google-site-verification: googledc28cebad391242f.html
1 نامه هاشرح و ترجمه میر حبیب الله خوئینامه هاشرح و ترجمه میر حبیب الله خوئی

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 2 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 2 صبحی صالح

2- و من كتاب له ( عليه‏ السلام  ) إليهم بعد فتح البصرة

وَ جَزَاكُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ عَنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ أَحْسَنَ مَا يَجْزِي الْعَامِلِينَ بِطَاعَتِهِ وَ الشَّاكِرِينَ لِنِعْمَتِهِ فَقَدْ سَمِعْتُمْ وَ أَطَعْتُمْ وَ دُعِيتُمْ فَأَجَبْتُمْ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج17 

و من كتاب له عليه السلام اليهم بعد فتح البصرة و هو الكتاب الثاني من باب المختار من كتب أمير المؤمنين عليه السلام‏

و جزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته، و الشاكرين لنعمته، فقد سمعتم و أطعتم و دعيتم فأجبتم‏.

اللغة

(جزاكم) الجزاء يائي و هو ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيرا فخير و إن شرا فشر، قال الله تعالى: و جزاهم بما صبروا جنة و حريرا و قال تعالى:

و جزاء سيئة سيئة مثلها يقال: جزاه كذا و بكذا و على كذا يجزيه جزاء من باب ضرب.

(أهل) قال الخليل: أهل الرجل أخص الناس به، أهل البلد و البيت سكانه، و أهل كل نبي امته، و أهل الأمر ولاته، و أهل الاسلام من يدين به.

و قوله عليه السلام: (أهل بيت نبيكم) إشارة إلى قوله تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت‏، فالمراد من قوله: أهل بيت نبيكم، هو أهل البيت في الاية.

 الاعراب‏

(من أهل مصر) تميز لضمير المفعول أعني «كم» في «جزاكم» لأنه يجوز جر التميز بمن إذا لم يكن تميزا لعدد و ما كان فاعلا في المعنى و التميز المحول عن المفعول كقولهم رطل من زيت و نعم من رجل، قال أبو بكر بن الأسود:

تخيره فلم تعدل سواه‏فنعم المرء من رجل تهامى‏

و قال آخر:

يا سيدا ما أنت من سيدموطأ الأكتاف رحب الذراع‏

و استثنى ابن مالك الأولين في الأولين في الألفية و قال:

و اجرر بمن إن شئت غير ذي العددو الفاعل المعنى كطب نفسا تفد

(عن أهل بيت نبيكم) تتعلق بقوله جزاكم.

(أحسن ما يجزي) مفعول مطلق نوعي فناب أحسن عن المصدر المحذوف في الانتصاب على المفعول المطلق و يدل عليه و هو صفة له أي جزاكم الله الجزاء أحسن ما يجزي العاملين بطاعته كقولهم: سرت أحسن السير، أي سرت السير أحسن السير.

و الظاهر أن كلمة ما مصدرية أي أحسن جزاء العاملين بطاعته، و يجوز أن تكون من الموصولات و حذف العائد إليها و التقدير: أحسن الذي يجزي به العاملين بطاعته.

(بطاعته) متعلق للعاملين، و لنعمته للشاكرين يقال عمل بطاعته و شكر لنعمته.

المعنى‏

ضمير (إليهم) في قول الرضي رضوان الله عليه يرجع إلى‏ أهل الكوفة في الكتاب السابق، فقوله صريح بأنه عليه السلام كتب إلى‏ أهل الكوفة هذا الكتاب‏ بعد فتح البصرة و العجب من الفاضل الشارح البحراني حيث قال في شرحه على النهج: يشبه أن يكون الخطاب لأهل الكوفة مع أنه نقل في عنوانه قول الرضي‏ و من كتاب له عليه السلام إليهم بعد فتح البصرة.

ثم إن هذا الكتاب لجزء الكتاب الذي كتب عليه السلام‏ إليهم بعد فتح البصرة و لم يذكره الرضي رضي الله عنه بتمامه إما لعدم عثوره عليه، أو لاختياره منه هذا القدر لبلاغته، و هذا ليس بعزيز في النهج كما بينا في المباحث السالفة أن خطبة واحدة قطعت و جزئت في أربع مواضع من النهج و ذكر في كل موضع جزء منها، أو أتى ببعض ما في الخطب و الكتب و ترك بعضهما الاخر و ستقف على أكثر ما قدمنا في المباحث الاتية أيضا.

ثم نقل هذا الكتاب و الذي قبله في المجلد الثامن من البحار ص 409 الطبع الكمباني، و دونك الكتاب بالسند و التمام.

سند الكتاب و نقله بتمامه و نسخ اخرى منه‏

إن ما يهمنا في ذلك الشرح تحصيل سند ما في النهج و نقله من الجوامع و المجاميع التي ألفت قبل الرضي رضوان الله عليه كالجامع الكافي لثقة الاسلام الكليني المتوفى سنة 328 ه، و البيان و التبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى سنة 255 ه، و الكامل لأبي العباس محمد بن يزيد المعروف بالمبرد المتوفى سنة 285 ه، و الكتاب المعروف بالتاريخ اليعقوبي لأحمد بن أبي يعقوب الكاتب المتوفى حدود سنة 292 ه، و في الكنى و الألقاب للمحدث القمي رحمه الله أنه توفى سنة 246 ه، و تاريخ الامم و الملوك المعروف بالتاريخ الطبري لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري الاملي المتوفى سنة 310 ه، و كتاب صفين للشيخ أبي الفضل نصر بن مزاحم المنقري التميمي الكوفي من جملة الرواة المتقدمين بل الواقعة في درجة التابعين كان من معاصري محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام باقر العلوم و كأنه كان من رجاله عليه السلام و أدرك علي بن موسى الرضا عليهما السلام كما في الخرائج للراوندي، و كتب الشيخ الأجل المفيد قدس سره المتوفى سنة 413 ه، لا سيما ما نقل في كتبه باسناده عن المورخ المشهور محمد بن عمر بن واقد الواقدي المدني المتوفى سنة 207 ه، و كتاب الإمامة و السياسة المعروف بتاريخ الخلفاء من مؤلفات عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 276 ه، و مروج الذهب و معادن الجوهر في التاريخ لأبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي المتوفى سنة 346 ه، و كتب أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المشتهر بالشيخ الصدوق المتوفى سنة 381 ه و غيرها من الكتب المشهورة للعلماء الأقدمين الذين كانوا قبل الرضي جامع النهج ببضع سنين إلى فوق مئين و هو توفى سنة 406 من هجرة خاتم النبيين.

و إنما حدانا على ذلك طعن بعض المخالفين من السابقين و اللاحقين بل بعض المعاصرين على النهج بأنه ليس من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بل مما وضعه الرضي أو من جمعه و نسبه إليه عليه السلام.

و قد نقل القاضي نور الله رحمه الله في مجالس المؤمنين عند ترجمة الشريف المرتضى علم الهدى أخ الرضي من تاريخ اليافعي أنه قال: و قد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام علي بن أبي طالب عليه السلام، هل هو جمعه أو أخوه الرضي و قد قيل: إنه ليس من كلام علي بن أبي طالب و إنما أحدهما هو الذي وضعه و نسبه إليه، انتهى ما أردنا من نقل القاضي كلام اليافعي.

أقول: الظاهر أن اليافعي أخذ هذا الطعن من القاضي ابن خلكان في وفيات الأعيان و نقله بألفاظه في تاريخه و القائل واحد، و قد قاله القاضي عند ترجمة علم الهدى و هو مات سنة 681 ه و اليافعي سنة 768 ه، إلا أن ابن خلكان قال بعد قوله في اختلاف الناس أنه ليس من كلامه عليه السلام و إنما الذي جمعه و نسبه إليه هو الذي وضعه. و الفرق بينهما أن القائل بالوضع على عبارة اليافعي هو علم الهدى أو أخوه الرضي، و أما على ما في الوفيات فيمكن أن يكون غيرهما.

ثم إن تلك الشبهة الواهية إنما صدرت من معاند جاهل هتاك لم يتفحص في الكتب و لم يكن عارفا بأنحاء الكلام، و إلا فكيف يجتري العالم المتتبع الباحث عن فنون الكلام أن ينحل الكلام الذي هو فوق كلام المخلوق و دون كلام الخالق إلى من نسبة منشاته و أشعاره و سائر كلماته إلى ما في النهج كنسبة السهاء إلى‏ الشمس. على أن الألسن قد كلت عن أن يتفوه باتيان خطبة من خطبه لفظا أو معنى، و الخطباء الذين تشار إليهم بالبنان و تثنى عليهم الخناصر عياله عليه السلام و كل أخذوا منه، و قد قدمنا بعض ما أشرنا إليه في شرح المختار 237.

و قد افترى بعض المخالفين على الرضي بأن الخطبة الشقشقية التي تدل على إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه السلام و خلافته بعد رسول الله بلا فصل من مجعولاته نسبها إليه، و أقول: إنها من الخطب التي أعجزت العقلاء عن فهم معناها، و أعيت الخطباء البلغاء عن أن يأتوا بمثلها فأنى للرضي و لغير الرضي هذا النفس و هذا الاسلوب و ما جرى بين مصدق بن شبيب و شيخه ابن الخشاب مشهور معروف قد نقله الشارحان المعتزلي و البحراني الأول في آخر شرحه عليها، و الاخر في أوله و نقلها ابن أبي جمهور الأحسائي في المجلي أيضا (ص 393 طبع طهران 1329 ه) و هي رويت على طرق كثيرة روتها الخاصة و العامة أتى بها المجلسي قدس سره في المجلد الثامن من البحار (ص 160 من الطبع الكمباني) فلا حاجة إلى نقلها.

و أما ما في الوفيات و تاريخ اليافعي من أن الناس قد اختلفوا في النهج هل المرتضى جمعه أو الرضي فيدفعه ما قاله جامع النهج في مقدمته عليه: فاني كنت في عنفوان السن و غضاضة الغصن ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمة عليهم السلام «إلخ»، و لا كلام في أن خصائص الأئمة من كتب الرضي رحمه الله، على أن جل المورخين و المحدثين من الشيعة بل كلهم و كذلك من العامة قالوا: إنه مما جمعه الرضي، و ارتياب من لا خبرة له في ذلك لا يعبأ به.

على أن كثيرا من المؤلفين حتى من كبار الصحابة و التابعين اعتنوا بجمع خطبه عليه السلام و كتبه و سائر كلماته، و قد ذكر عدة منها الاستاذ الشعراني في مقالته المفيدة القيمة على شرحنا هذا في أول المجلد الأول من تكملة المنهاج، و على شرح المولى صالح القزويني على نهج البلاغة بالفارسية، و كذا عد عدة كثيرة منها علي بن عبد العظيم التبريزي الخياباني في ص 349 من كتابه الموسوم بوقايع الأيام في أحوال شهر الصيام طبع إيران.

و قد التمس مني غير واحد من أصدقائي الاهتمام كل الاهتمام بذكر مدارك ما في النهج من الكتب الأقدمين الذين جمع الرضي كلماته عليه السلام منها و أوصاني بذلك مكررا، و أرجو من الله أن اجيب التماسهم بقدر الوسع بل الطاقة فاني لم آل جهدا إلى الان في ما لا بد منه في تفسير كلماته عليه السلام و ما يحتاج إليها من أراد أن يغوص في بحار معانيها لاقتناء دررها من السند و اللغة و الاعراب و نقد المعاني و نضد الحقائق في كل باب، و نقل الايات و الأخبار المناسبة في كل مقام بعون الله الفياض الوهاب.

و أما سند الكتاب المعنون و نقله بتمامه و نسخ اخرى منه:فقال الشيخ الأجل أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالمفيد المتوفى 413 ه في كتاب الجمل (ص 201 طبع النجف) في رواية عمر بن سعد عن يزيد بن الصلت، عن عامر الأسدي قال: إن عليا عليه السلام كتب بعد فتح البصرة مع عمر بن سلمة الأرحبي إلى أهل الكوفة: من عبد الله علي بن أبي طالب إلى قرضة بن كعب و من قبله من المسلمين، سلام عليكم، فاني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد فانا لقينا القوم الناكثين لبيعتنا المفرقين لجماعتنا الباغين علينا من امتنا فحاججنا هم إلى الله فنصرنا الله عليهم و قتل طلحة و الزبير و قد تقدمت إليهما بالنذر، و أشهدت عليهما صلحاء الامة و مكنتهما في البيعة فما أطاعا المرشدين و لا أجابا الناصحين، و لاذ أهل البغي بعائشة فقتل حولها جم لا يحصي عدد هم إلا الله، ثم ضرب الله وجه بقيتهم فأدبروا، فما كانت ناقة الحجر بأشأم منها على أهل ذلك المصر مع ما جاءت به من الحوب الكبير في معصيتها لربها و نبيها من الحرب و اغترار من اغتر بها و ما صنعته من التفرقة بين المؤمنين و سفك دماء المسلمين لا بينة و لا معذرة و لا حجة لها، فلما هزمهم الله أمرت أن لا يقتل مدبر، و لا يجهز على جريح، و لا يهتك ستر، و لا يدخل دار إلا باذن أهلها، و قد آمنت الناس و استشهد منا رجال صالحون، ضاعف الله لهم الحسنات و رفع درجاتهم، و أثابهم ثواب الصابرين، و جزاهم من أهل مصر عن أهل بيت‏ نبيهم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته و الشاكرين لنعمته، فقد سمعتم و أطعتم و دعيتم فأجبتم فنعم الاخوان و الأعوان على الحق أنتم، و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته، كتب عبد الله بن أبي رافع في رجب سنة ست و ثلاثين. انتهى.

بيان: عبد الله بن أبي رافع كان كاتبه عليه السلام.

ثم إن كتابه عليه السلام إليهم بعد فتح البصرة روي بوجه آخر أيضا رواها علم الهدى الشريف المرتضى في الشافي (ص 287، الطبع الناصري 1302) و الشيخ الطوسي في تلخيصه، و الشيخ المفيد في الجمل (ص 198) و في الارشاد (ص 123 طبع طهران 1377 ه)رووا عن الواقدي أنه عليه السلام كتب إلى أهل الكوفة بعد فتح البصرة:

بسم الله الرحمن الرحيم من علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة، سلام عليكم فاني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد فان الله حكم عدل لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و إذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له و ما لهم من دونه من وال، و إني اخبركم عنا و عمن سرنا إليه من جموع أهل البصرة و من سار إليه من قريش و غيرهم مع طلحة و الزبير بعد نكثهما صفقة أيمانهما، فنهضت من المدينة حين انتهى إلي خبرهم و ما صنعوه بعاملي عثمان بن حنيف حتى قدمت ذا قار فبعثت ابني الحسن و عمارا و قيسا، فاستنفرتهم لحق الله و حق رسوله و حقنا فأجابني أخوانكم سرعا حتى قدموا علي فسرت بهم و بالمسارعة إلى طاعة الله حتى نزلت ظهر البصرة فأعذرت بالدعاء و أقمت الحجة و أقلت العثرة و الزلة من أهل الردة من قريش و غيرهم، و استتبتهم عن نكثهم بيعتي و عهد الله لي عليهم فأبوا إلا قتالي و قتال من معي و التمادي في الغي، فناهضتهم بالجهاد و قتل من قتل منهم و ولى من ولى إلى مصرهم، فسألوني ما دعوتهم إليه من كف القتال فقبلت منهم و أغمدت السيوف عنهم و أخذت بالعفو فيهم و أجريت الحق و السنة بينهم و استعملت عليهم عبد الله بن العباس على البصرة، و أنا سائر إلى الكوفة إن شاء الله تعالى، و قدبعثت إليكم زجر بن قيس الجعفي لتسألوه يخبركم عنا و عنهم و ردهم الحق علينا و ردهم الله و هم كارهون، و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته، و كتب عبد الله بن أبي رافع في جمادى الاولى سنة ست و ثلاثين.

ففي الارشاد: ثم كتب عليه السلام بالفتح إلى أهل الكوفة- إلى أن قال: من جموع أهل البصرة و من تأشب إليهم من قريش (مكان و من سار إليه من قريش- كما في الجمل)- ثم نقل إلى قوله عليه السلام: و ولى من ولى إلى مصرهم، مع اختلاف يسير في بعض العبارات، و بعده: و قتل طلحة و الزبير علي نكثهما و شقاقهما و كانت المرأة عليهم أشأم من ناقة الحجر فخذلوا و أدبروا و تقطعت بهم الأسباب، فلما رأوا ما حل بهم سألوني العفو عنهم فقبلت منهم و غمدت- إلى آخره مع اختلاف قليل في بعض الألفاظ و الجمل.

و نقل الكتاب أبو جعفر الطبري في التاريخ (545 ج 3 طبع مصر 1357 ه) بالاجمال و الاختصار قال: ما كتب به علي بن أبي طالب من الفتح إلى عامله بالكوفة: كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد و طلحة قالا: و كتب علي بالفتح إلى عامله بالكوفة حين كتب في أمرها و هو يومئذ بمكة:

من عبد الله أمير المؤمنين أما بعد فانا التقينا في النصف من جمادى الاخرة بالخريبة فناء من أفنية البصرة فأعطاهم الله عز و جل سنة المسلمين و قتل منا و منهم قتلى كثيرة و اصيب ممن اصيب منا ثمامة بن المثنى و هند بن عمرو و علباء بن الهيثم و سيحان و زيد ابنا صوحان و محدوج، و كتب عبد الله بن أبي رافع و كان الرسول زفر بن قيس إلى الكوفة بالبشارة في جمادى الاخرة.

أقول: الظاهر أن الكتاب واحد و إنما روي بطرق مختلفة بعضه نقل في طريق و بعضه الاخر في طريق آخر، و روايته كذلك لا تدل على تعدد الكتاب إليهم بعد الفتح و ما وجدنا في كتب الاثار بعد الفخص و التتبع ما يدل على تعدده.

ثم إن محاسن هذا الكتاب كثيرة بل كله حسن، و اختيار بعضه و ترك الباقي‏ كما فعله السيد الرضي ليس بصواب و القول بعدم عثوره على الكتاب بتمامه لا يخلو من دغدغة.

كتابان آخران له عليه السلام‏

هذان الكتابان غير مذكورين في النهج و إنما نقلهما المفيد قدس سره في الجمل (ص 197) عن الواقدي أحدهما كتبه إلى أهل المدينة بعد فتح البصرة و ثانيهما إلى أم هاني بنت أبي طالب بعد الفتح أيضا.

أما الأول فاستدعى كاتبه عبد الله بن أبي رافع و قال: اكتب إلى أهل المدينة:

بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي بن أبي طالب: سلام عليكم فاني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو فان الله بمنه و فضله و حسن بلائه عندي و عندكم حكم عدل، و قد قال سبحانه في كتابه و قوله الحق: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و إذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له و ما لهم من دونه من وال‏ و إني مخبركم عنا و عمن سرنا إليه من جموع أهل البصرة و من سار إليهم من قريش و غيرهم مع طلحة و الزبير و نكثهما على ما قد علمتم من بيعتي و هما طائعان غير مكرهين فخرجت من عندكم بمن خرجت ممن سارع إلى بيعتي و إلى الحق حتى نزلت ذاقار فنفر معي من نفر من أهل الكوفة و قدم طلحة و الزبير البصرة و صنعا بعاملي عثمان بن حنيف ما صنعا، فقدمت إليهم الرسل و أعذرت كل الاعذار، ثم نزلت ظهر البصرة فأعذرت بالدعاء و قدمت الحجة و أقلت العثرة و الزلة و استتبتهما و من معهما من نكثهم بيعتي و نقضهما عهدي فأبوا إلا قتالي و قتال من معي و التمادي في الغي، فلم أجد بدا في مناصفتهم لي فناصفتهم بالجهاد، فقتل الله من قتل منهم ناكثا، و ولى من ولى منهم، و أغمدت السيوف عنهم و أخذت بالعفو فيهم و أجريت الحق و السنة في حكمهم و اخترت لهم عاملا استعملته عليهم و هو عبد الله بن عباس، و إني سائر إلى الكوفة إن شاء الله تعالى، و كتب عبد الله بن أبي رافع في جمادى الاولى سنة ست و ثلاثين من الهجرة.

و قال علم الهدى في الشافي: و روى الواقدي أيضا كتاب أمير المؤمنين عليه السلام‏ إلى أهل المدينة يتضمن مثل معاني كتابه إلى أهل الكوفة و قريبا من ألفاظه.

أقول: و لعل الوجه في عدم ذكر الرضي كتابه عليه السلام إلى أهل المدينة في النهج كان ذلك أعني أن كتابه إلى أهل المدينة كان قريبا من كتابه إلى أهل الكوفة في ألفاظه و معانيه.

أما الكتاب الثاني: فكتب عليه السلام إلى أم هاني بنت أبي طالب:

سلام عليك أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فانا التقينا مع البغاة و الظلمة في البصرة فأعطانا الله تعالى النصر عليهم بحوله و قوته، و أعطاهم سنة الظالمين فقتل كل من طلحة و الزبير و عبد الرحمن بن عتاب و جمع لا يحصى و قتل منا بنو مخدوع و ابنا صوحان و غلباء و هند و ثمامة فيمن يعد من المسلمين رحمهم الله- و السلام.

و لقد حان أن نرجع إلى تتميم واقعة الجمل وفاء بالعهد الذي عهدناه في الكتاب المتقدم، و ليعلم أولا أن غرضنا كله أن نأتي بالكتب و الخطب و الأشعار و الحكم التي صدرت منه عليه السلام على الترتيب الواقع في بدء واقعة الجمل إلى آخرها حتى نذكر سند ما في النهج على ما وجدنا طائفة منه في سالف الأيام، و اخرى حين شرح الكتاب بالتتبع و الفحص على قدر الوسع و الطاقة، و كذا نذكر في ذكر نحو هذه الوقائع ما لم يأت به في النهج من كلماته عليه السلام كما فعلنا في نقل واقعة صفين على اسلوب بديع بين فيه كثير ما في النهج، و ذكر طائفة من كلماته عليه السلام لم تذكر فيه مع فوائد غزيرة جليلة قد مناها في ذكر واقعة صفين، فنقول:

لما أتى أمير المؤمنين عليا عليه السلام الخبر و هو بالمدينة بأمر عائشة و طلحة و الزبير أنهم قد توجهوا نحو العراق. خرج يبادر و هو يرجو أن يدركهم و يردهم فلما انتهى إلى الربذة أتاه عنهم أنهم قد أمعنوا، فأقام بالربذة أياما و أتاه عن القوم أنهم يريدون البصرة فسرى بذلك عنه، و قال: إن أهل الكوفة أشد إلي حبا و فيهم رءوس العرب و أعلامهم، ثم دعا هاشم بن عتبة المرقال و كتب معه كتابا إلى أبي موسى الأشعري، و كان بالكوفة من قبل عثمان أن يوصل الكتاب إليه‏ ليستنفر الناس منها إلى الجهاد معه.

