأتوه بقميص كتان فعجب منه- فقال ما هذا قالوا كتان- قال و ما الكتان فأخبروه فلبسه ثم غسل قميصه- و أتي به فنزع قميصهم و لبس قميصه- فقال له رأس القرية أنت ملك العرب- و هذه بلاد لا يصلح بها ركوب الإبل- فأتي ببرذون- فطرحت عليه قطيفة بغير سرج فركبه- فهملج تحته فقال للناس احبسوا فحبسوه- فقال ما كنت أظن الناس يركبون الشيطان قبل هذا- قدموا لي جملي فجي‏ء به فنزل عن البرذون و ركبه- .

قدم عمر الشام- فلقيه أمراء الأجناد و عظماء تلك الأرض- فقال و أين أخي قالوا من هو- قال أبو عبيدة قالوا سيأتيك الآن- فجاء أبو عبيدة على ناقة مخطومة بحبل- فسلم عليه و رد له ثم قال للناس انصرفوا عنا- فسار معه حتى أتى منزله فنزل عليه- فلم ير فيه إلا سيفا و ترسا- فقال له لو اتخذت متاع البيت- قال حسبي هذا يبلغني المقيل- . و روى طارق بن شهاب- أن عمر لما قدم الشام عرضت له مخاضة- فنزل عن بعيره و نزع جرموقيه فأمسكهما بيده- و خاض الماء و زمام بعيره في يده الأخرى- فقال له أبو عبيدة- لقد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل هذه الأرض- فصك في صدره و قال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة- إنكم كنتم أذل الناس و أحقر الناس و أقل الناس- فأعزكم الله بالإسلام- فمهما تطلبوا العز بغيره يرجعكم إلى الذل- .

و روى محمد بن سعد صاحب الواقدي- أن عمر قال يوما على المنبر- لقد رأيتني و ما لي من أكال يأكله الناس- إلا أن لي خالات من بني مخزوم- فكنت أستعذب لهن الماء- فيقبضن لي القبضات من الزبيب- فلما نزل قيل له ما أردت بهذا- قال وجدت في نفسي بأوا فأردت أن أطأطئ منها- .

و من كلام عمر رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي- . قدم عمرو بن العاص على عمر و كان واليا لمصر- فقال له في كم سرت قال في عشرين- قال عمر لقد سرت سير عاشق- فقال عمرو إني و الله ما تأبطتنى الإماء- و لا حملتني في غبرات المآلي- فقال عمر و الله ما هذا بجواب الكلام الذي سألتك عنه- و أن الدجاجة لتفحص في الرماد فتضع لغير الفحل- و إنما تنسب البيضة إلى طرقها- فقام عمرو مربد الوجه- .

قلت المآلي خرق سود يحملها النوائح- و يسرن بها بأيديهن عند اللطم- و أراد خرق الحيص هاهنا و شبهها بتلك- و أنكر عمر فخره بالأمهات- و قال إن الفخر للأب الذي إليه النسب- و سألت النقيب أبا جعفر عن هذا الحديث في عمر- فقال إن عمرا فخر على عمر لأن أم الخطاب زنجية- و تعرف بباطحلي تسمى صهاك- فقلت له و أم عمرو النابغة أمه من سبايا العرب- فقال أمه عربية من عنزة سبيت في بعض الغارات- فليس يلحقها من النقص عندهم ما يلحق الإماء الزنجيات- فقلت له أ كان عمرو يقدم على عمر بمثل ما قلت- قال قد يكون بلغه عنه قول قدح في نفسه فلم يحتمله له- و نفث بما في صدره منه- و إن لم يكن جوابا مطابقا للسؤال و قد كان عمر مع خشونته يحتمل نحو هذا- فقد جبهه الزبير مرة و جعل يحكي كلامه يمططه- و جبهه سعد بن أبي وقاص أيضا فأغضى عنه- و مر يوما في السوق على ناقة له- فوثب غلام من بني ضبة فإذا هو خلفه- فالتفت إليه فقال فممن أنت قال ضبي- قال جسور و الله فقال الغلام على العدو- قال عمر و على الصديق أيضا- ما حاجتك فقضى حاجته- ثم قال دع الآن لنا ظهر راحلتنا- .

و من كلام عمر اخشع عند القبور إذا نظرت إليها- و استعص عند المعصية و ذل عند الطاعة- و لا تبذلن كلامك إلا عند من يشتهيه و يتخذه غنما- و لا تستعن على حاجتك إلا بمن يحب نجاحها لك- و آخ الإخوان على التقوى- و شاور في أمرك كله- و إذا اشترى أحدكم بعيرا فليشتره جسيما- فإن أخطأته النجابة لم يخطئه السوق- . أوفد بشر بن مروان و هو على العراق رجلا إلى عبد الملك- فسأله عن بشر- فقال يا أمير المؤمنين هو اللين في غير ضعف- الشديد في غير عنف- فقال عبد الملك ذاك الأحوذي ابن حنتمة- الذي كان يأمن عنده البري‏ء و يخافه السقيم- و يعاقب على الذنب و يعرف موضع العقوبة- لا بشر بن مروان- . أذن عمر يوما للناس- فدخل شيخ كبير يعرج- و هو يقود ناقة رجيعا يجاذبها- حتى وقف بين ظهراني الناس ثم قال-

و إنك مسترعى و إنا رعية
و إنك مدعو بسيماك يا عمر

لدى يوم شر شره لشراره‏
و خير لمن كانت مؤانسه الخير

فقال عمر لا حول و لا قوة إلا بالله من أنت- قال عمرو بن براقة قال ويحك- فما منعك أن تقول- وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ- ثم قرأها إلى آخرها و أمر بناقته فقبضت- و حمله على غيرها و كساه و زوده- .بينا عمر يسير في طريق مكة يوما- إذا بالشيخ بين يديه يرتجز و يقول-

ما إن رأيت كفتى الخطاب
أبر بالدين و بالأحساب‏
بعد النبي صاحب الكتاب‏

فطعنه عمر بالسوط في ظهره- فقال ويلك و أين الصديق- قال ما لي بأمره علم يا أمير المؤمنين- قال أما إنك لو كنت عالما ثم قلت هذا لأوجعت ظهرك- . قال زيد بن أسلم كنت عند عمر- و قد كلمه عمرو بن العاص في الحطيئة و كان محبوسا- فأخرجه من السجن ثم أنشده-

ما ذا تقول لأفراخ بذي مرخ
زغب الحواصل لا ماء و لا شجر

ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله يا عمر

أنت الإمام الذي من بعد صاحبه
ألقت إليه مقاليد النهى البشر

ما آثروك بها إذ قدموك لها
لكن لأنفسهم كانت بك الأثر

فبكى عمر لما قال له ما ذا تقول لأفراخ- فكان عمرو بن العاص بعد ذلك يقول- ما أقلت الغبراء و لا أظلت الخضراء أتقي من رجل- يبكي خوفا من حبس الحطيئة- ثم قال عمر لغلامه يرفأ علي بالكرسي فجلس عليه- ثم قال علي بالطست فأتي بها- ثم قال علي بالمخصف لا بل علي بالسكين- فأتي بها فقال لا بل علي بالموسى- فإنها أوجي فأتي بموسى- ثم قال أشيروا علي في الشاعر- فإنه يقول الهجر و ينسب بالحرم- و يمدح الناس و يذمهم بغير ما فيهم- و ما أراني إلا قاطعا لسانه فجعل الحطيئة يزيد خوفا- فقال من حضر أنه لا يعود يا أمير المؤمنين- و أشاروا إليه قل لا أعود يا أمير المؤمنين- فقال النجاء النجاء- فلما ولى ناداه يا حطيئة فرجع مرعوبا- فقال كأني بك يا حطيئةعند فتى من قريش- قد بسط لك نمرقة و كسر لك أخرى- ثم قال غننا يا حطيئة فطفقت تغنيه بأعراض الناس- قال يا أمير المؤمنين لا أعود و لا يكون ذلك- .

قال زيد بن أسلم- ثم رأيت الحطيئة يوما بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر- قد بسط له نمرقة و كسر له أخرى- ثم قال تغنينا يا حطيئة و هو يغنيه- فقلت يا حطيئة أ ما تذكر قول عمر لك- ففزع و قال رحم الله ذلك المرء- أما لو كان حيا ما فعلنا هذا- قال فقلت لعبيد الله بن عمر سمعت أباك يذكر كذا- فكنت أنت ذلك الفتى- . كان عمر يصادر خونة العمال- فصادر أبا موسى الأشعري و كان عامله على البصرة- و قال له بلغني أن لك جاريتين- و أنك تطعم الناس من جفنتين- و أعاده بعد المصادرة إلى عمله- .

و صادر أبا هريرة و أغلظ عليه- و كان عامله على البحرين- فقال له أ لا تعلم أني استعملتك على البحرين- و أنت حاف لا نعل في رجلك- و قد بلغني أنك بعت أفراسا بألف و ستمائة دينار- قال أبو هريرة كانت لنا أفراس فتناتجت- فقال قد حبست لك رزقك و مئونتك و هذا فضل- قال أبو هريرة ليس ذلك لك قال بلى و الله و أوجع ظهرك- ثم قام إليه بالدرة فضرب ظهره حتى أدماه- ثم قال ائت بها فلما أحضرها- قال أبو هريرة سوف أحتسبها عند الله- قال عمر ذاك لو أخذتها من حل و أديتها طائعا- أما و الله ما رجت فيك أميمة- أن تجبي أموال هجر و اليمامة و أقصى البحرين لنفسك- لا لله و لا للمسلمين- و لم ترج فيك أكثر من رعية الحمر و عزله- . و صادر الحارث بن وهب أحد بني ليث بكر بن كنانة- و قال له ما قلاص و أعبد بعتها بمائه دينار- قال خرجت بنفقة لي فاتجرت فيها- قال و إنا و الله ما بعثناك للتجارةأدها- قال أما و الله لا أعمل لك بعدها- قال إنا و الله لا أستعملك بعدها- ثم صعد المنبر فقال يا معشر الأمراء- إن هذا المال لو رأينا أنه يحل لنا لأحللناه لكم- فأما إذ لم نره يحل لنا و ظلفنا أنفسنا عنه- فاظلفوا عنه أنفسكم- فإني و الله ما وجدت لكم مثلا إلا عطشان ورد اللجة- و لم ينظر الماتح فلما روي غرق- .

و كتب عمر إلى عمرو بن العاص و هو عامله في مصر- أما بعد فقد بلغني أنه قد ظهر لك مال- من إبل و غنم و خدم و غلمان- و لم يكن لك قبله مال و لا ذلك من رزقك- فإني لك هذا- و لقد كان لي من السابقين الأولين من هو خير منك- و لكني استعملتك لغنائك- فإذا كان عملك لك و علينا- بم نؤثرك على أنفسنا- فاكتب إلي من أين مالك و عجل و السلام- .

فكتب إليه عمرو بن العاص- قرأت كتاب أمير المؤمنين و لقد صدق- فأما ما ذكره من مالي فإني قدمت بلدة- الأسعار فيها رخيصه و الغزو فيها كثير- فجعلت فضول ما حصل لي من ذلك فيما ذكره أمير المؤمنين- و الله يا أمير المؤمنين- لو كانت خيانتك لنا حلالا ما خناك حيث ائتمنتنا- فأقصر عنا عناك- فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن العمل لك- و أما من كان لك من السابقين الأولين- فهلا استعملتهم فو الله ما دققت لك بابا- . فكتب إليه عمر أما بعد- فإني لست من تسطيرك و تشقيقك الكلام في شي‏ء- إنكم معشر الأمراء أكلتم الأموال- و أخلدتم إلى الأعذار- فإنما تأكلون النار و تورثون العار- و قد وجهت إليك محمد بن مسلمة- ليشاطرك على ما في يديك و السلام- .

فلما قدم إليه محمد اتخذ له طعاما و قدمه إليه- فأبى أن يأكل فقال ما لك لا تأكل طعامنا- قال إنك عملت لي طعاما هو تقدمة للشر- و لو كنت عملت لي طعام الضيف لأكلته- فأبعد عني طعامك و أحضر لي مالك- فلما كان الغد و أحضر ماله- جعل محمد يأخذ شطرا و يعطي عمرا شطرا- فما رأى عمرو ما حاز محمد من المال- قال يا محمد أقول قال قل ما تشاء- قال لعن الله يوما كنت فيه واليا لابن الخطاب- و الله لقد رأيته و رأيت أباه- و إن على كل واحد منهما عباءة قطوانية- مؤتزرا بها ما تبلغ مأبض ركبتيه- و على عنق كل واحد منهما حزمة من حطب- و إن العاص بن وائل لفي مزررات الديباج- فقال محمد إيها يا عمرو فعمر و الله خير منك- و أما أبوك و أبوه ففي النار- و و الله لو لا ما دخلت فيه من الإسلام- لألفيت معتلفا شاة يسرك غزرها و يسوءك بكؤها- قال صدقت فاكتم علي قال أفعل- .

جاءت سرية لعبيد الله بن عمر إلى عمر تشكوه- فقالت يا أمير المؤمنين أ لا تعذرني من أبي عيسى- قال و من أبو عيسى قالت ابنك عبيد الله- قال ويحك و قد تكني بأبي عيسى و دعاه- و قال إيها اكتنيت بأبي عيسى فحذر و فزع- فأخذ يده فعضها حتى صاح- ثم ضربه و قال ويلك هل لعيسى أب- أ ما تدري ما كنى العرب- أبو سلمة أبو حنظلة أبو عرفطة أبو مرة- . كان عمر إذا غضب على بعض أهله- لم يشتف حتى يعض يده- و كان عبد الله بن الزبير كذلك- يقال إنه لم يل ولاية من ولد عمر وال عادل‏و قال مالك بن أنس- إن عمر بن الخطاب استفرغ كل عدل في ولده- فلم يعدل بعده أحد منهم في ولاية وليها- .

كان عمر و من بعده من الولاة- إذا أخذوا العصاة نزعوا عمائمهم و أقاموهم للناس- حتى جاء زياد فضربهم بالسياط- فجاء مصعب فحلق مع الضرب- فجاء بشر بن مروان فكان يصلب تحت الإبطين- و يضرب الأكف بالمسامير- فكتب إلى بعض الجند- قوم من أهله يستزيرونه و يتشوقونه- و قد أخرجه بشر إلى الري فكتب إليهم-

لو لا مخافة بشر أو عقوبته
أو أن يرى شأني كفي بمسمار

إذا لعطلت ثغري ثم زرتكم‏
إن المحب المعنى جد زوار

فلما جاء الحجاج قال- كل هذا لعب فقتل العصاة بالسيف- . زيد بن أسلم عن أبيه- قال خلا عمر لبعض شأنه و قال أمسك علي الباب- فطلع الزبير فكرهته حين رأيته- فأراد أن يدخل فقلت هو على حاجة- فلم يلتفت إلي و أهوى ليدخل- فوضعت يدي في صدره فضرب أنفي فأدماه- ثم رجع فدخلت على عمر فقال ما بك قلت الزبير- . فأرسل إلى الزبير- فلما دخل جئت فقمت لأنظر ما يقول له- فقال ما حملك على ما صنعت أدميتني للناس- فقال الزبير يحكيه و يمطط في كلامه أدميتني- أ تحتجب عنا يا ابن الخطاب- فو الله ما احتجب مني رسول الله و لا أبو بكر- فقال عمر كالمعتذر إني كنت في بعض شأني- . قال أسلم فلما سمعته يعتذر إليه- يئست من أن يأخذ لي بحقي منه- .

فخرج الزبير فقال عمر- إنه الزبير و آثاره ما تعلم فقلت حقي حقك- . و روى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات- عن عبد الله بن عباس قال- إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من سكك المدينة- إذ قال لي يا ابن عباس ما أرى صاحبك إلا مظلوما- فقلت في نفسي و الله لا يسبقني بها- فقلت يا أمير المؤمنين فاردد إليه ظلامته- فانتزع يده من يدي- و مضى يهمهم ساعة ثم وقف فلحقته- فقال يا ابن عباس- ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه- فقلت في نفسي هذه شر من الأولى- فقلت و الله ما استصغره الله و رسوله- حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك- .

فأعرض عني و أسرع فرجعت عنه- . و قال ابن عباس- قلت لعمر لقد أكثرت التمني للموت- حتى خشيت أن يكون عليك غير سهل عند أوانه- فما ذا سئمت من رعيتك أن تعين صالحا أو تقوم فاسدا- . قال يا ابن عباس إني قائل قولا فخذه إليك- كيف لا أحب فراقهم- و فيهم من هو فاتح فاه للشهوة من الدنيا- إما لحق لا ينوء به و إما لباطل لا يناله- و الله لو لا أن أسأل عنكم لبرئت منكم- فأصبحت الأرض مني بلاقع- و لم أقل ما فعل فلان و فلان- .

جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب- فقالت يا أمير المؤمنين- إن زوجي يصوم‏ النهار و يقوم الليل- و إني أكره أن أشكوه و هو يعمل بطاعة الله- فقال نعم الزوج زوجك- فجعلت تكرر عليه القول و هو يكرر عليها الجواب- . فقال له كعب بن سور يا أمير المؤمنين- إنها تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه- ففطن عمر حينئذ- و قال له قد وليتك الحكم بينهما- . فقال كعب علي بزوجها فأتي به- فقال إن زوجتك هذه تشكوك- قال في طعام أو شراب قال لا- قالت المرأة-

أيها القاضي الحكيم رشده
ألهى خليلي عن فراشي مسجده‏

زهده في مضجعي تعبده‏
نهاره و ليله ما يرقده‏
فلست في أمر النساء أحمده‏

فقال زوجها-

زهدني في فرشها و في الحجل
أني امرؤ أذهلني ما قد نزل‏

في سورة النمل و في السبع الطول‏
و في كتاب الله تخويف جلل‏

قال كعب-

إن لها حقا عليك يا رجل
تصيبها من أربع لمن عقل‏
فأعطها ذاك و دع عنك العلل‏

فقال لعمر يا أمير المؤمنين- إن الله أحل له من النساء مثنى و ثلاث و رباع- فله ثلاثة أيام و لياليهن- يعبد فيها ربه و لها يوم و ليلة- . فقال عمر و الله ما أعلم من أي أمريك أعجب- أ من فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما- اذهب فقد وليتك قضاء البصرة- . و روى زيد بن أسلم عن أبيه قال- خرجت مع عمر بن الخطاب و هو يطوف بالليل-فنظر إلى نار شرقي حرة المدينة- فقال إن هؤلاء الركب لم ينزلوا هاهنا إلا الليلة- ثم أهوى لهم فخرجت معه حتى دنونا- فسمعنا تضاغي الصبيان و بكاءهم- .

