207 و من خطبة له ع
وَ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ عَدَلَ وَ حَكَمٌ فَصَلَ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ سَيِّدُ عِبَادِهِ- كُلَّمَا نَسَخَ اللَّهُ الْخَلْقَ فِرْقَتَيْنِ جَعَلَهُ فِي خَيْرِهِمَا- لَمْ يُسْهِمْ فِيهِ عَاهِرٌ وَ لَا ضَرَبَ فِيهِ فَاجِرٌ- أَلَا وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلْخَيْرِ أَهْلًا- وَ لِلْحَقِّ دَعَائِمَ وَ لِلطَّاعَةِ- عِصَماً- وَ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ كُلِّ طَاعَةٍ عَوْناً مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ- يَقُولُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَ يُثَبِّتُ بِهِ الْأَفْئِدَةَ- فِيهِ كِفَاءٌ لِمُكْتَفٍ وَ شِفَاءٌ لِمُشْتَفٍ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُسْتَحْفَظِينَ عِلْمَهُ- يَصُونُونَ مَصُونَهُ وَ يُفَجِّرُونَ عُيُونَهُ- يَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلَايَةِ- وَ يَتَلَاقَوْنَ بِالْمَحَبَّةِ وَ يَتَسَاقَوْنَ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ- وَ يَصْدُرُونَ بِرِيَّةٍ لَا تَشُوبُهُمُ الرِّيبَةُ- وَ لَا تُسْرِعُ فِيهِمُ الْغِيبَةُ- عَلَى ذَلِكَ عَقَدَ خَلْقَهُمْ وَ أَخْلَاقَهُمْ- فَعَلَيْهِ يَتَحَابُّونَ وَ بِهِ يَتَوَاصَلُونَ- فَكَانُوا كَتَفَاضُلِ الْبَذْرِ يُنْتَقَى فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَ يُلْقَى- قَدْ مَيَّزَهُ التَّخْلِيصُ وَ هَذَّبَهُ التَّمْحِيصُ- فَلْيَقْبَلِ امْرُؤٌ كَرَامَةً بِقَبُولِهَا- وَ لْيَحْذَرْ قَارِعَةً قَبْلَ حُلُولِهَا- وَ لْيَنْظُرِ امْرُؤٌ فِي قَصِيرِ أَيَّامِهِ وَ قَلِيلِ مُقَامِهِ فِي مَنْزِلٍ- حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلًا- فَلْيَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ وَ مَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ- فَطُوبَى لِذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ- أَطَاعَ مَنْ يَهْدِيهِ وَ تَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيهِ- وَ أَصَابَ سَبِيلَ السَّلَامَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ- وَ طَاعَةِ هَادٍ أَمَرَهُ وَ بَادَرَ الْهُدَى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ-وَ تُقْطَعَ أَسْبَابُهُ وَ اسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ وَ أَمَاطَ الْحَوْبَةَ- فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى الطَّرِيقِ وَ هُدِيَ نَهْجَ السَّبِيلِ الضمير في أنه يرجع إلى القضاء و القدر- المذكور في صدر هذه الخطبة- و لم يذكره الرضي رحمه الله- يقول أشهد أن قضاءه تعالى عدل عدل و حكم بالحق- فإنه حكم فصل بين العباد بالإنصاف- و نسب العدل و الفصل إلى القضاء على طريق المجاز- و هو بالحقيقة منسوب إلى ذي القضاء- و القاضي به هو الله تعالى- .
قوله و سيد عباده هذا كالمجمع عليه بين المسلمين- و إن كان قد خالف فيه شذوذ منهم- و احتج الجمهوربقوله أنا سيد ولد آدم و لا فخروبقوله ادعوا لي سيد العرب عليا- فقالت عائشة أ لست سيد العرب- فقال أنا سيد البشر و علي سيد العربوبقوله آدم و من دونه تحت لوائيو احتج المخالفبقوله ع لا تفضلوني على أخي يونس بن متى- .
