خطبه 64 صبحی صالح
64- و من خطبة له ( عليه السلام ) في المبادرة إلى صالح الأعمال
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ
وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ
وَ ابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ
وَ تَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ
وَ اسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ
وَ كُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا
وَ عَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً
وَ لَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى
وَ مَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَ بَيْنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ إِلَّا الْمَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ
وَ إِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ
وَ تَهْدِمُهَا السَّاعَةُ
لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ
وَ إِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ
لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ
وَ إِنَّ قَادِماً يَقْدُمُ بِالْفَوْزِ أَوِ الشِّقْوَةِ
لَمُسْتَحِقٌّ لِأَفْضَلِ الْعُدَّةِ
فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً
فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ
نَصَحَ نَفْسَهُ
وَ قَدَّمَ تَوْبَتَهُ
وَ غَلَبَ شَهْوَتَهُ
فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ
وَ أَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ
وَ الشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ
يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا
وَ يُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا
إِذَا هَجَمَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا
فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً
وَ أَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى الشِّقْوَةِ
نَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا وَ إِيَّاكُمْ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ
وَ لَا تُقَصِّرُ بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ
وَ لَا تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَ لَا كَآبَةٌ
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج4
و من خطبة له عليه السّلام و هى الثالثة و الستون من المختار فى باب الخطب
فاتّقوا اللّه عباد اللّه و بادروا آجالكم بأعمالكم، و ابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم، و ترحّلوا فقد جدّ بكم، و استعدّوا للموت فقد أظلّكم، و كونوا قوما صيح بهم فانتبهوا، و علموا أنّ الدّنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا، فإنّ اللّه لم يخلقكم عبثا، و لم يترككم سدى، و ما بين أحدكم و بين الجنّة أو النّار إلّا الموت أن ينزل به، و إنّ غاية تنقصها اللّحظة و تهدمها السّاعة لجديرة بقصر المدّة، و إنّ غائبا يحدوه الجديدان اللّيل و النّهار لحريّ بسرعة الأوبة، و إنّ قادما يقدم بالفوز أو الشّقوة لمستحقّ لأفضل العدّة، فتزوّدوا في الدّنيا من الدّنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا. فاتّقى عبد ربّه نصح نفسه قدّم توبته غلب شهوته، فإنّ أجله مستور عنه، و أمله خادع له، و الشّيطان موكّل به، يزيّن له المعصية ليركبها، و يمنّيه التّوبة ليسوّفها، حتّى تهجم منيّته عليه أغفل ما يكون عليها، فيا لها حسرة على كلّ ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجّة، و أن يؤدّيه أيّامه إلى شقوة، نسئل اللّه سبحانه أن يجعلنا و إيّاكم ممّن لا تبطره نعمة، و لا تقصّر به عن طاعة ربّه غاية، و لا تحلّ به بعد الموت ندامة و لا كابة.
اللغة
(بادره) مبادرة و بدارا و بدر غيره إليه عاجله و (جدّ بكم) بصيغة المجهول أى عجل بكم و حثثتم على الرّحيل و (استعدّ) له تهيأ و (أظلّنى) الشّيء غشينى أودنا منّى حتّى القى على ظلّه و (صيح بهم) من الصّياح و هو الصّوت بأقصى الطاقة و (استبدلوا) بصيغة الامر بمعنى أبدلوا و (السّدى) بالضّم و قد يفتح المهملة من الابل يستعمل في الواحد و الجمع و (الجديدان) و الاجدان الليل و النّهار و (الاوبة) الرّجوع و (العدّة) ما اعددته من مال أو سلاح أو غير ذلك و الجمع عدد مثل غرفة و غرف و (الحرز) الحفظ و تحرزون إمّا ثلاثى مجرّد من باب نصر أو مزيد فيه من باب الافعال و (التّسويف) المبطل و اصله أن يقول مرّة بعد أخرى سوف أفعل و (البطر) الطغيان و (كتب) الرّجل كابة إذا صار كئيبا أى منكسرا حزنا
الاعراب
الباء فى قوله بأعمالكم للمصاحبة، و في قوله بما يزول للمقابلة، و في قوله بكم للتّعدية، و الفاء في قوله فقد جدّ بكم، و قوله فقد أظلكم للسّببيّة، و في قوله فانتبهوا عاطفة، و في قوله فاستبدلوا فصيحة، و في قوله فانّ اللّه للسّببيّة أيضا.
و ما في و ما بين أحدكم للنفى، و قوله أن ينزل به في محلّ رفع بدل من الموت، و قوله و أنّ غاية اه عطف على قوله فانّ اللّه و الليل و النّهار بدل من الجديدان أو عطف بيان، و جملة يزين آه منصوب المحلّ على الحالية و أغفل منصوب بنزع الخافض أى في أغفل حالة، و قوله يالها حسرة منادى مستغاث، و الحسرة منصوب على التّمييز كانّه قال يا للحسرة على الغافلين ما أكثرك، أو أنّه مستغاث لأجله و المنادى محذوف اى يا قوم ادعوكم للحسرة، و فتحة اللّام حينئذ من أجل دخولها على الضّمير، و مثل ذلك قول عليّ بن موسى الرّضا عليه التّحيّة و الثنّاء:
و قبر بطوس يا لها من مصيبة ألحّت على الأحشاء بالزّفرات
و قوله أن يكون عمره آه في محلّ الجرّ على كونه بدلا من كلّ ذي غفلة، و جملة نسأل اللّه دعائية لا محلّ لها من الاعراب.