فقال السلام عليكم يا أصحاب الضوء هل ندنو منكم- و احتبسنا قليلا فقالت امرأة منهم ادنوا بسلام- فأقبلنا حتى وقفنا عليها فقال ما يبكي هؤلاء الصبيان- قالت الجوع قال فما هذا القدر على النار- قالت ماء أعللهم به- قال انتظريني فإني بالغك إن شاء الله- ثم خرج يهرول و أنا معه حتى جئنا دار الدقيق- و كانت دارا يطرح فيها ما يجي‏ء من دقيق العراق و مصر- و قد كان كتب إلى عمرو بن العاص و أبي موسى- حين أمحلت السنة الغوث الغوث- احملوا إلى أحمال الدقيق و اجعلوا فيها جمائد الشحم- فجاء إلى عدل منها فطأطأ ظهره- ثم قال احمله على ظهري يا أسلم فقلت أنا أحمله عنك- فنظر إلي و قال أنت تحمل عني وزري يوم القيامة- لا أبا لك قلت لا قال فاحمله على ظهري إذا- ففعلت و خرج به يدلج و أنا معه- حتى ألقاه عند المرأة- . ثم قال لي ذر علي ذرور الدقيق- لا يتعرد و أنا أخزر- ثم أخذ المسواط يخزر- ثم جعل ينفخ تحت البرمة- و أنا أنظر إلى الدخان يخرج من خلل لحيته- و يقول لا تعجل حتى ينضج- ثم قال ألق علي من الشحم- فإن القفار يوجع البطن- .

ثم أنزل القدر و قال للمرأة لا تعجلي- لا تعطيهم حارا و أنا أسطح لك- فجعل يسطح بالمسواط و يبرد طعامهم- حتى إذا شبعوا ترك عندها الفضل- ثم قال لها ائتي أمير المؤمنين غدا- فإنك عسيت أن تجديني قريبا منه فأشفع لك بخير- و هي تقول من أنت يرحمك الله- و تدعو له و تقول أنت أولى بالخلافة من أمير المؤمنين- فيقول قولي خيرا يرحمك الله لا يزيد على هذا- . ثم انصرف حتى إذا كان قريبا جلس فأقعى- و جعل يسمع طويلا- حتى سمع التضاحك منها و من الصبيان- و أنا أقول يا أمير المؤمنين قد فرغت من هذه- و لك شغل في غيرها و يقول لا تكلمني- حتى إذا هدأ حسهم قام فتمطى و قال- ويحك إني سمعت الجوع أسهرهم- فأحببت ألا أبرح حتى أسمع الشبع أنامهم- .

و من كلامه- الرجال ثلاثة الكامل و دون الكامل و لا شي‏ء- فالكامل ذو الرأي يستشير الناس- فيأخذ من آراء الرجال إلى رأيه- و دون الكامل من يستبد به و لا يستشير- و لا شي‏ء من لا رأى له و لا يستشير- . و النساء ثلاث- تعين أهلها على الدهر و لا تعين الدهر على أهلها- و قلما تجدها- و امرأة وعاء للولد ليس فيها غيره- و الثالثة غل قمل- يجعله الله في رقبة من يشاء و يفكه إذا شاء- . لما أخرج عمر الحطيئة من حبسه قال له إياك و الشعر- قال لا أقدر على تركه يا أمير المؤمنين- مأكلة عيالي و نملة تدب على لساني- قال فشبب بأهلك و إياك‏ و كل مدحة مجحفه- قال و ما المجحفة- قال تقول إن بني فلان خير من بني فلان- امدح و لا تفضل أحدا- قال أنت و الله يا أمير المؤمنين أشعر مني- .

و روى الزبير في الموفقيات عن عبد الله بن عباس- قال خرجت أريد عمر بن الخطاب فلقيته راكبا حمارا- و قد ارتسنه بحبل أسود في رجليه نعلان مخصوفتان- و عليه إزار و قميص صغير- و قد انكشفت منه رجلاه إلى ركبتيه- فمشيت إلى جانبه و جعلت أجذب الإزار و أسويه عليه- كلما سترت جانبا انكشف جانب- فيضحك و يقول إنه لا يطيعك- حتى جئنا العالية فصلينا- ثم قدم بعض القوم إلينا طعاما من خبز و لحم- و إذا عمر صائم فجعل ينبذ إلي طيب اللحم- و يقول كل لي و لك- ثم دخلنا حائطا فألقى إلي رداءه و قال اكفنيه- و ألقى قميصه بين يديه و جلس يغسله و أنا أغسل رداءه- ثم جففناهما و صلينا العصر- فركب و مشيت إلى جانبه و لا ثالث لنا- .

فقلت يا أمير المؤمنين إني في خطبة فأشر علي- قال و من خطبت قلت فلانة ابنة فلان- قال النسب كما تحب و كما قد علمت- و لكن في أخلاق أهلها دقة- لا تعدمك أن تجدها في ولدك- قلت فلا حاجة لي إذا فيها- قال فلم لا تخطب إلى ابن عمك يعني عليا- قلت أ لم تسبقني إليه- قال فالأخرى قلت هي لابن أخيه- قال يا ابن عباس إن صاحبكم إن ولي هذا الأمر- أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به- فليتني أراكم بعدي قلت يا أمير المؤمنين إن صاحبنا ما قد علمت- أنه ما غير و لا بدل و لا أسخط رسول الله ص أيام صحبته له- .

قال فقطع علي الكلام- فقال و لا في ابنة أبي جهل- لما أراد أن يخطبها على فاطمة- . قلت قال الله تعالى وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً- و صاحبنا لم يعزم على سخط رسول الله ص- و لكن الخواطر التي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه- و ربما كان من الفقيه في دين الله- العالم العامل بأمر الله- . فقال يا ابن عباس من ظن أنه يرد بحوركم- فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها- فقد ظن عجزا- أستغفر الله لي و لك خذ في غيرها- .

ثم أنشأ يسألني عن شي‏ء من أمور الفتيا و أجيبه- فيقول أصبت أصاب الله بك- أنت و الله أحق أن تتبع- . أشرف عبد الملك على أصحابه و هم يتذاكرون سيرة عمر- فغاظه ذلك و قال إيها عن ذكر سيرة عمر- فإنها مزراة على الولاة مفسدة للرعية- . قال ابن عباس كنت عند عمر- فتنفس نفسا ظننت أن أضلاعه قد انفرجت- فقلت ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين- إلا هم شديد- قال إي و الله يا ابن عباس- إني فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي- ثم قال لعلك ترى صاحبك لها أهلا- قلت و ما يمنعه من ذلك- مع جهاده و سابقته و قرابته و علمه- قال صدقت و لكنه امرؤ فيه دعابة- قلت فأين أنت عن طلحة قال ذو البأو- و بإصبعه المقطوعة قلت فعبد الرحمن- قال رجل ضعيف- لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد امرأته- قلت فالزبير قال شكس لقس- يلاطم في النقيع في صاع‏ من بر- قلت فسعد بن أبي وقاص- قال صاحب سلاح و مقنب- قلت فعثمان قال أوه ثلاثا- و الله لئن وليها ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس- ثم لتنهض العرب إليه- . ثم قال يا ابن عباس- إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا خصيف العقدة- قليل الغرة لا تأخذه في الله لومة لائم- ثم يكون شديدا من غير عنف- لينا من غير ضعف سخيا من غير سرف- ممسكا من غير وكف- قال ابن عباس و كانت و الله هي صفات عمر- .

قال ثم أقبل علي بعد أن سكت هنيهة- و قال أجرؤهم و الله إن وليها أن يحملهم على كتاب ربهم- و سنة نبيهم لصاحبك- أما إن ولى أمرهم- حملهم على المحجة البيضاء و الصراط المستقيم- . و روى عبد الله بن عمر قال كنت عند أبي يوما- و عنده نفر من الناس- فجرى ذكر الشعر فقال من أشعر العرب- فقالوا فلان و فلان- فطلع عبد الله بن عباس فسلم و جلس- فقال عمر قد جاءكم الخبير- من أشعر الناس يا عبد الله- قال زهير بن أبي سلمى- قال فأنشدني مما تستجيده له- فقال يا أمير المؤمنين إنه مدح قوما من غطفان- يقال لهم بنو سنان فقال-

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا

قوم أبوهم سنان حين تنسبهم‏
طابوا و طاب من الأولاد ما ولدوا

أنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا
مرزءون بها ليل إذا جهدوا

محسدون على ما كان من نعم
لا بنزع الله منهم ماله حسدوا

فقال عمر و الله لقد أحسن- و ما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت من هاشم- لقرابتهم من رسول الله ص- فقال ابن عباس وفقك الله يا أمير المؤمنين- فلم تزل موفقا- فقال يا ابن عباس أ تدري ما منع الناس منكم- قال لا يا أمير المؤمنين قال لكني أدري- قال ما هو يا أمير المؤمنين- قال كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة و الخلافة- فيجخفوا جخفا- فنظرت قريش لنفسها فاختارت و وفقت فأصابت- . فقال ابن عباس- أ يميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع- قال قل ما تشاء- قال أما قول أمير المؤمنين إن قريشا كرهت- فإن الله تعالى قال لقوم- ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ- .

و أما قولك إنا كنا نجخف- فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة- و لكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله ص- الذي قال الله تعالى وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ- و قال له وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- . و أما قولك فإن قريشا اختارت- فإن الله تعالى يقول- وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ- و قد علمت يا أمير المؤمنين- أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار- فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها- لوفقت و أصابت قريش- . فقال عمر على رسلك يا ابن عباس- أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر قريش لا يزول- و حقدا عليها لا يحول- فقال ابن عباس مهلا يا أمير المؤمنين-لا تنسب هاشما إلى الغش- فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهره الله و زكاه- و هم أهل البيت الذين قال الله تعالى لهم- إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ- وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً- و أما قولك حقدا فكيف لا يحقد من غصب شيئه- و يراه في يد غيره- . فقال عمر أما أنت يا ابن عباس- فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به- فتزول منزلتك عندي- قال و ما هو يا أمير المؤمنين أخبرني به- فإن يك باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه- و إن يك حقا فإن منزلتي عندك لا تزول به- .

قال بلغني أنك لا تزال تقول- أخذ هذا الأمر منك حسدا و ظلما- قال أما قولك يا أمير المؤمنين حسدا- فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة- فنحن بنو آدم المحسود- . و أما قولك ظلما فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو- . ثم قال يا أمير المؤمنين- أ لم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله- و احتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله ص- فنحن أحق برسول الله من سائر قريش- . فقال له عمر قم الآن فارجع إلى منزلك فقام- فلما ولى هتف به عمر أيها المنصرف- إني على ما كان منك لراع حقك- . فالتفت ابن عباس فقال- إن لي عليك يا أمير المؤمنين- و على كل المسلمين حقا برسول الله ص- فمن حفظه فحق نفسه حفظ- و من أضاعه فحق نفسه أضاع ثم مضى- .

فقال عمر لجلسائه واها لابن عباس- ما رأيته لاحى أحدا قط إلا خصمه- . لما توفي عبد الله بن أبي- رأس المنافقين في حياة رسول الله ص- جاء ابنه و أهله- فسألوا رسول الله ص أن يصلي عليه- فقام بين يدي الصف يريد ذلك- فجاء عمر فجذبه من خلفه- و قال أ لم ينهك الله أن تصلي على المنافقين- فقال إني خيرت فاخترت- فقيل لي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ- إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ- و لو أني أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له لزدت- ثم صلى رسول الله عليه و مشى معه و قام على قبره- . فعجب الناس من جرأة عمر على رسول الله ص- فلم يلبث الناس إلا أن نزل قوله تعالى- وَ لا تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً- وَ لا تَقُمْ عَلى‏ قَبْرِهِ- فلم يصل ع بعدها على أحد من المنافقين- .

و روى أبو هريرة قال كنا قعودا حول رسول الله ص في نفر- فقام من بين أظهرنا فأبطأ علينا و خشينا أن يقطع دوننا فقمنا و كنت أول من فزع- فخرجت أبتغيه حتى أتيت حائطا للأنصار- لقوم من بني النجار- فلم أجد له بابا إلا ربيعا- فدخلت في جوف الحائط و الربيع الجدول- فدخلت منه بعد أن احتفرته فإذا رسول الله ص- فقال أبو هريرة قلت نعم- قال ما شأنك قلت كنت بين أظهرنا- فقمت فأبطأت عنا فخشينا أن تقتطع دوننا- ففزعنا و كنت أول من فزع- فأتيت هذا الحائط فاحتفرته كما يحتفر الثعلب- و الناس من ورائي- .

فقال يا أبا هريرة اذهب بنعلي هاتين- فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله- مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة- فخرجت فكان أول من لقيت عمر- فقال ما هذان النعلان- قلت نعلا رسول الله ص بعثني بهما- و قال من لقيته يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه- فبشره بالجنة- . فضرب عمر في صدري فخررت لاستي- و قال ارجع إلى رسول الله ص- . فأجهشت بالبكاء راجعا- فقال رسول الله ما بالك- قلت لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به- فضرب صدري ضربة خررت لاستي- و قال ارجع إلى رسول الله- . فخرج رسول الله فإذا عمر- فقال ما حملك يا عمر على ما فعلت- فقال عمر أنت بعثت أبا هريرة بكذا- قال نعم قال فلا تفعل- فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فيتركوا العمل خلهم يعملون فقال رسول الله ص خلهم يعملون

و روى أبو سعيد الخدري قال أصابت الناس مجاعة في غزاة تبوك- فقالوا يا رسول الله لو أذنت لنا فذبحنا نواضحنا- و أكلنا شحمها و لحمها فقال افعلوا- فجاء عمر فقال يا رسول الله إنهم إن فعلوا قل الظهر- و لكن ادعهم بفضلات أزوادهم فاجمعها- ثم ادع لهم عليها بالبركة لعل الله يجعل في ذلك خيرا-ففعل رسول الله ص ذلك- فأكل الخلق الكثير من طعام قليل- و لم تذبح النواضح

و روى ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله ص يذكر له ذنبا أذنبه- فانزل الله تعالى في أمره- وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ- إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى‏ لِلذَّاكِرِينَ- فقال يا رسول الله لي خاصة أم للناس عامة- . فضرب عمر صدره بيده و قال- لا و لا نعمى عين بل للناس عامة- فقال رسول الله ص بل للناس عامة
– . و كان عمر يقول وافقني ربي في ثلاث- قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى- فنزلت وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى- .

و قلت يا رسول الله- إن نساءك يدخل عليهن البر و الفاجر- فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب- . و تمالأ عليه نساؤه غيرة فقلت له- عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن- فنزلت بهذا اللفظ- . و قال عبد الله بن مسعود فضل عمر الناس بأربع- برأيه في أسارى بدر فنزل القرآن بموافقته- ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‏ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ- و برأيه في حجاب نساء النبي ص- فنزل قوله تعالى- وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَ‏ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ- و بدعوة النبي ص-

اللهم أيد الإسلام بأحد الرجلين- و برأيه في أبي بكر كان أول من بايعه- . و روت عائشة قالت- كنت آكل مع رسول الله ص حيسا- قبل أن تنزل آية الحجاب- و مر عمر فدعاه فأكل- فأصابت يده إصبعي فقال حس- لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزلت آية الحجاب- . جاء عيينة بن حصن و الأقرع بن حابس إلى أبي بكر- فقالا يا خليفة رسول الله- إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ و لا منفعة- فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها أو نزرعها- و لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم- فقال أبو بكر لمن حوله من الناس المسلمين- ما ترون قالوا لا بأس- فكتب لهما بها كتابا و أشهد فيه شهودا- و عمر ما كان حاضرا- فانطلقا إليه ليشهد في الكتاب- فوجداه قائما يهنأ بعيرا- فقالا إن خليفة رسول الله ص كتب لنا هذا الكتاب- و جئناك لتشهد على ما فيه- أ فتقرؤه أم نقرؤه عليك- قال أ على الحال التي تريان إن شئتما فاقرآه- و إن شئتما فانتظرا حتى أفرغ- .

قالا بل نقرؤه عليك- فلما سمع ما فيه أخذه منهما ثم تفل فيه- فمحاه فتذامرا و قالا مقالة سيئة- .فقال إن رسول الله ص كان يتألفكما- و الإسلام يومئذ ذليل- و إن الله تعالى قد أعز الإسلام- فاذهبا فاجهدا جهدكما- لا رعى الله عليكما إن رعيتما- . فذهبا إلى أبي بكر و هما يتذمران- فقالا و الله ما ندري أنت أمير أم عمر- فقال بل هو لو شاء كان- . و جاء عمر و هو مغضب حتى وقف على أبي بكر- فقال أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين الرجلين- أ هي لك خاصة أم بين المسلمين عامة- فقال بين المسلمين عامة- قال فما حملك على أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين- قال استشرت الذين حولي فأشاروا بذلك- فقال أ فكل المسلمين أوسعتهم مشورة و رضا- فقال أبو بكر- فلقد كنت قلت لك إنك أقوى على هذا الأمر مني- لكنك غلبتني- .

لما كتب النبي ص كتاب الصلح- في الحديبية بينه و بين سهيل بن عمرو- كان في الكتاب أن من خرج من المسلمين إلى قريش لا يرد- و من خرج من المشركين إلى النبي ص يرد عليهم- فغضب عمر و قال لأبي بكر ما هذا يا أبا بكر- أ يرد المسلمون إلى المشركين- ثم جاء إلى رسول الله ص فجلس بين يديه- و قال يا رسول الله أ لست رسول الله حقا قال بلى- قال و نحن المسلمون حقا قال نعم- قال و هم الكافرون حقا قال نعم- قال فعلام نعطي الدنية في ديننا- فقال رسول الله أنا رسول الله أفعل ما يأمرني به- و لن يضيعني- .

