نامه 17 صبحی صالح
17- و من كتاب له ( عليه السلام ) إلى معاوية جوابا عن كتاب منه إليه
وَ أَمَّا طَلَبُكَ إِلَيَّ الشَّامَ فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لِأُعْطِيَكَ الْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ
وَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَكَلَتِ الْعَرَبَ إِلَّا حُشَاشَاتِ أَنْفُسٍ بَقِيَتْ أَلَا وَ مَنْ أَكَلَهُ الْحَقُّ فَإِلَى الْجَنَّةِ وَ مَنْ أَكَلَهُ الْبَاطِلُ فَإِلَى النَّارِ
وَ أَمَّا اسْتِوَاؤُنَا فِي الْحَرْبِ وَ الرِّجَالِ فَلَسْتَ بِأَمْضَى عَلَى الشَّكِّ مِنِّي عَلَى الْيَقِينِ وَ لَيْسَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَحْرَصَ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى الْآخِرَةِ
وَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فَكَذَلِكَ نَحْنُ وَ لَكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمٍ وَ لَا حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ لَا أَبُو سُفْيَانَ كَأَبِي طَالِبٍ وَ لَا الْمُهَاجِرُ كَالطَّلِيقِ وَ لَا الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ وَ لَا الْمُحِقُّ كَالْمُبْطِلِ وَ لَا الْمُؤْمِنُ كَالْمُدْغِلِ
وَ لَبِئْسَ الْخَلْفُ خَلْفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ
وَ فِي أَيْدِينَا بَعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ وَ نَعَشْنَا بِهَا الذَّلِيلَ
وَ لَمَّا أَدْخَلَ اللَّهُ الْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً وَ أَسْلَمَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ طَوْعاً وَ كَرْهاً كُنْتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ إِمَّا رَغْبَةً وَ إِمَّا رَهْبَةً عَلَى حِينَ فَازَ أَهْلُ السَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ وَ ذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ
فَلَا تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً وَ لَا عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا وَ السَّلَامُ
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج18
و من كتاب له عليه السلام الى معاوية جوابا عن كتاب منه اليه و هو المختار السابع عشر من باب الكتب و الرسائل
و أما طلبك إلى الشام فإني لم أكن لاعطيك اليوم ما منعتك أمس. و أما قولك إن الحرب قد أكلت العرب إلا حشاشات أنفس بقيت ألا فمن أكله الحق فإلى النار. و أما استوائنا في الحرب و الرجال فلست بأمضى على الشك مني على اليقين. و ليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الاخرة. و أما قولك إنا بنو عبد مناف فكذلك نحن و لكن ليس أمية كهاشم، و لا حرب كعبد المطلب، و لا أبو سفيان كأبي طالب، و لا المهاجر كالطليق، و لا الصريح كاللصيق، و لا المحق كالمبطل و لا المؤمن كالمدغل، و لبئس الخلف خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنم. و في أيدينا بعد فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز، و نعشنا بها الذليل. و لما أدخل الله العرب في دينه أفواجا، و أسلمت له هذه الأمة طوعا و كرها كنتم ممن دخل في الدين إما رغبة و إما رهبة على حين فاز أهل السبق بسبقهم، و ذهب المهاجرون الأولون بفضلهم. فلا تجعلن للشيطان فيك نصيبا، و لا على نفسك سبيلا.
الماخذ
روى الكتابين سليم بن قيس الكوفي المتوفى حدود سنة 90 ه كما في الكتاب المنسوب إليه (174 من طبع النجف).و نصر بن مزاحم المنقري الكوفي المتوفى 212 ه في كتاب صفين (ص 252 من الطبع الناصري)و ابن قتيبة الدينوري المتوفى 276 ه في كتاب الإمامة و السياسة المعروف بتاريخ الخلفاء (ص 117 و 118 ج 1 من طبع مصر 1377 ه).
و علي بن الحسين بن علي المعروف بالمسعودي المتوفى 346 ه في مروج الذهب (ص 60 و 61 ج 2 من طبع مصر 1346 ه).و الشيخ الجليل أبو الفتح محمد بن علي المعروف بالكراجكي المتوفى 449 ه و قد كان عاصر الرضي، في كتابه كنز الفوائد (ص 201 من الطبع الحجري في إيران 1322 ه).
و أتى المجلسي رحمه الله برواية سليم بن قيس في ثامن البحار (ص 520 من الطبع الكمباني)، و برواية نصر في ص 545 من ذلك المجلد.و لا بد لنا من الإتبان ببعضها و الإشارة إلى اختلاف نسخها لأن معنى الكتاب الصحيح يتوقف عليهما، و بذلك يعرف أيضا صحة نسخ، و تحريف اخرى، فدونك ما رواه نصر في صفين عن عمر في إسناده قال: و كان من أهل الشام بصفين رجل يقال له الأصبغ بن ضرار الأزدي، و كان يكون طليعة و مسلحة لمعاوية، فندب علي له الأشتر فأخذه أسيرا من غير أن يقاتل، و كان علي ينهى عن قتل الأسير الكاف؛ فجاء به ليلا و شد وثاقه و ألقاه مع أضيافه ينتظر به الصباح، و كان الأصبغ شاعرا مفوها، و نام أصحابه، فرفع صوته فأسمع الأشتر فقال:
ألا ليت هذا الليل اطبق سرمدا | على الناس لا يأتيهم بنهار | |
يكون كذا حتى القيامة إنني | احاذر في الإصباح ضرمة نار | |
فيا ليل طبق إن في الليل راحة | و في الصبح قتلي أو فكاك اسارى | |
و لو كنت تحت الأرض ستين واديا | لما رد عني ما أخاف حذاري | |
فيا نفس مهلا إن للموت غاية | فصبرا على ما ناب يا ابن ضرار | |
أ أخشى ولي في القوم رحم قريبة | أبى الله أن أخشى و الأشتر جاري | |
و لو أنه كان الأسير ببلدة | أطاع بها شمرت ذيل إزاري | |
و لو كنت جار الأشعث الخير فكني | و قل من الأمر المخوف فراري | |
و جار سعيد أو عدي بن حاتم | و جار شريح الخير قر قراري | |
و جار المرادي العظيم و هانيء | و زحر بن قيس ما كرهت نهاري | |
و لو أنني كنت الأسير لبعضهم | دعوت رئيس القوم عند عثاري | |
اولئك قومي لا عدمت حياتهم | و عفوهم عني و ستر عواري | |
فغدا به الأشتر على علي فقال: يا أمير المؤمنين هذا رجل من المسلحة لقيته بالأمس فو الله لو علمت أن قتله الحق قتلته؛ و قد بات عندنا الليلة و حركنا فإن كان فيه القتل فاقتله و إن غضبنا فيه و إن كنت فيه بالخيار فهبه لنا، قال: هو لك يا مالك، فإذا أصبت أسيرا فلا تقتله فإن أسير أهل القبلة لا يفاد، أولا يقتل، فرجع به الأشتر إلى منزله و قال: لك ما أخذنا معك ليس لك عندنا غيره.
قال: و ذكروا أن عليا أظهر أنه مصبح غدا معاوية و مناجزه فبلغ ذلك معاوية و فزع أهل الشام لذلك و انكسروا لقوله، و كان معاوية بن الضحاك بن سفيان صاحب راية بني سليم مع معاوية و كان مبغضا لمعاوية و كان يكتب بالأخبار إلى عبد الله بن الطفيل العامري و يبعث بها إلى علي عليه السلام فبعث إلى عبد الله بن الطفيل أني قائل شعرا أذعر به أهل الشام و اذعر (أرغم- خ) به معاوية، و كان معاوية لا يتهمه و كان له فضل و نجدة و لسان فقال ليلا ليسمع أصحابه:
ألا ليت هذا الليل أطبق سرمدا | علينا، و أنا لا نرى بعده غدا | |
و يا ليته إن جاءنا بصباحه | وجدنا إلى مجرى الكواكب مصعدا | |
حذار علي إنه غير مخلف | مدى الدهر مالبى الملبون موعدا | |
فأما فراري في البلاد فليس لي | مقام و لو جاوزت جابلق مصعدا | |
كأني به في الناس كاشف رأسه | على ظهر خوار الرحالة أجردا | |
يخوض غمار الموت في مرحجنة | ينادون في نقع العجاج محمدا | |
فوارس بدر و النضير و خيبر | و احد يردون الصفيح المهندا | |
و يوم حنين جالدوا عن نبيهم | فريقا من الأحزاب حتى تبددا | |
هنالك لا تلوي عجوز على ابنها | و إن أكثرت في القول نفسي لك الفدا | |
فقل لابن حرب ما الذي أنت صانع | أتثبت أم ندعوك في الحرب قعددا؟ | |
و ظني بأن لا يصبر القوم موقفا | نقفه و إن لم نجز في الدهر للمدا | |
فلا رأى إلا تركنا الشام جهرة | و إن أبرق الفجفاج فيها و أرعدا | |
فلما سمع أهل الشام شعره أتوا به معاوية فهم بقتله، ثم راقب فيه قومه و طرده عن الشام فلحق بمصر و ندم معاوية على تسييره إياه، و قال معاوية: و الله لقول السلمي (لشعر السلمي- خ) أشد على أهل الشام من لقاء علي ماله قاتله الله لو أصاب خلف جابلق مصعدا نفذه- و جابلق مدينة بالمشرق و جابلص مدينة بالمغرب ليس بعد هما شيء.
و قال الأشتر حين قال علي عليه السلام: إنني مناجز القوم إذا أصبحت:
قد دنا الفضل في الصباح | و للسلم رجال و للحرب رجال | |
فرجال الحروب كل خدب | مقحم لا تهده الأهوال | |
يضرب الفارس المدحج بالسيف | إذا فل في الوغا الأكفال | |
يا ابن هند شد الحيازيم للموت | و لا يذهبن بك الامال | |
إن في الصبح إن بقيت لأمرا | تتفادى من حوله الأبطال | |
فيه عز العراق أو ظفر الشام | بأهل العراق و الزلزال | |
فاصبروا للطعان بالأسل السمر | و ضرب يجري به الأمثال | |
إن تكونوا قتلتم النفر البيض | و غالت اولئك الاجال | |
فلنا مثلهم و إن عظم الخطب | قليل أمثالهم أبدال | |
يخضبون الوشيح طعنا إذا | جرت للموت بينهم أذيال | |
طلب الفوز في معاد و في ذا | تستهان النفوس و الأموال | |
فلما انتهى إلى معاوية شعر الأشتر قال: شعر منكر من شاعر منكر رأس أهل العراق و عظيمهم و مسعر حربهم و أول الفتنة و آخرها، و قد رأيت أن أكتب إلى علي كتابا أسأله الشام و هو الشيء الأول الذي ردنى عنه و القي في نفسه الشك و الرقة.
فضحك عمرو بن العاص ثم قال: أين أنت يا معاوية من خدعة علي؟
فقال: ألسنا بني عبد مناف؟
قال: بلى، و لكن لهم النبوة دونك و إن شئت أن تكتب فاكتب فكتب معاوية إلى علي مع رجل من السكاسك يقال له عبد الله بن عقبة و كان من ناقلة أهل العراق فكتب:
أما بعد فإني أظنك أن لو علمت أن الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت و علمنا لم يجنها بعضنا على بعض، و إن كنا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منها ما نندم به ما مضى و نصلح ما بقى، و قد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك طاعة و لا بيعة فأبيت ذلك علي فأعطاني الله ما منعت؛ و أنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس فإني لا أرجو من البقاء إلا ما ترجو، و لا أخاف من الموت إلا ما تخاف، و قد و الله رقت الأجناد و ذهبت الرجال، و نحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز، و لا يسترق به حر و السلام.
فلما انتهى كتاب معاوية إلى علي عليه السلام قرأه ثم قال: العجب لمعاوية و كتابه ثم دعا علي عليه السلام عبيد الله بن أبي رافع كاتبه فقال: اكتب إلى معاوية:أما بعد فقد جائني كتابك تذكر أنك لو علمت و علمنا أن الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، فإنا و إياك منها في غاية لم تبلغها (لم نبلغها- ظ)، و إني لو قتلت في ذات الله و حييت ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة لم أرجع عن الشدة في ذات الله و الجهاد لأعداء الله.
و أما قولك: إنه قد بقي من عقولنا ما نندم به على ما مضى فإني ما نقضت عقلي، و لا ندمت على فعلي؛ فأما طلبك الشام فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس.
و أما استواؤنا في الخوف و الرجاء فإنك لست بأمضى على الشك مني على اليقين، و ليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الاخرة.
و أما قولك: إنا بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل فلعمري إنا بنو أب واحد و لكن ليس امية كهاشم، و لا حرب كعبد المطلب، و لا أبو سفيان كأبي طالب، و لا المهاجر كالطليق، و لا المحق كالمبطل، و في أيدينا فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز، و أعززنا بها الذليل. و السلام.
نصر، عن عمر بن سعد، عن نمير بن و علة قال: فلما أتى معاوية كتاب علي عليه السلام كتمه عن عمرو بن العاص أياما ثم دعاه بعد ذلك فأقرأه الكتاب فشمت به عمرو و لم يكن أحد من قريش أشد تعظيما لعلي عليه السلام من عمرو منذلقيه و صفح عنه فقال عمرو بن العاص فيما كان أشار به على معاوية شعرا.
ألا لله درك يا ابن هند | و در الأمرين لك الشهود | |
أ تطمع لا أبا لك في علي | و قد قرع الحديد على الحديد | |
و ترجو أن تخبره بشك | و ترجو أن يهابك بالوعيد | |
و قد كشف القناع و جر حربا | يشيب لهو لها رأس الوليد | |
له جأواء مظلمة طحون | فوارسها تلهب كالاسود | |
يقول لها إذا دلفت إليه | و قد ملت طعان القوم عودي | |
فإن وردت فأولها ورودا | و إن صدرت فليس بذي صدود | |
و ماهي من أبي حسن بنكر | و ما هي من مسائك بالبعيد | |
و قلت له مقالة مستكين | ضعيف الركن منقطع الوريد | |
دعن الشام حسبك يا ابن هند | من السوءات و الرأي الزهيد | |
و لو أعطاكها ما ازددت عزا | و لا لك لو أجابك من مزيد | |
و لم تكسر بذاك الرأي عودا | لركته و لا ما دون عود | |
فلما بلغ معاوية قول عمرو دعاه فقال: يا عمرو إنني قد أعلم ما أردت بهذا قال: ما أردت؟ قال: أردت تفييل رأيي و إعظام علي و قد فضحك، فقال: أما تفييلي رأيك فقد كان، و أما إعظامي عليا فإنك باعظامه أشد معرفة مني و لكنك تطويه و أنا أنشره، و أما فضيحتي فلم يفتضح امرؤ لقى أبا حسن، و قد كان معاوية شمت بعمرو حيث لقي من علي عليه السلام ما لقي فقال عمرو في شماتة معاوية:
معاوي لا تشمت بفارس بهمة | لقي فارسا لا تعتريه الفوارس | |
معاوي إن أبصرت في الخيل مقبلا | أبا حسن يهوي دهتك الوساوس | |
و أيقنت أن الموت حق و أنه | لنفسك إن لم تمض في الركض حابس | |
فإنك لو لاقيته كنت بومة | اتيح لها صقر من الجو آنس | |
و ما ذا بقاء القوم بعد اختباطه | و إن امرأ يلقى عليا لايس | |
دعاك فصمت دونه الاذن هاربا | فنفسك قد ضاقت عليها الأمالس | |
و أيقنت أن الموت أقرب موعد | و أن التي ناداك فيها الدهارس | |
و تشمت بي أن نالني حد رمحه | و عضعضني ناب من الحرب ناهس | |
أبى الله إلا أنه ليث غابة | أبو أشبل تهدى إليه الفرايس | |
و إني امرؤ باق فلم يلف شلوه | بمعترك تسفي عليه الروامس | |
فإن كنت في شك فأدهج عجاجه | و إلا فتلك الترهات البسابس | |
و كتاب معاوية في نسخة الإمامة و السياسة يخالف ما في كتاب صفين في الجملة ففيه: لو علمت أن الحرب تبلغ و لم يأت بلفظة «و علمنا» كما أتى بها في صفين.
و فيه: فلنا منها ما نذم به- و كان في صفين «مانندم به».
و فيه: و قد كنت سألتك ألا يلزمني- و كان في صفين «و قد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني».
و فيه: و إني أدعوك إلى- و كان في صفين «و أنا أدعوك اليوم إلى» و فيه: فانك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو، و لا تخاف من الفناء إلا ما أخاف- و كان في صفين بعكس ذلك، و التأمل الصحيح يقضي بأن نسخة نصر كانت أمتن و أبلغ.
صورة كتاب أمير المؤمنين على عليه السلام على ما في الامامة و السياسة
قال الدينوري: فلما انتهى كتابه- يعني كتاب معاوية المقدم نقله- إلى علي عليه السلام، دعا كاتبه عبيد الله بن أبي رافع، فقال: اكتب: أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر أنك لو علمت و علمنا أن الحرب تبلغ ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، و إنا و إياك في غاية لم نبلغها بعد، و أما طلبك إلي الشام فاني لم أكن أعطيك اليوم ما منعتك أمس، و أما استواؤنا في الخوف و الرجاء فإنك لست أمضى على الشك مني على اليقين، و ليس أهل الشام بأحرص من أهل العراق على الاخرة، و أما قولك: إنا بنو عبد مناف فكذلك و لكن ليس امية كهاشم، و لا حرب كعبد المطلب و لا أبو سفيان كأبي طالب، و لا المهاجر كالطليق، و لا المحق كالمبطل، و في أيدينا فضل النبوة التي قتلنا بها العزيز، و بعنابها الحر. و السلام.
نسخة الكتابين على ما في كتاب سليم بن قيس
قال سليم: ثم إن عليا عليه السلام قام خطيبا فقال: أيها الناس إنه قد بلغكم ما قد رأيتم و بعدوكم كمثل فلم يبق إلا آخر نفس و إن الامور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها و قد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغوا فيكم ما قد بلغوا و أنا غاد عليهم بالغداة إن شاء الله و محاكمهم إلى الله فبلغ ذلك معاوية ففزع فزعا شديدا و انكسر هو و جميع أصحابه و أهل الشام لذلك فدعا عمرو بن العاص فقال: يا عمرو إنما هي الليلة حتى يغدوا علينا فما ترى؟
قال: أرى الرجال قد قلوا، و ما بقى فلا يقومون لرجاله و لست مثله و إنما يقاتلك على أمر و أنت تقاتله على غيره أنت تريد البقاء و هو يريد الفناء و ليس يخاف أهل الشام عليا إن ظفر بهم ما يخاف أهل العراق إن ظفرت بهم، و لكن ألق إليهم أمرا فإن ردوه اختلفوا و إن قبلوه اختلفوا، ادعهم إلى كتاب الله و ارفع المصاحف على رءوس الرماح فإن بالغ حاجتك فإني لم أزل أدخرها لك.
فعرفها معاوية و قال: صدقت و لكن قد رأيت رأيا أخدع به عليا طلبي إليه الشام على الموادعة و هو الشيء الأول الذي ردنى عنه.
فضحك عمرو و قال: أين أنت يا معاوية من خديعة علي؟ و إن شئت أن تكتب فاكتب.
قال: فكتب معاوية إلى علي عليه السلام كتابا مع رجل من أهل السكاسك يقال له عبد الله بن عقبة: أما بعد فانك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت و علمناه نحن لم يجنها بعضنا على بعض و إن كنا قد غلبنا على عقولنا فقد بقى منها ما نرم به ما مضى و نصلح ما بقى، و قد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك طاعة و لا بيعة فأبيت ذلك فأعطانى الله ما منعت و أنا أدعوك إلى ما دعوتك إليه أمس فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجوه و لا تخاف من الفناء إلا ما أخاف، و قد و الله رقت الأكباد و ذهب الرجال، و نحن بنو عبد مناف و ليس لبعضنا على بعض فضل يستذل به عزيز و لا يسترق به ذليل. و السلام.
قال سليم: فلما قرأ علي عليه السلام كتابه ضحك و قال: العجب من معاوية و خديعته لي فدعا كاتبه عبيد الله بن أبي رافع فقال له: اكتب: أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا و بك إلى ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، و إنا و إياك يا معاوية على غاية منها لم نبلغها بعد، و أما طلبك الشام فاني لم أعطك اليوم ما منعتك أمس، و أما استواؤنا في الخوف و الرجاء فانك لست بأمضى على الشك مني على اليقين و ليس أهل الشام أحرص على الدنيا من أهل العراق على الاخرة، و أما قولك: إنا بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض فكذلك نحن و لكن ليس امية كهاشم، و لا حرب كعبد المطلب، و لا أبو سفيان كأبي طالب، و لا الطليق كالمهاجر، و لا المنافق كالمؤمن، و لا المبطل كالمحق، في أيدينا فضل النبوة التي ملكنا بها العرب، و استعبدنا بها العجم و السلام.