روى أبو مخنف، قال: حدثني الصعقب، قال: سمعت عبد الله بن جنادة يحدث أن عليا عليه السلام لما نزل الربذة بعث هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى أبي موسى الأشعري و هو الأمير يومئذ على الكوفة لينفر إليه الناس، و كتب إليه معه من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس (هو أبو موسى الأشعري) أما بعد فاني قد بعثت إليك هاشم بن عتبة لتشخص إلي من قبلك من المسلمين ليتوجهوا إلى قوم نكثوا بيعتي و قتلوا شيعتي و أحدثوا في الاسلام هذا الحدث العظيم، فأشخص بالناس إلي معه حين يقدم عليك فاني لم اولك المصر الذي أنت فيه و لم أقرك عليه إلا لتكون من أعواني على الحق و أنصاري على هذا الأمر، و السلام.

نقل هذا الكتاب أيضا في جمل المفيد (ص 115 طبع النجف)، و تاريخ أبي جعفر الطبري (ص 512 ج 3 طبع مصر 1357 ه)، إلا أن المفيد ذهب إلى أنه عليه السلام أرسل هاشم بالكتاب إلى أبي موسى من ذي قار، فانه رحمه الله قال: لما بلغ الربذة وجد القوم قد فاتوا فنزل بها قليلا، ثم توجه نحو البصرة حتى نزل بذي قار فأقام بها، ثم أرسل ذلك الكتاب مع هاشم، إلخ.و لكن على رواية أبي مخنف و ابن إسحاق و الطبري و غيرهم ما نقلناه و رتبناه.

فقدم هاشم بالكتاب على أبي موسى الأشعري، فدعا أبو موسى السائب بن مالك الأشعري فأقرأه الكتاب، و قال له: ما ترى؟ فقال له أبو السائب: اتبع ما كتب به إليك، فأبى ذلك و حبس الكتاب و بعث إلى هاشم يتوعده و يخوفه.

كتاب هاشم بن عتبة الى أمير المؤمنين عليه السلام من الكوفة

فقال السائب: فأتيت هاشم بن عتبة فأخبرته برأي أبي موسى فكتب هاشم إلى أمير المؤمنين عليه السلام: لعبد الله علي أمير المؤمنين من هاشم بن عتبة: أما بعديا أمير المؤمنين و إني قدمت بكتابك على امرء مشاق عاق بعيد الرحم ظاهر الغل و الشنان فتهددني بالسجن و خوفني بالقتل، و قد كتبت إليك هذا الكتاب مع المحل بن خليفة أخي طي و هو من شيعتك و أنصارك و عنده علم ما قبلنا فاسأله عما بدا لك و اكتب إلي برأيك، و السلام.

فلما قدم المحل بكتاب هاشم علي علي عليه السلام سلم عليه ثم قال: الحمد لله الذي أدى الحق إلى أهله و وضعه موضعه، فكره ذلك قوم قدو الله كرهوا نبوة محمد صلى الله عليه و آله ثم بارزوه و جاهدوه، فرد الله عليهم كيدهم في نحورهم، و جعل دائرة السوء عليهم، و الله يا أمير المؤمنين لنجاهدنهم معك في كل موطن حفظا لرسول الله صلى الله عليه و آله في أهل بيته إذ صاروا أعداء لهم بعده، فرحب به علي عليه السلام و قال له خيرا، ثم أجلسه إلى جانبه و قرأ كتاب هاشم و سأله عن الناس و عن أبي موسى الأشعري، فقال: و الله يا أمير المؤمنين ما أثق به و لا آمنه على خلافك إن وجد من يساعده على ذلك. فقال علي عليه السلام: و الله ما كان عندي بمؤتمن و لا ناصح، و لقد أردت عزله فأتاني الأشتر فسألني أن اقره و ذكر أن أهل الكوفة به راضون فأقررته.

كتاب على عليه السلام الى أبى موسى الاشعرى‏

ثم دعا عليه السلام عبد الله بن عباس و محمد بن أبي بكر و بعثهما إلى أبي موسى و كتب معهما:

من عبد الله علي أمير المؤمنين عليه السلام إلى عبد الله بن قيس: أما بعد يا ابن الحائك يا عاض إير أبيه، فو الله إني كنت لأرى أن بعدك من هذا الأمر الذي لم يجعلك الله له أهلا و لا جعل لك فيه نصيبا سيمنعك من رد أمري و الانتزاء علي، و قد بعثت إليك ابن عباس و ابن أبي بكر فخلهما و المصر و أهله و اعتزل عملنا مذؤما مدجورا، فان فعلت، و إلا فاني قد أمرتهما أن ينابذاك على سواء إن الله لا يهدي كيد الخائنين، فاذا ظهرا عليك قطعاك إربا إربا، و السلام على من شكر النعمة و وفى بالبيعة و عمل برجاء العاقبة.

أقول: هذا الكتاب غير مذكور في النهج و إنما ذكر فيه كتاب آخر منه عليه السلام إليه و هو الكتاب 63 منه و هو قوله عليه السلام: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، أما بعد فقد بلغني عنك قول هو لك و عليك، إلخ.

قال أبو مخنف: فلما أبطأ ابن عباس و ابن أبي بكر عن علي عليه السلام و لم يدر ما صنعا رحل عن الربذة إلى ذي قار فنزلها، فلما نزل ذا قار بعث إلى الكوفة الحسن ابنه عليه السلام و عمار بن ياسر و زيد بن صوحان و قيس بن سعد بن عبادة و معهم كتاب إلى الكوفة، فأقبلوا حتى كانوا بالقادسية، فتلقا هم الناس، فلما دخلوا الكوفة قرءوا كتاب علي عليه السلام و هو:من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين: أما بعد فاني خرجت مخرجي هذا إما ظالما، و إما مظلوما، و إما باغيا، و إما مبغيا علي، فأنشد الله رجلا بلغ كتابي هذا إلا نفر إلي، فان كنت مظلوما أعانني، و إن كنت ظالما استعتبني، و السلام.

أقول: أتى بهذا الكتاب الشريف الرضي في النهج مع اختلاف يسير و هو الكتاب 57 منه قوله: و من كتاب له عليه السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة، أما بعد فاني خرجت من حيي هذا، إلخ.

و كذا نقل هذا الكتاب أبو جعفر الطبري في التاريخ (ص 512 ج 3 طبع مصر 1357 ه) و بين النسخ اختلاف في الجملة و نذكرها في شرح الكتاب بعون الله الملك الوهاب.

فلما دخل الحسن بن علي عليهما السلام و عمار الكوفة اجتمع إليهما الناس، فقام الحسن عليه السلام، فاستنفر الناس و خطب خطبة رواها أبو مخنف على صورتين فاحداهما ما قال: حدثني جابر بن يزيد قال: حدثني تميم بن حذيم الناجي قال: قدم علينا الحسن بن علي عليهما السلام و عمار بن ياسر يستنفران الناس إلى علي عليه السلام و معهما كتابه، فلما فرغا من قراءة كتابه قام الحسن عليه السلام و هو فتى حدث و الله إني لأرثي له من حداثة سنه و صعوبة مقامه، فرماه الناس بأبصارهم و هم يقولون اللهم:سدد منطق ابن بنت نبينا، فوضع يده على عمود يتساند إليه و كان عليلا من شكوى به فقال‏:

خطبة الحسن بن على عليهما السلام فى الكوفة يستنفر الناس الى أبيه عليه السلام‏

الحمد لله العزيز الجبار، الواحد القهار، الكبير المتعال، سواء منكم من أسر القول و من جهر به و من هو مستخف بالليل و سارب بالنهار، أحمده على حسن البلاء، و تظاهر النعماء، و على ما أحببنا و كرهنا من شدة و رخاء، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أن محمدا عبده و رسوله، امتن علينا بنبوته، و اختصه برسالته، و أنزل عليه وحيه، و اصطفاه على جميع خلقه، و أرسله إلى الإنس و الجن حين عبدت الأوثان، و اطيع الشيطان، و جحد الرحمن، فصلى الله عليه و على آله، و جزاه أفضل ما جزى المسلمين، أما بعد فاني لا أقول لكم إلا ما تعرفون أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أرشد الله أمره، و أعز نصره، بعثني إليكم يدعو كم إلى الصواب، و إلى العمل بالكتاب، و الجهاد في سبيل الله، و إن كان في عاجل ذلك ما تكرهون، فان في آجله ما تحبون إن شاء الله، و لقد علمتم أن عليا صلى مع رسول الله صلى الله عليه و آله وحده و أنه يوم صدق به لفي عاشرة من سنه، ثم شهد مع رسول الله صلى الله عليه و آله جميع مشاهده و كان من اجتهاده في مرضاة الله و طاعة رسوله و آثاره الحسنة في الاسلام ما قد بلغكم و لم يزل رسول الله صلى الله عليه و آله راضيا عنه حتى غمضه بيده، و غسله وحده و الملائكة أعوانه و الفضل ابن عمه ينقل إليه الماء، ثم أدخله حفرته، و أوصاه بقضاء دينه و عداته و غير ذلك من اموره، كل ذلك من من الله عليه، ثم و الله ما دعا إلى نفسه، و لقد تداك الناس عليه تداك الإبل الهيم العطاش ورودها، فبايعوه طائعين، ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث أحدثه، و لا خلاف أتاه، حسدا له و بغيا عليه فعليكم عباد الله بتقوى الله و طاعته، و الجد و الصبر و الاستعانة بالله، و الخفوف إلى ما دعا كم إليه أمير المؤمنين عليه السلام عصمنا الله و إياكم بما عصم به أولياءه و أهل طاعته، و ألهمنا

و إياكم تقواه، و أعاننا و إياكم على جهاد أعدائه، و أستغفر الله العظيم لي و لكم ثم مضى إلى الرهبة فهيأ منزلا لأبيه أمير المؤمنين عليه السلام.

قال جابر: فقلت لتميم: كيف أطاق هذا الغلام ما قد قصصته من كلامه؟

فقال: و لما سقط عني من قوله أكثر و لقد حفظت بعض ما سمعت.

و أما صورتها الاخرى فروي عن موسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه أنه لما دخل الحسن عليه السلام و عمار الكوفة اجتمع إليهما الناس فقام الحسن عليه السلام فاستنفر الناس، فحمد الله و صلى على رسوله ثم قال:

أيها الناس إنا جئنا ندعوكم إلى الله و إلى كتابه و سنة رسوله و إلى أفقه من تفقه من المسلمين، و أعدل من تعدلون، و أفضل من تفضلون، و أوفى من تبايعون، من لم يعيه القرآن، و لم تجهله السنة، و لم تقعد به السابقة، إلى من قربه الله تعالى و رسوله قرابتين: قرابة الدين، و قرابة الرحم، إلى من سبق الناس إلى كل مأثرة، إلى من كفى الله به رسوله و الناس متخاذلون، فقرب منهم و هم متباعدون، و صلى معه و هم مشركون، و قاتل معه و هم منهزمون، و بارز معه و هم محجمون، و صدقه و هم يكذبون، إلى من لم ترد له راية، و لا تكافا له سابقة، و هو يسألكم النصر، و يدعوكم إلى الحق، و يأمر كم بالمسير إليه لتوازروه و تنصروه على قوم نكثوا بيعته و قتلوا أهل الصلاح من أصحابه، و مثلوا بعماله، و انتهبوا بيت ماله، فاشخصوا إليه، رحمكم الله، فمروا بالمعروف و انهوا عن المنكر و احضروا بما يحضر به الصالحون.

و نقل ابن قتيبة الدينوري في الإمامة و السياسة خطبته عليه السلام بوجه آخر قال:

(ص 67 ج 1 طبع مصر 1377 ه-. 1957 م) ثم قام الحسن بن علي عليهما السلام فقال:أيها الناس إنه قد كان من مسير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ما قد بلغكم، و قد أتيناكم مستنفرين، لأنكم جبهة الأنصار، و رءوس العرب، و قد كان من نقض طلحة و الزبير بعد بيعتهما و خروجهما بعائشة ما بلغكم، و تعلمون أن و هن النساء و ضعف رأيهن إلى التلاشي، و من أجل ذلك جعل الله الرجال قوامين على النساء و أيم الله لو لم ينصره منكم أحد لرجوت أن يكون فيمن أقبل معه من المهاجرين و الأنصار كفاية.

و نقل الخطبة في (جمل المفيد ص 117 طبع نجف) أيضا و نسخته قريبة من نسخة الامامة و السياسة.

و أقول: الظاهر أن تلك النسخ كلها كانت خطبة واحدة منه عليه السلام و هي كما قال تميم بن حذيم الناجي حفظ بعضها فريق، و حفظ طائفة منها فريق آخر فنقلوا ما حفظوا، أو اختار بعضهم بعضها اختصارا و ترك الاخر الاخر كذلك.

و لما فرغ الحسن بن علي عليهما السلام من خطبته قام بعده عمار فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ثم قال:

يا أيها الناس أخو نبيكم و ابن عمه يستنفر كم لنصر دين الله، و قد بلاكم الله بحق دينكم و حرمة امكم، فحق دينكم أوجب، و حرمته أعظم، أيها الناس عليكم بامام لا يؤدب، و فقيه لا يعلم، و صاحب بأس لا ينكل، و ذي سابقة في الاسلام ليست لأحد، و إنكم لو قد حضرتموه بين لكم أمركم إن شاء الله.

أقول: لقد مضى وجه قول عمار فيه عليه السلام عليكم بامام لا يؤدب في شرح الخطبة 236 ص 2 ج 16 من تكملة المنهاج.

ثم إن المفيد قدس سره نقل خطبة عمار بن ياسر في الجمل (ص 117 طبع النجف) تغاير الاولى، و نقلها ابن قتيبة في الامامة و السياسة على وجه تغايرهما، و لا بعد أن تكون خطبته أيضا قطعت و فرقت، و ذكرت في كتاب طائفة منها و في آخر اخرى منها.

ثم قام بعدهما قيس بن سعد فقال:

أيها الناس إن هذا الأمر لو استقبلنا به الشورى لكان علي أحق الناس به لمكانه من رسول الله صلى الله عليه و آله و كان قتال من أبى ذلك حلالا فكيف بالحجة على طلحة و الزبير و قد بايعاه طوعا ثم خلعا حسدا و بغيا، و قد جاءكم علي في المهاجرين و الأنصار، ثم أنشأ يقول:

رضينا بقسم الله إذ كان قسمناعليا و أبناء الرسول محمد
و قلنا لهم أهلا و سهلا و مرحبانمد يدينا من هدى و تودد
فما للزبير الناقض العهد حرمةو لا لأخيه طلحة فيه من يد
أتاكم سليل المصطفى و وصيه‏و أنتم بحمد الله عارضه الندى‏
فمن قائم يرجى بخيل إلى الوغى‏و ضم العوالي و الصفيح المهند
يسود من أدناه فغير مدلع‏و إن كان ما نفضيه غير مسود
فان يك ما نهوى فذاك نريده‏و إن تخط ما نهوى فغير تعمد

تذكرة: قد ذكرنا في المجلد 16 من تكملة المنهاج من ص 19 إلى ص 23 طائفة من أشعار الصحابة و التابعين في مدح أمير المؤمنين و تعريفه بأنه وصي رسول الله صلى الله عليه و آله و منها بيتان من قيس بن سعد هذا و قد قدمنا هنالك أن هذه الكلمة الصادرة من هؤلاء العظام مع قربهم بزمان رسول الله صلى الله عليه و آله بل إدراك كثير منهم إياه مما يعتنى بها و يبجلها من يطلب الحق و يبحث عنه، فراجع.

فلما فرغ القوم من كلامهم و سمع أبو موسى خطبتهم قام فصعد المنبر و قال:

الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد فجمعنا- إلى آخر ما نقلنا كلامه لأهل الكوفة و تثبيطه إياهم عن نصرة أمير المؤمنين علي عليه السلام في شرح الخطبة 236 في ص 6 من المجلد السادس عشر من تكملة المنهاج، و كذا احتجاج عمار بن ياسر رحمة الله عليهما عليه من كلامه فلا حاجة إلى الإعادة- فراجع.

ثم قام زيد بن صوحان، و بعده عبد الله بن عبد خير، و بعده عبد خير، ثم رجل آخر و خاصموا أبا موسى و احتجوا عليه و بخوه بفعاله و لاموه بمقاله و نهوه عن تثبيطه الناس عن نصرة أمير المؤمنين علي عليه السلام، نقل كلام كل واحد منهم المفيد رحمه الله في الجمل، ثم قال: و بلغ أمير المؤمنين ما كان من أمر أبي موسى و تخذيله الناس عن نصرته، فقام إليه مالك الأشتر «ره» فقال: يا أمير المؤمنين إنك قد بعثت إلى الكوفة رجلا قيل من العنت الان فلم أره حكم شيئا و هؤلاء اخلف من بعثت أن يستنيب لك الناس على ما تحب، و لست أدري ما يكون، فان رأيت جعلت فداك‏

أن تبعثني في إثرهم فان أهل الكوفة أحسن لي طاعة، و إن قدمت عليهم رجوت أن لا يخالفني أحد منهم.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: الحق بهم على اسم الله، فأقبل الأشتر حتى دخل الكوفة و قد اجتمع الناس بالمسجد الأعظم، فأخذ لا يمر بقبيلة فيها جماعة في مجلس أو مسجد إلا دعاهم و قال لهم: اتبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس فاقتحم و أبو موسى قائم في المسجد الأعظم يخطب الناس و يثبطهم عن نصرة علي عليه السلام و الحسن عليه السلام و عمار و قيس يقولون له: اعتزل عملنا لا ام لك، و تنح عن منبرنا.

فبيناهم في الكلام و المشاجرة إذ دخل غلمان أبي موسى ينادون يا أبا موسى هذا الأشتر اخرج من في المسجد، و دخل عليه أصحاب الأشتر فقالوا له: اخرج من المسجد يا ويلك أخرج الله روحك إنك و الله لمن المنافقين، فخرج أبو موسى و أنفذ إلى الأشتر أن أجلني هذه العشية، قال: قد أجلتك و تبيت في القصر هذه الليلة و اعتزل ناحية عنه، و دخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى فأتبعهم الأشتر بمن أخرجهم من القصر و قال لهم: إني أجلته، فكف الناس عنه.

قال أبو جعفر الطبري في التاريخ: و أتت الأخبار عليا عليه السلام باختلاف الناس بالكوفة، فقال للأشتر: أنت شفعت في أبي موسى أن اقره على الكوفة، فاذهب فاصلح ما أفسدت، فقام الأشتر فشخص نحو الكوفة، فأقبل حتى دخلها و الناس في المسجد الأعظم، فجعل لا يمر بقبيلة إلا دعاهم، و قال: اتبعوني إلى القصر حتى وصل القصر فاقتحمه و أبو موسى يومئذ يخطب الناس على المنبر و يثبطهم و عمار يخاطبه و الحسن عليه السلام يقول: اعتزل عملنا و تنح عن منبرنا لا ام لك.

ثم صعد الحسن بن علي عليهما السلام ثانيا و بعده عمار بن ياسر (ره) و خطبنا خطبة ثم سعد المنبر الأشتر رضوان الله عليه و خطب خطبة، ثم قام حجر بن عدي الكندي رحمه الله تعالى و خطب خطبة، نقل خطبهم الشيخ الأجل المفيد (ره) في الجمل استنفر كل واحد منهم الناس إلى أمير المؤمنين عليه السلام و الجهاد في سبيل الله،فأجابهم الناس بالسمع و الطاعة.

قال المفيد في الجمل نقلا عن الواقدي: و كان أمير المؤمنين عليه السلام كتب مع ابن عباس كتابا إلى أبي موسى و غلظه فقال ابن عباس: قلت في نفسي أقدم على رجل و هو أمير بمثل هذا الكتاب أن لا ينظر في كتابي و نظرت أن أشق كتاب أمير المؤمنين عليه السلام، و كتبت من عندي كتابا عنه لأبي موسى: أما بعد فقد عرفت مودتك إيانا أهل البيت و انقطاعك إلينا و إنما نرغب إليك لما نعرف من حسن رأيك فينا، فاذا أتاك كتابي فبايع لنا الناس و السلام. فدفعه إليه، فلما قرأه أبو موسى قال لي: أنا الأمير بل و أنت قلت الأمير فدعا الناس إلى بيعة علي عليه السلام فلما بايع قمت و صعدت المنبر فرام، انزالى منه فقلت: أنت تنزلني عن المنبر و أخذت بقائم سيفي فقلت: اثبت مكانك و الله لأن نزلت إليك هذبتك به، فلم يبرح فبايعت الناس لعلي عليه السلام و خلعت أبا موسى في الحال و استعملت مكانه قرضة بن عبد الله الأنصاري، و لم أبرح من الكوفة حتى سيرت لعلي عليه السلام في البر و البحر من أهلها سبعة آلاف رجل، و لحقته بذي قار قال: و قد سار معه من جبال طي و غيرها ألفا رجل.

ظهور معجزة من أمير المؤمنين عليه السلام باخباره بالغيب‏

قد تظافرت الأخبار و تناصرت الاثار من الفريقين أن أمير المؤمنين عليه السلام أخبر الناس في ذي قار بأن رجالا من قبل الكوفة يأتونه لنصرته و يبايعونه على الموت، و إنما اختلفت تلك الروايات في العد: الذي أخبر عليه السلام به.

