خطبه 49 صبحی صالح
49- و من كلام له ( عليه السلام )
و فيه جملة من صفات الربوبية و العلم الإلهي
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَطَنَ خَفِيَّاتِ الْأَمُوُرِ
وَ دَلَّتْ عَلَيْهِ أَعْلَامُ الظُّهُورِ
وَ امْتَنَعَ عَلَى عَيْنِ الْبَصِيرِ
فَلَا عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ
وَ لَا قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ
سَبَقَ فِي الْعُلُوِّ فَلَا شَيْءَ أَعْلَى مِنْهُ
وَ قَرُبَ فِيالدُّنُوِّ فَلَا شَيْءَ أَقْرَبُ مِنْهُ
فَلَا اسْتِعْلَاؤُهُ بَاعَدَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ
وَ لَا قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ فِي الْمَكَانِ بِهِ
لَمْ يُطْلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِهِ
وَ لَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفَتِهِ
فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلَامُ الْوُجُودِ
عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ
تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُهُ الْمُشَبِّهُونَ بِهِ
وَ الْجَاحِدُونَ لَهُ عُلُوّاً كَبِيراً
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج4
و من خطبة له عليه السّلام و هى التاسعة و الاربعون من المختار فى باب الخطب
الحمد للّه الّذي بطن خفيّات الأمور، و دلّت عليه أعلام الظّهور، و امتنع على عين البصير، فلا عين من لم يره تنكره، و لا قلب من أثبته يبصره، سبق في العلوّ فلا شيء أعلا منه، و قرب في الدّنوّ فلا شيء أقرب منه، فلا استعلائه باعده عن شيء من خلقه، و لا قربه ساواهم في المكان به، لم يطلع العقول على تحديد صفته، و لم يحجبها عن واجب معرفته، فهو الّذي تشهد له أعلام الوجود، على إقرار قلب ذي الجحود، تعالى اللّه عمّا يقول المشبّهون به و الجاحدون له علوّا كبيرا.
اللغة
(بطنته) أبطنه علمته و أخبرته و (الأعلام) جمع العلم بالتّحريك و هو ما يستدلّ به على الشيء كالعلامة و (لم يطلع) من باب الافعال يقال اطلعت زيدا على كذا مثل أعلمته و زنا و معنا و (الجحود) الانكار يقال جحد حقّه أى أنكره قال الفيومي و لا يكون إلّا على علم من الجاحد به.
الاعراب
فاعل امتنع محذوف بقرينة المقام أى امتنع رؤيته، و كلمة لا في قوله فلاعين و لا قلب بمعنى ليس، و في قوله فلا شيء لنفى الجنس و به متعلّق بقوله ساواهم، و اضافة الواجب إلى معرفته من باب إضافة الصّفة إلى الموصوف، و على اقرار متعلّق بتشهد.
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشّريفة مشتملة على مباحث جليلة من الحكمة الالهيّة و مطالب نفيسة من صفات الرّبوبية.
الاول أنّه سبحانه عالم بالخفيّات و السّراير و خبير بما في الصّدور و الضمائر و إليه الاشارة بقوله (الحمد للّه الذى بطن خفيّات الامور) و يدلّ ذلك على كونه عالما بالجليّات بطريق أولى كما برهن ذلك في الكتب الكلاميّة، و قد حقّقنا الكلام في علمه بجميع الأشياء و دللنا عليه بطريق النقل و العقل بما لا مزيد عليه في تنبيه الفصل السّابع من فصول الخطبة الاولى و لا حاجة لنا إلى إطناب الكلام في المقام و كفى بما ذكره عليه السّلام شهيدا قوله سبحانه: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً و قوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
و قوله: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ فانّ المراد بالغيب هو الغايب عن الحواسّ الخفىّ على الخلق، و أظهر منها دلالة قوله سبحانه: وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى يعنى لا تجهد نفسك برفع الصّوت فانّك و إن لم تجهر علم اللّه السرّ و أخفى من السّرّ، قال الطبرسي: اختلفوا فيما هو أخفى من السّرّ فقيل: السّرّ ما حدّث به العبد غيره في خفيّة و أخفى منه ما أضمره في نفسه ما لم يحدّث به غيره، و قيل: السّرّ ما أضمره العبد في نفسه و أخفى منه ما لم يكن و لا أضمره أحد، و روى عن السّيدين الباقر و الصّادق عليهما السّلام السّرّ ما أخفيته في نفسك و أخفى ما خطر ببالك ثمّ أنسيته.
(و) الثاني أنّه تعالى (دلّت عليه أعلام الظهور) و المراد بأعلام الظهور الآيات و الآثار الدالة على نور وجوده الظاهر في نفسه المظهر لغيره، و اليها الاشارة في قوله سبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و لا يخفى أنّ الاستدلال بتلك الأدلّة و الآيات هو طريق الملّيّين و ساير فرق المتكلّمين فانّهم قالوا: إنّ الأجسام لا يخلو عن الحركة و السّكون، و هما حادثان و ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، فالأجسام كلّها حادثة، و كلّ حادث مفتقر إلى محدث فمحدثها غير جسم و لا جسماني و هو الباري جلّ اسمه دفعا للدّور و التّسلسل.