و كتاب معاوية على نسخة المسعودي: «و إنا و إن كنا قد غلبنا على عقولنا فقد بقى لنا ما نرد به ما مضى» «على أن لا تلزمني لك طاعة و أنا أدعوك اليوم» «و ذهبت الرجال» «و يسترق به حر، و السلام» و سائر العبارات يطابق نسخة سليم.
و كتاب أمير المؤمنين علي عليه السلام على نسخته «و أنا و إياك نلتمس منها غاية لم نبلغها بعد»، «و ليس أهل الشام على الدنيا بأحرص» «و ليس امية» «و في أيدينا فضل النبوة التي قتلنا بها العزيز و بعنا بها الحر و السلام» و سائر عباراته يوافق نسخة سليم.
و نسخة كتاب الأمير عليه السلام من الكراجكي في الكنز تطابق نسخة المسعودي في المروج، و أما نسخة كتاب معاوية ففي الكنز: «فقد بقي لنا ما نرم به ما مضى» كما في نسخة سليم «يستذل به عز و لا يسترق به حد (حر- ظ) و السلام» و البواقي توافق نسخة المسعودي.
أقول: و بعد اللتيا و التي فلم نجد مع الجد في الطلب و كثرة الفحص و التتبع رواية تحوز جميع ما في نسخة الرضي في النهج أو توافق لها متنا، أو تطابق أجوبتها ما أتى به معاوية في كتابه و إن كان الاختلاف قليلا و لا نشك في أن الرضي نقل كلامه عليه السلام من ماخذ قيمة كانت تحضره، غاية الأمر أن يكون مختار واحد ملفقا من ملتقطات عباراته الشتى.
نعم على ما نقله الفاضل البحراني في شرحه على النهج تطابق أجوبة كتابه عليه السلام كتاب معاوية، قال: كتب إليه معاوية: أما بعد فإني أظنك لو علمت أن الحرب يبلغ بنا و بك ما بلغت و علمنا لم يجنها بعض على بعض، و إنا و إن كنا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منها ما نندم بها على ما مضى و نصلح به ما بقى، و قد كنت سألتك الشام على أن لا يلزمني لك طاعة و لا بيعة و أبيت ذلك علي فأعطاني الله ما منعت و أنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس فانك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو و لا أخاف من القتل إلا ما تخاف و قد و الله رقت الأجناد و ذهبت الرجال و أكلت الحرب العرب إلا حشاشات نفس بقيت، و إنا في الحرب و الرجال سواء و نحن بنو عبد مناف و ليس لبعضنا على بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز و لا يسترق به حر. و السلام. فلما قرأ علي عليه السلام كتابه تعجب منه و من كتابه ثم دعا عبيد الله بن أبي رافع كاتبه و قال له اكتب إليه أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر- الفصل.
اللغة
«طلبك إلي» قال في أقرب الموارد: طلب إلي: رغب، و قال الفاضل الشارح المعتزلي: يقال: طلبت إلى فلان كذا و التقدير طلبت كذا راغبا إلى فلان كما قال تعالى «في تسع آيات إلى فرعون» أي مرسلا، و في تعليقة نسخة خطية عندنا فسرت العبارة هكذا: أي طلبك الشام قاصدا إلي بذلك، و سيأتي وجه آخر في بيان الإعراب.
«حشاشات» جمع حشاشة بالضم، الحشاش و الحشاشة بقية الروح في المريض قال في الأساس: و ما بقي منه إلا حشاشة، قال ذو الرمة:
فلما رأين الليل و الشمس حية | حياة التي تقضي حشاشة نازع | |
و في الحماسة (502):
فهل أنت إلا مستعير حشاشة | لمهجة نفس آذنت بفراق | |
و قال المرزوقي في الشرح: الحشاشة هي روح القلب، و رمق من حياة النفس و قد آذنت بالمفارقة، و المهجة: خالصة النفس.
و في منتهى الأرب: حشاش بالضم كغراب: بقيه جان در بيمار و جريح، حشاشه بالهاء كذلك.
«الطليق» قال ابن الأثير في النهاية: و في حديث حنين: و خرج إليها و معه الطلقاء، هم الذين خلى عنهم يوم فتح مكة و أطلقهم و لم يسترقهم واحدهم طليق فعيل بمعنى مفعول و هو الأسير إذا طلق سبيله، و منه حديث الطلقاء من قريش و العتقاء من ثقيف كأنه ميز قريشا بهذا الاسم حيث هو أحسن من العتقاء.
«الصريح»: الخالص من كل شيء، قال الفيومي في المصباح: صرح الشيء بالضم صراحة و صروحة: خلص من تعلقات غيره فهو صريح، و عربي صريح خالص النسب و الجمع صرحاء، و كل خالص صريح، و منه قول صريح و هو الذي لا يفتقر إلى إضمار أو تأويل.
و في أقرب الموارد يقال: رجل صريح النسب أي خالصه.
مجاز «اللصيق» أصل اللصيق: الدعي في قوم الملصق بهم و ليس منهم من قولك لصق الشيء بغيره من باب تعب لصقا و لصوقا: لزق، و قال في الأساس: و من المجاز:فلان ملصق و لصيق، دعي.
«المدغل» اسم فاعل من الإدغال، قال الجوهري في الصحاح: الدغل بالتحريك: الفساد مثل الدخل، يقال: قد أدغل في الأمر إذا أدخل فيه ما يخالفه و يفسده.
و في النهاية الأثيرية: فيه- يعني في الحديث- اتخذوا دين الله دغلا أي يخدعون الناس، و أصل الدغل الشجر الملتف الذي يكمن أهل الفساد فيه، و قيل: هو من قولهم: أدغلت في هذا الأمر إذا أدخلت فيه ما يخالفه و يفسده و منه حديث علي عليه السلام ليس المؤمن بالمدغل هو اسم فاعل من أدغل.
«نعشنا» نعشه الله ينعشه من باب منع أي رفعه، قال الجوهري: لا يقال أنعشه الله، و سمى سرير الميت نعشا لارتفاعه و إذا لم يكن عليه ميت محمول فهو سرير، قاله ابن الأثير في النهاية، و قال المرزوقي في شرحه على الحماسة (368):النعش شبيه بالمحفة كان يحمل عليه الملك إذا مرض؛ ثم كثر حتى سمي النعش الذي فيه الميت نعشا.
«رغبة» بالفتح فالسكون مصدر من قولك رغب فيه من باب علم إذا أراده بالحرص عليه و أحبه.و «رهبة» كالرغبة أي الخوف مصدر رهب الرجل منه من باب علم إذا خاف منه.
الاعراب
«و أما طلبك إلي الشام» الواو عاطفة على ما سبق في الكتاب من قوله:و أما قولك إنه قد بقي من عقولنا- إلخ- كما دريت في بيان الماخذ، و في بعض النسخ: فأما طلبك، بالفاء كما في نسخة نصر المقدم نقلها، و نسخة الرضي أصح، و ياء إلي مشددة مدعمة من ياء إلى الجارة و ياء ضمير المتكلم المجرور و الشام منصوب مفعول للطلب.
و العبارة في بعض النسخ مشكولة بجر الشام و تخفيف إلى أي رغبتك إلى الشام و نحوه، و كأنها و هم و نسخة الرضي و أكثر المتون ما اخترناها و هو أوفق باسلوب الكلام، و أوثق في تأدية المعنى. و أوجز و أبلغ في الفحوى و المغزى.
و أمكن أن تكون كلمة إلى بمعنى من أى طلبك مني الشام نحو قول عمرو ابن أحمر الباهلي في قصيدة قالها بعد ما هرب من يزيد بن معاوية لما بلغ عنه شيء إليه.
تقول و قد عاليت بالكور فوقها | أيسقى فلا يروى إلي بن أحمر؟ | |
أي تقول الناقة و قد رفعت الرحل و وضعته على ظهرها: أ يركبني عمرو بن أحمر فلا يمل من ركوبي، و البيت في جامع الشواهد.
«اكلت» الضمير يرجع إلى الحرب و هي تؤنث و تذكر.«حشاشات» منصوب بالكسر لأن المستثنى متصل. «ألا» حرف تنبيه.«فالى النار» خبر لقوله من الموصولة في من أكله. و الفاء في فإلى لتضمن من معنى الشرط، و قال ابن الحاجب في البحث عن المبتدأ و الخبر من الكافية:و قد يتضمن المبتدأ معنى الشرط فيصح دخول الفاء في خبره و ذلك إما الاسم الموصول بفعل أو ظرف أو النكرة الموصوفة بهما مثل الذي يأتيني أو الذي في الدار فله درهم و مثل كل رجل يأتيني أو في الدار فله درهم.
«ما منعتك» ما موصول اسمي مفعول ثان لأعطيك «مني على اليقين» الظرفان متعلقان بأمضى، و من أهل العراق على الاخرة متعلقان بأحرص «امية» غير منصرف للعلمية و التأنيث، و كذلك سفيان لمكان الألف و النون الزائدتين كعثمان.«لبئس» بئس من أفعال الذم، الخلف فاعله و خلف مخصوص بالذم و جملة يتبع سلفا، في محل الرفع صفة له لأنه نكرة، و جملة هوى في نار جهنم في محل الرفع صفة لسلف لذلك.في أيد خبر فضل النبوة قدم توسعا للظرف و الواو للحال فالجملة حالية بعد مبني على الضم حذف المضاف إليه بقرينة المقام كما سيعلم في المعنى، نعشنا عطف على قوله اذللنا.
«كنتم» جواب لما، و أفرد دخل لظاهر من، على حين كقوله تعالى: دخل المدينة على حين غفلة من أهلها (القصص- 16) و قال الفاضل أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش في تفسير التبيان في إعراب القرآن: على حين غفلة حال من المدينة و يجوز أن يكون حالا من الفاعل أي مختلسا. انتهى، ففي المقام جاز أن يكون على حين حالا من ضمير كنتم أو من الدين و إن كان الأول أنسب بسياق الكلام.
«طوعا» و «كرها» مصدران في موضع الحال و كذا رغبة و رهبة و ذو الحال في الصورة الاولى الامة و في الثانية من «و ذهب» عطف على فاز، أي على حين ذهب، و الباء في بفضلهم للتعدية أعني صار فعل ذهب بها متعديا، و في باء التعدية معنى المصاحبة أيضا، و لذلك إذا تعدى الفعل اللازم بباب الافعال يفيد معنى، و إذا تعدى بباء الجر يفيد معنى آخر يغاير الأول؛ مثلا إذا قلت اذهبت زيدا جعلت زيدا ذاهبا و ما ذهبت معه، و إذا قلت ذهبت بزيد جعلته ذاهبا و أنت أيضا ذاهب معه لمكان الباء؛ فتبصر من لطافة قوله عليه السلام و ذهب المهاجرون الأولون بفضلهم.و الأولون صفة للمهاجرين، و الباء في بسبقهم سببية.«نصيبا» مفعول لا تجعل، و للشيطان متعلق به و كذلك فيك قدما عليه توسعا للظروف.«و لا على نفسك سبيلا» معطوف على الشيطان فسبيلا مفعول الفعل و على نفسك متعلق به قدم عليه للظرفية.
المعنى
هذا الكتاب كتب قبل ليلة الهرير كما هو الظاهر، قيل بيومين أو ثلاثة جوابا عن كتاب كتبه معاوية إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام، و إنما كتبه معاوية إليه بعد ما بلغه قول علي عليه السلام: لاناجزنهم مصبحا، و تناقل الناس كلمته و فزع أهل الشام لذلك و انكسروا لقوله كما تقدم الكلام فيه من نصر و غيره آنفا.
و معاوية قد أظهر في كتابه الندامة و النفرة على إنارته نار الحرب و إثارته إياها و إقدامه على إقبالها، و اعترف بأنه أطاع نفسه في ذلك و أدبر عن فتيا العقل، و فيه اشعار بجزعه من الحرب و اضطرابه من القتال و عدم نجدته في الحراب.و أساء بأمير المؤمنين على عليه السلام الظن و خرج عن صوب الصواب و طريق الأدب حيث خاطبه عليه السلام بقوله: فإني أظنك- إلى قوله: لم يجنها بعض على بعض و أشركه في اتباعه الهوى و خروجه عن الطريقة المثلى، بقوله: و إنا و إن كنا قد غلبنا على عقولنا.و طلب منه عليه السلام ثانيا أن يترك له الشام، و لا يطلب منه طاعة و لا بيعة كما كان طلبه منه كذلك من قبل.و شمخ بأنفه و أرعد و أبرق فجعل نفسه عكم خليفة الله بقوله: فانك لا ترجو من البقاء- إلخ.
و استعطفه و دعاه إلى الشفقة على الناس و الكف من البأس بقوله: و قد و الله رقت- إلخ.
و خوفه باستواء الفريقين في الحرب و الرجال بقوله: و إنا في الحرب- إلخ.
ثم تبصبص و أبدى القرابة منه بأن امية و هاشم صنوان من أصل واحد.
ثم تغطرس بأن بني عبد مناف ليس لبعضهم على بعض فضل، و استثنى من ذلك فقال: إلا فضل لا يستذل به عزيز و لا يسترق به حر، فأجاب عنها أمير المؤمنين علي عليه السلام بما ترى:أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر: «أنك لو علمت و علمنا أن الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض» نقل كلام معاوية أولا فأجابه بقوله:فإنا و إياك منها في غاية لم نبلغها، و إني لو قتلت في ذات الله و حييت ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة لم أرجع عن الشدة في ذات الله و الجهاد لأعداء الله.
و ضمير منها يرجع إلى الحرب، و كلمة لم تبلغها جاءت في نسخة نصر بتاء الخطاب و في نسخة كنز الكراجكي بياء الغيبة و في سائر النسخ بنون المتكلم مع الغير، و الأخير أنسب بسياق الكلام، و المراد: أنا نلتمس و ننتظر من الحرب غاية لم نبلغها بعد، أي إني أعلم أن الحرب ستشب إلى حد يكون ما مضى منها دونه.
و كلامه هذا إذعار معاوية و إرغامه في قبال قوله ذلك، و تهديد و تخويف و ايعاد إياه بأن أمره سيئول إلى أشد من ذلك و أن عاقبته و خيمة و أن عاقبة الذين أساءوا السوأى، و إنبائه بنفسه أي إني لعلى بصيرة و بينة من ربي و إني لعلى الطريق الواضح، ثم أكده بقوله: و إني لو قتلت في ذات الله و حييت ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة لم أرجع عن الشدة في ذات الله و الجهاد لأعداء الله، و أعلمه بذلك ثبات قدمه في الدين، و كونه على النهج القويم و الصراط المستقيم، و عدم بأسه من القتال و القتل في سبيل الله و لو قتل و حيي سبعين مرة، و عرف في أثناء قوله معاوية و من سلكوا مسلكه و اتبعوا مأخذه بأنهم كافرون لأنهم أعداء الله.
و اعلم أن أولياء الله لكونهم على بينة من ربهم لا يبالون وقعوا على الموت أو وقع الموت عليهم، و لا يخافون من القتل في سبيل الله و لا من القتال في سبيله، و يعلمون أنهم لا يتربصون بالأعداء إلا إحدى السوئين، و أن الأعداء لا يتربصون بهم إلا إحدى الحسنيين إما الفتح و إما الشهادة كما قال الله تعالى خطابا لرسوله صلى الله عليه و اله: قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين و نحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون (التوبة 53).
و اقتفى أثره عليه السلام في قوله هذا: و إني لو قتلت في ذات الله- إلخ، الذين استضاءوا من مشكاة وجوده، و اقتبسوا من نور علمه و ربوا في بيته و حجره، و احتذوا حذوه، و اتبعوا سبيله سلام الله عليهم أجمعين: فهذا هو عمار بن ياسر فاستمع ما ذا يقول رضوان الله عليه: روى نصر في صفين عن عمر قال: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن جندب بن عبد الله قال: قام عمار بن ياسر بصفين فقال: امضوا عباد الله إلى قوم يطلبون فيما يزعمون بدم الظالم لنفسه، الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان الامرون بالإحسان فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم لو درس هذا الدين: لم قتلتموه؟ فقلنا لأحداثه، فقالوا: إنه ما أحدث شيئا و ذلك لأنه مكنهم من الدنيا فهم يأكلونها و يرعونها و لا يبالون لو انهدت عليهم الجبال، و الله ما أظنهم يطلبون دمه إنهم ليعلمون أنه لظالم و لكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها و استمرءوها، و علموا لو أن الحق لزمهم لحال بينهم و بين ما يرعون فيهم منها، و لم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها الطاعة و الولاية فخدعوا أتباعهم بأن قالوا قتل إمامنا مظلوما ليكونوا بذلك جبابرة و ملوكا، و تلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون و لو لا هي ما بايعهم من الناس رجلان، اللهم إن تنصرنا فطال ما نصرت، و إن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم، ثم مضى و مضى معه أصحابه فلما دنى من عمرو بن العاص فقال: يا عمرو بعت دينك بمصر تبا لك و طال ما بغيت الإسلام عوجا ثم حمل عمار و هو يقول:
صدق الله و هو للصدق أهل | و تعالى ربي و كان جليلا | |
رب عجل شهادة لي بقتل | في الذي قد احب قتلا جميلا | |
مقبلا غير مدبر إن للقتل | على كل ميتة تفضيلا | |
إنهم عند ربهم في جنان | يشربون الرحيق و السلسبيلا | |
من شراب الأبرار خالطه المسك | و كأسا مزاجها زنجبيلا | |
و الأبيات الثلاثة الأخيرة تشير إلى قوله تعالى: و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء و لكن لا تشعرون (البقرة- 152).
و قوله تعالى: و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله و يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم و لا هم يحزنون إلى قوله تعالى: و اتبعوا رضوان الله و الله ذو فضل عظيم (آل عمران 165- 170).
و قوله تعالى: إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك و في ذلك فليتنافس المتنافسون (المطففين 24- 27).
و قوله تعالى: و يسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا (هل أتى- 18 و 19).
قال نصر: ثم نادى عمار عبيد الله بن عمر و ذلك قبل مقتله فقال: يا ابن عمر صرعك الله بعت دينك بالدنيا من عدو الله و عدو الإسلام، قال: كلا و لكن أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم، قال: كلا أشهد على علمي فيك أنك أصبحت لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله و أنك إن لم تقتل اليوم فستموت غدا فانظر إذا أعطى الله العباد على نياتهم ما نيتك؟
ثم قال عمار: اللهم إنك لتعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت، اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم انحنى عليها حتى يخرج من ظهري لفعلت، اللهم و إني أعلم مما أعلمتني أني لا أعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، و لو أعلم اليوم عملا أرضى لك منه لفعلته. (ص 165 من الطبع الناصري).
و قد نقل قوله هذا أبو جعفر الطبري في تاريخه كما تقدم في شرح المختار 236 من باب الخطب (ص 284 ج 15).و تقدمت طائفة من كلمات قيمة من أصحاب علي عليه السلام في شرح الكتاب العاشر فراجع.
و لما جمع ريحانة رسول الله سيد الشهداء الحسين بن علي عليهم السلام أصحابه عند قرب المساء من يوم التاسوعاء و قال لهم: إني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا فبعد ما قال أعوانه من إخوته و أبنائه و بني أخيه و بني عقيل و ابني عبد الله بن جعفر ما قالوا، قام إليه مسلم بن عوسجة رضوان الله عليه فقال: أنحن نخلي عنك و بما نعتذر إلى الله في أداء حقك أما و الله حتى أطعن في صدورهم برمحي و أضربهم بسيفي ما ثبت قائمة في يدي و لو لم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة و الله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك، أما و الله لو قد علمت أني اقتل ثم احيى ثم احرق ثم احيي ثم اذري يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك و كيف لا أفعل ذلك و إنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا.
و قام زهير بن القين رحمة الله عليه فقال: و الله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى اقتل هكذا ألف مرة و أن الله عز و جل يدفع بذلك القتل عن نفسك و عن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.