ففي الارشاد للمفيد قدس سره (ص 149 طبع طهران 1377 ه): قال عليه السلام بذي قار و هو جالس لأخذ البيعة: يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون رجلا و لا ينقصون رجلا يبايعونني على الموت، قال ابن عباس: فجزعت لذلك و خفت أن ينقص القوم عن العدد أو يزيدون عليه فيفسد الأمر علينا و لم أزل مهموما دأبي إحصاء القوم حتى ورد أوائلهم فجعلت أحصيهم فاستوفيت عددهم تسعمائة و تسعة و تسعون رجلا، ثم انقطع مجي‏ء القوم فقلت: إنا لله و إنا إليه راجعون ما ذا حمله على ما قال، فبينما أنا مفكر في ذلك إذ رأيت شخصا قد أقبل حتى إذا دنى و إذا هو رجل عليه قباء صوف معه سيفه و ترسه و أدواته، فقرب من أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: امدد يدك ابايعك، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: على م تبايعني؟ قال:

على السمع و الطاعة و القتال بين يديك حتى أموت أو يفتح الله عليك، فقال عليه السلام:

ما اسمك؟ قال: اويس، قال: أنت اويس القرني؟ قال: نعم، قال: الله أكبر أخبرني حبيبي رسول الله صلى الله عليه و آله أني أدرك رجلا من امته يقال له: اويس القرني يكون من حزب الله و رسوله يموت على الشهادة يدخل في شفاعته مثل ربيعة و مضر قال ابن عباس: فسرى و الله عني.

و قال في الجمل: روى نصر بن عمرو بن سعد عن الأحلج، عن زيد بن علي قال: لما أبطأ على علي عليه السلام خبر أهل البصرة و نحن في فلاة قال عبد الله بن عباس:

فأخبرت عليا بذلك فقال لي: اسكت يا ابن عباس، فوالله لتأتينا في هذين اليومين من الكوفة ستة آلاف و ستمائة رجل و ليغلبن أهل البصرة و ليقتلن طلحة و الزبير فوالله إنني أستشرف الأخبار و أستقبلها حتى إذا أتى راكب فاستقبلته و استخبرته فأخبرني بالعدة التي سمعتها من علي عليه السلام لم تنقص رجلا واحدا.

و قال أبو جعفر الطبري في التاريخ (ص 513 ج 3 طبع مصر 1357 ه):

حدثني عمر قال: حدثنا أبو الحسن قال: حدثنا أبو مخنف، عن جابر، عن الشعبي عن أبي الطفيل قال: قال علي عليه السلام يأتيكم من الكوفة اثنا عشر ألف رجل و رجل فقعدت على نجفة ذي قار فأحصيتهم، فما زادوا رجلا و لا نقصوا رجلا.

ثم قال: حدثني عمر قال: حدثنا أبو الحسن، عن بشير بن عاصم، عن ابن أبي ليلى، عن أبيه قال: خرج إلى علي عليه السلام اثنا عشر ألف رجل و هم أسباع على قريش و كنانة و أسد إلخ.

و روى أبو مخنف كما في شرح الفاضل الشارح المعتزلي (ص 102 ج 1 طبع طهران 1304 ه الخطبة 33) عن الكلبي، عن أبي صالح، عن زيد بن علي بن عباس‏ قال: لما نزلنا مع علي عليه السلام ذا قار قلت: يا أمير المؤمنين ما أقل من يأتيك من أهل الكوفة فيما أظن؟ فقال: و الله ليأتيني منهم ستة آلاف و خمسة و ستون رجلا لا يزيدون و لا ينقصون، قال ابن عباس: فدخلني و الله من ذلك شك شديد في قوله و قلت في نفسي: و الله إن قدموا لأعدنهم.

قال أبو مخنف: فحدث ابن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار قال: نفر إلى علي عليه السلام إلى ذي قار من الكوفة في البحر و البر ستة آلاف و خمسمائة و ستون رجلا أقام علي عليه السلام بذي قار خمسة عشر يوما حتى سمع صهيل الخيل و شحيج البغال حوله، فلما ساربهم منقلة قال ابن عباس: و الله لأعدنهم فان كانوا كما قال و إلا أتممتهم من غير هم فان الناس قد كانوا سمعوا قوله، فعرضتهم فوالله ما وجدتهم يزيدون رجلا و لا ينقصون رجلا، فقلت: الله أكبر صدق الله و رسوله، ثم سرنا.

و قال المسعودي في مروج الذهب: أتاه عليه السلام من أهل الكوفة نحو من سبعة آلاف و قيل ستة آلاف و خمسمائة و ستون رجلا، و قال: قتل من أصحاب علي عليه السلام في وقعة الجمل خمسة آلاف.

و الأخبار الواردة في العدة التي خرجوا مع علي عليه السلام من المدينة و في أنه عليه السلام سار من ذي قار قاصدا البصرة في اثنى عشر ألف، و في عدد القتلى من أصحابه عليه السلام و غيرها لا يناسب العدد الذي ذكره المفيد في الارشاد، و لم نر مع كثرة فحصنا في الاثار من يوافقه في نقل ذلك المقدار.

عدة خطب خطب بها أمير المؤمنين عليه السلام فى ذى قار و تحقيق أنيق فى سند عدة خطب مذكورة فى النهج و بيان أصلها و لم شعثها

(1) قال المفيد في الإرشاد (ص 119 طبع طهران 1377 ه) و لما نزل بذي قار أخذ البيعة على من حضره ثم تكلم فأكثر من الحمد لله و الثناء عليه الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و آله ثم قال:

قد جرت امور صبرنا عليها و في أعيننا القذى تسليما لأمر الله تعالى فيما امتحننا به، و رجاء الثواب على ذلك، و كان الصبر عليها أمثل من أن يتفرق المسلمون و تسفك دماؤهم، نحن أهل بيت النبوة و عترة الرسول و أحق الخلق بسلطان الرسالة و معدن الكرامة التي ابتدأ الله بها هذه الامة، و هذا طلحة و الزبير ليسا من أهل النبوة و لا من ذرية الرسول حين رأيا أن الله قد رد علينا حقنا بعد أعصر، فلم يصبرا حولا واحدا ولا شهرا كاملا، حتى و ثبا على دأب الماضين قبلهما ليذهبا بحقي و يفرقا جماعة المسلمين عني، ثم دعا عليهما.

(2) قال أبو جعفر الطبري في التاريخ (ص 501 ج 3 طبع مصر 1357 ه):كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي قال: لما التقوا بذي قار تلقاهم علي في اناس فيهم ابن عباس فرحب بهم و قال:

يا أهل الكوفة أنتم وليتم شوكة العجم و ملوكهم و فضضتم جموعهم حتى صارت إليكم مواريثهم، فأغنيتم حوزتكم و أعنتم الناس على عدوهم، و قد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فان يرجعوا فذاك ما نريد، و إن يلجوا داريناهم بالرفق، و بايناهم حتى يبدءونا بظلم، و لن ندع أمرا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله، و لا قوة إلا بالله. أقول: هذه الخطبة و التي قبلها ما ذكرتا في النهج و يمكن أن يكون جميعها خطبة واحدة فتفرقت باختلاف الروايات.

(3) و قال الواقدي كما في جمل المفيد: لما صار أهل الكوفة إلى ذي قار و لقوا عليا عليه السلام بها رحبوا به و قالوا: الحمد لله الذي خصنا بمودتنا و أكرمنا بنصرتك، فجزاهم خيرا، ثم قام عليه السلام و خطبهم فحمد الله و أثنى عليه و ذكر النبي صلى الله عليه و آله فصلى عليه ثم قال:

يا أهل الكوفة إنكم من أكرم المسلمين و أعدلهم سنة، و أفضلهم في الاسلام سهما، و أجودهم في العرب مركبا و نصابا، حربكم بيوتات العرب و فرسانهم و مواليهم، أنتم أشد العرب ودا للنبي صلى الله عليه و آله، و إنما اخترتكم ثقة بعد الله لما بذلتم لي أنفسكم عند نقض طلحة و الزبير بيعتي و عهدي، و خلافهما طاعتي و إقبالهما بعائشة لمخالفتي و مبارزتي، و إخراجهما لها من بيتها حتى أقدماها البصرة، و قد بلغني أن أهل البصرة فرقتان: فرقة الخير و الفضل و الدين قد اعتزلوا و كرهوا ما فعل طلحة و الزبير، ثم سكت عليه السلام فأجابه أهل الكوفة: نحن أنصارك و أعوانك على عدوك و لو دعوتنا إلى أضعافهم من الناس احتسبنا في ذلك الخير و رجوناه فرد عليهم خيرا.

أقول: هذه الخطبة ليست بمذكورة في النهج و قد رواها المفيد قدس سره في الارشاد أيضا (ص 119 طبع طهران 1377 ه) و بين النسختين اختلاف في الجملة و كأن ما في الارشاد أحكم و أقوم.

قال رحمه الله: و قد روى عبد الحميد بن عمران العجلي، عن سلمة بن كهيل قال: لما التقى أهل الكوفة أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار رحبوا به ثم قالوا: الحمد لله الذي خصنا بجوارك و أكرمنا بنصرتك، فقام أمير المؤمنين عليه السلام فيهم خطيبا فحمد الله و أثنى عليه و قال:

يا أهل الكوفة إنكم من أكرم المسلمين، و أقصدهم تقويما، و أعدلهم سنة و أفضلهم سهما في الاسلام، و أجودهم في العرب مركبا و نصابا، أنتم أشد العرب ودا للنبي صلى الله عليه و آله و أهل بيته، و إنما جئتكم ثقة بعد الله بكم للذي بذلتم من أنفسكم عند نقض طلحة و الزبير و خلفهما طاعتي، و إقبالهما بعائشة للفتنة و إخراجهما إياها من بيتها حتى أقدماها البصرة فاستغووا طغامها و غوغاها، مع أنه قد بلغني أن أهل الفضل منهم و خيارهم في الدين قد اعتزلوا و كرهوا ما صنع طلحة و الزبير ثم سكت عليه السلام، فقال أهل الكوفة: نحن أنصارك و أعوانك على عدوك، و لو دعوتنا إلى أضعافهم من الناس احتسبنا في ذلك الخير و رجوناه، فدعا لهم أمير المؤمنين عليه السلام و أثنى عليهم ثم قال:

لقد علمتم معاشر المسلمين أن طلحة و الزبير بايعاني طائعين غير مكرهين راغبين ثم استأذناني في العمرة فأذنت لهما فسارا إلى البصرة فقتلا المسلمين و فعلاالمنكر، اللهم إنهما قطعاني و ظلماني و نكثا بيعتي و ألبا الناس علي، فاحلل ما عقدا، و لا تحكم ما أبرما، و أرهما المساءة فيما عملا.

(4) قال المفيد ره في الجمل (ص 128 طبع النجف) نقلا عن الواقدي أيضا:لما أراد عليه السلام المسير من ذي قار تكلم فحمد الله و أثنى عليه ثم قال:

إن الله عز و جل بعث محمدا صلى الله عليه و آله للناس كافة و رحمة للعالمين. فصدع بما امر به، و بلغ رسالات ربه، فلما ألم به الصدع، و رتق به الفتق، و آمن به السبيل و حقن به الدماء، و ألف بين ذوي الأحقاد و العداوة الواغرة في الصدور، و الضغائن الكامنة في القلوب فقبضه الله عز و جل إليه حميدا، و قد أدى الرسالة، و نصح للامة، فلما مضى صلى الله عليه و آله لسبيله دفعنا عن حقنا من دفعنا، و ولوا من ولوا سوانا ثم وليها عثمان بن عفان فنال منكم و نلتم منه حتى إذا كان من أمره ما كان أتيتموني فقلتم: بايعنا، فقلت لكم: لا أفعل، فقلتم: بلى لا بد من ذلك، فقبضتم يدي فبسطتموها، و تداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى لقد خفت أنكم قاتلي أو بعضكم قاتل بعض، فبايعتموني و أنا غير مسرور بذلك و لا جذل، و قد علم الله سبحانه أني كنت كارها للحكومة بين امة محمد، و لقد سمعته يقول: ما من وال يلي شيئا من أمر امتي إلا أتى الله يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رءوس الخلائق، ثم ينشر كتابه: فان كان عادلا نجا، و إن كان جائرا هوى.

ثم اجتمع علي ملاكم و بايعني طلحة و الزبير و أنا أعرف الغدر في وجههما و النكث في عينيهما ثم استأذناني في العمرة فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان، فسارا إلى مكة و استخفا عائشة و خدعاها. و شخص معهما أبناء الطلقاء، فقدموا البصرة هتكوا بها المسلمين و فعلوا المنكر، و يا عجبا لاستقامتهما لأبي بكر و عمر و بغيهما علي و هما يعلمان أني لست دون أحدهما، و لو شئت أن أقول لقلت، و لقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتابا يخدعهما فيه، فكتماه عني و خرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان، و الله ما أنكرا علي منكرا، و لا جعلا بيني و بينهما نصفا، و أن دم‏

عثمان لمعصوب بهما و مطلوب فيهما، يا خيبة الداعي إلى ما دعى، و بما ذا اجيب و الله إنهما لفي ضلالة صماء، و جهالة عمياء، و إن الشيطان قد دير لهما حزبه و استجلب منهما خيله و رجله، ليعيد الجور إلى أوطانه و يرد الباطل إلى نصابه.

ثم رفع يديه و قال: اللهم إن طلحة و الزبير قطعاني و ظلماني و نكثا بيعتي فاحلل ما عقدا، و انكث ما أبرما، و لا تغفر لهما أبدا، و أرهما المساءة فيما عملا و أملا.

و قد نقل هذه الخطبة المفيد رحمه الله في الارشاد أيضا، و الطبرسي رحمه الله في الاحتجاج و بين النسخ اختلاف في الجملة و ما في الارشاد أمتن و أتقن.

قال رحمه الله (117 طبع طهران 1377 ه): و من كلامه عليه السلام عند نكث طلحة و الزبير بيعته و توجههما إلى مكة للاجتماع مع عائشة في التأليب عليه و التأليف على خلافه ما حفظه العلماء عنه عليه السلام أنه بعد أن حمد الله و أثنى عليه قال:

أما بعد فان الله بعث محمدا صلى الله عليه و آله للناس كافة، و جعله رحمة للعالمين، فصدع بما امر به، و بلغ رسالات ربه، فلم به الصدع، و رتق به الفتق‏، و آمن به السبيل و حقن به الدماء، و ألف به بين ذوي‏ الاحن و العداوة و الوغر في الصدور، و الضغائن‏ الراسخة في القلوب‏، ثم قبضه الله إليه حميدا لم يقصر في الغاية التي إليها أدى الرسالة، و لا بلغ شيئا كان في التقصير عنه القصد، و كان من بعده ما كان من التنازع في الامرة، فتولى أبو بكر و بعده عمر، ثم تولى عثمان، فلما كان من أمره ما عرفتموه أتيتموني فقلتم: بايعنا، فقلت: لا أفعل، فقلتم: بلى، فقلت: لا و قبضت‏ يدي‏ فبسطتموها، و نازعتكم‏ فجذبتموه، و تدا ككتم علي تداك الابل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى‏ ظننت أنكم قاتلي، و أن بعضكم قاتل بعضا لدي فبسطت يدي فبايعتموني مختارين، و بايعني في أولكم طلحة و الزبير طائعين غير مكرهين، ثم لم يلبثا أن استأذناني في العمرة، و الله يعلم أنهما أرادا الغدرة، فجددت عليهما العهد في الطاعة، و أن لا يبغيا الامة الغوائل، فعاهداني ثم لم يفيا لي. و نكثا بيعتي و نقضا عهدي، فعجبا لهما من انقيادهما لأبي بكر و عمر، و خلافهما لي، و لست بدون أحد الرجلين، و لو شئت أن أقول لقلت اللهم احكم عليهما بما صنعا في حقي و صغرا من أمرى و ظفرني بهما.

أقول: الخطبة 227 من النهج كأنها جزء هذه الخطبة حيث قال عليه السلام:و بسطتم يدي فكففتها، و مددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداك الابل الهيم على حياضها يوم ورودها. إلخ. و انما تغايرها في قليل من العبارات. نعم الخطبة 54 منه و هى قوله عليه السلام: فتداكوا على تداك الإبل الهيم يوم ورودها قد أرسلها راعيها و خلعت مثانيها- إلخ. يشبه أن تكون جزء خطبة اخرى و إن كانت تشابهها في بعض العبارات و الجمل، كما أن ذيل كلامه عليه السلام و هو الكلام 135 من باب الخطب أوله: ما أنكروا على منكرا- إلخ تشابه كثيرا من فقرات هذه الخطبة و لا يبعد أن تكونا جزئين من هذه الخطبة.

و ليعلم أنا قد قدمنا في شرح الخطبة 229 و هي قوله عليه السلام: (فصدع بما امر و بلغ رسالة ربه فلم الله به الصدع و رتق به الفتق‏- إلخ) أنها لجزء خطبة و حكمنا بذلك بالحدس و الفراسة لما قلنا هنالك (ص 19 ج 15 تكملة المنهاج) أنا و إن فحصنا و تتبعنا في مظانها لم نظفر بها و بحمد الله تعالى أصاب حدسنا حيث أصبناها في جمل المفيد و إرشاده و احتجاج الطبرسي، و لا يخفى أنها لجزء من هذه الخطبة المنقولة عن الواقدي في جمل المفيد و الارشاد و قد قال الرضي رحمه الله ثمة: إنه عليه السلام خطبها بذي قار و هو متوجه إلى البصرة ذكرها الواقدي في كتاب الجمل و لم يتعرض أحد من الشراح لذلك مع أن من أهم ما يجب عليهم في شرح كلامه عليه السلام تحقيق أمثال هذه الأمور، فتحصل مما ذكرنا أن الخطبة 227 من النهج و الخطبة 229 منه جميعا بعض هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين عليه السلام في ذي قار، و أن الخطبة 54 و 135 أيضا يمكن أن تكونا جزئين منها.

ثم اعلم أن ذيل الخطبة المذكورة نقله الطبري في التاريخ (ص 495 ج 3 طبع مصر 1357 ه) عنه عليه السلام قاله لعثمان بن حنيف في الربذة، و قد أتاه عثمان من‏ البصرة لما صنع الناكثون به ما صنعوا كما سنذكره بالاختصار.

قال الطبري: حدثني عمر قال: حدثنا أبو الحسن عن أبي محمد عن عبد الله ابن عمير عن محمد ابن الحنفية قال: قدم عثمان بن حنيف على علي عليه السلام بالربذة و قد نتفوا شعر رأسه و لحيته و حاجبيه فقال: يا أمير المؤمنين بعثتني ذا الحية و جئتك أمرد قال، أصبت أجرا و خيرا إن الناس وليهم قبلي رجلان فعملا بالكتاب، ثم وليهم ثالث فقالوا و فعلوا، ثم بايعوني و بايعني طلحة و الزبير ثم نكثا بيعتي و ألبا الناس علي، و من العجب انقيادهما لأبي بكر و عمرو خلافهما علي، و الله إنهما ليعلمان أني لست بدون رجل ممن قد مضى، اللهم فاحلل ما عقدا، و لا تبرم ما قد أحكما في أنفسهما و أرهما المساءة فيما عملا.

(5) الخطبة التي نقلناها في ذيل شرح الخطبة 229 من النهج عن الكافى (ص 19 ج 15 تكملة المنهاج) و هي لم تذكر بتمامها في النهج كما قلنا ثم و هي الخطبة 145 من النهج أولها: فبعث محمدا صلى الله عليه و آله بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته «إلخ» و إن كان بين نسخة النهج و بين نسخة الكافي اختلاف في الجملة في بعض الكلمات و الجمل، و لكنهما خطبة واحدة بلا ارتياب كما يعلم بأدنى تأمل و نظر متى قوبلت النسختان.

و كذا الخطبة 237 من النهج يذكر عليه السلام فيها آل محمد صلى الله عليه و آله بقوله: هم عيش العلم و موت الجهل يخبركم حلمهم عن علمهم «إلخ» هي ذيل الخطبة 145 من النهج أعني ذيل تلك الخطبة المنقولة عن الكافي بلا كلام.

فتحصل أن الخطبة 145 من النهج و الخطبة 237 منه واحدة و الخطبة بتمامها و سندها هو الذي نقلناها عن الكافي و رواها غير الكليني بسند آخر أيضا خطب بها عليه السلام في ذي قار كما قدمنا.

ثم إن الرضي رضوان الله عليه لم يتعرض في كلا الموضعين من النهج لبيان الخطبة بأنه عليه السلام أين خطبها أولا، و جعل الخطبة في موضع ثم ذيلها في موضع آخر ثانيا.

(6) الخطبة 33 التي ذكرها الرضي في النهج قال رحمه الله: و من خطبة له عند خروجه لقتال أهل البصرة، قال عبد الله بن عباس: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار و هو يخصف نعله «إلخ».

و هذه الخطبة نقلها المفيد رحمه الله في الارشاد (ص 118 طبع طهران 1377 ه) و قال: إنه عليه السلام خطب القوم بها في الربذة لا في ذي قار كما في النهج، على أن بين النسختين اختلاف في الجملة، أما ما في النهج فلا حاجة الى تسويده، و أما ما في الارشاد فقال:

و لما توجه أمير المؤمنين عليه السلام إلى البصرة نزل الربذة فلقيه بها آخر الحاج فاجتمعوا ليسمعوا من كلامه و هو في خبائه، قال ابن عباس رضي الله عنه: فأتيته فوجدته بخصف نعلا فقلت له: نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تصنع فلم يكلمني حتى فرغ من نعله ثم ضمها إلى صاحبتها و قال لي: قومهما، فقلت:

ليس لهما قيمة، قال: على ذاك قلت: كسر درهم قال: الله لهما أحب إلي من أمركم هذا إلا أن اقيم حقا أو أدفع باطلا، قلت: إن الحاج قد اجتمعوا ليسمعوا من كلامك فتأذن لي ان أتكلم فان كان حسنا كان منك و إن كان غير ذلك كان مني؟ قال: لا أنا أتكلم ثم وضع يده على صدري و كان شثن الكفين فألمني، ثم قام فأخذت بثوبه و قلت: نشدتك الله و الرحم قال: لا تنشدني ثم خرج فاجتمعوا عليه فحمد الله و أثنى عليه ثم قال:

أما بعد، فان الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه و آله و ليس في العرب أحد يقرأ كتابا و لا يدعي نبوة، فساق الناس‏ إلى‏ منجاتهم‏، أم و الله ما زلت في ساقتها ما غيرت و لا بدلت، و لا خنت حتى تولت بحذافيرها، ما لي و لقريش، أم و الله لقد قاتلتهم كافرين و لا قاتلنهم مفتونين، و أن مسيري هذا عن عهد إلي فيه، أم و الله لأبقرن الباطل حتى يخرج الحق من خاصرته، ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا و أنشد:

ذنب لعمري شربك المحض خالصاو أكلك بالزبد المقشرة التمرا

 

و نحن و هبناك العلاء و لم تكن‏عليا و حطنا حولك الجرد و السمرا

انتهى ما في الإرشاد.