و قريب منها طريقة الطبيعيين و هو الاستدلال بالحركة قالوا: إنّ المتحرّك لا يوجب حركة بل يحتاج إلى محرّك غيره، و المحرّك لا محالة ينتهى إلى محرّك غير متحرّك أصلا دفعا للدّور و التّسلسل، و هو لعدم تغيّره و براءته عن القوة و الحدوث واجب الوجود.
و هنا طريقة اخرى أحكم من السّابقتين و هو الاستدلال بالفعل على الفاعل و إليه الاشارة في حديث الزنديق المروىّ في الكافي فانّه بعد ما سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن دليل التّوحيد و أجاب عنه عليه السّلام فكان من سؤاله أن قال: فما الدّليل عليه أى على وجوده تعالى فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: وجود الأفاعيل دلّت على أنّ صانعا صنعها، ألا ترى أنّك إذا نظرت إلى بناء مشيّد مبني علمت أنّ له بانيا و إن كنت لم تر الباني و لم تشاهده، قال: فما هو: قال: شيء بخلاف الاشياء.
و إنّما قلنا: إنّ هذه الطريقة أحكم لأنّه يرجع إلى البرهان اللّمّي و ذلك لأنّ كون الشيء على صفة قد يكون معلولا لما ذاته علّة له، ألا ترى أنّ البنامن حيث إنّه بناء لا يعرف إلّا بالبناء، و الكاتب من حيث هو كاتب يدخل في حدّ الكتابة و ما يدخل في حدّ الشّيء يكون سببا له و برهانا عليه لميّا، فذاته تعالى و إن لم يكن من حيث ذاته برهان عليه إذ لا جنس له و لا فصل له، و ما ليس له جنس و لا فصل لا حدّ له و ما لا حدّ له لا برهان عليه، إلّا أنّه من حيث صفاته و كونه مصدرا لأفعاله ممّا يقام عليه البرهان، كقولنا: العالم مصنوع مبنيّ يقتضي أن له صانعا بانيا، و إذا ثبت أنّ له صانعا ثبت وجوده في نفسه ضرورة، إذ ثبوت الشّيء على صفة في الواقع لا ينفكّ عن ثبوته في نفسه كما هو ظاهر، و كيف كان فهذه الطرق هي المشار إليها بقوله سبحانه: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ و هي كلها مشتركة في أنّ التّوسّل فيها إلى معرفته سبحانه إنّما هو باعتبار امر آخر غيره، كالامكان للمهيّة و الحدوث للخلق و الحركة للجسم.
و هنا طريقة اخرى هي أسدّ و ألطف و أشرف و هي أن يستدلّ به تعالى عليه ثمّ يستشهد بذاته على صفاته و أفعاله واحدا بعد واحد و إليها أشار الشّارح البحرانيّ بقوله: و أمّا الالهيّون فلهم في الاستدلال طريق آخر، و هي انّهم ينظرون أوّلا في مطلق الوجود أهو واجب أو ممكن، و يستدلّون من ذلك على اثبات واجب، ثمّ بالنظر في لوازم الوجوب من الوحدة الحقيقية على نفى الكثرة بوجه ما المستلزمة«» لعدم الجسمية و العرضيّة و الجهة و غيرها، ثمّ يستدلّون بصفاته على كيفية صدور أفعاله عنه واحدا بعد آخر.
و ظاهر أنّ هذا الطريق أجلّ و أشرف من الطريق الأوّل و ذلك لأنّ الاستدلال بالعلّة على المعلول أولى البراهين باعطاء اليقين، لكون العلم بالعلّة المعينة مستلزما للعلم بالمعلول المعين من غير عكس.
قال بعض العلماء: و إنّه طريق الصّديقين الذين يستشهدون به لا عليه أى يستدلّون بوجوده على وجود كلّ شيء إذ هو منه و لا يستدلّون بوجود شيء عليه بل هو أظهر وجودا من كلّ شيء فان خفى مع ظهوره، فلشدّة ظهوره، و ظهوره سبب بطونه، و نوره هو حجاب نوره، إذ كلّ ذرّة من ذرّات مبدعاته و مكوناته فلها عدّة ألسنة تشهد بوجوده و بالحاجة إلى تدبيره و قدرته لا يخالف شيء من الموجودات شيئا من تلك الشّهادات و لا يتخصّص أحدها بعدم الحاجات.
و قال الصّدر الشّيرازى في شرح الكافي: و اعلم أنّ للحكماء في إثبات هذا المطلب يعني وجود الصّانع منهجين احدهما الاستدلال على وجوده تعالى من جهة النظر في أفعاله و آثاره و ثانيهما الاستشهاد عليه من جهة النظر في حقيقة الوجود و أنّها يجب أن يكون بذاتها محقّقة و بذاتها واحدة و هي ذات الواجب و أنّ ما سواه من الأشياء التي لها مهيّات غير حقيقة الوجودية تصير موجودة و انّ وجودها رشح و تبع لوجوده فدلّت ذاته على ذاته.
و إلى هذين المنهجين اشير في الكتاب الالهي حيث قال اللّه تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ هذا منهج قوم و قال: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ هذا منهج قوم آخروهم الصّديقون الذين يستشهدون من ذاته على حقيقة ذاته و من حقيقة ذاته على احديّة ذاته كما قال اللّه تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و من أحديّة ذاته على ساير صفاته، و من معرفة صفاته على كيفية أفعاله الأوائل و الثّواني واحدا بعد واحد على ترتيب الأشرف و الأشرف إلى أن ينتهى إلى الجسمانيات و المتحركات، و لا شك أنّ هذا المنهج أحكم و أوثق و أشرف و أعلا انتهى كلامه.