فقام عمر مغضبا- و قال لو أجد أعوانا ما أعطيت الدنية أبدا- و جاء إلى أبي بكرفقال له يا أبا بكر- أ لم يكن وعدنا أننا سندخل مكة- فأين ما وعدنا به فقال أبو بكر- أ قال لك إنه العام يدخلها قال لا- قال فسيدخلها فقال فما هذه الصحيفة التي كتبت- و كيف نعطي الدنية من أنفسنا- فقال أبو بكر يا هذا الزم غرزه- فو الله إنه لرسول الله و إن الله لا يضيعه- .

فلما كان يوم الفتح- و أخذ رسول الله ص مفتاح الكعبة- قال ادعوا لي عمر- فجاء فقال هذا الذي كنت وعدتكم به- . لما قتل المشركون يوم بدر أسر منهم سبعون أسيرا- فاستشار رسول الله ص فيهم أبا بكر و عمر- فقال أبو بكر- يا رسول الله هؤلاء بنو العم و العشيرة و الإخوان- و أرى أن تأخذ منهم الفدية- فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على المشركين- و عسى أن يهديهم الله بعد اليوم- فيكونوا لنا عذرا- فقال رسول الله ص ما تقول أنت يا عمر- قال أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر- فأضرب عنقه- و تمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه- و تمكن حمزة من أخيه فيضرب عنقه- حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين- اقتلهم يا رسول الله فإنهم صناديدهم و قادتهم- فلم يهو رسول الله ما قاله عمر- . قال عمر فجئت رسول الله ص- فوجدته قاعدا و أبو بكر و هما يبكيان- فقلت ما يبكيكما حدثاني- فإن وجدت بكاء بكيت و إلا تباكيت- فقال رسول الله ص أبكي لأخذ الفداء- لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة- لشجرة قريبة منه- .

قال عبد الله بن عمر- فكان رسول الله ص يقول- كدنا أن يصيبنا شر في مخالفة عمر- . و قال عمر في خلافته- لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا- فإني أعلم أن للناس حوائج تقتطع دوني- أما عمالهم فلا يرفعونها إلي- و أما هم فلا يصلون إلي- أسير إلى الشام فأقيم بها شهرين- ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين- ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين- ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين- ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين- ثم إلى البصرة فأقيم بها شهرين- و الله لنعم الحول هذا- .

و قال أسلم- بعثني عمر بإبل من إبل الصدقة إلى الحمى- فوضعت جهازي على ناقة منها كريمة- فلما أردت أن أصدرها قال أعرضها علي- فعرضتها عليه فرأى متاعي على ناقة حسناء- فقال لا أم لك- عمدت إلى ناقة تغني أهل بيت من المسلمين- فهلا ابن لبون بوال أو ناقة شصوص- . و قيل لعمر إن هاهنا رجلا من الأحبار نصرانيا- له بصر بالديوان لو اتخذته كاتبا- فقال لقد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين- . قال و قد خطب الناس- و الذي بعث محمدا بالحق- لو أن جملا هلك ضياعا بشط الفرات- خشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب- .

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم- يعني بآل الخطاب نفسه ما يعني غيرها- . و كتب إلى أبي موسى- أنه لم يزل للناس وجوه من الأمر- فأكرم من قبلك من وجوه الناس- و بحسب المسلم الضعيف من بين القوم- أن ينصف في الحكم و في القسم- . أتى أعرابي عمر- فقال إن ناقتي بها نقبا و دبرا فاحملني- فقال له و الله ما ببعيرك من نقب و لا دبر فقال-

أقسم بالله أبو حفص عمر
ما مسها من نقب و لا دبر
فاغفر له اللهم إن كان فجر

فقال عمر اللهم اغفر لي ثم دعاه فحمله- . جاء رجل إلى عمر و كانت بينهما قرابة يسأله- فزبره و أخرجه فكلم فيه- و قيل يا أمير المؤمنين زبرته و أخرجته- قال إنه سألني من مال الله- فما معذرتي إذا لقيته ملكا خائنا فلو سألني من مالي- ثم بعث إليه ألف درهم من ماله- .

و كان يقول في عماله- اللهم إني لم أبعثهم ليأخذوا أموال المسلمين- و لا ليضربوا أبشارهم- من ظلمه أميره فلا إمرة عليه دوني بينا عمر ذات ليلة يعس- سمع صوت امرأة من سطح و هي تنشد-

تطاول هذا الليل و أزور جانبه
و ليس إلى جنبي خليل ألاعبه‏

فو الله لو لا الله تخشى عواقبه‏
لزعزع من هذا السرير جوانبه‏

مخافة ربي و الحياء يصدني
و أكرم بعلي أن تنال مراكبه‏

و لكنني أخشى رقيبا موكلا
بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه‏

– فقال عمر لا حول و لا قوة إلا بالله- ما ذا صنعت يا عمر بنساء المدينة- ثم جاء فضرب على حفصة ابنته- فقالت ما جاء بك في هذه الساعة- قال أخبريني كم تصبر المرأة المغيبة عن بعلها- قالت أقصاه أربعة أشهر- . فلما أصبح كتب إلى أمرائه في جميع النواحي- ألا تجمر البعوث- و ألا يغيب رجل عن أهله أكثر من أربعة أشهر- .

و روى أسلم قال- كنت مع عمر و هو يعس بالمدينة- إذ سمع امرأة تقول لبنتها- قومي يا بنية إلى ذلك اللبن بعد المشرقين فامذقيه- قالت أ و ما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين بالأمس- قالت و ما هو- قالت إنه أمر مناديا فنادى ألا يشاب اللبن بالماء- قالت فإنك بموضع لا يراك أمير المؤمنين- و لا منادي أمير المؤمنين- قالت‏ و الله ما كنت لأطيعه في الملأ و أعصيه في الخلاء- و عمر يسمع ذلك- فقال يا أسلم اعرف الباب ثم مضى في عسه- فلما أصبح قال يا أسلم امض إلى الموضع- فانظر من القائلة و من المقول لها و هل لهما من بعل- قال أسلم- فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيم- و إذا المتكلمة بنت لها ليس لهما رجل- .

فجئت فأخبرته فجمع عمر ولده- و قال هل يريد أحد أن يتزوج- فأزوجه امرأة صالحة فتاة- و لو كان في أبيكم حركة إلى النساء لم يسبقه أحد إليها- فقال عاصم ابنه أنا فبعث إلى الجارية فزوجها ابنه عاصما- فولدت له بنتا هي المكناة أم عاصم- و هي أم عمر بن عبد العزيز بن مروان- . حج عمر فلما كان بضجنان- قال لا إله إلا الله العلي العظيم- المعطي ما يشاء لمن يشاء- أذكر و أنا أرعى إبل الخطاب- بهذا الوادي في مدرعة صوف- و كان فظا يتعبني إذا عملت- و يضربني إذا قصرت- و قد أمسيت اليوم و ليس بيني و بين الله أحد ثم تمثل-

لا شي‏ء مما يرى تبقى بشاشته
يبقى الإله و يودي المال و الولد

لم تغن عن هرمز يوما خزائنه‏
و الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

و لا سليمان إذ تجري الرياح له
و الإنس و الجن فيما بينها يرد

أين الملوك التي كانت منازلها
من كل أوب إليها راكب يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب
لا بد من ورده يوما كما وردوا

و روى محمد بن سيرين- أن عمر في آخر أيامه اعتراه نسيان- حتى كان ينسى عدد ركعات الصلاة- فجعل أمامه رجلا يلقنه- فإذا أومى إليه أن يقوم أو يركع فعل- . و سمع عمر منشدا ينشد قول طرفه-

فلو لا ثلاث هن من عيشه الفتى
و جدك لم أحفل متى قام عودي‏

فمنهن سبقي العاذلات بشربه‏
كميت متى ما تعل بالماء تزبد

و كري إذا نادى المضاف محنبا
كسيد الغضا نبهته المتوسد

و تقصير يوم الدجن و الدجن معجب‏
ببهكنة تحت الطراف الممدد

فقال و أنا لو لا ثلاث هن من عيشه الفتى- لم أحفل متى قام عودي- أن أجاهد في سبيل الله- و أن أضع وجهي في التراب لله- و أن أجالس قوما يلتقطون طيب القول كما يلتقط طيب التمر- . و روى عبد الله بن بريدة- قال كان عمر ربما يأخذ بيد الصبي- فيقول ادع لي فإنك لم تذنب بعد- و كان عمر كثير المشاورة- كان يشاور في أمور المسلمين حتى المرأة- . و روى يحيى بن سعيد قال- أمر عمر الحسين بن علي ع- أن يأتيه‏ في بعض الحاجة- فلقي الحسين ع عبد الله بن عمر- فسأله من أين جاء- قال استأذنت على أبي فلم يأذن لي- فرجع الحسين و لقيه عمر من الغد- فقال ما منعك يا حسين أن تأتيني قال قد أتيتك- و لكن أخبرني ابنك عبد الله أنه لم يؤذن له عليك- فرجعت فقال عمر و أنت عندي مثله- و هل أنبت الشعر على الرأس غيركم- .

قال عمر يوما و الناس حوله- و الله ما أدري أ خليفة أنا أم ملك- فإن كنت ملكا فقد ورطت في أمر عظيم- فقال له قائل يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقا- و إنك إن شاء الله لعلى خير قال كيف- قال إن الخليفة لا يأخذ إلا حقا و لا يضعه إلا في حق- و أنت بحمد الله كذلك- و الملك يعسف الناس و يأخذ مال هذا فيعطيه هذا- فسكت عمر و قال أرجو أن أكونه- . و روى مالك عن نافع عن ابن عمر- أن عمر تعلم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة- فلما ختمها نحر جزورا- . و روى أنس- قال كان يطرح لعمر كل يوم صاع من تمر- فيأكله حتى حشفه- . و روى يوسف بن يعقوب الماجشون- قال قال لي ابن شهاب و لأخ لي و ابن عم لنا- و نحن صبيان أحداث- لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم- فإن عمر كان إذا نزل به الأمر المعضل- دعا الصبيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم- .

و روى الحسن- قال كان رجل لا يزال يأخذ من لحية عمر شيئا- فأخذ يوما من لحيته فقبض على يده فإذا فيها بشي‏ء- فقال إن الملق من الكذب ثم علاه بالدرة- . انقطع شسع نعل عمر فاسترجع- و قال كل ما ساءك فهو مصيبة- . وقف أعرابي على عمر فقال له-

يا ابن خطاب جزيت الجنة
اكس بنياتي و أمهنه‏
أقسم بالله لتفعلنه‏

فقال عمر إن لم أفعل يكون ما ذا- قال

إذا أبا حفص لأمضينه‏

فقال إذا مضيت يكون ما ذا- قال

تكون عن حالي لتسألنه
يوم تكون الأعطيات جنة

و الواقف المسئول يبهتنه‏
إما إلى نار و إما جنة

فبكى عمر ثم قال لغلامه- أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره- و الله ما أملك ثوبا غيره- . و روى ابن عباس- قال قال لي عمر ليلة أنشدني لشاعر الشعراء- قلت و من هو قال زهير الذي يقول-

إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية
من المجد من يسبق إليها يسود

فأنشدته حتى برق الفجر- فقال إيها الآن اقرأ يا عبد الله- قلت ما أقرأ قال سورة الواقعة- . سمع عمر صوت بكاء في بيت- فدخل و بيده الدرة- فمال عليهم ضربا حتى بلغ النائحة- فضربها حتى سقط خمارها- ثم قال لغلامه اضرب النائحة- ويلك اضربها فإنها نائحة لا حرمة لها- لأنها لا تبكي بشجوكم- إنها تهريق دموعها على أخذ دراهمكم- إنها تؤذي أمواتكم في قبورهم و أحياءكم في دورهم- إنها تنهى عن الصبر و قد أمر الله به- و تأمر بالجزع و قد نهى الله عنه- . و من كلامه- من اتجر في شي‏ء ثلاث مرات فلم يصب فيه- فليتحول عنه إلى غيره- . و من كلامه- لو كنت تاجرا لما اخترت على العطر شيئا- إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه- .

و من كلامه تفقهوا قبل أن تسودوا- . و من كلامه تعلموا المهنة- فإنه يوشك أحدكم أن يحتاج إلى مهنته- . و من كلامه مكسبة فيها بعض الدناءة- خير من مسألة الناس- . و من كلامه أعقل الناس أعذرهم لهم- . رأى عمر ناسا يتبعون أبي بن كعب- فرفع عليه الدرة- فقال يا أمير المؤمنين اتق الله- قال فما هذه الجموع خلفك يا ابن كعب- أ ما علمت أنها فتنة للمتبوع مذلة للتابع- . جاء رجل إلى عمر- فقال إن بنتا لي واريتها في الجاهلية- فاستخرجناها قبل أن‏

تموت- فأدركت معنا الإسلام فأسلمت- ثم قارفت حدا من حدود الله- فأخذت الشفرة لتذبح نفسها- فأدركناها و قد قطعت بعض أوداجها- فداويناها حتى برئت و تابت توبة حسنة- و قد خطبها قوم أ فأخبرهم بالذي كان من شأنها- فقال عمر أ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه- و الله لئن أخبرت بشأنها أحدا- لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار- أنكحها نكاح العفيفة السليمة- .

أسلم غيلان بن سلمة الثقفي من عشر نسوة- فقال له النبي ص- اختر منهن أربعا و طلق ستا – فلما كان على عهد عمر طلق نساءه الأربع- و قسم ماله بين بنيه- فبلغ ذلك عمر فأحضره- فقال له إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع- سمع بموتك فقذفه في نفسك- و لعلك لا تمكث إلا قليلا- و ايم الله لتراجعن نساءك- و لترجعن في مالك- أو لأورثنهن منك- و لآمرن بقبرك فيرجم- كما رجم قبر أبي رغال و قال عمر- إن الجزف في المعيشة أخوف عندي عليكم من العيال- أنه لا يبقى مع الفساد شي‏ء- و لا يقل مع الإصلاح شي‏ء- . و كان عمر يقول أدبوا الخيل- و انتضلوا و اقعدوا في الشمس- و لا يجاورنكم الخنازير- و لا تقعدوا على مائدة يشرب عليها الخمر- أو يرفع عليها الصليب- و إياكم و أخلاق العجم- و لا يحل لمؤمن أن يدخل الحمام إلا مؤتزرا- و لا لامرأة أن تدخل الحمام إلا من سقم- فإذا وضعت المرأة خمارها في غير بيت زوجها- فقد هتكت الستر بينها و بين الله تعالى- .

و كان يكره أن يتزيا الرجال بزي النساء- و ألا يزال الرجل يرى مكتحلا مدهنا- و أن يحف لحيته و شاربه كما تحف المرأة- . سمع عمر سائلا يقول من يعشي السائل- فقال عشوا سائلكم- ثم جاء إلى دار إبل الصدقة يعشيها- فسمع صوته مرة أخرى- من يعشي السائل- فقال أ لم آمركم أن تعشوه فقالوا قد عشيناه- فأرسل إليه عمر و إذا معه جراب مملوء خبزا- فقال إنك لست سائلا إنما أنت تاجر تجمع لأهلك- فأخذ بطرف الجراب فنبذه بين يدي الإبل- . و قال عمر من مزح استخف به- و قال أ تدرون لم سمي المزاح مزاحا- لأنه أزاح الناس عن الحق- .

و من كلامه لن يعطى أحد بعد الكفر بالله شرا- من زوجة حديدة اللسان سيئة الخلق عقيم- و لن يعطى أحد بعد الإيمان بالله خيرا- من زوجة كريمة ودود ولود حسنة الخلق- . و كان يقول- إن شقاشق الكلام من شقاشق اللسان- فأقلوا ما استطعتم- . و نظر إلى شاب قد نكس رأسه خشوعا- فقال يا هذا ارفع رأسك- فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب- فمن أظهر للخلق خشوعا فوق ما في قلبه- فإنما أظهر نفاقا- . و من كلامه- إن أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم أسماء- فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم أخلاقا- فإذا بلوناكم فأحبكم إلينا أعظمكم أمانة- و أصدقكم حديثا- . و كان يقول- لا تنظروا إلى صلاة امرئ و لا صيامه- و لكن انظروا إلى عقله و صدقه- .

و من كلامه إن العبد إذا تواضع لله رفع حكمته- و قال له انتعش نعشك الله- فهو في نفسه صغير و في أعين الناس عظيم- و إذا تكبر و عتا وهضه الله إلى الأرض- و قال اخسأ خسأك الله- فهو في نفسه عظيم- و في أعين الناس حقير- حتى يكون عندهم أحقر من الخنزير- . و قال الإنسان لا يتعلم العلم لثلاث و لا يتركه لثلاث- لا يتعلمه ليماري به و لا ليباهي به و لا ليرائي به- و لا يتركه حياء من طلبه- و لا زهادة فيه و لا رضا بالجهل بدلا منه- . و قال تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم- . و قال إني لا أخاف عليكم أحد الرجلين- مؤمنا قد تبين إيمانه و كافرا قد تبين كفره- و لكن أخاف عليكم منافقا يتعوذ بالإيمان و يعمل بغيره- . و من كلامه إن الرجف من كثرة الزناء- و إن قحوط المطر من قضاه السوء و أئمة الجور- .

و قال في النساء استعينوا عليهن بالعري- فإن إحداهن إذا كثرت ثيابها- و حسنت زينتها أعجبها الخروج- . و من كلامه إن الجبت السحر و إن الطاغوت الشيطان- و إن الجبن و الشجاعة غرائز تكون في الرجال- يقاتل الشجاع عمن لا يعرف- و يفر الجبان عن أمه- و إن كرم الرجل دينه- و حسب الرجل خلقه- و إن كان فارسيا أو نبطيا- . و قال تفهموا العربية- فإنها تشحذ العقل و تزيد في المروءة- . و قال النساء ثلاث- امرأة هينة لينة عفيفة ودود ولود- تعين بعلها على الدهر- و لا تعين الدهر على بعلها و قلما تجدها- و أخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك شيئا- و الثالثة غل قمل- يجعله الله في عنق من يشاء- و ينزعه إذا شاء- .