ثم إن الخطبة 102 من النهج لقريبة منها، أولها: فان الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه و آله و ليس أحد من العرب يقرأ كتابا اه، و قال الرضي رضي الله عنه: و قد تقدم مختارها بخلاف هذه الرواية.

أقول: و أراد ما تقدم مختارها هو الخطبة 33 التي نقلناها عنه و عن المفيد فتحصل أن الخطبة 33 و الخطبة 102 من النهج واحدة و إنما الاختلاف في الرواية و هي التي أتى بها المفيد في الارشاد، و الحمد لله على إنعامه و إفضاله.

و بالجملة لما فرغ عليه السلام من الخطبة قام الأشتر رضي الله عنه فقال: خفض عليك يا أمير المؤمنين، فوالله ما أمر طلحة و الزبير علينا بمحيل، لقد دخلا في هذا الأمر اختيارا ثم فارقانا على غير جور عملناه، و لا حدث في الإسلام أحدثناه ثم أقبلا يثيران الفتنة علينا تائهين جائرين ليس معهما حجة ترى، و لا أثر يعرف لقد لبسا العار، و توجها نحو الديار، فان زعما أن عثمان قتل مظلوما فليستقد آل عثمان منهما، فأشهد أنهما قتلاه، و اشهد الله يا أمير المؤمنين لئن لم يدخلا فيما خرجا منه و لم يرجعا إلى طاعتك و ما كانا عليه لنلتحقهما بابن عفان.

و قام أبو الهيثم بن التيهان و كذا عدي بن حاتم و قالا قريبا مما قال الأشتر، نقل قولهما المفيد في الجمل.

و قام أبو زينب الأزدي فقال: و الله إن كنا على الحق انك لأهدانا سبيلا و أعظمنا في الخير نصيبا، و إن كنا على الضلالة- العياذ بالله أن نكون عليه- لأنك أعظمنا وزرا و أثقلنا ظهرا، و قد أردنا المسير إلى هؤلاء القوم، و قطعنا منهم الولاية و أظهرنا منهم البراءة، و ظاهرناهم بالعداوة، و نريد بذلك ما يعلمه الله عز و جل، و أنا ننشدك الله الذي علمك ما لم نكن نعلم، ألسنا على الحق و عدونا على الضلال؟

فقال عليه السلام: أشهد لئن خرجت لدينك ناصرا صحيح النية قد قطعت منهم الولاية، و أظهرت منهم البراءة كما قلت إنك لفي رضوان الله، فابشر يا أبا زينب فانك و الله‏ على الحق فلا تشك، فانك إنما تقاتل الأحزاب فأنشأ أبو زينب يقول:

سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي‏فإن خير الناس أتباع علي‏
هذا أوان طاب سل المشرفي‏وقودنا الخيل و هز السمهر

و في جمل المفيد: لما استقر أمر أهل الكوفة على النهوض لأمير المؤمنين عليه السلام و خف بعضهم لذلك، بادر ابن عباس و من معه من الرسل فيمن اتبعهم من أهل الكوفة إلى ذي قار للالتحاق بأمير المؤمنين عليه السلام و إخباره بما عليه القوم من الجد و الاجتهاد في طاعته، و أنهم لاحقون به غير متأخرين عنه، و إنما تقدمهم ليستعد للسفر و للحرب، و قد كان استخلف فرضة بن كعب الأنصاري على الكوفة، و يحث الناس على اللحاق به.

فورد على أمير المؤمنين عليه السلام كتابا قد كتب اليه من البصرة ما صنعه القوم بعامله عثمان بن حنيف رحمه الله و ما استحلوه من الدماء و نهب الأموال و قتل من قتلوه من شيعته و أنصاره و ما أثاروه من الفتنة فيها فوجده ابن عباس و قد أحزنه ذلك و غمه و أزعجه و أقلقه، فأخبروه بطاعة أهل الكوفة، و وعده منهم بالنصرة، فسر عند ذلك و أقام ينتظر أهل الكوفة و المدد الذي ينتصر بهم على عدوه.

دخول الناكثين البصرة و الحرب بينهم و بين عثمان بن حنيف عامل أمير المؤمنين عليه السلام‏

قال الدينوري في الإمامة و السياسة: لما نزل طلحة و الزبير و عائشه البصرة اصطف لها الناس فى الطريق- إلى أن قال: أتاهم رجل من أشراف البصرة بكتاب كان كتبه طلحة في التأليب على قتل عثمان، فقال لطلحة: هل تعرف هذا الكتاب؟

قال: نعم. قال: فما ردك على ما كنت عليه؟ و كنت أمس تكتب إلينا تؤلبنا على قتل عثمان و أنت اليوم تدعونا إلى الطلب بدمه، و قد زعمتما أن عليا دعا كما إلى أن تكون البيعة لكما قبله إذ كنتما أسن منه، فأبيتما إلا أن تقدماه لقرابته و سابقته، فبايعتماه فكيف تنكثان بيعتكما بعد الذي عرض عليكما؟.

قال طلحة: دعانا إلى البيعة بعد أن اغتصبها و بايعه الناس، فعلمنا حين عرض‏ علينا أنه غير فاعل، و لو فعل أبى ذلك المهاجرون و الأنصار، و خفنا أن نرد بيعته فنقتل، فبايعناه كارهين.

قال: فما بدا لكما في عثمان؟ قال: ذكرنا ما كان من طعننا عليه و خذلاننا إياه فلم نجد من ذلك مخرجا إلا الطلب بدمه. قال: ما تأمر انني به؟ قال: بايعنا على قتال علي و نقض بيعته. قال: أرأيتما إن أتانا بعد كما من يدعونا إلى ما تدعوان إليه ما نصنع؟ قالا: لا تبايعه، قال: ما أنصفتما، أ تأمرانني أن اقاتل عليا و أنقض بيعته و هي في أعناقكما و تنهياني عن بيعة من لا بيعة له عليكما؟ أما إننا قد بايعنا عليا فان شئتما بايعنا كما بيسار أيدينا.

و نذكر ما صنع القوم بعثمان بن حنيف و غيره من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام عن تاريخ أبي جعفر الطبري و جمل المفيد و مروج الذهب للمسعودي و غيرها من كتب نقلة السير و الاثار على الاختصار بما اتفق عليه حاملوا الأخبار.

قال المفيد في الجمل: روى الواقدي و أبو مخنف عن أصحابهما و المدائني و ابن دأب عن مشايخهما بالأسانيد التي اختصرنا القول باسقاطها، و اعتمدنا فيها على ثبوتها في مصنفات القوم و كتبهم فقالوا: إن عائشة و طلحة و الزبير لما ساروا من مكة إلى البصرة أعدوا السير مع من اتبعهم من بنى امية و عمال عثمان و غيرهم من قريش، حتى صاروا إلى البصرة، فنزلوا حفر أبي موسى.

فبلغ عثمان بن حنيف و هو عامل البصرة يومئذ و خليفة أمير المؤمنين عليه السلام و كان عنده حكيم بن جبلة، فقال له حكيم: ما الذي بلغك؟ فقال: خبرت أن القوم قد نزلوا حفر أبي موسى، فقال له حكيم: ائذن لي أن أسير إليهم فاني رجل في طاعة أمير المؤمنين عليه السلام فقال له عثمان: توقف عن ذلك حتى اراسلهم.

فأرسل إلى عمران بن حصين و أبي الأسود الدؤلي فذكر لهما قدوم القوم و سألهما المسير إليهم و خطابهم على ما قصدوا به و كفهم عن الفتنة فخرجا حتى دخلا على عائشة فقالا لها: يا أم المؤمنين ما حملك على المسير؟ فقالت: غضبت لكما من سوط عثمان و عصاه و لا أغضب أن يقتل، فقالا لها: و ما أنت من سوط عثمان‏

و عصاه إنما أنت حبيس رسول الله صلى الله عليه و آله، و إنا نذكرك الله أن يهراق الدماء في سبيلك، فقالت: و هل من أحد يقاتلني؟ فقال لها أبو الأسود الدؤلي: نعم و الله قتالا أهونه شديد.

ثم خرجا من عندها فدخلا على الزبير و بعده على طلحة و جعلا يعد دان لهما مناقب أمير المؤمنين عليه السلام و فضائله، فقالا لهما: ننشد كما الله أن يهراق الدماء في سبيلكما، فأبيا النصح و الاعراض عن الفتنة فايسا منهما فخرجا من عندهما حتى، صارا إلى عثمان بن حنيف فأخبراه الخبر فأذن عثمان للناس بالحرب.

و لما بلغ عائشة رأي ابن حنيف في القتال ركبت الجمل و أحاطتها القوم و سارت حتى وقفت بالمربد و اجتمع اليها الناس حتى امتلأ المربد بهم، فتكلمت و كانت جهورية يعلو صوتها كثرة كأنه صوت امرأة جليلة فحمدت الله عز و جل و أثنت عليه و قالت:

أما بعد فان عثمان بن عفان قد كان غير و بدل فلم يزل يغسله بالتوبة حتى صار كالذهب المصفى، فعدوا عليه و قتلوه في داره و قتل ناس معه في داره ظلما و عدوانا، ثم آثروا عليا فبايعوه من غير ملاء من الناس و لا شورى و لا اختيار فابتز و الله أمرهم و كان المبايعون له يقولون: خذها إليك و احذرن أبا حسن إنا غضبنا لكم على عثمان من السوط فكيف لا نغضب لعثمان من السيف إن الأمر لا يصح حتى يرد الأمر إلى ما صنع عمر من الشورى فلا يدخل فيه أحد سفك دم عثمان.

فقال بعض الناس: صدقت، و قال بعضهم: كذبت، و اضطربوا بالفعال و تركتهم و سارت حتى أتت الدباغين، و قد تحيز الناس بعضهم مع طلحة و الزبير و عائشة، و بعضهم متمسك ببيعة أمير المؤمنين عليه السلام و الرضا به فسارت من موضعها و من معها و اتبعها على رأيها و معها طلحة و الزبير و مروان ابن الحكم و عبد الله بن الزبير حتى أتوادر الامارة، فسألوا عثمان بن حنيف الخروج عنها، فأبى عليهم ذلك، و اجتمع إليه أنصاره و زمرة من أهل البصرة فاقتتلوا قتالا شديدا حتى زالت الشمس، و اصيب يومئذ من عبد القيس خاصة خمسمائة شيخ‏ مخضوب من أصحاب عثمان بن حنيف و شيعة أمير المؤمنين عليه السلام سوى من اصيب من سائر الناس، و بلغ الحرب بينهم التزاحف إلى مقبرة بنى مازن ثم خرجوا على مسناة البصرة حتى انتهوا إلى الرابوقة و هى سلعة دار الرزق، فاقتتلوا قتالا شديدا كثر فيه القتلى و الجرحى من الفريقين.

ثم إنهم تداعوا إلى الصلح و دخل بينهم الناس لما رأوا من عظيم ما ابتلوا به فتصالحوا على أن لعثمان بن حنيف دار الامارة و المسجد و بيت المال، و طلحة و الزبير و عائشة ما شاءوا من البصرة و لا يحاجوا حتى يقدم أمير المؤمنين عليه السلام فان أحبوا فعند ذلك الدخول في طاعته، و إن أحبوا أن يقاتلوا، و كتبوا بذلك كتابا بينهم و أوثقوا فيه العهود و أكدوها و أشهدوا الناس على ذلك و وضع السلاح و أمن عثمان بن حنيف على نفسه و تفرق الناس عنه، و نقل الكتاب في تاريخ الطبري بتمامه ثم طلب طلحة و الزبير أصحابهما في ليلة مظلمة باردة ذات رياح و ندى حتى أتوا دار الامارة و عثمان بن حنيف غافل عنهم، و على باب الدار السبابجة يحرسون بيوت الأموال، و كانوا قوما من الزط من أربع جوانبهم و وضعوا فيهم السيف فقتلوا أربعين رجلا منهم صبرا، يتولى منهم ذلك الزبير خاصة.

ثم هجموا على عثمان فأوثقوه رباطا و عمدوا إلى لحيته و كان شيخا كث اللحية فنتفوها حتى لم يبق منها شي‏ء و لا شعرة واحدة و قال طلحة: عذبوا الفاسق و انتفوا شعر حاجبيه و أشفار عينيه و أوثقوه بالحديد.

و في الإمامة و السياسة للدينوري: أن طلحة و الزبير و مروان بن الحكم أتوه نصف الليل في جماعة معهم في ليلة مظلمة سوداء مطيرة، و عثمان نائم، فقتلوا أربعين رجلا من الحرس، فخرج عثمان فشد عليه مروان فأسره و قتل أصحابه فأخذه مروان فنتف لحيته و رأسه و حاجبيه، فنظر عثمان بن حنيف إلى مروان فقال: إن فتنى بها في الدنيا لم تفتني بها في الاخرة.

تنازع طلحة و الزبير لامامتهما الناس فى الصلاة

فلما أصبحوا اجتمع الناس اليهم و أذن مؤذن المسجد لصلاة الغداة، فرام‏ طلحة أن يتقدم للصلاة بهم، فدفعه الزبير و أراد أن يصلي بهم، فمنعه طلحة، فما زالا يتدافعان حتى كادت الشمس أن تطلع، فنادى أهل البصرة: الله الله يا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله في الصلاة نخاف فوتها، ثم اتفقوا على أن يصلي بالناس عبد الله ابن الزبير يوما و محمد بن طلحة يوما.

ثم بلغ حكيم بن جبلة العبدي رحمه الله ما صنع القوم بعثمان بن حنيف و شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، فنادى في قومه يا قوم انفروا إلى هؤلاء الضالين الظالمين الذين سفكوا الدم الحرام، و فعلوا بالعبد الصالح و استحلوا ما حرم الله عز و جل، فأجابه سبعمائة رجل من عبد قيس، و أقبل عليهم طلحة و الزبير و من معهما و اقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت بينهم الجرحى و القتلى.

ثم إن القوم غلبوا على بيت المال فما نعهم الخزان و الموكلون به، فقتل القوم سبعين رجلا منهم، و ضربوا رقاب خمسين من السبعين صبرا من بعد الأسر و ممن قتلوه حكيم بن جبلة العبدي رحمه الله و كان من سادات عبد القيس و زهاد ربيعة و نساكها و من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام.

و قال المسعودي في مروج الذهب: و هؤلاء أول من قتلوا ظلما في الاسلام.

تعجب أبى الاسود الدؤلى من طلحة و الزبير لما دخلا بيت مال البصرة و من أمير المؤمنين عليه السلام لما دخله‏ لما دخل طلحة و الزبير بيت المال تأملا إلى ما فيه من الذهب و الفضة قالا: هذه الغنائم التي و عدنا الله بها و أخبرنا أنه يعجلها لنا، قال أبو الأسود الدؤلي: و قد سمعت هذا منهما و رأيت عليا عليه السلام بعد ذلك و قد دخل بيت مال البصرة فلما رأى ما فيه قال: صفراء بيضاء غري غيري المال يعسوب الظلمة، و أنا يعسوب المؤمنين، فلا و الله ما التفت إلى ما فيه و لا أفكر فيما رآه منه، و ما وجدته عنده إلا كالتراب هوانا فتعجبت من القوم و منه عليه السلام.

أقول: سيأتي كلامه عليه السلام في باب المختار من حكمه: أنا يعسوب المؤمنين و المال يعسوب الفجار (الحكمة 316).

ثم الظاهر من مراد المسعودي بقوله: و هؤلاء أول من قتلوا ظلما فى الاسلام أنهم أول من قتلهم المسلمون ظلما، و إلا فقد قد منافي تكملة المنهاج (ص 275 ج 1، 15 من المنهاج) أن ياسرا أبا عمار رحمه الله و سمية امه هما أول قتيلين في الاسلام قتلهما الكفار.

ثم لما أخذ القوم عثمان بن حنيف قال طلحة و الزبير لعائشة: ما تأمرين في عثمان؟ فقالت: اقتلوه قتله الله، و كانت عندها امرأة من أهل البصرة فقالت لها:

يا اماه أين يذهب بك؟ أ تأمرين بقتل عثمان بن حنيف و أخوه سهل خليفة على المدينة و له مكانة من الأوس و الخزرج ما قد علمت، و الله لئن فعلت ذلك ليكونن له صولة بالمدينة يقتل فيها ذراري قريش، فاب إلى عائشة رأيها و قالت: لا تقتلوه و لكن احبسوه و ضيقوا عليه حتى أرى رأيي.

فحبس أياما ثم بدا لهم في حبسه و خافوا من أخيه أن يحبس مشايخهم بالمدينة و يوقع بهم، فتركوا حبسه فخرج حتى جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام و هو بذي قار فلما نظر إليه أمير المؤمنين عليه السلام و قد نكل به القوم بكى. و قال: يا عثمان بعثتك شيخا ملتحيا فرددت أمرد إلى، اللهم إنك تعلم أنهم اجترءوا عليك و استحلوا حرماتك، اللهم اقتلهم بمن قتلوا من شيعتي و عجل لهم النقمة بما صنعوا بخليفتي.

أقول: هذا ما نقلنا على ما ذكره المفيد في الجمل عن الواقدي و أبي مخنف و المدائني و غيرهما، و أما على ما قاله أبو جعفر الطبري في التاريخ كما قدمناه آنفا باسناده عن محمد ابن الحنفية أن عثمان بن حنيف قدم على علي عليه السلام بالربذة و قد نتفوا شعر رأسه و لحيته و حاجبيه، فقال: يا أمير المؤمنين بعثتني ذا الحية و جئتك أمرد، قال عليه السلام: أصبت أجرا و خيرا- إلخ.

ثم إن قوله عليه السلام: اللهم إنك تعلم أنهم اجترءوا اه. ليس بمذكور في النهج و لما بلغ أمير المؤمنين عليه السلام قبيح ما ارتكب القوم من قتل من قتلوا من المسلمين صبرا و ما صنعوا بصاحب رسول الله صلى الله عليه و آله عثمان بن حنيف و تعبئتهم‏ للقتال، عبى عليه السلام الناس للقتال و سار من ذي قار و قدم صعصعة بن صوحان بكتاب إلى طلحة و الزبير و عائشة يعظم عليهم حرمة الإسلام و يخوفهم فيما صنعوه و قبيح ما ارتكبوه.

قال صعصعة رحمه الله: فقدمت عليهم فبدأت بطلحة و أعطيته الكتاب و أديت الرسالة فقال: الان حين غضب ابن أبي طالب الحرب ترفق لنا، ثم جئت إلى الزبير فوجدته ألين من طلحة، ثم جئت إلى عائشة فوجدتها أسرع الناس إلى الشر، فقالت: نعم، قد خرجت للطلب بدم عثمان و الله لأفعلن و أفعلن.

فعدت إلى أمير المؤمنين عليه السلام فلقيته قبل أن يدخل البصرة فقال عليه السلام: ما وراءك يا صعصعة؟ قلت: يا أمير المؤمنين رأيت قوما ما يريدون إلا قتالك، فقال عليه السلام: الله المستعان.

كتاب أمير المؤمنين (ع) الى طلحة و الزبير و عائشة

أقول: ما نقلناه ههنا ذكره المفيد في الجمل و لم ينقل الكتاب الذي كتبه إلى طلحة و الزبير و عائشة و أداه صعصعة اليهم و الظاهر أن هذا الكتاب هو الذي نقله الدينوري في الإمامة و السياسة (ص 70 ج 1 طبع مصر 1377 ه) فان الدينوري و إن لم يتعرض بأن الكتاب الذي كتبه اليهم كان صعصعة حامله، و لكن يلوح للمتتبع في الأخبار أن الكتاب هو ما في الامامة و السياسة، قال الدينوري:

لما بلغ عليا عليه السلام تعبئة القوم عبى الناس للقتال ثم كتب إلى طلحة و الزبير أما بعد فقد علمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني، و لم ابايعهم حتى بايعوني و إنكما لممن أراد و بايع، و إن العامة لم تبايعني لسلطان خاص، فان كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل باظهار كما الطاعة و إسرار كما المعصية، و إن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا إلى الله من قريب، إنك يا زبير لفارس رسول الله صلى الله عليه و آله و حواريه، و إنك يا طلحة لشيخ المهاجرين و إن دفاعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع عليكما من خروجكما منه [بعد] إقرار كما به و قد زعمتما أني قتلت عثمان فبيني و بينكما فيه بعض من تخلف عني و عنكما من‏ أهل المدينة، و زعمتما أني آويت قتلة عثمان فهؤلاء بنو عثمان فليدخلوا في طاعتي ثم يخاصموا إلي قتلة أبيهم، و ما أنتما و عثمان إن كان قتل ظالما أو مظلوما و قد بايعتماني و أنتما بين خصلتين قبيحتين: نكث بيعتكما، و إخراجكما أمكما.

و كتب إلى عائشة:

أما بعد فانك خرجت غاضبة لله و لرسوله تطلبين أمرا كان عنك موضوعا، ما بال النساء و الحرب و الاصلاح بين الناس، تطلبين بدم عثمان و لعمري لمن عرضك للبلاء و حملك على المعصية أعظم إليك ذنبا من قتلة عثمان، و ما غضبت حتى أغضبت و ما هجت حتى هيجت، فاتقي الله و ارجعي إلى بيتك.

فأجابه طلحة و الزبير: إنك سرت مسيرا له ما بعده و لست راجعا و في نفسك منه حاجة، فامض لأمرك، أما أنت فلست راضيا دون دخولنا في طاعتك، و لسنا بداخلين فيها أبدا، فاقض ما أنت قاض.