فليفهم جيّدا فانّه غير خال عن ايهام القول بوحدة الوجود الفاسد عند أهل الشّرع كما يأتي تفصيلا في شرح الكلام المأتين و الثّامن إنشاء اللّه تعالى، و قد قرّر هذا المرام في أوّل السّفر الالهى من كتابه الأسفار بتقرير أوضح و أبسط، و لا حاجة بنا إلى ذكره و فيما أوردناه هنا كفاية للمستر شد و هداية للمهتدى.
و في كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد
(و) الثالث أنّه سبحانه (امتنع) رؤيته (على عين البصير): فَ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ و هذا هو مذهب أصحابنا وفاقا للمعتزلة، و عليه دلّت الآيات الكريمة و البراهين المتينة و الأخبار المتواترة عن أهل بيت العصمة سلام اللّه عليهم و لنقتصر منها على رواية واحدة.
و هو ما رواه في الكافي باسناده عن أحمد بن إسحاق قال: كتبت إلى أبى الحسن الثالث عليه السّلام أسأله عن الرؤية و ما اختلف فيه النّاس قال: فكتب لا يجوز الرّؤية ما لم يكن بين الرّائي و المرئي هواء ينفذه البصر فاذا انقطع الهواء من الرائي و المرئي لم يصّح الرؤية و كان في ذلك الاشتباه، لأنّ الرّائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه و كان ذلك التّشبيه لأنّ الأسباب لا بدّ من اتّصالها بالمسبّبات.
و هذه الرّواية كما ترى دالّة على امتناع الرّؤية بوجهين احدهما أنّ من شرايط تحقّق الرؤية وجود الهواء أو ما يجري مجراه كالماء الصافي و نحوه بين الرائي و المرئي لتنفذ فيه شعاع البصر و يتّصل بالمبصر فاذا انقطعت الهواء عنهما أو عن أحدهما امتنعت الرّؤية الثاني لو جاز رؤيته سبحانه لزم كونه مشابها لخلقه تعالى عن ذلك علوّا كبيرا و إليه أشار عليه السّلام بقوله: و كان في ذلك الاشتباه، يعنى في كون الهواء بين الرّائي و المرئي الاشتباه يعنى شبه كل منهما بالآخر يقال اشتبها إذا شبه كلّ منهما الآخر لأنّ الرّائي متى ساوى المرئي و ماثله في النّسبة إلى السّبب الذى أوجب بينهما الرؤية وجب الاشتباه و مشابهة أحدهما الآخر في توسّط الهواء بينهما.
و كان في ذلك التّشبيه أى كون الرّائى و المرئى في طرفي الهراء الواقع بينهما يستلزم الحكم بمشابهة المرئي بالرّائي من الوقوع في جهة ليصحّ كون الهواء بينهما فيكون متحيّزا ذا صورة وضعية فانّ كون الشّيء في طرف مخصوص من طرفي الهواء و توسط الهواء بينه و بين شيء آخر سبب عقليّ للحكم بكونه في جهة و متحيّزا و ذا وضع، و هو المراد بقوله: لأنّ الأسباب لا بدّ من اتّصالها بالمسبّبات فقد تحقّق و استبان من ذلك امتناع رؤيته سبحانه مطلقا في الدّنيا و الآخرة.
و ظهر بطلان ما ذهبت إليه الاشاعرة من امكان رؤيته منزّها عن المقابل و الجهة و المكان كما قال عمر النّسفى و هو من عظماء الأشاعرة: و رؤية اللّه جايزة في العقل واجبة بالنّقل فيرى لا في مكان و لا على جهة من مقابلة أو اتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرّائى و بين اللّه تعالى.
و قوله: فيرى لا في مكان له ناظر إلى منع اشتراط الهواء بين الرائي و المرئي و اشتراط الجهة و المكان كما استدلّ به الباقون للرؤية، و توضيح هذا المنع ما ذكره الغزالي في محكيّ كلامه من كتابه المسمّى بالاقتصاد في الاعتقاد، فانّه بعد ما نقل استدلال أهل الحقّ في نفى الرّؤية من أنّه يوجب كونه تعالى في جهة و كونه في جهة يوجب كونه عرضا أو جوهرا جسمانيا و هو محال.
قال: إنّ أحد الأصلين من هذا القياس مسلّم و هو أنّ كونه تعالى في جهة يوجب المحال، و لكنّ الأصل الأوّل و هو ادّعاء هذا اللّازم على اعتقاد الرّؤية ممنوع، فنقول: لم قلتم انّه إن كان مرئيا فهو في جهة من الرّائي أعلمتم ذلك ضرورة أم بنظر و لا سبيل إلى دعوى الضرورة، و أمّا النظر فلا بدّ من بيانه و منتهاه أنّهم لم يروا إلى الآن شيئا إلّا و كان بجهة من الرّائي مخصوصة، و لو جاز هذا الاستدلال لجاز للخصم «للمجسم خ ل» أن يقول: إنّ الباري تعالى جسم لأنّه فاعل فانّا لم نر إلى الآن فاعلا إلّا جسميا، و حاصله يرجع إلى الحكم بأنّ ما شوهد و علم ينبغي أن يوافقه ما لم يشاهد و لم يعلم أقول: و هذا معنى قول التفتازاني في شرح العقائد النّسفية في هذا المقام من أنّ قياس الغايب على الشّاهد فاسد هذا، و غير خفيّ على الفطن العارف فساد ما زعموه، إذ دعوى كون المرئى بهذا العين مطلقا يجب أن يكون في جهة ليست مبنيّة على أنّ المرئيات في هذا العالم لا يكون إلّا في جهة حتّى يكون من باب قياس الغايب على الشّاهد، بل النظر و البرهان يؤدّيان إليه.