و أجاب الأولون تارة بالطعن في إسناد الخبر- و تارة بأنه حكاية كلام حكاه ص- عن عيسى ابن مريم- و تارة بأن النهي إنما كان عن الغلو فيه- كما غلت الأمم في أنبيائها- فهو كما ينهى الطبيب المريض- فيقول لا تأكل من الخبز و لا درهما- و ليس مراده تحريم أكل الدرهم و الدرهمين- بل تحريم ما يستضر بأكله منه- . قوله ع- كلما نسخ الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما- النسخ النقل و منه نسخ الكتاب- و منه نسخت الريح آثار القوم و نسخت الشمس الظل- يقول كلما قسم الله تعالى الأب الواحد إلى ابنين- جعل خيرهما و أفضلهما لولادة محمد ع- و سمى ذلك نسخا لأن البطن الأول يزول- و يخلفه البطن الثاني- و منه مسائل المناسخات في الفرائض- .
و هذا المعنى قد ورد مرفوعا في عدة أحاديث نحوقوله ص ما افترقت فرقتان منذ نسل آدم ولده- إلا كنت في خيرهماو نحوقوله إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل- و اصطفى من ولد إسماعيل مضر- و اصطفى من مضر كنانة و اصطفى من كنانة قريشا- و اصطفى من قريش هاشما- و اصطفاني من بني هاشمقوله لم يسهم فيه عاهر و لا ضرب فيه فاجر- لم يسهم لم يضرب فيه عاهر بسهم أي بنصيب و جمعه سهمان- و العاهر ذو العهر بالتحريك و هو الفجور و الزناء- و يجوز تسكين الهاء مثل نهر و نهر- و هذا هو المصدر و الماضي عهر بالفتح- و الاسم العهر بكسر العين و سكون الهاء- و المرأة عاهرة و معاهرة و عيهرة- و تعيهر الرجل إذا زنى- و الفاجر كالعاهر هاهنا- و أصل الفجور الميل قال لبيد-فإن تتقدم تغش منها مقدما غليظا و إن أخرت فالكفل فاجريقول مقعد الرديف مائلذكر بعض المطاعن في النسب و كلام للجاحظ في ذلكو في الكلام رمز إلى جماعة من الصحابة في أنسابهم طعن- كما يقال إن آل سعد بن أبي وقاص- ليسوا من بني زهرة بن كلاب- و إنهم من بني عذرة من قحطان-و كما قالوا إن آل الزبير بن العوام- من أرض مصر من القبط- و ليسوا من بني أسد بن عبد العزى- قال الهيثم بن عدي في كتاب مثالب العرب- إن خويلد بن أسد بن عبد العزى كان أتى مصر- ثم انصرف منها بالعوام فتبناه- فقال حسان بن ثابت يهجو آل العوام بن خويلد-
بني أسد ما بال آل خويلد
يحنون شوقا كل يوم إلى القبط
متى يذكروا قهقى يحنوا لذكرها
و للرمث المقرون و السمك الرقط
عيون كأمثال الزجاج وضيعة
تخالف كعبا في لحى كثة ثط
يرى ذاك في الشبان و الشيب منهم
مبينا و في الأطفال و الجلة الشمط
لعمر أبي العوام إن خويلدا
غداة تبناه ليوثق في الشرط
و كما يقال في قوم آخرين- نرفع هذا الكتاب عن ذكر ما يطعن به في أنسابهم- كي لا يظن بنا أنا نحب المقالة في الناس- . قال شيخنا أبو عثمان في كتاب مفاخرات قريش- لا خير في ذكر العيوب إلا من ضرورة- و لا نجد كتاب مثالب قط إلا لدعي أو شعوبي- و لست واجده لصحيح النسب و لا لقليل الحسد- و ربما كانت حكاية الفحش أفحش من الفحش- و نقل الكذب أقبح من الكذب- وقال النبي ص اعف عن ذي قبروقال لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات- و قيل في المثل يكفيك من شر سماعه- و قالوا أسمعك من أبلغك- و قالوا من طلب عيبا وجده- و قال النابغة-و لست بمستبق أخا لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب- .
