خطبه 91 صبحی صالح
91- و من خطبة له ( عليه السلام ) تعرف بخطبة الأشباح
و هي من جلائل خطبه ( عليه السلام )
روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن محمد ( عليهماالسلام ) أنه قال:
خطب أمير المؤمنين بهذه الخطبة على منبر الكوفة
و ذلك أن رجلا أتاه فقال له يا أمير المؤمنين صف لنا ربنا مثل ما نراه عيانا لنزداد له حبا و به معرفة
فغضب و نادى الصلاة جامعة
فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله
فصعد المنبر و هو مغضب متغير اللون
فحمد الله و أثنى عليه
و صلى على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم قال
وصف اللّه تعالى
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَ الْجُمُودُ
وَ لَا يُكْدِيهِ الْإِعْطَاءُ وَ الْجُودُ
إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ
وَ كُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاهُ
وَ هُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ
وَ عَوَائِدِ الْمَزِيدِ وَ الْقِسَمِ
عِيَالُهُ الْخَلَائِقُ
ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ
وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ
وَ نَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ
وَ الطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ
وَ لَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ
الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ قَبْلَهُ
وَ الْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ لهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ بَعْدَهُ
وَ الرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ
مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الْحَالُ
وَ لَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ
وَ لَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ
وَ ضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ
مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَ الْعِقْيَانِ
وَ نُثَارَةِ الدُّرِّ
وَ حَصِيدِ الْمَرْجَانِ
مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ
وَ لَا أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ
وَ لَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الْأَنْعَامِ
مَا لَا تُنْفِدُهُ
مَطَالِبُ الْأَنَامِ
لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يَغِيضُهُ سُؤَالُ السَّائِلِينَ
وَ لَا يُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ
صفاته تعالى في القرآن
فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ
فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ
وَ اسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ
وَ مَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ
وَ لَا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وآله )وَ أَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ
فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ
فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكَ
وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ
هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ
الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ
الْإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ
فَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً
وَ سَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً
فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ
وَ لَا تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ
فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ
هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي
إِذَا ارْتَمَتِ الْأَوْهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ
وَ حَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ
أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ
وَ تَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ
لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ
وَ غَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لَا تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ رَدَعَهَا
وَ هِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ
مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ
فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ
مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لَا يُنَالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ
وَ لَا تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلَالِ عِزَّتِه
الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ
وَ لَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ
وَ أَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ
وَ عَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ
وَ اعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ
مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ
فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ
وَ أَعْلَامُ حِكْمَتِهِ
فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَ دَلِيلًا عَلَيْهِ
وَ إِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً
فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ
وَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ
فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ
وَ تَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ
لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ
وَ لَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لَا نِدَّ لَكَ
وَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ
إِذْ يَقُولُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ
كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ
إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ
وَ نَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ
وَ جَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ
وَ قَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ
وَ أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ
وَ الْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ
وَ نَطَقَتْ عَنْهُ
شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ
وَ إِنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ
فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً
وَ لَا فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً
و منهاقَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ
وَ دَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ
وَ وَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ
فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ
وَ لَمْ يَقْصُرْ دُونَ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَايَتِهِ
وَ لَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ
فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا صَدَرَتِ الْأُمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ
الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الْأَشْيَاءِ بِلَا رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا
وَ لَا قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا
وَ لَا تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ
وَ لَا شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الْأُمُورِ
فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ
وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ
وَ أَجَابَ إِلَى دَعْوَتِهِ
لَمْ يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ الْمُبْطِئِ
وَ لَا أَنَاةُ الْمُتَلَكِّئِ
فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوَدَهَا
وَ نَهَجَ حُدُودَهَا
وَ لَاءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا
وَ وَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا
وَ فَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَاتٍ فِي الْحُدُودِ وَ الْأَقْدَارِ
وَ الْغَرَائِزِ وَ الْهَيْئَاتِ
بَدَايَا خَلَائِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا
وَ فَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَ ابْتَدَعَهَا
و منها في صفة السماء
وَ نَظَمَ بِلَا تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا
وَ لَاحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا
وَ وَشَّجَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ أَزْوَاجِهَا
وَ ذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ
وَ الصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا
وَ نَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ
فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا
وَ فَتَقَ بَعْدَ الِارْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا
وَ أَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا
وَ أَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تُمُورَ فِي خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَيْدِهِ
وَ أَمَرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لِأَمْرِهِ
وَ جَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا
وَ قَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا
وَ أَجْرَاهُمَا فِي مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا
وَ قَدَّرَ سَيْرَهُمَا فِي مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا
لِيُمَيِّزَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ بِهِمَا
وَ لِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِينَ وَ الْحِسَابُ بِمَقَادِيرِهِمَا
ثُمَّ عَلَّقَ فِي جَوِّهَا فَلَكَهَا
وَ نَاطَ بِهَا زِينَتَهَا مِنْ خَفِيَّاتِ دَرَارِيِّهَا
وَ مَصَابِيحِ كَوَاكِبِهَا
وَ رَمَى مُسْتَرِقِي السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا
وَ أَجْرَاهَا عَلَى أَذْلَالِ تَسْخِيرِهَا
مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا
وَ مَسِيرِ سَائِرِهَا
وَ هُبُوطِهَا وَ صُعُودِهَا
وَ نُحُوسِهَا وَ سُعُودِهَا
و منها في صفة الملائكة
ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لِإِسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ
وَ عِمَارَةِ الصَّفِيحِ الْأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ
خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلَائِكَتِهِ
وَ مَلَأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا
وَ حَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا
وَ بَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ
وَ سُتُرَاتِ الْحُجُبِ
وَ سُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ وَ وَرَاءَ ذَلِكَ الرَّجِيجِ
الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الْأَسْمَاعُ
سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا
فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا.
وَ أَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ
وَ أَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ
أُولِي أَجْنِحَةٍ
تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِهِ
لَا يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ
وَ لَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ
جَعَلَهُمُ اللَّهُ فِيمَا هُنَالِكَ أَهْلَ الْأَمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ
وَ حَمَّلَهُمْ إِلَى الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَ نَهْيِهِ
وَ عَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ
فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ
وَ أَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ الْمَعُونَةِ
وَ أَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِينَةِ
وَ فَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلًا إِلَى تَمَاجِيدِهِ
وَ نَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلَامِ تَوْحِيدِهِ
لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ الْآثَامِ
وَ لَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ
وَ لَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ
وَ لَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ يَقِينِهِمْ
وَ لَا قَدَحَتْ قَادِحَةُ الْإِحَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ
وَ لَا سَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مَا لَاقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ
وَ مَا سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ
وَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا عَلَى فِكْرِهِمْ
وَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ الْغَمَامِ الدُّلَّحِ
وَ فِي عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ
وَ فِي قَتْرَةِ الظَّلَامِ الْأَيْهَمِ
وَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْضِ السُّفْلَى
فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيضٍ
قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ
وَ تَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ
قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ
وَ وَصَلَتْ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ
وَ قَطَعَهُمُ الْإِيقَانُ بِهِ إِلَى الْوَلَهِ إِلَيْهِ
وَ لَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ
قَدْ ذَاقُوا حَلَاوَةَ مَعْرِفَتِهِ
وَ شَرِبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ
وَ تَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاءِ
قُلُوبِهِمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ
فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ
وَ لَمْ يُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ
وَ لَا أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ
وَ لَمْ يَتَوَلَّهُمُ الْإِعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ
وَ لَا تَرَكَتْ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ الْإِجْلَالِ نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهِمْ
وَ لَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَى طُولِ دُءُوبِهِمْ
وَ لَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ
وَ لَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسَلَاتُ أَلْسِنَتِهِمْ
وَ لَا مَلَكَتْهُمُ الْأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ
وَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ الطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ
وَ لَمْ يَثْنُوا إِلَى رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ.
وَ لَا تَعْدُو عَلَى عَزِيمَةِ جِدِّهِمْ بَلَادَةُ الْغَفَلَاتِ
وَ لَا تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ
قَدِاتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ
وَ يَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهِمْ
لَا يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ
وَ لَا يَرْجِعُ بِهِمُ الِاسْتِهْتَارُ بِلُزُومِ طَاعَتِهِ
إِلَّا إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَ مَخَافَتِهِ
لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ
فَيَنُوا فِي جِدِّهِمْ
وَ لَمْ تَأْسِرْهُمُ الْأَطْمَاعُ فَيُؤْثِرُوا وَشِيكَ السَّعْيِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ
لَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ
وَ لَوِ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ
وَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاسْتِحْوَاذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ
وَ لَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ
وَ لَا تَوَلَّاهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ
وَ لَا تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرِّيَبِ
وَ لَا اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ الْهِمَمِ
فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَانٍ
لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيْغٌ وَ لَا عُدُولٌ وَ لَا وَنًى وَ لَا فُتُورٌ
وَ لَيْسَ فِي أَطْبَاقِ السَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلَّا وَ عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ
أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ
يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً
وَ تَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً
و منها في صفة الأرض و دحوها على الماء
كَبَسَ الْأَرْضَ عَلَى مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ
وَ لُجَجِ بِحَارٍ زَاخِرَةٍ
تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِهَا
وَ تَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِهَا
وَ تَرْغُو زَبَداً كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا
فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلَاطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا
وَ سَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِكَلْكَلِهَا
وَ ذَلَّ مُسْتَخْذِياً
إِذْ تَمَعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا
فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ
سَاجِياً مَقْهُوراً
وَ فِي حَكَمَةِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً
وَ سَكَنَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ
وَ رَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ وَ اعْتِلَائِهِ
وَ شُمُوخِ أَنْفِهِ وَ سُمُوِّ غُلَوَائِهِ
وَ كَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ جَرْيَتِهِ
فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ
وَ لَبَدَ بَعْدَ زَيَفَانِ وَثَبَاتِهِ
فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا
وَ حَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَى أَكْتَافِهَا
فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أُنُوفِهَا
وَ فَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ بِيدِهَا وَ أَخَادِيدِهَا
وَ عَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسِيَاتِ مِنْ جَلَامِيدِهَا
وَ ذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ مِنْ صَيَاخِيدِهَا
فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِي قِطَعِ أَدِيمِهَا وَ تَغَلْغُلِهَا
مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا
وَ رُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الْأَرَضِينَ وَ جَرَاثِيمِهَا
وَ فَسَحَ بَيْنَ الْجَوِّ وَ بَيْنَهَا
وَ أَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا
وَ أَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِهَا
ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ الْأَرْضِ الَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا
وَ لَا تَجِدُ جَدَاوِلُ الْأَنْهَارِ ذَرِيعَةً إِلَى بُلُوغِهَا
حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْيِي مَوَاتَهَا
وَ تَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا
أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمَعِهِ
وَ تَبَايُنِ قَزَعِهِ
حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّةُالْمُزْنِ فِيهِ
وَ الْتَمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِهِ
وَ لَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِهِ
وَ مُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ
أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً
قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ
تَمْرِيهِ الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ
وَ دُفَعَ شَآبِيبِهِ.
فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحَابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا
وَ بَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهَا
أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الْأَرْضِ النَّبَاتَ
وَ مِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الْأَعْشَابَ
فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا
وَ تَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ أَزَاهِيرِهَا
وَ حِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا
وَ جَعَلَ ذَلِكَ بَلَاغاً لِلْأَنَامِ
وَ رِزْقاً لِلْأَنْعَامِ
وَ خَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا
وَ أَقَامَ الْمَنَارَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا
فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ
وَ أَنْفَذَ أَمْرَهُ
اخْتَارَ آدَمَ ( عليه السلام )خِيرَةً مِنْ خَلْقِهِ
وَ جَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ
وَ أَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ
وَ أَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ
وَ أَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ
وَ أَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ لِمَعْصِيَتِهِ
وَ الْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ
فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ
مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ
فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ
وَ لِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ
وَ لَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ
مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ
وَ يَصِلُ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ
بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ
وَ مُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالَاتِهِ
قَرْناً فَقَرْناً
حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه وسلم )حُجَّتُهُ
وَ بَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَ نُذُرُهُ
وَ قَدَّرَ الْأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَ قَلَّلَهَا
وَ قَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ وَ السَّعَةِ فَعَدَلَ فِيهَا
لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَ مَعْسُورِهَا
وَ لِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ وَ الصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَ فَقِيرِهَا
ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا
وَ بِسَلَامَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا
وَ بِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا
وَ خَلَقَ الْآجَالَ فَأَطَالَهَا وَ قَصَّرَهَا
وَ قَدَّمَهَا وَ أَخَّرَهَا
وَ وَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا
وَ جَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشْطَانِهَا
وَ قَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا
عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ
وَ نَجْوَى الْمُتَخَافِتِينَ
وَ خَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ
وَ عُقَدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ
وَ مَسَارِقِ إِيمَاضِ الْجُفُونِ
وَ مَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ
وَ غَيَابَاتُ الْغُيُوبِ
وَ مَا أَصْغَتْ لِاسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الْأَسْمَاعِ
وَ مَصَايِفُ الذَّرِّ
وَ مَشَاتِي الْهَوَامِّ
وَ رَجْعِ الْحَنِينِ مِنَ الْمُولَهَاتِ
وَ هَمْسِ الْأَقْدَامِ
وَ مُنْفَسَحِ الثَّمَرَةِ مِنْ وَلَائِجِ غُلُفِ الْأَكْمَامِ
وَ مُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ مِنْ غِيرَانِ الْجِبَالِ وَ أَوْدِيَتِهَا
وَ مُخْتَبَإِ الْبَعُوضِ بَيْنَ سُوقِ الْأَشْجَارِ وَ أَلْحِيَتِهَا
وَ مَغْرِزِ الْأَوْرَاقِ مِنَ الْأَفْنَانِ
وَ مَحَطِّ الْأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلَابِ
وَ نَاشِئَةِ الْغُيُومِ وَ مُتَلَاحِمِهَا
وَ دُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِي مُتَرَاكِمِهَا
وَ مَا تَسْفِي الْأَعَاصِيرُ بِذُيُولِهَا
وَ تَعْفُو الْأَمْطَارُ بِسُيُولِهَا
وَ عَوْمِ بَنَاتِ الْأَرْضِ فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ
وَ مُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ بِذُرَا شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ
وَ تَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِيرِ الْأَوْكَارِ
وَ مَا أَوْعَبَتْهُ الْأَصْدَافُ
وَ حَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ
وَ مَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْلٍ
أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَارٍ
وَ مَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ
وَ سُبُحَاتُ النُّورِ
وَ أَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ
وَ حِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ
وَ رَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ
وَ تَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ
وَ مُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَةٍ
وَ مِثْقَالِ كُلِّ ذَرَّةٍ وَ هَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ
وَ مَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ
أَوْ سَاقِطِ وَرَقَةٍ
أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ
أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ وَ مُضْغَةٍ
أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَ سُلَالَةٍ
لَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ
وَ لَا اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ
وَ لَا اعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ وَ تَدَابِيرِ الْمَخْلُوقِينَ مَلَالَةٌ وَ لَا فَتْرَةٌ
بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ
وَ أَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ
وَ وَسِعَهُمْ عَدْلُهُ
وَ غَمَرَهُمْ فَضْلُهُ
مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ
دعاء
اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ
وَ التَّعْدَادِ الْكَثِيرِ
إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ
وَ إِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ
اللَّهُمَّ وَ قَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ
وَ لَا أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ
وَ لَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ
وَ عَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الْآدَمِيِّينَ وَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ
اللَّهُمَّ وَ لِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ
أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ
وَ قَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَ كُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ
اللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ
وَ لَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَ الْمَمَادِحِ غَيْرَكَ
وَ بِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لَا يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُكَ
وَ لَا يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلَّا مَنُّكَ وَ جُودُكَ
فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ
وَ أَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ
إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج6
الفصل الثالث
منها قدّر ما خلق فأحكم تقديره، و دبّره فألطف تدبيره، و وجّهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته، و لم يقصر دون الانتهاء إلى غايته، و لم يستصعب إذ أمر بالمضيّ على إرادته، و كيف و إنّما صدرت الامور عن مشيّة المنشيء أصناف الأشياء بلا رويّة فكر آل إليها، و لا قريحة غريزة أضمر عليها، و لا تجربة أفادها من حوادث الدّهور، و لا شريك أعانه على ابتداع عجائب الامور، فتمّ خلقه و أذعن لطاعته، و أجاب إلى دعوته، و لم يعترض دونه ريث المبطى، و لا أناة المتلكِّي، فأقام من الأشياء أودها، و نهج حدودها، و لائم بقدرته بين متضادّها، و وصل أسباب قرائنها، و فرّقها أجناسا مختلفات، في الحدود و الأقدار و الغرائز و الهيئات، بدايا (برايا خ ل) خلايق أحكم صنعها، و فطرها على ما أراد و ابتدعها.
اللغة
(التدبير) في الامور النّظر إلى ما يؤل إليه عاقبتها و (وجهة) الشيء بالكسر جهة الشّيء يتوجّه اليها قال تعالى: وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها.
و (قصر) السهم عن الهدف إذا لم يبلغه و قصرت عن الشيء أى عجزت عنه و (دون) الشّيء أى قريبا منه و قبل الوصول إليه و (آل) إليه رجع و (الغريزة) الطبيعة و (قريحة الغريزة) ما يستنبطه الذّهن.
قال الجوهريّ: القريحة أوّل ما يستنبط من البئر و منه قولهم: لفلان قريحة جيّدة يراد استنباط العلم بجودة الطبع و (أضمر عليها) أى بلغ الغاية و استقصى عليها من الاضمار بمعنى الاستقصاء، و قيل: من الاضمار بمعنى الاخفاء و ليس بشيء لتعدّيه بنفسه يقال أضمره و أخفاه و لا يقال: أخفى و أضمر عليه و (الافادة) الاستفادة و (اعترض) الشيء دون الشيء حال، و اعترض صار كالخشبة المعترضة في النهر و (الريث) الابطاء و (الاناة) كقتاة: الحلم و الوقار مأخوذ من تأنّي في الأمر أى تثبّت و (تلكّاء) عليه اعتلّ و عنه أبطأ و (الاود) محركة الاعوجاج و (قرائنها) جمع القرينة و هي الأنفس و يحتمل أن يراد بها مقارنات الأشياء كما تطلع عليه.
قال الشّارح المعتزلي: و (بدايا) ههنا جمع بدية و هي الحالة العجيبة بدأ الرّجل إذا جاء بالأمر البدىء أى المعجب و البدية أيضا الحالة المبتكرة المبتدئة و منه قولهم فعله بادى بديء على وزن فعل أي أوّل كلّ شيء.
الاعراب
قوله: و كيف استفهام على سبيل الانكار و إنما صدرت جملة حالية و العامل محذوف أى كيف يستصعب و إنّما صدرت الامور، و جملة لم يعترض حال أيضا من فاعل المصدر أعني دعوته، قوله: أجناسا حال من مفعول فرّق أو منصوب بنزع الخافض أي فرّقها بأجناس أو على أجناس مختلفة، و قوله: بدايا خلايق خبر لمبتدأ محذوف أى هي بدايا خلايق، و اضافة بدايا إلى خلايق من باب اضافة الصّفة إلى موصوفها، قال الشّارح المعتزلي: و يجوز أن لا يكون بدايا إضافة إليها بل يكون بدلا من اجناسا.
أقول: فعلى هذا الاحتمال تكون بدايا صفة ثانية لأجناسا و ما ذكرناه أظهر فتدبّر.
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة متضمن لتنزيه اللَّه سبحانه في كيفية ايجاده للأشياء و خلقه لها عن صفات المصنوعين، و فيه تنبيه على كون المخلوقين مذلّين لانقياد حكمه، مطيعين لأمره، ماضين على ارادته، غير متمرّدين عن طاعته كما قال عليه السّلام: (قدّر ما خلق فأحكم تقديره) يعني أنّ كلّ مخلوق قدّره في الوجود فعلى وفق حكمته بحيث لو زاد على ذلك المقدار أو نقص منه لاختلّت مصلحة ذلك المقدّر و تغيّرت جهة المنفعة فيه (و دبّره فألطف تدبيره) يعني أنّه أوجد الأشياء على وفق المصلحة و نظام الخير فتصرّف فيها تصرّفات كلّية و جزئيّة من غير شعور غيره ذلك.
(و وجّهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته و لم يقصر دون الانتهاء إلى غايته) أراد أنّه سبحانه وجّه كلّ ما خلق إلى الجهة التي وجّهه إليها، و ألهم كلّا و يسّره لما خلق له، كالسحاب للمطر و الحمار للحمل و النّحل للشمع و العسل و هكذا فلم يتجاوز شيء منها مرسوم تلك المنزلة المحدودة له المعيّنة في حقّه، و لم يقصر دون الانتهاء إلى الغاية التي كتبت له في اللّوح المحفوظ و إلّا لزم التّغيّر في علمه و عدم النفاذ في أمره و هما محالان.
(و لم يستصعب إذ أمر بالمضيّ على إرادته) أى لم يستصعب أحد من المخلوق التّوجّه إلى الجهة التي وجّهه إليها، و لم يمكنه التّخلّف من المضيّ اليها على وفق إرادته و حكمته بعد أمره له بذلك أمر تكوين لا تشريع.
(و كيف) يستصعب و يتخلّف (و إنّما صدرت الامور عن مشيّة المنشي أصناف الأشياء) يعني أنّ جميع الآثار مستند إلى مشيّة إذ كلّ أثر فهو واجب عن مؤثّره و الكلّ منته في سلسلة الحاجة إلى إرادته فهو واجب عنها.
و يدلّ عليه ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اذينة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة.
و سيأتي تحقيق الكلام في ذلك بعد الفراغ من شرح الفصل، هذا و قوله عليه السّلام (بلا رويّة فكر آل إليها و لا قريحة غريزة أضمر عليها و لا تجربة أفادها من حوادث الدّهور و لا شريك أعانه على ابتداع عجائب الامور) إشارة إلى تنزّهه في ايجاد المخلوقات عن الافتقار إلى هذه الامور، و أنّ ذاته بذاته مصدر جميع الامور و أنّ خلقه سبحانه لها غير موقوف على شيء منها.
أمّا رويّة الفكر فلأنها عبارة عن حركة القوّة المفكّرة في تحصيل المطالب من المبادي و انتقالها منها إليها و هي محال على اللَّه سبحانه: «أمّا أوّلا» فلكون القوّة المفكّرة من خواصّ نوع الانسان «و أمّا ثانيا» فلأنّ فايدتها تحصيل المطالب المجهولة من المعلومات و الجهل محال في حقه تعالى و أمّا قريحة الغريزة فلانّها على ما عرفت عبارة عن استنباط العلم بجودة الذهن، و استحالته على اللَّه واضحة إذ العلم عين ذاته و هو تعالى غير فاقد له حتّى يكون محتاجا إلى التّعمق و الاستنباط و النظر في موارده و مصادره و الاستقصاء عليه و بلوغ الغاية فيه و أمّا التجربة فلأنّها عبارة عن حكم العقل بأمر على أمر بواسطة مشاهدات متكرّرة معدّة لليقين بسبب انضمام قياس خفيّ إليها، و هو أنّه لو كان هذا الأمر اتفاقيّا لما كان دائما أو أكثريّا و استحالتها على اللَّه من وجهين: أحدهما أنّها، مركبة من مقتضى الحسّ و العقل، و ذلك أنّ الحسّ يشاهد وقوع الاسهال مثلا عقيب شرب الدّواء مرّة بعد مرّة فينتزع العقل من تلك المشاهدة حكما كلّيا بأنّ ذلك الدّواء مسهل و معلوم أنّ اجتماع الحسّ و العقل من خصايص نوع الانسان و ثانيهما أنّ التّجربة إنما تفيد علما لم يكن قبل فالمحتاج إلى التجربة لاستفادة العلم بها ناقص بذاته مستكمل بها و المستكمل بالغير محتاج إليه فيكون ممكنا و أمّا الشريك المعين فلانتفاء الشريك أوّلا كما مرّ في شرح الفصل الرابع من فصول الخطبة الاولى، و لانتفاء مبدء الاستعانة ثانيا لأنّ مبدئها هو العجز من الفعل و العجز عبارة عن تناهي القوّة و القدرة، و قدس الحقّ منزّه عن ذلك.
فقد وضح و اتّضح بذلك كلّ الوضوح أنّ اللَّه سبحانه غير محتاج في ابداع الخلايق و ايجادها إلى الفكر و الرّوية، و لا قريحة الطّبيعة و لا تجربة و لا مشاركة و إنّما مستند الايجاد نفس الارادة و المشيّة و أنّه سبحانه إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
(فتمّ خلقه) بمشيّته (و أذعن) الكلّ (لطاعته) بمقتضا امكانه و حاجته (و أجاب) الجميع (إلى دعوته) حيث دعاهم إلى بساط الوجود بمقتضا عموم الافاضة و الجود (و) الحال انّه (لم يعترض دونه ريث المبطئ و لا أناة المتلكّى) أى لم يحل دون نفاذ أمره إبطاء المبطئ و لا تثبّت المتوقّف المعتلّ بل انقاد له جميع الأشياء و أسرعوا إلى أمره عند الدّعاء من غير تعلّل و لا إبطاء لكون الكلّ مقهورا تحت قدرته أذلّة تحت عزّته كما قال عزّ من قائل: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
يعنى أنّه إذا أراد فعله و خلقه يقول له ذلك بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همة و لا تفكّر، فقوله كن اشارة إلى هبة ما ينبغي لذلك المأمور و بذل ما يعدّه لاجابة أمره بالكون في الوجود، و قوله: فيكون إشارة إلى وجوده، و الفاء المقتضية للتعقيب بلا مهلة دليل على اللّزوم و عدم التأخّر، هذا.
و يحتمل أن يكون المراد بنفي اعتراض الرّيث و الاناة نفي اعتراضهما بالنّظر إلى ذاته من حيث فاعليته، فيكون المقصود بذلك تنزيهه من أن يعرض له شيء من هذه الكيفيّات كما يعزض على أحدنا إذا أردنا فعل شيء من حيث قصور قدرتنا و ضعف قوّتنا (فأقام من الأشياء أودها) و اعوجاجها، و إقامتها كناية عن اعداده ما ينبغي لها و إفاضته الكمال بالنسبة إليها (و نهج حدودها) و غاياتها أراد به ايضاحه لكلّ شيء وجهته و تيسيرها له (و لائم بقدرته بين متضادّها) كما جمع بين العناصر الأربعة على تضادّ كيفيّتها في مزاج واحد (و وصل أسباب قرائنها) و نفوسها بتعديل أمزجتها لأنّ اعتدال المزاج سبب بقائها.