تو مكن تهديدم از كشتن كه من | تشنه زارم بخون خويشتن | |
عاشقان را هر زماني مردنى است | مردن عشاق خود يك نوع نيست | |
او دو صد جان دارد از نور هدى | و آن دو صد را ميكند هر دم فدا | |
هر يكى جان را ستاند ده بها | از نبي خوان عشرة أمثالها | |
آزمودم مرگ من در زندگيست | چون رهم زين زندگى پايندگيست | |
إن في موتي حياتي يا فتى | كم افارق موطني حتى متى | |
فرقتي لو لم تكن في ذا السكون | لم يقل إنا إليه راجعون | |
قال عليه السلام و أما قولك: «انه قد بقي من عقولنا ما نندم به على ما مضى» نقل كلام معاوية ثم أجابه بقوله: «فإني ما نقضت عقلي و لا ندمت على فعلي»و ذلك لأنه عليه السلام كان مأمورا بقتاله من الله تعالى كما احتج عليه السلام بذلك على معاوية في الكتاب السابع (ص 223 ج 16) حيث قال معاوية: و إني احذرك الله أن تحبط عملك و سابقتك بشق عصا هذه الامة و تفريق جماعتها، فأجابه الأمير عليه السلام: فلعمري لو كنت الباغي عليك لكان لك أن تحذرني ذلك، و لكني وجدت الله تعالى يقول: «فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله» فنظرنا إلى الفئتين ما الفئة الباغية؟ فوجدناها الفئة التي أنت فيها- إلخ.
على أن الحجج الإلهية كما أنهم معصومون من الذنوب كذلك معصومون من أن يفعلوا فعلا أو يتركوا ما يوجب ندامتهم به لأنهم ينظرون بنور الله و يحكمون بالعقل الناصع فإذا سكتوا فسكوتهم هو الصواب، و إذا نطقوا فنطقهم هو الصواب و إذا فعلوا ففعلهم هو الصواب و إذا تركوا و كفوا فتركهم هو الصواب ثم من لم يكن عالما بعواقب الامور يندم من فعله لأنه يفعل فعلا كان الصواب تركه أو يترك فعلا كان الصواب فعله فاذا ظهر له خلافه يندم به فأين هذا ممن كان بنهاية قربه من الله و كمال الإتصال بجنابه و تمام الحضور إلى حضرته مصونا و معصوما عن جميع ما تنفر عنها الطباع و قد تقدم البحث عن صفاتهم و عصمتهم في شرح المختار 237 من باب الخطب و لذا قال عليه السلام: فإني ما نقضت عقلي و لا ندمت على فعلي، و في بعض النسخ: فإني ما تنقصت عقلي، أي ما أنسبه إلى النقصان.
قال عليه السلام: «و أما طلبك إلي الشام فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس» طلب معاوية من الأمير عليه السلام الشام غير مرة كما اعترف به في كتابه المتقدم إليه، و كان أتباعه أيضا يطلبون بأمره من الأمير عليه السلام أن يخلي بينهم و بين الشام، و يخلوا بينه و بين العراق وهما منهم أن خلفاء الله تعالى إنما يقاتلون أعداء الله لاقتراف الديار و العقار و حطام الدنيا و قد روى نصر في صفين (ص 255) أن رجلا من أهل الشام ينادي بين الصفين: يا أبا حسن يا علي ابرز إلي فخرج إليه علي عليه السلام حتى إذا اختلف أعناق دابتيهما بين الصفين؛ فقال: يا علي إن لك قدما في الإسلام و هجرة فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء و تأخير هذه الحروب حتى ترى من رأيك؟
فقال له علي عليه السلام: و ما ذاك؟
قال: ترجع إلى عراقك فنخلي بينك و بين العراق و نرجع إلى شامنا فتخلي بيننا و بين شامنا.
فقال له علي عليه السلام: لقد عرفت أنما عرضت هذا نصيحة و شفقة، و لقد أهمني هذا الأمر و أسهرني و ضربت أنفه و عينه فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما انزل على محمد صلى الله عليه و اله إن الله تبارك و تعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض و هم سكوت مذعنون لا يأمرون بالمعروف و لا ينهون عن المنكر فوجدت القتال أهون علي من معالجة الأغلال في جهنم، فرجع الشامي و هو يسترجع.
أقول: و قد مضى كلامنا في ذلك في شرح المختار 236 من باب الخطب (ص 322 ج 15)، و هذا من أبناء الدنيا يقصر الهمة في الماء و الكلاء و يتمرغ في الأهواء و الأميال الشهوانية، و ذلك رجل إلهي و سفير رباني يرشد الناس من عبارة و جيزة إلى حقيقة أشرقت من صبح الأزل فيها بيان علة قيام أولياء الله و نهضتهم في قبال أعدائه قائلا: إن الله تبارك و تعالى لم يرض من أوليائه- إلخ.
و الحري بباغي الرشد أن ينظر حق النظر في قوله عليه السلام فوجدت القتال أهون علي من معالجة الأغلال في جهنم.
و لقد سبق معاوية في الطلب المذكور مسيلمة المتنبي إلا أن هذا المفتري الكذاب طلب من النبي و ذاك طلب من الوصي سنة بسنة؛ ففي السيرة النبوية لابن هشام (ص 600 ج 2 طبع مصر 1375 ه): و قد كان مسيلمة بن حبيب قد كتب إلى رسول الله صلى الله عليه و اله: من مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الله سلام عليك، أما بعد فاني قد أشركت في الأمر معك و إن لنا نصف الأرض و لقريش نصف الأرض و لكن قريشا قوم يعتدون.
فقدم عليه رسولان له بهذا الكتاب.
قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: فحدثني شيخ من أشجع عن سلمة بن نعيم ابن مسعود الأشجعي، عن أبيه نعيم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و اله يقول لهما حين قرأ كتابه: فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، فقال: أما و الله لو لا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما، ثم كتب صلى الله عليه و اله إلى مسيلمة:
بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب: السلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين.
و هذه المشابهة بين مسيلمة و بين معاوية في النبي و الوصي شبيهة بما وقع بين النبي صلى الله عليه و اله و سهيل بن عمرو يوم الحديبية، و بين الوصي عليه السلام و معاوية يوم صفين و ذلك أن صحيفة الصلح لما كتبت يوم الحديبية «هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله و سهيل بن عمرو» قال سهيل: لا اجيبك إلى كتاب تسمى رسول الله و لو علمت أنك رسول الله لم اقاتلك إني إذا ظلمتك إن منعتك أن تطوف ببيت الله و أنت رسول الله و لكن اكتب محمد بن عبد الله اجيبك.
و لما كتبت صحيفة الصلح يوم صفين «هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين و معاوية بن أبي سفيان» قال معاوية: بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته فمحوا كلمة أمير المؤمنين، و قد مر تفصيله في شرح المختار 236 ص 242 من ج 15 فراجع.
و العجب لمعاوية تارة يحرض الناس و يألبهم على قتال الحق مدعيا الطلب بدم عثمان، و يتخذ عمرو بن العاص العاصي الظالم المضل عضده و جعل مصرا طعمة له؛ و مرة يطلب من أمير المؤمنين عليه السلام الشام فأين هذا من ذاك؟ و لا يدرى أنه كان بأي رأي يعيش؟ بلى من كان ميت القلب و أعماه حب الدنيا فهو يهيم في كل واد من أودية الأباطيل و الأضاليل و الأهواء المردية و الاراء الردية، قال عز من قائل: «و لا تكونوا كالذين نسوا الله فانسيهم أنفسهم اولئك هم الفاسقون»
اى عجب چون مىنبينند اين سپاه | عالمى پر آفتاب چاشتگاه | |
چشم باز و گوش باز و اين ذكا | حيرتم از چشم بندى خدا | |
دو سر انگشت بر دو چشم نه | هيچ بيني از جهان انصاف ده | |
ور نه بينى اين جهان معدوم نيست | عيب جز ز انگشت نفس شوم نيست | |
تو ز چشم انگشت را بردار هين | و آنگهانى هر چه مىخواهى ببين | |
نوح را گفتند امت كو ثواب؟ | گفت او ز ان سوى و استغشوا ثياب | |
رو و سر در جامهها پيچيدهاند | لا جرم با ديده و بىديدهاند | |
و قوله: أمس إشارة إلى طلبه من أمير المؤمنين علي عليه السلام حين بويع بالخلافة إقراره على إمرة الشام، و نقل عن ابن عباس أنه قال له عليه السلام: و له شهرا و اعزله دهرا فإنه بعد أن يبايعك لا يقدر على أن يعدل في إمرته و لا بد أن يجور فتعزله بذلك، فقال عليه السلام: كلا و ما كنت متخذ المضلين عضدا.
و قال المسعودي في مروج الذهب (ص 5 ج 2) أتى المغيرة بن شعبة عليا فقال له: إن حق الطاعة النصيحة، و إن الرأى اليوم تحوز به ما في غد، و إن التصارع اليوم تضيع به ما في غد، اقرر معاوية على عمله، و اقرر ابن عامر على عمله، و اقرر العمال على أعمالهم حتى إذا أتتك طاعتهم و طاعة الجنود استبدلت أو تركت.
قال عليه السلام: حتى أنظر، فخرج من عنده و عاد إليه من الغد فقال: إني أشرت عليك بالأمس برأى و تعقبته و إنما الرأى أن تعالجهم بالنزع فتعرف السامع من غيره و يستقل أمرك، ثم خرج فتلقاه ابن عباس خارجا و هو داخل فلما انتهى إلى علي عليه السلام قال: رأيت المغيرة خارجا من عندك ففيم جاءك؟ قال: جاءني أمس بكيت و كيت، و جاءني اليوم بذيت و ذيت، فقال: أما أمس فقد نصحك و أما اليوم فقد غشك.
قال: فما الرأى؟ قال: كان الرأى أن تخرج حين قتل عثمان أو قبل ذلك فتأتي مكة فتدخل دارك فتغلق عليك بابك فإن العرب كانت لجائلة مضطرة في إثرك لا تجد غيرك فأما اليوم فإن بني امية سيحسنون الطلب بأن يلزموك شعبة من هذا الأمر و يشبهون فيك على الناس، و قال المغيرة: نصحته فلم يقبل فغششته و ذكر انه قال و أما أنا فنصحته قبلها و لا أنصحه بعدها.
قال المسعودي: وجدت في وجه آخر من الروايات أن ابن عباس قال: قدمت من مكة بعد مقتل عثمان بخمس ليال فجئت عليا أدخل عليه فقيل لي عنده المغيرة بن شعبة فجلست بالباب ساعة فخرج المغيرة فسلم علي، و قال: متى قدمت؟
قلت: الساعة، و دخلت على علي و سلمت عليه، فقال: أين لقيت الزبير و طلحة؟
قلت: بالنواصف، قال: و من معهما؟ قلت: أبو سعيد بن الحرث بن هشام بن قتيبة من قريش فقال علي: أما إنهم لم يكن لهم بد أن يخرجوا يقولون نطلب بدم عثمان، و الله يعلم أنهم قتلة عثمان.
فقلت: أخبرني عن شأن المغيرة و لم خلابك؟ قال: جاءني بعد مقتل عثمان بيومين فقال: اخلني، ففعلت؛ فقال: إن النصح رخيص و أنت بقية الناس و أنا لك ناصح و أنا اشير عليك أن لا ترد عمال عثمان عامك هذا، فاكتب إليهم باثباتهم على أعمالهم فإذا بايعوا لك و اطمأن أمرك عزلت من أحببت و أقررت من أحببت، فقلت له: و الله لا اداهن في ديني و لا اعطى الرياء في أمري.
قال: فإن كنت قد أبيت فانزع من شئت و اترك معاوية فإن له جرأة، و هو في أهل الشام مسموع، و لك حجة في إثباته؛ فقد كان عمر ولاه الشام كلها.
فقلت: لا و الله لا أستعمل معاوية يومين أبدا. فخرج من عندي على ما أشار به ثم عاد فقال: إني أشرت عليك بما أشرت به و أبيت علي فنظرت في الأمر و إذا أنت مصيب لا ينبغي أن تأخذ أمرك بخدعة و لا يكون فيه دنسة.
قال ابن عباس: فقلت له: أما أول ما أشار عليك فقد نصحك و أما الاخر فقد غشك، و أنا اشير عليك أن تثبت معاوية فإن بايع لك فعلي أن أقلعه من منزله.
قال: لا و الله لا أعطيه إلا السيف ثم تمثل:
فما منة إن منها غير عاجز | بعار إذا ما غالت النفس غالها | |
فقال: يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع أما سمعت رسول الله صلى الله عليه و اله يقول: الحرب
خدعة؟ فقال علي عليه السلام: بلى، قلت: أما و الله لإن أطعتني لأصدرن بهم بعد ورود، و لأتركنهم ينظرون في آثارهم الأمر و لا يدرون ما كان وجهها من غير نقص لك و لا إثم عليك.
فقال: يا ابن عباس لست من هنياتك و هنيات معاوية في شيء يسير مالك عندي الطاعة و الله ولي التوفيق.
بيان: هنيات جمع هنية على التصغير أصلها من ه ن ه، أو من ه ن و، قال ابن الأثير في النهاية: و في حديث ابن الأكوع قال له: ألا تسمعنا من هناتك؟
أي من كلماتك أو من أراجزك؛ و في رواية من هنياتك على التصغير؛ و في اخرى من هنيهاتك على قلب الياء هاء.
ثم أردف معاوية قوله: «و أنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس» بقوله: «فإني لا أرجو من البقاء إلا ما ترجو، و لا أخاف من الموت إلا ما تخاف» إشارة إلى أنه مثل علي عليه السلام في الخوف من القتل و الرجاء من البقاء يعني أنه لا يبالي من الموت، و لا يطمع في الحياة بل يقاتل لإحياء حق أو إماتة باطل.
و غرضه من هذا القول دفع ما يوهم في طلبه الشام و موادعته الحرب من حصول الجبن و الفزع له، أي لا تظن من طلبي الشام إدخال الجبن في فإني لا أخاف من الموت و القتل و لا أطمع في الحياة بل أطلب الموادعة لحقن دماء الناس.
أقول: و قد ظهر صدق قوله حينما قام علي عليه السلام بين الصفين في صفين ثم نادى يا معاوية يكررها؛ فقال معاوية: اسألوه ما شأنه؟ قال: احب أن يظهر لي فاكلمه كلمة واحدة فبرز معاوية و معه عمرو بن العاص فلما قارباه لم يلتفت إلى عمرو و قال لمعاوية: ويحك على م يقتل الناس بيني و بينك و يضرب بعضهم بعضا؟ابرز إلي فأينا قتل صاحبه فالأمر له.
فالتفت معاوية إلى عمرو فقال: ما ترى يا أبا عبد الله فيما ههنا ابارزه؟ فقال عمرو: لقد أنصفك الرجل، و اعلم أنه إن نكلت عنه لم تزل سبة عليك و على عقبك ما بقي عربي.
فقال معاوية: يا عمرو بن العاص ليس مثلي يخدع عن نفسه و الله ما بارز ابن أبي طالب رجلا قط إلا سقى الأرض من دمه، ثم انصرف معاوية راجعا حتى انتهى إلى آخر الصفوف و عمرو معه.
هذا هو رواية نصر في صفين نقلناها بألفاظه (ص 140 من الطبع الناصري) و قد أتى بقريب منها المسعودي في مروج الذهب (ص 25 ج 2) و قد تقدم نقله في شرح المختار 236 من باب الخطب (ص 316 ج 15).
و نقل ابن قتيبة الدينوري في باب أخبار الجبناء من كتاب الحرب من عيون الأخبار (ص 169 ج 1 طبع مصر) عن المدائني قال: رأى عمرو بن العاص معاوية يوما يضحك، فقال له: مم تضحك يا أمير المؤمنين أضحك الله سنك؟ قال: أضحك من حضور ذهنك عند إبدائك سوءتك يوم ابن أبي طالب أما و الله لقد وافقته منانا كريما و لو شاء أن يقتلك لقتلك.
قال عمرو: يا أمير المؤمنين أما و الله إني لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فاحولت عيناك، و ربا سحرك، و بدا منك ما أكره ذكره لك؛ فمن نفسك فاضحك أودع. و نقله المسعودي في مروج الذهب مفصلا (ص 65 ج 2).
و حينما قام رجل من أصحاب علي عليه السلام و قال: و الله لأحملن معاوية حتى أقتله فأخذ فرسا فركبه ثم ضربه حتى إذا قام على سنابكه دفعه فلم ينهنهه شيء عن الوقوف على رأس معاوية و دخل معاوية خباء فنزل الرجل عن فرسه و دخل عليه فخرج معاوية من الخباء و طلع الرجل في أثره فخرج معاوية حتى أحاط قومه بالرجل فقتلوه، على التفصيل الذي ذكره نصر في صفين (ص 138).
و حينما حمل أمير المؤمنين علي عليه السلام و أصحابه على القاسطين حملة واحدة فلم يبق لأهل الشام صف إلا أهمد حتى أفضى الأمر إلى معاوية و علي عليه السلام يضرب بسيفه و لا يستقبل أحدا إلا ولى عنه فدعا معاوية فرسه لينجو عليه فلما وضع رجله في الركاب ليفر من الحرب أشار عليه عمرو بن العاص برفع المصاحف على الرماح ففعلوا ما فعلوا، نقله الدينوري في الإمامة و السياسة (ص 127 ج 1).
فإنه لو لم يكن صادقا في قوله: «فإني لا أخاف من الموت إلا ما تخاف و لا أرجو من البقاء إلا. ما ترجو» لما أعرض عن المبارزة حين دعاه علي عليه السلام إلى البراز، و لم ينصرف راجعا حتى ينتهى إلى آخر الصفوف أولا، و لما أدبر عن الرجل و لم يدخل خباء مرة و لم يخرج منه اخرى ثانيا، و لما فر من الحرب و لم يدعو فرسه لينجو عليه ثالثا.
على أن صاحبه عمرو بن العاص كان عارفا بحاله و قد أمضى قوله ذلك حيث قال له في صفين: إن رجالك لا يقومون لرجاله (يعني رجال علي عليه السلام) و لست مثله هو يقاتلك على أمر و أنت تقاتله على غيره أنت تريد البقاء و هو يريد الفناء، رواه نصر في صفين (ص 256) و سليم بن قيس كما تقدم نقله في ماخذ هذا الكتاب.
و انما قال عليه السلام: لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس، لأن معاوية في الأمس لم يكن لائقا بأخذ زمام الامور و إعطاء ذلك المقام لكونه على الباطل و هذه العلة كانت باقية في اليوم فلم يصلح لتولية امور المسلمين بعد.
ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام: أما قولك: «إن الحرب قد أكلت العرب إلا حشاشات أنفس بقيت» «ألا فمن أكله الحق فإلى النار» نقل كلام معاوية أولا ثم أجابه بقوله: ألا فمن- إلخ، و النسخ في عبارة الجواب مختلفة: ففي نسخة خطية عتيقة من النهج عندنا: ألا فمن أكله الحق فالنار أولى به، و هي قريبة من نسخة الرضي التي اخترناها في المتن.و في أكثر النسخ المطبوعة: ألا و من أكله الحق فإلى الجنة و من أكله الباطل فإلى النار.
أقول: الصواب ما اخترناها في المتن من النسخة التي عندنا قوبلت على نسخة الرضي رضوان الله عليه، و ما في تلك النسخة الخطية يؤيدها فانهما بمعنى فارد تقريبا.و أما النسخ المطبوعة فيشبه أن تكون مصحفة عن أصلها، و لا يخلو حملها على معنى صحيح من تكلف مثل أن يقال: من قتل في سبيل الحق و الذب عنه فمصيره إلى الجنة، و من هلك في سبيل الباطل و الدفاع عنه فإلى النار.
أو يضمر في الجملتين مضافان، و التقدير: ألا و من أكله أعداء الحق فإلى الجنة، و من أكله أعداء الباطل فإلى النار، و نحوهما.و المعنى على نسخة الرضي مستقيم لا اعوجاج فيه لأن الأكل في فصيح الكلام العربي كثيرا ما يؤتى به لإفادته معنى الافناء و الإزالة و الظهور على أمر أي من أفناه الحق و غلب عليه فمصيره إلى النار، و إنما قال ذلك لأن أتباع الحق قد قتلوا في صفين خلقا كثيرا من أحزاب معاوية فأشار عليه السلام إلى أن مصيرهم إلى النار و إن بلغ عددهم ما بلغ و لم يبق منهم إلا حشاشات أنفس، يقال: أكلت النار الحطب أي أفنته، و قال أوس بن حجر كما في مادة ا ك ل من الأساس:
و قد أكلت أظفاره الصخر كلما | تعنى عليه طول مرقى توصلا | |
أي أكلت الصخر أي أفننت الحجارة أظفاره.استعاره [إن الحرب قد أكلت العرب] و قال الطريحي في المجمع: أكلنا بني فلان أي ظهرنا عليهم، و أصل الأكل للشيء الإفناء له ثم استعير لافتتاح البلاد و سلب الأموال.و قال المرزوقي في شرح الحماسة عند قول خلف بن خليفة (الحماسة 794):
لعمري لنعم الحي يدعو صريخهم | إذا الجار و المأكول أرهقه الأكل | |
و معنى أرهقه الأكل ضيق عليه و غشيه، و قد قيل: أكلت فلانا إذا غلبته و غلبته.و قد جاءت بهذا المضمون من معنى الأكل أعني الإفناء روايات عن أئمتنا الطاهرين عليهم السلام ففي باب الحسد من اصول الجامع الكافي لثقة الإسلام الكليني قدس سره بإسناده عن محمد بن مسلم قال: قال أبو جعفر عليه السلام: إن الرجل ليأتي بأي بادرة فيكفر فإن (و إن- خ ل) الحسد ليأكل الإيمان كما يأكل النار الحطب.