قال أبو عثمان- و بلغ عمر بن الخطاب أن أناسا من رواة الأشعار- و حملة الآثار يعيبون الناس- و يثلبونهم في أسلافهم- فقام على المنبر و قال إياكم و ذكر العيوب- و البحث عن الأصول- فلو قلت لا يخرج اليوم من هذا الأبواب- إلا من لا وصمة فيه- لم يخرج منكم أحد- فقام رجل من قريش نكره أن نذكره- فقال إذا كنت أنا و أنت يا أمير المؤمنين نخرج- فقال كذبت بل كان يقال لك يا قين بن قين اقعد- .
قلت الرجل الذي قام- هو المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي- كان عمر يبغضه لبغضه أباه خالدا- و لأن المهاجر كان علوي الرأي جدا- و كان أخوه عبد الرحمن بخلافه- شهد المهاجر صفين مع علي ع- و شهدها عبد الرحمن مع معاوية- و كان المهاجر مع علي ع في يوم الجمل- و فقئت ذلك اليوم عينه- و لأن الكلام الذي بلغ عمر بلغه عن المهاجر- و كان الوليد بن المغيرة مع جلالته في قريش- و كونه يسمى ريحانة قريش و يسمى العدل- و يسمى الوحيد حداد يصنع الدروع و غيرها بيده- ذكر ذلك عنه عبد الله بن قتيبة في كتاب المعارف- .
و روى أبو الحسن المدائني هذا الخبر- في كتاب أمهات الخلفاء- و قال إنه روى عند جعفر بن محمد ع بالمدينة- فقال لا تلمه يا ابن أخي- إنه أشفق أن يحدج بقضية نفيل بن عبد العزى و صهاك أمة الزبير بن عبد المطلب- ثم قال رحم الله عمر فإنه لم يعد السنة و تلا- إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا- لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ- . أما قول ابن جرير الآملي الطبرستاني في كتاب المسترشد- إن عثمان والدأبي بكر الصديق- كان ناكحا أم الخير ابنة أخته فليس بصحيح- و لكنها ابنة عمه لأنها ابنة صخر بن عامر- و عثمان هو ابن عمرو بن عامر- و العجب لمن اتبعه من فضلاء الإمامية على هذه المقالة- من غير تحقيق لها من كتب الأنساب- و كيف تتصور هذه الواقعة في قريش- و لم يكن أحد منهم مجوسيا و لا يهوديا- و لا كان من مذهبهم حل نكاح بنات الأخ و لا بنات الأخت- .
ثم نعود لإتمام حكاية كلام شيخنا أبي عثمان- قال و متى يقدر الناس حفظك الله- على رجل مسلم من كل ابنة و مبرأ من كل آفة- في جميع آبائه و أمهاته و أسلافه و أصهاره- حتى تسلم له أخواله و أعمامه و خالاته و عماته- و أخواته و بناته و أمهات نسائه- و جميع من يناسبه من قبل جداته و أجداده- و أصهاره و أختانه- و لو كان ذلك موجودا- لما كان لنسب رسول الله ص فضيلة في النقاء و التهذيب- و في التصفية و التنقيح-قال رسول الله ص ما مسني عرق سفاح قط- و ما زلت أنقل من الأصلاب السليمة من الوصوم- و الأرحام البريئة من العيوبفلسنا نقضي لأحد بالنقاء من جميع الوجوه- إلا لنسب من صدقه القرآن و اختاره الله على جميع الأنام- و إلا فلا بد من شيء يكون في نفس الرجل أو في طرفيه- أو في بعض أسلافه أو في بعض أصهاره- و لكنه يكون مغطى بالصلاح- و محجوبا بالفضائل و مغمورا بالمناقب- .
و لو تأملت أحوال الناس- لوجدت أكثرهم عيوبا أشدهم تعييبا- قال الزبرقان من بدر ما استب رجلان إلا غلب ألأمهما- و قال خصلتان كثيرتان في امرئ السوء-كثرة اللطام و شدة السباب- و لو كان ما يقوله أصحاب المثالب حقا- لما كان على ظهرها عربي- كما قال عبد الملك بن صالح الهاشمي- إن كان ما يقول بعض في بعض حقا فما فيهم صحيح- و إن كان ما يقول بعض المتكلمين في بعض حقا- فما فيهم مسلم- .