بيان ذلك على ما حقّقه بعض المحقّقين«» هو أنّ القوّة الباصرة التي في عيوننا قوّة جسمانية وجودها و قوامها بالمادّة الوضعيّة، و كلّ ما وجوده و قوامه بشيء فقوام فعله و انفعاله بذلك الشّيء إذ الفعل و الانفعال بعد الوجود و القوام و فرعه، إذ الشّيء يوجد أوّلا إمّا بذاته أو بغيره، ثمّ يؤثّر في شيء أو يتأثّر عنه، فلأجل هذا نحكم بأنّ البصر لا يرى إلّا لما له نسبة وضعية إلى محلّ الباصرة، و السّامعة لا تنفعل و لا تسمع إلّا ما وقع منها في جهة أو أكثر فهذا هو البرهان.
ثمّ إنّه عليه السّلام بعد ما نبّه على امتناع رؤيته سبحانه أردف ذلك بجملتين.
إحداهما قوله: (فلا عين من لم يره تنكره) مشيرا بذلك إلى ردّ ما ربما يسبق إلى الوهم في بادى الرّأى من أنّ العين إذا امتنع عليها رؤيته فلا بدّ من إنكارها له، و محصّل دفع ذلك التّوهّم أنّ عدم الرّؤية لا يستلزم الانكار، إذ آيات القدرة و علامات المقدرة و آثار العظمة من الآفاق و الأنفس شاهد حقّ على وجوده و برهان صدق على ذاته، فكيف يمكن مع هذه الآيات الظاهرة و البراهين الساطعة الانكار بمجرّد عدم الابصار، مضافا إلى أنّ حظّ العين أن يدرك بها ما صحّ إدراكه فأمّا أن ينفى بها ما لا يدرك من جهتها فلا، و يأتي تحقيق الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في شرح الخطبة الرّابعة و الستّين إنشاء اللّه تعالى.
و الثانية قوله عليه السّلام: (و لا قلب من أثبته يبصره) مريدا بذلك تاكيد امتناع الاحاطة به و بيان عجز العقول عن الوصول إلى كنه حقيقته، فانّ معنى الابصار هو الادراك على وجه الاكتناه، فالمقصود أنّ المثبت لا يمكن له أن يعرفه بقلبه معرفة ضروريّة و أن يحيط به إحاطة تامّة.
و لمّا كان الابصار حقيقة في الرّؤية بالعين المستلزمة للاحاطة بالعلم و العرفان الضّروري فاطلق لفظ يبصر و اريد به ذلك مجازا من باب اطلاق اسم الملزوم على اللّازم.
بيان ذلك أنّ اثباته تعالى بالقلب الّذي هو عبارة اخرى عن الايمان به ممّا يضعف و يشتدّ و ينقص و يكمل و يكون في مبدء اكتسابه ضعيفا ناقصا، ثمّ يتدرج بمزاولة الأفكار و الأعمال و يشتدّ شيئا فشيئا و يستكمل قليلا قليلا كما يقع للفحم بمجاورة النّار يتسخّن أوّلا تسخّنا قليلا، ثمّ يشتدّ تسخّنه حتّى يحمرّ، ثمّ يتنوّر ثمّ يضيء و يحرق، و يفعل كما يفعله النّار من التّسخين و الاضائة و الاحراق، فهكذا يشتدّ نور العلم و قوّة الايمان حتّى يصير العلم عينا، و الايمان عيانا، و المعرفة تنقلب مشاهدة و لهذا قيل إنّ المعرفة بذر المشاهدة.
و لكن يجب أن يعلم أنّ العلم إذا صار عينا لم يصرعينا محسوسا، و أنّ المعرفة إذا انقلب مشاهدة لم ينقلب مشاهدة بصرّية حسية لأن الحسّ و المحسوس نوع مضاد للعقل و المعقول لا يمكن لشيء من أفراد أحد النّوعين المضادّين أن ينتهى في مراتب استكمالاته و اشتداداته إلى شيء من أفراد النّوع الآخر فالابصار إذا اشتدّ لا يصيرتخيلا مثلا، و لا التّخيل إذا اشتدّ يصير تعقّلا، و لا بالعكس.
نعم إذا اشتدّ التّخيل ير مشاهدة و رؤية بعين الخيال لا بعين الحسّ و كثيرا ما يقع الغلط من صاحبه أنّه رأى بعين الخيال أم بعين الحسّ الظاهر كما يقع للمجانين و الكهنة، و كذا التّعقل إذا اشتدّ يصير مشاهدة قلبيّة و رؤية عقليّة لا خيالية و لا حسية و هذا هو معنى الابصار بالقلب على ما ثبت في بعض الأخبار.