المعنى
اعلم أنّ المقصود بهذه الخطبة أيضا هو التنفير عن الدّنيا نظرا إلى قصر مدتها و سرعة زوالها و التّرغيب في الآخرة لتحصيل ما هو وسيلة إلى ثوابها منجية عن عقابها و هو التّقوى و لزوم الأعمال الصّالحة المشار إليها بقوله (فاتقو اللّه عباد اللّه و بادروا آجالكم بأعمالكم) أى سارعوا إلى آجالكم الموعودة مصاحبا بأعمالكم الصالحة و هو كناية عن ترّقب الموت و عدم الغفلة عنه، و هو إنّما يكون بالتّجافي عن دار الغرور و الرّغبة إلى دار السّرور و الاستعداد للموت قبل نزول الموت (و ابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم) و هو أمر بشراء الآخرة بالدّنيا و توصيف المبتاع بالبقاء و الثّمن بالزّوال ترغيبا و تحريصا، إذ تبديل الزّايل بالباقى بيعة رابحة و كفة راجحة لا يرغب عنها العاقل، و استعمال المبايعة في هذه المبادلة و المعاوضة غير عزيز قال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ و اعلم أنّ البيع اعتماده على أركان أربعة: البايع، و المشتري، و الثّمن، و المثمن فالثّمن كما علمت هو متاع الحياة الدّنيا الفانية و لذايذها النّفسانية، و المبتاع نعيم الآخرة الباقية و الجنّة التي أكلها دائم و ظّلها، و المشترى هو العبد، و معلوم أنّ البايع لا بد أن يكون هو اللّه سبحانه إذ هو مالك ملك السّماوات و الأرض و له الآخرة و الاولى، و له الجنّة المأوى.
فقد شبه عليه السّلام دار الدّنيا بسوق تجارة عرض اللّه فيها متاع الآخرة للبيع و ليس في يد الخلق إلّا دراهم زيفة مغشوشة و هي زينة الحياة الدّنيا، فأمر بابتياع ذلك المتاع بتلك الدّراهم، فمن كان له عقل و كياسة امتثل ذلك الأمر فربح و فاز فوزا عظيما و من كان ذا حمق و جهالة تضرّ و خاب فخسر خسرانا مبينا و قد وقع الاشارة إلى تلك التّجارة و ما فيها من الرّبح العظيم و المنفعة الكثيرة في قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
قال المفسّرون في هذه الآية وجوه من الدّلالة على الحثّ و التّاكيد بتلك المعاملة.
الأوّل إنّ حقيقة الاشتراء غير جايز في حقّه سبحانه، لأنّ المشترى إنّما يشترى ما لا يملك و هو سبحانه مالك الأشياء كلّها، لكنّه ذكر لفظ الشّرا تلطّفا لتأكيد الجزاء لأنّه لمّا ضمن الثّواب على نفسه فى مقابلة العبادات البدنيّة و الماليّة جعل نفسه بمنزلة المشترى اللّازم عليه ردّ الثّمن بعد أخذ المبيع.
الثّاني أنّه جعل في مقابلة النّفس التي هي منبع الشّرور و المفاسد، و المال الذي هو منشاء الغرور و المهالك الجنّة الدّائمة و السّعادات الباقية و هذه تجارة لن تبور، فلا يرغب عنها عاقل و لا يستقيلها إلّا جاهل روى أنّ أعرابيا مرّ بباب المسجد فسمع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقرأ هذه الآية فقال هذا الكلام لمن قالوا: للّه سبحانه قال: متى وقع هذا البيع و الشّرى قالوا: في عالم الميثاق، قال: و اللّه بيع مربح لا نقيل و لا نستقيل.
الثّالث قوله: وعدا، و وعد اللّه حقّ.
الرّابع قوله: عليه، و كلمة على للوجوب.
الخامس قوله: حقّا و هو التّاكيد للتّحقيق.
السّادس قوله: في التّورية و الانجيل و القرآن، و ذلك يجرى مجرى اشهاد جميع الكتب الالهية و جميع الأنبياء و الرّسل على هذه المعاملة.
السّابع قوله: و من أوفى بعهده من اللّه، و هو في غاية التّاكيد إذ معناه أنه يفىء و لا يخلف إذ عدم الوفاء للوعد، إمّا للعجز و عدم القدرة أو للبخل و الدّناءة، و كلّها مستحيلة في حقّ اللّه سبحانه مضافا إلى ما فيه من الكذب و الخيانة.
الثّامن قوله: فاستبشر و أ ببيعكم، و هو مبالغة في التّاكيد أى فافرحوا بهذه المبايعة لأنكم بعتم فانيا بباق و زايلا بدايم.
التّاسع قوله: و ذلك هو الفوز.