و روى بإسناده عن جراح المدائني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الحسد يأكل الإيمان- إلخ، و أتى بهما الفيض قدس سره في الوافي (ص 148 ج 3). و قد مضى في المختار 84 من باب الخطب عن الأمير عليه السلام: و لا تحاسدوا فإن الحسد يأكل- إلخ.
و في الجامع الصغير للسيوطي عن النبي صلى الله عليه و اله: الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.و سيأتي من كتاب أمير المؤمنين عليه السلام لابنه الإمام المجتبي قوله له و إياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها و تكالبهم عليها- إلى ان قال: فإنما أهلها كلاب عاوية و سباع ضارية يهر بعضها بعضا، و يأكل عزيزها ذليلها، و يقهر كبيرها صغيرها- إلخ.
قال عليه السلام: و أما استواؤنا في الحرب و الرجال- إلى قوله: على الاخرة، قد علمت من نسخ ماخذ الكتاب أنها كانت متفقة في قوله: «و أما استواؤنا في الخوف و الرجاء» مكان قوله: «و أما استواؤنا في الحرب و الرجال» إلا ما نقلناه أخيرا من نسخة نقلها الشارح البحراني فإنها كانت موافقة للمتن، و نسخة الرضي هي التي اخترناها في المتن و توافقها نسختنا الخطية المذكورة.
و أظن أن الذين نقلوا عبارة «و أما استواؤنا في الخوف و الرجاء» نظروا بقول معاوية: «فإني لا أرجو من البقاء إلا ما ترجو، و لا أخاف من الموت إلا ما تخاف» و ظنوا أن قول الأمير عليه السلام فلست بأمضى- إلخ، جواب عنه فحرفوا الحرب و الرجال بالخوف و الرجاء، و قد غفلوا أن هذا الجواب لا يوافقه، كما يشهد به التأمل الصحيح، و أن قول معاوية: «فإني لا أرجو- إلخ» انما هو تتمة قوله: «و أنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك» لما قد عرفت آنفا، و قد أجابه الأمير عليه السلام بقوله: و أما طلبك إلي الشام- إلخ.
و معناه أن معاوية خوف الأمير عليه السلام و هدده باستواء الفريقين في الحرب و الرجال و أوهم بذلك ثباته في الحرب و بقاءه عليها و عدم تزلزله و اضطرابه منها و من وقوع كثرة القتلى في عسكره فأجابه الأمير عليه السلام بأنك إنما على علم في عدم كونك على حق، و يقين في أنك لست بمحق، و إنما تقاتل و تحارب لاقتراف حطام الدنيا و لست على يقين في وصولك إلى ما ترجو و تتمنى بل، على شك و ترديد فيه، لأنه أمكن أن تظهر علينا فتصل إلى أمانيك الدنية الدنيوية، و أمكن أن نظهر عليكم فتعاق عنها و تحرم، و كذلك الكلام في أحزابك من أهل الشام.
و أما أنا فعلى بينة من ربي، و يقين في أني على الصراط المستقيم و ليس بعده إلا الضلال و التباب، و اقاتل و احارب على يقين في ديني و ليس لى إلا إحدى الحسنيين إما الظفر عليكم فهو جهاد في سبيل الله، و إما القتل في سبيل الله فمصيره إلى الجنة و رضوان الله و هكذا الكلام في أصحابي من أهل العراق.
ثم من المعلوم أن من يعمل فعلا على شك و ترديد فيه ليس بأمضى فيه ممن يعمله على يقين، و من يفعل عملا لاقتراف الدنيا و حصول الأماني الفانية الزائلة ليس بأحرص فيه ممن يفعله للتقرب إلى الله تعالى، و الوصول إلى النعم الاخروية الدائمة و الحياة الباقية و الدرجات العالية الأبدية الروحانية، و أين هذا من ذاك و نعم ما قاله الأشتر رضوان الله عليه في أبياته السالفة آنفا:
طلب الفوز في المعاد و في ذا | تستهان النفوس و الأموال | |
فظهر أن أهل الشك و الترديد ليسوا في رتبة أهل اليقين و إن كانوا كثيرين عددا و قد قال عز و جل: قل لا يستوي الخبيث و الطيب و لو أعجبك كثرة الخبيث (المائدة 101) و قال تعالى: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله (البقرة 250) فما ادعاه معاوية من استواء الفريقين في الحرب و الرجال اختلاق محض فإن مثلهما كالأعمى و الأصم و البصير و السميع هل يستويان؟.
و أن تهديده عليا أمير المؤمنين عليه السلام بما نسجه من استوائهما في الحرب و الرجال أوهن من بيت العنكبوت، بل الخوف به أولى و الفزع به أحرى.قال عليه السلام: و أما قولك: «إنا بنو عبد مناف» فكذلك نحن و لكن ليس امية كهاشم، و لا حرب كعبد المطلب و لا أبو سفيان كأبي طالب، و سيأتي نحو كلامه هذا في الكتاب الثامن و العشرين الذي كتبه الأمير عليه السلام إلى معاوية جوابا:منا النبي و منكم المكذب، و منا أسد الله و منكم أسد الأحلاف، و منا سيدا شباب أهل الجنة و منكم صبية النار، و منا خير نساء العالمين و منكم حمالة الحطب- إلخ.
افتخر معاوية بأنه من بني عبد مناف، أو أراد بذلك الاستعطاف من أمير المؤمنين عليه السلام، أو قصد الاستواء بقوله هذا تبخترا، حيث قال بعده: و ليس لبعضنا على بعض فضل، أو عنى بذلك أنهما من بيت واحد فليس لبعضهم فضل على بعض أي أنها في الفضيلة و الشرافة سواء فإن استحق هذا منصبا كان ذلك للاخر أيضا، و إن ادعى هذا مقاما كان ذلك للاخر أيضا، و مال الوجهين الأخيرين واحد و استفادة الوجه الثاني من الأولين من العبارة لا تخلو من تكلف.
و نقول أولا: إن معاوية و إن كان منتسبا إلى عبد مناف بحسب الظاهر لكن دنيات اموره و رذيلات صفاته قد أخرجته من بيت الشرف حقيقة و كم من فعال خبيثة و أعمال غير صالحة أوجبت القطع عن بيت و رحم و في القرآن الكريم قال:يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح (هود- 50)، و لا يخفى عليك أن الورد و الشوك من أصل واحد و لكن أين هذا من ذاك.
و ثانيا إنه لما افتخر بانتسابه إلى عبد مناف و ادعى الاستواء بينه و بين الأمير عليه السلام و أنكر فضل بعض على بعض من بيت عبد مناف أجابه الأمير عليه السلام بقوله: إنا بنو أب واحد كما في نسخة نصر فعلى هذه النسخة لم يمض الأمير عليه السلام أن معاوية من بني عبد مناف كما لا يخفى و فيه نكتة لطيفة نشير إليها عن قريب، و على نسخة الرضي أجابه بقوله: فكذلك نحن أي نسبنا ينتهى إليه أيضا و لكن بين آبائي و آبائك تفاوتا فاحشا، كما أن بين صفاتي و صفاتك فرقا ظاهرا و مسافة كثيرة، و تفصيله أن امية ليس كهاشم- إلخ، بدأ عليه السلام بذكر الأوصاف الخارجة و الفضائل الطارية عليه من جهة آبائه، و الرذائل العارضة على خصمه معاوية من جهة أسلافه، ثم أتى بالأوصاف الداخلة على أربعة أقسام الاتي شرحها إن شاء الله تعالى، فلا بد في المقام من ذكر سلسلتي نسبهما إلى عبد مناف فنقول: علي عليه السلام كان ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، و معاوية كان ابن صخر أبي سفيان بن حرب بن امية بن عبد شمس بن عبد مناف.
و آباء أمير المؤمنين علي عليه السلام كانوا أهل بيت شرف في قومهم، و كان كل واحد منهم أشرف و أفضل و أعلى من آباء معاوية بمراحل، أما أبو طالب عليه السلام فإنه كان زعيما حازما نبيها سياسا، و له في دفع كياد الأعداء عن النبي و الذب عنه صلى الله عليه و اله على الإسلام و المسلمين حق عظيم، و جلالة شأنه و حسن إسلامه أشرف من الشارق و أبلج من الصبح و قد ذكرنا طائفة من أشعاره السامية الدالة على إسلامه، و حمايته عن الرسول صلى الله عليه و اله و المسلمين، و نبذة من روايات جاءت في فخامة أمره و علو قدره في شرح المختار التاسع من باب الكتب و الرسائل (ص 351- 364) ج 17 و قال اليعقوبي في التاريخ: و كفل رسول الله صلى الله عليه و اله بعد وفاة عبد المطلب أبو طالب عمه فكان خير كافل، و كان أبو طالب سيدا شريفا مطاعا مهيبا مع إملاقه، قال علي بن أبي طالب عليه السلام: أبي ساد فقيرا، و ما ساد فقير قبله.
و أما عبد المطلب: ففي السيرة النبوية لابن هشام (ص 142 ج 1) أنه ولى السقاية و الرفادة بعد عمه المطلب فأقامها للناس و أقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، و شرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه و أحبه قومه و عظم خطره فيهم، ثم ذكر الرؤيا التي أريها عبد المطلب في حفر زمزم، و نذره ذبح ولده و ما جرى فيهما، إلى أن قال:ثم لم يلبث عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله صلى الله عليه و اله أن هلك و ام رسول الله صلى الله عليه و اله حامل به، فلما وضعته امه آمنة بنت وهب أرسلت إلى جده عبد المطلب: أنه قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه فأتاه فنظر إليه و حدثته بما رأت حين حملت به و ما قيل لها فيه و ما أمرت أن تسميه.
فيزعمون أن عبد المطلب أخذه فدخل به الكعبة فقام يدعو الله و يشكر له ما أعطاه ثم خرج به إلى امه فدفعه إليها و التمس لرسول الله صلى الله عليه و اله الرضعاء فاسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر يقال لها حليمة ابنة أبي ذؤيب.
و كان رسول الله صلى الله عليه و اله مع امه آمنة و جده عبد المطلب بن هاشم في كلاءة الله و حفظه، ينبته الله نباتا حسنا، لما يريد به من كرامته فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و اله ست سنين توفيت امه آمنة بالأبواء بين مكة و المدينة فكان رسول الله صلى الله عليه و اله مع جده عبد المطلب بن هاشم.
و كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، فكان رسول الله صلى الله عليه و اله يأتي و هو غلام جفر حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فو الله إن له لشأنا ثم يجلسه معه على الفراش و يمسح ظهره بيده و يسره ما يراه يصنع فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و اله ثماني سنين هلك عبد المطلب ابن هاشم فكان رسول الله صلى الله عليه و اله بعد عبد المطلب مع عمه أبي طالب و كان عبد المطلب- فيما يزعمون- يوصي به عمه أبا طالب و ذلك لأن عبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه و اله و أبا طالب أخوان لأب و ام، امهما: فاطمة بنت عمرو بن عائذ، و كان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله صلى الله عليه و اله بعد جده فكان إليه و معه.
بيان: السقاية اسقاء الحجيج الماء العذب، و الرفادة خرج كانت قريش تخرجه في كل موسم من أموالها فتدفعه إليه فيصنع به طعاما للحاج يأكله من لم يكن له سعة و لا زاد.
و قال اليعقوبي في التاريخ (ص 7 ج 2): و توفيت امه صلى الله عليه و اله بنت وهب بالأبواء و كان عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه و اله يكفله و عبد المطلب يومئذ سيد قريش غير مدافع قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعط أحدا، و سقاه زمزم و ذا الهرم[1]
و حكمته قريش في أموالها، و أطعم في المحل حتى أطعم الطير و الوحوش في الجبال قال أبو طالب:
و نطعم حتى تأكل الطير فضلنا | إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد | |
و رفض عبادة الأصنام، و وحد الله عز و جل، و وفى بالنذر، و سن سننا نزل القرآن بأكثرها و جاءت السنة من رسول الله بها، و هي: الوفاء بالنذور، و مائة إبل في الدية، و ألا تنكح ذات محرم، و لا تؤتى البيوت من ظهورها، و قطع يد السارق، و النهي عن قتل الموؤدة، و المباهلة، و تحريم الخمر، و تحريم الزنا و الحد عليه، و القرعة، و ألا يطوف أحد بالبيت عريان، و إضافة الضيف، و ألا ينفقوا إذا حجوا إلا من طيب أموالهم، و تعظيم الأشهر الحرم، و نفي ذوات الرايات، فكانت قريش تقول: عبد المطلب إبراهيم الثاني.
و ذكر قريبا مما نقلنا عن اليعقوبي الحلبي في السيرة ناقلا عن ابن الجوزي و زيني دحلان بهامشه (ص 21) أيضا، و قال دحلان: كان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم و البغي و يحثهم على مكارم الأخلاق و ينهاهم عن دنيات الامور و كان يقول: لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم الله منه و تصيبه عقوبة، إلى أن هلك رجل ظلوم من أرض الشام و لم تصبه عقوبة فقيل لعبد المطلب في ذلك ففكر و قال:و الله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه و يعاقب المسيء باساءته.
و أوصى عبد المطلب إلى ابنه الزبير بالحكومة و أمر الكعبة، و إلى أبي طالب برسول الله صلى الله عليه و اله و سقاية زمزم، و قال له: قد خلفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطاون به رقاب الناس، و قال لأبي طالب- و كان اسمه عبد مناف أي أنه كان سمي جدة الأعلى عبد مناف-:
اوصيك يا عبد مناف بعدي | بمفرد بيد أبيه فرد | |
فارقه و هو ضجيع المهد | فكنت كالام له في الوجد | |
تدنيه من أحشائها و الكبد | فأنت من أرجى بني عندي | |
لدفع ضيم أو لشد عقد |
[2] و توفي عبد المطلب و لرسول الله صلى الله عليه و اله ثماني سنين و لعبد المطلب مائة و عشرون سنة و قيل: مائة و أربعون سنة، و أعظمت قريش موته، و غسل بالماء و السدر و كانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر، و لف في حلتين من حلل اليمن قيمتهما ألف مثقال ذهب و طرح عليه المسك حتى ستره، و حمل على أيدي الرجال عدة أيام إعظاما و إكراما و إكبارا لتغييبه في التراب و روي عن رسول الله صلى الله عليه و اله أنه قال: إن الله يبعث جدي عبد المطلب امة واحدة في هيئة الأنبياء و زي الملوك.
أقول: قوله رضوان الله عليه: «فارقه و هو ضجيع المهد» ينافي ما نقلنا آنفا من ابن هشام من أن عبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه و اله مات و قد كانت أم رسول الله حاملا به، فقد تنوزع في ذلك فمنهم من قال: انه مات قبل مولد النبي صلى الله عليه و اله، و منهم من قال: إنه مات بعد مولده بشهر و قيل: بشهرين، و منهم من قال: انه مات بعد مولده بسنة، و قيل: إنه مات في السنة الثانية من مولده، و قيل: بل مات عبد الله و رسول الله ابن ثمان و عشرين شهرا.
و قال الطبرسي في تفسير سورة و الضحى من المجمع: كان النبي صلى الله عليه و اله مات أبوه و هو ابن سنتين، و قال الكليني في باب تاريخ مولد النبي و وفاته صلى الله عليه و اله:و توفي أبوه عبد الله بن عبد المطلب بالمدينة عند أخواله و هو ابن شهرين، و ظاهر الحديث الذي رواه الصدوق في المجلس الخامس و الأربعين من أماليه (ص 158) عن ابن عباس أنه مات قبل مولده حيث قال: فلما مات عبد الله و ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه و اله أتيته- إلخ.
أكثر العلماء من الفريقين على أن عبد الله مات بعد مولد رسول الله صلى الله عليه و اله، و قال اليعقوبي في التاريخ: توفي عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله صلى الله عليه و اله- على ما روى جعفر بن محمد- بعد شهرين من مولده، قال: و قال بعضهم: إنه توفي قبل أن يولد و هذا غير صحيح لأن الإجماع على أنه توفي بعد مولده، انتهى، فقول الكليني و من سلك مسلكه متخذ من الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السلام.
ثم إن ما نقل اليعقوبي عن النبي صلى الله عليه و اله في جده عبد المطلب توافقه عدة روايات في الكافي و أتى بها الفيض رحمه الله في باب ما جاء في عبد المطلب و أبي طالب رضي الله عنهما من الوافي (ص 158 ج 2) ففي الكافي بإسناده إلى زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يحشر عبد المطلب يوم القيامة امة وحدة عليه سيماء الأنبياء و هيبة الملوك.
و فيه بإسناده عن مقرن، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن عبد المطلب أول من قال بالبدا يبعث يوم القيامة أمة وحدة عليه بهاء الملوك و سيماء الأنبياء، و غيرهما من روايات اخرى.و ما نقل ابن هشام في السيرة من أنه يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة- إلخ، توافقه رواية في الكافي بهذا المضمون نقلها الفيض في ذلك الباب من الوافي أيضا: روى الكليني بإسناده إلى رفاعة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان عبد المطلب يفرش له بفناء الكعبة لا يفرش لأحد غيره و كان له ولد يقومون على رأسه فيمنعون من دنى منه فجاء رسول الله صلى الله عليه و اله و هو طفل يدرج حتى جلس على فخذيه فأهوى بعضهم إليه لينحيه عنه، فقال له عبد المطلب: دع ابني فإن الملك قد أتاه، (الوافي ص 159 ج 2).
و أما هاشم: ففي السيرة لابن هشام نقلا عن ابن إسحاق (ص 135 ج 1) ولى الرفادة و السقاية- يعني بعد أن توفي أبوه عبد مناف- و ذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا، قلما يقيم بمكة و كان مقلا ذا ولد (كان لعبد مناف بنون خمسة و هم: عبد شمس، و هاشم، و المطلب، و نوفل، و أبو عمرو عبيد) و كان هاشم موسرا، فكان- فيما يزعمون- إذا حضر الحاج قام في قريش فقال: «يا معشر قريش إنكم جيران الله و أهل بيته؛ و إنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله و حجاج بيته و هم ضيف الله، و أحق الضيف بالكرامة ضيفه؛ فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعاما أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها فإنه و الله لو كان مالى يسع لذلك ما كلفتكموه» فيخرجون لذلك خرجا من أموالهم، كل امرىء بقدر ما عنده فيصنع به للحجاج طعاما حتى يصدروا منها.
قال: و كان هاشم فيما يزعمون أول من سن الرحلتين لقريش رحلتي الشتاء و الصيف، و أول من أطعم الثريد بمكة، و إنما كان اسمه عمرا، فما سمي هاشما إلا بهشمه الخبز بمكة لقومه، فقال شاعر من قريش أو من بعض العرب (قيل هو عبد الله بن الزبعري، و قيل هو مطرود بن كعب):
عمرو الذي هشم الثريد لقومه | قوم بمكة مسنتين عجاف | |
سنت إليه الرحلتان كلاهما | سفر الشتاء و رحلة الأصياف | |
المسنتون: الذين أصابتهم السنة، و هي الجوع و القحط و الجدب، و العجاف جمع عجف من العجف بمعنى الضعف و الهزال.ثم توفي هاشم بغزة من أرض الشام تاجرا فولي السقاية و الرفادة من بعده المطلب بن عبد مناف و كان أصغر من عبد شمس و هاشم و كان ذا شرف في قومه و فضل و كانت قريش إنما تسميه الفيض لسماحته و فضله.
و ذكر أكثر مما نقلناه عن ابن هشام اليعقوبي في التاريخ (ص 202 ج 1) فراجع، قال: و يقال: إن هاشما و عبد شمس كانا توأمين فخرج هاشم و تلاه عبد شمس و عقبه ملتصق بعقبه فقطع بينهما بموسى فقيل: ليخرجن بين ولد هاذين من التقاطع ما لم يكن بين أحد.
و أما بنو امية فالتاريخ أصدق شاهد على أنهم لم يكونوا إلا في صدد إثارة فتنة، و إنارة حرب، و أن شيمتهم كانت الخيلاء، و البخل، و النفاق، و أن دأبهم كان الإستيلاء على الناس و السلطان عليهم ظلما و جورا، و أن بينهم و بين بني هاشم في السجايا الإنسانية بونا بعيدا.