و هو ما رواه في الكافي عن أبى جعفر عليه السّلام فى جواب الرّجل الخارجي الذي قال له: أيّ شيء تعبد قال: اللّه، قال: رأيته قال عليه السّلام: بل لم تره العيون بمشاهدة الابصار و لكن رأته القلوب بحقايق الايمان.
فانّ المراد برؤية القلوب له هو ادراك العقول القدسّية له بالأنوار العقليّة الناشية من الايمان و الاذعان الخالص فانّ الايمان إذا اشتدّ حسبما ذكرنا حصل في القلب نور يشاهد به الرّبّ كمشاهدة العيان، و سيأتى لهذا مزيد توضيح و تحقيق في مقامه المناسب إنشاء اللّه.
فان قلت: فكيف يجتمع ذلك مع كلامه عليه السّلام الذي نفى فيه الابصار.
قلت لعلك لم تتأمّل فيما حقّقناه حقّ التّامل إذ لو تأمّلته عرفت عدم التدافع بين الخبرين لعدم رجوع النفى و الاثبات فيهما إلى شيء واحد إذ الابصار المنفى في حقّه هو إدراكه على وجه الاحاطة و معرفته حقّ المعرفة، كما قال صلوات اللّه عليه: ما عرفناك حقّ معرفتك، و الرؤية المثبتة في خبر أبي جعفر عليه السّلام هو إدراكه لا على وجه الاحاطة، بل غاية ما يمكن أن يتصوّر في حقّ العبد الّتي هى أشدّ مراتب الايمان و أكمل درجاته، و يأتي لذلك الخبر توجيهات اخر في شرح الكلام المأة و الثامن و السّبعين إنشاء اللّه.
فان قلت: هل لك شاهد من الأخبار على حمل الابصار المنفىّ في كلامه على المعنى الّذي ذكرت قلت: نعم و هو ما رواه في الكافي باسناده عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى:
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ قال: إحاطة الوهم ألا ترى إلى قوله: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ليس يعني به بصر العيون: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ليس يعني من أبصر بعينه: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ ليس بعني عمى العيون إنّما عنى إحاطة الوهم كما يقال فلان بصير بالشعر، و فلان بصير بالفقه، و فلان بصير بالدّراهم، و فلان بصير بالثّياب اللّه أعظم من أن يرى بالعين فانّ السّائل لمّا توهّم كون المراد بالآية نفي الرّؤية المعتادة بهذا البصر الحسّي نبّه عليه السّلام على أنّ المراد بها ليس ذلك، لأنّه أمر مستغنى عنه، و ذاته تعالى أجلّ من أن يحتمل في حقّه ذلك حتّى يصير الآية محمولة عليه، بل المراد نفى إحاطة الوهم به عنه و أنّ الابصار ليست ههنا بمعنى العيون بل بمعنى العقول و الأوهام على ما وردت في الآيات و اشتهر اطلاقها عليها بين أهل اللّسان و مثله ما رواه أيضا عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن أبي هاشم الجعفرى عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال: سألته عن اللّه هل يوصف، فقال: أما تقرء القرآن قلت: بلى قال: أما تقرء قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ قلت: بلى، قال: فتعرفون الابصار، قلت: بلى، قال: ماهى قلت: إبصار العيون، قال: إنّ أوهام القلوب أكبر من ابصار العيون، فهو لا يدركه الأوهام و هو يدرك الأوهام قال المحدّث المجلسي في مرآت العقول: و المراد بأوهام القلوب إدراك القلوب باحاطتها به، و لما كان إدراك القلوب بالاحاطة لما لا يمكن أن يحاط به و هما عبّر عليه السّلام عنه بأوهام القلوب هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام و يحمل عليه كلام الامام عليه السّلام، و أمّا ما ذكره الشّارح البحراني من أنّ المراد بقوله: و لا قلب من أثبته يبصره، أنّ من أثبته مع كونه مثبتا له بقلبه لا يبصره فبعيد لفظا و معنى فافهم جيّدا (و) الرابع أنّه سبحانه (سبق في العلوّ) و تقدّم على من عداه (فلا شيء أعلا منه) و المراد بالعلوّ العقلي لا الحسّي كعلوّ السّماء بالنّسبة إلى الأرض، و لا التّخييلي كما للملك بالنّسبة إلى الرّعية إذ الأوّل مقصور في المحسوسات و المتحيّزات، و الثّاني متغيّر بحسب الاشخاص و الأوقات، و هو سبحانه منزّه عن الحسّ و المكان، و مقدّس عن الكمال الخيالي القابل للزّيادة و النّقصان، فله الفوقيّة المطلقة و العلوّ العقلي و ذلك انّ أعلى مراتب الكمال هو مرتبة العليّة و لمّا كان الأوّل تعالى مبدء كلّ شيء حسّي و عقليّ و علّته التي لا يتصوّر فيها النّقصان بوجه لا جرم كان مرتبته أعلى المراتب