قال الشارح البحراني: و يحتمل أن يكون معنى الوصول لأسبابها هدايتها إلى عبادته و ما هو الأولى بها في معاشها و معادها و سوقها إلى ذلك، إذ المفهوم من قول القائل: وصل الملك أسباب فلان إذا علّقه عليه و وصله إلى برّه و انعامه، هذا إن جعلنا القراين بمعنى الأنفس و إن كانت بمعنى مقارنات الشيء فهو إشارة إلى أنّ الموجودات لا تنفكّ عن أشياء يقترن بها من هيئة أو شكل أو غريزة و نحوها، و اقتران الشيئين لا محالة مستلزم لاقتران أسبابهما، لاستحالة قيام الموجود بدون أسبابه، و ذلك الاقتران و الاتّصال مستند إلى كمال قدرته إذ هو مسبب الأسباب.
(و فرّقها أجناسا مختلفات في الحدود و الاقدار و الغرايز و الهيئات) أى جعلها أقساما مختلفة النهايات و المقادير متفاوتة الطبايع و الصفات، فجعل بعضها طويلا و بعضها قصيرا و بعضها صغيرا و بعضها كبيرا، و جعل سجيّة بعضها شجاعا و بعضها جبانا و بعضها شحيحة و بعضها كريمة و هيئة بعضها حسنة و بعضها قبيحة و هكذا، هذا ان كان الحدود في كلامه عليه السّلام بمعنى النهايات قال الشارح البحرانيّ: و إن حملنا الحدود على ما هو المتعارف كان حسنا،فانّ حكمة الخالق سبحانه اقتضت تميّز بعض الموجودات عن بعض بحدودها و حقايقها، و بعضها بأشكالها و هيئاتها و مقاديرها و غرائزها و اخلاقها كما يقتضيه نظام الوجود و أحكام الصّنع و حكم الارادة الالهيّة.
(بدايا خلايق أحكم صنعها و فطرها على ما أراد و ابتدعها) أى هي مخلوقات عجيبة أو مبتكرة غير محتذى بها حذو خالق سابق، جعل صنعها محكما متقنا، و أوجدها على وفق ارادته و أبدعها من العدم المحض إلى الوجود من دون أن تكون لها مادّة أصلا لها كما زعمت الفلاسفة من أنّ الأجسام لها أصل أزلىّ هي المادّة فهو المخترع للممكنات بما فيها من المقادير و الأشكال و الهيآت، و المبتدع للموجودات بمالها من الحدود و الغايات و النّهايات بمحض القدرة على وفق الارادة و مقتضى الحكمة.
تنبيه
اعلم أنّه لما جرى في هذا الفصل ذكر حديث صدور الأشياء عن مشيّته سبحانه أحببت تنقيح ذلك المرام و عزمت على تحقيق الكلام في هذا المقام لكونه من مزالّ الأقدام.
فأقول: و باللّه التكلان و هو المستعان إنّ الكلام في هذا الباب يقع في مقامات ثلاثة.
المقام الاول
في معنى المشيّة، و قد فسّرها أهل اللغة بالارادة قال في القاموس: شئته إشائه شيئا و مشيئة و مشائة و مشائية أرادته، و في مجمع البحرين: و المشيّة الارادة من شاء زيد يشاء من باب قال أراد، و في المصباح شاء زيد الأمر يشائه شيئا من باب قال أراده، و المشيئة اسم منه بالهمز، و الادغام غير سايغ إلّا على قياس من يحمل الأصلى على الزّايد لكنّه غير منقول و نحوها في ساير كتب اللغة.
و أما في الأخبار و أحاديث أئمّتنا الأبرار الأخيار فتارة اطلقتا على معنى واحد مثل ما رواه الطريحي عن الرّضا عليه السّلام ان الابداع و المشية و الارادة معناها واحد و الأسماء ثلاثة، و اخرى و هو الأكثر على معنيين مختلفين يجعل مرتبة المشية متقدّمة على مرتبة الارادة و كون نسبتها إليها نسبة القوّة إلى الضعف.
و يدلّ عليه ما رواه المحدّث المجلسيّ من المحاسن للبرقي قال: حدثني أبي عن يونس عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال: قلت: لا يكون إلّا ما شاء اللَّه و أراد و قضى فقال عليه السّلام: لا يكون إلّا ما شاء اللَّه و قدّر و قضى، قلت: فما معنى شاء قال: ابتداء الفعل، قلت: فما معنى أراد قال عليه السّلام: الثبوت عليه، قلت: فما معنى قدّر قال: تقدير الشيء من طوله و عرضه، قلت: فما معنى قضى قال عليه السّلام: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مردّ له.
و رواه في الكافي مسندا عن عليّ بن إبراهيم الهاشمي عن أبي الحسن موسى ابن جعفر عليهما السّلام نحوه إلّا أنّه ليس فيه قوله: قلت: فما معنى أراد قال الثبوت عليه، و لعلّه سقط من الكتاب و الظّاهر أنّ مراده منه هو ما ذكرنا كما فهمه شرّاح الحديث.
قال في مرآت العقول: قوله عليه السّلام: ابتداء الفعل أى أوّل الكتابة في اللّوح المحفوظ أو أوّل ما يحصل من جانب الفاعل و يصدر عنه ممّا يؤدّي إلى وجود المعلول و على ما في المحاسن يدلّ على أنّ الارادة تأكّد المشيّة و في اللَّه سبحانه تكون عبارة عن الكتابة في الألواح و تسبيب أسباب وجوده، و قوله: تقدير الشيء، أى تعيين خصوصيّاته في اللّوح أو تعيين بعض الأسباب المؤدّية إلى تعيين المعلول و تحديده و خصوصيّاته إذا قضى أمضاه، أى إذا أوجبه باستكمال شرايط وجوده و جميع ما يتوقّف عليه المعلول أوجده، و ذلك الذي لا مردّ له لاستحالة تخلّف المعلول عن الموجب التّام.
و قال الصّالح المازندراني في شرحه على أصول الكافي: لما كان قوله عليه السّلام: لا يكون شيء إلّا ما شاء اللَّه، دالّا بحسب الظاهر على أنّ المعاصي تقع بمشيّته تعالى و إرادته و هذا لا يستقيم على المذهب الحقّ، سأل السائل عن معنى المشيّة حتى يظهر له وجه الاستقامة، فأجاب عليه السّلام بأنّ المشيّة ابتداء الفعل و أوله، و لعلّ المراد بابتداء الفعل أنّ مشيّته تعالى أوّل فعل من الأفعال، و كلّ فعل غيرها يتوقّف عليها و يصدر بعدها كما يدلّ عليه ما عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة، يعني خلق أفعاله بها و كذا خلق أفعال عباده لكن بتوسط مشيّة جازمة صادرة منهم، فاذا سلسلة جميع الأفعال منتهية إلى مشيّته تعالى، و المراد به أنّ مشيّته أوّل المشيئات، و كلّ مشيّة سواها تابعة لها، كما أنّه تعالى هو الفاعل الأوّل و كلّ فاعل بعدها فاعل ثانوى يسند فعله إليه بلا واسطة، و إلى الفاعل الأوّل بواسطة، و هذا معنى مشيّته تعالى لأفعال العباد و معنى اسناد فعلهم إلى مشيّته.
و في محاسن البرقي بعد هذا السؤال و الجواب قلت: فما معنى أراد قال: الثبوت عليه، يعنى على ابتداء الفعل و من ههنا فسرّ بعضهم الارادة تارة بأنّها عزيمة على المشيّة، و تارة بأنها الاتمام لها، و تارة بأنّها الجدّ عليها.
و قال صدر المتألّهين: نسبة المشيّة إلى الارادة كنسبة الضعف إلى القوّة و نسبة الظنّ إلى الجزم، فانّك ربما تشاء أشياء و لا تريده، فظهر أنّ المشيّة ابتداء العزم على الفعل هذا.
و في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن أبيه و محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسين بن سعيد و محمّد بن خالد جميعا عن فضالة بن أيوب عن محمّد بن عمارة عن حريز بن عبد اللَّه و عبد اللَّه بن مسكان جميعا عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: لا يكون شيء في الأرض و لا في السّماء إلّا بهذه الخصال السّبع: بمشيّة، و إرادة، و قدر، و قضاء، و اذن، و كتاب، و أجل، فمن زعم أنّه يقدر على نقص واحدة فقد كفر.
قال في مرآت العقول: يمكن حمل الخصال السبع على اختلاف مراتب التقدير في الألواح السّماويّة، أو اختلاف مراتب تسبب الأسباب السّماويّة و الأرضيّة، أو يكون بعضها في الامور التكوينيّة و بعضها في الأحكام التكليفيّة، أو كلّها فيالامور التكوينيّة.
فالمشيّة و هي العزم و الارادة و هي تأكّدها في الأمور التكوينيّة ظاهرتان و أمّا في التكليفيّة فلعلّ عدم تعلّق الارادة الحتميّة بالترك عبّر عنه بارادة الفعل مجازا.
و الحاصل أنّ الارادة متعلّقة بالأشياء كلّها لكن تعلّقها بها على وجوه مختلفة إذ تعلّقها بأفعال نفسه بمعنى ايجادها و الرضا بها و الأمر بها، و بالمباحاة بمعنى الرّخصة بها، و بالمعاصي إرادة أن لا يمنع منها بالجبر لتحقّق الابتلاء و التكليف كما قال تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا.
أو يقال تعلّقها بأفعال العباد على سبيل التجوّز باعتبار ايجاد الآلة و القدرة عليها و عدم المنع منها فكانّه أرادها.
و بالقدر تقدير الموجودات طولا و عرضا و كيلا و وزنا و حدّا و وصفا و كمّا و كيفا، و بالقضاء الحكم عليها بالثواب و العقاب أو تسبيب أسبابه البعيدة كما مرّ و المراد بالاذن إما العلم أو الأمر في الطّاعات أو رفع الموانع، و بالكتاب الكتابة في الألواح السّماوية أو الفرض و الايجاب كما قال تعالى: كتب عليكم الصّيام، و كتب على نفسه الرّحمة، و بالأجل الأمد المعيّن و الوقت المقدّر عنده تعالى.
و في الكافي أيضا عن الحسين بن محمّد عن معلّى بن محمّد قال: سئل العالم عليه السّلام كيف علم اللَّه قال: علم و شاء و أراد و قدّر و قضى و أمضى، فأمضى ما قضى و قضى ما قدّر و قدّر ما أراد، فبعلمه كانت المشيّة، و بمشيّته كانت الارادة، و بارادته كان التقدير، و بتقديره كان القضاء، و بقضائه كان الامضاء الحديث.
قال صدر المتألّهين في شرحه: هذا السّائل سأله عليه السّلام عن كيفيّة علمه تعالى بالجزئيات الزّمانيّة و المكانيّة، فأجابه عليه السّلام عنها بما أفاده من المراتب السّتة المرتّب بعضها على بعض.
أوّلها العلم، لأنه المبدأ الأوّل لجميع الأفعال الاختياريّة، فانّ الفاعل المختار لا يصدر عنه فعل إلّا بعد القصد و الارادة، و لا يصدر عنه القصد و الارادة إلّا بعد تصوّر ما يدعوه إلى ذلك الميل و تلك الارادة و التّصديق به تصديقا جازما أو ظنا راجحا، فالعلم مبدء مبادى الأفعال الاختياريّة، و اعلم أنّ المراد بهذا العلم المقدّم على المشيّة و الارادة و ما بعدهما بحسب الاعتبار أو التحقّق هو العلم الأزلىّ الذاتي الالهيّ أو القضائي المحفوظ عن التغيّر، فينبعث منه ما بعده و أشار إليه بقوله: علم، أى علم دائما عن غير زوال و تبدّل.
و ثانيها المشيّة، و المراد بها مطلق الارادة سواء بلغت حدّ العزم و الاجماع أم لا، و قد ينفكّ المشيّة فينا عن الارادة الجازمة كما نشتاق أو نشتهى شيئا و لا نعزم على فعله لمانع عقليّ أو شرعيّ و إليها أشار بقوله: و شاء و ثالثها الارادة، و هي العزم على الفعل أو الترك بعد تصوّره و تصوّر غاية المترتبة عليه من خير أو نفع أو لذّة، لكنّ اللَّه برىء عن أن يفعل لأجل غرض يعود إلى ذاته و إليها الاشارة بقوله: أراد.
و رابعها التقدير، فانّ الفاعل لفعل جزئيّ من أفعال طبيعة واحدة مشتركة إذا عزم على تكوينه في الخارج كما إذا عزم الانسان على بناء بيت فلا بدّ قبل الشروع أن يعيّن مكانه الذي يبنى عليه، و زمانه الذي يشرع فيه، و مقداره الذي يكوّنه عليه من كبر أو صغر أو طول أو عرض، و شكله و وصفه و لونه و غير ذلك من صفاته و أحواله، و هذه كلّها داخلة في التقدير.