العاشر قوله: العظيم، فثبت بهذه الوجوه العشرة عظم منفعة هذه المبايعة و جلالة قدرها و كثرة ربحها (و ترّحلوا فقد جدّ بكم) و هو أمر بقطع منازل السّفر إلى اللّه و سلوك الطرق الموصلة إلى رضوان اللّه معلّلا بأنّكم حثثتم على هذا السير و السّلوك و عجلتم على طىّ هذه المنازل، فشبه عليه السّلام، الدّنيا بمنزل ينزل فيه قافلة ليستريحوا ساعة ثمّ ينادى فيهم بالرّحيل.
و نظيره ما يأتي منه عليه السّلام في أواخر الكتاب قال: تغرّ و تضرّ و تمرّ إنّ اللّه لم يرضها ثوابا لأوليائه و لا عقابا لأعدائه و إنّ أهل الدّنيا كركب بيناهم حلّوا أن صاح بهم سايقهم فارتحلوا، و قال عليه السّلام في الدّيوان المنسوب إليه.
تزوّد من الدنيا فانّك راحل
و بادر فانّ الموت لا شك نازل
ألا إنّما الدنيا كمنزل راكب
أراح عشّيا و هو في الصّبح راحل
فان قلت: ظاهر التّشبيه يعطى أنّ للنّاس في دار الدنيا مناديا ينادي فيهم الرّحيل و آمرا يأمرهم بالسّير و التعجيل، فمن ذلك المنادي، و ما المراد بذلك الأمر.
قلت يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الملك المأمور بالنداء من جانب اللّه سبحانه كما ورد في حديث أبي جعفر عليه السّلام، و في الديوان:
له ملك ينادى كلّ يوم لدوا للموت و ابنوا للخراب
و يحتمل أن يكون كناية عن توارد الأسباب التي تعدّ المزاج للفساد و تقربه إلى الآخرة و إلى ذلك أشار عليه السّلام في الدّيوان أيضا بقوله:
إلى م تجرّ أذيال التّصابى
و شيبك قد نضا برد الشباب
بلال الشّيب في فوديك نادى
بأعلى الصّوت حيّ على الذّهاب
خلقت من التّراب و عن قريب
تغيب تحت أطباق التّراب
طمعت إقامة في دار ظعن
فلا تطمع فرجلك في الركاب
و أرخيت الحجاب فسوف يأتي
رسول ليس يحجب بالحجاب
أ عامر قصرك المرفوع اقصر
فانّك ساكن القبر الخراب
(و استعدّوا للموت فقد أظلكم) أى تهيّئوا له فانّه قريب منكم و أشرف عليكم كانّه أوقع ظلاله على رؤوسكم، و التّهيؤ له إنّما يحصل بالعلم بانّ أمامه طريقا بعيدا و سفرا مهولا و ممرّا على الصّراط، و أنّ المسافر لا بدّ له من زاد، فمن لم يتزوّد و سافر هلك و عطب، فاذا علم ذلك استكمل نفسه و قصر أمله و أصلح عمله و قطع العلايق الدّنيويّة و ترك الشّهوات النّفسانيّة و أشرب قلبه حبّ الآخرة فحينئذ لا يبالى أوقع على الموت أم الموت وقع عليه و إلى ما ذكرناه ينظر ما عن تفسير العسكري عن آبائه عليهم السّلام قال: قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام: ما الاستعداد للموت قال: أداء الفرائض، و اجتناب المحارم، و الاشتمال على المكارم ثمّ لا يبالي أن وقع على الموت أو وقع الموت عليه، و اللّه ما يبالى ابن أبي طالب أن وقع على الموت أو وقع الموت عليه (و كونوا قوما صيح بهم فانتبهوا و علموا أنّ الدّنيا ليست لهم بدار) و هو أمر لهم بكونهم مثل أقوام التفتوا إلى منادى اللّه و هو لسان الشّريعة فحصل لهم بذلك الالتفات الانتباه من مراقد الطبيعة، و علموا أنّ الدّنيا ليست لهم بدار و أنّ مأواهم الآخرة دار القرار فكانوا من الزّاهدين في الدّنيا الرّاغبين في الآخرة، و اتّخذوا الأرض بساطا، و التّراب فراشا، و الماء طيبا، و قرضوا من الدّنيا تقريضا، فانّ من اشتاق إلى الجنّة سلا من الشّهوات، و من أشفق من النّار رجع عن المحرّمات، و من زهد في الدّنيا هانت عليه المصائب ألا إنّ للّه عبادا كمن رأى أهل الجنّة في الجنّة مخلّدين، و كمن رأى أهل النّار في النار معذّبين، شرورهم مأمونة، و قلوبهم محزونة، أنفسهم عفيفة و حوايجهم خفيفة، صبروا أيّاما قليلة فصاروا بعقبا راحة طويلة أمّا الليل فصافّون أقدامهم تجرى دموعهم على خدودهم يجارون إلى ربّهم يسعون في فكاك رقابهم من النّار، و أمّا النهار فحكماء علماء بررة أتقياء كأنّهم القداح قد براهم الخوف من العبادة ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى و ما بالقوم من مراض، أم خولطوا فقد خالط القوم أمر عظيم من ذكر النار و ما فيها (فاستبدلوا) اى أبدلوا الآخرة بالدّنيا و هو تفريع على التشبيه يعنى أنّ القوم الذين صبح به كما أنهم علموا أنّ الدّنيا ليست لهم بدار و بدّلوها بالآخرة فكذلك أنتم إذا كنتم مثلهم فاستبدلوها بها (فانّ اللّه لم يخلقكم عبثا و لم يترككم سدى) إما علة لجميع ما أمر به سابقا من التقوى و المبادرة إلى الآجال بالأعمال و ابتياع الآخرة بالدّنيا و غيرها مما تلاها، أو لخصوص الأمر الأخير أعنى الاستبدال، و كيف كان فالمقصود بذلك أنه سبحانه لم يخلق الناس عبثا و لم يتركهم مهملين كالابل المرسلة ترعى حيث تشاء و إنما خلقهم للمعرفة و العبادة كما قال سبحانه: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.