و كتبت عائشة: جل الأمر عن العتاب، و السلام.

أقول: هذان الكتابان منه عليه السلام إلى طلحة و الزبير، و عائشة غير مذكورين في النهج.

ثم دعا عليه السلام عبد الله بن عباس فقال له: انطلق إليهم فناشدهم و ذكرهم العهد الذي لي في رقابهم، فجاءهم ابن عباس فبدأ بطلحة فوقع بينهما كلام كثير فأبى طلحة إلا إثارة الفتنة، قال ابن عباس: فخرجت إلى علي عليه السلام و قد دخل البيوت بالبصرة، فقال:

ما وراءك؟ فأخبرته الخبر فقال عليه السلام: اللهم افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين.

أقول: كذا نقله المفيد في الجمل و الظاهر أنه عليه السلام بعث ابن عباس إلى الزبير و أمره أن لا يلقى طلحة و ذلك لما مر في باب الخطب (الكلام 31 منه) قوله عليه السلام لابن عباس لما أنفذه إلى الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل: لا تلقين طلحة فانك إن تلقه تجده كالثور عاقصا قرنه يركب الصعب و يقول هو الذلول، و لكن ألق الزبير فانه ألين عريكة فقل له يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز و أنكرتني بالعراق فما عدا مما بدا.

و لما نقله المفيد في الجمل أيضا و يوافق ما في النهج من أن ابن عباس قال:

و قد كان أمير المؤمنين عليه السلام أوصاني أن ألقى الزبير (ص 153 طبع النجف) كما سنذكره، فعلى هذا مع فرض صحة الاولى و عدم سهو الراوي باتيان طلحة مكان الزبير يمكن أن يقال: إنه عليه السلام بعثه إليهم غير مرة.

قال ابن عباس: قد كان أمير المؤمنين عليه السلام أوصاني أن ألقى الزبير و إن قدرت أن اكلمه و ابنه ليس بحاضر، فجئت مرة أو مرتين كل ذلك أجده عنده ثم جئت مرة اخرى فلم أجده عنده فدخلت عليه و أمر الزبير مولاه شرحسا أن يجلس على الباب و يحبس عنا الناس، فجعلت اكلمه فقال: عصيتم أن خولفتم و الله لتعلمن عاقبة ابن عمك، فعلمت أن الرجل مغضب، فجعلت الاينه فيلين مرة و يشتد اخرى، فلما سمع شرحسا ذلك أنفذ إلى عبد الله بن الزبير و كان عند طلحة فدعاه، فأقبل سريعا حتى دخل علينا، ثم جرى بينه و بين ابن الزبير كلام كثير فأبى ابن الزبير إلا القتال و الجدال.

أقول: إن عبد الله بن الزبير كان أشد عداوة من أبيه بأمير المؤمنين عليه السلام و قال عليه السلام: ما زال الزبير رجلا منا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشوم عبد الله نقله الشارح المعتزلي في شرحه على النهج (ص 474 ج 2 طبع طهران 1302 ه) و ذكر هذا الكلام ابن عبد البر في الاستيعاب عن أمير المؤمنين عليه السلام في عبد الله بن الزبير إلا أنه لم يذكر لفظة المشوم.

و بالجملة أنه عليه السلام أكثر إليهم الرسل فعادوا منهم اليه عليه السلام باصرارهم على خلافه و استحلال دمه و دم شيعته، فلما رأى عليه السلام أنهم لا يتعظون بوعظ و لا ينتهون عن الفساد و عبوا للقتال كتب الكتائب و رتب العساكر فنفر من ذي قار متوجها الى البصرة.

من كلامه (ع) لما نفر من ذى قار متوجها الى البصرة

في الارشاد للمفيد قدس سره: و من كلامه عليه السلام و قد نفر من ذي قار متوجها الى البصرة بعد حمد الله و الثناء عليه و الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و آله.

أما بعد فان الله تعالى فرض الجهاد و عظمه و جعله نصرة له، و الله ما صلحت دنيا قط و لا دين إلا به، و إن الشيطان قد جمع حزبه و استجلب خيله و شبه في ذلك و خدع، و قد بانت الامور و تمحصت، و الله ما أنكروا علي منكرا و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا، و أنهم ليطلبون حقا تركوه، و دما سفكوه، و لئن كنت شركتهم فيه إن لهم لنصيبهم منه، و ان كانوا ولوه دوني فما تبعته إلا قبلهم، و إن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم، و إني لعلى بصيرتي ما لبست علي، و إنها للفئة الباغية فيه اللحم «الحم خ» و اللحمة «الحمة خ» قد طالت جلبتها، و أمكنت درتها، يرضعون ما فطمت، و يحيون بيعة تركت، ليعود الضلال إلى نصابه، ما أعتذر مما فعلت، و لا أتبرأ مما صنعت، فيا خيبة للداعي و من دعى لو قيل له إلى من دعوتك، و إلى من أجبت و من إمامك و ما سنته إذا لزاح الباطل عن مقامه، و لصمت لسانه فيما نطق، و أيم الله لأفرطن لهم حوضا أنا ماتحه، لا يصدرون عنه، و لا يلقون بعده ريا أبدا، و إني لراض بحجة الله عليهم، و عذره فيهم، إذ أنا داعيهم فمعذر إليهم، فان تابوا و أقبلوا فلتوبة مبذولة، و الحق مقبول، و ليس على الله كفران، و إن أبوا أعطيتهم حد السيف و كفى به شافيا من باطل، و ناصرا لمؤمن.

أقول: كلامه هذا مذكور في النهج أيضا إلا أنه قطعت في ثلاثة مواضع منه، و ذكر في كل موضع قطعة منه بل كرر بعض جمله فيها.

الموضع الأول هو الخطبة العاشرة منه قال الرضي: و من خطبة له عليه السلام:

ألا و إن الشيطان قد جمع حزبه و استجلب خيله‏ اه.

الموضع الثاني هو الخطبة الثانية و العشرون منه قوله: و من خطبة له عليه السلام:

ألا و إن الشيطان قد ذمر حزبه و استحلب حلبه ليعود الجور إلى أوطانه، و يرجع الباطل إلى نصابه‏ اه.

الموضع الثالث هو الخطبة الخامسة و الثلاثون و المائة منه قوله: و من كلامه عليه السلام في معنى طلحة و الزبير: و الله ما أنكروا على منكرا و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا إلى قوله عليه السلام: و أيم الله لأفرطن لهم حوضا أنا ماتحه لا يصدرون عنه بري، و لا يعبون بعده في حسى‏. و أما بعده إلى آخرها و قد مر بيانه قبيل هذا.

و اعلم أن ثقة الاسلام الكليني قدس سره روى في الكافي خطبة منه عليه السلام خطبها يوم الجمل، و نقلها الفيض قدس سره في الوافي (ص 27 ج 9 من كتاب الجهاد) تشترك فيها الخطبة الثانية و العشرون المذكورة و الخطبة الواحدة و العشرون و المائة.

أولها: و أي امرى‏ء منكم أحس من نفسه رباطة جاش- إلخ. فالظاهر أيضا أنهما خطبة واحدة تشتتت في الجوامع فما وجدها الرضي فيها أتى بها في النهج فدونك ما في الكافي على ما في الوافي:

علي عن أبيه، عن السراد رفعه أن أمير المؤمنين عليه السلام خطب يوم الجمل فحمد الله و أثنى عليه ثم قال:

أيها الناس إني أتيت هؤلاء القوم و دعوتهم و احتججت عليهم فدعوني إلى أن أصبر للجلاد، و أبرز للطعان، فلامهم الهبل قد كنت و ما اهدد بالحرب، و لا ارهب بالضرب، أنصف القادة من راماها، فلغيري فليبرقوا و ليرعدوا، فأنا أبو الحسن الذي فللت حدهم، و فرقت جماعتهم، و بذلك القلب ألقى عدوي، و أنا على ما وعدني ربي من النصر و التأييد و الظفر، و إني لعلى يقين من ربي و غير شبهة من أمري. أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم، و لا يعجزه الهارب، ليس عن الموت محيص، و من لم يمت يقتل، و إن أفضل الموت القتل، و الذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على فراش. و اعجبا لطلحة ألب الناس على ابن عفان حتى إذا قتل أعطاني صفقة بيمينه طائعا، ثم نكث بيعتي، اللهم خذه و لا تمهله و أن الزبير نكث بيعتي و قطع رحمي و ظاهر علي عدوي فاكفنيه اليوم بما شئت.انتهى ما في الكافي.

و نقل بعض هذه الخطبة المفيد رحمه الله في الإرشاد (ص 114 طبع طهران 1377 ه) و رواه في كتاب الجمل (النصرة في حرب البصرة) مسندا عن الواقدي ص، 174طبع النجف.

و بما حققنا علمت أن خطبة واحدة تفرقت في عدة مواضع من النهج و كم لها من نظير، و ديدن الرضي رحمه الله في النهج كان اختيار محاسن كلامه عليه السلام فقط لا ذكر طرق الروايات و اختلافها كما نص بذلك في خطبته في صدر الكتاب حيث قال:

و ربما جاء في أثناء هذا الإختيار اللفظ المردد و المعنى المكرر، و العذر في ذلك أن روايات كلامه عليه السلام تختلف اختلافا شديدا فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه ثم وجد بعد ذلك في رواية اخرى موضوعا غير وضعه الأول إما بزيادة مختار أو بلفظ أحسن عبارة فتقتضى الحال أن يعاد استظهارا للاختيار و غيره على عقائل الكلام، و ربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا فاعيد بعضه سهوا و نسيانا لا قصدا و اعتمادا. إلى آخر ما قال.

ثم انتهى عليه السلام إلى البصرة و راسل القوم و ناشدهم الله فأبوا إلا قتاله، و قال المسعودي في مروج الذهب: ذكر عن المنذر بن الجارود فيما حدث به أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي عن ابن عائشة عن معن بن عيسى عن المنذر بن جارود قال:

لما قدم علي عليه السلام البصرة دخل مما يلي الطف، فأتى الزاوية فخرجت أنظر إليه فورد موكب نحو ألف فارس يقدمهم فارس على فرس أشهب عليه قلنسوه و ثياب بيض متقلد سيفا معه راية، و إذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض و الصفرة مدججين في الحديد و السلاح فقلت: من هذا؟ فقيل: أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه و آله، و هؤلاء الأنصار و غيرهم.

ثم تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء و ثياب بيض متقلد سيفا متنكب قوسا معه راية على فرس أشقر في نحو ألف فارس فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين.

ثم مر بنا فارس آخر على فرس كميت معتم بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء و عليه قباء أبيض و عمامة سوداء قد سدلها بين يديه و من خلفه شديد الأدمة عليه سكينة و وقار رافع صوته بقراءة القرآن متقلد سيفا متنكب قوسا معه راية بيضاء في ألف من الناس مختلفي التيجان حوله مشيخة و كهول و شباب كان قد أوقفوا للحساب، أثر السجود قد أثر في جباههم، فقلت: من هذا؟ فقيل: عمار بن ياسر في عدة من الصحابة المهاجرين و الأنصار و أبنائهم.

ثم مر بنا فارس على فرس أشقر عليه ثياب بيض و قلنسوة بيضاء و عمامة صفراء متنكب قوسا متقلد سيفا تخط رجلاه في الأرض في ألف من الناس الغالب على تيجانهم الصفرة و البياض معه راية صفراء قلت: من هذا؟ قيل: هذا قيس بن سعد بن عبادة في الأنصار و أبنائهم و غيرهم من قحطان.

ثم مر بنا فارس على فرس أشهل ما رأينا أحسن منه عليه ثياب بيض و عمامة سوداء قد سد لها بين يديها بلواء قلت: من هذا؟ قيل: هو عبد الله بن العباس في عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله.

ثم تلا موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأولين قلت: من هذا؟ قيل:قثم بن العباس أو سعيد بن العاص.

ثم أقبلت المواكب و الرايات بقدم بعضها بعضا و اشتبكت الرماح.

ثم ورد موكب فيه خلق من الناس عليهم السلاح و الجديد مختلفوا الرايات في أوله راية كبيرة يقدمهم رجل كانما كسر و جبر «قال ابن عائشة: و هذه صفة رجل شديد الساعدين نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق، كذلك تخبر العرب في وصفها إذا أخبرت عن الرجل أنه كسر و جبر» كأنما على رؤوسهم الطير و عن ميسرتهم شاب حسن الوجه قلت: من هؤلاء؟ قيل: هذا علي بن أبي طالب عليه السلام و هذان الحسن و الحسين عن يمينه و شماله، و هذا محمد ابن الحنفية بين يديه معه الراية العظمى، و هذا الذي خلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، و هؤلاء ولد عقيل و غيرهم من فتيان بني هاشم و هؤلاء المشايخ أهل بدر من المهاجرين و الأنصار فساروا حتى نزلوا الموضع المعروف بالزاوية، فصلى عليه السلام أربع ركعات‏

و عفر خديه على التربة و قد خالط ذلك دموعه، ثم رفع يديه يدعو:اللهم رب السماوات و ما أظلت، و الأرضين و ما أقلت، و رب العرش العظيم هذه البصرة أسألك من خيرها و أعوذ بك من شرها، اللهم أنزلنا فيها خير منزل و أنت خير المنزلين، اللهم هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي و بغوا علي و نكثوا بيعتي اللهم احقن دماء المسلمين.

أقول: كلامه هذا ليس بمذكور في النهج و لعل السر فيه أنه لم يكن منه عليه السلام حقيقة بل هو من رسول الله صلى الله عليه و آله فقاله اقتباسا منه و تأسيا به صلى الله عليه و آله قال ابن هشام في السيرة النبوية (ص 329 ج 2 طبع مصر 1375 ه و 1955 م) في ذكر مسيره صلى الله عليه و آله إلى خيبر: قال ابن اسحاق: حدثني من لا أتهم، عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه، عن أبي معتب بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه و آله لما أشرف على خيبر، قال لأصحابه و أنا فيهم: قفوا، ثم قال:

اللهم رب السماوات و ما أظللن، و رب الأرضين و ما أقللن، و رب الشياطين و ما أضللن، و رب الرياح و ما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية و خير أهلها و خير ما فيها، و نعوذ بك من شرها و شر أهلها و شر ما فيها. أقدموا باسم الله قال: و كان يقولها صلى الله عليه و آله لكل قرية دخلها.

و لما تقرر أمر الكتائب في الفريقين فخرج كل فريق بقومه و قام خطباؤهم بالتحريض على القتال، فقام عبد الله بن الزبير في معسكرهم و حرض الناس على القتال و من جملة ما قال:

أيها الناس إن هذا الرعث و الوعث قتل عثمان بالمدينة ثم جاء كم بنشر اموركم بالبصرة أ ترضون أن يتوردكم أهل الكوفة في بلادكم اغضبوا فقد غضبتم و قاتلوا فقد قوتلتم إن عليا لا يرى أن معه في هذا الأمر أحد سواه، و الله لئن أظفر بكم ليهلكن دينكم و دنياكم.

و أكثر من نحو هذا القول و شبهه، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليا عليه السلام فقال لولده الحسن عليه السلام: قم يا بني فاخطب، فقام خطيبا فحمد الله و أثنى عليه و قال:

أيها الناس قد بلغتنا مقالة ابن الزبير و قد كان و الله يتجني على عثمان الذنوب، و قد ضيق عليه البلاد حتى قتل، و أن طلحة راكز رايته على بيت ماله و هو حي، و أما قوله: إن عليا ابتز الناس أمرهم فان أعظم الناس حجة لأبيه زعم أنه بايعه بيده و لم يبايعه بقلبه، فقد أقر بالبيعة و ادعى الوليجة، فليأت على ما ادعاه ببرهان و انى له ذلك، و أما تعجبه من تورد أهل الكوفة على أهل البصرة فما عجبه من أهل حق تورد و اعلى أهل الباطل، و لعمرى و الله ليعلمن أهل البصرة و ميعاد ما بيننا و بينهم، اليوم نحاكمهم إلى الله تعالى، فيقضي الله بالحق و هو خير الفاصلين.

فلما فرغ الحسن عليه السلام من كلامه قام رجل يقال له: عمر بن محمود و أنشد شعرا يمدح الحسن عليه السلام.

فلما بلغ طلحة و الزبير خطبة الحسن عليه السلام و مدح المادح له قام طلحة خطيبا في أصحابه و حرض الناس على إثارة الفتنة و ألب و أجلب على أمير المؤمنين عليه السلام الناس.

فقام إليه رجل يقال له: جبران بن عبد الله من أهل الحجاز كان قدم البصرة و هو غلام و اعترض على طلحة و احتج عليه بنكث البيعة فهم القوم به فخرج منهم إشفاقا على دمه، ثم كثر اللغط و التنازع.و لما بلغ أمير المؤمنين عليه السلام لغط القوم و اجتماعهم على حربه قام في الناس خطيبا.

خطبة أمير المؤمنين (ع) فى البصرة لما بلغه لغط القوم و اجتماعهم على حربه‏

فحمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي صلى الله عليه و آله ثم قال:أيها الناس إن طلحة و الزبير قدما البصرة و قد اجتمع أهلها على طاعة الله و بيعتي، فدعواهم إلى معصية الله تعالى و خلافي، فمن أطاعهما منهم فتنوه و من عصاهما قتلوه، و قد كان من قتلهما حكيم بن جبلة ما بلغكم، و قتلهم السبابحة و فعلهما بعثمان بن حنيف ما لم يخف عليكم، و قد كشفوا الان القناع و أذنوا بالحرب، و قام طلحة بالشتم و القدح في أديانكم، و قد أرعد و صاحبه و أبرقا، و هذان‏ أمران معهما الفشل، و لسنا نريد منكم أن تلقونهم بظنون ما في نفوسكم عليهم، و لا ترون ما في أنفسكم لنا، و لسنا نرعد حتى نوقع، و لا نسيل حتى نمطر، و قد خرجوا من هدى إلى ضلال، و دعوناكم الى الرضا، و دعونا إلى السخط فحل لنا و لكم ردهم إلى الحق و القتال، و حل لهم بقصاصهم القتل، و قد و الله مشوا إليكم ضرارا، و أذاقوكم أمس من الجمر، فاذا لقيتم القوم غدا فاعذروا فى الدعاء و احسنوا فى التقية، و استعينوا بالله و اصبروا إن الله مع الصابرين.

أقول: نقلها المفيد قدس سره فى الجمل (ص 161 طبع النجف) و هي بتمامها ليست بمذكورة في النهج و أتى ببعضها فيه و هو: و من كلام له عليه السلام: و قد أرعدوا و أبرقوا و مع هذين الأمرين الفشل. و لسنا نرعد حتى نوقع، و لا نسيل حتى نمطر. و هو الكلام التاسع من باب الخطب من النهج.

قال المفيد رحمه الله في الجمل نقلا عن الواقدي: ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام أنظرهم و أنذرهم ثلاثة أيام ليكفوا و يرعوا، فلما علم إصرارهم على الخلاف قام في أصحابه و قال‏: 

«خطبة اخرى له عليه السلام فى ذلك المقام يحرض أصحابه على الجهاد»

عباد الله انهدوا إلى هؤلاء القوم منشرحة صدوركم، فانهم نكثوا بيعتي و قتلوا شيعتي، و نكلوا بعاملي، و أخرجوه من البصرة بعد أن ألموه بالضرب المبرح و العقوبة الشديدة، و هو شيخ من وجوه الأنصار و الفضلاء، و لم يرعوا له حرمة و قتلوا السبابجة رجالا صالحين، و قتلوا حكيم بن جبلة ظلما و عدوانا لغضبه لله تعالى ثم تتبعوا شيعتي بعد أن ضربوهم و أخذوهم في كل عابية و تحت كل رابية يضربون أعناقهم صبرا، ما لهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، فانهدوا إليهم عباد الله و كونوا اسودا عليهم فانهم شرار، و مساعدهم على الباطل شرار، فالقوهم صابرين محتسبين موطنين أنفسكم أنكم منازلون و مقاتلون، قد وطنتم أنفسكم على الضرب و الطعن و منازلة الأقران، فأي امرء أحس من نفسه رباطة جاش عند الفزع و شجاعة عند اللقاء و رأى من أخيه فشلا أو وهنا فليذب عنه كما يذب عن نفسه‏ فلو شاء الله لجعله مثله.

أقول: بعض هذه الخطبة مذكور في النهج الكلام 121 من باب الخطب أوله: و أي امرى‏ء منكم أحس من نفسه- إلخ، و نقلها المفيد رحمه الله فى الإرشاد (ص 115 طبع طهران 1377 ه) أيضا و بين النسخ اختلاف يسير في بعض من الكلمات و الجمل.

و في جمل المفيد: ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام رحل بالناس إلى القوم غداة الخميس لعشر مضين من جمادى الاولى، و على ميمنته الأشتر، و على ميسرته عمار بن ياسر، و أعطى الراية محمد بن الحنفية ابنه، و سار حتى وقف موقفا ثم نادى في الناس لا تعجلوا حتى أعذر إلى القوم.

أقول: مضى كلامه عليه السلام لابنه محمد ابن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل تزول الجبال و لا تزل، عض على ناجذك أعر الله جمجمتك، تدفي الأرض قدمك إرم ببصرك أقصى القوم، و غض بصرك، و اعلم أن النصر من عند الله سبحانه الكلام الحادى عشر من باب الخطب من النهج.

و قد مضى في ص 241 من المجلد الأول من تكملة المنهاج أن أمير المؤمنين عليه السلام دفع يوم الجمل رايته إلى ابنه محمد ابن الحنفية و قد استوت الصفوف و قال له: احمل، فتوقف قليلا، فقال له: احمل، فقال: يا أمير المؤمنين، أما ترى السهام كأنها شابيب المطر، فدفع في صدره فقال: ادركك عرق من امك- إلخ، نقله المسعودي في مروج الذهب.

فدعا عليه السلام: عبد الله بن عباس فأعطاه المصحف و قال: امض بهذا المصحف إلى طلحة و الزبير و عائشه و ادعهم إلى ما فيه و قل لطلحة و الزبير: ألم تبايعاني مختارين؟ فما الذي دعاكما إلى نكث بيعتي و هذا كتاب الله بيني و بينكما.