و خامسها القضاء، و المراد هنا ايجاب الفعل و اقتضاء الفعل من القوّة الفاعلة المباشرة، فانّ الشيء ما لم يجب لم يوجد، و هذه القوّة الموجبة بوقوع الفعل منّا هي القوّة التي تقوم في العضلة و العصب من العضو الذي توقع القوّة الفاعلة فيها قبضا و تشنّجا أو بسطا و إرخاء أوّلا فيتبعه حركة العضو فتتبعه صورة الفعل في الخارج من كتابة أو بناء أو غيرهما، و الفرق بين هذا الايجاب و بين وجود الفعل في العين كالفرق بين الميل الذي في المتحرّك و بين حركته، و قد ينفكّ الميل كما تحسّ يدك من الحجر المسكن باليد في الهواء، و معنى هذا الايجاب و الميل من القوّة المحرّكة أنه لو لا هناك اتفاق مانع أو دافع من خارج لوقعت الحركة ضرورة إذ لم يبق من جانب الفاعل شيء منتظر فقوله عليه السّلام: و قضى، إشارة إلى هذا الاقتضاء و الايجاب الذي ذكرنا أنه لا بدّ من تحقّقه قبل الفعل قبليّة بالذّات لا بالزّمان إلّا أن يدفعه دافع من خارج، و ليس المراد منه القضاء الأزلي لأنه نفس العلم، و مرتبة العلم قبل المشيّة و الارادة و التقدير.
و سادسها نفس الايجاد و هو أيضا متقدّم على وجود الشيء المقدّر في الخارج و لهذا يعدّه أهل العلم و التحقيق من المراتب السّابقة على الوجود الممكن في الخارج فيقال أوجب فوجب. فأوجد فوجد.
فان قلت: أليس الايجاد و الوجود و كذا الايجاب و الوجوب متضايفين و المتضايفان معان في الوجود قلت: المتضايفان و إن كانا من حيث مفهوميهما الاضافيّين و من حيث اتّصاف الذاتين بهما معا كما ذكرت، لكنّ المراد ههنا ليس حال المفهومين، فانّ كلّا من الموجد بالفعل أو المقتضى أو المحرّك قد يراد به المعنى الاضافي و المفهوم النّسبي و حكمه كما ذكرت من كون تحقّقه مع تحقّق ما اضيف إليه من حيث إنه اضيف إليه، و قد يراد به كون الشيء بحيث يكون وجوده مستتبعا لوجود شيء آخر و هذا الكون لا محالة متقدّم على كون شيء آخر هو تابعه و مقتضاه الموجود بسبب هذا الاقتضاء أو الايجاد.
كما في تحريك اليد بحركتها للمفتاح، تقول: تحرّك اليد فتحرّك المفتاح فانّ الفاء يدلّ على الترتيب و إن كانا معا في الزّمان و ربما يتقدّم المقتضي على المقتضي زمانا في عالم الاتفاقات إذا كان هناك مانع من خارج كما في المثال الذي ذكرناه و كما في اقتضاء الشمس لاضائة ما يحاذيها من وجه الأرض فحال بينهما حائل، فعدم استضاءة ذلك الموضع ليس لأجل فتور أو نقصان في جانب المقتضي، لأنّ حاله في الاقتضاء و الاضائة لم يتغيّر عما كان، و إنّما التخلّف في الاستضائة لأجل شيء من جانب القابل، فقوله عليه السّلام: فأمضى، اشارة إلى هذا الايجاد الذي بيّنا أنه قبل الوجود و الصدور.
المقام الثاني
في تحقيق أنّ المشية و الارادة من صفات الفعل لا من صفات الذات، و توضيح ذلك موقوف على رسم مقدّمة متضمنة لقاعدة كلّية بها يعرف الفرق بين صفات الذات و صفات الفعل، و قد أشار إليها ثقة الاسلام الكليني عطّر اللَّه مضجعه في الكافي أيضا و هي: أنّ الفرق بينهما من وجوه ثلاثة: الأوّل أنّ كلّ صفة وجودية لها مقابل وجوديّ فهي من صفات الفعل لا من صفات الذات، لأنّ صفاته الذاتية كلّها عين ذاته و ذاته مما لا ضدّ له، فكذلك كلّما هو عين ذاته، مثال ذلك أنّك تقول: إنّ اللَّه سبحانه رضي و سخط و أحبّ و أبغض و أحيى و أمات، و هكذا و لا يجوز أن تقول: علم و جهل و قدر و عجز و عزّ و ذلّ، فبذلك يعرف أنّ الحبّ و الاحياء و الرّضا من صفات الفعل لأنّ البغض و الاماتة و السّخط مقابلاتها ناقضات لها، فلو كانت من صفات الذّات لزم أن يكون مقابلاتها ناقضات للذّات الأحدية و هو محال، لأنّه لا ضدّ له كما لا ندّ له فاتصاف ذاته بصفتين ذاتيّتين متقابلتين محال.
الثّاني أنّ كلّ صفة صحّ تعلّق القدرة بها فهي من صفات الفعل و كلّما لا تصحّ تعلّقها بها فهي صفة الذات، و ذلك لأنّ القدرة صفة ذاتيّة تتعلّق بالممكنات لا غير، فلا تتعلّق بالواجب و لا بالممتنع، فكلّ ما هو صفة الذات فهو أزليّ غير مقدور و كلّما هو صفة الفعل فهو ممكن مقدور فيصح أن تقول: يقدر أن يخلق و أن لا يخلق و يقدر أن يميت و يحيى و أن يثيب و يعاقب و هكذا، و لا يصحّ أن تقول: يقدر أن يعلم و أن لا يعلم، لأنّ علمه بالأشياء ضروريّ واجب بالذّات، و عدم علمه بها محال ممتنع بالذات و مصحّح المقدوريّة هو الامكان، و مثله صفة الملك و العزّة و العظمة و الكبرياء و الجلال و الجمال و الجبروت و أمثالها.
الثّالث أنّ كلّ صفة صحّ تعلّق الارادة بها فهي صفة فعل، و ما لا يصحّ تعلّقها بها فهي صفة الذّات، و ذلك لأنّ الارادة من توابع القدرة إذ هي عبارة عن اختيار أحد طرفي المقدور و العزم عليه لأجل تحقّق الدّاعي، فما لا يكون مقدورا لا يكون مرادا، و أيضا الارادة صفة فعل حادثة و الحادث لا يؤثر في القديم.
إذا عرفت هذه المقدّمة الشريفة فأقول:
إنّ الارادة كما حقّقه صدر المتألّهين في شرح الكافي تطلق على معنيين:
أحدهما ما يفهمه الجمهور
و هو الذي ضدّه الكراهة، و هي التي قد تحصل فينا عقيب تصوّر الشيء الملايم و عقيب التردّد حتى يترجّح عندنا الأمر الداعي إلى الفعل أو الترك فيصدر أحدهما منا، و هذا المعنى فينا من الصفات النفسانية، و هى و الكراهة فينا كالشهوة و الغضب فينا، و هذا المعنى لا يجوز على اللَّه سبحانه، بل ارادته نفس صدور الأفعال الحسنة منه من جهة علمه بوجه الخير و كراهته عدم صدور الفعل القبيح من جهة علمه بقبحه.
كما قال المفيد (ره): إنّ الارادة من اللَّه جلّ اسمه نفس الفعل و من الخلق الضمير و أشباهه مما لا يجوز إلّا على ذوى الحاجة و النقص و ذلك لأنّ العقول شاهدة بأنّ القصد لا يكون إلّا بقلب كما لا تكون الشهوة و المحبّة إلّا لذي قلب و لا تصحّ النيّة و الضمير و العزم إلّا على ذيخاطر يضطرّ معه في الفعل الذى يقلب عليه إلى الارادة له و النّية فيه و العزم و لما كان اللَّه تعالى يجلّ عن الحاجات و يستحيل عليه الوصف بالجوارح و الأدوات و لا يجوز عليه الدّواعى و الخطرات، بطل أن يكون محتاجا في الأفعال إلى القصود و العزمات، و ثبت أنّ وصفها بالارادة مخالف في معناه لوصف العباد و أنها نفس فعله الأشياء و بذلك جاء الخبر عن أئمة الهدى.
ثمّ اورد رواية صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أخبرني عن الارادة من اللَّه و من الخلق قال: فقال عليه السّلام: الارادة من الخلق الضمير«» و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أما من اللَّه تعالى فارادته إحداثه لا غير ذلك، لأنّه تعالى لا يروّي و لا يتفكّر و لا يهمّ و هذه الصّفات منتفية عنه و هي صفات الخلق فارادة اللَّه تعالى الفعل يقول له كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همة و لا تفكر و لا كيف لذلك كما لا كيف له تعالى.
المعنى الثاني للارادة
كون ذاته سبحانه بحيث يصدر عنه الأشياء لأجل علمه بنظام الخير فيها التابع لعلمه بذاته، لا كاتباع الضؤ للمضيء و السخونة للمسخن، و لا كفعل الطبايع لا عن علم و شعور، و لا كفعل المجبورين و المسّخرين، و لا كفعل المختارين بقصد زايد أو ارادة ظنيّة يحتمل الطرف المقابل.
و قد تحقّقت أنّ قيّوم الكلّ إنّما يفعل الكلّ عن علم هو نفس ذاته العليم الذي هو أتمّ العلوم، فاذا هو سبحانه فاعل للأشياء كلّها بارادة ترجع إلى علمه بذاته المستتبع لعلمه بغيره المقتضى لوجود غيره في الخارج لا لغرض زايد و جلب منفعة أو طلب محمدة أو ثناء أو التخلّص من مذمّة، بل غاية فعله محبة ذاته فهذه الأشياء الصادرة عنه كلّها مرادة لأجل ذاته لأنها من توابع ذاته و علمه بذاته، فلو كنت تعشق شيئا لكان جميع ما يصدر عنه معشوقا لك لأجل ذلك الشّيء.
و إليه الاشارة بما ورد في الحديث الالهي عن نفسه: كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف.
و إذا ظهر لك ذلك اتّضح عندك أنّ الارادة بالمعنى الثاني لا غبار على كونها من صفات الذّات لكونها عبارة اخرى للعلم بالأصلح و النّظام الخير و العلم صفة ذات له سبحانه، و بالمعنى الأول هي صفة فعل و لذلك صحّ سلبها عنه سبحانه.
و يشهد به ما رواه في الكافي باسناده عن عاصم بن حميد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قلت: لم يزل اللَّه مريدا قال: إنّ المريد لا يكون إلّا المراد معه، لم يزل اللَّه عالما قادرا ثم أراد.
فانّه كما ترى يدلّ على كونها من الصّفات الاضافيّة المتجدّدة كخالقيّته تعالى و رازقيّته، و يشهد به أخبار اخر أيضا لا حاجة إلى إيرادها بعد وضوح المراد.
المقام الثالث
في تحقيق الحديث المعروف المرويّ في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اذينة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة.
و قد ذكروا في تأويله وجوها أشار إليها المحدّث العلّامة المجلسيّ طاب رمسه في مرآت العقول.
الأوّل أن لا يكون المراد بالمشيّة الارادة بل احدى مراتب التّقديرات التي اقتضت الحكمة جعلها من أسباب وجود الشّيء، كالتّقدير في اللّوح مثلا و الاثبات فيه، فانّ اللّوح و ما أثبت فيه لم يحصل بتقدير اخر فى لوح سوى ذلك اللّوح و إنما وجد ساير الأشياء بما قدّر في ذلك اللّوح و ربما يلوح هذا المعنى من بعض الأخبار، و على هذا المعنى يحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير.
الثّاني أن يكون خلق المشيّة بنفسها كناية عن كونها لازمة لذاته تعالى غير متوقّفه على تعلّق إرادة اخرى بها، فيكون نسبة الخلق إليها مجازا عن تحقّقها بنفسها منتزعة عن ذاته تعالى بلا توقّف على مشيّة اخرى، أو أنه كناية عن أنّه اقتضى علمه الكامل و حكمته الشّاملة كون جميع الأشياء حاصلة بالعلم بالأصلح، فالمعنى أنه لما اقتضى كمال ذاته أن لا يصدر عنه شيء إلّا على الوجه الأصلح و الأكمل فلذا لا يصدر شيء عنه تعالى إلّا بارادته المقتضية لذلك.
الثالث ما ذكره السيّد داماد قدّس اللَّه روحه و هو: أنّ المراد بالمشيّة هنا مشيّة العباد لأفعالهم الاختيارية، لتقدّسه تعالى عن مشيّة مخلوقة زايدة على ذاته عزّ و جلّ و بالأشياء أفاعيلهم المترتّب وجودها على تلك المشيّة، و بذلك تنحلّ شبهة ربما اوردت ههنا، و هي: أنه لو كانت أفعال العباد مسبوقة بارادتهم لكانت الارادة مسبوقة بارادة اخرى و تسلسلت الارادات لا إلى نهاية.
الرّابع ما ذكره بعض الأفاضل و هو: أنّ للمشيّة معنيين أحدهما متعلّق بالشّائى و هي صفة كمالية قديمية هي نفس ذاته سبحانه، و هي كون ذاته سبحانه بحيث يختار ما هو الخير و الصّلاح و الاخر يتعلّق بالمشيء و هو حادث بحدوث المخلوقات لا تتخلّف المخلوقات عنه، و هو ايجاده سبحانه إيّاها بحسب اختياره، و ليست صفة زايدة على ذاته عزّ و جلّ و على المخلوقات بل هي نسبة بينهما تحدث بحدوث المخلوقات لفرعيّتها على المنتسبين معا فنقول إنه لما كان ههنا مظنّة شبهة هي: أنه إن كان اللَّه عزّ و جلّ خلق الأشياء بالمشيّة فبم خلق المشيّة أبمشيّة اخرى فيلزم أن تكون قبل كلّ مشيّة مشيّة إلى ما لا نهاية له، فأفاد الامام عليه السّلام أنّ الأشياء مخلوقة بالمشيّة و أما المشيّة نفسها فلا يحتاج خلقها إلى مشيّة اخرى، بل هي مخلوقة بنفسها لأنها إضافة و نسبة بين الشائي و المشىء تتحصّل بوجوديهما العيني و العلمي، و لذا أضاف خلقها إلى اللَّه سبحانه لأنّ كلّ الوجودين له و فيه و منه، و في قوله: بنفسها، دون أن يقول بنفسه إشارة لطيفة إلى ذلك، نظير ذلك ما يقال: إنّ الأشياء إنما توجد بالوجود و أما الوجود نفسه فلا يفتقر على وجود آخر بل إنما يوجد بنفسه.