و إني كلما طلبتهم في كتب التواريخ و المغازي و السير فما وجدتهم إلا أفظاظأ غلاظ القلوب و قساتها، و ما رأيت أمانيهم إلا أن تكونوا جبابرة ملوكا.
و هذا هو أبو سفيان كان صخرا، و قد حارب رسول الله صلى الله عليه و اله و كان سببا لإثارة وقعة بدر كما تقدم عن اليعقوبي في شرح المختار التاسع من باب الكتب (ص 369 ج 17) ففي السيرة النبوية لابن هشام (ص 671 ج 1): قال ابن إسحاق: ثم قال الله عز و جل: «إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله- إلى قوله: إلى جهنم يحشرون» يعني النفر الذين مشوا إلى أبي سفيان و إلى من كان له مال من قريش في تلك التجارة فسألوهم أن يقووهم بها على حرب رسول الله صلى الله عليه و آله ففعلوا.
و قال ابن الأثير في اسد الغابة ناقلا عن أبي أحمد العسكري: هو الذي قاد قريشا كلها يوم احد و لم يقدمها قبل ذلك رجل واحد إلا يوم ذات نكيف قادها المطلب.
و قال اليعقوبي في التاريخ: كانت وقعة احد في شوال بعد بدر بسنة، اجتمعت قريش و استعدت لطلب ثارها يوم بدر و استعانت بالمال الذي قدم به أبو سفيان و قالوا: لا تنفقوا منه شيئا إلا في حرب محمد إلى أن قال-:
و خرج المشركون و عدتهم ثلاثة آلاف و رئيسهم أبو سفيان بن حرب، و خرج رسول الله صلى الله عليه و اله و خرج المسلمون و عدتهم ألف رجل حتى صاروا إلى احد، و وافى المشركون فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل حمزة بن عبد المطلب أسد الله و أسد رسوله رماه وحشي و مثلت به هند بنت عتبه (و هند كانت زوج أبي سفيان) و شقت عن كبده فأخذت منها قطعة فلاكتها و جدعت أنفه فجزع عليه رسول الله صلى الله عليه و اله جزعا شديدا و قال: لن أصاب بمثلك- إلخ.
و كان أبو سفيان يحرض قريشا على القتال، و قال ابن إسحاق: و قد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم بذلك على القتال: يا بني عبد الدار إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم و إنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالو، فإما أن تكفونا لواءنا و إما أن تخلوا بيننا و بينه فنكفيكموه فهموا به و تواعدوه و قالوا: نحن نسلم إليك لواءنا، ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع! و ذلك أراد أبو سفيان.
و كانت زوجه هند و النسوة اللاتي معها يحرضن الكفار على القتال فإنه لما التقى الناس و دنا بعضهم من بعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها و أخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال و يحرضنهم فقالت هند فيما تقول:
ويها بني عبد الدار | ويها حماة الأدبار | |
ضربا بكل بتار |
و تمثلت بأبيات قالتها هند بنت طارق بن بياضة الإيادية في حرب الفرس لإياد:
إن تقبلوا نعانق | و نفرش النمارق | |
أو تدبروا نفارق | فراق غير وامق | |
و كان أبو سفيان يشمت بالمسلمين بعد احد، كما قال ابن عباس و عكرمة لما اصيب المسلمين ما أصابهم يوم احد و صعد النبي صلى الله عليه و اله الجبل جاء أبو سفيان فقال: يا محمد لنا يوم و لكم يوم، فقال صلى الله عليه و اله: أجيبوه فقال المسلمون: لا سواء قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: لنا عزى و لا عزى لكم؛ فقال النبي صلى الله عليه و اله: قولوا: الله مولانا و لا مولى لكم، فقال أبو سفيان: اعل هبل؛ فقال النبي صلى الله عليه و اله: قولوا: الله أعلى و أجل، و ذكر قريبا منه ابن هشام في السيرة (ص 93 ج 2).
و كان دأب معاوية و شيمته أيضا كذلك إلى أن أسلم بحسب الظاهر إما رغبة و إما رهبة في يوم فتح مكة و بعد ما أسلم ظاهرا قد سفك دماء المسلمين و أفرط فيه فقد قال المسعودي في مروج الذهب (ص 66 ج 2): و قد كان بسر بن أرطاة العامري (كان بسر منصوبا من قبل معاوية، على سفك الدماء) قتل بالمدينة و بين المسجدين خلقا كثيرا من خزاعة و غيرهم، و كذلك بالجرف قتل بها خلقا كثيرا من رجال همذان، و قتل بصنعاء خلقا كثيرا من الأبناء؛ و لم يبلغه عن أحد أنه يمالىء عليا أو يهواه إلا قتله.
و نقل ما اصيب منه المسلمون يطول به الكتاب و ينجر إلى الإسهاب، و نكتفي بنقل كتاب كتبه محمد بن أبي بكر إلى معاوية ذكر فيه عليا و أباه، و معاوية و أباه بما تراه، قال المسعودي في مروج الذهب (ص 59 ج 2): لما صرف علي عليه السلام قيس بن سعد بن عبادة عن مصر وجه مكانه محمد بن أبي بكر فلما وصل إليها كتب إلى معاوية كتابا فيه:من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر: أما بعد فإن الله بعظمته و سلطانه خلق خلقه بلا عبث منه و لا ضعف في قوته و لا حاجة به إلى خلقهم لكنه خلقهم عبيدا و جعل منهم غويا و رشيدا و شقيا و سعيدا ثم اختار على علم و اصطفى و انتخب منهم محمدا صلى الله عليه و اله فانتخبه لعلمه و اصطفاه لرسالته و ائتمنه على وحيه و بعثه رسولا و مبشرا و نذيرا فكان أول من أجاب و أناب و آمن و صدق و أسلم و سلم أخوه و ابن عمه علي بن أبي طالب صدقه بالغيب المكتوم و آثره على كل حميم و وقاه بنفسه كل هول و حارب حربه و سالم سلمه فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الليل و النهار و الخوف و الجوع و الخضوع حتى برز سابقا لا نظير له فيمن اتبعه و لا مقارب له في فعله و قد رأيتك تساميه و أنت أنت و هو هو أصدق الناس نية، و أفضل الناس ذرية، و خير الناس زوجة و أفضل الناس ابن عم أخوه الشاري بنفسه يوم موتة، و عمه سيد الشهداء يوم احد، و أبوه الذاب عن رسول الله صلى الله عليه و اله و عن حوزته؛ و أنت اللعين ابن اللعين لم تزل أنت و أبوك تبغيان لرسول الله صلى الله عليه و اله الغوائل، و تجهدان في إطفاء نور الله، تجمعان على ذلك الجموع، و تبذلان فيه المال، و تؤلبان عليه القبائل؛ على ذلك مات أبوك و عليه خلفته؛ و الشهيد عليك من تدنى و يلجأ إليك من بقية الأحزاب و رؤساء النفاق؛ و الشاهد لعلي مع فضله المبين القديم أنصاره الذين معه الذين ذكرهم الله بفضلهم، و أثنى عليهم من المهاجرين و الأنصار و هم معه كتائب و عصائب يرون الحق في اتباعه و الشقاء في خلافه؛ فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلي و هو وارث رسول الله صلى الله عليه و اله و وصيه و أبو ولده، أول الناس له اتباعا و أقربهم به عهدا، يخبره بسره و يطلعه على أمره، و أنت عدوه و ابن عدوه فتمتع في دنياك ما استطعت بباطلك، و ليمددك ابن العاص في غوايتك، فكأن أجلك قد انقضى و كيدك قد و هى، ثم يتبين لك لمن تكون العاقبة العليا، و اعلم أنك أنما تكايد ربك الذي آمنك كيده و يئست من روحه فهو لك بالمرصاد و أنت منه في غرور و السلام على من اتبع الهدى.
فأجابه معاوية في كتاب أرسله إليه بما خلاصته: فقد كنا و أبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب و حقه لازما لنا مبرورا علينا فلما قبض الله نبيه كان أبوك و فاروقه أول من ابتزه حقه، و خالفه على أمره على ذلك اتفقا و اتسقا، و لو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب و لسلمنا إليه و لكنا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فأخذنا بمثله فعب أباك بما بدا لك أودع و السلام على من أناب.
و أتى بتفصيله المسعودي في مروج الذهب فراجع، فأين أبو سفيان الضاري بدماء النبي صلى الله عليه و اله و المسلمين، و أبو طالب الذي كان كافل الرسول و حاميه و ذابا عنه و عن المسلمين.
و أين زوجه هند آكلة الأكباد، و امرأة أبي طالب فاطمة بنت أسد بن هاشم ربت رسول الله صلى الله عليه و اله، و قال اليعقوبي في التاريخ (ص 10 ج 2) و يروى عن رسول الله صلى الله عليه و اله لما توفيت (يعني فاطمة بنت أسد) و كانت مسلمة فاضلة- أنه قال: اليوم ماتت امي، و كفنها بقميصه، و نزل على قبرها، و اضطجع في لحدها؛ فقيل له يا رسول الله لقد اشتد جزعك على فاطمة؛ قال: إنها كانت امي إذا كانت لتجيع صبيانها و تشبعني، و تشعثهم و تدهنني و كانت امي.
و بنو هاشم هم الذين كان النبي من بيتهم و هو صلى الله عليه و اله ربي في حجرهم و ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه ففي المقدمة السادسة من مقدمة ابن خلدون (ص 91 طبع مصر): إن الله سبحانه اصطفى من البشر أشخاصا فضلهم بخطابه و فطرهم على معرفته و جعلهم وسائل بينهم و بين عباده يعرفونهم بمصالحهم و يحرضونهم على هدايتهم- ثم أخذ في بيان علامات هذا الصنف من البشر فقال: و من علاماتهم أيضا أن يكونوا ذوي حسب في قومهم، و في الصحيح ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه و في رواية اخرى في تروة من قومه استدركه الحاكم على الصحيحين، و في مسئلة هر قل لأبي سفيان كما هو في الصحيح قال: كيف هو فيكم؟ فقال أبو سفيان: هو فينا ذو حسب؛ فقال هرقل: و الرسل تبعث في أحساب قومها، و معناه أن تكون له عصبة و شوكة تمنعه عن أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه و يتم مراد الله من إكمال دينه و ملته.
و كلام ابن خلدون هذا قد عنون في الكتب الكلامية أيضا، ثم إن المهدي الموعود ظهوره و قيامه من أهل بيت النبي صلى الله عليه و اله فهو من بني هاشم كما أن آباءه الكرام البررة عليهم السلام من ذلك البيت.
و قد قاتل أبو سفيان بن حرب الأموي رسول الله صلى الله عليه و اله و فعل ما فعل.و ابنه معاوية قاتل خليفة الرسول عليا المرتضى، و قتل بالسم ريحانة الرسول الحسن المجتبى.و زوجه هند كانت تحرض المشركين على قتال المسلمين و قتلهم و قد مثلت أسد الله و أسد رسوله حمزة و أكلت أكباد أوداء الله.
و ابن معاوية يزيد قتل سيد شباب أهل الجنة ريحانة رسول الله الحسين بن فاطمة و أصحابه أنصار الله بكربلاء، و قال السيوطي في تاريخ الخلفاء (ص 307 طبع مصر): و في قتله قصة فيها طول لا يحتمل القلب ذكرها فإنا لله و إنا إليه راجعون. انتهى.
و بعد قتله فعل بمدينة الرسول ما فعل فقد قال السيوطي في التاريخ المذكور و في سنة ثلاث و ستين بلغه (يعني يزيد بن معاوية) أن أهل المدينة خرجوا عليه و خلعوه فأرسل إليهم جيشا كثيفا و أمرهم بقتالهم ثم المسير إلى مكة لقتال ابن الزبير فجاءوا و كانت وقعة الحرة على باب طيبة، و ما أدراك ما وقعة الحرة؟ ذكرها الحسن مرة فقال: و الله ما كاد ينجو منهم أحد قتل فيها خلق من الصحابة رضي الله عنهم و من غيرهم، و نهبت المدينة و افتض فيها ألف عذراء فإنا لله و إنا إليه راجعون؛ قال:قال صلى الله عليه و اله: «من أخاف أهل المدينة أخافه الله، و عليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين» و كان سبب خلع أهل المدينة له أن يزيد أسرف في المعاصي.
و قال عبد الله حنظلة الغسيل: و الله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء إنه رجل ينكح امهات الأولاد و البنات، و الأخوات، و يشرب الخمر، و يدع الصلاة.
قال: قال الذهبي: و لما فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل مع شرب الخمر و اتيانه المنكر اشتد عليه الناس و خرج عليه غير واحد و لم يبارك الله في عمره و سار جيش الحرة إلى مكة لقتال ابن الزبير و أتوا مكة فحاصروه و قاتلوه و رموه بالمنجنيق و احترقت من شرارة نيرانهم أستار الكعبة و سقفها- إلى آخر ما نقل فراجع إلى الكتاب.
و الدجال الذي يقاتل المهدي المنتظر عليه السلام الهاشمي سفياني أيضا ففي معاني الأخبار للصدوق رحمه الله عن الصادق عليه السلام: قال: إنا و آل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله: قلنا صدق الله و قالوا كذب الله، قاتل أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه و اله و قاتل معاوية علي بن أبي طالب عليه السلام و قاتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي عليه السلام و السفياني يقاتل القائم، رواه المجلسي في البحار (ج 8 ص 560 من الطبع الكمباني).
و هذه أنموذجة من شيم بني امية، و تلك نبذة من خلال بني هاشم و خلقهم العظيم.ثم إن الفاضل الشارح المعتزلي قال: كان الترتيب يقتضي أن يجعل هاشما بإزاء عبد شمس لأنه أخوه في قعدد و كلاهما ولد عبد مناف لصلبه، و أن يكون امية بإزاء عبد المطلب، و أن يكون حرب بإزاء أبي طالب، و أن يكون أبو سفيان بإزاء أمير المؤمنين عليه السلام لأن كل واحد من هؤلاء في قعدد صاحبه إلا أن أمير المؤمنين عليه السلام لما كان في صفين بازاء معاوية اضطر إلى أن جعل هاشم بإزاء امية بن عبد شمس. انتهى.
أقول: أولا إن سلسلتي نسب أمير المؤمنين علي عليه السلام و معاوية إلى عبد مناف ليستا متكافئتين حتى يجعل كل واحد من هذه السلسلة في قعدد صاحبه من السلسلة الاخرى فإنها في معاوية تجاوز حلقة فعلي عليه السلام ينتهى إلى عبد مناف بثلاثة آباء و معاوية ينتسب إليه ظاهرا باباء أربعة.
و ثانيا إن الأمير عليه السلام جعل نفسه بازاء معاوية، و أباه أبا طالب بإزاء أبيه أبي سفيان، و جده عبد المطلب بإزاء جده حرب، و أبا جده هاشم بإزاء أبي جده امية فلا يخفى حسن صنيعته عليه السلام.
و ثالثا إن في صنيعته هذه اشارة لطيفة دقيقة إلى عدم انتهاء نسب الخصم إلى عبد مناف، أى عدم كونه من صميم قريش فتبصر.
و رابعا إن الأمير عليه السلام كان في بيان فضل أولاد عبد مناف الذين كانوا آباءه عليهم السلام شرافة و كرامة و مجدا على أولاده الذين كان معاوية ينتسب بهم إليه و ليس للتنظير مزيد اهتمام في المقام.
و خامسا إن في ما فعل الأمير عليه السلام من جعل امية بازاء هاشم، و حرب بازاء عبد المطلب، و أبي سفيان بازاء أبي طالب نكتة تاريخية أوجبت تنظير كل واحد من الثلاثة قبال صاحبه و قد غفل الشارح المذكور عنها و هي أن هاشما بعد أبيه عبد مناف لما ولى ما كان إليه من السقاية و الرفادة و ساد قومه حسده أمية ابن أخيه عبد شمس بن عبد مناف فتكلف أن يصنع كما يصنع هاشم فعجز فعيرته قريش و قالوا له: أتتشبه بهاشم؟ ثم دعا هاشما للمنافرة فأبى هاشم ذلك لسنه و علو قدره فلم تدعه قريش؛ فقال هاشم لامية: انا فرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة، و الجلاء عن مكة عشر سنين، فرضي امية بذلك و جعلا بينهما الكاهن الخزاعي و كان بعسفان فخرج كل منهما في نفر فنزلوا على الكاهن فقال قبل أن يخبروه خبرهم: و القمر الباهر، و الكوكب الزاهر، و الغمام الماطر، و ما بالجو من طائر، و ما اهتدى بعلم مسافر، من منجد و غائر، لقد سبق هاشم امية إلى المفاخر فنصر هاشم على امية فعاد هاشم إلى مكة و نحر الإبل و أطعم الناس و خرج امية إلى الشام فأقام بها عشر سنين فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم و امية و توارث ذلك بنوهما.
فقد أشار علي عليه السلام بقوله: «و لكن ليس امية كهاشم» إلى هذا التنظير، و قد نقلنا هذه النكتة التاريخية من انسان العيون في سيرة الأمين و المأمون المعروف بالسيرة الحلبية (ص 5 ج 1 طبع مصر) و قد نقل قريبا منه أبو جعفر الطبري في التاريخ، و ابن الأثير في الكامل.
و أما ما أوجبت التنظير بين عبد المطلب و حرب فهي أن حربا كان نديم عبد المطلب في الجاهلية و كان في جوار عبد المطلب يهودي فأغلظ ذلك اليهودي القول على حرب في سوق من أسواق تهامة فأغرى عليه حرب من قتله؛ فلما علم عبد المطلب بذلك ترك منادمة حرب و لم يفارقه حتى أخذ منه مائة ناقة دفعها لابن عم اليهودي ثم نادم عبد الله بن جدعان التميمي.
هذا ما نقلنا عن السيرة النبوية لأحمد زيني دحلان (هامش السيرة الحلبية ص 22 ج 1) و تفصيل ذلك ما أتى به أبو جعفر الطبري في التاريخ و ابن الأثير في الكامل من أن عبد المطلب كان له جار يهودي يقال له: اذينة يتجر و له مال كثير فغاظ ذلك حرب بن امية، و كان نديم عبد المطلب فأغرى به فتيانا من قريش ليقتلوه و يأخذوا ماله فقتله عامر بن عبد مناف بن عبد الدار، و صخر بن عمرو بن كعب التيمي جد أبي بكر؛ و لم يعرف عبد المطلب قاتله فلم يزل يبحث حتى عرفهما و إذا هما قد استجارا بحرب بن امية، فأتى حربا و لامه، و طلبهما منه فأخفاهما فتغالظا في القول حتى تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة فأبى أن ينفر بينهما فجعلا بينهما نفيل بن عبد العزى بن رياح، فقال لحرب:يا أبا عمرو أتنافر رجلا هو أطول منك قائمة، و أعظم منك هامة، و أوسم منك و سامة، و أقل منك ملامة، و أكثر منك ولدا، و أجزل صفدا، و أطول منك مذودا؟ و إني لأقول هذا و إنك لبعيد الغضب، رفيع الصوت في العرب، جلد المريرة، جليل العشيرة، و لكنك نافرت منفرا.
فغضب حرب و قال: إن من انتكاس الزمان أن جعلت حكما؛ فترك عبد المطلب منادمة حرب، و نادم عبد الله بن جدعان و أخذ من حرب مائة ناقة فدفعها إلى ابن عم اليهودي، و ارتجع ماله إلا شيئا هلك فغرمه من ماله.
ثم قال زيني دحلان: و يروى أن حربا كان لا يلتقي من أحد من رؤساء قريش أو غيرهم في؟؟ عقبة؟؟ أو مضيق إلا تأخروا و تقدم هو، و لا يستطيع أحد أن يتقدم عليه فالتقى حرب مع رجل من بني تميم في عقبة فتقدمه التميمي، فقال حرب: أنا حرب بن امية فلم يلتفت إليه التميمي و مر قبله فقال حرب: موعدك مكة فبقى التميمي دهرا ثم أراد دخول مكة فقال: من يجيرني من حرب بن امية؟ فقيل له: عبد المطلب بن هاشم فأتى التميمي ليلا دار الزبير بن عبد المطلب فدق الباب فقال الزبير لأخيه الغيداق: قد جاءنا رجل إما مستجير أو طالب حاجة أو طالب قرى و قد أعطيناه ما أراد فخرج الزبير فأنشد الرجل:
لاقيت حربا في الثنية مقبلا | و الصبح أبلج ضوءه للباري | |
فدعا بصوت و اكتنى ليروعني | و دعا بدعوته يريد فخاري | |
فتركته كالكلب ينبح وحده | و أتيت أهل معالم و فخار | |
ليثا هزبرا يستجار بقربه | رحب المنازل مكرما للجار | |
و لقد حلفت بمكة و بزمزم | و البيت ذي الأحجار و الأستار | |
إن الزبير لما نعي من خوفه | ما كبر الحجاج في الأمصار | |
فقال الزبير للتميمي: تقدم فإنا لا نتقدم على من نجيره فتقدم التميمي و دخل المسجد فرآه حرب فقام إليه فلطمه فعدا عليه الزبير بالسيف فعدا حرب حتى دخل دار عبد المطلب فقال: أجرني من الزبير فأكفأ عليه جفنة كان أبوه هاشم يطعم الناس فيها فبقى تحتها ساعة ثم قال له عبد المطلب: اخرج، فقال: كيف اخرج و سبعة من ولدك قد اجتمعوا بسيوفهم على الباب؟ فألقى عليه عبد المطلب رداءه فخرج عليهم فعلموا أنه أجاره فتفرقوا.و إلى هذه القصة أشار ابن عباس رضي الله عنهما حين دخل على معاوية في أيام خلافته و عنده وفود العرب فذكره كلاما فيه افتخار و ذكر في كلامه حرب بن امية فقال له ابن عباس: فمن أكفأ عليه إناء و أجاره بردائه؟ فسكت معاوية.