فذهب إليهم ابن عباس فبدأ بالزبير ثم انصرف عنه إلى طلحة، ثم انصرف عنه إلى عائشه، و جرى بينه و بينهم كلام كثير فأبوا إلا طغيانا و بغيا و القتال و سفك الدماء و إثارة الفتنة و إنارة الحرب، فرجع إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأخبره الخبر

و قال له عليه السلام: ما تنتظر؟ و الله لا يعطيك القوم إلا السيف فاحمل عليهم قبل أن يحملوا عليك، فقال عليه السلام: نستظهر بالله عليهم، قال ابن عباس: فوالله ما رمت من مكاني حتى طلع علي نشابهم كأنه جرد منتشر فقلت: ما ترى يا أمير المؤمنين إلى ما يصنع القوم مرنا ندفعهم، فقال عليه السلام: حتى أعذر اليهم ثانية.

فأخذ عليه السلام مصحفا كما نقله الطبري مسندا في التاريخ و المفيد في الجمل عن الواقدي، فطاف به في أصحابه و قال: من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إليه و هو مقتول و أنا ضامن له على الله الجنة؟ فقام فتى من أهل الكوفة حدث السن من عبد القيس يقال له: مسلم بن عبد الله عليه قباء أبيض محشو فقال: أنا أعرضه يا أمير المؤمنين عليهم و قد احتسبت نفسي عند الله، فأعرض عليه السلام عنه إشفاقا.

و نادى ثانية: من يأخذ هذا المصحف و يعرضه على القوم و ليعلم أنه مقتول و له الجنة؟ فقال الفتى أنا أعرضه.

و نادى ثالثة: من يأخذ المصحف و يدعوهم إلى ما فيه؟ فقال الفتى: أنا فدفع المصحف اليه و قال: امض اليهم و اعرضه عليهم و ادعهم إلى ما فيه.

فأقبل الفتى حتى وقف بازاء الصفوف و نشر المصحف و قال: هذا كتاب الله و أمير المؤمنين يدعوكم إلى ما فيه، فقالت عائشة: اشجروه بالرماح فقبحه الله، فتبادروا إليه بالرماح فطعنوه من كل جانب فقطعوا يده اليمنى، فأخذه بيده اليسرى فدعاهم فقطعوا يده اليسرى، فأخذه بصدره و الدماء تسيل على قبائه، فقتل رضوان الله عليه، و كانت أمه حاضرة فصاحت و طرحت نفسها عليه و جرته من موضعه و لحقها جماعة من عسكر أمير المؤمنين عليه السلام أعانوها على حمله حتى طرحته بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام و هي تبكي و تقول:

لاهم إن مسلما دعاهم‏يتلو كتاب الله لا يخشاهم‏
فخضبوا من دمه قناهم‏و امه قائمة تراهم‏
تأمرهم بالقتل لا تنهاهم‏

فلما رأى أمير المؤمنين عليه السلام ما قدم عليه القوم من العناد و استحلوه من سفك‏

الدم الحرام رفع يديه إلى السماء و قال:

اللهم الحرام رفع يديه إلى اسماء و قال:

اللهم اليك شخصت الأبصار و بسطت الأيدي و أقضت القلوب و تقربت إليك بالأعمال، ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين.

أقول: قوله عليه السلام هذا نقلناه من جمل المفيد و نقله نصر بن مزاحم المنقري في صفين (ص 256 طبع الطهران 1301 ه) مع زيادة و أتى به الرضي رحمه الله في النهج و هو الخامس عشر من باب الكتب و الرسائل، و قد مضى في ص 326 من المجلد الأول من تكملة المنهاج كلامنا فيه و سيأتي طائفة اخرى في شرحه إنشاء الله تعالى.

قال الطبري بعد نقل شهادة الفتى: فقال علي عليه السلام: الان حل قتالهم.

و في الامامة و السياسة للدينوري فلما توافقوا للقتال أمر علي عليه السلام مناديا ينادي من أصحابه لا يرمين أحد سهما و لا حجرا و لا يطعن برمح حتى أعذر إلى القوم فأتخذ عليهم الحجة البالغة.

فكلم عليه السلام طلحة و الزبير قبل القتال فقال لهما: استحلفا عائشة بحق الله و بحق رسوله على أربع خصال أن تصدق فيها: هل تعلم رجلا من قريش أولى مني بالله و رسوله، و إسلامي قبل كافة الناس أجمعين، و كفايتي رسول الله صلى الله عليه و آله كفار العرب بسيفي و رمحي، و على براءتي من دم عثمان، و على أني لم أستكره أحدا على بيعة، و على أني لم أكن أحسن قولا في عثمان منكما؟ فأجابه طلحة جوابا غليظا، ورق له الزبير.

ثم رجع علي عليه السلام إلى أصحابه فقالوا: يا أمير المؤمنين بم كلمت الرجلين؟

فقال علي عليه السلام إن شأنهما لمختلف أما الزبير فقاده اللجاج و لن يقاتلكم، و أما طلحة فسألته عن الحق فأجابني بالباطل، و لقيته باليقين و لقيني بالشك، فو الله ما نفعه حقي و لا ضرني باطله، و هو مقتول غدا في الرعيل الأول.

أقول: ما نقله الدينوري من كلامه عليه السلام ليس بمذكور في النهج.

و في احتجاج الطبرسي عن الأصبغ بن نباتة قال: كنت واقفا مع أمير المؤمنين‏

عليه السلام يوم الجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين كبر القوم و كبرنا، و هلل القوم و هللنا، و صلى القوم و صلينا، فعلى ما نقاتلهم؟

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: على ما أنزل الله في كتابه، فقال: يا أمير المؤمنين ليس كل ما أنزل الله في كتابه أعلمه فعلمنيه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما أنزل الله في سورة البقرة؟ فقال: يا أمير المؤمنين ليس كلما أنزل الله في سورة البقرة أعلمه فعلمنيه، فقال عليه السلام: هذه الاية «تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله و رفع بعضهم فوق بعض درجات و آتينا عيسى بن مريم البينات و أيدناه بروح القدس و لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات و لكن اختلفوا فمنهم من آمن و منهم من كفر و لو شاء الله ما اقتتلوا و لكن الله يفعل ما يريد» فنحن الذين آمنا، و هم الذين كفروا، فقال الرجل: كفر القوم و رب الكعبة، ثم حمل و قاتل حتى قتل رحمه الله. انتهى.

و في تاريخ الطبري (ص 7 ج 4 طبع مصر 1358 ه 1939 م) قال أبو مخنف:

و حدثني إسماعيل بن يزيد، عن أبي صادق، عن الحضرمي قال: سمعت عليا عليه السلام يحرض الناس في ثلاثة مواطن: يحرض الناس يوم الجمل، و يوم صفين، و يوم النهر: يقول: عباد الله اتقوا الله- إلى آخر ما نقلناه في ص 238 من المجلد الأول من تكملة المنهاج. و نقله المفيد رحمه الله فى الإرشاد ايضا (ص 107 طبع طهران 1377 ه) إلا أنه ذكر في عنوانه يوم صفين فقط و لكنه لا يفيد الإختصاص به و بين النسختين اختلاف يسير، و الظاهر أن الرضي رضوان الله عليه لم يعثر عليه و إلا لذكره في النهج لأن الكلام بليغ جدا و كان اهتمام الرضي اختيار البليغ من كلامه عليه السلام و دونك قوله هذا على ما في الارشاد: قال:

و من كلامه عليه السلام في تحضيضه على القتال يوم صفين بعد حمد الله و الثناء عليه عباد الله اتقوا الله‏ و غضوا الأبصار، و اخفضوا الأصوات، و أقلوا الكلام، و وطنوا أنفسكم على المنازلة، و المجادلة، و المبارزة، و المبالطة، و المبالدة، و المعانقة و المكادمة، و اثبتوا و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون، و أطيعوا الله و رسوله و لاتنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا إن الله مع الصابرين، اللهم الهمهم الصبر و أنزل عليهم النصر، و أعظم لهم الأجر.

و قد تظافرت الأخبار أن أمير المؤمنين عليه السلام أمر جنده أن لا يبدأوا القوم الناكثين بقتال، و لا يرموهم بسهم، و لا يضربوهم و لا يطعنوهم برمح، حتى جاء عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي من الميمنة بأخ له مقتول، و جاء قوم من الميسرة برجل قد رمي بسهم فقتل، فقال علي عليه السلام: اللهم اشهد.

و في جمل المفيد: ثم دعا عليه السلام ابنه محمد بن الحنفية فأعطاه الراية و هي راية رسول الله صلى الله عليه و آله و قال: يا بني هذه راية لا ترد قط و لا ترد أبدا، قال محمد: فأخذتها و الريح تهب عليها فلما تمكنت من حملها صارت الريح على طلحة و الزبير و أصحاب الجمل، فأردت أن أمشي بها فقال امير المؤمنين عليه السلام: قف يا بني حتى آمرك.

ثم نادى أيها الناس لا تقتلوا مدبرا، و لا تجهزوا على جريح، و لا تكشفوا عورة، و لا تهيجوا امرأة، و لا تمثلوا بقتيل.

فبينا هو يوصي أصحابه إذ ظلنا نبل القوم فقتل رجل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، فلما رآه قتيلا قال: اللهم اشهد، ثم رمي ابن عبد الله بن بديل فقتل، فحمل أبوه عبد الله و معه عبد الله بن العباس حتى وضعاه بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام، فقال عبد الله بن بديل: حتى متى يا أمير المؤمنين ندلي نحورنا للقوم يقتلوننا رجلا رجلا قد و الله أعذرت إن كنت تريد الاعتذار.

أقول: قال اليعقوبي في تاريخه: ثم رمى رجل آخر فأصاب عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقتله فأتى به أخوه عبد الرحمن يحمله فقال علي عليه السلام اللهم اشهد و الله العالم.

و في مروج الذهب للمسعودي: ثم قام عمار بن ياسر بين الصفين فقال:

أيها الناس ما أنصفتم نبيكم حيث كففتم عتقاء تلك الخدور، و أبرزتم عقيلته للسيوف، و عائشة على الجمل المسمى عسكرا في هودج من دفوف الخشب. قد ألبسوه المسوح و جلود البقر، و جعلوا دونه اللبود قد غشى على ذلك بالدروع، فدنا عمار من موضعها، فنادى: إلى ما ذا تدعينني؟ قالت: إلى الطلب بدم عثمان، فقال: قتل الله في هذا اليوم الباغي و الطالب بغير الحق، ثم قال: أيها الناس إنكم لتعلمون أينا الممالي في قتل عثمان، ثم أنشأ يقول و قد رشقوه بالنبل:

فمنك البكاء و منك العويل‏و منك الرياح و منك المطر
و أنت أمرت بقتل الإمام‏و قاتله عندنا من أمر

و تواتر عليه الرمي و اتصل فحرك فرسه و زال عن موضعه فقال: ما ذا تنتظر يا أمير المؤمنين و ليس لك عند القوم إلا الحرب فقال علي عليه السلام: أيها الناس إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح، و لا تقتلوا أسيرا، و لا تتبعوا موليا، و لا تطلبوا مدبرا، و لا تكشفوا عورة، و لا تمثلوا بقتيل، و لا تهتكوا سترا، و لا تقربوا من أموالهم إلا ما تجدونه في عسكرهم من سلاح أو كراع او عبد أو أمة، و ما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب الله.

أقول: و قد مضى في ص 222 من المجلد الأول من تكملة المنهاج عن نصر في كتاب صفين باسناده عن عبد الرحمن بن جندب الأزدي عن أبيه أن عليا عليه السلام كان يأمرنا في كل موطن لقينا معه عدوه يقول: لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم- إلى آخره و سيأتي شرحه و نقل أقواله الاخر في الكتاب الخامس عشر إنشاء الله تعالى.

ثم قد ذكرنا في شرح الكتاب الأول البيتين المذكورين و قائلهما فراجع.

و قال المفيد في الجمل: روى عبد الله بن رياح مولى الأنصاري عن عبد الله بن زياد مولى عثمان بن عفان قال: خرج عمار بن ياسر يوم الجمل إلينا فقال: يا هؤلاء على أي شي‏ء تقاتلونا؟ فقلنا: على أن عثمان قتل مؤمنا، فقال عمار:

نحن نقاتلكم على أنه قتل كافرا، قال: و سمعت عمارا يقول: و الله لو ضربتمونا حتى نبلغ شعفات هجر لعلمنا أنا على الحق و أنكم على الباطل، قال: و سمعته و الله يقول: ما نزل تأويل هذه الاية إلا اليوم‏ يا أيها الذين آمنوا من يرتدمنكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه‏ (المائدة: 59).

و في احتجاج الطبرسي: روى الواقدي أن عمار بن ياسر لما دخل على عايشة- بعد أن ظفر علي عليه السلام و أصحابه على أصحاب الجمل- فقال لها: كيف رأيت ضرب بنيك على الحق؟ فقالت: استبصرت من أجل أنك غلبت، فقال عمار: أنا أشد استبصارا من ذلك، و الله لو ضربتمونا حتى تبلغونا سعيفات هجر لعلمنا أنا على الحق و أنكم على الباطل، فقالت عائشة: هكذا يخيل اليك اتق الله يا عمار أذهبت دينك لابن أبي طالب.

أقول: قد قال عمار في صفين أيضا: إني لأرى وجوه قوم لا يزالون يقاتلون حتى يرتاب المبطلون، و الله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لكنا على الحق و كانوا على الباطل. و قد مر بيانه في ص 285 من المجلد الأول من تكملة المنهاج و اختلاف النسخ فيه فراجع.

روى الواقدي قال: حدثني عبد الله بن الفضيل عن أبيه عن محمد ابن الحنفية قال: لما نزلنا البصرة و عسكرنا بها و صففنا صفوفنا دفع أبي علي عليه السلام إلي باللواء و قال: لا تحدثن شيئا ثم نام فنالنا نبل القوم فأفزعته ففزع و هو يمسح عينيه من النوم و أصحاب الجمل يصيحون: يا لثارات عثمان، فبرز عليه السلام و ليس عليه إلا قميص واحد، ثم قال: تقدم باللواء، فتقدمت و قلت: يا أبة في مثل هذا اليوم بقميص واحد، قال: أحرز امرء أجله و الله قاتلت مع النبي صلى الله عليه و آله و أنا حاسر أكثر مما قاتلت و أنا دارع، ثم دنا كل من طلحة و الزبير فكلمهما و رجع و هو يقول: يأبى القوم إلا القتال، فقاتلوهم فقد بغوا، و دعا بدرعه البتراء و لم يلبسها بعد النبي صلى الله عليه و آله إلا يومئذ فكان بين كتفيه منها متوهيا.

قال: و جاء أمير المؤمنين عليه السلام و في يده شسع نعل فقال له ابن عباس: ما تريد بهذا الشسع يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام: أربط بها ما قد توهى من هذا الدرع من خلفي، فقال له ابن عباس: أفي مثل هذا اليوم تلبس مثل هذا؟ فقال عليه السلام:

لم؟ قال: أخاف عليك، قال عليه السلام: لا تخف أن أوتى من ورائي و الله يا ابن عباس‏

ما وليت في زحف قط ثم قال له: البس يا ابن عباس، فلبس درعا سعد ياثم تقدم إلى الميمنة و قال: احملوا، ثم إلى الميسرة و قال: احملوا، و جعل يدفع في ظهري و يقول: تقدم يا بني فجعلت أتقدم حتى انهزموا من كل وجه.

و روى الواقدي عن هشام بن سعد عن شيخ من مشايخ أهل البصرة قال: لما صف علي بن أبي طالب عليه السلام صفوفه أطال الوقوف و الناس ينتظرون أمره، فاشتد عليهم ذلك، فصاحوا حتى متى، فصفق بإحدى يديه على الاخرى ثم قال: عباد الله لا تعجلوا فإني كنت أرى رسول الله صلى الله عليه و آله يستحب أن يحمل إذ اهبت الريح قال: فأمهل حتى زالت الشمس و صلى ركعتين ثم قال: ادعوا ابني محمدا، فدعي له محمد ابن الحنفية فجاء و هو يومئذ ابن تسع عشر سنة، فوقف بين يديه و دعا بالراية فنصبت فحمد الله و أثنى عليه و قال: أما هذه الراية لم ترد قط و لا ترد أبدا و إني واضعها اليوم في أهلها، و دفعها إلى ولده محمد و قال: تقدم يا بني فلما رآه القوم قد أقبل و الراية بين يديه فتضعضعوا فما هو إلا أن الناس التقوا و نظروا إلى غرة أمير المؤمنين عليه السلام و وجدوا مس السلاح حتى انهزموا.

و روى محمد بن عبد الله بن عمر بن دينار قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام لابنه محمد:

خذ الراية و امض، و علي عليه السلام خلفه فناداه يا أبا القاسم! فقال: لبيك يا أبة، فقال:

يا بني لا يستنفزنك ما ترى قد حملت الراية و أنا أصغر منك فما استنفزني عدوي و ذلك أنني لم ابارز أحدا إلا حدثنني نفسي بقتله، فحدث نفسك بعون الله تعالى بظهورك عليهم و لا يخذلك ضعف النفس من اليقين فان ذلك أشد الخذلان، قال: قلت يا أبة أرجو أن أكون كما تحب إن شاء الله، قال: فالزم رايتك فإن اختلفت الصفوف قف في مكانك و بين أصحابك فإن لم تبين من أصحابك فاعلم أنهم سيرونك.

قال: و الله إني لفي وسط أصحابي فصاروا كلهم خلفي و ما بيني و بين القوم أحد يردهم عني و أنا اريد أن أتقدم في وجوه القوم فما شعرت إلا بأبي خلفي قد جرد بسيفه و هو يقول: لا تقدم حتى أكون أمامك، فتقدم بين يدي يهرول و معه طائفة من أصحابه، فضرب الذين في وجهه حتى نهضوهم و لحقتهم بالراية فوقفوا وقفة و اختلط الناس و ركدت السيوف ساعة فنظرت إلى أبي يفرج الناس يمينا و شمالا و يسوقهم أمامه فأردت أن أجول فكرهت خلافه و وصيته لي- لا تفارق الراية- حتى انتهى إلى الجمل و حوله أربعة آلاف مقاتل من بني ضبة و الأزد و تميم و غيرهم و صاح: اقطعوا البطان.

فأسرع محمد بن أبي بكر فقطعه و أطلع الهودج، فقالت عائشة: من أنت؟

قال: أبغض أهلك إليك، قالت: ابن الخثعمية؟ قال: نعم و لم تكن دون أمهاتك قالت: لعمري بل هي شريفة دع عنك هذا الحمد لله الذي سلمك قال: قد كان ذلك ما تكرهين، قالت: يا أخي لو كرهته ما قلت ما قلت، قال: كنت تحبين الظفر و إني قتلت، قالت: قد كنت احب ذلك لكنه ما صرنا إلى ما صرنا أحببت سلامتك لقرابتي منك فاكفف و لا تعقب الامور و خذ الظاهر و لا تكن لومة و لا عذلة فإن أباك لم يكن لومة و لا عذلة.

قال: و جاء علي عليه السلام فقرع الهودج برمحه و قال: يا شقيراء بهذا وصاك رسول الله صلى الله عليه و آله؟ قالت: يا ابن أبي طالب قد ملكت فاسمح، و في تاريخ الطبري:فاسجح.

ثم أمر عليه السلام ابنه محمدا أن يتولى أمرها و يحملها إلى دار ابن خلف حتى ينظر عليه السلام في أمرها، فحملها إلى الموضع و أن لسانها لا يفتر من السب له و لعلي عليه السلام و الترحم على أصحاب الجمل.

و روي عن ابن الزبير قال: خرجت عائشة يوم البصرة و هي على جملها عسكر قد اتخذت عليه خدرا و دقته بالدقوق خشية أن يخلص إليها النبل، و سار إليهم علي بن أبي طالب عليه السلام حتى التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا و أخذ بخطام الجمل يومئذ سبعون رجلا من قريش كلهم قتل، و خرج مروان بن الحكم و عبد الله بن الزبير و رأيتهما جريحين، فلما قتلت تلك العصابة من قريش أخذ رجال كثير من بني ضبة بخطام الجمل فقتلوا عن آخرهم، و لم يأخذ بخطامه أحد إلا قتل حتى غرق الجمل بدماء القتلى، و تقدم محمد بن أبي بكر فقطع بطان الجمل و احتمل الخدرو معه أصحاب له و فيه عائشة حتى أنزلوها بعض دور البصرة، و ولى الزبير منهزما فأدركه ابن جرموز فقتله، و لما رأى مروان توجه الأمر على أصحاب الجمل نظر إلى طلحة و هو يريد الهرب فقال، و الله لا يفوتني ثاري من عثمان، فرماه بسهم فقطع أكحله فسقط بدمه و حمل من موضعه و هو يقول: إنا لله هذا و الله سهم لم يأتني من بعد ما أراه إلا من معسكرنا، و الله ما رأيت مصرع شيخ أضيع من مصرعي ثم لم يلبث أن هلك.

روى الطبري في التاريخ باسناده عن أبي البختري الطائي قال: أطافت ضبة و الأزد بعائشة يوم الجمل، و إذا رجال من الأزد يأخذون بعر الجمل فيفتونه و يشمونه و يقولون: بعر جمل امنا ريحه ريح المسك، و رجل من أصحاب علي عليه السلام يقاتل و يقول:

جردت سيفي في رجال الأزدأضرب في كهولهم و المرد
كل طويل الساعدين نهد

و ماج الناس بعضهم في بعض، فصرخ صارخ: اعقروا الجمل، فضربه بجير بن دلجة الضبي فقيل له: لم عقرته؟ فقال: رأيت قومي يقتلون فخفت أن يفنوا و رجوت إن عقرته أن يبقى لهم بقية.