فلا بدّ لهم من القيام بوظايف الطاعات و تحمّل المشاق في أداء العبادات و تبديل سيئاتهم بالحسنات بتوبتهم من الخطيئات، لتمكّنوا من الوفود إلى الدّرجات العاليات و في الحديث القدسي من منتخب التوراة: يابن آدم اني لم أخلقكم عبثا و لا جعلتكم سدى و لا أنا بغافل عما تعملون، و إنكم لن تنالوا ما عندي إلّا بالصبر على ما تكرهون في طلب رضائي، و الصبر على طاعتي أيسر عليكم من حرّ النار، و عذاب الدّنيا أيسر عليكم من عذاب الآخرة، يابن آدم كلكم ضالّ إلّا من هديته، و كلكم مريض إلّا من شفيته، و كلكم فقير إلّا من أغنيته، و كلكم هالك إلّا من أنجيته، و كلكم مسيء إلّا من عصمته، فتوبوا إلىّ أرحمكم و لا تهتكوا أستاركم عند من لا يخفى عليه أسراركم، هذا و لما علل وجوب الابدال بما ذكر أكّد ذلك بقوله (و ما بين أحدكم و بين الجنة أو النار إلّا الموت أن ينزل به) و ذلك لأنّ العاقل إذا لاحظ أنه لا حجاب بينه و بين الجنة أو النار إلّا موته فيقطع العلايق الدنيوية و يفرغ قلبه من حبها و يستبدل الآخرة بالدنيا، و يمتثل لقوله: موتوا قبل أن تموتوا، شوقا إلى الثواب و خوفا من العقاب و مقصوده عليه السّلام بذلك الاشارة إلى قرب الساعة و ما يكون فيها من الثواب و العقاب و أنها ليست بعيدة كما يزعمه أهل الحجاب بيان ذلك أنّ أهل الحجاب و أصحاب الشك و الارتياب يزعمون يوم القيامة بعيدا من الانسان بحسب الزمان وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً و بحسب المكان وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ و أمّا أهل العلم و اليقين فيرونه قريبا بحسب الزمان اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ حاضرا بحسب المكان وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً.
هذه هي القيامة الكبرى، و أما القيامة الصغرى فهي إذا انقطع علاقة الروح من الجسد كما قال: من مات فقد قامت قيامته ثمّ إن كان من السعداء فيكون قبره روضة من روض الجنة، و إن كان من الأشقياء فيكون القبر حفرة من حفر النيران، هذا بحسب مذاق أهل الشرع و أمّا مذاق أهل العرفان فهو على ما ذكروه أنّ كلّ من شاهد بنور البصيرة باطنه في الدنيا لرآه مشحونا بأصناف السباع و الموذيات مثل الغضب و الشهوة و الحقد و الحسد و الكبر و العجب و الرّياء و غيرها، و هي التي لا تزال تفرسه و تنهشه إن سبا عنها بلحظة إلّا أنّ أكثر النّاس محجوب العين عن مشاهدتها، فاذا انكشف الغطاء بالموت و وضع في قبره عاينتها و هى محدقة عليه، و قد تمثّلت بصورها و أشكالها الموافقة لمعانيها، فيرى بعينه العقارب و الحيّات قد أحدقت و إنّما هى ملكاته و صفاته الحاضرة الآن، و قد انكشف له صورها الطبيعية و هذا عذاب القبر و ان كان سعيدا تمثّل له ما يناسب أخلاقه الحسنة و ملكاته المرضيّة على وفق ما كانت تعتقدها أو فوقها من الجنات و الحدائق و الأنهار و الغلمان و الحور العين و الكاس من المعين فهذا عقاب القبر و ثوابه، و لذا قال صلوات اللّه عليه و آله: القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّيران، فالقبر الحقيقي هذه الهيئة و ثوابه و عذابه ما ذكر.