و الرجال ثلاثة- رجل عاقل يورد الأمور و يصدرها- فيحسن إيرادا و إصدارا- و آخر يشاور الرجال و يقف عند آرائهم- و الثالث حائر بائر لا يأتمر رشدا- و لا يطيع مرشدا- . و قال ما يمنعكم إذا رأيتم السفيه- يخرق أعراض النساء أن تعربوا عليه- قالوا نخاف لسانه قال ذاك أدنى ألا تكونوا شهداء- . و رأى رجلا عظيم البطن- فقال ما هذا قال بركة من الله- . و قال إذا رزقت مودة من أخيك- فتشبث بها ما استطعت- . و قال لقوم يحصدون الزرع- إن الله جعل ما أخطأت أيديكم رحمة لفقرائكم- فلا تعودوا فيه- . و قال ما ظهرت قط نعمه على أحد إلا وجدت له حاسدا- و لو أن أمرا كان أقوم من قدح لوجدت له غامزا- . و قال إياكم و المدح فإنه الذبح- . و قال لقبيصه بن ذؤيب- أنت رجل حديث السن فصيح اللسان- و إنه يكون في الرجل تسعة أخلاق حسنة- و خلق واحد سيئ- فيغلب الواحد التسعة فتوق عثرات السيئات- .

و قال بحسب امرئ من الغي أن يؤذي جليسه- أو يتكلف ما لا يعنيه- أو يعيب الناس بما يأتي مثله- و يظهر له منهم ما يخفى عليهم من نفسه- . و قال احترسوا من الناس بسوء الظن- . و قال في خطبة له لا يعجبنكم من الرجل طنطنته- و لكن من أدى الأمانة- و كف عن أعراض الناس فهو الرجل- . و قال الراحة في مهاجرة خلطاء السوء- .

و قال إن لؤما بالرجل أن يرفع يديه من الطعام قبل أصحابه- . و أثنى رجل على رجل عند عمر- فقال له أ عاملته قال لا- قال أ صحبته في السفر قال لا- قال فأنت إذا القائل ما لا يعلم- . و قال لأن أموت بين شعبتي رحلي أسعى في الأرض- أبتغي من فضل الله كفاف وجهي- أحب إلي من أن أموت غازيا- . و كان عمر قاعدا و الدرة معه و الناس حوله- إذ أقبل الجارود العامري فقال رجل هذا سيد ربيعة- فسمعها عمر و من حوله و سمعها الجارود- فلما دنا منه خفقه بالدرة- فقال ما لي و لك يا أمير المؤمنين- قال ويلك سمعتها- قال و سمعتها فمه- قال خشيت أن تخالط القوم- و يقال هذا أمير فأحببت أن أطأطئ منك- .

و قال من أحب أن يصل أباه في قبره- فليصل إخوان أبيه من بعده- . و قال إن أخوف ما أخاف أن يكون- إعجاب المرء برأيه- فمن قال إني عالم فهو جاهل- و من قال إني في الجنة فهو في النار- . و خرج للحج- فسمع غناء راكب يغني و هو محرم- فقيل يا أمير المؤمنين أ لا تنهاه عن الغناء و هو محرم- فقال دعوه فإن الغناء زاد الراكب- .

و قال يثغر الغلام لسبع و يحتلم لأربع عشرة- و ينتهي طوله لإحدى و عشرين- و يكمل عقله لثمان و عشرين- و يصير رجلا كاملا لأربعين- .

و روى سعيد بن المسيب- أن عمر لما صدر من الحج في الشهر الذي قتل فيه- كوم كومة من بطحاء و ألقى عليها طرف ثوبه- ثم استلقى عليها و رفع يديه إلى السماء- و قال اللهم كبرت سني- و ضعفت قوتي و انتشرت رعيتي- فاقبضني إليك غير مضيع و لا مفرط- . ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال- أيها الناس قد فرضت لكم الفرائض- و سننت لكم السنن و تركتكم على الواضحة- إلا أن تضلوا بالناس يمينا و شمالا- إياكم أن تنتهوا عن آية الرجم- و أن يقول قائل لا نجد ذلك حدا في كتاب الله- فقد رأيت رسول الله رجم و رجمنا بعده- و لو لا أن يقول الناس- إن ابن الخطاب أحدث آية في كتاب الله لكتبتها- و لقد كنا نقرؤها- و الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة- فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن دفع إلى عمر صك محله في شعبان- فقال أي شعبان الذي مضى أم الذي نحن فيه- ثم جمع أصحاب رسول الله ص-

و قال ضعوا للناس تاريخا يرجعون إليه- فقال قائل منهم اكتبوا على تاريخ الروم- فقيل إنه يطول و إنه مكتوب من عهد ذي القرنين- و قال قائل بل اكتبوا على تاريخ الفرس- فقيل إن الفرس كلما قام ملك طرحوا ما كان قبله- فقال علي ع اكتبوا تاريخكم- منذ خرج رسول الله ص من دار الشرك إلى دار النصرة- و هي دار الهجرة – فقال عمر نعم ما أشرت به- فكتب للهجرة- بعد مضي سنتين و نصف من خلافة عمر- .

قال المؤرخون- إن عمر أول من سن قيام رمضان في جماعة- و كتب به إلى البلدان و أقام الحد في الخمر ثمانين- و أحرق بيت رويشد الثقفي و كان نباذا- و أقام في عمله بنفسه- و أول من حمل الدرة و أدب بها- و قيل بعده كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج- . و هو أول من فتح الفتوح- فتح العراق كله السواد و الجبال و أذربيجان- و كور البصرة و كور الكوفة و الأهواز و فارس- و فتح الشام كلها ما خلا أجنادين- فإنها فتحت في خلافة أبي بكر- و فتح كور الجزيرة و الموصل و مصر و الإسكندرية- و قتله أبو لؤلؤة و خيله على الري- .

و هو أول من مسح السواد و وضع الخراج على الأرض- و الجزية على جماجم أهل الذمة فيما فتحه من البلدان- و بلغ خراج السواد في أيامه مائة ألف ألف درهم- و عشرين ألف ألف درهم بالوافية- و هي وزن الدينار من الذهب- و هو أول من مصر الأمصار- و كوف الكوفة و بصر البصرة و أنزلها العرب- و أول من استقضى القضاة في الأمصار- و أول من دون الدواوين- و كتب الناس على قبائلهم- و فرض لهم الأعطية- و هو أول من قاسم العمال و شاطرهم أموالهم- و كان يستعمل قوما و يدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل- و قال أكره أن أدنس هؤلاء بالعمل- و هو الذي هدم مسجد رسول الله ص- و زاد فيه و أدخل دار العباس فيما زاد- و هو الذي أخرج اليهود من الحجاز- و أجلاهم عن جزيرة العرب إلى الشام- و هو الذي فتح البيت المقدس و حضر الفتح بنفسه- و هو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم- و كان ملصقا بالبيت و حج بنفسه خلافته كلها إلا السنة الأولى- فإنه استخلف على الحج عبد الرحمن بن عوف- و هوالذي جاء بالحصى من العقيق فبسطه في مسجد المدينة- و كان الناس إذا رفعوا رءوسهم من السجود نفضوا أيديهم- .

و روى أبو هريرة قال- قدمت على عمر من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم- فقال لي بما ذا قدمت قلت بثمانمائة ألف درهم- فقال أ لم أقل لك إنك يمان أحمق- ويحك إنما قدمت بثمانين ألف درهم- فقلت يا أمير المؤمنين إنما قدمت بثمانمائة ألف درهم- فجعل يعجب و يكررها- فقال ويحك و كم ثمانمائة ألف درهم- فعددت مائة ألف و مائة ألف حتى بلغت ثمانية- فاستعظم ذلك- و قال أ طيب هو ويحك- قلت نعم فبات عمر ليلته تلك أرقا حتى إذا نودي لصلاة الصبح- قالت له امرأته ما نمت هذه الليلة- قال و كيف أنام و قد جاء الناس ما لم يأتهم مثله منذ قام الإسلام- فظنت المرأة أنها داهية- فسألته فقال مال جم حمله أبو موسى- قالت فما بالك- قال ما يؤمنني لو مت و هذا المال عندي لم أضعه في حقه- فخرج يصلي الصبح و اجتمع الناس إليه- فقال لهم قد رأيت في هذا المال رأيا فأشيروا علي- رأيت أن أكيله للناس بالمكيال- قالوا لا يا أمير المؤمنين-

قال لا بل أبدأ برسول الله ص و بأهله- ثم الأقرب فالأقرب فبدأ ببني هاشم- ثم ببني المطلب ثم بعبد شمس و نوفل- ثم بسائر بطون قريش- . قسم عمر مروطا بين نساء المدينة- فبقي مرط جيد له فقال بعض من عنده- أعط هذا يا أمير المؤمنين ابنة رسول الله التي عندك- يعنون أم كلثوم ابنة علي ع-فقال أم سليط أحق به- فإنها ممن بايع رسول الله ص- و كانت تزفر لنا القرب يوم أحد- . و روى زيد بن أسلم عن أبيه- قال خرجت مع عمر إلى السوق- فلحقته امرأة شابة- فقالت يا أمير المؤمنين هلك زوجي- و ترك صبية صغارا لا ينضحون كراعا- لا زرع لهم و لا ضرع- و قد خشيت عليهم الضيعة- و أنا ابنة خفاف بن أسماء الغفاري- و قد شهد أبي الحديبية فوقف عمر معها و لم يمض- و قال مرحبا بنسيب قريب- ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار- فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما- و جعل بينهما نفقة و ثيابا ثم ناولها خطامه-

و قال اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير- فقال له رجل لقد أكثرت لها يا أمير المؤمنين- فقال ثكلتك أمك و الله لكأني أرى أبا هذه و أخاها- و قد حاصرا حصنا فافتتحاه فافترقنا- ثم أصبحنا نستقرئ سهماننا فيه- . و روى الأوزاعي أن طلحة تبع عمر ليلة- فرآه دخل بيتا ثم خرج- فلما أصبح ذهب طلحة إلى ذلك البيت- فرأى امرأة عمياء مقعده- فقال لها ما بال رجل أتاك الليلة- قالت إنه رجل يتعاهدني منذ كذا و كذا- يأتيني بما يصلحني- فقال طلحة ثكلتك أمك يا طلحة تريد تتبع عمر- .

خرج عمر إلى الشام- حتى إذا كان ببعض الطريق- لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح و أصحابه- فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام- فقال لابن عباس ادع لي المهاجرين- فدعاهم فسألهم فاختلفوا عليه- فقال بعضهم خرجت لأمر و لا نرى أن‏ ترجع عنه- و قال بعضهم معك بقية الناس و أصحاب رسول الله ص- و لا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء- فقال ارتفعوا عني- ثم قال لابن عباس ادع لي الأنصار فدعاهم فاستشارهم- فاختلفوا عليه اختلاف المهاجرين- فقال لابن عباس- ادع لي من كان من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح- فدعاهم فقالوا بأجمعهم- نرى أن ترجع بالناس و لا تقدمهم على هذا الوباء- فنادى عمر في الناس- إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه- فقال له أبو عبيدة بن الجراح- أ فرارا من قدر الله تعالى- فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة- نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله- أ رأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان- إحداهما خصبة و الأخرى جدبة- أ ليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله- و إن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله- فجاء عبد الرحمن بن عوف و كان متغيبا في بعض حاجته- فقال إن عندي من هذا علما-
سمعت رسول الله ص يقول إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه- و إذا وقع بأرض و أنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه
– فحمد عمر الله عز و جل و انصرف إلى المدينة- .

و روى ابن عباس- قال خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته- فانفرد يوما يسير على بعيره فاتبعته- فقال لي يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمك- سألته أن يخرج معي فلم يفعل- و لم أزل أراه واجدا فيم تظن موجدته- قلت يا أمير المؤمنين إنك لتعلم- قال أظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة- قلت هو ذاك إنه يزعم أن رسول الله أراد الأمر له- فقال يا ابن عباس و أراد رسول الله ص الأمر له- فكان ما ذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك- إن رسول الله ص أراد أمرا و أراد الله غيره- فنفذ مراد الله تعالى و لم ينفذ مراد رسوله- أ و كلما أراد رسول الله ص كان- إنه أراد إسلام عمه و لم يرده الله فلم يسلم- .

و قد روي معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ و هو قوله- إن رسول الله ص أراد أن يذكره للأمر في مرضه- فصددته عنه خوفا من الفتنة و انتشار أمر الإسلام- فعلم رسول الله ما في نفسي و أمسك- و أبى الله إلا إمضاء ما حتم و حدثني الحسين بن محمد السيني- قال قرأت على ظهر كتاب- أن عمر نزلت به نازلة- فقام لها و قعد و ترنح لها و تقطر- و قال لمن عنده معشر الحاضرين- ما تقولون في هذا الأمر- فقالوا يا أمير المؤمنين أنت المفزع و المنزع- فغضب و قال- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ- وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً- ثم قال أما و الله إني و إياكم لنعلم ابن بجدتها و الخبير بها- قالوا كأنك أردت ابن أبي طالب- قال و أنى يعدل بي عنه و هل طفحت حرة مثله- قالوا فلو دعوت به يا أمير المؤمنين- قال هيهات إن هناك شمخا من هاشم و أثرة من علم- و لحمة من رسول الله ص يؤتى و لا يأتي- فامضوا بنا إليه فانقصفوا نحوه و أفضوا إليه- فألفوه في حائط له عليه تبان- و هو يتركل على مسحاته و يقرأ- أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً إلى آخر السورة- و دموعه تهمي على خديه- فأجهش الناس لبكائه فبكوا ثم سكت و سكتوا- فسأله عمر عن تلك الواقعة فأصدر جوابها- فقال عمر- أماو الله لقد أرادك الحق و لكن أبى قومك- فقال يا أبا حفص خفض عليك من هنا و من هنا- إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً- فوضع عمر إحدى يديه على الأخرى- و أطرق إلى الأرض و خرج كأنما ينظر في رماد- . قلت أجدر بهذا الخبر أن يكون موضوعا- و فيه ما يدل على ذلك- من كون عمر أتى عليا يستفتيه في المسألة- و الأخبار كثيرة بأنه ما زال يدعوه إلى منزله و إلى المسجد- و أيضا فإن عليا لم يخاطب عمر منذ ولي الخلافة بالكنية- و إنما كان يخاطبه بإمرة المؤمنين- هكذا تنطق كتب الحديث و كتب السير و التواريخ كلها- . و أيضا فإن هذا الخبر لم يسند إلى كتاب معين- و لا إلى راو معين- بل ذكر ذلك أنه قرأه على ظهر كتاب فيكون مجهولا- و الحديث المجهول غير الصحيح- .

فأما ثناء عمر على أمير المؤمنين فصحيح غير منكر- و في الروايات منه الكثير الواسع- و لكنا أنكرنا هذا الخبر بعينه خاصة- و قد روي عن ابن عباس أيضا- قال دخلت على عمر يوما فقال يا ابن العباس- لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته رياء- قلت من هو فقال هذا ابن عمك يعني عليا- قلت و ما يقصد بالرياء أمير المؤمنين- قال يرشح نفسه بين الناس للخلافة- قلت و ما يصنع بالترشيح- قد رشحه لها رسول الله ص فصرفت عنه- قال إنه كان شابا حدثا- فاستصغرت العرب سنه و قد كمل الآن- أ لم تعلم أن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا بعد الأربعين- قلت يا أمير المؤمنين- أما أهل الحجى و النهى فإنهم ما زالوا يعدونه كاملا- منذ رفع الله منار الإسلام- و لكنهم يعدونه محروما مجدودا- فقال أما إنه سيليها بعد هياط و مياط- ثم تزل فيها قدمه و لا يقضى منها أربه- و لتكونن شاهدا ذلك يا عبد الله- ثم يتبين الصبح لذي عينين- و تعلم العرب صحة رأي المهاجرين الأولين-الذين صرفوها عنه بادئ بدء- فليتني أراكم بعدي يا عبد الله- إن الحرص محرمة و إن دنياك كظلك- كلما هممت به ازداد عنك بعدا- .

نقلت هذا الخبر- من أمالي أبي جعفر محمد بن حبيب رحمه الله- . و نقلت منه أيضا ما رواه عن ابن عباس- قال تبرم عمر بالخلافة في آخر أيامه- و خاف العجز و ضجر من سياسة الرعية- فكان لا يزال يدعو الله بأن يتوفاه- فقال لكعب الأحبار يوما و أنا عنده- إني قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الأمر- و أظن وفاتي قد دنت- فما تقول في علي- أشر علي في رأيك و أذكرني ما تجدونه عندكم- فإنكم تزعمون أن أمرنا هذا مسطور في كتبكم- فقال أما من طريق الرأي فإنه لا يصلح- إنه رجل متين الدين لا يغضي على عورة- و لا يحلم عن زلة و لا يعمل باجتهاد رأيه- و ليس هذا من سياسة الرعية في شي‏ء- و أما ما نجده في كتبنا فنجده لا يلي الأمر و لا ولده- و إن وليه كان هرج شديد- قال كيف ذاك قال لأنه أراق الدماء فحرمه الله الملك- إن داود لما أراد أن يبني حيطان بيت المقدس- أوحى الله إليه إنك لا تبنيه- لأنك أرقت الدماء و إنما يبنيه سليمان- فقال عمر أ ليس بحق أراقها- قال كعب و داود بحق أراقها يا أمير المؤمنين-

قال فإلى من يفضي الأمر تجدونه عندكم قال- نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة و الاثنين من أصحابه- إلى أعدائه الذين حاربهم و حاربوه و حاربهم على الدين- فاسترجع عمر مرارا- و قال أ تستمع يا ابن عباس- أما و الله لقد سمعت من رسول الله ما يشابه هذا سمعته يقول ليصعدن بنو أمية على منبري- و لقد أريتهم في منامي ينزون عليه نزو القردة – و فيهم أنزل- وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ- وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ-

و قد روى الزبير بن بكار في الموفقيات- ما يناسب هذا عن المغيرة بن شعبة- قال قال لي عمر يوما يا مغيرة- هل أبصرت بهذه عينك العوراء منذ أصيبت- قلت لا قال أما و الله ليعورن بنو أمية الإسلام- كما أعورت عينك هذه- ثم ليعمينه حتى لا يدري أين يذهب و لا أين يجي‏ء- قلت ثم ما ذا يا أمير المؤمنين- قال ثم يبعث الله تعالى بعد مائة و أربعين- أو بعد مائة و ثلاثين وفدا كوفد الملوك طيبة ريحهم- يعيدون إلى الإسلام بصره و شتاته- قلت من هم يا أمير المؤمنين- قال حجازي و عراقي و قليلا ما كان و قليلا ما دام- .