قوله ع ألا و إن الله قد جعل للخير أهلا- و للحق دعائم و للطاعة عصما- الدعائم ما يدعم بها البيت لئلا يسقط- و العصم جمع عصمة و هو ما يحفظ به الشيء و يمنع- فأهل الخير هم المتقون- و دعائم الحق الأدلة الموصلة إليه المثبتة له في القلوب- و عصم الطاعة هي الإدمان على فعلها- و التمرن على الإتيان بها- لأن المرون على الفعل يكسب الفاعل ملكة- تقتضي سهولته عليه- و العون هاهنا هو اللطف المقرب من الطاعة- المبعد من القبيح- .
ثم قال ع- إنه يقول على الألسنة و يثبت الأفئدة- و هذا من باب التوسع و المجاز- لأنه لما كان مستهلا للقول- أطلق عليه إنه يقول على الألسنة- و لما كان الله تعالى هو الذي يثبت الأفئدة- كما قال يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ- نسب التثبيت إلى اللطف لأنه من فعل الله تعالى- كما ينسب الإنبات إلى المطر- و إنما المنبت للزرع هو الله تعالى و المطر فعله- . ثم قال ع فيه كفاء لمكتف و شفاء لمشتف- و الوجه فيه كفاية- فإن الهمز لا وجه له هاهنا لأنه من باب آخر- و لكنه أتى بالهمزة للازدواج بين كفاءو شفاء- كما قالوا الغدايا و العشايا- و كما قال ع مأزورات غير مأجورات- فأتى بالهمز و الوجه الواو للازدواج
ذكر بعض أحوال العارفين و الأولياء
ثم ذكر العارفين فقال- و اعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه- إلى قوله و هذبه التمحيص- . و اعلم أن الكلام في العرفان- لم يأخذه أهل الملة الإسلامية إلا عن هذا الرجل- و لعمري لقد بلغ منه إلى أقصى الغايات و أبعد النهايات- و العارفون هم القوم الذين اصطفاهم الله تعالى- و انتخبهم لنفسه و اختصهم بأنسه- أحبوه فأحبهم و قربوا منه فقرب منهم- قد تكلم أرباب هذا الشأن في المعرفة و العرفان- فكل نطق بما وقع له- و أشار إلى ما وجده في وقته- . و كان أبو علي الدقاق يقول- من أمارات المعرفة حصول الهيبة من الله- فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته- .
و كان يقول المعرفة توجب السكينة في القلب- كما أن العلم يوجب السكون- فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته- . و سئل الشبلي عن علامات العارف- فقال ليس لعارف علامة و لا لمحب سكون و لا لخائف قرار- . و سئل مرة أخرى عن المعرفة- فقال أولها الله و آخرها ما لا نهاية له- . و قال أبو حفص الحداد- منذ عرفت الله ما دخل قلبي حق و لا باطل- و قد أشكل هذا الكلام على أرباب هذا الشأن- و تأوله بعضهم فقال- عند القوم إن المعرفة توجبغيبة العبد عن نفسه- لاستيلاء ذكر الحق عليه- فلا يشهد غير الله و لا يرجع إلا إليه- و كما إن العاقل يرجع إلى قلبه- و تفكره و تذكره فيما يسنح له من أمر- أو يستقبله من حال- فالعارف رجوعه إلى ربه لا إلى قلبه- و كيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له- .
و سئل أبو يزيد البسطامي عن العرفان- فقال إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها- وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً- و هذا معنى ما أشار إليه أبو حفص الحداد- . و قال أبو يزيد أيضا للخلق أحوال و لا حال للعارف- لأنه محيت رسومه و فنى هو- و صارت هويته هوية غيره- و غيبت آثاره في آثار غيره- . قلت و هذا هو القول بالاتحاد الذي يبحث فيه أهل النظر- . و قال الواسطي- لا تصح المعرفة و في العبد استغناء بالله- أو افتقار إليه- و فسر بعضهم هذا الكلام- فقال إن الافتقار و الاستغناء- من أمارات صحو العبد و بقاء رسومه- على ما كانت عليه- و العارف لا يصح ذلك عليه- لأنه لاستهلاكه في وجوده- أو لاستغراقه في شهوده- إن لم يبلغ درجة الاستهلاك في الوجود- مختطف عن إحساسه بالغنى و الفقر و غيرهما من الصفات- و لهذا قال الواسطي- من عرف الله انقطع و خرس و انقمع-قال ص لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك- .