العقليّة مطلقا، و له الفوق المطلق في الوجود العاري عن الاضافة إلى شيء دون شيء، و عن إمكان أن يكون فوقه ما هو أعلى منه أو في مرتبته ما يساويه، فهو المتفرّد بالفوقية المطلقة و العلوّ المطلق لا يلحقه فيهما غيره و يحتمل أن يكون المراد بالعلوّ العلوّ بالقدرة و القهر و الغلبة أو بالكمال و الاتّصاف بالصّفات الحسنة و تماميّته بالنّسبة إلى كلّ شيء و نقص الكلّ بالنّسبة إليه فكلّ متوجّه إلى فوق ما عليه متوجّه إليه، فهو فوق كلّ شيء و لا يقال شيء فوقه و مرجع ذلك كلّه إلى كمال رتبة وجوده و شدّة نوره (و) الخامس أنّه جلّت عظمته (قرب في الدّنوّ) إلى من سواه (فلا شيء أقرب منه) إليهم، و لمّا كان السّبق في العلوّ مستلزما للبعد عن الغير حسن المقابلة بينه و بين القرب في الدّنوّ، و كما أنّ علوّه على خلقه كان علوّا عقليّا، فكذلك قربه إليه قرب عقليّ و هو القرب بالعلم و الاحاطة أو القرب بالرّحمة و الافاضة، فهو الذي لا يعزب عن علمه شيء و أقرب إلى النّاس من حبل الوريد و لمّا كان قربه إلى الأشياء و إلى الخلق بهذا المعنى لا يكون له منافاة لبعده عنهم اللازم من علوّة، فهو سبحانه في كمال علوّه عليهم و بعده عنهم من حيث الذّات و الصّفات منهم قريب، و في كمال قربه منهم و دنوّه إليهم من حيث العلم و الاحاطة عنهم بعيد، لأنّ النّور كلّما كان أشدّ و أقوى كان مع علوّه و بعده أقرب و أدنى و اعتبر ذلك بنور الشّمس و هي في السّماء الرّابعة و بنور السّراج و المشعل و هو عندك في وجه الأرض فانظر أيّهما أقرب منك حتّى تعلم أنّ أعلى الموجودات شرفا و نورا يجب أن يكون أقربها منك و حيث إنّ علوّه سبحانه لم يكن علوّا حسّيا و لا فوقيّته فوقيّة مكانيّة (فلا) يكون (استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه) بعدا مكانيّا و إن كان بعيدا منهم بمقتضى علوّه العقليّ و متباعدا عن عقولهم بسبب ارتفاعه الذّاتي (و) حيث إنّ قربه من الخلق لم يكن قربا حسيّا و لا دنوّه دنوّا مكانيّا ف (لا) يكون (قربه) منهم (ساواهم في المكان به) و المقصود بهاتين الجملتين ردّ توهّم اولى الأوهام النّاقصة و الأذهان القاصرة الذين لم يفهموا من العلوّ إلّا الحسّي المستلزم للتّباعد، و لم يعرفوا من القرب إلّا المكاني المستلزم لمساواة المتقاربين في المحلّ، و قد عرفت هنا و في شرح الفصل الخامس و السّادس من الخطبة الاولى في بيان معنى قوله: و من قال علام فقد اعلا منه، و قوله: مع كلّ شيء لا بمقارنة بطلان هذا التوهم بما لا مزيد عليه و أقول الآن تأكيدا لما سبق و توضيحا لما هنا إنّه روى في الكافي في باب الحركة و الانتقال باسناده عن يعقوب بن جعفر الجعفرى عن أبي إبراهيم عليه السّلام قال: ذكر عنده قوم يزعمون أنّ اللّه ينزل إلى السّماء الدّنيا، فقال إنّ اللّه لا ينزل و لا يحتاج إلى أن ينزل إنّما منظره في القرب و البعد سواء، لم يبعد منه قريب و لم يبعد منه بعيد و لم يحتج إلى شيء بل يحتاج إليه، و هو ذو الطول لا إله إلّا هو العزيز الحكيم الحديث أقول: لمّا كان زعم بعض العامّة أنّ للّه سبحانه مكانا أعلى الأمكنة و هو العرش و أنّه ينزل في الثلث الأخير من اللّيل إلى السّماء الدّنيا ليقرب من أهل الأرض و يناديهم بما أراد، ردّ زعمهم بأنّه تعالى لا ينزل و لا حاجة له إلى أن ينزل، و ذلك لأنّ المتحرّك من مكان إلى مكان إنّما يتحرّك لحاجته إلى الحركة، حيث إنّ نسبة جميع الأمكنة إليه ليست نسبة واحدة بل إذا حضر له مكان أو مكاني غاب عنه مكان أو مكاني آخر، و إذا قرب من شيء بعد من شيء آخر، فيحتاج في حصول مطلوبه الغائب إلى الحركة إليه، و اللّه تعالى لما لم يكن مكانيا كانت نسبته إلى جميع الامكنة و المكانيات نسبة واحدة، و ليس شيء أقرب اليه من شيء آخر و لا أبعد و لا هو أقرب إلى شيء من شيء آخر و لا أبعد، و نظره في القرب و البعد أى فيما يتصوّر فيه القرب و البعد بالنظر إلى عالم الحواسّ و أوهام الخلق سواء لا تفاوت فيه أصلا و فيه أيضا عن عبد الرّحمن بن الحجّاج، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فقال: استوى في كلّ شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء، لم يبعد منه بعيد و لم يقرب منه قريب، استوى في كلّ شيء.