و أما التنظير بين أبي طالب و أبي سفيان فظاهر مما قدمنا سالفا من حماية أبي طالب رضوان الله عليه رسول الله صلى الله عليه و اله و المسلمين و ذبه عن الرسول صلى الله عليه و اله و حسن تدبيره في دفع كياد القوم عنه، و آنفا من ايذاء أبي سفيان رسول الله صلى الله عليه و اله و المسلمين و بغيه لهم و تأليبه عليهم القبائل و جهده في إطفاء نور الله و ولعه في سفك الدماء.ثم بما بينا من وجه التنظير علم أيضا أن بني هاشم كانوا يؤمنون الخائفين و يؤدون الحقوق، و كان دارهم مأمن الناس و أن بني امية كانوا على خلافهم.
قال عليه السلام: «و لا المهاجر كالطليق، و لا الصريح كاللصيق، و لا المحق كالمبطل، و لا المؤمن كالمدغل» بعد ما بين ما كانت طارية عليهما من جهة آبائهما أخذ بذكر الصفات النفسانية، فقال: و لا المهاجر كالطليق يعني بالمهاجر نفسه و بالطليق معاوية و قد علمت في شرح المختار الرابع و الثلاثين و المأتين من باب الخطب و هو قوله عليه السلام: فجعلت أتبع مأخذ رسول الله صلى الله عليه و اله- إلخ (ص 126 ج 15) أن رسول الله صلى الله عليه و اله لما فجأه من الكفار ما أحوجه إلى الخروج من مكة استخلف عليا في رد الودائع إلى أربابها و قضاء ما كان عليه من دين لمستحقيه و جمع بناته و نساء أهله و أزواجه و الهجرة بهم إليه فقام علي عليه السلام به أحسن القيام و بات على فراش رسول الله صلى الله عليه و اله و وقاه بنفسه ثم رد كل وديعة إلى أهلها و أعطى كل ذي حق حقه و حفظ بنات رسول الله و حرمه و هاجر بهم ماشيا على قدميه يحوطهم من الأعداء و يكلأهم من الخصماء و يرفق بهم في المسير حتى أوردهم عليه صلى الله عليه و اله المدينة على أتم صيانة و حراسة و رفق و رأفة و حسن تدبير.
و كان معاوية و أبوه في زمان مهاجرة الرسول و الوصي عليهما السلام مشركين و قد أسلما يوم فتح مكة إما رغبة و إما رهبة و لما ظهر رسول الله صلى الله عليه و اله على أهل مكة قال لهم:فاذهبوا و أنتم الطلقاء فمعاوية طليق بن طليق، و سيأتي ذكر فتحها عن قريب.
قوله عليه السلام: «و لا الصريح كاللصيق» يعني بالصريح نفسه و باللصيق معاوية و قد علم في بيان لغة الكتاب أن الصريح بمعنى خالص النسب، و اللصيق بمعنى الدعي في قوم، الملصق بهم و ليس منهم.
قال الفاضل الشارح المعتزلي: إن قلت: ما معنى قوله: و لا الصريح كاللصيق و هل كان في نسب معاوية شبهة ليقول له هذا؟ قلت: كلا إنه لم يقصد ذلك و إنما أراد الصريح بالإسلام و اللصيق في الإسلام فالصريح فيه هو من أسلم اعتقادا و إخلاصا، و اللصيق فيه من أسلم تحت السيف أو رغبة في الدنيا و قد صرح بذلك فقال: كنتم ممن دخل في هذا الذين إما رغبة و إما رهبة. انتهى.
أقول: لو كان شرح عبارة مبنيا على الرأى من دون دلالة سبكها و اسلوبها عليه، أو لم يكن له شاهد من خارج لجاز أن تفسر على آراء كثيرة قائلة خارجة عن حيطة المراد قطعا.
ثم يقال له: ما اقتضى عدولك عن ظاهر اللفظ و ارتكابك على هذا التكلف؟
و لم لا يجوز أن يكون معاوية ملصقا بقريش و مع ذلك كان ممن دخل في الدين إما رغبة أو رهبة، حتى لا تحمل العبارتان على معنى واحد؟
فإن قلت: إذا كان اللصيق بهذا المعنى أي إنه لم يكن من قريش فلم قال الأمير عليه السلام: «و أما قولك إنا بنو عبد مناف فكذلك نحن» و لم يرده في ادعائه هذا بأنه ليس من بني عبد مناف، بل أمضاه و أثبته بقوله فكذلك نحن؟
قلت: أولا إنه عليه السلام على نسخة نصر لم يمضه و لم يعترف بأن معاوية من
بني عبد مناف بل قال: و أما قولك: «إنا بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل» «فلعمري إنا بنو أب واحد» و لا يخفى عليك أن الكافر و المسلم من أب واحد آدم عليه السلام.
و ثانيا هب أنه قال: فكذلك نحن، و لكن لا ضير في أن يكون كلامه هذا مبنيا على المماشاة و فرض التسليم أي سلمنا أن نسبك ينتهى إلى عبد مناف و لكن بين آبائي و آبائك إلى عبد مناف في الشرافة و الجلالة فرقا فاحشا ثم نفى نسبه إليه بقوله: و ليس الصريح كاللصيق، و هذا الدأب في المحاورات ليس بعزيز.
و قال سينا عماد الدين الحسن بن علي بن محمد بن الحسن الطبري في الفصل الأول من الباب الخامس و العشرين من كتابه كامل السقيفة المشتهر بالكامل البهائي (ص 161 ج 2 طبع دار العلم قم) و كذا قال صاحب إلزام النواصب: إن بني امية ليسوا بصحيحى النسب إلى عبد مناف، و نقل قولهما المجلسي في المجلد الثامن من البحار (ص 383 من الطبع الكمباني) قال:قال صاحب الكامل البهائي: إن امية كان غلاما روميا لعبد الشمس فلما ألفاه كيسا فطنا أعتقه و تبناه فقيل امية بن عبد الشمس كما كانوا يقولون قبل نزول الاية: زيد بن محمد، و لذا روي عن الصادقين عليهما السلام في قوله تعالى: الم غلبت الروم انهم بنو امية، و من هنا يظهر نسب عثمان و معاوية و حسبهما و أنهما لا يصلحان للخلافة لقوله صلى الله عليه و اله: الأئمة من قريش.
و قال مؤلف كتاب إلزام النواصب: امية لم يكن من صلب عبد الشمس و إنما هو من الروم فاستلحقه عبد الشمس فنسب إليه فبنو امية ليسوا من صميم قريش و إنما هم يلحقون بهم و يصدق ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام إن بني امية لصاق و ليسوا صحيحي النسب إلى عبد مناف و لم يستطع معاوية انكار ذلك. انتهى.
أقول: قوله قبل نزول الاية اشارة إلى قوله تعالى في سورة الأحزاب:«فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها- إلى قوله عز و جل: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين»و رواية الصادقين قد رواها الشيخ الجليل أبو الفتح الكراجكي معاصر الشريف الرضي في كنز الفوائد، و قد روى عن غيرهما من أئمتنا عليهم السلام أيضا أتى بها المجلسي في ثامن البحار (ص 379) روى الكراجكي قدس سره عن محمد بن العباس، عن ابن عقدة، عن الحسن بن القاسم، عن علي بن إبراهيم بن المعلى، عن فضيل بن إسحاق، عن يعقوب بن شعيب، عن عمران بن ميثم، عن عباية، عن علي عليه السلام قال:قوله عز و جل: الم غلبت الروم هي فينا و في بني امية.
و روى عن محمد بن العباس، عن الحسن بن محمد بن جمهور العمي، عن أبيه، عن جعفر بن بشير، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن تفسير «الم غلبت الروم» قال: هم بنو امية و إنما أنزلها الله الم غلبت الروم بنو امية في أدنى الأرض و هم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل و من بعد و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله عند قيام القائم.
و اعلم أن الروايتين تشيران إلى بطن من بطون الاية و ليس المراد من قوله انما أنزلها الم غلبت الروم بنو امية و قوله يفرح المؤمنون بنصر الله عند قيام القائم أن الاية نزلت هكذا أولا ثم حرفت و صحفت؛ و ذلك لما علمت من شرحنا على المختار الأول من باب الكتب و الرسائل أن القرآن الذي في أيدي الناس اليوم هو جميع ما أنزله الله تعالى على رسوله و ما تطرق إليه زيادة و نقصان فراجع إلى ص 249- 295 من المجلد السادس عشر.
قال عليه السلام: «و لا المحق كالمبطل» أي ليس ذاك كهذا، و يعني بالمحق نفسه و بالمبطل معاوية، و كذا قوله عليه السلام: «و لا المؤمن كالمدغل» انما يعنى بالمؤمن نفسه و بالمدغل معاوية.
فالأمير عليه السلام بدأ بذكر فضائله و رذائل خصمه من آبائهما أولا و أدرج الخصم في سلك قريش على سبيل المماشاة، ثم أتى بأوصاف أربعة كمالية كانت له عليه السلام، و ذكر مع كل واحدة منها ضدها الذي كان لخصمه معاوية.
و أفاد الشارح البحراني بأنه عليه السلام ذكر الفرق بينهما من وجوه خمسة بدأ فيها بالامور الخارجة أولا من كمالاته و فضائله و رذائل خصمه متدرجا منها إلى الأقرب فالأقرب فالأول شرفه من جهة الاباء المتفرعين على عبد مناف بعد أن سلم الاشتراك بينهما في كونهما من بني عبد مناف.
الثاني شرفه من جهة هجرته مع الرسول صلى الله عليه و اله و خسة خصمه من جهة كونه طليقا و ابن طليق و هذه فضيلة و إن كانت خارجية إلا أنها تستلزم فضيلة نفسانية و هي حسن الإسلام و النية الصادقة الحقة و كذلك ما ذكر من رذيلة خصمه بدنية عرضت له إلا أن هذه الفضيلة و الرذيلة أقرب من الاعتبارين الأولين لكونهما حقيقيتين بالاباء و هميتين بالأبناء دون هاتين.
الثالث شرفه من جهة صراحة النسب و خسة خصمه من جهة كونه دعيا و هذان الاعتباران أقرب مما قبلهما لكونهما اعتبارين لازمين لهما دون الأولين.
الرابع شرفه من جهة كونه محقا فيما يقوله و يعتقده و رذيلة خصمه من جهة كونه مبطلا و هذان الاعتباران أقرب لكونهما من الكمالات و الرذائل الذاتية دون ما قبلها.
الخامس شرفه من جهة كونه مؤمنا، و المؤمن الحق هو المستكمل للكمالات الدينية النفسانية و خسة خصمه من جهة كونه مدغلا أى خبيث الباطن مشتملا على النفاق و الرذائل الموبقة و ظاهر أن هذين الاعتبارين أقرب الكمالات و الرذائل إلى العبد، و إنما بدأ بذكر الكمالات و الرذائل الخارجية لكونهما مشتملة عند الخصم و أظهر له و للخلق من الامور الداخلية.
قال عليه السلام: «و لبئس الخلف خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنم» اسلوب الكلام ينادي بأعلى صوته أن جملة يتبع صفة للخلف، و هو في نار جهنم للسلف و الإتيان بالفعل المضارع في الاولى، و الماضي في الثانية أصدق شاهد لما قلنا فأخبر عليه السلام بأن سلف معاوية و منهم أبو سفيان هوى بكفره و شركه في نار جهنم.
على أن السلف إذا كان على سوي الصراط فنعم الخلف خلف يتبعه فلا يعاب على خلف بهذا الاتباع و لا يذم به بل يمدح ففي هذا الكلام ذم للخلف و السلف معا.
فبما حققنا دريت و هن ما جنح إليه الفاضل أحمد زكى صفوت في جمهرة رسائل العرب (ص 480 ج 1) من أنه عليه السلام لا يعيب على معاوية بأن سلفه كانوا كفارا بل بكونه متبعا لهم فقد نهج في معاداة علي نهج أجداده في معاداة أجداد علي.
قال عليه السلام: «و في أيدينا بعد فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز و نعشنا بها الذليل» هذا رد على قول معاوية: «ليس لبعضنا على بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز و لا يسترق به حر» معناه: و الحال أن لنا فضلا آخر عليكم بعد الفضائل المتقدمة و هو فضل النبوة، و لما استثنى معاوية بقوله إلا فضل لا يستذل به- إلخ أجابه الأمير عليه السلام تبكيتا له و إفحاما و ردا لادعائه الباطل بقوله: التي أذللنا بها العزيز كأبي سفيان و أبي لهب و أضرابهما، و رفعنا بها الذليل كأكثر الصحابة و التابعين كانوا خاملى الذكر و لما آمنوا رفع الله لهم ذكرهم.
بل كان لابائه أعني بني هاشم فضل و شرف و مجد كانوا أعوانا للمظلوم و إن كان خاملا ذليلا، و خصماء للظالم و إن كان عزيزا نبيها، و كانوا يؤدون كل ذي حق حقه و يذلون العزيز الظالم و ينعشون المظلوم الذليل.
و في قوله عليه السلام: و في أيدينا بعد فضل النبوة اشارة إلى انه ربي في بيت النبوة و اقتبس من مشكاة الرسالة، و أن نور النبوة كان في بني هاشم ينتقل عن واحد منهم بعد واحد حتى انتقل إلى عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله صلى الله عليه و اله و أن بني هاشم كانوا ببركة هذا النور يذلون العزيز و يرفعون الذليل، و كان لهم به شرف و فضل لم يكن لغيرهم، و أن من كان من بيت النبي صلى الله عليه و اله و أهله إنما كان شأنه اعانة المظلوم و إغاثته، و قمع الظلم و دفع الظالم، و الله أعلم حيث يجعل رسالته، و لا يخفى عليك أن هذا الفضل لا يعادله شيء.
قوله عليه السلام «و لما أدخل الله العرب- إلخ» بعد ما عرف عليه السلام نفسه و آباءه بأنهم من بيت النبوة و لهم فضل النبوة و كانوا حماة الناس و رعاتهم عقبه بذكر رذيلة للخصم بأنه و أباه و أتباعهما- كما أتى بلفظة الجمع حيث قال كنتم- ممن دخلوا في دين الله لا عن اخلاص بل كانوا متمردين عاصين كارهين إلا أنهم لما رأوا أن دين الله استولى على الناس و أظهره الله تعالى على الدين كله لم يجدوا مخلصا و محيصا إلا أن يستسلموا إما رغبة إلى زخارف الدنيا، و إما رهبة من سيوف المسلمين و قد مضى في ذلك كلام عمار و ابن الحنفية في المختار السابق عند قوله عليه السلام:«و الذي فلق الحبة و برىء النسمة ما أسلموا و لكن استسلموا و أسروا الكفر فلما وجدوا عليه أعوانا أظهروه» فراجع.
على أنهم إنما أسلموا ظاهرا بعد ما فاز أهل السبق بسبقهم و ذهب المهاجرون الأولون بفضلهم، و إنما الفضل للمتقدم لأنه إمام في فعله وداع إلى الخير و للسابق إلى الاسلام و دعوة الناس إلى الله فضيلة على غيره لا تنكر.
و قوله عليه السلام: «و لما أدخل الله العرب في دينه أفواجا» اشارة إلى سورة النصر.
و قوله عليه السلام: «على حين فاز أهل السبق بسبقهم و ذهب المهاجرون الأولون بفضلهم» اشارة إلى قوله تعالى: و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (التوبة 100).
قوله عليه السلام: فلا تجعل للشيطان- إلخ معناه كما أفاده الفاضل الشارح المعتزلي: لا تستلزم من أفعالك ما يدوم به كون الشيطان ضاربا فيك بنصيب لأنه ما كتب إليه هذه الرسالة إلا بعد أن صار للشيطان فيه أوفر نصيب و إنما المراد نهيه عن دوام ذلك و استمراره.
في صفين لنصر بن مزاحم (ص 110 من الطبع الناصري) أن عمارا جعل يقول (يعني يوم صفين): يا أهل الإسلام أ تريدون أن تنظروا إلى من عادى الله و رسوله و جاهدهما و بغي على المسلمين و ظاهر المشركين فلما أراد الله أن يظهر دينه و ينصر رسوله أتى النبي صلى الله عليه و اله فأسلم و هو و الله فيما يرى راهب غير راغب و قبض الله رسوله صلى الله عليه و اله و إنا لنعرفه بعداوة المسلم و مودة المجرم، ألا و إنه معاوية فالعنوه لعنه الله، و قاتلوه فانه ممن يطفأ نور الله و يظاهر أعداء الله.
حديث فتح مكة و أن أهل مكة الطلقاء
لما صالح رسول الله صلى الله عليه و اله قريشا عام الحديبية كان في أشراطهم أنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه و اله دخل فيه فدخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه و اله و كنانة في عقد قريش فأعانت قريش كنانة فأرسلوا مواليهم فوثبوا على خزاعة فقتلوا فيهم فجاءت خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه و اله فشكوا إليه ذلك و كان ذلك مما هاج فتح مكة فأحل الله لنبيه قطع المدة التي بينه و بينهم و قد كان رسول الله صلى الله عليه و اله قال للناس كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشد العقد و يزيد في المدة و سيلقي بديل بن ورقاه فلقوا أبا سفيان بعسفان و قد بعثته قريش إلى النبي صلى الله عليه و اله ليشد العقد و يزيد في المدة فلما لقى أبو سفيان بديلا قال: من أين أقبلت يا بديل؟ و ظن أنه أتى رسول الله صلى الله عليه و اله قال: سرت في هذا الساحل و في بطن هذا الوادي قال: ما أتيت محمدا؟ قال: لا؛ فلما راح بديل إلى مكة فقال أبو سفيان: لئن كان جاء من المدينة لقد علف بها النوى فعمد إلى مبرك ناقته و أخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى فقال: احلف بالله تعالى لقد جاء بديل محمدا.
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه و اله فدخل على ابنته ام حبيبة فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه و اله طوته عنه؛ فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟
قالت ام حبيبة: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه و اله و أنت رجل مشرك نجس و لم احب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه و اله.
قال: و الله لقد أصابك يا بنية بعدي شر.
ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و اله فكلمه فقال: يا محمد احقن دم قومك و أجر بين قريش و زدنا في المدة.
فقال صلى الله عليه و اله: أغدرتم يا أبا سفيان؟ قال: لا، قال: فنحن على ما كنا عليه.
فخرج أبو سفيان فلقي أبا بكر فقال: أجر بين قريش.
قال: ويحك و أحد يجير على رسول الله صلى الله عليه و اله؟ ما أنا بفاعل.
ثم لقى عمر بن الخطاب فقال له مثل ذلك.
فقال عمر: أ أنا أشفع لكم إلى رسول الله فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.
ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب عليه السلام و عنده فاطمه بنت رسول الله سلام الله عليها و عندها حسن بن علي غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحما، و إني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه و اله.
فقال: ويحك يا أبا سفيان! و الله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه و اله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.
فالتفت إلى فاطمة عليها السلام فقال: يا بنت محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟
قالت: و الله ما بلغ بني ذاك أن يجير بين الناس، و ما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه و اله.
و في مجمع الطبرسي: دخل أبو سفيان بعد ما خرج من عند ابنته ام حبيبة على فاطمة عليها السلام فقال: يا بنت سيد العرب تجيرين بين قريش و تزيدين في المدة فتكونين أكرم سيدة في الناس؟
فقالت: جواري جوار رسول الله صلى الله عليه و اله.
أ تأمرين (فقال: أ تأمرين- ظ) ابنيك أن يجيرا بين الناس؟ قالت: و الله ما بلغ ابناى أن يجيرا بين الناس و ما يجير على رسول الله صلى الله عليه و اله أحد.