و قال الحسين بن منصور الحلاج- علامة العارف أن يكون فارغا من الدنيا و الآخرة- . و قال سهل بن عبد الله التستري- غاية العرفان شيئان الدهش و الحيرة- . و قال ذو النون- أعرف الناس بالله أشدهم تحيرا فيه- . و قيل لأبي يزيد بما ذا وصلت إلى المعرفة- قال ببدن عار و بطن جائع- .
و قيل لأبي يعقوب السوسي- هل يتأسف العارف على شيء غير الله- فقال و هل يرى شيئا غيره ليتأسف عليه- . و قال أبو يزيد العارف طيار و الزاهد سيار- . و قال الجنيد لا يكون العارف عارفا- حتى يكون كالأرض يطؤها البر و الفاجر- و كالسحاب يظل كل شيء- و كالمطر يسقى ما ينبت و ما لا ينبت- . و قال يحيى بن معاذ يخرج العارف من الدنيا- و لا يقضى وطره من شيئين- بكائه على نفسه و حبه لربه- . و كان ابن عطاء يقول- أركان المعرفة ثلاثة الهيبة و الحياء و الأنس و قال بعضهم العارف أنس بالله فأوحشه من خلقه- و افتقر إلى الله فأغناه عن خلقه- و ذل لله فأعزه في خلقه- . و قال بعضهم العارف فوق ما يقول- و العالم دون ما يقول- .
و قال أبو سليمان الداراني- إن الله يفتح للعارف على فراشه- ما لا يفتح للعابد و هو قائم يصلي- . و كان رويم يقول- رياء العارفين أفضل من إخلاص العابدين- . و سئل أبو تراب النخشبي عن العارف- فقال هو الذي لا يكدره شيء- و يصفو به كل شيء- . و قال بعضهم المعرفة أمواج ترفع و تحط- . و سئل يحيى بن معاذ عن العارف فقال الكائن البائن- . و قيل ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة- فكيف عند أبناء الدنيا- .
و قال محمد بن الفضل المعرفة حياة القلب مع الله- . و سئل أبو سعيد الخراز- هل يصير العارف إلى حال يجفو عليه البكاء- قالنعم إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله- فإذا صاروا إلى حقائق القرب- و ذاقوا طعم الوصول زال عنهم ذلك- . و اعلم أن إطلاق أمير المؤمنين ع عليهم لفظة الولاية- في قوله يتواصلون بالولاية و يتلاقون بالمحبة- يستدعي الخوض في مقامين جليلين من مقامات العارفين- المقام الأول الولاية و هو مقام جليل- قال الله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ- لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ- وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ وجاء في الخبر الصحيح عن النبي ص يقول الله تعالى من آذى لي وليا فقد استحل محارمي- و ما تقرب إلي العبد بمثل أداء ما فرضت عليه- و لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه- و لا ترددت في شيء أنا فاعله- كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن- يكره الموت و أكره مساءته و لا بد له منه- .
و اعلم أن الولي له معنيان- أحدهما فعيل بمعنى مفعول كقتيل و جريح- و هو من يتولى الله أمره كما قال الله تعالى- إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ- وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ- فلا يكله إلى نفسه لحظة عين بل يتولى رعايته- . و ثانيهما فعيل بمعنى فاعل كنذير و عليم- و هو الذي يتولى طاعة الله و عبادته فلا يعصيه- . و من شرط كون الولي وليا ألا يعصي مولاه و سيده- كما أن من شرط كون النبينبيا العصمة- فمن ظن فيه أنه من الأولياء- و يصدر عنه ما للشرع فيه اعتراض- فليس بولي عند أصحاب هذا العلم بل هو مغرور مخادع- . و يقال إن أبا يزيد البسطامي قصد بعض من يوصف بالولاية- فلما وافى مسجده قعد ينتظر خروجه- فخرج الرجل و تنخم في المسجد- فانصرف أبو يزيد و لم يسلم عليه- و قال هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة- كيف يكون أمينا على أسرار الحق- .