و روى أبو بكر الأنباري في أماليه- أن عليا ع جلس إلى عمر في المسجد و عنده ناس- فلما قام عرض واحد بذكره و نسبه إلى التيه و العجب- فقال عمر حق لمثله أن يتيه- و الله لو لا سيفه لما قام عمود الإسلام- و هو بعد أقضى الأمة و ذو سابقتها و ذو شرفها- فقال له ذلك القائل- فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه- قال كرهناه على حداثة السن و حبه بني عبد المطلب- . قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد- و قد قرأت عليه هذه الأخبار- فقلت له ما أراها إلا تكاد تكون دالة على النص- و لكني أستبعد أن يجتمع الصحابة- على دفع نص رسول الله ص على شخص بعينه- كما استبعدنا من الصحابة على رد نصه على الكعبة- و شهر رمضان و غيرهما من معالم الدين-

فقال لي رحمه الله أبيت إلا ميلا إلى المعتزلة- ثم قال إن القوم لم يكونوا يذهبون في الخلافة- إلى أنها من معالم الدين- و أنها جارية مجرى العبادات الشرعية كالصلاة و الصوم- و لكنهم كانوا يجرونها مجرى الأمور الدنيوية و يذهبون لهذا- مثل تأمير الأمراء و تدبير الحروب و سياسة الرعية- و ما كانوا يبالون في أمثال هذا من مخالفة نصوصه ص- إذا رأوا المصلحة في غيرها- أ لا تراه كيف نص على إخراج أبي بكر و عمر في جيش أسامة- و لم يخرجا لما رأيا أن في مقامهما مصلحة للدولة و للملة- و حفظا للبيضة و دفعا للفتنة- و قد كان رسول الله ص يخالف- و هو حي في أمثال ذلك فلا ينكره- و لا يرى به بأسا- أ لست تعلم أنه نزل في غزاة بدر منزلا- على أن يحارب قريشا فيه- فخالفته الأنصار-

و قالت له ليس الرأي في نزولك هذا المنزل فاتركه- و انزل في منزل كذا فرجع إلى آرائهم- و هو الذي قال للأنصار عام قدم إلى المدينة- لا تؤبروا النخل- فعملوا على قوله فحالت نخلهم في تلك السنة و لم تثمر- حتى قال لهم أنتم أعرف بأمر دنياكم- و أنا أعرف بأمر دينكم- و هو الذي أخذ الفداء من أسارى بدر- فخالفه عمر فرجع إلى تصويب رأيه- بعد أن فات الأمر و خلص الأسرى و رجعوا إلى مكة- و هو الذي أراد أن يصالح الأحزاب على ثلث تمر المدينة ليرجعوا عنه- فأتى سعد بن معاذ و سعد بن عبادة فخالفاه- فرجع إلى قولهما و قد كان قال لأبي هريرة- اخرج فناد في الناس- من قال لا إله إلا الله مخلصا بها قلبه دخل الجنة- فخرج أبو هريرة فأخبر عمر بذلك فدفعه في صدره- حتى وقع على الأرض فقال لا تقلها- فإنك إن تقلها يتكلوا عليها و يدعوا العمل- فأخبر أبو هريرة رسول الله ص بذلك-

فقال لا تقلها و خلهم يعملون- فرجع إلى قول عمر و قد أطبقت الصحابة إطباقا واحدا- على ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك- كإسقاطهم سهم ذوي القربى و إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم- و هذان الأمران أدخل في باب الدين منهما في باب الدنيا- و قد عملوا بآرائهم أمورا- لم يكن لها ذكر في الكتاب و السنة- كحد الخمر فإنهم عملوه اجتهادا- و لم يحد رسول الله ص شاربي الخمر- و قد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم- و لقد كان أوصاهم في مرضه-أن أخرجوا نصارى نجران من جزيرة العرب فلم يخرجوهم- حتى مضى صدر من خلافة عمر- و عملوا في أيام أبي بكر برأيهم في ذلك باستصلاحهم- و هم الذين هدموا المسجد بالمدينة و حولوا المقام بمكة- و عملوا بمقتضى ما يغلب في ظنونهم من المصلحة- و لم يقفوا مع موارد النصوص- حتى اقتدى بهم الفقهاء من بعد- فرجح كثير منهم القياس على النص- حتى استحالت الشريعة- و صار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة- .

قال النقيب و أكثر ما يعملون بآرائهم- فيما يجري مجرى الولايات و التأمير و التدبير- و تقرير قواعد الدولة- و ما كانوا يقفون مع نصوص الرسول ص و تدبيراته- إذا رأوا المصلحة في خلافها- كأنهم كانوا يقيدون نصوصه المطلقة بقيد غير مذكور لفظا- و كأنهم كانوا يفهمونه من قرائن أحواله- و تقدير ذلك القيد افعلوا كذا إن رأيتموه مصلحة- .

قال و أما مخالفتهم له فيما هو محض الشرع و الدين- و ليس بمتعلق بأمور الدنيا و تدبيراتها فإنه يقل جدا- نحو أن يقول الوضوء شرط في الصلاة- فيجمعوا على رد ذلك و يجيزوا الصلاة من غير وضوء- أو يقول صوم شهر رمضان واجب- فيطبقوا على مخالفة ذلك و يجعلوا شوالا عوضا عنه- فإنه بعيد إذ لا غرض لهم فيه- و لا يقدرون على إظهار مصلحة عثروا عليها خفيت عنه ص- و القوم الذين كانوا قد غلب على ظنونهم- أن العرب لا تطيع عليا ع- فبعضها للحسد و بعضها للوتر و الثأر- و بعضها لاستحداثهم سنه- و بعضها لاستطالته عليهم و رفعه عنهم- و بعضها كراهة اجتماع النبوة و الخلافة في بيت واحد- و بعضها للخوف من شدة وطأته و شدته في دين الله- و بعضها خوفا لرجاء تداول قبائل العرب الخلافة- إذا لم يقتصر بها على بيت مخصوص عليه- فيكون رجاء كل حي لوصولهم إليها ثابتا مستمرا- و بعضها ببغضه لبغضهم من قرابته‏ لرسول الله ص- و هم المنافقون من الناس- و من في قلبه زيغ من أمر النبوة- فأصفق الكل إصفاقا واحدا على صرف الأمر عنه لغيره-

و قال رؤساؤهم إنا خفنا الفتنة- و علمنا أن العرب لا تطيعه و لا تتركه- و تأولوا عند أنفسهم النص و لا ينكر النص- و قالوا إنه النص و لكن الحاضر يرى ما لا يرى الغائب- و الغائب قد يترك لأجل المصلحة الكلية- و أعانهم على ذلك مسارعة الأنصار إلى ادعائهم الأمر- و إخراجهم سعد بن عبادة من بيته و هو مريض- لينصبوه خليفة فيما زعموا و اختلط الناس- و كثر الخبط و كادت الفتنة أن تشتعل نارها- فوثب رؤساء المهاجرين- فبايعوا أبا بكر و كانت فلتة كما قال قائلهم- و زعموا أنهم أطفئوا بها نائرة الأنصار- فمن سكت من المسلمين و أغضى و لم يتعرض- فقد كفاهم أمر نفسه- و من قال سرا أو جهرا- إن فلانا قد كان رسول الله ص ذكره- أو نص عليه أو أشار إليه- أسكتوه في الجواب بأنا بادرنا إلى عقد البيعة مخافة الفتنة- و اعتذروا عنده ببعض ما تقدم- إما أنه حديث السن أو تبغضه العرب- لأنه وترها و سفك دماءها- أو لأنه صاحب زهو و تيه- أو كيف تجتمع النبوة و الخلافة في مغرس واحد- بل قد قالوا في العذر ما هو أقوى من هذا و أوكد-

قالوا أبو بكر أقوى على هذا الأمر منه- لا سيما و عمر يعضده و يساعده- و العرب تحب أبا بكر و يعجبها لينه و رفقه- و هو شيخ مجرب للأمور لا يحسده أحد- و لا يحقد عليه أحد و لا يبغضه أحد- و ليس بذي شرف في النسب فيشمخ على الناس بشرفه- و لا بذي قربى من الرسول ص فيدل بقربه- و دع ذا كله فإنه فضل مستغنى عنه- قالوا لو نصبنا عليا ع- ارتد الناس عن الإسلام و عادت الجاهلية كما كانت- فأيما أصلح في الدين- الوقوف مع النص المفضي إلى ارتداد الخلق- و رجوعهم إلى الأصنام و الجاهلية- أم العمل بمقتضى الأصلح- و استبقاء الإسلام و استدامة العمل بالدين- و إن كان فيه مخالفة النص- .

قال رحمه الله و سكت الناس عن الإنكار- فإنهم كانوا متفرقين- فمنهم من هو مبغض شانئ لعلي ع- فالذي تم من صرف الأمر عنه هو قرة عينه و برد فؤاده- و منهم ذو الدين و صحة اليقين- إلا أنه لما رأى كبراء الصحابة قد اتفقوا على صرف الأمر عنه- ظن أنهم إنما فعلوا ذلك- لنص سمعوه من رسول الله ص- ينسخ ما قد كان سمعه من النص على أمير المؤمنين ع- لا سيما ما رواه أبو بكر من قول النبي ص الأئمة من قريش – فإن كثيرا من الناس توهموا أنه ناسخ للنص الخاص- و إن معنى الخبر أنكم مباحون في نصب إمام من قريش- من أي بطون قريش كان فإنه يكون إماما- . و أكد أيضا في نفوسهم رفض النص الخاص- ما سمعوه من قول رسول الله ص ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن و قوله ع سألت الله ألا يجمع أمتي على ضلال- فأعطانيها فأحسنوا الظن بعاقدي البيعة – .

و قالوا هؤلاء أعرف بأغراض رسول الله ص من كل أحد- فأمسكوا و كفوا عن الإنكار- و منهم فرقة أخرى و هم الأكثرون- أعراب و جفاة و طغام أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح- فهؤلاء مقلدون لا يسألون و لا ينكرون و لا يبحثون- و هم مع أمرائهم و ولاتهم- لو أسقطوا عنهم الصلاة الواجبة لتركوها- فلذلك أمحق النص و خفي و درس- و قويت كلمة العاقدين لبيعة أبي بكر- و قواها زيادة على ذلك- اشتغال علي و بني هاشم برسول الله ص- و إغلاق بابهم عليهم- و تخليتهم الناس يعملون ما شاءوا و أحبوا- من غير مشاركة لهم فيما هم فيه- لكنهم أرادوا استدراك ذلك بعد ما فات- و هيهات الفائت لا رجعة له- .

و أراد علي ع بعد ذلك نقض البيعة فلم يتم له ذلك- و كانت العرب لا ترى‏الغدر- و لا تنقض البيعة صوابا كانت أو خطأ- و قد قالت له الأنصار و غيرها أيها الرجل- لو دعوتنا إلى نفسك قبل البيعة لما عدلنا بك أحدا- و لكنا قد بايعنا- فكيف السبيل إلى نقض البيعة بعد وقوعها- . قال النقيب- و مما جرأ عمر على بيعة أبي بكر و العدول عن علي- مع ما كان يسمعه من الرسول ص في أمره- أنه أنكر مرارا على الرسول ص أمورا اعتمدها- فلم ينكر عليه رسول الله ص إنكاره- بل رجع في كثير منها إليه- و أشار عليه بأمور كثيرة نزل القرآن فيها بموافقته- فأطمعه ذلك في الإقدام على اعتماد كثير- من الأمور التي كان يرى فيها المصلحة- مما هي خلاف النص- و ذلك نحو إنكاره عليه في الصلاة على عبد الله بن أبي المنافق- و إنكاره فداء أسارى بدر- و إنكاره عليه تبرج نسائه للناس- و إنكاره قضية الحديبية- و إنكاره أمان العباس لأبي سفيان بن حرب- و إنكاره واقعة أبي حذيفة بن عتبة- و إنكاره أمره بالنداء- من قال لا إله إلا الله دخل الجنة – و إنكاره أمره بذبح النواضح- و إنكاره على النساء بحضرة رسول الله ص هيبتهن له- دون رسول الله ص إلى غير ذلك- من أمور كثيرة تشتمل عليها كتب الحديث- و لو لم يكن إلا إنكاره قول رسول الله ص في مرضه- ائتوني بدواة و كتف- أكتب لكم ما لا تضلون بعدي –

و قوله ما قال و سكوت رسول الله ص عنه- و أعجب الأشياء أنه قال ذلك اليوم حسبنا كتاب الله- فافترق الحاضرون من المسلمين في الدار- فبعضهم يقول القول ما قال رسول الله ص- و بعضهم يقول القول ما قال عمر- فقال رسول الله و قد كثر اللغط و علت الأصوات- قوموا عني فما ينبغي لنبي أن يكون عنده هذا التنازع – فهل بقي للنبوة مزية أو فضل- إذا كان الاختلاف قد وقع بين القولين- و ميل‏ المسلمون بينهما- فرجح قوم هذا و قوم هذا- فليس ذلك دالا على أن القوم سووا بينه و بين عمر- و جعلوا القولين مسألة خلاف- ذهب كل فريق إلى نصرة واحد منهما- كما يختلف اثنان من عرض المسلمين في بعض الأحكام- فينصر قوم هذا و ينصر ذاك آخرون- فمن بلغت قوته و همته إلى هذا- كيف ينكر منه أنه يبايع أبا بكر لمصلحة رآها- و يعدل عن النص- و من الذي كان ينكر عليه ذلك- و هو في القول الذي قاله للرسول ص في وجهه- غير خائف من الأنصار- و لا ينكر عليه أحد لا رسول الله ص و لا غيره- و هو أشد من مخالفة النص في الخلافة و أفظع و أشنع قال النقيب- على أن الرجل ما أهمل أمر نفسه- بل أعد أعذارا و أجوبة- و ذلك لأنه قال لقوم عرضوا له بحديث النص- أن رسول الله ص رجع عن ذلك- بإقامته أبا بكر في الصلاة مقامه- و أوهمهم أن ذلك جار مجرى النص عليه بالخلافة- و قال يوم السقيفة- أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين- قدمهما رسول الله ص في الصلاة-

ثم أكد ذلك بأن قال لأبي بكر- و قد عرض عليه البيعة- أنت صاحب رسول الله ص في المواطن كلها- شدتها و رخائها رضيك لديننا أ فلا نرضاك لدنيانا- . ثم عاب عليا بخطبته بنت أبي جهل- فأوهم أن رسول الله ص كرهه لذلك و وجد عليه- و أرضاه عمرو بن العاص- فروى حديثا افتعله و اختلقه على رسول الله- قال سمعته يقول إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء- إنما وليي الله و صالح المؤمنين فجعلوا ذلك كالناسخ لقوله ص من كنت مولاه فهذا مولاه – .

قلت للنقيب أ يصح النسخ في مثل هذا- أ ليس هذا نسخا للشي‏ء قبل تقضي وقت فعله- فقال سبحان الله من أين تعرف العرب هذا- و أنى لها أن تتصوره فضلا عن أن تحكم بعدم جوازه- فهل يفهم حذاق الأصوليين هذه المسألة- فضلا عن حمقى العرب- هؤلاء قوم ينخدعون بأدنى شبهة- و يستمالون بأضعف سبب- و تبنى الأمور معهم على ظواهرالنصوص و أوائل الأدلة- و هم أصحاب جهل و تقليد- لا أصحاب تفضيل و نظر- . قال ثم أكد حسن ظن الناس بهم- أنهم أطلقوا أنفسهم عن الأموال- و زهدوا في متاع الدنيا و زخرفها- و سلكوا مسلك الرفض لزينتها- و الرغبة عنها و القناعة بالطفيف النزر منها- و أكلوا الخشن و لبسوا الكرابيس- و لما ألقت إليهم الدنيا أفلاذ كبدها- و فرقوا الأموال على الناس و قسموها بينهم- و لم يتدنسوا منها بقليل و لا كثير- فمالت إليهم القلوب و أحبتهم النفوس- و حسنت فيهم الظنون-

و قال من كان في نفسه شبهة منهم أو وقفه في أمرهم- لو كان هؤلاء قد خالفوا النص- لهوى أنفسهم لكانوا أهل الدنيا- و لظهر عليهم الميل إليها و الرغبة فيها و الاستئثار بها- و كيف يجمعون على أنفسهم مخالفة النص- و ترك لذات الدنيا و مآربها- فيخسروا الدنيا و الآخرة- و هذا لا يفعله عاقل و القوم عقلاء ذوو الباب و آراء صحيحة- فلم يبق عند أحد شك في أمرهم و لا ارتياب لفعلهم- و ثبتت العقائد على ولايتهم و تصويب أفعالهم- و نسوا لذة الرئاسة- و أن أصحاب الهمم العالية لا يلتفون- إلى المأكل و المشرب و المنكح- و إنما يريدون الرئاسة و نفوذ الأمر- كما قال الشاعر-

و قد رغبت عن لذة المال أنفس
و ما رغبت عن لذة النهي و الأمر

قال رحمه الله- و الفرق بين الرجلين و بين الثالث ما أصيب به الثالث- و قتل تلك القتلة و خلعه الناس و حصروه- و ضيقوا عليه بعد أن توالى إنكارهم أفعاله- و جبهوه في وجهه و فسقوه- و ذلك لأنه استأثر هو و أهله بالأموال- و انغمسوا فيها و استبدوا بها- فكانت طريقته و طريقتهم مخالفة لطريق الأولين- فلم تصبر العرب على ذلك- و لو كان عثمان سلك طريق عمر في الزهد- و جمع الناس و ردع الأمراء و الولاة عن الأموال- و تجنب استعمال أهل بيته- و وفر أعراض الدنيا و ملاذها و شهواتها على الناس- زاهدا فيها تاركا لها معرضا عنها- لما ضره شي‏ء قط و لا أنكر عليه أحد قط- و لو حول الصلاة من‏ الكعبة إلى بيت المقدس- بل لو أسقط عن الناس إحدى الصلوات الخمس- و اقتنع منهم بأربع- و ذلك لأن همم الناس مصروفة إلى الدنيا و الأموال- فإذا وجدوها سكتوا و إذا فقدوها هاجوا و اضطربوا- أ لست ترى رسول الله ص- كيف قسم غنائم هوازن على المنافقين- و على أعدائه الذين يتمنون قتله و موته و زوال دولته- فلما أعطاهم أحبوه إما كلهم أو أكثرهم- و من لم يحبه منهم بقلبه جامله و داراه- و كف عن إظهار عداوته و الإجلاب عليه- و لو أن عليا صانع أصحابه بالمال- و أعطاه الوجوه و الرؤساء- لكان أمره إلى الانتظام و الاطراد أقرب- و لكنه رفض جانب التدبير الدنيوي- و آثر لزوم الدين و تمسك بأحكام الشريعة- و الملك أمر آخر غير الدين- فاضطرب عليه أصحابه- و هرب كثير منهم إلى عدوه- . و قد ذكرت في هذا الفصل- خلاصة ما حفظته عن النقيب أبي جعفر- و لم يكن إمامي المذهب و لا كان يبرأ من السلف- و لا يرتضي قول المسرفين من الشيعة- و لكنه كلام أجراه على لسانه البحث و الجدل بيني و بينه- على أن العلوي لو كان كراميا- لا بد أن يكون عنده نوع من تعصب- و ميل على الصحابة و إن قل- .