ثمّ إنّه عليه السّلام علّل وجوب الاستبدال بعلّة ثانية مشيرة إلى سرعة زوال الدّنيا و فنائها و قصر مدّتها و انقضائها و هو قوله (و إنّ غاية تنقصها اللحظة و تهدمها السّاعة لجديرة بقصر المدّة) أراد بالغاية أجل الانسان و مدّة تعيّشه في دار الدنيا و نبّه على قصرها بأنّها تنقصها اللحظة أى النظرة لأن كلّ جزء من الزّمان فرضته قد مضى من مدّة الانسان منقص لها، و بأنها تهدمها السّاعة أى ساعات اللّيل و النّهار، لأنّ الطبايع الجرميّة فلكية كانت أو عنصريّة متجدّدة الوجود و الحدوث في كلّ آن، فوجودها نفس زوالها و حدوثها نفس فنائها و الموادّ و الأعراض تابعة للطبايع فاذن تكون السّاعات هادمة لها و قال الشّارح البحراني: كنى بالسّاعة عن وقت الموت و لا شكّ أنّ الآن الذي تنقطع فيه علاقه النّفس مع البدن غاية لأجل الانسان، و غاية الشيء هى ما ينتهى عندها الشّيء فكنى بالهدم عن ذلك الانقطاع و الانتهاء كناية بالمستعار (و ان غايبا يحدوه الجديدان الليل و النّهار لحريّ بسرعة الأوبة) المراد بالغايب الانسان فانّه غايب عن وطنه الأصلي و منزله الحقيقي الذي إليه معاده و مسيره و هو دار الآخرة و شبّه الليل و النّهار بالحادي لكونهما مقرّبين للانسان بتعاقبهما إلى وطنه موصلين له إليه كما أنّ الحادى يحدو الابل و يحثّها على السّير بحدائه حتّى يوصلها إلى المنزل، و من المعلوم أنّ من كان حاديه الليل و النّهار فهو في غاية سرعة السّير و الرّجوع إلى وطنه، و قيل المراد بالغايب الموت قال البحراني: و هو و إن كان محتملا إلّا أنّه لا يطابقه لفظ الأوبة لأنّه لم يكن حتّى يرجع.
أقول: يمكن الجواب عنه بأنّ الموت لما كان عبارة عن العدم الطاري للانسان و كان الانسان مسبوقا بالعدم أيضا سمّي حلول الموت بالأوبة قال الصّدر الشيرازى: اعلم أنّ المبدأ هي الفطرة الاولى، و المعاد هو العود إليها، فالاشارة إلى الأولى كان اللّه و لم يكن معه شيء وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً
فهذا خروج من العدم الأصلي إلى الوجود الكونيّ الحدوثي، و الاشارة إلى الانتهاء كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ و هذا خروج من هذا الوجود الخاصّ إلى العدم الفطرى، فعلى هذا يصحّ توصيف الموت بأنّه يئوب إلى الانسان إلّا أنّ توصيفه بكون الليل و النّهار حاديين له لا يخلو عن بعد فافهم (و إنّ قادما يقدم بالفوز أو الشقوة لمستحقّ لأفضل العدة) و المراد بالقادم بالفوز أو الشقوة هو الانسان لما قد علمت أنه غايب عن وطنه الأصلى و ساير إليه، فهو حين قدومه على منزله إمّا أن يكون سعيدا فيفوز بالسعادة الباقية، و إمّا أن يكون شقيا فيقع في الخيبة الدائمة، و من كان هذا شأنه فاللازم عليه أن يستعدّ أفضل العدة، و يدخر لنفسه أحسن الزاد و الذخيرة حتى ينادى بنداء يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي.
(فتزودوا في الدّنيا من الدّنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا) يعني أنّ الانسان إذا كان مستحقا لأفضل العدة فلا بد له أن يتزود من دنياه ما يحفظ به نفسه غدا بعد الموت و يوم القيامة من حرّ النّار و من غضب الجبّار، لأنّ ذلك أفضل العدد«» و أحسن الزّاد و هذا هو التّقوى كما قال اللّه تعالى: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى و إليه أشار بقوله (فاتقى عبد ربّه نصح نفسه قدم توبته غلب شهوته) و هذه جملات خبريّة في معنى الانشاء مفصّلة للزّاد الذي به يحصل حرز النّفس و حفظها، و المراد بنصح النّفس النّظر إلى مصالحها بأمرها بما هو محصّل لها الكمال و نهيها عمّا يوقعها في الضّلال و حثّها بالخيرات و الحسنات و منعها عن الشّرور و السّيئات، و من جملة النّصح أن يقدّم توبته على أجله و لا ينخدع بطول أمله و يستغفر ربّه فيما فات و يقصر عن شهوته فيما هو آت (فانّ أجله مستور عنه، و أمله خادع له، و الشّيطان موكل به يزين له المعصية ليركبها، و يمنّيه التّوبة ليسوفها، حتّى تهجم منيته عليه أغفل ما يكون عليها) و هذه كلّها علل لوجوب تقديم التوبة و تحذير عن هجوم الموت في حالة الغفلة بيان ذلك أنّ ستر الأجل و اختفائه عن الانسان موجب لغفلته عن ذكره و طول الأمل خادع له يخدعه بطول الحياة كما قيل:
أعلّل النّفس بالآمال أرقيها ما أضيق الدّهر لو لا فسحة الأمل
فاذا انضاف إلى ذلك خداع الشّيطان و وسوسته و تزيين المعصية في نظره و تسويفه للتّوبة و القائها في امنيّة مع كونه موكلا به ملازما له، كانت الغفلة أشدّ و النّسيان آكد، فيهجم منيته عليه في نهاية غفلة من دون تمكّن من توبته و لا تدارك منه لمعصيته، فعند ذلك ينتبه من نوم الغفلة و الجهالة، و يقع في كمال الخيبة و النّدامة، و هو عند ذلك يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
(فيا لها حسرة على كلّ ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجّة) أى شاهدا بلسان حاله على ما اكتسب فيه من الاثم و المعصية (و أن يؤدّيه أيّامه) التي أمهله اللّه فيها لتحصيل السّعادة (إلى شقوة) ثمّ دعا عليه السّلام لنفسه و للمخاطبين بقوله: (نسأل اللّه سبحانه أن يجعلنا و ايّاكم ممّن لا تبطره نعمة) أى من الذين لا يوجب كثرة النعم له البطر و الطغيان كما أنّ ذلك من جبلة الانسان قال سبحانه: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى.