و قال إبراهيم بن أدهم لرجل- أ تحب أن تكون لله وليا قال نعم- قال لا ترغب في شيء من الدنيا و لا من الآخرة- و فرغ نفسك لله- و أقبل بوجهك عليه ليقبل عليك و يواليك- . و قال يحيى بن معاذ في صفة الأولياء- هم عباد تسربلوا بالأنس بعد المكابدة- و ادرعوا بالروح بعد المجاهدة- بوصولهم إلى مقام الولاية- . و كان أبو يزيد يقول أولياء الله عرائس الله- و لا يرى العرائس إلا المحارم- فهم مخدرون عنده في حجاب الأنس- لا يراهم أحد في الدنيا و لا في الآخرة- .
و قال أبو بكر الصيدلاني- كنت أصلح لقبر أبي بكر الطمستاني لوحا أنقر فيه اسمه- فيسرق ذلك اللوح- فأنقر له لوحا آخر و أنصبه على قبره فيسرق- و تكرر ذلك كثيرا دون غيره من ألواح القبور- فكنت أتعجب منه فسألت أبا علي الدقاق عن ذلك- فقال إن ذلك الشيخ آثر الخفاء في الدنيا- و أنت تريد أن تشهره باللوح الذي تنصبه على قبره- فالله سبحانه يأبى إلا إخفاء قبره كما هو ستر نفسه- . و قال بعضهم- إنما سمي الولي وليا لأنه توالت أفعاله على الموافقة- .
و قال يحيى بن معاذ الولي لا يرائي و لا ينافق- و ما أقل صديق من يكون هذا خلقه- . المقام الثاني المحبة قال الله سبحانه- مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ- فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ- و المحبة عند أرباب هذا الشأن حالة شريفة- . قال أبو يزيد البسطامي- المحبة استقلال الكثير من نفسك- و استكثار القليل من حبيبك- . و قال أبو عبد الله القرشي- المحبة أن تهب كلك لمن أحببت- فلا يبقى لك منك شيء- و أكثرهم على نفي صفة العشق- لأن العشق مجاوزة الحد في المحبة- و البارئ سبحانه أجل من أن يوصف- بأنه قد تجاوز أحد الحد في محبته- .
سئل الشبلي عن المحبة- فقال هي أن تغار على المحبوب- أن يحبه أحد غيرك- . و قال سمنون ذهب المحبون بشرف الدنيا و الآخرة-لأن النبي ص قال المرء مع من أحب- فهم مع الله تعالى- . و قال يحيى بن معاذ- حقيقة المحبة ما لا ينقص بالجفاء و لا يزيد بالبر- . و قال ليس بصادق من ادعى محبته و لم يحفظ حدوده- . و قال الجنيد إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب- . و أنشد في معناه-إذا صفت المودة بين قوم و دام ودادهم سمج الثناءو كان أبو علي الدقاق يقول- أ لست ترى الأب الشفيق لا يبجل ولده في الخطاب- و الناس يتكلفون في مخاطبته- و الأب يقول له يا فلان باسمه- .
و قال أبو يعقوب السوسي- حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من الله- و ينسى حوائجه إليه- . قيل للنصرآباذي يقولون إنه ليس لك من المحبة شيء- قال صدقوا و لكن لي حسراتهم فهو ذو احتراق فيه- . و قال النصرآباذي أيضا- المحبة مجانبة السلو على كل حال ثم أنشد-
و من كان في طول الهوى ذاق
سلوة فإني من ليلى لها غير ذائق
و أكثر شيء نلته في وصالها
أماني لم تصدق كلمحة بارق
و كان يقال الحب أوله خبل و آخره قتل- . و قال أبو علي الدقاق في معنىقول النبي ص حبك الشيء يعمي و يصم- قال يعمي و يصم عن الغير إعراضا- و عن المحبوب هيبة ثم أنشد-
إذا ما بدا لي تعاظمته
فأصدر في حال من لم يره
و قال الجنيد سمعت الحارث المحاسبي يقول- المحبة إقبالك على المحبوب بكليتك- ثم إيثارك له على نفسك و مالك و ولدك- ثم موافقتك له في جميع الأمور سرا و جهرا- ثم اعتقادك بعد ذلك أنك مقصر في محبته- . و قال الجنيد سمعت السري يقول- لا تصلح المحبة بين اثنين- حتى يقول الواحد للآخر يا أنا- . و قال الشبلي المحب إذا سكت هلك- و العارف إذا لم يسكت هلك- . و قيل المحبة نار في القلب تحرق ما سوى ود المحبوب- . و قيل المحبة بذل الجهد و الحبيب يفعل ما يشاء- . و قال الثوري المحبة هتك الأستار و كشف الأسرار- .