و لنرجع إلى ذكر كلام عمر من خطبته و سيرته- . كتب عمر إلى أبي موسى- لما استعمله قاضيا و بعثه إلى العراق- من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى عبد الله بن قيس- سلام عليك أما بعد- فإن القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة- فافهم إذا أدلي إليك- فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له- آس بين الناس في وجهك و عدلك و مجلسك- حتى لا يطمع شريف في‏حيفك- و لا ييأس ضعيف من عدلك- البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر- و الصلح جائز بين المسلمين- إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا- لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك- و هديت فيه لرشدك- أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم- و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل- الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك- مما ليس في كتاب و لا سنة-

ثم اعرف الأشباه و الأمثال- و قس الأمور عند ذلك- و اعمد إلى أقربها إلى الله عز و جل و أشبهها بالحق- و اجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه- فإن أحضر بينته أخذت له بحقه- و إلا استحللت عليه القضية- فإنه أنفى للشك و أجلى للعمى- المسلمون عدول بعضهم على بعض- إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور- أو ظنينا في ولاء أو نسب- فإن الله عز و جل تولى منكم السرائر- و درأ عنكم بالبينات و الأيمان الشبهات- إياك و الغلق و الضجر و التأذي بالخصوم- و التنكر عند الخصومات- فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر- و يحسن به الذخر فمن صحت نيته- و أقبل على نفسه كفاه الله ما بينه و بين الناس- و من تخلق للناس بما يعلم الله عز و جل منه إنه ليس من نفسه- شانه الله فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه- و خزائن رحمته و السلام- .

ذكر هذه الرسالة أبو العباس محمد بن يزيد المبرد- في كتاب الكامل و أطراها- فقال إنه جمع فيها جمل الأحكام- و اختصرها بأجود الكلام- و جعل الناس بعده يتخذونه إماما فلا يجد محق عنها معدلا- و لا ظالم عن حدودها محيصا- .و كتب عمر إلى عماله يوصيهم- فقال في جملة الكتاب- ارتدوا و ائتزروا و انتعلوا- و ألقوا الخفاف و السراويلات و ألقوا الركب- و انزوا نزوا على الخيل و اخشوشنوا و عليكم بالمعدية- أو قال و تمعددوا و ارموا الأغراض- و علموا فتيانكم العوم و الرماية- و ذروا التنعم و زي العجم و إياكم و الحرير- فإن رسول الله ص نهى عنه- و قال لا تلبسوا من الحرير إلا ما كان هكذا- و أشار بإصبعه- .

و كتب إلى بعض عماله- أن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته- و أن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته- فإياك أن تزيغ فتزيغ رعيتك- فيكون مثلك عند الله مثل البهيمة- رأت الخضرة في الأرض فرعت فيها تبغي السمن- و حتفها في سمنها و كتب إلى أبي موسى و هو بالبصرة- بلغني أنك تأذن للناس الجماء الغفير- فإذا جاءك كتابي هذا- فأذن لأهل الشرف و أهل القرآن و التقوى و الدين- فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة- و لا تؤخر عمل اليوم لغد- فتتداك عليك الأعمال فتضيع- و إياك و اتباع الهوى- فإن للناس أهواء متبعة و دنيا مؤثرة و ضغائن محمولة- و حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة- فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة- كان مرجعه إلى الرضا و الغبطة- و من ألهته حياته و شغلته أهواؤه- عاد أمره إلى الندامة و الحسرة- إنه لا يقيم أمر الله في الناس إلا خصيف العقدة- بعيد القرارة لا يحنق على جرة- و لا يطلع الناس منه على عورة- و لا يخاف في الحق لومة لائم- الزم أربع خصال يسلم لك دينك و تحيط بأفضل حظك- إذا حضر الخصمان- فعليك بالبينات العدول و الأيمان القاطعة- ثم ائذن للضعيف حتى ينبسط لسانه- و يجترئ قلبه و تعاهد الغريب- فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته و انصرف إلى أهله- و احرص على الصلح ما لم يبن لك القضاء- و السلام عليك- .

و كان رجل من الأنصار- لا يزال يهدي لعمر فخذ جزور- إلى أن جاء ذات يوم مع خصم له- فجعل في أثناء الكلام يقول- يا أمير المؤمنين افصل القضاء بيني و بينه- كما يفصل فخذ الجزور- . قال عمر- فما زال يرددها حتى خفت على نفسي- فقضيت عليه و كتبت إلى عمالي- أما بعد فإياكم و الهدايا فإنها من الرشا- ثم لم أقبل له هدية فيما بعد و لا لغيره- . و كان عمر يقول- اكتبوا عن الزاهدين في الدنيا ما يقولون- فإن الله عز و جل وكل بهم ملائكة- واضعة أيديهم على أفواههم- فلا يتكلمون إلا بما هيأه الله لهم- .

و روى أبو جعفر الطبري في تاريخه- قال كان عمر يقول- جردوا القرآن و لا تفسروه- و أقلوا الرواية عن رسول الله ص و أنا شريككم- . و قال أبو جعفر- و كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شي‏ء جمع أهله- فقال إني عسيت أن أنهى الناس عن كذا- و أن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم- و أقسم بالله لا أجد أحدا منكم يفعل- إلا أضعفت عليه العقوبة- . قال أبو جعفر و كان عمر شديدا على أهل الريب- و في حق الله صليبا حتى يستخرجه- و لينا سهلا فيما يلزمه حتى يؤديه و بالضعيف رحيما- .

و روى زيد بن أسلم- عن أبيه أن نفرا من المسلمين- كلموا عبد الرحمن بن عوف- فقالوا كلم لنا عمر بن الخطاب- فقد و الله أخشانا حتى لا نستطيع أن نديم إليه أبصارنا- فذكر عبد الرحمن له ذلك- فقال أ و قد قالوا ذلك- و الله لقد لنت لهم حتى تخوفت الله في أمرهم- و قد تشددت عليهم حتى خفت الله في أمرهم- و أنا و الله أشد فرقا لله منهم لي- .

و روى جابر بن عبد الله قال- قال رجل لعمر يا خليفة الله قال خالف الله بك- قال جعلني الله فداك قال إذن يهينك الله- . و روى أبو جعفر- قال استشار عمر في أمر المال كيف يقسمه- فقال له علي بن أبي طالب ع- تقسم كل سنة ما اجتمع معك من المال- و لا تمسك منه شيئا- و قال عثمان بن عفان- أرى مالا كثيرا يسع الناس و إن لم يحصوا- حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر- فقال الوليد بن هشام بن المغيرة- يا أمير المؤمنين قد جئت الشام- فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا- و جندوا جنودا و فرضوا لهم أرزاقا- فأخذ بقوله فدعا عقيل بن أبي طالب- و مخرمة بن نوفل و جبير بن مطعم- و كانوا نساب قريش-

و قال اكتبوا الناس على منازلهم- فكتبوا فبدءوا ببني هاشم- ثم أتبعوهم أبا بكر و قومه- ثم عمر و قومه على ترتيب الخلافة- فلما نظر إليه قال وددت أنه كان هكذا- لكن ابدأ بقرابة النبي ص الأقرب فالأقرب- حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله- . قال أبو جعفر جاءت بنو عدي إلى عمر- فقالوا له يا عمر- أنت خليفة رسول الله‏ص- قال أو خليفة أبي بكر- و أبو بكر خليفة رسول الله ص- قالوا و ذاك فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم- فقال بخ بخ يا بني عدي- أردتم الأكل على ظهري- و أن أذهب حسناتي لكم- لا و الله و لو كتبتم آخر الناس- إن لي صاحبين سلكا طريقا- فإن أنا خالفتهما خولف بي- و الله ما أدركنا الفضل في الدنيا إلا بمحمد- و لا نرجو ما نرجو من الآخرة و ثوابها إلا بمحمد ص- فهو شرفنا و قومه أشرف العرب ثم الأقرب منه فالأقرب- و ما بيننا و بين أن نلقاه- ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء يسيرة- و الله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال و جئنا بغير عمل- فإنهم أولى بمحمد ص منا يوم القيامة- لا ينظرن رجل إلى قرابته- و ليعمل بما عند الله- فإن من قصر به عمله لم يسرع به نسبه- .

و روى السائب بن يزيد قال- سمعت عمر بن الخطاب يقول- و الله ما من أحد إلا له في هذا المال حق أعطيه أو منعه- و ما أحد أحق به من أحد إلا عبد مملوك- و ما أنا فيه إلا كأحدكم- و لكنا على منازلنا من كتاب الله- و قسمنا من رسول الله ص- فالرجل و بلاؤه في الإسلام- و الرجل و غناؤه و الرجل و حاجته- و الله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء- حظه من المال و هو مكانه- . و روى نافع مولى آل الزبير قال- سمعت أبا هريرة يقول رحم الله ابن حنتمة- لقد رأيته عام الرمادة- و إنه ليحمل على ظهره جرابين- و عكة زيت في يده- و إنه ليعتقب هو و أسلم- فلما رآني قال من أين يا أبا هريرة- قلت قريبا فأخذت‏ أعقبه فحملناه حتى انتهينا إلى ضرار- فإذا صرم من نحو عشرين بيتا من محارب- فقال عمر ما أقدمكم قالوا الجهد- و أخرجوا لنا جلد الميتة مشويا كانوا يأكلونه- و رمة العظام مسحوقة كانوا يستفونها- فرأيت عمر طرح رداءه ثم برز- فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا- و أرسل أسلم إلى المدينة- فجاء بأبعرة فحملهم عليها- ثم أنزلهم الجبانة ثم كساهم- و كان يختلف إليهم و إلى غيرهم حتى كفى الله ذلك- .

و روى راشد بن سعد أن عمر أتي بمال- فجعل يقسم بين الناس فازدحموا عليه- فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس حتى خلص إليه- فعلاه عمر بالدرة- و قال إنك أقبلت- لا تهابن سلطان الله في الأرض- فأحببت بأن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك- . و قالت الشفاء ابنة عبد الله- و رأت فتيانا من النساك يقتصدون في المشي- و يتكلمون رويدا ما هؤلاء- فقيل نساك- فقالت كان عمر بن الخطاب هو الناسك حقا- و كان إذا تكلم أسمع- و إذا مشى أسرع و إذا ضرب أوجع- .

أعان عمر رجلا على حمل شي‏ء فدعا له الرجل- و قال نفعك بنوك يا أمير المؤمنين- قال بل أغناني الله عنهم- . و من كلامه- القوة في العمل ألا يؤخر عمل اليوم لغد- و الأمانة ألا تخالف سريرتك علانيتك- و التقوى بالتوقي و من يتق الله يقه- .

و قال عمر كنا نعد المقرض بخيلا إنما كانت المواساة- . أتى رهط إلى عمر- فقالوا يا أمير المؤمنين- كثر العيال و اشتدت المئونة فزدنا في أعطياتنا- فقال فعلتموها جمعتم بين الضرائر- و اتخذتم الخدم من مال الله- أما لوددت أني و إياكم في سفينتين في لجة البحر- تذهب بنا شرقا و غربا- فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم- فإن استقام اتبعوه و إن جنف قتلوه- فقال طلحة و ما عليك لو قلت و إن أعوج عزلوه- فقال القتل أرهب لمن بعده- احذروا فتى قريش- فإنه كريمها الذي لا ينام إلا على الرضا- و يضحك عند الغضب- و يتناول ما فوقه من تحته- .

و كان يقول في آخر أيامه- عند تبرمه بالأمر و ضجره من الرعية- اللهم ملوني و مللتهم و أحسست من نفسي و أحسوا مني- و لا أدري بأينا يكون اللوت- و قد أعلم أن لهم قتيلا منهم فاقبضني إليك- . و ذكر قوم من الصحابة لعمر رجلا- فقالوا فاضل لا يعرف الشر- قال ذاك أوقع له فيه و روى الطبري في التاريخ- أن عمر استعمل عتبة بن أبي سفيان على عمل- فقدم منه بمال فقال له ما هذا يا عتبة- قال مال خرجت به معي و تجرت فيه- قال و ما لك تخرج المال معك إلى هذا الوجه- فأخذ المال منه فصيره في بيت المال- فلما قام عثمان قال لأبي سفيان-إنك إن طلبت ما أخذه عمر من عتبة رددته عليك- فقال له أبو سفيان إياك و ما هممت به- إنك إن خالفت صاحبك قبلك- ساء رأي الناس فيك- إياك أن ترد على من كان قبلك فيرد عليك من بعدك- .

و روى الطبري أيضا- أن هندا بنت عتبة بن ربيعة قامت إلى عمر- فسألته أن يقرضها من بيت المال أربعة آلاف درهم- تتجر فيها و تضمنها- فخرجت بها إلى بلاد كلب فباعت و اشترت- و بلغها أن أبا سفيان قد أتى معاوية يستميحه- و معه ابنه عمرو بن أبي سفيان- فعدلت إليه من بلاد كلب- و كان أبو سفيان قد طلقها- فقال معاوية ما أقدمك يا أمه- قالت النظر إليك يا بني إنه عمر- و إنما يعمل لله و قد أتاك أبوك- فخشيت أن تخرج إليه من كل شي‏ء- و أهل ذلك هو- و لكن لا يعلم عمر من أين أعطيته- فيؤنبوك و يؤنبك و لا تستقبلها أبدا- فبعث معاوية إلى أبيه و أخيه مائة دينار- و كساهما و حملهما فسخطها عمر- فقال أبو سفيان لا تسخطها- فإنها عطاء لم تغب عنه هند- و رجع هو و ابنه إلى المدينة- فسأله عمر بكم أجازك معاوية- فقال بمائة دينار فسكت عمر- .

و روى الأحنف قال- أتى عبد الله بن عمير عمر- و هو يقرض الناس- فقال يا أمير المؤمنين- أقرض لي فلم يلتفت إليه فنخسه- فقال عمر حس و أقبل عليه- فقال من أنت فقال عبد الله بن عمير- و كان أبوه استشهد يوم حنين- فقال يا يرفأ أعطه ستمائة- فأعطاه ستمائة فلم يقبلها- و رجع إلى عمر فأخبره- فقال يا يرفأ أعطه ستمائة حلة فأعطاه- فلبس الحلة التي كساه عمر و رمى ما كان عليه- فقال له خذ ثيابك هذه- فلتكن في مهنة أهلك و هذه لزينتك- .

و روى إياس بن سلمة عن أبيه- قال مر عمر في السوق و معه الدرة- فخفقني خفقة فأصاب طرف ثوبي- و قال أمط عن الطريق- فلما كان في العام المقبل لقيني- فقال يا سلمة أ تريد الحج قلت- نعم فأخذ بيدي و انطلق بي إلى منزله- فأعطاني ستمائة درهم و قال استعن بها على حجك- و اعلم أنها بالخفقة التي خفقتك- فقلت يا أمير المؤمنين ما ذكرتها- قال و أنا ما نسيتها- .

و خطب عمر فقال أيتها الرعية- إن لنا عليكم حقا النصيحة بالغيب و المعاونة على الخير- إنه ليس من حلم أحب إلى الله- و لا أعم نفعا من حلم إمام و رفقه- و ليس من جهل أبغض إلى الله من جهل إمام و خرفه- أيها الرعية إنه من يأخذ بالعافية من بين ظهرانيه- فوته الله العافية من فوقه- .