و روى باسناده عن الصعب بن عطية عن أبيه قال: لما أمسى الناس و تقدم علي عليه السلام و احيط بالجمل و من حوله و عقره بجير بن دلجة و قال: إنكم آمنون فكف بعض الناس عن بعض، و قال في ذلك حين أمسى و انخنس عنهم القتال:

إليك أشكو عجري و بجري‏و معشرا غشوا علي بصري‏
قتلت منهم مضرا بمضري‏شفيت نفسي و قتلت معشري‏

أقول: قد ذكر البيتان في الديوان المنسوب إليه عليه السلام أيضا و فيه «أعشوا» مكان «غشوا»، و «إني قتلت مضري بمصري» مكان المصراع الثالث: «و جذعت أنفي» مكان «شفيت نفسي». و لكن الصريح من كلام أبي العباس محمد بن يزيد المعروف بالمبرد المتوفى سنة 285 ه في الكامل ص 126 ج 1 طبع مصر أنه عليه السلام‏ لم يقل كلامه على هيئة الشعر حيث قال:

حدثني التوزي قال: حدثني محمد بن عباد بن حبيب بن المهلب أحسبه عن أبيه قال: لما انقضى يوم الجمل خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ليلة ذلك اليوم و معه قنبر و في يده مشعلة من نار يتصفح القتلى حتى وقف على رجل، قال التوزي: فقلت: أهو طلحة؟ قال: نعم، فلما وقف عليه قال: اعزز علي أبا محمد أن أراك معفرا تحت تخوم السماء و في بطون الأودية، شفيت نفسي و قتلت معشري إلى الله أشكو عجري و بجري. انتهى قوله.

أقول: الظاهر أن غيره أخذ كلامه هذا و أدرجه في الشعر، و قد نقلنا في المجلد الأول من تكملة المنهاج (من ص 306- إلى 314) أبياتا عديدة من ذلك الديوان أنها مما قالها غيره عليه السلام كما بيناها بالشواهد و الماخذ، و قد عثرنا على عدة اخرى منها بعد ذلك فخذها:

ما في ذلك الديوان من ثلاثة عشر بيتا قالها في صفين:

لنا الراية السوداء يخفق ظلهاإذا قيل قدمها حصين تقدما

إلى آخرها، فأتى بتمامها نصر بن مزاحم المنقري في كتاب صفين (ص 145 الطبع الناصري) و أسندها باسناده عن الحصين بن المنذر إليه عليه السلام، و قال الفاضل الشارح المعتزلي ابن ابي الحديد في شرحه على النهج: هكذا روى نصر بن مزاحم، و سائر الرواة رووا له عليه السلام الأبيات الستة الاولى و رووا باقي الأبيات من قوله‏

«و قد صبرت عك و لخم»

إلخ- للحصين بن المنذر صاحب الراية.

و اعلم أن البيت الثامن منه على ما في الديوان هو البيت الرابع في كتاب صفين. على أن بين نسختي صفين و الديوان اختلافا يسيرا في بعض عبارات الأبيات و ما في ذلك الديوان:

قد كنت ميتا فصرت حياو عن قليل تصير ميتا
عز بدار الفناء بيت‏فأين دار البقاء بيتا

ففي مادة خضر من سفينة البحار نقل عن المناقب لابن شهر آشوب أن أمير المؤمنين عليه السلام رأى الخضر في المنام فسأله نصيحة قال: فأراني كفه فإذا فيها مكتوب بالخضرة:

قد كنت ميتا فصرت حياو عن قليل تعود ميتا
فابن لدار البقاء بيتاودع لدار الفناء بيتا

و ما في السيرة الهشامية (ص 225 ج 2 طبع مصر 1375 ه) فنقل عن ابن إسحاق أنه لما قتل أمير المؤمنين علي عليه السلام عمرو بن عبدود في غزوة الخندق قال عليه السلام في ذلك:

نصر الحجارة من سفاهة رأيه‏و نصرت رب محمد بصوابي‏
فصددت حين تركته متجدلاكالجذع بين دكادك و روابي‏
و عففت عن أثوابه لو إنني‏كنت المقطر بزني أثوابي‏
لا تحسبن الله خاذل دينه‏و نبيه يا معشر الأحراب‏

ثم قال ابن هشام: و أكثر أهل العلم بالشعر يشك فيها لعلي بن أبي طالب عليه السلام و ما في الديوان المنسوب اليه‏

لكل اجتماع من خليلين فرقةو كل الذي دون الفراق قليل‏
و إن افتقادي فاطما بعد أحمددليل على أن لا يدوم خليل‏

فقال أبو العباس محمد بن يزيد المعروف بالمبرد في (ص 268 ج 2 من كتابه الكامل طبع مصر): و يروى أن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه تمثل عند قبر فاطمة عليها السلام، ثم ذكر البيتين و المصراع الثاني من الأول فيه:

«و إن الذى دون الفراق قليل»

و الأول من الثاني:

«و إن افتقادي واحدا بعد واحد»

.و في البيان و التبيين للجاحظ (ص 181 ج 3 طبع مصر 1380 ه 1960 بتحقيق و شرح عبد السلام محمد هارون): و قال الاخر:

ذكرت أبا أروى فبت كأنني‏برد امور ماضيات وكيل‏
لكل اجتماع من خليلين فرقةو كل الذي قبل الفراق قليل‏
و أن افتقادي واحدا بعد واحددليل على أن لا يدوم خليل‏

و هو كما ترى لم يسم قائل الأبيات.

و قال عبد السلام محمد هارون في الهامش: ذكر ابن الأنباري أن هذه الأبيات لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين دفن فاطمة رضي الله عنها. و قال ابن الأعرابي:

إنها لشقران السلاماني. و في الكامل 724 ليبسك أن الشعر تمثل به علي بن أبي طالب عند قبر فاطمة. و قد روى البحتري في حماسة 233 البيتين الأخيرين.انتهى كلامه.

و ما في ذلك الديوان:

الناس من جهة التمثال أكفاءأبوهم آدم و الأم حواء

إلى آخر الأبيات فأسندها عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة (ص 214 طبع مصر 1319 ه) إلى محمد بن الربيع الموصلي، و قيل: إنها منسوبة إلى علي القيرواني كما في ذيل ص 307 من كتاب «اخلاق محتشمى» المنسوب إلى المحقق الطوسي قدس سره (طبع ايران، الطبع الأول) و ذكرناه في المجلد الأول من تكملة المنهاج ص 306 و لنعد إلى ما كنا بصدده:

و رأي ذلك اليوم من الجمل الذي ركبته عائشة كل العجب، و ذلك كما في إثبات الوصية للمسعودي و احتجاج الطبرسي و تاريخ الطبري و غيرها أنه كلما ابتز منه قائمه من قوائمه ثبت على الاخرى حتى نادى أمير المؤمنين عليه السلام: اقتلوا الجمل فإنه شيطان، و تولى محمد بن أبي بكر و عمار بن ياسر عقره بعد طول دمائه.

و قال المفيد في الجمل: روى ابراهيم بن نافع عن سعيد بن أبي هند قال:

أخبرنا أصحابنا ممن حضر القتال يوم البصرة أن أمير المؤمنين عليه السلام قاتل يومئذ أشد الفتال و سمعوه و هو يقول: تبارك الذي أذن لهذه السيوف تصنع ما تصنع.

و قال فيه: روى الواقدي قال: حدثني عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب قال: سمع أبي أصوات الناس يوم الجمل و قد ارتفعت فقال لابنه محمد: ما يقولون؟

قال: يقولون: يا ثارات عثمان، قال: فشد عليهم و أصحابه يهشون في وجهه‏

يقولون: ارتفعت الشمس و هو يقول: الصبر أبلغ حجة، ثم قام خطيبا يتو كأعلى قوس عربية فحمد الله و أثنى عليه و ذكر النبي فصلى عليه و قال:

«خطبة أمير المؤمنين عليه السلام فى اثناء حرب الجمل»

 «خطبة أمير المؤمنين عليه السلام فى اثناء حرب الجمل»

أما بعد فإن الموت طالب حثيث لا يفوته الهارب و لا يعجزه، فأقدموا و لا تنكلوا، و هذه الأصوات التي تسمعوها من عدوكم فشل و اختلاف، إنا كنا نؤمر في الحرب بالصمت، فعضوا على الناجذ، و اصبروا لوقع السيوف، فوالذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من موتة على فراشي، فقاتلوهم صابروا محتسبين فإن الكتاب معكم و السنة معكم، و من كانا معه فهو القوي، اصدقوهم بالضرب فأي امرء أحس من نفسه شجاعة و إقداما و صبرا عند اللقاء فلا يبطرنه، و لا يرى أن له فضلا على من هو دونه، و إن رأى من أخيه فشلا و ضعفا فليذب عنه كما يذب عن نفسه، فان الله لو شاء لجعله مثله.

أقول: أتى الرضي رضوان الله عليه ببعض هذه الخطبة في النهج، قوله:و من كلام له عليه السلام قاله للأصحاب في ساعة الحرب: و أى امرء منكم أحس من نفسه إلخ (الكلام 122 من باب الخطب من النهج)، و نقله المفيد في الإرشاد ص 114 طبع طهران 1377 ه و بين النسخ اختلاف في الجملة.

ثم لما حمل أمير المؤمنين عليه السلام الناكثين و حمل أعوانه معه فما كان القوم إلا كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، و لما رأت عائشة هزيمة القوم نادت يا بني الكرة الكرة اصبروا فإني ضامنة لكم الجنة، فحفوا بها من كل جانب، و استقدموا حتى دنوا من عسكر أمير المؤمنين عليه السلام، و لفت عائشة نفسها ببردة كانت معها و قلبت يمينها على منكبها الأيمن إلى الأيسر و الأيسر إلى الأيمن كما كان رسول الله صلى الله عليه و آله يفعل عند الاستسقاء، ثم قالت: ناولوني كفا من تراب، فناولوها فحثت به وجوه أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام و قالت: شاهت الوجوه كما فعل رسول الله صلى الله عليه و آله بأهل بدر، و لما فعلت عائشة من السب المبرح و حصب أصحاب أمير المؤمنين قال عليه السلام: و ما رميت إذ رميت و لكن الشيطان رمى و ليعودن وبالك عليك‏ إن شاء الله تعالى.

قال المفيد في الجمل: روى محمد بن موسى عن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال:سمعت معاذ بن عبد الله التميمي و كان قد حضر الجمل يقول: لما التقينا و اصطففنا نادى منادي علي بن أبي طالب عليه السلام: يا معشر قريش اتقوا الله على أنفسكم فإني أعلم أنكم قد خرجتم و ظننتم أن الأمر لا يبلغ إلى هذا، فالله الله في أنفسكم فإن السيف ليس له بقيا، فان أحببتم فانصرفوا حتى نحاكم هؤلاء القوم، و إن أحببتم فإلي فانكم آمنون بأمان الله، قال: فاستحيينا أشد الحياء و أبصرنا ما نحن فيه و لكن الحفاظ حملنا على الصبر مع عائشة حتى قتل من قتل منا، فو الله لقد رأيت أصحاب علي عليه السلام و قد وصلوا إلى الجمل و صاح منهم صائح: اعقروه، فعقروه و نادى علي عليه السلام: من طرح السلاح فهو آمن، و من دخل بيته فهو آمن، فو الله ما رأيت أكرم عفوا منه.

و فى الامامة و السياسة للدينوري. قال حية بين جهين: نظرت إلى علي عليه السلام و هو يخفق نعاسا فقلت له: تا الله ما رأيت كاليوم قط، إن بإزائنا لمائة ألف سيف و قد هزمت ميمنتك و ميسرتك و أنت تخفق نعاسا؟ فانتبه و رفع يديه و قال: اللهم إنك تعلم ما كتبت في عثمان سوادا في بياض و أن الزبير و طلحة ألبا و أجلبا علي الناس، اللهم أولانا بدم عثمان فخذه اليوم.

و في مروج الذهب: قد كان أصحاب الجمل حملوا على ميمنة علي عليه السلام و ميسرته فكشفوها فأتاه بعض ولد عقيل و علي عليه السلام يخفق نعاسا على قربوس سرجه فقال له: يا عم قد بلغت ميمنتك و ميسرتك حيث ترى و أنك تخفق نعاسا؟ قال:اسكت يا ابن أخي فإن لعمك يوما لا يعدوه، و الله لا يبالي عمك وقع على الموت أو وقع الموت عليه.

ثم بعث إلى ولده محمد ابن الحنفية و كان صاحب رايته: احمل على القوم فأبطأ محمد عليه و كان بإزائه قوم من الرماة ينتظر نفاد سهامهم، فأتاه علي عليه السلام فقال:هلا حملت؟

فقال: لا أجد متقدما إلا على سهم أو سنان و إني لمنتظر نفاد سهامهم و أحمل، فقال:

احمل بين الأسنة فإن للموت عليك جنة، فحمل محمد فسكن بين الرماح و النشاب فوقف فأتاه علي فضربه بقائم سيفه و قال: أدركك عرق امك، و أخذ الراية و حمل و حمل الناس معه فما كان القوم إلا كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف و طافت بنو امية بالجمل و قطع على خطام الجمل سبعون يدا من بني ضبة، و رمي الهودج بالنشاب و النبل و عرقب الجمل و وقع الهودج و الناس مفترقون يقتتلون.

و لما سقط الجمل و وقع الهودج جاء محمد بن أبي بكر فأدخل يده فقالت: من أنت؟ قال: أقرب الناس قرابة و أبغضهم إليك أنا محمد أخوك يقول لك أمير المؤمنين هل أصابك شي‏ء؟ قالت: ما أصابني إلا سهم لم يضرني.

فجاء علي عليه السلام حتى وقف عليها فضرب الهودج بقضيب و قال: يا حميراء رسول الله أمرك بهذا؟ ألم يأمرك أن تقري في بيتك، و الله ما أنصفك الذين أخرجوك إذ صانوا عقائلهم و أبرزوك، و أمر أخاها محمدا فأنزلها في دار صفية بنت الحارث بن أبي طلحة العبدي و هي ام طلحة الطلحات، و وقع الهودج و الناس مفترقون يقتتلون، و التقى الأشتر بن مالك بن الحارث النخعي و عبد الله بن الزبير فاعتركا و سقطا إلى الأرض عن فرسيهما و الناس حولهم يجولون و ابن الزبير ينادي:

اقتلوني و مالكا، و اقتلوا مالكا معي، فلا يسمعهما أحد لشدة الجلاد و وقع الحديد، و لا يراهما راء لظلمة النقع و ترادف العجاج، و جاء ذو الشهادتين خزيمة ابن ثابت إلى علي فقال، يا أمير المؤمنين لا تنكس اليوم رأس محمد و اردد إليه الراية فدعا به ورد عليه الراية و قال:

اطعنهم طعن أبيك تحمدلا خير في حرب إذا لم توقد
بالمشرفي و القنا المشرد

ثم استسقى فاتي بعسل و ماء فحسا منه حسوة و قال: هذا الطائفي و هو غريب البلد فقال له عبد الله بن جعفر: ما شغلك ما نحن فيه عن علم هذا؟ قال: إنه و الله يا بني ما ملأ بصدر عمك شي‏ء قط من أمر الدنيا، ثم دخل عليه السلام البصرة و كانت الواقعة في الموضع المعروف بالخريبة يوم الخميس لعشر خلون من جمادى‏ الاخرة سنة ست و ثلاثين.

و قال الدينوري: فشق علي في عسكر القوم يطعن و يقتل ثم خرج و هو يقول الماء الماء، فأتاه رجل بأداوة فيها عسل فقال له: يا أمير المؤمنين أما الماء فإنه لا يصلح لك في هذا المقام و لكن أذوقك هذا العسل فقال: هات، فحسا منه حسوة ثم قال: إن عسلك لطائفي، قال الرجل: لعجبا منك و الله يا أمير المؤمنين لمعرفتك الطائفي من غيره في هذا اليوم و قد بلغت القلوب الحناجر، فقال له علي عليه السلام: إنه و الله يا ابن أخي ما ملأ صدر عمك شي‏ء قط و لا هابه شي‏ء، ثم أعطى الراية لابنه محمد و قال: هكذا فاصنع فاقتتل الناس ذلك اليوم قتالا شديدا و كانوا كذلك يروحون و يغدون على القتال سبعة أيام و إن عليا خرج إليهم بعد سبعة أيام فهزمهم.

«قتل الزبير بن العوام»

كان الزبير ممن ولى يوم الجمل مدبرا و عده الطبري في التاريخ ممن انهزم يوم الجمل فاختفى و مضى في البلاد قال: كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد و طلحة قالا: و مضى الزبير في صدر يوم الهزيمة راجلا نحو المدينة فقتله ابن جرموز، و ممن ولى مدبرا مروان بن الحكم و أوى إلى أهل بيت من عنزة و عد نفرا كثيرا منهم في تاريخه.

و قد تظافرت الأخبار عن الفريقين أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام خرج بنفسه حاسرا على بغلة رسول الله صلى الله عليه و آله الشهباء بين الصفين، فنادى يا زبير اخرج إلي فخرج شائكا في سلاحه فدنا إليه حتى اختلفت أعناق دابتيهما فقال له علي:

ويحك يا زبير ما الذي أخرجك؟ قال: دم عثمان، قال: قتل الله أولانا بدم عثمان أما تذكر يوما لقيت رسول الله صلى الله عليه و آله في بني بياضة و هو راكب حماره فضحك إلي رسول الله صلى الله عليه و آله و ضحكت أنت معه فقلت أنت: يا رسول الله ما يدع علي زهوه فقال لك: ليس به زهو، أتحبه يا زبير؟ فقلت: إني و الله لاحبه فقال لك: إنك‏ و الله ستقاتله و أنت له ظالم.

فقال الزبير: أستغفر الله لو ذكرتها ما خرجت، فقال عليه السلام: يا زبير ارجع فقال: و كيف أرجع الان و قد التقت حلقتا البطان، هذا و الله العار الذي لا يغسل فقال: يا زبير ارجع بالعار قبل أن تجمع العار و النار، فانصرف الزبير و دخل على عائشة فقال: يا اماه ما شهدت موطنا قط في الشرك و لا في الإسلام إلا ولي فيه رأي و بصيرة غير هذا الموطن، فانه لا رأي لي فيه و لا بصيرة، و على نقل الدينوري في الامامة و السياسة قال: و إني لعلى باطل، قالت له عائشة: يا أبا عبد الله خفت سيوف بني عبد المطلب، فقال: أما و الله إن سيوف بني عبد المطلب طوال حداد يحملها فتية أنجاد.

و قال المسعودي في مروج الذهب: و لما رجع الزبير عن الحرب قال ابنه عبد الله: أين تدعنا؟ فقال: يا بني أذكرني أبو حسن بأمر كنت قد أنسيته قال: بل خفت سيوف بني عبد المطلب فانها طوال حداد يحملها فتية أنجاد فقال: لا و الله و لكني ذكرت ما أنسانيه الدهر فاخترت العار على النار أبا لجبن تعيرني لا أبا لك؟ ثم أمال سنانه و شد في الميمنة فقال علي عليه السلام: افرجوا له فقدها جوه ثم رجع فشد في الميسرة، ثم رجع فشد في القلب، ثم عاد إلى ابنه فقال: أ يفعل هذا جبان.

و قال الدينوري: إن الزبير قال لابنه عبد الله حينئذ: عليك بحربك. أما أنا فراجع إلى بيتي، فقال له ابنه عبد الله: الان حين التقت حلقتا البطان و اجتمعت الفئتان، و الله لا نغسل رءوسنا منها، فقال الزبير لابنه: لا تعد هذا مني جبنا، فو الله ما فارقت أحدا في جاهلية و لا إسلام، قال: فما يردك؟ قال: يردني ما إن علمته كسرك.

ثم انصرف الزبير راجعا إلى المدينة حتى أتى وادي السباع و الأحنف بن قيس معتزل في قومه من بني تميم، فأتاه آت فقال له: هذا الزبير مار، فقال:

ما أصنع بالزبير؟ و قد جمع بين فئتين عظيمتين من الناس يقتل بعضهم بعضا و هو مار إلى منزله سالما.

فلحقه نفر من بني تميم فسبقهم إليه عمرو بن جرموز التميمي فقال للزبير:يا أبا عبد الله أحييت حربا ظالما أو مظلوما ثم تنصرف؟ أ تائب أنت أم عاجز؟ فسكت عنه، ثم عاوده فقال له: يا أبا عبد الله حدثني عن خصال خمس أسألك عنها،

فقال:هات. قال: خذلك عثمان، و بيعتك عليا، و إخراجك ام المؤمنين، و صلاتك خلف ابنك، و رجوعك عن الحرب.

فقال الزبير: نعم اخبرك أما خذلي عثمان فأمر قدر الله فيه الخطيئة و أخر التوبة، و أما بيعتي عليا فو الله ما وجدت من ذلك بدا حيث بايعه المهاجرون و الأنصار و خشيت القتل، و أما إخراجنا امنا عائشة فأردنا أمرا و أراد الله غيره، و أما صلاتي خلف ابني فإنما قدمته عائشة ام المؤمنين و لم يكن لي دون صاحبي أمر و أما رجوعي عن هذا الحرب فظن بي ما شئت غير الجبن.

فقال ابن جرموز: و الهفا على ابن صفية أضرم نارا ثم أراد أن يلحق بأهله قتلني الله إن لم أقتله و سار معه ابن جرموز و قد كفر على الدرع، فلما انتهى إلى وادي السباع استغفله فطعنه.

و قال المسعودي في مروج الذهب: و قد نزل الزبير إلى الصلاة فقال لابن جرموز: أتؤمني أو أؤمك؟ فأمه الزبير فقتله عمرو في الصلاة، و أتى عمرو عليا بسيف الزبير و خاتمه و رأسه و قيل: إنه لم يأت برأسه فقال علي عليه السلام: سيف طال ما جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه و آله، و لكن الحين و مصارع السوء، و قاتل ابن صفية في النار، ففي ذلك يقول ابن جرموز:

أتيت عليا برأس الزبيرو كنت ارجي به الزلفة
فبشر بالنار قبل العيان‏و بئس بشارة ذي التحفة
فقلت إن قتل الزبيرلو لا رضاك من الكلفة
فان ترض ذلك فمنك الرضاو إلا فدونك لي حلفة
و رب المحلين و المحرمين‏و رب الجماعة و الألفة
لسيان عندي قتل الزبيرو ضرطة عنز بذي الجحفة

«قتل طلحة»

في الكافي: قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته يوم الجمل: وا عجبا لطلحة ألب الناس على ابن عفان حتى إذا قتل أعطاني صفقته بيمينه طائعا، ثم نكث بيعتي اللهم خذه و لا تمهله، و أن الزبير نكث بيعتي و قطع رحمي و ظاهر على عدوي فاكفنيه اليوم بما شئت.