حبس الشبلي في المارستان بين المجانين- فدخل عليه جماعة فقال من أنتم- قالوا محبوك أيها الشيخ- فأقبل يرميهم بالحجارة ففروا- فقال إذا ادعيتم محبتي فاصبروا على بلائي- . كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد البسطامي- قد سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته- فكتب إليه أبو يزيد- غيرك شرب بحور السموات و الأرض و ما روي بعد- و لسانه خارج و يقول هل من مزيد- . و من شعرهم في هذا المعنى-عجبت لمن يقول ذكرت ربي و هل أنسى فأذكر ما نسيت
شربت الحب كأسا بعد كأس
فما نفد الشراب و لا رويت
ويقال إن الله تعالى أوحى إلى بعض الأنبياء- إذا اطلعت على قلب عبد فلم أجد فيه حب الدنيا و الآخرة- ملأته من حبيوقال أبو علي الدقاق إن في بعض الكتب المنزلة عبدي أنا و حقك لك محب- فبحقي عليك كن لي محبا- . و قال عبد الله بن المبارك- من أعطي قسطا من المحبة- و لم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع- . و قيل المحبة ما تمحو أثرك و تسلبك عن وجودك- . و قيل المحبة سكر لا يصحوا صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه- ثم إن السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف- و أنشد
فأكسر القوم دور كأس
و كان سكرى من المدير
و كان أبو علي الدقاق ينشد كثيرا-
لي سكرتان و للندمان واحدة شيء
خصصت به من بينهم وحدي
و كان يحيى بن معاذ يقول- مثقال خردلة من الحب- أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب- . و قال بعضهم من أراد أن يكون محبا- فليكن كما حكي عن بعض الهند- أنه أحب جارية فرحلت عن ذلك البلد- فخرج الفتى في وداعها فدمعت إحدى عينيه دون الأخرى- فغمض التي لم تدمع أربعا و ثمانين سنة و لم يفتحها- عقوبة لأنها لم تبك على فراق حبيبته- . و أنشدوا في هذا المعنى-
بكت عيني غداة البين دمعا
و أخرى بالبكاء بخلت علينا
فعاقبت التي بخلت علينا
بأن غمضتها يوم التقيا
وقيل إن الله تعالى أوحى إلى داود ع- إني حرمت على القلوب أن يدخلها حبي و حب غيري- . و قيل المحبة إيثار المحبوب على النفس- كامرأة العزيز لما أفرط بها الحب قالت- أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ- و في الابتداء قالت- ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ- فوركت الذنب في الابتداء عليه- و نادت في الانتهاء على نفسها بالخيانة و قال أبو سعيد الخراز رأيت النبي ص في المنام- فقلت يا رسول الله اعذرني- فإن محبة الله شغلتني عن حبك- فقال يا مبارك من أحب الله فقد أحبني- .
ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل- قوله ع يصونون مصونه- أي يكتمون من العلم الذي استحفظوه ما يجب أن يكتم- و يفجرون عيونه يظهرون منه ما ينبغي إظهاره- و ذلك أنه ليس ينبغي إظهار كل ما استودع- العارف من الأسرار- و أهل هذا الفن يزعمون- أن قوما منهم عجزوا عن أن يحملوا بما حملوه- فباحوا به فهلكوا منهم الحسين بن منصور الحلاج- و لأبي الفتوح الجارودي المتأخر- أتباع يعتقدون فيه مثل ذلك- .