و روى الربيع بن زياد- قال قدمت على عمر بمال من البحرين- فصليت معه العشاء ثم سلمت عليه- فقال ما قدمت به قلت خمسمائة ألف- قال ويحك إنما قدمت بخمسين ألفا- قلت بل خمسمائة ألف- قال كم يكون ذلك- قلت مائة ألف و مائة ألف و مائة ألف حتى عددت خمسا- فقال إنك ناعس ارجع إلى بيتك- ثم اغد علي فغدوت عليه- فقال ما جئت به قلت ما قلته لك- قال كم هو قلت خمسمائة ألف- قال أ طيب هو قلت نعم- لا أعلم إلا ذلك فاستشار الصحابة فيه- فأشير عليه بنصب الديوان فنصبه- و قسم المال بين المسلمين ففضلت عنده فضلة-فأصبح فجمع المهاجرين و الأنصار- و فيهم علي بن أبي طالب- و قال للناس ما ترون في فضل فضل عندنا من هذا المال- فقال الناس يا أمير المؤمنين- إنا شغلناك بولاية أمورنا عن أهلك و تجارتك و صنعتك فهو لك- فالتفت إلى علي فقال ما تقول أنت- قال قد أشاروا عليك قال فقل أنت- فقال له لم تجعل يقينك ظنا فلم يفهم عمر قوله- فقال لتخرجن مما قلت- قال أجل و الله لأخرجن منه- أ تذكر حين بعثك رسول الله ص ساعيا- فأتيت العباس بن عبد المطلب فمنعك صدقته- فكان بينكما شي‏ء فجئتما إلي و قلتما- انطلق معنا إلى رسول الله ص فجئنا إليه- فوجدناه خاثرا فرجعنا- ثم غدونا عليه فوجدناه طيب النفس- فأخبرته بالذي صنع العباس- فقال لك يا عمر- أ ما علمت أن عم الرجل صنو أبيه- فذكرنا له ما رأينا من خثوره في اليوم الأول- و طيب نفسه في اليوم الثاني- فقال إنكم أتيتم في اليوم الأول- و قد بقي عندي من مال الصدقة ديناران- فكان ما رأيتم من خثوري لذلك- و أتيتم في اليوم الثاني و قد وجهتهما- فذاك الذي رأيتم من طيب نفسي- أشير عليك ألا تأخذ من هذا الفضل شيئا- و أن تفضه على فقراء المسلمين- فقال صدقت و الله لأشكرن لك الأولى و الأخيرة- .

و روى أبو سعيد الخدري قال- حججنا مع عمر أول حجة حجها في خلافته- فلما دخل المسجد الحرام- دنا من الحجر الأسود فقبله و استلمه- و قال إني لأعلم أنك حجر لا تضر و لا تنفع- و لو لا أني رأيت رسول الله ص قبلك و استلمك- لما قبلتك و لا استلمتك- فقال له علي بلى يا أمير المؤمنين- إنه ليضر و ينفع- و لو علمت تأويل ذلك من كتاب الله- لعلمت أن الذي أقول لك- كما أقول قال الله تعالى- وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ- وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ‏ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ – فلما أشهدهم و أقروا له- أنه الرب عز و جل و أنهم العبيد- كتب ميثاقهم في رق ثم ألقمه هذا الحجر- و أن له لعينين و لسانا و شفتين- تشهد لمن وافاه بالموافاة- فهو أمين الله عز و جل في هذا المكان- فقال عمر لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا الحسن- .

قلت- قد وجدنا في الآثار و الأخبار في سيرة عمر أشياء- تناسب قوله في هذا الحجر الأسود- كما أمر بقطع الشجرة التي بويع رسول الله ص تحتها بيعة الرضوان- في عمرة الحديبية- لأن المسلمين بعد وفاة رسول الله ص كانوا يأتونها- فيقيلون تحتها فلما تكرر ذلك أوعدهم عمر فيها- ثم أمر بها فقطعت- . و روى المغيرة بن سويد قال- خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر- أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ- و لِإِيلافِ قُرَيْشٍ- فلما فرغ رأى الناس يبادرون إلى مسجد هناك- فقال ما بالهم- قالوا مسجد صلى فيه النبي ص و الناس يبادرون إليه- فناداهم فقال هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم- اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا- من عرضت له صلاة في هذا المسجد فليصل- و من لم تعرض له صلاة فليمض- . و أتى رجل من المسلمين إلى عمر فقال- أنا لما فتحنا المدائن أصبنا كتابا- فيه علم من علوم الفرس و كلام معجب- فدعا بالدرة فجعل يضربه بها- ثم قرأ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ- و يقول ويلك أ قصص أحسن من كتاب الله- إنما هلك‏ من كان قبلكم- لأنهم أقبلوا على كتب علمائهم و أساقفتهم- و تركوا التوراة و الإنجيل حتى درسا- و ذهب ما فيهما من العلم- . و جاء رجل إلى عمر فقال- إن ضبيعا التميمي لقينا يا أمير المؤمنين- فجعل يسألنا عن تفسير حروف من القرآن- فقال اللهم أمكني منه- فبينا عمر يوما جالس يغدي الناس- إذ جاءه الضبيع و عليه ثياب و عمامة فتقدم فأكل- حتى إذا فرغ قال يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى- وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً- فَالْحامِلاتِ وِقْراً- قال ويحك أنت هو- فقام إليه فحسر عن ذراعيه- فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فإذا له ضفيرتان فقال- و الذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك- ثم أمر به فجعل في بيت- ثم كان يخرجه كل يوم فيضربه مائة- فإذا برأ أخرجه فضربه مائة أخرى- ثم حمله على قتب و سيره إلى البصرة- و كتب إلى أبي موسى يأمره أن يحرم على الناس مجالسته- و أن يقوم في الناس خطيبا- ثم يقول إن ضبيعا قد ابتغى العلم فأخطأه- فلم يزل وضيعا في قومه و عند الناس حتى هلك- و قد كان من قبل سيد قومه- .

و قال عمر على المنبر- ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنن- أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها- فأفتوا بآرائهم فضلوا و أضلوا- ألا إنا نقتدي و لا نبتدي و نتبع و لا نبتدع- إنه ما ضل متمسك بالأثر و روى زيد بن أسلم عن أبيه- قال سمعت عمر يقول في الحج- فيم الرملان الآن و الكشف عن المناكب- و قد أظهر الله الإسلام و نفى الكفر و أهله- و مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله ص- .

مر عمر برجل فسلم عليه فرد عليه- فقال ما اسمك قال جمرة- قال أبو من قال أبو شهاب- قال ممن قال من الحرقة- قال و أين مسكنك قال بحرة النار- قال بأيها قال بذات لظى- فقال ويحك أدرك أهلك فقد احترقوا- فمضى عليهم فوجدهم قد احترقوا- . و روى الليث بن سعد قال- أتي عمر بفتى أمرد- قد وجد قتيلا ملقى على وجه الطريق- فسأل عن أمره و اجتهد فلم يقف له على خبر فشق عليه- فكان يدعو و يقول اللهم أظفرني بقاتله- حتى إذا كان رأس الحول أو قريبا من ذلك- وجد طفل مولود ملقى في موضع ذلك القتيل- فأتي به عمر- فقال ظفرت بدم القتيل إن شاء الله تعالى- فدفع الطفل إلى امرأة-

و قال لها قومي بشأنه- و خذي منا نفقته و انظري من يأخذه منك- فإذا وجدت امرأة تقبله و تضمه إلى صدرها- فأعلميني مكانها- فلما شب الصبي جاءت جارية- فقالت للمرأة- إن سيدتي بعثتني إليك لتبعثي إليها بهذا الصبي- فتراه و ترده إليك قالت نعم- اذهبي به إليها و أنا معك- فذهبت بالصبي حتى دخلت على امرأة شابة- فأخذت الصبي- فجعلت تقبله و تفديه و تضمه إليها- و إذا هي بنت شيخ من الأنصار- من أصحاب رسول الله ص- فجاءت المرأة و أخبرت عمر- فاشتمل على سيفه و أقبل إلى منزلها- فوجد أباها متكئا على الباب- فقال له ما الذي تعلم من حال ابنتك- قال أعرف الناس بحق الله و حق أبيها- مع حسن صلاتها و صيامها و القيام بدينها فقال- إني أحب أن أدخل إليها و أزيدها رغبة في الخير- فدخل الشيخ ثم خرج- فقال ادخل يا أمير المؤمنين- فدخل و أمر أن يخرج كل من في الدار إلا أباها- ثم سألها عن الصبي فلجلجت- فقال لتصدقيني ثم انتضى السيف- فقالت على رسلك يا أمير المؤمنين- فو الله لأصدقنك- إن عجوزا كانت تدخل علي فاتخذتها أما- و كانت تقوم في أمري بما تقوم به الوالدة- و أنا لها بمنزلة البنت-فمكثت كذلك حينا- ثم قالت إنه قد عرض لي سفر- و لي بنت أتخوف عليها بعدي الضيعة-

و أنا أحب أن أضمها إليك- حتى أرجع من سفري- ثم عمدت إلى ابن لها أمرد- فهيأته و زينته كما تزين المرأة و أتتني به- و لا أشك أنه جارية- فكان يرى مني ما ترى المرأة من المرأة- فاغتفلني يوما و أنا نائمة- فما شعرت به حتى علاني و خالطني- فمددت يدي إلى شفرة كانت عندي فقتلته- ثم أمرت به فألقي حيث رأيت- فاشتملت منه على هذا الصبي- فلما وضعته ألقيته في موضع أبيه- هذا و الله خبرهما على ما أعلمتك- فقال عمر صدقت بارك الله فيك- ثم أوصاها و وعظها و خرج- و كان عمر يقول- لو أدركت عروة و عفراء لجمعت بينهما- . ذكر عمرو بن العاص يوما عمر فترحم عليه- و قال ما رأيت أحدا أتقي منه و لا أعمل بالحق منه- لا يبالي على من وقع الحق- من ولد أو والد- إني لفي منزلي بمصر ضحى إذ أتاني آت-

فقال قدم عبد الله و عبد الرحمن ابنا عمر غازيين- فقلت أين نزلا قال في موضع كذا لأقصى مصر- و قد كان عمر كتب إلي- إياك و أن يقدم عليك أحد من أهل بيتي- فتجيزه أو تحبوه بأمر لا تصنعه بغيره- فافعل بك ما أنت أهله- فضقت ذرعا بقدومهما- و لا أستطيع أن أهدي لهما- و لا أن آتيهما في منزلهما خوفا من أبيهما- فو الله إني لعلى ما أنا عليه- و إذا قائل يقول- هذا عبد الرحمن بن عمر بالباب- و أبو سروعة يستأذنان عليك- فقلت يدخلان فدخلا و هما منكسران- فقالا أقم علينا حد الله- فإنا أصبنا الليلة شرابا فسكرنا- فزبرتهما و طردتهما- و قلت ابن أمير المؤمنين و آخر معه من أهل بدر- فقال عبد الرحمن- إن لم تفعل أخبرت أبي- إذا قدمت عليه أنك لم تفعل- فعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب عمر و عزلني- فنحن على ما نحن عليهإذ دخل عبد الله بن عمر- فقمت إليه و رحبت به- و أردت أن أجلسه في صدر مجلسي فأبى علي-

و قال إن أبي نهاني أن أدخل عليك- إلا ألا أجد من الدخول بدا- و إني لم أجد من الدخول عليك بدا- إن أخي لا يحلق على رءوس الناس أبدا- فأما الضرب فاصنع ما بدا لك- قال و كانوا يحلقون مع الحد- فأخرجتهما إلى صحن الدار و ضربتهما الحد- و دخل عبد الله بن عمر بأخيه عبد الرحمن- إلى بيت من الدار فحلق رأسه- و حلق أبا سروعة- و الله ما كتبت إلى عمر بحرف مما كان- و إذا كتابه قد ورد- من عبد الله عمر أمير المؤمنين- إلى العاصي ابن العاصي- عجبت لك يا ابن العاصي و لجرأتك علي و مخالفتك عهدي- أما إني خالفت فيك أصحاب بدر و من هو خير منك- و اخترتك و أنت الخامل و قدمتك و أنت المؤخر- و أخبرني الناس بجرأتك و خلافك و أراك كما أخبروا- و ما أراني إلا عازلك فمسي‏ء عزلك- ويحك تضرب عبد الرحمن بن عمر في داخل بيتك- و تحلق رأسه في داخل بيتك- و قد عرفت أن في هذا مخالفتي-

و إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك- تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين- و لكن قلت هو ولد أمير المؤمنين- و قد عرفت ألا هوادة لأحد من الناس عندي- في حق يجب لله عز و جل- فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب- حتى يعرف سوء ما صنع- قال فبعثت به كما قال أبوه- و أقرأت أخاه عبد الله كتاب أبيهما- و كتبت إلى عمر كتابا أعتذر فيه- و أخبرته أني ضربته في صحن الدار- و حلفت بالله الذي لا يحلف بأعظم منه- أنه الموضع الذي أقيم فيه الحدود على المسلم و الذمي- و بعثت بالكتاب مع عبد الله بن عمر- فذكر أسلم مولى عمر قال- قدم عبد الله بأخيه عبد الرحمن على أبيهما- فدخل عليه في عباءة- و هو لا يقدر على المشي من مركبه- فقال يا عبد الرحمن فعلت و فعلت السياط السياط- فكلمه‏ عبد الرحمن بن عوف-

و قال يا أمير المؤمنين قد أقيم عليه الحد مرة- فلم يلتفت إليه و زبره فأخذته السياط- و جعل يصيح أنا مريض و أنت و الله قاتلي- فلم يرق له حتى استوفى الحد و حبسه- ثم مرض شهرا و مات- . و روى الزبير بن بكار- قال خطب عمر أم كلثوم بنت علي ع- فقال له إنها صغيرة فقال زوجنيها يا أبا الحسن- فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد- فقال أنا أبعثها إليك فإن رضيتها زوجتكها- فبعثها إليه ببرد- و قال لها قولي هذا البرد الذي ذكرته لك- فقالت له ذلك- فقال قولي له قد رضيته رضي الله عنك و وضع يده على ساقها- فقالت له أ تفعل هذا- لو لا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك- ثم جاءت أباها فأخبرته الخبر- و قالت بعثتني إلى شيخ سوء- قال مهلا يا بنية إنه زوجك- فجاء عمر إلى مجلس المهاجرين في الروضة- و كان يجلس فيها المهاجرون الأولون- فقال رفئوني رفئوني قالوا بما ذا يا أمير المؤمنين- قال تزوجت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب- سمعت رسول الله ص يقول كل سبب و نسب و صهر ينقطع يوم القيامة- إلا سببي و نسبي و صهري – .

و كتب عثمان إلى أبي موسى- إذا جاءك كتابي هذا فأعط الناس أعطياتهم- و احمل ما بقي إلي ففعل- و جاء زيد بن ثابت بالمال فوضعه بين يدي عثمان- فجاء ابن لعثمان فأخذ منه أستاندانة من فضة- فمضى بها فبكى زيد- قال عثمان ما يبكيك- قال أتيت عمر مثل ما أتيتك به- فجاء ابن له فأخذ درهما فأمر به فانتزع منه- حتى أبكى‏الغلام و أن ابنك قد أخذ هذه فلم أر أحدا قال شيئا- فقال عثمان إن عمر كان يمنع أهله و قرابته- ابتغاء وجه الله- و أنا أعطي أهلي و أقاربي ابتغاء وجه الله- و لن تلقى مثل عمر و روى إسماعيل بن خالد- قال قيل لعثمان أ لا تكون مثل عمر- قال لا أستطيع أن أكون مثل لقمان الحكيم- .

ذكرت عائشة عمر فقالت كان أجودنا- نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها- . جاء عبد الله بن سلام بعد أن صلى الناس على عمر- فقال إن كنتم سبقتموني بالصلاة عليه- فلا تسبقوني بالثناء عليه- ثم قال نعم أخو الإسلام كنت يا عمر- جوادا بالحق بخيلا بالباطل- ترضى حين الرضا و تسخط حين السخط- لم تكن مداحا و لا معيابا- طيب الطرف عفيف الطرف- . و روى جويرية بن قدامة- قال دخلت مع أهل العراق على عمر حين أصيب- فرأيته قد عصب بطنه بعمامة سوداء- و الدم يسيل فقال له الناس أوصنا- فقال عليكم بكتاب الله- فإنكم لن تضلوا ما اتبعتموه- فأعدنا القول عليه ثانية أوصنا- قال أوصيكم بالمهاجرين- فإن الناس سيكثرون و يقلون- و أوصيكم بالأنصار فإنهم شعب الإسلام الذي لجأ إليه- و أوصيكم بالأعراب- فإنهم أصلكم الذي لجأتم إليه و مأواكم- و أوصيكم بأهل الذمة- فإنهم عهد نبيكم و رزق عيالكم- قوموا عني- .
فلم أحفظ من كلامه إلا هذه الكلمات- . و روى عمرو بن ميمون قال- سمعت عمر و هو يقول و قد أشار إلى الستة- و لم يكلم أحدا منهم إلا علي بن أبي طالب و عثمان- ثم أمرهم بالخروج فقال لمن كان عنده- إذا اجتمعوا على رجل فمن خالف فلتضرب رقبته- ثم قال إن يولوها الأجلح يسلك بهم الطريق- فقال له قائل فما يمنعك من العهد إليه- قال أكره أن أتحملها حيا و ميتا

خطب عمر الطوال

و قال الجاحظ في كتاب البيان و التبيين- لم يكن عمر من أهل الخطب الطوال- و كان كلامه قصيرا- و إنما صاحب الخطب الطوال علي بن أبي طالب ع- . و قد وجدت أنا لعمر خطبا فيها بعض الطول- ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ- . فمنها خطبة خطب بها حين ولي الخلافة- و هي بعد حمد الله و الثناء عليه و على رسوله- أيها الناس إني وليت عليكم- و لو لا رجاء أن أكون خيركم لكم- و أقواكم عليكم- و أشدكم استضلاعا بما ينوب من مهم أموركم- ما توليت ذلك منكم- و لكفى عمر فيها مجزى العطاء موافقة الحساب- بأخذ حقوقكم كيف آخذها و وضعها أين أضعها-و بالسير فيكم كيف أسير فربي المستعان- فإن عمر لم يصبح يثق بقوة و لا حيلة- إن لم يتداركه الله برحمته و عونه- .