الخامس ما ذكره بعض المحقّقين بعد ما حقّق: أنّ إرادة اللَّه المتحقّقه المتجدّدة هي نفس أفعاله المتجدّدة الكائنة الفاسدة، فارادته لكلّ حادث بالمعنى الاضافي يرجع إلى ايجاده، و بمعنى المراديّة ترجع إلى وجوده.
قال: نحن إذا فعلنا شيئا بقدرتنا و اختيارنا فاردناه أوّلا ثمّ فعلناه بسبب الارادة فالارادة نشأت من أنفسنا بذاتها لا بارادة اخرى و إلّا لتسلسل الأمر لا إلى نهاية فالارادة مرادة لذاتها و الفعل مراد بالارادة، و كذا الشهوة في الحيوان مشتهاة لذاتها لذيذة بنفسها و ساير الأشياء مرغوبة بالشهوة.
فعلى هذا المثال حال مشيّة اللَّه المخلوقة و هي وجودات الأشياء، فانّ الوجود خير و مؤثر لذاته و مجعول بنفسه و الأشياء بالوجود موجودة و الوجود مشيء بالذات و الأشياء مشيئة بالوجود، و كما أنّ الوجود حقيقة واحدة متفاوتة بالشدّة و الضعف و الكمال و النقص، فكذا الخيرية و المشيئة، و ليس الخير المحض الذي لا يشوبه شرّ إلّا الوجود البحت الذى لا يمازجه عدم و نقص، و هو ذات الباري جلّ مجده فهو المراد الحقيقى إلى آخر ما حقّقه.
قال المحدّث المجلسيّ (ره) بعد ايراد هذه الوجوه: و الأوفق بأصولنا هو الوجه الأوّل.
أقول: بل ما سوى الوجه الأخير كلّها أوفق و إن كانت متفاوتة بالقرب و البعد، و إنما الوجه الأخير الذى مرجعه إلى القول بوحدة الوجود مخالف للأخبار و اصول الأئمة الأطهار سلام اللَّه عليهم ما تعاقب اللّيل و النّهار، و اللَّه العالم بحقايق صفاته و المتعالى عن مجانسة مخلوقاته.
الترجمة
بعضى ديگر از آن خطبه شريفه اينست كه فرموده: تقدير كرده خداوند تعالى هر چيزى را كه آفريده پس محكم گردانيده اندازه و تقدير آنرا و تدبير نموده هر چيزى را كه خلق فرموده، پس لطيف گردانيده تدبير آنرا و توجيه نموده هر شيء را بسوى جهت خود، پس تجاوز ننمود آن شيء از حدّ و سدّ مكان خود، و قاصر نشد نزد منتهى نشدن بغايت خود، و صعب و دشوار نشمرد آنچه كه ايجاد فرمود مضى بر وفق اراده او را وقتى كه مأمور شد باين، و چه طور ميباشد كه دشوار شمارد و حال آنكه جميع امور صادر شده از مشيّة قاهره خداوندى كه انشاء و ايجاد فرموده أصناف و احساس اشياء را بدون روية و فكرى كه رجوع نمايد بآن، و بدون استنباط طبيعتى كه اضمار نمايد و بغايت برسد در آن، و بدون تجربه كه استفاده نموده باشد آن را از حوادثات روزگار و بيشتر يك و معاونى كه اعانت و يارى نمايد او را بر ايجاد عجائب امورات.
پس تمام شد مخلوق او سبحانه و گردن نهاد بفرمانبردارى او، و اجابت نمود بسوى دعوت او در حالتى كه حايل نشد نزد نفاذ امر او دير كردن دير كننده، و نه توقف نمودن توقف نماينده، پس راست فرمود از اشياء كجى آنها را، و روشن نمود حدود آنها را، و الفت داد با قدرت خويش در ميان اضداد آنها، و متصل ساخت
اسباب نفوس آنها را، و متفرّق نمود آنها را بأقسام مختلفه گوناگون در نهايات و مقادير و در طبيعتها و هيئتها، عجايب مخلوقاتى كه محكم گردانيد صنعت آنها را و آفريد آنها را بر وجهى كه اراده كرده، و ابداع فرموده آنها را از كتم عدم با قدرت كامله و حكمت شامله.
و الفصل الرابع
منها في صفّة السّماء: و نظم بلا تعليق رهوات فرجها، و لاحم صدوع انفراجها، و وشّج بينها و بين أزواجها، و ذلّل للهابطين بأمره و الصّاعدين بأعمال خلقه حزونة معراجها، و ناديها بعد إذ هي دخان فالتحمت عرى أشراجها، و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها، و أقام رصدا من الشّهب الثّواقب على نقابها، و أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده، و أمرها أنْ ثقف مستسلمة لأمره، و جعل شمسها آية مبصرة لنهارها، و قمرها آية ممحوّة من ليلها، و أجريهما في مناقل مجريهما، و قدّر مسيرهما في مدارج درجهما، ليميّز بين اللّيل و النّهار بهما، و ليعلم عدد السّنين و الحساب بمقاديرهما، ثمّ علّق في جوّها فلكها، و ناط بها زينتها من خفيّات دراريّها، و مصابيح كواكبها، و رمى مسترق السّمع بثواقب شهبها، و أجريها على أذلال تسخيرها، من ثبات ثابتها، و مسير سائرها، و هبوطها و صعودها، و نحوسها و سعودها.
اللغة
(الرّهوات) جمع رهوة و هي المكان المرتفع و المنخفض أيضا يجتمع فيه ماء المطر، و هو من الأضداد، و عن النهاية تفسيرها بالمواضع المنفتحة، و هو مأخوذ من قولهم رها رجليه رهوا أى فتح و (الفرج) جمع الفرجة و هي المكان الخالي و (لاحم) الصق و (الصدع) الشقّ و (وشّج) بتشديد الشين فالجيم المعجمة شبّك و (ذلل) البعير جعله ذلولا و هو ضدّ الصّعب الذي لا ينقاد من الذلّ بالكسر و هو اللّين و (الحزونة) خلاف السّهولة و (المعراج) السّلّم و المصعد و (العروة) من الدّلو و الكوز المقبض و من الثوب اخت زرّه كالعرى و يكسر و (الأشراج) جمع الشّرج محرّكة كالأسباب و السّبب، و هي العروة للعيبة و قيل و قد تطلق الاشراج على حروف العيبة التي تخاط و هو الأنسب في المقام.
قال الشارح المعتزلي: و تسمّى مجرّة السّماء شرجا تشبيها بشرج العيبة و اشراج الوادي ما انفسح منه و انشقّ و (فتق) الثوب فتقا شقّه و نقض خياطته حتّى انفصل بعضه عن بعض و (الرتق) ضدّ الفتق و (صوامت) الأبواب مغلقاتها و (الرصد) جمع راصد كخدم و خادم او اسم جمع و يكون مصدرا كالرّصد بالفتح، و الرّاصد هو القاعد على الطريق منتظرا لغيره للاستلاب أو المنع، و المرصاد الطريق و المكان يرصد فيه العدوّ و ارصدت له اعددت.
و (النقاب) بالكسر جمع نقب كسهام و سهم و هو الثقب و الخرق و الطريق في الجبل و (المور) الموج و الاضطراب و الحركة قال تعالى: يوم تمور السّماء مورا و (الخرق) يكون بمعنى الثقب في الحائط و الشقّ فى الثوب و غيره، و هو في الأصل مصدر خرقته إذا قطعته و مزقته، يكون بمعنى القفر و الأرض الواسعة تتخرّق فيها الرّياح أى تهب و تشتدّ و (الهواء) يقال: للجسم الذي هو أحد العناصر و يقال: لكلّ خال قال سبحانه: و افئدتهم هواء، أى خالية من العقل أو الخير و (الأيد) القوّة و (المنقل) في الأصل الطريق في الجبل و (المدارج) جمع المدرج و هو المسلك و (درج) الصّبي دروجا و درجانا مشى و درجهما بالتّحريك الطريق،و في بعض النسخ درجيهما بصيغة التثنية، و في نسخة الشارح البحراني درجتهما بالتّاء الفوقانية.
و (الجوّ) الهواء و (النياط) التعليق و (الدّراري) الكواكب المضيئة جمع الدّرى بتثليث الدّال نسبت إلى الدّر لبياضها، و عن الفراء الكوكب الدّرى عند العرب عظيم المقدار، و قيل: هو أحد الكواكب الخمسة السيارة، و لا يخفى أنّ وصفه عليه السّلام الدّرارى بالخفيات ينافي القولين ظاهرا و (مسترق السمع) المستمع مختفيا، و في النسخ مسترقى السّمع بصيغة الجمع و (الأذلال) بفتح الالف و الذال المعجمة جمع الذلّ بالكسر يقال: امور اللَّه جارية أذلالها بالنصب و على اذلالها أى مجاريها و يقال: دعه على اذلاله أى حاله بلا واحد و جاء على اذلاله أى وجهه.
الاعراب
قوله عليه السّلام: و ناداها بعد إذ هي دخان، قال الشارح المعتزلي: روى باضافة بعد إلى إذ، و روى بضمّ بعد أى و ناداها بعد ذلك إذ هى دخان و الأوّل أحسن و أصوب، لأنّها على الضّم تكون دخانا بعد فتور رهوات فروجها و ملائمة صدوعها و الحال تقتضى أنّ دخانيّتها قبل ذلك لا بعده اه.
و قوله: و أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده الظرف الأوّل أعنى في خرق الهواء يجوز تعلّقه بأمسك و يجوز تعلّقه بتمور، و أما الثاني فهو متعلّق بالامساك لا غير، و من في قوله من ليلها إما لابتداء الغاية أو لبيان الجنس و تتعلّق بممحوّة أو بجعل، و قوله عليه السّلام ثمّ علّق في جوّها فلكها، الظاهر كون ثمّ هنا للترتيب الذكرى، و من خفيات دراريها إما متعلّق بناط أو بيان للزينة.
المعنى
اعلم أنه عليه السّلام لما ذكر في الفصل السّابق عظمة قدرة اللَّه سبحانه في الخلق و التقدير و اللّطف و التدبير و كمال حكمته في الفطر و الابداع و الايجاد و الاختراع على نحو الاجمال و الاطلاق، عقّبه بهذا الفصل المتضمّن لعجيب خلقة السماء و بديع ما أودعه فيها لدلالتها المخصوصة على عظمة بارئها، و شهادتها المحسوسة على قدرة صانعها و كفايتها للمستبصر و غنيتها للمستهدي، و قد مرّ في تذييلات الفصل الثامن من فصول الخطبة الاولى ما فيه كفاية لشرح هذا المقام و دراية لذوى الأفهام إلّا أنّا نعيد هنا بعض ما قدّمناه هناك و نزيد ههنا بعض ما لم نورده ثمة باقتضاء المقام و توضيحا لكلام الامام عليه السّلام فأقول: قال: (و نظم بلا تعليق رهوات فرجها) اى جمع و ألف أجزاء السماء المنفرجة المتصفة بالارتفاع و الانخفاض فسوّاها بقدرته الكاملة من غير أن يعلّق بعضها ببعض بخياطة و علاقة كما ينظم الانسان ثوبا بثوب أو نحوهما بالقيد و التعليق، و هو مناسب لما مرّ في شرح الخطبة الاولى من أنّ مادّتها الدّخان المرتفع من الماء إذ مثل ذلك يكون قطعا ذات فرج.
و أما ما في شرح البحراني من تأويل ذلك بتباين أجزاء المركّب لو لا التركيب و التأليف، أو بالفواصل التي كانت بين أطباق السماوات فخلقها اللَّه سبحانه اكرا متماسّة لا خلا بينها، فمبنىّ على قواعد الفلاسفة و تقليدهم (و لاحم صدوع انفراجها) هذا العطف بمنزلة التفسير و التّوكيد للجملة السابقة أى الصق أجزائها ذوات الصدوع بعضها ببعض و اضافة الصّدوع إلى الانفراج من اضافة الخاصّ إلى العامّ (و وشّج بينها و بين أزواجها) أي شبّك بينهما.
قال الشارح البحراني: أراد بأزواجها نفوسها التي هي الملائكة السّماوية بمعنى قرائنها و كلّ قرين زوج أى ربط ما بينها و بين نفوسها بقبول كلّ جرم سماويّ لنفسه التي لا يقبلها غيره.
و أورد عليه المحدّث العلامة المجلسىّ (ره) بأنّ القول بكون السّماوات حيوانات ذات نفوس مخالف للمشهور بين أهل الاسلام، بل نقل السيّد المرتضى رضى اللَّه عنه اجماع المسلمين على أنّ الأفلاك لا شعور لها و لا إرادة، بل هى أجسام جمادية يحرّكها خالقها.