و عن ابن اذينة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ فقال هو واحد واحديّ الذّات، باين من خلقه، و بذلك وصف نفسه و هو بكلّ شيء محيط بالاشراف و الاحاطة و القدرة و لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السّموات و لا في الأرض و لا أصغر من ذلك و لا أكبر بالاحاطة و العلم لا بالذّات لأنّ الأماكن محدودة تحويها حدود أربعة فاذا كان بالذّات لزمها الحواية توضيح جوابه عليه السّلام إنّ وحدته سبحانه وحدة ذاتيّة لا عدديّة حتّى ينافي الكثرة و كونه رابعا لثلاثة و بعينه سادسا لخمسة، باين من خلقه و تباعد عنهم لا مباينته من حيث التّشخّصات و الأوضاع، و تباعدا من حيث الامكنة و الحيزات، و إنما مباينته من حيث الذّات و عدم مشاركتهم له في شيء من الصّفات، فهو تامّ كامل و هم ناقصون محتاجون إليه و به تمامهم و غنائهم، و بذلك التّباين، وصف نفسه و قال: ليس كمثله شيء و هو بكلّ شيء محيط، لا يخلو منه شيء من الأشياء و احاطته إنّما هو بالاشراف و الاطلاع و إحاطة العلم و القدرة فمثال احاطته بكلّ شيء كمثال علم أحد منّا بأشياء كثيرة متباينة الوضع من جهة العلم بأسبابها و مباديها، لكن علمه عين ذاته و علمنا زايد على ذاتنا، و علمه تامّ و لكلّ شيء و علمنا ناقص و ببعض الأشياء و كما لا يلزم من علمنا بتلك الأشياء حصول شيء واحد بالعدد في أماكن متباينة الوضع، فكذلك لا يلزم فيه بل ذاته أشدّ إحاطة و أوسع علما و هو معنى قوله عليه السّلام لا بالذات يعني أنّ عدم عزوب شيء من الأشياء عنه باعتبار الاحاطة العلميّة لا باعتبار حصول ذاته في مكان قريب من مكانه، لأنّ الأماكن محدودة تحويها حدود أربعة، عدّها أربعة مع كونها ستّة لأنّ القدام و الخلف و اليمين و الشّمال لما كانت غير متحيّزة إلّا باعتبار عدّ الجميع عدّين و عدّ الفوق و التحت حدّين فصارت أربعة، و المعنى أنه لو كان عدم بعد شيء عنه باعتبار كون ذاته فر مكان قريب منه لزم احتواء المكان عليه كالمتمكّن و كونه محاطا بالمكان تعالى اللّه عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا، و بذلك التحقيق ظهر معنى قوله عليه السّلام و لا قربه ساواهم في المكان به و السادس أنه تعالى شأنه (لم يطلع العقول على تحديد صفته) إذ ليس لصفاته الكمالية التي هي عين ذاته حدّ يحدّ به حتّى يمكن للعقول الاطلاع عليه بيان ذلك أنّ الحدّ يراد به أحد معنيين أحدهما القول الشارح لمهيّة الشيء المؤلف من المعاني الذّاتية المختصّة إمّا بحسب الحقيقة أو بحسب الاسم الثاني النهاية و الطرف، و كلاهما منفيّان عنه سبحانه أمّا الحدّ بالمعنى الأوّل فلأنّ ذاته غير مؤلف من معانى و امور ذاتية و لا تركيب فيها أصلا بشيء من أنحاء التركيب، بل هو بسيط الذات من جميع الجهات و صفاته عين ذاته و وجودها وجود ذاته، فليس لصفاته حدّ به تحدّ حتى يصحّ اطلاع العقول عليه و أمّا الحدّ بالمعنى الثاني فلأنّ التناهي و اللّاتناهي إنّما يوصف بهما أوّلا و بالذّات المقادير و الأعداد و إذا وصف بها شيء آخر كان إمّا باعتبار تعلّقه بالكمّيات و إمّا باعتبار ترتّبها أو ترتّب ما يوصف بها على ذلك الشيء، و اللّه سبحانه أجلّ من ذلك و إلّا لزم كونه محلّا للحوادث مضافا إلى أنّه لو كان له حدّ معيّن و نهاية معيّنة لزم احتياحه إلى علّة محدّدة قاهرة، إذ طبيعة الوجود بما هو وجود لا يقتضي حدّا خاصّا، و يلزم من ذلك أى من وجود العلة المتباينة القاهرة أن يكون لخالق الأشياء كلّها من خالق محدّد فوقه، و هو محال (و) السابع أنّه سبحانه (لم يحجبها) أى لم يجعل العقول محجوبة (عن واجب معرفته) بل قد وهب لكلّ نفس قسطا من معرفته هو الواجب لها بحسب استعدادها لقبوله و لو لا ذلك لكان تكليفهم بالأصول و الفروع تكليفا بما لا يطاق و لذلك قال الصّادق عليه السّلام: ليس للّه على خلقه أن يعرفوا و للخلق على اللّه أن يعرّفهم و للّه على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا و في رواية الكافي عن إبراهيم عمر اليماني قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ أمر اللّه كلّه عجيب إلّا أنّه قد احتجّ عليكم بما عرفكم من نفسه، يعني أنّ معرفة ذاته و صفاته الحقيقيّة كما هي فوق إدراك كلّ أحد، تكلّ العقول و الأذهان و تبهر الألباب عن كنه جلاله و غور