فقال: يا أبا الحسن إني أرى الامور قد اشتدت علي فانصحني.
قال: و الله ما أعلم شيئا يغني عنك شيئا و لكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك.
قال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟
قال: لا و الله ما أظنه و لكني لا أجد لك غير ذلك.
فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟
قال: جئت محمدا فكلمته فو الله ما رد علي شيئا ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو، ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم و قد أشار علي بشيء صنعته فو الله ما أدري هل يغني ذلك شيئا أم لا؟
قالوا: و بم أمرك؟
قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت؛ قالوا: فهل أجار ذلك محمد؟
قال: لا؛ قالوا: ويلك! أما و الله إن زاد علي بن أبي طالب على أن لعب بك فما يغني عنك ما قلت، قال: لا و الله ما وجدت غير ذلك.
ثم عزم رسول الله صلى الله عليه و اله على غزو مكة و قال: اللهم أعم الأخبار عنهم- يعني قريشا- فكتب حاطب بن أبي بلتعة مع سارة مولاة أبي لهب إلى قريش بخبر رسول الله صلى الله عليه و اله و ما اعتزم عليه فنزل جبرئيل فأخبره بما فعل حاطب فوجه بعلي بن أبي طالب و الزبير و قال خذ الكتاب منها فلحقاها و قد كانت تنكبت الطريق فوجد الكتاب في مشعرها، و قيل في فرجها فأتيا به إلى رسول الله صلى الله عليه و اله فأسر إلى كل رئيس منهم بما أراد و أمره أن يلقاه بموضع سماه و أن يكتم ما قال له فأسر إلى خزاعي بن عبد نهم أن يلقاه بمزينة بالروحاء، و إلى عبد الله بن مالك أن يلقاه بغفار بالسقيا، و إلى قدامة بن ثمامة أن بلقاه ببني سليم بقديد، و إلى الصعب بن جثامة أن يلقاه ببني- ليث بالكديد.
و خرج رسول الله صلى الله عليه و اله يوم الجمعة حين صلى صلاة العصر لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة ثمان، و قيل لعشر مضين من رمضان، و استخلف على المدينة أبا لبابة ابن عبد المنذر و لقيته القبائل في المواضع التي سماها لهم و أمر الناس فأفطروا، و سمى الذين لم يفطروا العصاة و دعا بماء فشربه و تلقاه العباس بن عبد المطلب في بعض الطريق فلما صار بمر الظهران خرج أبو سفيان بن حرب يتجسس الأخبار و معه حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء و هو يقول لحكيم ما هذه النيران؟ فقال خزاعة أحمشتها الحرب، فقال خزاعة: أقل و أذل و سمع صوته العباس فناداه يا أبا حنظلة (يعني به أبا سفيان) فأجابه فقال له: يا أبا الفضل ما هذا الجمع؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه و اله فأردفه على بغلته و لحقه عمر بن الخطاب و قال: الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد و لا عقد فسبقه العباس إلى رسول الله صلى الله عليه و اله فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد جاء ليسلم طائعا فقال له رسول الله صلى الله عليه و اله: قل أشهد أن لا إله إلا الله و أني محمد رسول الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، و جعل يمتنع من أن يقول و أنك رسول الله فصاح به العباس فقال.
و في نقل آخر أن رسول الله صلى الله عليه و اله قال له: يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ فقال: بأبي أنت و امي ما أوصلك و أكرمك و أرحمك و أحلمك و الله لقد ظننت أن لو كان معه إله لأغنى يوم بدر و يوم احد فقال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ فقال: بأبي أنت و امي أما هذه فإن في النفس منها شيئا، قال العباس: فقلت له ويحك اشهد بشهادة الحق قبل أن يضرب عنقك فتشهد كما في السيرة لابن هشام (ص 403 ج 2).
ثم سأل العباس رسول الله صلى الله عليه و اله أن يجعل له شرفا و قال: إنه يحب الشرف فقال رسول الله صلى الله عليه و اله: من دخل دارك يا أبا سفيان فهو آمن.
فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه و اله: يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها، قال عباس: فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه و اله أن أحبسه و مرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم، فيقول: مالي و لسليم، ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: مالي و لمزينة، حتى نفدت القبائل ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها فإذا أخبرته بهم قال: مالي و لبني فلان حتى مر رسول الله صلى الله عليه و اله في كتيبته الخضراء من المهاجرين و الأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق فقال: سبحان الله من هؤلاء يا أبا الفضل- يعني به العباس-؟
قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه و اله في المهاجرين و الأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل و لا طاقة، و الله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما، قال: قلت:ويحك يا أبا سفيان إنه ليس بملك إنما هي النبوة، قال: فنعم إذن.
و مضى أبو سفيان مسرعا حتى دخل مكة فأخبرهم الخبر و قال هو اصطلام إن لم تسلموا و قد جعل أن من دخل داري فهو آمن، فوثبوا عليه و قالوا: ما يسع دارك؟ فقال: و من أغلق بابه فهو آمن، و من دخل المسجد فهو آمن.
و فتح الله على نبيه و كفاه القتال و دخل مكة و دخل أصحابه من أربعة مواضع و أحلها الله له ساعة من نهار.
ثم قام رسول الله صلى الله عليه و اله فخطب فحرمها، و أجارت أم هاني بنت أبي طالب حموين لها: الحارث بن هشام، و عبد الله بن أبي ربيعة فأراد علي عليه السلام قتلهما؛ فقال رسول الله صلى الله عليه و اله: يا علي قد أجرنا من أجارت ام هاني، و آمنهم جميعا إلا خمسة نفر أمر بقتالهم و لو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، و أربع نسوة.
و هم: عبد الله بن عبد العزى بن خطل من بني تيم الأكرم بن غالب، و كان رسول الله صلى الله عليه و اله وجهه مع رجل من الأنصار فشد على الأنصاري فقتله و قال: لا طاعة لك و لا لمحمد.
و عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري و كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و اله فصار إلى مكة فقال: أنا أقول كما يقول محمد و الله ما محمد نبي و لقد كان يقول لي اكتب «عزيز حكيم» فأكتب «لطيف خبير» و لو كان نبيا لعلم فاواه عثمان و كان أخاه من الرضاع و أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه و اله فجعل يكلمه فيه و رسول الله صلى الله عليه و اله ساكت ثم قال: هلا قتلتموه؟ فقالوا: انتظرنا أن تومئ؛ فقال: إن الأنبياء لا تقتل بالإيماء.
و مقيس بن صبابة أحد بني ليث بن كنانة و كان أخوه قتل فأخذ الدية من قاتله ثم شد عليه فقتله.
و الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد قصى كان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه و اله بمكة و يتناوله بالقول القبيح.
و النسوة: سارة مولاة بني عبد المطلب و كانت تذكر رسول الله صلى الله عليه و اله بالقبيح.
و هند بنت عتبة، و قريبة و فرتا (كذا) جاريتا ابن خطل كانتا تغنيان في هجاء رسول الله صلى الله عليه و اله.
و أسلمت قريش طوعا و كرها، و أخذ رسول الله صلى الله عليه و اله مفتاح البيت من عثمان ابن أبي طلحة و فتح الباب بيده و ستره ثم دخل البيت فصلى فيه ركعتين ثم خرج فأخذ بعضادتي الباب فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له أنجز وعده و نصر عبده و غلب الأحزاب وحده فلله الحمد و الملك لا شريك له.
ثم قال: ما تظنون و ما أنتم قائلون؟ قال سهيل: نظن خيرا و نقول خيرا أخ كريم و ابن عم كريم و قد ظفرت، قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف «لا تثريب عليكم اليوم».
ثم قال: ألا كل دم و مال و مأثرة في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة و سقاية الحاج فإنهما مردودان إلى أهليهما، ألا و إن مكة محرمة بحرمة الله لم تحل لأحد من قبلي و لا تحل لأحد من بعدي و إنما حلت لي ساعة ثم أغلقت فهي محرمة إلى يوم القيامة لا يختلي خلاها، و لا يعضد شجرها، و لا ينفر صيدها، و لا تحل لقطتها إلا لمنشد، ألا إن في القتل شبه العمد الدية مغلظة، و الولد للفراش و للعاهر الحجر.
ثم قال: ألا لبئس جيران النبي كنتم لقد كذبتم و طردتم و أخرجتم و آذيتم ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني فاذهبوا فأنتم الطلقاء فخرج القوم فكأنما انشروا من القبور.
و دخل مكة بغير احرام و أمر بلالا أن يصعد على الكعبة فأذن فعظم ذلك على قريش و قال عكرمه بن أبي جهل و خالد بن أسيد: إن ابن رباح ينهق على الكعبة. و تكلم قوم معهما فارسل إليهم رسول الله صلى الله عليه و اله فقالوا: قد قلنا فنستغفر الله فقال: ما أدرى ما أقول لكم و لكن تحضر الصلاة فمن صلى فسبيل ذلك و إلا قدمته فضربت عنقه.
و أمر بكل ما في الكعبة من صورة فمحيت و غسلت بالماء، و نادى منادي رسول الله صلى الله عليه و اله من كان في بيته صنم فليكسره فكسروا الأصنام.
و دعا رسول الله صلى الله عليه و اله بالنساء فبايعنه و نزلت عليه سورة إذا جاء نصر الله و الفتح فقال: نعيت إلى نفسي.
و اعلم أنه قد مضى بحثنا الكلامي عن عمل عبد الله بن سعد بن أبي سرح و طرح بعض روايات وردت فيه فراجع إلى شرح المختار الأول من باب الكتب و الرسائل (ص 210- 213 ج 16).
و كذا قد تقدم وجه دلالة سورة النصر على رحلة رسول الله صلى الله عليه و اله في شرح المختار 233 من باب الخطب (ص 79 ج 15).
و قيل لأهل مكة الطلقاء لقوله صلى الله عليه و اله لهم: فاذهبوا و أنتم الطلقاء، و لذا قالت عقيلة بني هاشم الصديقة الصغرى زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و اله في احتجاجها على يزيد بن معاوية: أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك و إماءك و سوقك بنات رسول الله سبايا؟
و عن ابن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه و اله يوم الفتح و حول البيت ثلاثمائة و ستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده و يقول: جاء الحق و ما يبدىء الباطل و ما يعيد، جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.
و عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه و اله إلى مكة أبى أن يدخل البيت و فيه الالهة فأمر بها فاخرجت صورة إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام و في أيديهما الأزلام؛ فقال صلى الله عليه و اله: قاتلهم الله أما و الله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط، و جاء ابن الزبعرى إلى رسول الله صلى الله عليه و اله و أسلم و قال:
يا رسول المليك إن لساني | راتق ما فتقت إذ أنا بور | |
إذ أبارى الشيطان في سنن الغي | و من مال ميله مثبور | |
آمن اللحم و العظام لربي | ثم قلبي الشهيد أنت النذير | |
إنني عنك زاجر ثم حيا | من لؤي و كلهم مغرور | |
و ابن الزبعرى هذا هو الذي تقدم الكلام فيه في شرح المختار الخامس عشر من باب الكتب و الرسائل.
طائفة من احتجاجات و محاضرات وقعت بين معاوية و غيره يناسب نقلها المقام و تفيد زيادة تبصر في آل أبى سفيان.
لما استتمت البيعة لمعاوية من أهل الكوفة صعد المنبر فخطب الناس، و ذكر أمير المؤمنين عليا عليه السلام، و نال منه و نال من الحسن عليه السلام ما نال؛ و كان الحسن و الحسين عليهما السلام حاضرين فقام الحسين عليه السلام ليرد عليه فأخذ بيده الحسن عليه السلام و أجلسه ثم قام فقال: أيها الذاكر عليا أنا الحسن و أبي علي، و أنت معاوية و أبوك صخر، و امي فاطمة و امك هند، و جدي رسول الله وجدك حرب، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة فلعن الله أخملنا ذكرا و ألأمنا حسبا و شرنا قدما و أقدمنا كفرا و نفاقا. فقالت طوائف من أهل المسجد: آمين آمين.
و كذلك يقول مؤلف الكتاب نجم الدين الحسن الطبري الاملي: آمين آمين، و يرحم الله عبدا قال آمينا، و نقل القصة الشيخ الأجل المفيد رحمه الله في الإرشاد (ص 173 طبع طهران 1377 ه) و من ذلك أنه اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص، و الوليد بن عقبة، و عقبة ابن أبي سفيان، و المغيرة بن شعبة؛ فقالوا: يا أمير المؤمنين ابعث لنا إلى الحسن ابن علي، فقال لهم: فيم؟ فقالوا: كي نوبخه و تعرفه أن أباه قتل عثمان، فقال لهم: إنكم لا تنتصفون منه و لا تقولون شيئا إلا كذبكم الناس، و لا يقول لكم شيئا ببلاغته إلا صدقه الناس، فقالوا: أرسل إليه فإنا سنكفيك أمره، فأرسل إليه معاوية، فلما حضر قال: يا حسن إني لم أرسل إليك و لكن هؤلاء أرسلوا إليك فاسمع مقالتهم و أجب و لا تحرمني فقال الحسن عليه السلام فليتكلموا و نسمع.
فقام عمرو بن العاص فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: هل تعلم يا حسن أن أباك أول من أثار الفتنة، و طلب الملك؟ فكيف رأيت صنع الله به؟.
ثم قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: يا بني هاشم كنتم أصهار عثمان بن عفان فنعم الصهر كان يفضلكم و يقربكم؛ ثم بغيتم عليه فقتلتموه؛ و لقد أردنا يا حسن قتل أبيك فأنقذنا الله منه، و لو قتلناه بعثمان ما كان علينا من الله ذنب.
ثم قام عقبة فقال: تعلم يا حسن أن أباك بغى على عثمان فقتله حسدا على الملك و الدنيا فسلبها؟ و لقد أردنا قتل أبيك حتى قتله الله تعالى.
ثم قام المغيرة بن شعبة فكان كلامه كله سبا لعلي و تعظيما لعثمان.
فقام الحسن عليه السلام فحمد الله تعالى و أثنى عليه و قال: بك أبدأ يا معاوية لم يشتمني هؤلاء و لكن أنت تشتمني بغضا و عداوة و خلافا لجدي صلى الله عليه و اله ثم التفت إلى الناس و قال: انشدكم الله، أ تعلمون أن الرجل الذي شتمه هؤلاء كان أول من آمن بالله، و صلى للقبلتين، و أنت يا معاوية يومئذ كافر تشرك بالله، و كان معه لواء النبي صلى الله عليه و اله يوم بدر و مع معاوية و أبيه لواء المشركين؟
ثم قال: انشدكم الله و الإسلام أ تعلمون أن معاوية كان يكتب الرسائل لجدي صلى الله عليه و اله فأرسل إليه يوما فرجع الرسول و قال: هو يأكل فرد الرسول إليه ثلاث مرات كل ذلك و هو يقول هو يأكل فقال النبي صلى الله عليه و اله: لا أشبع الله بطنه؛ أما تعرف ذلك في بطنك يا معاوية؟
ثم قال: و انشدكم الله أ تعلمون أن معاوية كان يقود بأبيه على جمل و أخوه هذا يسوقه فقال رسول الله صلى الله عليه و اله: لعن الله الجمل و قائده و راكبه و سائقه؟ هذا كله لك يا معاوية.
و أما أنت يا عمرو: فتنازع فيك خمسة من قريش فغلب عليك ألأمهم حسبا و شرهم منصبا، ثم قمت وسط قريش فقلت: إني شانئ محمد فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه و اله إن شانئك هو الأبتر ثم هجوت محمدا صلى الله عليه و اله بثلاثين بيتا من الشعر فقال النبي صلى الله عليه و اله:إني لا أحسن الشعر و لكن العن عمرو بن العاص بكل بيت لعنة ثم انطلقت إلى النجاشي بما علمت و عملت فأكذبك الله وردك خائبا فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية و الإسلام فلم نلمك على بغضك.
و أما أنت يا ابن أبي معيط فكيف ألومك على سبك لعلي و قد جلد ظهرك في الخمر ثمانين سوطا، و قتل أباك صبرا بأمر جدي و قتله جدي بأمر ربي، و لما قدمه للقتل قال: من للصبية يا محمد؟ فقال: لهم النار، فلم يكن لكم عن النبي صلى الله عليه و اله إلا النار و لم يكن لكم عند علي غير السيف و السوط.
و أما أنت يا عقبة فكيف تعد أحدا بالقتل؟ لم لاقتلت الذي وجدته في فراشك مضاجعا لزوجتك ثم أمسكتها بعد أن بغت.
و أما أنت يا أعور ثقيف ففي أي ثلاث تسب عليا: أفي بعده من رسول الله صلى الله عليه و آله؟ أم في حكم جائر؟ أم في رغبة في الدنيا؟ فان قلت شيئا من ذلك فقد كذبت اكذبك الناس، و إن زعمت أن عليا قتل عثمان فقد كذبت و أكذبك الناس، و أما وعيدك فإنما مثلك كمثل بعوضة وقفت على نخلة فقالت لها: استمسكي فاني اريد أن أطير؛ فقالت لها النخلة: ما علمت بوقوفك فكيف يشق علي طيرانك؟
و أنت فما شعرنا بعداوتك فكيف يشق علينا سبك؟ ثم نفض ثيابه و قام.
فقال لهم معاوية: ألم أقل لكم إنكم لا تنتصفون منه؟ فو الله لقد أظلم علي البيت حتى قام فليس لكم بعد اليوم خير. و قد نقلها أبو بكر بن علي القادري الحنفي في ثمرات الأوراق في المحاضرات (هامش المستطرف ص 55 ج 1 طبع مصر).
و المراد من الألأم الشانىء الأبتر هو العاص بن وائل السهمي، و كان عمرو ابنه على النحو الذي بينه المجتبى عليه السلام.
و رواية «لا أشبع الله بطنه» منقبة جليلة لمعاوية قد اصطلحت نقلة الاثار بنقلها منهم ابن عبد البر في الاستيعاب، و ابن الأثير في اسد الغابة عن مسند أبي داود الطيالسي و غيره، و ما أنكروا ثبوتها له.
و قد روى الصدوق رحمه الله في باب السبعة من كتابه الخصال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: المؤمن يأكل في معاء واحدة و الكافر يأكل في سبعة أمعاء، و روى السيوطي في الجامع الصغير عنه صلى الله عليه و اله: المؤمن يشرب في معي واحد و الكافر يشرب في سبعة أمعاء.
«المعى» يذكر و يؤنث فالعبارة في الروايتين صحيحة، و سيأتي كلام صعصعة له:اتسع بطن من لا يشبع، و دعا عليه من لا يجمع.
و الكلام في حديث اللعن كالرواية المتقدمة في المنقبة المذكورة، و قد مضى نقل روايات اخرى في سائر مناقبه أيضا عن كتاب صفين لنصر بن مزاحم في شرح المختار 236 (ص 370- 374 ج 15) منها عن البراء بن عاذب قال: أقبل أبو سفيان و معه معاوية، فقال رسول الله صلى الله عليه و اله: اللهم العن التابع و المتبوع.
و روى الصدوق رحمه الله في باب السبع من الخصال عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن رسول الله صلى الله عليه و اله لعن أبا سفيان في سبعة مواطن. فراجع.
و من ذلك أن شريك بن الأعور دخل على معاوية و هو يختال في مشيته، فقال له معاوية: و الله إنك لشريك و ليس لله من شريك، و إنك ابن الأعور و الصحيح خير من الأعور، و إنك لدميم و الوسيم خير من الدميم؛ فبم سودك [سدت] قومك؟
فقال له شريك: و الله إنك لمعاوية و ما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت فسميت معاوية، و إنك ابن حرب و السلم خير من الحرب، و إنك ابن صخر و السهل خير من الصخر، و إنك ابن امية و ما امية إلا أمة صغرت فسميت امية فكيف صرت أمير المؤمنين؟
فقال له معاوية: أقسمت عليك إلا ما خرجت عني.
نقلها في ثمرات الأوراق أيضا (هامش المستطرف ص 59 ج 1) و نقلها الأبشيهي في المستطرف (ص 57 ج 1).
و في تاريخ الخلفاء (ص 199) للسيوطي و في المستطرف للأبشيهي (ص 58 ج 1):
أخرج عن الفضل بن سويد قال: وفد جارية بن قدامة السعدي على معاوية فقال
له معاوية: أنت الساعي مع علي بن أبي طالب، و الموقد النار في شعلك تجوس قرى عربية تسفك دماءهم؟
قال جارية: يا معاوية دع عنك عليا فما أبغضنا عليا منذ أحببناه، و لا غششناه منذ صحبناه.