ثمّ قال (ره): و يمكن أن يراد بالأزواج الملائكة الموكلون بها، أو القاطنون فيها، أو المراد أشباهها من الكواكب و الأفلاك الجزئية، و يمكن أن يكون المراد أشباهها في الجسمية و الامكان من الأرضيات و يناسب ما جرى على الألسن من تشبيه العلويات بالآباء و السّفليّات بالامهات (و ذلّل لها بطين بأمره و الصاعدين بأعمال خلقه حزونة معراجها) أى ذلّل للملائكة النّازلين بأمره التّكوينيّ و التشريعي و للكرام الكاتبين الصّاعدين بأعمال خلقه حزونة المعراج إلى السماء و قد تقدّم شرح حال الفرقة الاولى أعنى المدبّرات أمرا في شرح الفصل التاسع من فصول الخطبة الاولى و شرح حال الفرقة الثانية في شرح الفصل الأوّل من الخطبة الثانية و العشرين في المقام الثاني من تكملة ذلك الفصل، هذا.
و قال الشارح البحراني في شرح هذه الفقرة: قد سبقت الاشارة إلى أنّ الملائكة ليست أجساما كساير الحيوان، فاذن ليس هبوطها و صعودها الهبوط و الصعود المحسوسين، و إلّا لكان الباري جلّ قدسه عن أوهام المتوهّمين في جهة إليه يصعد و عنه ينزل، فاذن هو استعارة لفظ النزول من الجهة المحسوسة إلى أسفل للنزول المعقول من سماء جود الالهى إلى أراضى الموادّ القابلة للافاضات العالية، و بذلك المعنى يكون هبوط الملائكة عبارة عن ايصالها إلى كلّ ما دونها كماله متوسطة بينه و بين مبدعه و موجده و هم المرسلون من الملائكة بالوحى و غيره، و كذلك الصاعدون بأعمال الخلق هم الملائكة أيضا.
و أما معنى الصّعود بها فيعود إلى كونها منقوشة في ذوات الصّاعدين بها، و قد لاح فيما سبق أنّ علمه تعالي بمعلولاته البعيدة كالزمانيات و المعدومات التي من شأنها أن توجد في وقت و تتعلّق بزمان يكون بارتسام صورها المعقولة في تلك الألواح، و هو أيضا مستعار كلفظ الهبوط للمعنى الذى ذكرناه من أراضى النفوس إلى الألواح.
فامّا الانفراج الذى ذلل حزونته لهم و سهّل عليهم سلوكه فيعود إلى عدم حجبها و منعها لنفوذ علوم الملائكة بأعمال الخلايق و ما يجرى في هذا العالم، و كما أنّ الجسم المتصدّع لا يمنع نفوذ جسم آخر فيه من حيث هو متصدّع و الوصول إلى ما ورائه، كذلك السّماء لا تحجب علوم الملائكة أن تتعلّق بما في هذا العالم من الموجودات، فجرت مجرى المنفرج من الأجسام فاطلق عليه لفظ الانفراج و تذليله لحزونة ذلك الانفراج لهم هو كونها غير مانعة بوجه لجريان علوم الملائكة المقرّبين في هذا العالم.
أقول: و أنت خبير بما فيه، فانّ ما ذكره كلّه تأويل لا داعي إليه موجب لطرح ظواهر الآيات المتوافرة و نصوص الأخبار المتواترة المثبتة للهبوط و الصعود المحسوسين للملائكة، بعيد عن لسان الشريعة، و إنما دعاه إلى ذلك استيناسه بحكمة الفلاسفة المخالفة للكتاب و السّنة.
(و ناداها بعد إذ هي دخان فالتحمت عرى أشراجها) المراد بندائها حكمه و أمره التكويني النافذ فيها بالوجود و بالتحام عرى أشراجها تمام خلقها و فيضان الصور السماوية عليها، و ذلك باعتبار تركيبها و انضمام جزئها الصورى إلى جزئها المادّى كما يلتحم طرفا العيبة تبشريج عراها، و فيه تلميح إلى قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فقوله عليه السّلام: و ناداها إشارة إلى قوله: ائتيا طوعا أو كرها، و قوله عليه السّلام: بعد إذ هى دخان، موافق لقوله: و هي دخان، و قوله عليه السّلام: فالتحمت اه مساوق لقوله: فقضيهنّ الآية.
قال البيضاوى في تفسيرها: قصد نحو السماء و هي دخان أمر ظلماني، و لعلّه أراد به مادّتها و الاجزاء المتفرّقة التي ركبت منها، فقال لها و للأَرض ائتيا بما خلقت فيكما من التأثير و التأثّر و ابراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة و الكاينات المتنوّعة أو ائتيا في الوجود أو اتيان السماء حدوثها و إتيان الأرض أن تصير مدحوّة، طوعا أو كرها شئتما ذلك أو أبيتما، و المراد إظهار قدرته و وجوب وقوع مراده لا إثبات الطلوع و الكره لهما، قالتا أتينا طائعين منقادين بالذات و الأظهر أنّ المراد تصوير تأثير قدرته فيهما و تأثّرهما بالذات عنها و تمثيلها بأمر المطاع و إجابة المطيع الطائع كقوله: كن فيكون، فقضيهنّ سبع سموات خلقهنّ حلقا إبداعيّا و أتقن أمرهنّ.
و قال الطبرسي في مجمع البيان أى ثمّ قصد إلى خلق السماء و كانت السماء دخانا، و قال ابن عباس كانت بخار الأرض و أصل الاستواء الاستقامة، و القصد التدبير المستقيم تسوية له: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ قال ابن عباس أتت السماء بما فيها من الشمس و القمر و النجوم، و أتت الأرض بما فيها من الأنهار و الأشجار و الثمار و ليس هناك أمر بالقول على الحقيقة و لا جواب لذلك القول بل أخبر اللَّه سبحانه عن اختراعه السّماوات و الأرض و إنشائه لهما من غير تعذّر و لا كلفة و لا مشقّة بمنزلة ما يقال للمأمور افعل فيفعل من غير تلبّث و لا توقّف فعبّر عن ذلك بالأمر و الطاعة و هو كقوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
و إنما قال أتينا طائعين و لم يقل أتينا طائعتين لأنّ المعنى أتينا بمن فينا من العقلاء فغلب حكم العقلاء و قيل إنه لما خوطبن خطاب من يعقل جمعن جمع من يعقل كما قال: وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
(و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها) و هو إما كناية عن ايجاد الأبواب فيها و خرقها بعد ما كانت رتقا لا باب فيها، أو فتح الأبواب المخلوقة فيها حين ايجادها، و هذه الأبواب هي التي منها عروج الملائكة و هبوطها و صعود أعمال العباد و أدعيتهم و أرواحهم كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ أو التي تنزل منها الأمطار كما أشار إليه بقوله:
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ و يؤيّد الأخير ما رواه الطبرسيّ (ره) في تفسير قوله سبحانه: أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما عن أبي جعفر و أبي عبد اللَّه عليهما السّلام و عكرمة و عطية و ابن زيد أنّ السماء كانت رتقا لا تمطر و الأرض رتقا لا تنبت ففتقنا السماء بالمطر و الأرض بالنّبات، هذا.
و لا يخفى عليك أنه بعد دلالة كلام الامام عليه السّلام كغير واحد من الآيات و الأخبار على أنّ للسماء أبوابا لا يعبأ بما قاله الفلاسفة من استحالة الخرق و الالتيام على الفلك المبتنية على قواعدهم الفاسدة و عقولهم الكاسدة.
و لعلّ الشارح البحراني ألجأه التقليد بهم إلى تأويل كلامه عليه السّلام في هذا المقام بما لا ينافي اصولهم حيث قال: و افتتاق صوامت أبوابها بعد الارتتاق هو جعلها أسبابا لنزول رحمته و مدبرات تنزل بواسطة حركاتها على هذا العالم أنواع رحمة اللَّه فكانت حركاتها تشبه الأبواب إذ هى أبواب رحمته و مفاتيح جوده.
و مثله ما ذكره في شرح قوله عليه السّلام: (و أقام رصدا من الشهب الثواقب على نقابها) حيث قال إنه استعار لفظ النقاب لكونها بحيث لا يمنع تعلّق العلوم بما ورائها من الأجسام و المجرّدات، و أنت خبير بأنّ كلّ ذلك تكلّف لا داعي إليه و الأدلّة على امكان الخرق و وجود الأبواب فوق حدّ الاحصاء، و لعلّنا نشبع الكلام في ذلك في مقام مناسب، و المهمّ الآن شرح معنى كلامه عليه السّلام على مقتضى اسلوبنا و سليقتنا المفادة من الآيات و الأخبار فأقول: مراده عليه السّلام بنقابها طرائقها كما قال سبحانه: وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ فالمقصود بذلك إقامة الشّهب و إرصادها على المرصاد لطرد الشياطين عن استراق السّمع كما حكى اللَّه ذلك في سورة الجنّ بقوله: وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً.
قال الطبرسيُّ: ثمّ حكى اللَّه الجنّ و قولهم: وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ أى مسّنّاها، و قيل: طلبنا الصعود إلى السّماء فعبّر عن ذلك بالمسّ مجازا.
فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً أي حفظة من الملائكة شدادا وَ شُهُباً و التقدير ملئت السّماء من الحرس و الشهب و هو جمع شهاب و هو نور يمتدّ من السّماء كالنار.
وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أى لاستراق السّمع أى كان يتهيّأ لنا فيما قبل القعود في مواضع الاستماع فنسمع صوت الملائكة و كلامهم: فَمَنْ يَسْتَمِعِ» منّا «الْآنَ» ذلك «يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» يرمي به و يرصد له، و شهابا مفعول به و رصدا صفته قال معمّر: قلت للزّهرى أ كان يرمي بالنجوم في الجاهليّة قال: نعم قلت: أ فرأيت قوله: أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها الآية قال: غلّظ و شدّد أمرها حين بعث النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (و أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده) أى أمسكها بقدرته و قوّته من الحركة و الاضطراب في الهواء الذى هو أحد العناصر إذ لا دليل على انحصاره في الذي بين السماء و الأرض في المكان الخالى الموهوم أو الموجود طبعا أو قسرا، و المراد حركة أجزائها فيما بين السماء و الأرض و يؤيّده قوله سبحانه: وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ (و أمرها أن تقف مستسلمة لأمره) أى أمرها بالوقوف و القيام و أراد منها ذلك منقادة لارادته كما قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ قال الطبرسيّ: بلا دعامة تدعمهما و لا علاقة تتعلّق بهما بأمره لهما بالقيام كقوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ و قيل بأمره أى بفعله و إمساكه إلّا أنّ أفعال اللَّه عزّ اسمه مضاف إليه بلفظ الأمر لأنه أبلغ في الاقتدار فانّ قول القائل أراد فكان أو أمر فكان أبلغ في الدلالة على الاقتدار من أن يقول فعل فكان، و معنى القيام الثبات و الدّوام (و جعل شمسها آية مبصرة لنهارها، و قمرها آية ممحوّة من ليلها) هو مأخوذ من قوله سبحانه في سورة الاسرى: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا و فيه قولان: أحدهما أن يراد أنّ اللّيل و النهار آيتان في أنفسهما فتكون الاضافة في آية الليل و آية النهار للتّبيين كإضافة العدد إلى المعدود، أى فمحونا الآية التي هي اللّيل فكانت مظلمة و جعلنا الآية التي هي النهار مبصرة و الثاني أن يراد: و جعلنا آيتي اللّيل و النّهار أى نيّريهما آيتين، فيكون المراد بهما الشمس و القمر و ظاهر كلام الامام عليه السّلام ربما يشعر بهذا القول، و يدلّ على القولين قوله سبحانه:
وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أمّا كون الأوّلين آيتين فلأنّ كلّ واحد منهما مضاد للآخر معاند له، فكونهما متعاقبين على الدوام من أقوى الدّلائل على أنّهما غير موجودين بالذات بل لا بدّ لهما من فاعل يدبِّرهما و يقدّرهما بالمقادير المخصوصة، مضافا إلى أنّ مقتضى التّضادّ بين الشيئين أن يتفاسد الا أن يتعاونا على سبيل المصالح، و هما مع تضادّهما و تنافيهما متعاونان على تحصيل منافع الخلق و مصالحهم، فلو لا اللّيل لما حصل السكون و الراحة، و لو لا النهار لما أمكن الكسب و المعيشة، و لو لا الليل لفسدت الزراعات بالحرارة، و لو لا النّهار لفسدت بالبرودة، فهما من أقوى الآيات و أظهر البيّنات.
و أمّا كون الآخرين آيتين للصانع و دليلين على وجود القادر المختار فلأنّ الأجسام متماثلة فاختصاصهما بالحركة الدّائمة دون السّكون لا بدّ له من مخصّص، و أيضا انّ كلّ واحدة من تلك الحركات مختصّة بكيفيّة معيّنة من البطوء و السّرعة فلا بدّ له أيضا من مخصّص على أنّ تقدير تلك الحركات بمقادير مخصوصة على وجه تحصل عوداتها و دوراتها متساوية بحسب المدّة حالة عجيبة و صنعة بديعة لا بدّ لها من مدبّر مقدّر و مبدع مقتدر، هذا.
و أما المقصود بمحو آية اللّيل فلهم فيه قولان: أحدهما أنه هو ما يظهر في القمر من الزّيادة و النقصان في النور فيبدو في أوّل الأمر في صورة الهلال ثمّ لا يزال يتزايد نوره حتّى يصير بدرا كاملا، ثمّ يأخذ في الانتقاص قليلا قليلا و ذلك هو المحو إلى أن يعود إلى المحاق.
و الثاني أنه هو الكلف في وجه القمر و كونه مطموس النّور، فانه بعد ما كان مساويا للشمس في الضوء و النّور أرسل اللَّه جبرئيل فأمرّ جناحه على وجهه فطمس عنه الضوء، و معنى المحو في اللّغة إذهاب الأثر، و قد استظهرنا هذا القول في التذييل
السادس من تذييلات الفصل الثامن من فصول الخطبة الاولى ببعض الأخبار التي أوردناها هناك.