عزّه و كماله إلّا أنّه مع ذلك لكلّ أحد نصيب عن لوامع إشراقات نوره قلّ أو أكثر، فله الحجّة على كلّ أحد بما عرفه من آيات وجوده و دلايل صنعه وجوده فوقع التّكليف بمقتضى المعرفة و العمل بموجب العلم (فهو الذي تشهد له أعلام الوجود) و آيات الصّنع و القدرة (على اقرار) قلب كلّ أحد حتّى (قلب ذي الجحود) لأنّ الجاحد و إن كان يجحده متابعة لرايه و هواه إلّا أنّه لو تدبّر في آثار القدرة و الجلال و اعلام العظمة و الكمال لارتدع عن رأيه و هواه، و رجع عن جحده و إنكاره، و أذعن بوجود الإله، فلا يعبد معبودا سواه، لكفاية تلك الآثار في الشّهادة، و تماميّة هذه الأعلام في الهداية و الدّلالة كما قال سبحانه: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ، وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ و في الكافي باسناده عن أبي سعيد الزّهري عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كفى لأولى الألباب بخلق الرّبّ المسخّر، و ملك الربّ القاهر، و جلال الربّ الظاهر، و نور الربّ الباهر و برهان الربّ الصّادق، و ما أنطق به ألسن العباد، و ما ارسل به الرّسل، و ما انزل على العباد، دليلا على الرّبّ عزّ و جلّ قال بعض شرّاح الحديث: ذكر عليه السّلام ثمانية امور كلّ منها كاف لذوي العقول دليلا على وجود الرّبّ أحدها خلقه المسخّر له و ثانيها ملكه القاهر على كلّ مالك و مملوك و ثالثها جلاله الظاهر من عظائم الخلقة و بدايع الفطرة كالأجرام العالية و النّفوس و غيرها و رابعها نوره الغالب على نور كلّ ذي نور و حسّ كلّ ذي حسّ و شعور و خامسها برهانه الصّادق و هو وجود آياته الكاينة في السّموات و الأرض و سادسها ما أنطق به ألسن العباد من العلوم و المعارف و غيرهما و سابعها ما أرسل به الرّسل من الشّرايع و الأحكام و السّياسات و الحدود و ثامنها ما أنزل على العباد من الصّحايف الالهيّة و الكتاب السّماويّة ف (تعالى اللّه عمّا يقول المشبّهون به و الجاحدون له علوّا كبيرا) و المراد بالمشبّهين المشبّهون للخلق بالخالق، و هم المشركون الذين جعلوا للّه شركاء و قالوا: إنّه ثالث ثلاثة، و نحو ذلك و بالجاحدين المنكرون للصّانع، و ليس المراد بالمشبّهين المشبّهة المعروفة أعني الذين شبّهوه سبحانه بخلقه كالمثبتين له تعالى أوصافا زايدة على الذّات، و المجوّزين في حقّه الرّؤية و المكان و نحوهما و المثبتين له الأعضاء و الجوارح إلى غير هذه ممّا هو من صفات الممكن و بالجملة المراد المشبّهون به كما هو صريح كلامه عليه السّلام لا المشبّهون له بخلقه على ما توهّمه الشّارح البحراني و اعلم أنّ المشبّهين به أوله مقرّون به سبحانه صريحا و جاهدون له لزوما إذ المعنى الذي يتصوّرونه إلها و يجعلونه له شركاء أو يجوّزون في حقّه و يثبتون له صفات الممكن ليس هو نفس الاله، و الجاحدين منكرون له صريحا معترفون به لزوما و اضطرارا على ما حقّقناه آنفا في شرح قوله: فهو الّذي يشهد له أعلام الوجودات و كلا الفريقين جاحدان له في الحقيقة و إن كانا يفترقان في الاعتراف باللسان
الترجمة
از جمله خطبهاى شريفه آن حضرت است: حمد و ثنا مر خداى را سزاست كه عالم است بباطن امور پنهانى، و خبير است بجميع أشياء نهانى، و دلالت كرده بر وجود او علامات ظاهره قدرت و آيات باهره عظمت، و ممتنع و محال شده ديدن او بر چشم بينا پس نه چشم كسى كه او را نديده انكار ذات او بتواند بنمايد، و نه قلب كسى كه اثبات وجود او را كرده احاطه و ادراك تام وجود او را دارد، پيشى گرفته در بلندى بمخلوقات پس هيچ چيز عالى مرتبه بلندتر از او نيست، و قريبست در نزديكى بمخلوقات پس هيچ چيز نزديكتر از او نيست پس نه بلندى او دور مىگرداند او را از چيزى از مخلوقات، و نه نزديكى او مساوى نموده ايشان را با او در مكان و جهات، و مطلع نگردانيده عقلها را بر تعريف صفات خود، و ممنوع نگردانيده عقلها را از واجب شناخت خود، پس او آن كسى است كه گواهى مىدهد از براى او نشانها وجود بر اقرار كردن دل صاحب انكار و جحود، پس بلند است حق سبحانه و تعالى و منزّهست از آنچه مىگويند تشبيه كنندگان خلايق باو و انكار كنندگان وجود او بلندى بزرگ يعنى او برتر است از أقوال باطله مشركين و عقايد فاسده منكرين
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»