(و لا تقصر به عن طاعة ربه غاية) أى لا تكون مقصرا في الطاعات لغرض من الأغراض الدّنيوية (و لا يحلّ به بعد الموت) حسرة و (ندامة و لا) حزن و (كابة) لانغماره في المعصية و تسويفه التوبة و هجوم موته عليه في حالة الغفلة
هداية فيها دراية
قد تحصّل من كلامه عليه السّلام أنّ اللّازم على الانسان أخذ الزّاد ليوم المعاد و أن لا يطمئن بطول الأجل و لا يغترّ بخداع الأمل، إذ ربّ آمل شيء لا يدرك ما أمل كما قال عليه الصّلاة و السلام في الدّيوان:
يا من بدنياه اشتغل
قد غرّه طول الأمل
و الموت يأتي بغتة
و القبر صندوق العمل
و قال آخر
يار اقد الليل مسرورا بأوّله
إنّ الحوادث قد يطرقن أسحارا
لا تامننّ بليل طال أوّله
فربّ آخر ليل اجّج النّارا
و لا سيما أنّ الشيطان اللعين عدّو مبين و هو في الكمين: وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ فينبغي للعاقل أن يحسن عمله و يقصر أمله و يقدم توبته أجله و يعجل في طلب الغفران و لا يغترّ بتسويف الشيطان، و يتوب إلى اللّه سبحانه من صغاير ذنوبه و كبايرها، و بواطن سيئآته و ظواهرها، و سوالف زلّاته و حوادثها، توبة من لا يحدّث نفسه بمعصية، و لا يضمر أن يعود في خطيئة، حتّى يصل بذلك إلى روح و ريحان، و يتمكّن من نزول الجنان، و لا يقع بعد الموت في الخيبة و الخسران و الحسرة و الحرمان.
و لنذكر هنا حديثا ينوّر القلوب، و يكشف الحجاب عن وجه المطلوب، و يظهر به عظم منفعة التّوبة، و يتّضح به معنى التسويف فيها و هو.
ما رواه في الصّافى من المجالس و بعض الأصحاب من الأمالى باسنادهما عن عبد الرّحمن بن غنم الدّوسي قال: دخل معاذ بن جبل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باكيا، فسلّم فردّ عليه السلام ثمّ قال ما يبكيك يا معاذ فقال يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ بالباب شاباطريّ الجسد نقىّ اللون حسن الصّورة يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدّخول عليك فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ادخل علىّ الشّابّ يا معاذ فأدخله عليه فسلّم، فردّ عليه السلام ثمّ قال: ما يبكيك يا شاب قال: كيف لا أبكى و قد ركبت ذنوبا إن أخذني اللّه عزّ و جلّ ببعضها أدخلنى نار جهنم و لا أرانى إلّا سيأخذني بها و لا يغفر لي أبدا فقال رسول اللّه هل أشركت باللّه شيئا قال: أعوذ باللّه أن اشرك بربّي شيئا، قال: أقتلت النّفس التي حرّم اللّه قال: لا، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: يغفر اللّه لك ذنوبك و إن كان مثل الجبال الرّواسي قال الشّاب: فانّها أعظم من الجبال الرّواسي.
فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يغفر اللّه لك ذنوبك و إن كان مثل الأرضين السّبع و بحارها و رمالها و أشجارها و ما فيها من الخلق، قال الشّاب: فانّها أعظم من الأرضين السّبع و بحارها و رمالها و أشجارها و ما فيها من الخلق، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يغفر اللّه لك ذنوبك و إن كانت مثل السّماوات و نجومها و مثل العرش و الكرسي، قال: فانّها أعظم من ذلك، قال: فنظر النبيّ إليه كهيئة الغضبان ثمّ قال: ويحك يا شاب ذنوبك أعظم أم ربّك فخرّ الشّاب على وجهه و هو يقول سبحان ربّي ما من شيء أعظم من ربّي ربّي أعظم يا نبيّ اللّه من كلّ عظيم، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: فهل يغفر لك الذّنب العظيم إلّا الرّبّ العظيم قال الشّاب: لا و اللّه يا رسول اللّه ثمّ سكت الشّاب، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك قال: بلى اخبرك.
إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين اخرج الأموات و انزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار فلما حملت إلى قبرها و دفنت و انصرف عنها أهلها و جنّ عليهم اللّيل أتيت قبرها فنبشتها، ثمّ استخرجتها و نزعت ما كان عليها من أكفانها و تركتها مجرّدة على شفير قبرها و مضيت منصرفا، فأتاني الشّيطان فأقبل يزيّنها لي و يقول أما ترى بطنها و بياضها أما ترى و ركيها، فلم يزل يقول لي هذا حتّى رجعت إليها و لم أملك نفسي حتّى جامعتها و تركتها مكانها، فاذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شاب ويل لك من ديّان يوم الدّين يوم يقفني و إياك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى و نزعتنى من حفرتى و سلبتنى أكفاني و تركتني أقوم جنبة إلى حسابى، فويل لشبابك من النّار، فما أظنّ أنّي أشمّ ريح الجنّة أبدا فما ترى لى يا رسول اللّه فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تنحّ عنّى يا فاسق إنّى أخاف ان أحترق بنارك فما أقربك من النّار، ثمّ لم يزل بقول و يشير إليه حتّى أمعن أى أبعد من بين يديه، فذهب فأتى المدينة فتزوّد منها، ثمّ أتى بعض جبالها فتعبّد فيها، و لبس مسحا و غلّ يديه جميعا إلى عنقه و نادى: يا ربّ هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول يا ربّ أنت الذي تعرفنى و زل منّى ما تعلم سيّدى يا ربّ إنّى أصبحت من النّادمين و أتيت نبيّك تائبا فطردنى و زادنى خوفا، فأسألك باسمك و جلالك و عظم سلطانك أن لا تخيّب رجائي سيدي و لا تبطل دعائى و لا تقنطنى من رحمتك.
فلم يزل يقول ذلك أربعين يوما و ليلة تبكى له السّباع و الوحوش، فلما تمّت له أربعون يوما و ليلة رفع يديه إلى السّماء و قال: اللهمّ ما فعلت في حاجتى إن كنت استجبت دعائي و غفرت خطيئتي فأوح إلى نبيّك، و إن لم تستجب دعائي و لم تغفر لي خطيئتي و أردت عقوبتي فعجّل بنار تحرقنى أو عقوبة في الدّنيا تهلكنى و خلّصني من فضيحة يوم القيامة فأنزل اللّه تعالى على نبيّه: وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً يعني الزّنا أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يعنى بارتكاب ذنب أعظم من الزّنا و نبش القبور و أخذ الاكفان: ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يقول خافوا اللّه فعجلوا التوبة:
وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ يقول عزّ و جلّ أتاك عبدى تائبا فطردته فأين يذهب و إلى من يقصد و من يسأل أن يغفر له ذنبه غيرى ثمّ قال عزّ و جلّ: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ.
يقول اللّه عزّ و جلّ لم يقيموا على الزّنا و نبش القبور و أخذ الأكفان: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فلما نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج و هو يتلوها و يتبسّم، فقال لأصحابه من يدلّني على ذلك الشّاب التائب فقال معاذ: يا رسول اللّه بلغنا أنّه في موضع كذا و كذا، فمضى رسول اللّه بأصحابه حتّى انتهوا إلى ذلك الجبل و صعدوا إليه يطلبون الشّاب، فاذا هم بالشّاب قائم بين صخرتين مغلولة يداه إلى عنقه قد اسودّ وجهه و تساقطت أشفار عينيه من البكاء و هو يقول: سيدى قد أحسنت خلقي و أحسنت صورتى و ليت شعري ما ذا تريد بى، في النّار تحرقنى أم في جوارك تسكنني، اللهمّ إنك قد أكثرت الاحسان إلىّ و أنعمت علىّ فليت شعرى ما ذا يكون آخر أمري، إلى الجنّة تزفّني، أم إلى النّار تسوقني، اللهمّ إنّ خطيئتى أعظم من السّماوات و الأرض، و من كرسّيك الواسع، و عرشك العظيم، فليت شعري تغفر خطيئتي أم تفضحني بها يوم القيامة.
فلم يزل يقول نحو هذا و هو يبكي و يحثو التّراب على رأسه و قد أحاطت به السّباع، و صفت فوقه الطير و هم يبكون لبكائه، فدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأطلق يديه من عنقه و نفض التراب عن رأسه و قال: يا بهلول ابشر فانك عتيق من النّار، ثمّ قال هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول، ثمّ تلى عليه ما أنزل اللّه عزّ و جلّ و بشّره بالجنّة.
و في الصّافي و البحار من المجالس باسناده عن قطر بن خليفة عن الصّادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام قال: لما نزلت هذه الآية«» صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلي صوته بعفاريته فقالوا: يا سيّدنا لما ذا دعوتنا قال: نزلت هذه الآية فمن لها، فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا و كذا، قال لست لها، فقال آخر مثل ذلك، فقال: لست لها، فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها، قال: بماذا قال: أعدهم و أمنّيهم التوبة، حتّى يواقعوا في الخطيئة فاذا وقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها فوكّله بها إلى يوم القيامة.
أقول: و من نظر إلى هاتين الرّوايتين بعين البصيرة و تفكّر فيما تضمّنته الأولى من جلالة فايدة التوبة و تأمّل فيما تضمّنته الثانية من عظم الخطر في تأخيرها و تسويفها و عرف أنّ التسويف و التأخير من وسوسة الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس لا بدّ له أن يستيقظ من نوم الغفلة و الجهالة و يتدارك الموت قبل حلوله و لا يغرّه الأمل بطوله.
و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأبي ذر رضي اللّه عنه.
يا باذر اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، و صحّتك قبل سقمك، و غناك قبل فقرك، و فراغك قبل شغلك، و حياتك قبل موتك.