و ربما يستظهر القول الأوّل بقوله سبحانه: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ لأنّ المحو إنما يؤثّر في ابتغاء فضل اللَّه إذا حملناه على زيادة نور القمر و نقصانه، فانّ أهل التجارب تبيّنوا أنّ اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم و مصالحها، مثل أحوال البحار في المدّ و الجزر و مثل أحوال البحرانات على ما يذكره الأطباء في كتبهم و أيضا بسبب زيادة نور القمر و نقصانه تحصل الشهور و بسبب معاودة الشهور تحصل السنون العربية المبنيّة على رؤية الأهلّة.
و أمّا المراد بجعل آية النهار مبصرة ففيه أيضا قولان: أحدهما أنّ معنى كونها مبصرة كونها مضيئة نيّرة، قال الكسائي: العرب تقول: أبصر النّهار إذا أضاء أقول: و لعلّ ذلك من حيث إنّ الاضائة لما كان سببا للابصار فاطلق اسم الابصار على الاضائة إطلاقا لاسم المسبّب على السّبب.
و ثانيهما أنّ المبصرة التي أهلها بصراء فيها قال أبو عبيدة يقال: قد أبصر النّهار إذا صار النّاس يبصرون فيه، كقولهم رجل مخبت إذا كان أصحابه خبتاء و رجل مضعف إذا كان دوابه ضعفاء، هذا.
و بقى الكلام في إضافة اللّيل و النّهار إلى السماء في كلامه عليه السّلام، و وجهها أنّ استنادهما لما كان إلى حركة الفلك أضافهما إليها لتلك المناسبة (و أجراهما في مناقل مجريهما و قدّر سيرهما في مدارج درجيهما) أراد بالمناقل و المدارج منازل الشمس و القمر.
قال ابن عباس: للشمس مأئة و ثمانون منزلا كلّ يوم لها منزل و ذلك في ستّة أشهر ثمّ إنها تعود إلى واحد واحد منها في ستّة أشهر مرّة اخرى، و القمر له ثمانية و عشرون منزلا.
و تحقيق المقام أنهم قسّموا دور الفلك الذي يسير فيه الكواكب اثنا عشر قسما و سمّوا كلّ قسم برجا كما قال سبحانه: وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ و قال: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً قال الرازي البروج هي القصور العالية سمّيت بروج الكواكب لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكّانها، ثمّ إنّهم قسّموا كلّ برج ثلاثين قسما و سمّوا كلّ قسم درجة و سمّوا البروج بهذه الأسماء: الحمل، الثور، الجوزا، السرطان، الاسد: السنبلة، الميزان، العقرب، القوس، الجدى، الدلو، الحوت، و الشّمس تسير كلّ برج منها في شهر واحد، فتحصل تمام دورتها لتلك البروج في سنة كاملة و به تحصل السّنة و هي ثلاثمأة و خمسة و ستّون يوما و شيء تنزل كلّ يوم في منزل و ما قاله ابن عباس في كلامه الذي حكيناه لعلّه مبنىّ على ما هو الشّايع في ألسنة النّاس من تقدير السنّة بثلاثمأة و ستّين يوما و إن لم يكن مطابقا لشيء من حركتي الشّمس و القمر فتأمل، هذا و ما ذكرناه في سير الشمس انّما هو بحسب حركتها الذاتية، و أما حركتها بسبب حركة الفلك الأعظم فتتمّ في اليوم بليلته، و أمّا القمر فيسير كلّ برج في أزيد من يومين و نقص من ثلاثة أيّام و تمام دورتها في ثمانية و عشرين ليلة، و له في كلّ ليلة منزل.
فمنازله ثمانية و عشرون مسمّاة بتلك الأسماء: الشرطين، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرفة، الجبهة، الدبرة، الصرفة، العواء، السماك، الغفر، الزبانا، الاكليل، القلب، الشولة، النعايم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الاخبية، فرغ الدلو المقدم، فرغ الدلو المؤخر، الرشا، و هو بطن الحوت و إلى تلك المنازل اشير في قوله سبحانه:
وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ أى قدّرنا مسيره منازل أو سيره في منازل ينزل كلّ ليلة في واحدة منها، فاذا كان في آخر منازله دقّ و استقوس حتّى عاد كالعرجون أى كالشمراخ المعوج القديم العتيق.
قال نصير الملّة و الدّين (ره) في محكيّ كلامه من التذكرة: و أمّا منازل القمر فهي من الكواكب القريبة من منطقة البروج جعلها العرب علامات الاقسام الثمانية و العشرين التي قسّمت المنطقة بها لتكون مطابقة لعدد أيام دور القمر.
و قال الخفرى في شرحه: و المراد من المنزل المسافة التي يقطعها القمر في يوم بليلته، و منازل القمر عند الهند سبعة و عشرون يوما بليلة و ثلث، فحذفوا الثلث لكونه أقل من النّصف كما هو عادة أهل التنجيم.
و أما عند العرب فهي ثمانية و عشرون، لا لأنّهم تمّموا الثلث واحدا كما قال البعض، بل لأنّه لمّا كان سنوهم لكونها باعتبار الأهلّة مختلفة الأوائل بوقوعها في وسط الصّيف تارة و في وسط الشّتاء أخرى، احتاجوا إلى ضبط سنة الشّمس لمعرفة فصول السنة حتّى يشتغلوا في استقبال كلّ فصل منها بما يهمّهم، فنظروا إلى القمر فوجدوه يعود إلى وضع له من الشّمس في قريب من ثلاثين يوما و يختفى في هذا الشّهر ليلتين أو أكثر أو أقلّ فأسقطوا يومين من الثلاثين فبقى ثمانية و عشرون و هو الزّمان الواقع في الأغلب بين رؤيته في العشيّات في أوّل الشّهر و رؤيته بالغدوات في آخره، فقسّموا دور الفلك عليه، فكان كلّ منزل اثنتي عشرة درجة و احدى و خمسين دقيقة تقريبا أى ستّة أسباع درجة فتصيب كلّ برج منزلان و ثلث.
ثمّ وجدوا الشّمس تقطع كلّ منزل في ثلاثة عشر يوما في التقريب فسار المنازل في ثلاثمأة و أربعة و ستّين يوما، لكن عود الشمس إلى كلّ منزل إنّما يكون في ثلاثمأة و خمسة و ستّين يوما، فزادوا يوما في أيّام منازل غفر و قد يحتاج إلى زيادة للكبيسة حتّى تصير أيّامه خمسة عشر و يكون انقضاء أيّام السنة الشّمسية مع انقضاء أيّام المنازل و رجوع الأمر إلى منزل جعل مبدء.
ثمّ إنّهم جعلوا علامات المنازل من الكواكب الظاهرة القريبة من المنطقة مما يقارب ممرّ القمر أو يحاذيه، فيرى كلّ ليلة نازلا بقرب أحدها فان سترها يقال كفحه فكافحه أى واجهه فغلبه و لا يتفأل به و إن لم يستره يقال: عدل القمر و يتفأل به.
و قوله (ليميز بين اللّيل و النّهار بهما و ليعلم عدد السنين و الحساب بمقاديرهما) الظاهر كون التميز و العلم غايتين لمجموع الأفعال السابقة على حدّ قوله سبحانه في سورة الاسرى: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ و قوله في سورة يونس: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ و يحتمل كون التميز غاية للأوّل و العلم غاية للأخير أو الأخيرين فيكون نشرا على ترتيب اللّف، و معناه على ذلك أنّه تعالى جعل الشمس آية مبصرة و القمر آية ممحوّة ليحصل التميز بين الليل و النّهار بهما، و أجرى الشمس و القمر في منازلهما و قدّر سيرهما في مناقلهما ليحصل العلم بعدد السّنين و الحساب بمقادير سيرهما و تفاوت أحوالهما، هذا.
و المراد بالحساب حساب ما يحتاج إليه النّاس في امور دينهم و دنياهم ليتمكّنوا بذلك من إتيان الحجّ و الصّوم و الصّلوات في أوقاتها، و يعرفوا عدّة المطلقة و المتوفّى عنها زوجها، و مدّة حلول آجال الدّيون و انقضائها، و يرتّبوا معاشهم بالزراعة و الحراثة و الفلاحة في ساعاتها و يهيّئوا مهمّات الشّتاء و الصّيف و ضروريّات العيش في آنائها إلى غير هذه ممّا يحتاجون إليها في الدّنيا و الدّين إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (ثمّ علّق في جوّها فلكها) هذه العبارة من مشكلات كلامه عليه السّلام.
وجهة الاشكال فيها من ثلاثة وجوه: أحدها أنّه عليه السّلام قال في صدر هذا الفصل: و نظم بلا تعليق رهوات فرجها، فنفى التعليق في نظم الأجزاء ثمّة ينافي إثباته هنا و ثانيها أنّ الجوّ عبارة عن ما بين السّماء و الأرض من الهواء فما معنى تعليق الفلك فيه، ثمّ ما معنى الاضافة، و ثالثها أنّ المشهور أنّ الفلك هو السّماء و الاضافة في كلامه عليه السّلام يفيد التغاير و يرفع الاشكال عن الأوّل بحمل التّعليق المنفيّ فيما سبق على التعليق بالعلايق المحسوسة و التعليق المثبت هنا على التّعليق بالقدرة، و عن الثّاني بحمل الجوّ على الفضاء الواسع الموهوم أو الموجود الذي هو مكان الفلك و وجه اضافته إليها واضح، و عن الثّالث بجعل المراد بالفلك مدار النّجوم كما فسّره به في القاموس.
و قال الشّارح المعتزلي: أراد به دائرة معدّل النهار، و قيل: المراد به سماء الدّنيا، و هو مبنيّ على كون النّجوم فيها على وفق قوله سبحانه إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ و على المشهور من عدم كون جميعها في السّماء الدّنيا فلعلّ الأظهر أن يراد بالفلك ما ارتكز فيه من السّماوات كوكب يتحرّك بحركته، قاله في البحار ثمّ قال: و يمكن على طريقة الاستخدام أو بدونه أن يراد بضمير السّماء الذي أحاط بجميع ما ارتكزت فيه الكواكب المدبّر لها فكون فلكها في جوّها ظاهر أو يراد بالسّماء الأفلاك الكلّية و بالفلك الأفلاك الجزئية الواقعة في جوفها (و ناط بها زينتها من خفيّات دراريها و مصابيح كواكبها) أى علّق بالسّماء ما يزيّنها من الكواكب الخفيّة الّتي هي كالدّر في الصّفاء و الضياء، و الكواكب التي هي بمنزلة المصباح يضيء و كونها زينة لها إمّا بضوئها أو باشتمالها على الأشكال المختلفة العجيبة (و رمى مسترق السّمع بثواقب شهبها) و فيه تلميح إلى قوله سبحانه إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ أى إلّا من حاول أخذ مسموع من السّماء في خفية فلحقه شعلة نار ظاهر لأهل الأرض بيّن لمن رآه، و إلى قوله سبحانه: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ قال الطبرسيُّ: و التقدير لا يتسمّعون إلى الملائكة إلّا من وثب الوثبة إلى قريب من السّماء فاختلس خلسة من الملائكة و استلب استلابا بسرعة فلحقه و أصابه نار مضيئة محرقة، و الثاقب النيّر المضيء.
فان قلت: تقدّم ذكر الشهب في قوله: و أقام رصدا من الشّهب الثواقب على نقابها فما وجه إعادتها قلنا: إنّه عليه السّلام ذكر سابقا أنه أقامها رصدا، و نبّه ههنا على أنّ إرصادها لرمى مسترق السّمع، روى عن ابن عباس أنه كان في الجاهليّة كهنة و مع كلّ واحد شيطان فكان يقعد من السّماء مقاعد للسّمع فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض فينزل و يخبر به الكاهن فيفشيه الكاهن إلى النّاس، فلما بعث اللَّه عيسى عليه السّلام منعوا من ثلاث سماوات، و لمّا بعث محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم منعوا من السّماوات كلّها و حرست السّمآء بالنّجوم و الشّهاب من معجزات نبيّنا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لأنّه لم ير قبل زمانه، و قيل: إنّ الشهاب يقتل الشياطين، و قيل لا يقتلهم.
قال الفخر الرّازي بعد ما عدّد جملة من منافع النجوم: و منها أنه تعالى جعلها رجوما للشياطين الذين يخرجون الناس من نور الايمان إلى ظلمة الكفر، يروي أنّ السّبب في ذلك أنّ الجنّ كانت تسمع بخبر السّماء، فلما بعث محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم حرست السماء و رصدت الشياطين فمن جاء منهم مسترقا للسّمع رمي بشهاب فأحرقه لئلّا ينزل به إلى الأرض فيلقيه إلى الناس فيخلط على النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أمره و يرتاب الناس بخبره، و هذا هو السّبب في انقضاض الشّهب، فهذا هو المراد من قوله تعالى و جعلناها رجوما للشّياطين.
و من الناس من طعن في هذا من وجوه: أحدها أنّ انقضاض الكواكب مذكورة في كتب قدماء الفلاسفة قالوا: إنّ الأرض إذا سخّنت بالشّمس ارتفع منها بخار يابس فاذا بلغ النار التي دون الفلك احترق بها فتلك الشعلة هي الشّهاب.