أيها الناس إن الله قد ولاني أمركم- و قد علمت أنفع ما لكم- و أسأل الله أن يعينني عليه- و أن يحرسني عنده كما حرسني عند غيره- و أن يلهمني العدل في قسمكم كالذي أمر به- فإني امرؤ مسلم و عبد ضعيف إلا ما أعان الله- و لن يغير الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئا- إن شاء الله- إنما العظمة لله و ليس للعباد منها شي‏ء- فلا يقولن أحدكم إن عمر تغير منذ ولي- و إني أعقل الحق من نفسي- و أتقدم و أبين لكم أمري- فأيما رجل كانت له حاجة- أو ظلم مظلمة أو عتب علينا في خلق فليؤذني- فإنما أنا رجل منكم- فعليكم بتقوى الله في سركم و علانيتكم- و حرماتكم و أعراضكم- و أعطوا الحق من أنفسكم- و لا يحمل بعضكم بعضا على ألا تتحاكموا إلي- فإنه ليس بيني و بين أحد هوادة- و أنا حبيب إلى صلاحكم عزيز على عنتكم- و أنتم أناس عامتكم حضر في بلاد الله- و أهل بلد لا زرع فيه و لا ضرع إلا ما جاء الله به إليه- و إن الله عز و جل قد وعدكم كرامة كبيرة- و أنا مسئول عن أمانتي و ما أنا فيه- و مطلع على ما يحضرني بنفسي إن شاء الله- لا أكله إلى أحد- و لا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء- و أهل النصح منكم للعامة- و لست أحمل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله- .

و خطب عمر مرة أخرى- فقال بعد حمد الله و الصلاة على رسول الله ص-أيها الناس إن بعض الطمع فقر- و إن بعض اليأس غنى- و إنكم تجمعون ما لا تأكلون- و تؤملون ما لا تدركون- و أنتم مؤجلون في دار غرور- و قد كنتم على عهد رسول الله ص تؤخذون بالوحي- و من أسر شيئا أخذ بسريرته- و من أعلن شيئا أخذ بعلانيته- فأظهروا لنا حسن أخلاقكم و الله أعلم بالسرائر- فإنه من أظهر لنا قبيحا- و زعم أن سريرته حسنة لم نصدقه- و من أظهر لنا علانية حسنة ظننا به حسنا- و اعلموا أن بعض الشح شعبة من النفاق- فأنفقوا خيرا لأنفسكم- و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون- .

أيها الناس أطيبوا مثواكم و أصلحوا أموركم- و اتقوا الله ربكم و لا تلبسوا نساءكم القباطي- فإنه إن لم يشف فإنه يصف- . أيها الناس إني لوددت أن أنجو كفافا لا لي و لا علي- إني لأرجو أن عمرت فيكم يسيرا أو كثيرا- أن أعمل فيكم بالحق إن شاء الله- و ألا يبقى أحد من المسلمين و إن كان في بيته- إلا أتاه حقه و نصيبه من مال الله- و إن لم يعمل إليه نفسه و لم ينصب إليه بدنه- فأصلحوا أموالكم التي رزقكم الله- فقليل في رفق خير من كثير في عنف- . و اعلموا أن القتل حتف من الحتوف- يصيب البر و الفاجر- و الشهيد من احتسب نفسه- و إذا أراد أحدكم بعيرا فليعمد إلى الطويل العظيم- فليضربه بعصاه فإن وجده حديد الفؤاد فليشتره- . و خطب عمر مرة أخرى فقال-إن الله سبحانه قد استوجب عليكم الشكر- و اتخذ عليكم الحجج فيما آتاكم- من كرامة الدنيا و الآخرة من غير مسألة منكم- و لا رغبة منكم فيه إليه- فخلقكم تبارك و تعالى- و لم تكونوا شيئا لنفسه و عبادته- و كان قادرا أن يجعلكم لأهون خلقه عليه- فجعلكم عامة خلقه- و لم يجعلكم لشي‏ء غيره- و سخر لكم ما في السموات و الأرض- و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة- و حملكم في البر و البحر- و رزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون-

ثم جعل لكم سمعا و بصرا- و من نعم الله عليكم نعم عم بها بني آدم- و منها نعم اختص بها أهل دينكم- ثم صارت تلك النعم خواصها في دولتكم و زمانكم و طبقتكم- و ليس من تلك النعم نعمة وصلت إلى امرئ خاصة- إلا لو قسمتم ما وصل منها بين الناس كلهم- أتعبهم شكرها و فدحهم حقها- إلا بعون الله مع الإيمان بالله و رسوله- فأنتم مستخلفون في الأرض قاهرون لأهلها- قد نصر الله دينكم فلم تصبح أمة مخالفة لدينكم- إلا أمتين أمة مستعبدة للإسلام و أهله- يتجرون لكم تستصفون معايشهم و كدائحهم- و رشح جباههم عليهم المئونة و لكم المنفعة- و أمة تنتظر وقائع الله و سطواته في كل يوم و ليلة- قد ملأ الله قلوبهم رعبا- فليس لهم معقل يلجئون إليه و لا مهرب يتقون به- قد دهمتهم جنود الله و نزلت بساحتهم- مع رفاغة العيش و استفاضة المال- و تتابع البعوث و سد الثغور بإذن الله- في العافية الجليلة العامة- التي لم تكن الأمة على أحسن منها منذ كان الإسلام- و الله المحمود مع الفتوح العظام في كل بلد- فما عسى أن يبلغ شكر الشاكرين- و ذكر الذاكرين و اجتهاد المجتهدين- مع هذه النعم التي لا يحصى عددها و لا يقدر قدرها- و لا يستطاع أداء حقها إلا بعون الله و رحمته و لطفه- فنسأل الله الذي أبلانا هذا- أن يرزقنا العمل بطاعته و المسارعة إلى مرضاته- و اذكروا عباد الله بلاء الله عندكم- و استتموا نعمة الله عليكم و في مجالسكم مثنى و فرادى- فإن الله تعالى قال لموسى-أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ- وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ-

و قال لمحمد ص- وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ- فلو كنتم إذ كنتم مستضعفين محرومين- خير الدنيا على شعبة من الحق تؤمنون بها- و تستريحون إليها- مع المعرفة بالله و بدينه- و ترجون الخير فيما بعد الموت- و لكنكم كنتم أشد الناس عيشة- و أعظم الناس بالله جهالة- فلو كان هذا الذي ابتلاكم به- لم يكن معه حظ في دنياكم- غير أنه ثقة لكم في آخرتكم التي إليها المعاد و المنقلب- و أنتم من جهد المعيشة على ما كنتم عليه- كنتم أحرياء إن تشحوا على نصيبكم منه- و إن تظهروه على غيره فبله- أما إنه قد جمع لكم فضيلة الدنيا و كرامة الآخرة- أو لمن شاء أن يجمع ذلك منكم- فأذكركم الله الحائل بينكم و بين قلوبكم- إلا ما عرفتم حق الله و عملتم له- و سيرتم أنفسكم على طاعته- و جمعتم مع السرور بالنعم خوفا لزوالها و انتقالها- و وجلا من تحويلها- فإنه لا شي‏ء أسلب للنعمة من كفرانها- و أن الشكر أمن للغير و نماء للنعمة و استجلاب للزيادة- و هذا علي في أمركم و نهيكم واجب إن شاء الله

و روى أبو عبيدة معمر بن المثنى- في كتاب مقاتل الفرسان- قال كتب عمر إلى سلمان بن ربيعة الباهلي- أو إلى النعمان بن مقرن- أن في جندك رجلين من العرب- عمرو بن معديكرب و طليحة بن خويلد- فأحضرهما الناس و أدبهما و شاورهما في الحرب- و ابعثهما في الطلائع و لا تولهما عملا من أعمال المسلمين- و إذا وضعت الحرب أوزارها- فضعهما حيث وضعا أنفسهما- قال و كان عمرو ارتد و طليحة تنبأ- .

و روى أبو عبيدة أيضا في هذا الكتاب- قال قدم عمرو بن معديكرب- و الأجلح بن وقاص الفهمي على عمر- فأتياه و بين يديه مال يوزن- فقال متى قدمتما قالا يوم الخميس- قال فما حبسكما عني قالا شغلنا المنزل يوم قدمنا- ثم كانت الجمعة ثم غدونا عليك اليوم- فلما فرغ من وزن المال نحاه و أقبل عليهما- فقال هيه فقال عمرو بن معديكرب- يا أمير المؤمنين هذا الأجلح بن وقاص الشديد المرة- البعيد الغرة الوشيك الكرة- و الله ما رأيت مثله حين الرجال صارع و مصروع- و الله لكأنه لا يموت- فقال عمر للأجلح و أقبل عليه- و قد عرف الغضب في وجهه هيه يا أجلح- فقال الأجلح- يا أمير المؤمنين تركت الناس خلفي صالحين- كثيرا نسلهم داره أرزاقهم- خصبة بلادهم أجرياء على عدوهم- فأكلا عدوهم عنهم- فسيمتع الله بك فما رأينا مثلك إلا من سبقك- فقال ما منعك أن تقول في صاحبك مثل ما قال فيك- قال ما رأيت من وجهك قال أصبت- أما إنك لو قلت فيه مثل الذي قال فيك- لأوجعتكما ضربا و عقوبة- فإذ تركتك لنفسك فسأتركه لك- و الله لوددت لو سلمت لكم حالكم و دامت عليكم أموركم- أما إنه سيأتي عليك يوم تعضه و ينهشك- و تهره و ينبحك و لست له يومئذ و ليس لك- فإن لا يكن بعدكم فما أقربه منكم- .

لما أسر الهرمزان صاحب الأهواز و تستر و حمل إلى عمر- حمل و معه رجال من المسلمين- فيهم الأحنف بن قيس و أنس بن مالك- فأدخلوه في المدينة في هيئته- و عليه تاجه الذهب و كسوته- فوجدوا عمر نائما في جانب المسجد- فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه- فقال الهرمزان أين عمر فقالوا هو ذا- قال و أين حراسه و حجابه- قالوا لا حارس له و لا حاجب- قال فينبغي أن يكون هذا نبيا- قالوا إنه يعمل عمل الأنبياء- .

فاستيقظ عمر فقال الهرمزان قالوا نعم- قال لا أكلمه حتى لا يبقى عليه من حليته شي‏ء- فرموا بالحلية و ألبسوه ثوبا ضعيفا- فقال عمر يا هرمزان كيف رأيت وبال الغدر- و قد كان صالح المسلمين مرة ثم نكث- فقال يا عمر إنا و إياكم في الجاهلية كنا نغلبكم- إذ لم يكن الله معكم و لا معنا- فلما كان الله معكم غلبتمونا- قال فما عذرك في انتقاضك مرة بعد مرة- قال أخاف إن قلت أن تقتلني- قال لا بأس عليك فأخبرني- فاستسقى ماء فأخذه و جعلت يده ترعد- قال ما لك قال أخاف أن تقتلني و أنا أشرب- قال لا بأس عليك حتى تشربه- فألقاه من يده فقال ما بالك- أعيدوا عليه الماء و لا تجمعوا عليه بين القتل و العطش- قال كيف تقتلني و قد أمنتني- قال كذبت قال لم أكذب- فقال أنس صدق يا أمير المؤمنين قال ويحك يا أنس- أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور و البراء بن مالك- و الله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنك- قال إنك قلت لا بأس عليك حتى تخبرني- و لا بأس عليك حتى تشرب- و قال له ناس من المسلمين مثل قول أنس- فأقبل على الهرمزان- فقال تخدعني و الله لا تخدعني إلا أن تسلم- فأسلم ففرض له ألفين و أنزله المدينة- .

بعث عمر عمير بن سعيد الأنصاري عاملا على حمص- فمكث حولا لا يأتيه خبره- ثم كتب إليه بعد حول- إذا أتاك كتابي هذا فأقبل- و احمل ما جبيت من مال المسلمين- فأخذ عمير جرابه و جعل فيه زاده و قصعته- و علق أداته و أخذ عنزته- و أقبل ماشيا من حمص حتى دخل المدينة- و قد شحب لونه و اغبر وجهه و طال شعره- فدخل على عمر فسلم- فقال عمر ما شأنك يا عمير- قال ما ترى من شأني أ لست تراني صحيح البدن- ظاهر الدم معي الدنيا أجرها بقرنيها- قال و ما معك فظن عمر أنه قد جاء بمال- قال معي جرابي أجعل فيه زادي- و قصعتي آكل فيها و أغسل منها رأسي و ثيابي- و أداتي أحمل فيها وضوئي و شرابي- و عنزتي أتوكأ عليها و أجاهد بها عدوا إن عرض لي- قال عمر أ فجئت ماشيا قال نعم لم يكن لي دابة- قال أ فما كان في رعيتك أحد يتبرع لك بدابة تركبها- قال ما فعلوا و لا سألتهم ذلك- قال عمر بئس المسلمون خرجت من عندهم- قال عمير اتق الله يا عمر و لا تقل إلا خيرا- قد نهاك الله عن الغيبة و قد رأيتهم يصلون-

قال عمر فما ذا صنعت في إمارتك- قال و ما سؤالك قال سبحان الله- قال أما إني لو لا أخشى أن أعمل ما أخبرتك- أتيت البلد فجمعت صلحاء أهله فوليتهم جبايته- و وضعه في مواضعه و لو أصابك منه شي‏ء لأتاك- قال أ فما جئت بشي‏ء قال لا- فقال جددوا لعمير عهدا- قال إن ذلك لشي‏ء لا أعمله بعد لك و لا لأحد بعدك- و الله ما كدت أسلم بل لم أسلم- قلت لنصراني معاهد أخزاك الله- فهذا ما عرضتني له يا عمر إن أشقى أيامي ليوم صحبتك- ثم استأذنه في الانصراف فأذن له- و منزله بقباء بعيدا عن المدينة- فأمهله عمر أياما ثم بعث رجلا يقال له الحارث- فقال انطلق إلى عمير بن سعد و هذه مائة دينار- فإن وجدت عليه أثرا فأقبل علي بها- و إن رأيت حالا شديدة فادفع إليه هذه المائة- فانطلق الحارث فوجد عميرا جالسا- يفلي قميصا له إلى جانب حائط- فسلم عليه فقال عمير انزل رحمك الله- فنزل فقال من أين جئت قال من المدينة-

قال كيف تركت أمير المؤمنين قال صالحا- قال كيف تركت المسلمين قال صالحين- قال أ ليس عمر يقيم الحدود قال بلى- ضرب ابنا له على فاحشة فمات من ضربه- فقال عمير اللهم أعن عمر- فإني لا أعلمه إلا شديدا حبه لك- قال فنزل به ثلاثة أيام- و ليس لهم إلا قرص من شعير- كانوا يخصونه كل يوم به و يطوون حتى نالهم الجهد- فقال له عمير إنك قد أجعتنا- فإن رأيت أن تتحول عنا فافعل- فأخرج الحارث الدنانير فدفعها إليه- و قال بعث بها أمير المؤمنين فاستغن بها- فصاح و قال ردها لا حاجة لي فيها- فقالت المرأة خذها ثم ضعها في موضعها- فقال ما لي شي‏ء أجعلها فيه- فشقت أسفل درعها فأعطته خرقة فشدها فيها-

ثم خرج فقسمها كلها بين أبناء الشهداء و الفقراء- فجاء الحارث إلى عمر فأخبره- فقال رحم الله عميرا ثم لم يلبث أن هلك- فعظم مهلكه على عمر- و خرج مع رهط من أصحابه ماشين إلى بقيع الغرقد- فقال لأصحابه ليتمنين كل واحد منا أمنيته- فكل واحد تمنى شيئا و انتهت الأمنية إلى عمر- فقال وددت أن لي رجلا مثل عمير بن سعد- أستعين به على أمور المسلمين

نبذ من كلام عمر

و من كلام عمر إياكم و هذه المجازر- فإن لها ضراوة كضراوة الخمر- . و قال إياكم و الراحة فإنها غفلة- . و قال السمن غفلة- . و قال لا تسكنوا نساءكم الغرف و لا تعلموهن الكتابة- و استعينوا عليهن بالعرى- و عودوهن قول لا فإن نعم تجرئهن على المسألة- .

و قال تبين عقل المرء في كل شي‏ء حتى في علته- فإذا رأيته يتوقى على نفسه الصبر عن شهوته و يحتمي من مطعمه و مشربه- عرفت ذلك في عقله- و ما سألني رجل عن شي‏ء قط إلا تبين لي عقله في ذلك- . و قال إن للناس حدودا و منازل فأنزلوا كل رجل منزلته- و ضعوا كل إنسان في حده و احملوا كل امرئ بفعله على قدره- . و قال اعتبروا عزيمة الرجل بحميته و عقله بمتاع بيته- قال أبو عثمان الجاحظ- لأنه‏ ليس من العقل أن يكون فرشه لبدا و مرقعته طبرية- . و قال من يئس من شي‏ء استغنى عنه- و عز المؤمن استغناؤه عن الناس- . و قال لا يقوم بأمر الله إلا من لا يصانع- و لا يصارع و لا يتبع المطامع- .

و قال لا تضعفوا همتكم- فإني لم أر شيئا أقعد برجل- عن مكرمة من ضعف همته و وعظ رجلا فقال- لا تلهك الناس عن نفسك- فإن الأمور إليك تصل دونهم- و لا تقطع النهار سادرا فإنه محفوظ عليك- فإذا أسأت فأحسن- فإني لم أر شيئا أشد طلبا- و لا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم- . و قال احذر من فلتات السباب- و كل ما أورثك النبز و أعلقك اللقب- فإنه إن يعظم بعده شأنك يشتد على ذلك ندمك- .

و قال كل عمل كرهت من أجله الموت فاتركه- ثم لا يضرك متى مت- . و قال أقلل من الدين تعش حرا- و أقلل من الذنوب يهن عليك الموت- و انظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس- . و قال ترك الخطيئة أسهل من معالجة التوبة- . و قال احذروا النعمة حذركم المعصية- و هي أخفهما عليكم عندي- . و قال احذروا عاقبة الفراغ- فإنه أجمع لأبواب المكروه من السكر- . و قال أجود الناس من يجود على من لا يرجو ثوابه- و أحلمهم من عفا بعد القدرة و أبخلهم من بخل بالسلام- و أعجزهم من عجز في دعائه- . و قال رب نظرة زرعت شهوة- و رب شهوة أورثت حزنا دائما- .

و قال ثلاث خصال من لم تكن فيه لم ينفعه الإيمان- حلم يرد به جهل الجاهل- و ورع يحجزه عن المحارم- و خلق يداري به الناس

 

Show More

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.

Back to top button
-+=