يا باذر إياك و التّسويف بأملك، فانّك بيومك و لست بما بعده، فان يكن غدلك فكن في الغد كما كنت في اليوم، و إن لم يكن غدلك لم تندم على ما فرّطت في اليوم.
يا باذر كم مستقبل يوم لا يستكمله، و منتظر غدا لا يبلغه.
يا باذر لو نظرت إلى الأجل و مسيره، لأبغضت الأمل و غروره.
يا باذر كن كأنك في الدّنيا عابر سبيل، و عد نفسك من أصحاب القبور.
يا باذر إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء، و إذا امسيت فلا تحدّث نفسك
بالصّباح، و خذ من صحّتك قبل سقمك، و من حياتك قبل موتك، فانك لا تدرى ما اسمك غدا.
و بالجملة فالتّعجيل في جميع الامور قبيح إلّا في التّوبة فانه فيها حسن إذ التأخير مظنة الفوت الموجب للاقتحام في الهلكات مع ما في التأخير من خطر آخر و هو أنّ التوبة إذا وقعت عقيب السيئة تؤثر فيها و تمحو أثرها، و إذا تأخرت يتراكم الرّين و ظلمة الذّنوب على القلب فلا يقبل التأثير و لذلك قال لقمان لابنه: يا بنىّ لا تؤخّر التوبة فانّ الموت يأتي بغتة، و من ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين خطرين عظيمين أحدهما أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير رينا و طبعا فلا يقبل المحو الثاني أن يعاجله المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو و لذلك أيضا ورد في الخبر أنّ أكثر صياح أهل النار من التسويف، فما هلك من هلك إلّا بالتسويف فيكون تسويده القلب نقدا و جلاؤه بالطاعة نسية إلى أن يختطفه الموت فيأتي اللّه بقلب سقيم و لا ينجو إلّا من أتى اللّه بقلب سليم، و إلى ما ذكرنا كلّه ينظر قوله سبحانه: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً، وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
الترجمة
از جمله خطب شريفه آن امام أنام و حجّة عالى مقامست كه مىفرمايد: پرهيز نمائيد از معبود بسزا اى بندگان خدا و بشتابيد بسوى أجلهاى خود با عملهاى خود و بخريد آخرت باقى را در عوض دنياى فاني، و رحلت نمائيد بسوى آخرت پس بتحقيق كهتعجيل كرده شده است بشما و مهيّا باشيد بمرك كه بتحقيق سايه انداخته است بر شما، و بشويد مثل طايفه كه از طرف خدا ندا كرده شدند پس بيدار شدند و دانستند كه نيست دنياى فانى از براى ايشان خانه و سراى زندگانى پس بدل نمائيد دنيا را بآخرت از جهة اين كه خداوند عبث خلق نكرده است شما را، و سر خود و مهمل نگذاشته است شما را، و نيست ميان يكى از شما و ميان بهشت يا جهنم مگر مرگ كه نازل شود بر او، و بدرستى مدّت و مسافت عمرى كه كم مىگرداند آنرا نگريستن و خراب مى سازد آن را ساعتهاى شب و روز هر آينه سزاوار است آن بكوتاهى مدت، و بدرستى غايبى كه ميرانند او را تازه آيندگان كه عبارتست از شب و روز هر آينه لايقست بسرعة بازگشت.
يعنى بسوى وطن اصلى كه عبارتست از آخرت، و بدرستى كه آينده كه مى آيد بسوى آخرت با سعادت يا شقاوت هر آينه استحقاق دارد به بهترين توشه كه عبارتست از عبادت و اطاعت تا برساند بسعادت، پس توشه برداريد در دنيا از دنيا آن چيزى را كه حفظ نمائيد با آن نفسهاى خودتان را از عقوبت روز جزا.
پس متّقى شد بنده براى پروردگار خود كه نصيحت كرد نفس خود را و مقدّم داشت توبه خود را و غلبه نمود بر شهوت خود، پس بدرستى كه أجل آن پنهانست از او، و آرزوى او فريبنده اوست، و شيطان ملعون موكل اوست كه زينت مى دهد از براى أو معصيت را تا سوار شود بر او، و آرزومند مى سازد او را بتوبه و إنابة تا بتاخير اندازد آنرا تا اين كه هجوم آورد مرگ أو بأو در غافلترين حالتى كه ميباشد بر آن حالت.
أى حسرت حاضر باش بر هر صاحب غفلت كه باشد عمر او بر أو حجت در روز قيامت، و برساند أو را روزگار أو ببدبختى و شقاوت، سؤال مىكنيم از خداوند تعالى آنكه بگرداند ما و شما را از كسانى كه بطغيان نيندازد او را نعمت و مقصّر نسازد او را از اطاعت پروردگار خود غرض و غايت، يعنى أغراض دنيويه مانع اطاعت أو نگردد، و از كسانى كه حلول نكند بأو بعد از مرگ و رحلت هيچ حسرت و ندامت و نه اندوه و محنت.
الى هنا انتهى الجزء الرابع من هذه الطبعة البهية القيمة و ذلك بتصحيح و تهذيب من العبد «السيد ابراهيم الميانجى» و وقع الفراغ فى اوايل شهر جمادى الاولى سنة 1379 و يليه ان شاء الله الجزء الخامس و أوله أول المختار الرابع و الستين و الحمد لله رب العالمين
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»