و الولاية بفتح الواو المحبة و النصرة- و معنى يتواصلون بالولاية يتواصلون و هم أولياء- و مثله و يتلاقون بالمحبة- كما تقول خرجت بسلاحي أي خرجت و أنا متسلح- فيكون موضع الجار و المجرور نصبا بالحال- أو يكون المعنى أدق و ألطف من هذا- و هو أن يتواصلوا بالولاية أي بالقلوب لا بالأجسام- كما تقول أنا أراك بقلبي- و أزورك بخاطري و أواصلك بضميري- . قوله و يتساقون بكأس روية- أي بكأس المعرفة و الأنس بالله- يأخذ بعضهم عن بعض العلوم و الأسرار- فكأنهم شرب يتساقون بكأس من الخمر- .
قال و يصدرون برية- يقال من أين ريتكم مفتوحة الراء- أي من أين ترتوون الماء- . قال لا تشوبهم الريبة أي لا تخالطهم الظنة و التهمة- و لا تسرع فيهم الغيبة- لأن أسرارهم مشغولة بالحق عن الخلق- . قال على ذلك عقد خلقهم و أخلاقهم- الضمير في عقد يرجع إلى الله تعالى- أي على هذه الصفات و الطبائع عقد الخالق تعالى- خلقتهم و خلقهم أي هم متهيئون لما صاروا إليه-كما قال ع إذا أرادك لأمر هيأك لهو
قال ع كل ميسر لما خلق له- . قال فعليه يتحابون و به يتواصلون- أي ليس حبهم بعضهم بعضا إلا في الله- و ليست مواصلتهم بعضهم بعضا إلا لله- لا للهوى و لا لغرض من أغراض الدنيا- أنشد منشد عند عمر قول طرفة-
فلو لا ثلاث هن من عيشة الفتى
و جدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
و كري إذا نادى المضاف محنبا
كسيد الغضا نبهته المتورد
و تقصير يوم الدجن و الدجن معجب
ببهكنة تحت الطراف المعمد
فقال عمر و أنا لو لا ثلاث هن من عيشة الفتى- لم أحفل متى قام عودي- حبي في الله و بغضي في الله و جهادي في سبيل الله- . قوله ع فكانوا كتفاضل البذر- أي مثلهم مثل الحب الذي ينتفي للبذر- يستصلح بعضه و يسقط بعضه- . قد ميزه التخليص قد فرق الانتقاء بين جيدة و رديئة- و هذبه التمحيصقال النبي ص إن المرض ليمحص الخطايا كما تمحص النار الذهب- أي كما تخلص النار الذهب مما يشوبه- . ثم أمر ع المكلفين بقبول كرامة الله و نصحه- و وعظه و تذكيره و بالحذرمن نزول القارعة بهم- و هي هاهنا الموت- و سميت الداهية قارعة لأنها تقرع أي تصيب بشدة- .
قوله فليصنع لمتحوله- أي فليعد ما يجب إعداده للموضع الذي يتحول إليه- تقول اصنع لنفسك أي اعمل لها- . قوله و معارف منتقله- معارف الدار ما يعرفها المتوسم بها واحدها معرف- مثل معاهد الدار و معالم الدار- و منه معارف المرأة و هو ما يظهر منها كالوجه و اليدين- و المنتقل بالفتح موضع الانتقال- . قوله فطوبى هي فعلى من الطيب- قلبوا الياء واوا للضمة قبلها- و يقال طوبى لك و طوباك بالإضافة- . و قول العامة طوبيك بالياء غير جائز- . قوله لذي قلب سليم- هو من ألفاظ الكتاب العزيز- أي سليم من الغل و الشك- .
قوله أطاع من يهديه- أي قبل مشورة الناصح الآمر له بالمعروف- و الناهي له عن المنكر- . و تجنب من يرديه- أي يهلكه بإغوائه و تحسين القبيح له- . و الباء في قوله ببصر من بصره متعلقة بأصاب- . قوله قبل أن تغلق أبوابه- أي قبل أن يحضره الموت فلا تقبل توبته- . و الحوبة الإثم و إماطته إزالته- و يجوز أمطت الأذى عنه- و مطت الأذى عنه أي نحيته- و منع الأصمعي منه إلا بالهمزة
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 11