و ثانيها أنّ هؤلاء الجنّ كيف يجوز أن يشاهدوا واحدا و ألفا من جنسهم يسترقون السّمع فيحرقون ثمّ إنهم مع ذلك يعودون لمثل صفتهم فانّ العاقل إذا رأى الهلاك في شيء مرّة و مرارا امتنع أن يعود إليه من غير فائدة.
و ثالثها أنه يقال: في ثخن السّماء مسيرة خمسمائة عام فهؤلاء الجنّ إن نفذوا في جرم السّماء و خرقوا له فهذا باطل لأنّه تعالى نفى أن يكون فيها فطور على ما قال: فارجع البصر هل ترى من فطور، و إن كانوا لا ينفذون في جرم السّماء فكيف يمكنهم أن يسمعوا أسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم فلم لا يسمعون كلام الملائكة حالكونهم في الأرض.
و رابعها أنّ الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة إما لأنّهم طالعوها من اللّوح المحفوظ، أو لأنّهم يتلقّونها من وحى اللَّه تعالى إليهم، و على التّقديرين فلم لا يمسكوا عن ذكرها حتّى لا يتمكنّ الجنّ عن الوقوف عليها.
و خامسها أنّ الشّياطين مخلوقون من النّار و النار لا تحرق النّار بل تقويها فكيف يحتمل أن يقال: الشّيطان زجر من استراق السّمع بهذه الشهب.
و سادسها أنه إن كان هذا القذف لأجل النّبوّة فلم دام بعد وفات الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم.
و سابعها أنّ هذه الرّجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض بدليل أنّا نشاهد حركاتها بالغة و لو كانت قريبة من الفلك لما شاهدنا حركاتها كما لم نشاهد حركات الكواكب، و إذا ثبت أنّ هذه الشهب إنما تحدث بالقرب من الأرض كيف يقال إنّها تمنع الشّياطين من الوصول إلى الفلك.
و ثامنها أنّ هؤلاء الشّياطين لو كان يمكنهم أن ينقلوا أخبار الملائكة من المغيبات إلى الكهنة فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفّار حتّى يتوسّل الكفار بواسطة وقوفهم على أسرارهم إلى إلحاق الضّرر بهم.
و تاسعها لم لم يمنعهم اللَّه ابتداء من الصعود إلى السّماء حتّى لا يحتاج في دفعهم عن السماء إلى هذه الشهب و الجواب عن السؤال الأوّل أنا لا ننكر أنّ هذه الشهب كانت موجودة قبل مبعث النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و قد يوجد بسبب آخر و هو دفع الجنّ و زجرهم، يروى أنّه قيل للزّهرى أ كان يرمي في الجاهلية قال: نعم قال: أ فرأيت قوله تعالى: أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً قال: غلظت و شدّد أمرها حين بعث النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم.
و الجواب عن السّؤال الثاني أنه إذا جاء القدر عمى البصر، فاذا قضى اللَّه على طائفة منهم الحرق لطغيانها و ضلالها قيّض له من الدواعي المطمعة في درك المقصود ما عندها يقدم على العمل المفضى إلى الهلاك و البوار.
و الجواب عن السؤال الثالث أنّ البعد بين السّماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام فأما ثخن الفلك فلعلّه لا يكون عظيما.
و الجواب عن السؤال الرابع ما روى الزهرى عن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عن ابن عباس (ره) قال بينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم جالس فى نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستنار فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: ما كنتم تقولون في الجاهليّة إذا حدث مثل هذا قالوا: كنا نقول: يولد عظيم أو يموت عظيم، قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: فانها لا ترمى لموت أحد و لا لحياته و لكن ربّنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبّحت حملة العرش ثمّ سبّح أهل السّماء و سبّح كلّ سماء حتّى ينتهى التّسبيح إلى هذا السّماء و يستخبر أهل السّماء حملة العرش ما ذا قال ربّكم فيخبرونهم و لا يزال ينتهى ذلك الخبر من سماء إلى سماء حتّى ينتهى الخبر إلى هذه السماء و يتخطّف الجنّ فيرمون. فما جاءوا به فهو حقّ و لكنّهم يزيدون فيه و الجواب عن السؤال الخامس أنّ النّار قد تكون أقوى من نار اخرى فالأقوى يبطل الأضعف.
و الجواب عن السّؤال السادس أنه إنما دام لأنّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أخبر ببطلان الكهنة فلو لم يدم هذا القذف لعادت الكهانة و ذلك يقدح في خبر الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم عن بطلان الكهانة.
و الجواب عن السؤال السّابع أنّ البعد على مذهبنا غير مانع من السّماع فلعلّه تعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقعوا في تلك المواضع سمعوا كلام الملائكة.
و الجواب عن السؤال الثامن لعلّه تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة و أعجزهم عن ايصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين.
و الجواب عن السّؤال التاسع أنه تعالى يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، فهذا ما يتعلّق بهذا الباب على سبيل الاختصار انتهى.
و قال المحدّث المجلسيّ (ره) بعد نقل كلام الرازى و أجوبته: أقول الأصوب في الجواب عن الثالث أن يقال: قد ظهر أنّ للسماء أبوابا يصعد منها الملائكة و صعد منها نبيّنا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و عيسى و إدريس عليه السّلام بل أجساد ساير الأنبياء و الأوصياء بعد وفاتهم على قول، و قد ورد في الأخبار أنّ الجنّ كانوا يصعدون قبل عيسى عليه السّلام إلى ما تحت العرش و بعد بعثته كانوا يصعدون إلى الرابعة و بعد بعثة النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم منعوا عن صعود السماء مطلقا بالشّهب، فصعودهم إمّا من أبوابها أو لكونهم اجساما لطيفة يمكنهم النفوذ في جرمها و لعلّ«» المراد بالفطور فيها أن ترى فيها شقوق و ثقب أو تنهدم و تنحلّ أجزائها فلا إشكال في ذلك.
(و أجراها على اذلال تسخيرها) أى على مجارى تسخيرها أو وجوه مقهوريّتها و فيه تلميح إلى قوله تعالى: وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ قال الطبرسيُّ (ره): أى مذلّلات جاريات في مجاريهنّ بتدبيره و صنعه خلقهنّ لمنافع العباد.
و قال الفخر الرازيّ، كون الشّمس و القمر و النّجوم مسخرّات بأمره يحتمل وجوها: أحدها أنا قد دللنا أنّ الأجسام متماثلة، و متى كان كذلك كان اختصاص جسم الشمس بذلك النور المخصوص و الضوء الباهر و التسخين الشّديد و التّدبيرات العجيبة فى العالم العلوى و السّفلى لا بدّ و أن يكون لأجل أنّ الفاعل الحكيم و المقدّر العليم خصّ ذلك الجسم بهذه الصّفات، فجسم كلّ واحد من الكواكب و النّيرات كالمسخّر في قبول تلك القوى و الخواصّ عن قدرة المدبّر العليم.
و ثانيها أن يقال: إنّ لكلّ واحد من أجرام الشمس و القمر و الكواكب سيرا خاصّا بطيئا من المغرب إلى المشرق و سيرا آخر سريعا بسبب حركة الفلك الأعظم، فالحقّ سبحانه خصّ جرم الفلك الأعظم بقوّة زايدة على أجرام ساير الأفلاك و باعتبارها صارت مستولية عليها قادرة على تحريكها على سبيل القهر من المشرق إلى المغرب، فأجرام الأفلاك و الكواكب صارت كالمسخّرة لهذا القهر و القسر ثمّ ذكر باقي الوجوه و لا طائل تحتها.
و قوله عليه السّلام: (من ثبات ثابتها و مسير سائرها) بيان لوجه تسخيرها و ثبات الثوابت بالنسبة إلى سير السيارات.
و المراد بالسيارات الكواكب السبعة و هي: القمر، و عطارد، و زهرة، و الشمس و المرّيخ، و المشترى، و الزّحل، و يسمّى الشمس و القمر بالنّيرين، و الخمسة الباقية بالمتحيّرة لأنّ لكلّ واحد منها استقامة ثمّ وقوفا ثمّ رجوعا ثمّ وقوفا ثانيا ثمّ عودا إلى الاستقامة و ليس للنّيرين غير الاستقامة، و المراد بالثّوابت إمّا ساير الكواكب على السماء غير هذه السّبعة أو خصوص ما في كرة البروج.
و في توحيد المفضّل قال: قال الصّادق عليه السّلام: فكّر يا مفضّل في النّجوم و اختلاف مسيرها فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك و لا تسير إلّا مجتمعة، و بعضها تنتقل في البروج و تفترق في مسيرها، فكلّ واحد منها يسير سيرين مختلفين، أحدهما عامّ مع الفلك نحو المغرب، و الآخر خاصّ لنفسه نحو المشرق كالنملة التي تدور على الرّحا، فالرّحا تدور ذات اليمين و النّملة تدور ذات الشمال و النّملة تتحرّك في تلك حركتين مختلفتين، إحداهما بنفسه فتتوجّه أمامها، و الاخرى مستكرهة مع الرّحا تجذبها إلى خلفها، فاسأل الزّاعمين أنّ النّجوم صارت على ما هي عليه بالاهمال من غير عمد و لا صانع لها ما منعها كلّها أن تكون راتبة أو تكون كلّها متنقّلة فانّ الاهمال معنى واحد فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن و تقدير ففي هذا بيان أنّ مسير الفريقين على ما يسيران عليه بعمد و تدبير و حكمة و تقدير و ليس باهمال كما تزعمه المعطلة.
فان قال قائل: و لم صار بعض النّجوم راتبا و بعضها متنقّلا قلنا: إنّها لو كانت كلّها راتبة لبطلت الدلالات التي يستدلّ بها من تنقّل المتنقّلة و مسيرها في كلّ برج من البروج كما قد يستدلّ على أشياء ممّا يحدث في العالم بتنقّل الشّمس و النّجوم في منازلها، و لو كانت كلّها متنقّلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف و لا رسم يوقف عليه، لأنّه انما يوقف بمسير المتنقّلة منها لتنقلها في البروج الرّاتبة كما يستدلّ على سير السّاير على الأرض بالمنازل يجتاز عليها، و لو كان تنقّلها بحال واحدة لاختلط نظامها و بطلت المآرب فيها و لساغ لقائل أن يقول: إنّ كينونيّتها على حال واحدة توجب عليها الاهمال من الجهة التي وصفنا. ففي اختلاف سيرها و تصرّفها و ما في ذلك من المآرب و المصلحة أبين دليل على العمد و التدبير فيها.
(و هبوطها و صعودها و نحوسها و سعودها) المراد بالهبوط إما مقابل الشرف كما هو مصطلح المنجّمين، أو التوجّه إلى حضيض الحامل فانّ للكواكب صعودا في الأوج و هبوطا في الحضيض أو التوجّه إلى الغروب فيكون الهبوط حسّا و يقابله الصعود فيما ذكر.
و المراد بالسعود و النحوس كون اتصالات الكواكب أسبابا لصلاح حال شيء من الأشياء من أحوال هذا العالم و أسبابا لفساده.
قال المنجّمون: زحل و المريخ نحسان أكبرهما زحل، و المشتري و الزّهرة سعدان أكبرهما المشتري، و عطارد سعد مع السعود و نحس مع النحوس، و النيّران سعدان من التثليث و التسديس نحسان من المقابلة و التربيع و المقارنة، و الرّأس سعد و الذنب و الكبد نحسان، و اللَّه العالم بحقايق ملكه و ملكوته.
الترجمة
بعض ديگر از اين خطبه در صفت آسمان است مى فرمايد: ترتيب داد حق سبحانه و تعالى بدون قيد و علاقه پست و بلندي فرجه هاي آنرا و ملتئم نمود و بهم در آورد شكافهاى گشادگى آنرا و بهم پيوست ميان آنها و ميان زوجهاى آنها، و ذليل و آسان نمود بجهة ملائكه كه نزول كنندهاند بأمر او سبحانه و صعود نمايندهاند با عملهاى بندگان او دشوارى نردبانهاى آسمانها را، و ندا نمود آنها را بعد از اين كه بود دود پس بهم آمد بندهاى ريسمانهاى آنها و گشود بعد از بهم پيوستن درهاى بسته آنها را، و بر پا نمود ديده بانها از شهابهاى درخشان بر راهها و منفذهاى آنها، و نگه داشت آنها را از اين كه حركت نمايند و مضطرب گردند در شكاف هوا با قوت خود، و أمر كرد آنها را باين كه بايستند در حالتي كه انقياد و تسليم نمايند فرمان او را.
و گردانيد آفتاب آسمان را آشكار براى روز آن، و ماه آنرا علامتي محو شده از شب آن، و جارى فرمود مهر و ماه را در مواضع انتقال كه جاى جريان ايشانست، و مقدّر كرد سير ايشان را در راههاى درجه هاى ايشان تا تميز دهد شب و روز را بآن مهر و ماه و تا دانسته شود شماره سالها و حسابها بمقدار حركات اين دو كوكب، پس از آن در آويخت در فضاى آسمان فلك را كه محل دوران كوكب است، و منوط ساخت بآن زينت آنرا از ستارگان پنهان كه مثل درّند در صفا و از چراغهاى ستارها و انداخت بسوى شياطين كه بدزدى و سرقت گوش دهندگانند تا اين كه أسرار ملائكه را مطّلع شوند بشهابهاى درخشنده سوراخ كننده و جارى ساخت ستارگان را بر مجارى تسخير و مقهوريت آنها از ثبات كواكب ثابته و سير كردن ستارگان رونده، و از هبوط كردن ايشان بحضيض حامل، و صعود نمودن ايشان بأوج حامل و از سعادت آنها و نحوست آنها.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»