و قال الدينوري في الامامة و السياسة: إن القوم اقتتلوا حول الجمل حتى حال بينهم الليل و كانوا كذلك يروحون و يغدون على القتال سبعة أيام و أن عليا خرج إليهم بعد سبعة أيام فهزمهم، فلما رأى طلحة ذلك رفع يديه إلى السماء و قال: إن كنا قد داهنا في أمر عثمان و ظلمناه فخذله اليوم منا حتى ترضى، فما مضى كلامه حتى ضربه مروان ضربة أتى منها على نفسه فخر.

قال الطبري في التاريخ (ص 534 ج 3 طبع مصر 1357 ه) كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن اسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر قال: قال طلحة يومئذ- اي يوم حرب الجمل- اللهم أعط عثمان مني حتى يرضى، فجاء سهم غرب و هو واقف فخل ركبته بالسرج و ثبت حتى امتلاء موزجه دما، فلما ثقل قال لمولاه:

اردفني و ابغني مكانا لا اعرف فيه، فلم أر كاليوم شيخا أضيع دما، فركب مولاه و أمسكه و جعل يقول: قد لحقنا القوم حتى انتهى به إلى دار من دور البصرة خربة و أنزله في فيئها، فمات في تلك الخربة و دفن في بني سعد. انتهى.

و قال المفيد في الجمل: روى اسماعيل بن عبد الملك عن يحيى بن شبل عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: حدثني أبي علي زين العابدين عليه السلام قال: قال لي مروان بن الحكم: لما رأيت الناس يوم الجمل قد كشفوا قلت و الله لأدركن ثاري و لأفزن منه الان، فرميت طلحة فأصبت نساه، فجعل الدم ينزف، فرميته ثانية فجاءت به فأخذوه حتى وضعوه تحت شجرة فبقي تحتها ينزف منه الدم حتى مات.

و في مروج الذهب للمسعودي بعد ما رجع الزبير عن الحرب نادى علي عليه السلام طلحة حين رجع الزبير: يا أبا محمد ما الذي أخرجك؟ قال: الطلب بدم عثمان.

قال على عليه السلام: قتل الله اولانا بدم عثمان، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول:اللهم وال من والاه و عاد من عاداه؟ و أنت أول من بايعني ثم نكثت، و قد قال الله عز و جل‏ فمن نكث فإنما ينكث على نفسه‏ فقال: أستغفر الله ثم رجع، فقال مروان بن الحكم: رجع الزبير و يرجع طلحة ما ابالي رميت ههنا أم ههنا فرماه في أكحله فقتله، فمر به علي عليه السلام بعد الوقعة في موضعه في قنطرة قرة فوقف عليه فقال: إنا لله و إنا إليه راجعون و الله لكنت كارها لهذا أنت و الله كما قال القائل:

فتى كان يدنيه الغنى من صديقه‏إذا ما هو استغنى و يبعده الفقر
كأن الثريا علقت في يمينه‏و في خده الشعرى و في الاخر البدر

و ذكر أن طلحة لما ولى سمع و هو يقول:

ندمت ندامة و ضل حلمي‏و لهفي ثم لهف أبي و امي‏
ندمت ندامة الكسعي لماطلبت رضا بني حزم بزعمي‏

و هو يمسح عن جبينه الغبار و هو يقول: و كان أمر الله قدرا مقدورا، و قيل:إنه سمع و يقول هذا الشعر و قد جرحه في جبهته عبد الملك و رماه مروان في أكحله و قد وقع صريعا يجود بنفسه.

و نقل الطبرسي في الاحتجاج عن نصر بن مزاحم أن قتل طلحة كان قبل قتل الزبير فانه قال: روى نصر بن مزاحم أن أمير المؤمنين عليه السلام حين وقع القتال و قتل طلحة تقدم على بغلة رسول الله صلى الله عليه و آله الشهباء بين الصفين فدعا الزبير فدنا إليه- إلخ.

قال: و روي أيضا أن مروان بن الحكم يوم الجمل كان يرمي بسهامه في العسكرين معا و يقول: أصبت أيا منهما فهو فتح لقلة دينه و تهمته للجميع بيان: الكسع بالضم فالفتح حي من اليمن و منه قولهم ندامة الكسعي.

قال الميداني في مجمع الأمثال في بيان مثلهم: أندم من الكسعي ما هذا لفظه: قال حمزة: هو رجل من كسعة و اسمه محارب بن قيس، و قال غيره:هو من بني كسع ثم من بني محارب و اسمه غامد بن الحارث و من حديثه أنه كان‏ يرعى إبلا له بواد معشب فبينا هو كذلك إذ ابصر بنبعة في صخرة فأعجبته

فقال:ينبغي أن يكون هذه قوسا، فجعل يتعهدها و يرقبها حتى أدركت قطعها و جففها فلما جفت اتخذت منها قوسا و أنشا يقول:

يا رب وفقني لنحت قوسي‏فإنها من لذتي لنفسي‏
و انفع بقوسي ولدي و عرسي‏أنحتها صفراء مثل الورس‏
صفراء ليست كقسي النكس‏

ثم دهنها و خطمها بوتر ثم عمد إلى مكان من برايتها فجعل منه خمسة أسهم و جعل يقلبها في كفه و يقول:

هن و ربي أسهم حسان‏تلذ للرامي بها البنان‏
كأنما قومها ميزان‏فابشروا بالخصب يا صبيان‏
إن لم يعقني الشوم و الحرمان‏

ثم خرج حتى أتى قترة على موارد حمر فكمن فيها، فمر قطيع منها فرمى عيرا منها فأمخطه السهم أي أنفذه فيه و جازه و أصاب الجبل فأورى نارا فظن أنه أخطأ فأنشأ يقول:

أعوذ بالله العزيز الرحمن‏من نكد الجد معا و الحرمان‏
مالي رأيت السهم بين الصوان‏يوري شرارا مثل لون العقيان‏
فأخلف اليوم رجاء الصبيان‏

ثم مكث على حاله فمر قطيع آخر فرمى عيرا منها فأمخطه السهم و صنع صنيع الأول فأنشأ يقول:

لا بارك الرحمن في رمي القترأعوذ بالخالق من سوء القدر
أ أمخط السهم لازهاق الضررأم ذاك من سوء احتيال و نظر

ثم مكث على حاله فمر قطيع آخر فرمى عيرا منها فأمخطه السهم و صنع صنيع الثاني فأنشأ يقول:

ما بال سهمي يوقد الحبا حباقد كنت أرجو أن يكون صائبا
و أمكن العير و ولى جانبافصار رأيي فيه رأيا خائبا

ثم مكث مكانه فمر به قطيع آخر فرمى عيرا منهما فصنع صنيع الثالث فأنشأ يقول:

يا أسفا للشوم و الجد النكدأخلف ما أرجو لأهل و ولد

ثم مر به قطيع آخر فرمى عيرا منها فصنع صنيع الرابع فأنشأ يقول:

أبعد خمس قد حفظت عدهاأحمل قوسي و اريد ردها
أخزى الاله لينها و شدهاو الله لا تسلم عندي بعدها
و لا ارجي ما حييت رفدها

ثم عمد إلى قوسه فضرب بها حجرا فكسرها، ثم بات فلما أصبح نظر فاذا الحمر مطرحة حوله مصرعة و أسهمه بالدم مضرجة فندم على كسر القوس فشد على إبهامه فقطعها و أنشأ يقول:

ندمت ندامة لو أن نفسي‏تطاوعني إذا لقطعت خمسي‏
تبين لي سفاء الرأي مني‏لعمر أبيك حين كسرت قوسي‏

قال الفرزدق:

ندمت ندامة الكسعي لماغدت مني مطلقة نوار
و كانت جنتي فخرجت منهاكادم حين لج به الضرار
و كنت كفاقي‏ء عينيه عمدافأصبح ما يضي‏ء له النهار
و لو إني ملكت يدي و قلبي‏لكان علي للقدر الخيار

و قال آخر:

ندمت ندامة الكسعي لمارأت عيناه ما صنعت يداه‏

و قال علم الهدى في الشافي: إن طلحة تمثل بهذا البيت، و روى المفيد في آخر الجمل مسندا أن طلحة لما قدم مكة بعد قتل عثمان و بيعته عليا عليه السلام و قبل حرب الجمل جاء إلى عائشة فلما رأته قالت: يا أبا محمد قتلت عثمان و بايعت عليا فقال لها: يا اماه مثلي كما قال الشاعر:

ندمت ندامة الكسعي لمارأت عيناه ما صنعت يداه‏

«تأميره عليه السلام ابن العباس على البصرة و وصيته له و خطبته الناس»

قال المفيد في الجمل: و مما رواه الواقدي عن رجاله قال: لما أراد أمير المؤمنين عليه السلام الخروج من البصرة استخلف عليها عبد الله بن عباس و وصاه و كان في وصيته له أن قال:يا ابن عباس عليك بتقوى الله و العدل بمن وليت عليه، و أن تبسط للناس وجهك، و توسع عليهم مجلسك، و تسعهم بحلمك، و إياك و الغضب فانه طيرة الشيطان و إياك و الهوى فانه يصدك عن سبيل الله، و اعلم أن ما قربك من الله فهو مباعدك من النار، و ما باعدك من الله فمقربك من النار، و اذكر الله كثيرا و لا تكن من الغافلين.

أقول: أتى ببعض هذه الوصية في آخر باب الكتب و الرسائل من النهج قوله: و من وصية له عليه السلام بعبد الله بن العباس عند استخلافه إياه على البصرة: سع الناس بوجهك و مجلسك- إلخ.

و روى أبو مخنف لوط بن يحيى قال: لما استعمل أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله ابن العباس على البصرة خطب الناس فحمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي ثم قال:معاشر الناس قد استخلفت عليكم عبد الله بن العباس فاسمعوا له و أطيعوا أمره ما أطاع الله و رسوله، فان أحدث فيكم أو زاغ عن الحق فاعلموا أني أعز له عنكم فاني أرجو أن أجده عفيفا تقيا ورعا، و إني لم اوله عليكم إلا و أنا أظن ذلك به غفر الله لنا و لكم.

قال: فأقام عبد الله بالبصرة حتى عمد أمير المؤمنين عليه السلام إلى التوجه إلى الشام، فاستخلف. عليها زياد بن أبيه و ضم إليه أبا الأسود الدؤلي و لحق بأمير المؤمنين عليه السلام حتى صار إلى صفين.

أقول: خطبته هذه ما ذكرت في النهج. و قال أبو جعفر الطبري في التاريخ:

أمر علي عليه السلام ابن عباس على البصرة و ولي زيادا الخراج و بيت المال، و امر ابن عباس أن يسمع منه فكان ابن عباس يقول: استشرته عند هنة كانت من الناس، فقال:إن كنت تعلم أنك على الحق و أن من خالفك على الباطل أشرت عليك بما ينبغي و إن كنت لا تدري أشرت عليك بما ينبغي كذلك، فقلت: إني على الحق و إنهم على الباطل، فقال: اضرب بمن أطاعك من عصاك و من ترك أمرك، فان كان أعز للاسلام و أصلح له أن يضرب عنقه فاضرب عنقه، فاستكتبه.

و روى ثقة الاسلام الكليني رضوان الله عليه في الكافي خطبة اخرى له عليه السلام خطب الناس في البصرة بعد انقضاء الحرب نقلها الفيض قدس سره في الوافي أيضا (ص 17 ج 14) قال: محمد بن عيسى عن السراد عن مؤمن الطاق عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام لما انقضت القصة فيما بينه و بين طلحة و الزبير و عائشة بالبصرة صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسول الله صلى الله عليه و آله ثم قال:

أيها الناس إن الدنيا حلوة خضرة تفتن الناس بالشهوات و تزين لهم بعاجلها و أيم الله إنها لتغر من أملها، و تخلف من رجاها و ستورث غدا أقواما الندامة و الحسرة باقبالهم عليها و تنافسهم فيها و حسدهم و بغيهم على أهل الدين و الفضل فيها ظلما و عدوانا و بغيا و أشرا و بطرا و بالله أنه ما عاش قوم قط في غضارة من كرامة نعم الله في معاش دنيا و لا دائم تقوى في طاعة الله و الشكر لنعمه فأزال ذلك عنهم إلا من بعد تغيير من أنفسهم، و تحويل عن طاعة الله و الحادث من ذنوبهم و قلة محافظته و ترك مراقبة الله و تهاون بشكر نعمة الله، لأن الله تعالى يقول في محكم كتابه‏ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و إذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له و ما لهم من دونه من وال‏.

و لو أن أهل المعاصي و كسبة الذنوب إذا هم حذروا زوال نعمة الله و حلول نقمته و تحويل عافيته أيقنوا أن ذلك من الله تعالى بما كسبت أيديهم فأقلعوا و تابوا و فزعوا إلى الله تعالى بصدق من نياتهم و إقرار منهم له بذنوبهم و إساءتهم لصفح لهم‏ عن كل ذنب، و اذا لأقالهم كل عثرة و لرد عليهم كل كرامة نعمة ثم أعاد لهم من صلاح أمرهم و مما كان أنعم به عليهم كل ما زال عنهم و فسد عليهم، فاتقوا الله أيها الناس حق تقاته، و استشعروا خوف الله تعالى، و أخلصوا اليقين، و توبوا إليه من قبيح ما استنفركم الشيطان من قتال ولي الأمر و أهل العلم بعد رسول الله صلى الله عليه و آله، و ما تعاونتم عليه من تفريق الجماعة، و تشتيت الأمر، و فساد صلاح ذات البين، إن الله يقبل التوبة و يعفو عن السيئة و يعلم ما تفعلون.أقول: و هذه الخطبة ما ذكرت في النهج أيضا.

«اشارة اجمالية الى ما عند الائمة من سلاح رسول الله صلى الله عليه و آله و غيرها»

في الكافي للكليني قدس سره و في الوافي ص 134 ج 2 من الطبع المظفري في باب ما عندهم من سلاح رسول الله صلى الله عليه و آله و متاعه: أبان، عن يحيى بن أبي العلاء قال:سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: درع رسول الله صلى الله عليه و آله ذات الفضول لها حلقتان من ورق في مقدمها، و حلقتان من ورق في مؤخرها، و قال: لبسها علي عليه السلام يوم الجمل.

و في الكافي: أبان، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: شد علي عليه السلام بطنه يوم الجمل بعقال أبرق نزل به جبرئيل عليه السلام من السماء، و كان رسول الله صلى الله عليه و آله يشد به على بطنه إذا لبس الدرع.

و في الفقيه: كان صلى الله عليه و آله يلبس من القلانس اليمنية و البيضاء و المصرية ذات الاذنين في الحرب، و كانت له عنزة يتكي عليها و يخرجها في العيدين فيخطب بها و كان له قضيب يقال له الممشوق، و كان له فسطاط يسمى الكن، و كانت له قصعة تسمى السعة، و كان له قعب يسمى الري، و كان له فرسان يقال لأحدهما المرتجز و للاخر السكب، و كل له بغلتان يقال لاحداهما الدلدل و للاخرى الشهباء و كان له نافتان يقال لاحداهما العضباء و للاخرى الجدعاء، و كان له سيفان يقال لأحدهما ذو الفقار و للاخر العون، و كان له سيفان آخران يقال لأحدهما المخذم و للاخر الرسوم، و كان له حمار يسمى اليعفور، و كانت له عمامة تسمى السحاب و كان له درع تسمى ذات الفضول لها ثلاث حلقات فضة: حلقة بين يديها، و حلقتان‏ خلفها، و كانت له راية تسمى العقاب، و كان له بعير يحمل عليه يقال له الديباج و كان له لواء يسمى العلوم، و كان له مغفر يقال له الأسعد، فسلم ذلك كلها إلى علي عليه السلام عند موته و أخرج خاتمه و جعله في اصبعه فذكر علي عليه السلام أنه وجد في قائم سيف من سيوفه صحيفة فيها ثلاثة أحرف: صل من قطعك، و قل الحق و لو على نفسك، و أحسن إلى من أساء إليك.

الكافي: محمد، عن ابن عيسى، عن الحسين، عن النضر، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال: ترك رسول الله صلى الله عليه و آله في المتاع سيفا، و درعا، و عنزة، و رحلا، و بغلته الشهباء فورث ذلك كله لعي بن أبي طالب.

الكافي: محمد، عن أحمد، عن الحسين، عن فضالة، عن عمر بن أبان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عما يتحدث الناس أنه دفع إلى ام سلمة صحيفة مختومة فقال:إن رسول الله صلى الله عليه و آله لما قبض ورث علي عليه السلام علمه و سلاحه و ما هناك، ثم صار إلى الحسن، ثم صار إلى الحسين، قال، قلت: ثم صار إلى علي بن الحسين، ثم صار إلى ابنه، ثم انتهى اليك؟ فقال: نعم.

الكافي: الاثنان، عن الوشاء، عن أبان، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لبس أبي درع رسول الله صلى الله عليه و آله ذات الفضول فخطت و لبستها أنا ففضلت.

الكافي: الاثنان، عن الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن عبد الأعلى بن أعين، قال:سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: عندي سلاح رسول الله صلى الله عليه و آله لا انازع فيه،

ثم قال:إن السلاح مدفوع عنه لو وضع عند شر خلق الله لكان خيرهم، ثم قال: إن هذا الأمر يصير إلى من يلوي له الحنك فاذا كانت من الله فيه المشية خرج فيقول الناس ما هذا الذي كان و يضع الله له يدا على رأس رعيته.

أقول: قد مضى في (ص 254 ج 1 من تكملة المنهاج) أن أمير المؤمنين عليه السلام تقدم في صفين للحرب على بغلة رسول الله صلى الله عليه و آله الشهباء نقلا عن المسعودي في مروج الذهب و الأخبار في ذلك المعنى متظافرة جدا و نقلها و بيانها ينجران إلى بحث طويل الذيل و لسنا في ذلك المقام إلا أنه لما قادنا شرح الخطبة إلى الإشارة إلى وقعة الجمل مجملة و قد تظافرت الأخبار بأن أمير المؤمنين عليه السلام لبس درع رسول الله ذات الفضول يوم الجمل أحببت أن اشير إلى ما عند الأئمة من سلاح رسول الله صلى الله عليه و آله و غيرها.

ثم المراد من قوله عليه السلام في الخبر الأخير: إن هذا الأمر يصير إلى من يلوي له الحنك، هو قائم آل محمد صلى الله عليه و آله ولي العصر الحجة بن الحسن العسكري عجل الله تعالى فرجه الشريف.

فقد آن أن نشرع في شرح جمل الكتاب فإن غرضنا من شرح هذا الكتاب و الذي قبله أن نورد واقعة الجمل على الايجاز و الاختصار و أن نبين مدارك الخطب و الخطب الواردة منه عليه السلام في النهج و طرق اسنادها مما تتعلق بالجمل، فقد أتبعنا لذلك أنفسنا، و أسهرنا أعيننا، و بذلنا جهدنا على ما أمكننا حتى استقام الأمر على النهج الذي قدمناه، فلله الحمد على ما هدانا، و له الشكر بما أولانا.

قوله عليه السلام: (و جزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم) لما أن أهل الكوفة أجابوا دعوته عليه السلام مخلصين و قاموا بنصرته مرتاحين، و هو عليه السلام من أهل بيت نبيهم خاطب أهل الكوفة في الكتاب، و دعا لهم بدعاء مستطاب مستجاب، بقوله:جزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم‏.

قوله عليه السلام: (أحسن ما يجزي العاملين بطاعته، و الشاكرين لنعمته) العمل‏ بطاعته‏ تعالى فعل أوامره و ترك نواهيه، و النعمة تعم جميع ما أنعم الله به عباده و منه نعمة وجود الأنبياء و الأوصياء.

ثم إن الشكر بإزاء كل نعمة بحسبها كالتوبة عن الذنب مثلا، ففي بعضها يتم الشكر بالقول فقط مثلا أن يقول: الحمد لله رب العالمين، و في بعضها لا يتم إلا بالفعل و هو على أنحاء أيضا و منه الجهاد في سبيل الله تعالى فمن الشكر بإزاء نعمة وجود النبي صلى الله عليه و آله و أهل بيته أن يبذل الأموال و الأنفس دونهم كما فعل أهل الكوفة فكأنما هو عليه السلام أشار في كلامه إلى أنهم عملوا بطاعة الله و شكروا لنعمته و يمكن أن يقال: و من ثم أتى بهيئة الجمع دون الإفراد أي لم يقل العامل‏ بطاعته و الشاكر لنعمته ليومئ إلى أنهم كانوا العاملين و الشاكرين، كما يمكن أن يقال إن لفظ الجمع تنبى‏ء عن كثرة ثوابهم و جزائهم أيضا.ثم إن فيه إيماء أيضا إلى جزاء العاملين بطاعته و الشاكرين لنعمته حيث خصهما بالذكر دون غيرهما.

قوله عليه السلام: (فقد سمعتم‏- إلخ) أي إنما كان لكم جزاء العاملين‏ بطاعته‏ لأنكم أيضا سمعتم‏ أمر الله و أطعتموه، لأن أمر حجة الله هو أمره تعالى، و دعيتم إلى نصرة أهل بيت نبيكم و هي نصرة دين الله في الحقيقة فأجبتم الداعي و إنما لم يذكر متعلقات الأفعال لأنها ظاهرة من سياق الكلام و من معاني الكلمات، أو لأن الغرض كما قيل ذكر الأفعال دون نسبتها إليها.

الترجمة

اين يكى از نامه ‏هاى آن بزرگوار است كه بعد از فتح بصره بمردم كوفه نوشت:

اي مردم كوفه خداوند شما را از جانب أهل بيت پيغمبرتان نيكوترين جزائي كه به إطاعت كنندگان سپاسگزارانش مى‏ دهد پاداش دهد كه فرمان ولي خدا را شنيديد و إطاعت كرديد، و بياري دين خدا دعوت شديد و إجابت كرديد.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

Show More

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.

Back to top button
-+=