قال: ويحك يا جارية! ما كان أهونك على أهلك إذا سموك جارية! قال:أنت يا معاوية كنت أهون على أهلك إذ سموك معاوية و هي الانثى من الكلاب، قال: اسكت لا ام لك، قال: ام لي ولدتني؛ أما و الله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، و قوائم السيوف التي لقيناك بها بصفين في أيدينا، قال: إنك لتهددني؟ قال: إنك لم تملكنا قسرة و لم تفتحنا عنوة، و لكن أعطيتنا عهودا و مواثيق فان وفيت لنا وفينا و إن ترغب إلى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجالا مدادا، و أدرعا شدادا، و أسنة حدادا، فإن بسطت إلينا فترا من غدر زلفنا إليك بباع من ختر؛ قال معاوية: لا أكثر الله في الناس أمثالك يا جارية؛ فقال له: قل معروفا فإن شر الدعاء محيط أهله.
و أخرج ابن عساكر عن عبد الملك بن عمير قال: قدم جارية بن قدامة السعدي على معاوية فقال: من أنت؟ قال: جارية بن قدامة، قال: و ما عسيت أن تكون؟ هل أنت إلا نحلة؟ قال: لا تقل، فقد شبهتني بها حامية اللسعة حلوة البصاق؛ و الله ما معاوية إلا كلبة تعاوي الكلاب، و ما امية إلا تصغير أمة، (تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 199).
و دخل عدي بن حاتم الطائي على معاوية فقال له معاوية: ما فعلت الطرفات- يعني أولاده-؟ قال: قتلوا مع علي، قال: ما أنصفك على قتل أولادك و بقاء أولاده، فقال عدي: ما أنصفك علي [ما أنصفت عليا] إذ قتل و بقيت بعده؛ فقال معاوية:أما إنه قد بقي قطرة من دم عثمان ما يمحوها إلا دم شريف من أشراف اليمن.
فقال عدي: و الله إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا، و إن أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، و لئن أدنيت إلينا من الغدر فترا لندنين إليك من الشر شبرا و إن حز الحلقوم و حشرجة الحيزوم لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي فسلم السيف لباعث السيف.
فقال معاوية: هذه كلمات حكم فاكتبوها و أقبل علي عدي محادثا له كأنه ما خاطبه بشيء، ذكره المسعودي في مروج الذهب (ص 54 ج 2).
و خطب معاوية يوما فقال: إن الله تعالى يقول: و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم فعلام تلومونني إذا قصرت في عطاياكم؟
فقال له الأحنف: و إنا و الله لا نلومك على ما في خزائن الله و لكن على ما أنزله الله من خزائنه فجعلته في خزائنك حلت بيننا و بينه، نقله في المستطرف (ص 58 ج 1).
و دخل عقيل على معاوية و قد كف بصره فأجلسه معه على سريره ثم قال له:أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم، فقال له عقيل: و أنتم معشر بني امية تصابون في بصائركم. أتى به في المستطرف (ص 58 ج 1).
و قال معاوية يوما: أيها الناس إن الله حبا قريشا بثلاث: فقال لنبيه: «و أنذر عشيرتك الأقربين» و نحن عشيرته الأقربون، و قال تعالى: و إنه لذكر لك و لقومك و نحن قومه، و قال تعالى: لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء و الصيف و نحن قريش.
فأجابه رجل من الأنصار فقال: على رسلك يا معاوية فإن الله تعالى يقول:و كذب به قومك و هو الحق و أنتم قومه، و قال تعالى: و لما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون و أنتم قومه، و قال تعالى: و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا و أنتم قومه ثلاثة بثلاثة. ذكره في المستطرف (ص 58 ج 1).
و من ذلك أن معاوية حج سنة 44 و لما صار إلى المدينة أتاه جماعة من بني هاشم و كلموه في امورهم فقال: أما ترضون يا بني هاشم أن نقر عليكم دماءكم و قد قتلتم عثمان حتى تقولوا ما تقولون فو الله لأنتم أحل دما من كذا و كذا و أعظم في القول.
فقال له ابن عباس: كلما قلت لنا يا معاوية من شر بين دفتيك و أنت و الله أولى بذلك منا، أنت قتلت عثمان ثم قمت تغمص على الناس أنك تطلب بدمه فانكسر معاوية، فقال ابن عباس و الله ما رأيتك صدقت إلا فزعت و انكسرت، قال فضحك معاوية، و قال: و الله ما احب أنكم لم تكونوا كلمتموني.
ثم كلمه الأنصار فأغلظ لهم في القول و قال لهم: ما فعلت نواضحكم؟ قالوا أفنيناها يوم بدر لما قتلنا أخاك و جدك و خالك، و لكنا نفعل ما أوصانا به رسول الله صلى الله عليه و آله؛ قال: ما أوصاكم به؟ قالوا: أوصانا بالصبر؛ قال: فاصبروا ثم ادلج معاوية إلى الشام و لم يقض لهم حاجة.
ذكره اليعقوبي في التاريخ (ص 198 ج 2) ثم قال اليعقوبي: و أخرج معاوية المنابر إلى المصلى في العيدين و خطب الخطبة قبل الصلاة و ذلك أن الناس كانوا إذا صلوا انصرفوا لئلا يسمعوا لعن علي عليه السلام فقدم معاوية الخطبة قبل الصلاة و وهب فدكا لمروان بن الحكم ليغيظ بذلك آل رسول الله صلى الله عليه و اله.
قال السيوطي في تاريخ الخلفاء (ص 201): و ابن عبد البر في الاستيعاب عن عبد الله بن محمد بن عقيل: قدم معاوية المدينة فلقيه أبو قتادة الأنصاري، فقال معاوية: تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار، قال: لم يكن لنا دواب فقال: فأين النواضح؟ قال: عقرناها في طلبك و طلب أبيك يوم بدر، قال: نعم يا أبا قتادة! ثم قال أبو قتادة: إن رسول الله صلى الله عليه و اله قال لنا: انكم سترون بعدي أثره، فقال معاوية: فما أمركم عند ذلك؟ قال: أمرنا بالصبر، قال: فاصبروا حتى تلقوه، فبلغ عبد الرحمن بن حسان بن ثابت ذلك فقال:
ألا أبلغ معاوية بن حرب | أمير المؤمنين نبا كلامي | |
فإنا صابرون و منظروكم | إلى يوم التغابن و الخصام | |
و في نسخة الاستيعاب: نثا كلامي، و في بعضها عنى كلامي.
و من ذلك أنه لم يكن أحد أحب إلى معاوية أن يلقاه من أبي الطفيل عامر ابن واثلة الصحابي الكناني و كان فارس أهل صفين و شاعرهم، و كان من أخص الناس بعلي عليه السلام، فقدم أبو الطفيل الشام يزور ابن أخ له من رجال معاوية فأخبر معاوية بقدومه، فأرسل إليه، فأتاه و هو شيخ كبير، فلما دخل عليه، قال له معاوية: أنت أبو الطفيل عامر بن واثلة؟ قال: نعم، قال معاوية: أ كنت ممن قتل عثمان؟
قال:لا؛ و لكن ممن شهده فلم ينصره، قال: و لم؟ قال: لم ينصره المهاجرون و الأنصار، فقال معاوية: أما و الله إن نصرته كانت عليهم و عليك حقا واجبا، و فرضا لازما فقال أبو الطفيل: فما منعك إذ تربصت به ريب المنون أن لا تنصره و معك أهل الشام؟ فقال معاوية: أما طلبي بدمه نصرة له؟ فضحك أبو الطفيل و قال: بلى و لكنك و عثمان كما قال عبيد بن الأبرص.
لا ألفينك بعد الموت تندبني | و في حياتي ما زودتني زادا | |
فدخل مروان بن الحكم، و سعيد بن العاص، و عبد الرحمن بن الحكم فلما جلسوا نظر إليهم معاوية، ثم قال: أ تعرفون هذا الشيخ؟ قالوا: لا؛ فقال معاوية:هذا خليل علي بن أبي طالب، و فارس صفين، و شاعر أهل العراق، هذا أبو الطفيل، قال سعيد بن العاص: قد عرفناه فما يمنعك منه؟ و شتمه القوم- فزجرهم معاوية، قال: مهلا فرب يوم ارتفع عن الأسباب قد ضقتم به ذرعا، ثم قال: أتعرف هؤلاء يا أبا الطفيل؟ قال: ما أنكرهم من سوء، و لا أعرفهم بخير، و أنشد:
فإن تكن العداوة قد أكنت | فشر عداوة المرء السباب | |
فقال معاوية: يا أبا الطفيل ما أبقى لك الدهر من حب علي؟ قال: حب ام موسى و أشكو إلى الله التقصير. (و في مروج الذهب: قال معاوية له: كيف وجدك على خليلك أبي الحسن؟ قال: كوجد ام موسى على موسى و أشكو إلى الله التقصير) فضحك معاوية، قال: و لكن و الله هؤلاء الذين حولك لو سألوا عني ما قالوا هذا فقال مروان: أجل و الله لا نقول الباطل، (الامامة و السياسة للدينوري ص 192 ج 1، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 200، مروج الذهب للمسعودي ص 62 ج 2) و ذكره أبو الفرج في الأغاني على التفصيل فراجع (ص 159 ج 13 من طبع ساسي).و دخل على معاوية ضرار بن الخطاب فقال له: كيف حزنك على أبي الحسن؟
قال: حزن من ذبح ولدها على صدرها فما ترقأ عبرتها و لا يسكن حزنها، نقله المسعودي في مروج الذهب (ص 62 ج 2).
و أخرج العسكري في كتاب الأوائل عن سليمان بن عبد الله بن معمر قال: قدم معاوية مكة أو المدينة فأتى المسجد فقعد في حلقة فيها ابن عمرو ابن عباس و عبد الرحمن بن أبي بكر فأقبلوا عليه و أعرض عنه ابن عباس فقال معاوية: و أنا أحق بهذا الأمر من هذا المعرض و ابن عمه، فقال ابن عباس: و لم؟ ألتقدم في الإسلام، أم سابقة مع رسول الله صلى الله عليه و اله، أو قرابة منه؟ قال: لا و لكني ابن عم المقتول، قال: فهذا أحق به- يريد ابن أبي بكر- قال: إن أباه مات موتا، قال: فهذا أحق به- يريد ابن عمر- قال: إن أباه قتله كافر، قال: فذاك أدحض لحجتك إن كان المسلمون عتبوا على ابن عمك فقتلوه (تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 201).
و أخرج ابن عساكر عن الأوزاعي قال: دخل خريم بن فاتك على معاوية و مئزره مشمر- و كان حسن الساقين- فقال معاوية: لو كانت هاتان الساقان لإمرة! فقال خريم: في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين (تاريخ الخلفاء ص 204).
و أخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عقيلا دخل على معاوية فقال معاوية: و هذا عقيل و عمه أبو لهب، فقال عقيل: هذا معاوية و عمته حمالة الحطب (تاريخ الخلفاء ص 204).
و أخرج ابن عساكر عن حميد بن هلال أن عقيل بن أبي طالب سأل عليا عليه السلام فقال: إني محتاج و إني فقير فأعطني، فقال: اصبر حتى يخرج عطائي مع المسلمين فأعطيك معهم فألح عليه، فقال لرجل: خذ بيده و انطلق به إلى حوانيت أهل السوق فقل: دق هذه الأقفال، و خذ ما في هذه الحوانيت، قال: تريد أن تتخذني سارقا؟ قال: و أنت تريد أن تتخذني سارقا؟ أن آخذ أموال المسلمين فأعطيكها دونهم، قال: لاتين معاوية، قال: أنت و ذاك؛ فأتى معاوية فسأله و أعطاه مائة ألف، ثم قال: اصعد على المنبر فاذكر ما أولاك به علي و ما أوليتك فصعد فحمد الله و أثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إني أخبركم أني أردت عليا على دينه فاختار دينه، و أني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه. (تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 204)
و من ذلك أنه وفد على معاوية عقيل بن أبي طالب منتجعا و زائرا، فرحب به معاوية و سر بوروده لاختياره إياه على أخيه- يعني أمير المؤمنين عليا عليه السلام- و أوسعه حلما و احتمالا؛ فقال له: يا أبا يزيد- يعني عقيلا- كيف تركت عليا؟
فقال: تركته على ما يحب الله و رسوله، و ألفيتك على ما يكره الله و رسوله، فقال له معاوية: لو لا إنك زائر منتجع جنابنا لرددت عليك أبا يزيد جوابا تألم منه.
ثم أحب معاوية أن يقطع كلامه مخافة أن يأتي بشيء يخفضه، فوثب عن مجلسه و أمر له أن ينزل و حمل إليه مالا عظيما، فلما كان من غد جلس و أرسل إليه فأتاه فقال له: يا أبا يزيد كيف تركت عليا أخاك؟ قال: تركته خيرا لنفسه منك و أنت خير لي منه، فقال له معاوية: أنت و الله كما قال الشاعر:
و إذا عددت فخار آل محرق | فالمجد منهم في بني عتاب | |
فمحل المجد من بني هاشم منوط فيك يا أبا يزيد ما تغيرك الأيام و الليالي، فقال عقيل:
اصبر لحرب أنت جانيها | لا بد أن تصلى بحاميها | |
و أنت و الله يا ابن أبي سفيان كما قال الاخر:
و إذا هوازن أقبلت بفخارها | يوما فخرتهم بال مجاشع | |
بالحاملين على الموالي عزمهم | و الضاربين الهام يوم القارع | |
و لكن أنت يا معاوية إذا افتخرت بنو امية فبمن تفخر؟ فقال معاوية: عزمت عليك أبا يزيد لما أمسكت فاني لم أجلس لهذا و إنما أردت أن أسألك عن أصحاب علي فانك ذو معرفة بهم، فقال عقيل: سل عما بدا لك، فقال: ميز لي أصحاب على و ابدأ بال صوحان فانهم مخاريق الكلام، قال: أما صعصعة فعظيم الشأن، عضب اللسان، قائد فرسان، قاتل أقران، يرتق ما فتق، و يفتق ما رتق، قليل النظير.
و أما زيد و عبد الله فانهما نهران جاريان يصب فيهما الخلجان، و يغاث بهما البلدان، رجلا جد لا لعب معه، و أما بنو صوحان فكما قال الشاعر:
إذا نزل العدو فان عندي | اسودا تخلس الأسد النفوسا | |
فاتصل كلام عقيل بصعصعة فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، ذكر الله أكبر و به يستفتح المستفتحون، و أنتم مفاتيح الدنيا و الاخرة، أما بعد فقد بلغ مولاك كلامك لعدو الله و عدوه فحمدت الله على ذلك و سألته أن يفيء بك إلى الدرجة العليا، و القضيب الأحمر، و العمود الأسود، فإنه عمود من فارقه فارق الدين الأزهر، و لئن نزعت بك نفسك إلى معاوية طلبا لماله إنك لذو علم بجميع خصاله فاحذر أن تعلق بك ناره فيضلك عن الحجة فإن الله قد رفع عنكم أهل البيت ما وضعه في غيركم، فما كان من فضل أو احسان فبكم وصل إلينا، فأجل الله أقداركم و حمى أخطاركم، و كتب آثاركم، فإن أقداركم مرضية، و أخطاركم محمية و آثاركم بدرية، و أنتم سلم الله إلى خلقه، و وسيلته إلى طرقه، أيد علية، و وجوه جلية، و أنتم كما قال الشاعر:
فما كان من خبر أتوه فإنما | توارثه آباء آبائهم قبل | |
و هل ينبت الخطى إلا وشيجه | و تغرس إلا في منابتها النخل؟ | |
نقله المسعودي في مروج الذهب (ص 75 ج 2).
وحدت أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن حميد الرازي، عن أبي مجاهد عن محمد بن إسحاق بن أبي نجيح قال: لما حج معاوية طاف بالبيت و معه سعد فلما فرغ انصرف معاوية إلى دار الندوة فأجلسه معه على سريره، و وقع معاوية في علي و شرع في سبه فزحف سعد ثم قال: أجلستني معك على سريرك ثم شرعت في سب علي! و الله لأن تكون في خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس.
و الله لأن أكون صهر الرسول صلى الله عليه و اله لي من الولد ما لعلي أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس.
و الله لأن يكون رسول الله صلى الله عليه و اله قاله لي ما قاله يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله و رسوله و يحب الله و رسوله ليس بفرار يفتح الله على يديه» أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس.
و الله لأن يكون رسول الله صلى الله عليه و اله قال لي ما قال له في غزوة تبوك: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس و أيم الله لا دخلت لك دارا ما بقيت و نهض.
نقله المسعودي في مروج الذهب (ص 61 ج 2) ثم قال المسعودي: و وجدت في وجه آخر من الروايات و ذلك في كتاب علي بن محمد بن سليمان النوفلي في الأخبار عن ابن عائشة و غيره أن سعدا لما قال هذه المقالة لمعاوية و نهض ليقوم ضرط له معاوية و قال له: اقعد حتى تسمع جواب ما قلت ما كنت عندي قط ألأم منك الان فهلا نصرته و لم قعدت عن بيعته؟ فإني لو سمعت من النبي مثل الذي سمعت فيه لكنت خادما لعلي ما عشت، فقال سعد: و الله إني لأحق بموضعك منك، فقال معاوية: يأبى عليك بنو عذرة- و كان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة- قال النوفلي: و في ذلك يقول السيد الحميري:
سائل قريشا بها إن كنت ذا عمه | من كان أثبتها في الدين أوتادا | |
من كان أقدمها سلما و أكثرها | علما و أطهرها أهلا و أولادا | |
من وحد الله إذ كانت مكذبة | تدعو مع الله أوثانا و أندادا | |
من كان يقدم في الهيجاء ان نكلوا | عنها و إن بخلوا في أزمة جادا | |
من كان أعدلها حكما و أقسطها | حلما و أصدقها وعدا و إيعادا | |
إن يصدقوك فلم يعدوا أبا حسن | إن أنت لم تلق للأبرار حسادا | |
إن أنت لم تلق من تيم أخا صلف | و من عدي لحق الله جحادا | |
أو من بني عامر أو من بني أسد | رهط العبيد ذوي جهل و أوغادا | |
أو رهط سعد و سعد كان قد علموا | عن مستقيم صراط الله صدادا | |
قوم تداعوا زنيما ثم سادهم | لو لا خمول بني زهر لما سادا | |
و قال معاوية لعقيل: إن فيكم شبقا يا بني هاشم، فقال له عقيل: منا في الرجال و منكم في النساء، نقله القاضي نور الله الشهيد في المجلس الثالث من مجالس المؤمنين.
و من ذلك ما جرى بين معاوية و بين قيس بن سعد بن عبادة حين كان عاملا على مصر فكتب إليه معاوية: أما بعد فانك يهودي ابن يهودي و إن ظفر أحب الفريقين إليك عزلك و استبدل بك، و إن ظفر أبغضهما إليك نكل بك و قتلك؛ و قد كان أبوك أو ترقوسه و رمى غرضه فأكثر الجد و أخطأ القصد فخذله قومه و أدركه يومه ثم مات بحوران طريدا.
فكتب إليه قيس بن سعد: أما بعد فإنما أنت و ثني ابن وثني دخلت في الإسلام كرها، و خرجت منه طوعا لم يقدم إيمانك و لم يحدث نفاقك و قد كان أبي أو ترقوسه و رمى غرضه فشغب به من لم يبلغ عقبه و لا شق غباره، و نحن أنصار الدين الذي منه خرجت و أعداء الدين الذي فيه دخلت، نقله المسعودي في مروج الذهب (ص 62 ج 2).
و دخل قيس بن سعد بعد وفاة علي و وقوع الصلح في جماعة من الأنصار على معاوية فقال لهم معاوية: يا معشر الأنصار بم تطلبون ما قبلي؟ فو الله لقد كنتم قليلا معي، كثيرا علي، و لفللتم حدي يوم صفين حتى رأيت المنايا تلظى في أسنتكم و هجوتموني في أسلافي بأشد من وقع الأسنة حتى إذا أقام الله ما حاولتم ميله قلتم ارع وصية رسول الله صلى الله عليه و اله هيهات يأبى الحقير الغدرة.
فقال قيس: نطلب ما قبلك بالاسلام الكافي به الله لا بما نمت به إليك الأحزاب و أما عداوتنا لك فلو شئت كففتها عنك، و أما هجاؤنا إياك فقول يزول باطله و يثبت حقه، و أما استقامة الأمر فعلى كره كان منا، و أما فلنا حدك يوم صفين فانا كنا مع رجل نرى طاعته لله طاعة، و أما وصية رسول الله بنا فمن آمن به رعاها بعده، و أما قولك يأبى الحقير الغدرة فليس دون الله يد تحجزك منا يا معاوية، فقال معاوية: دعوه[1] ارفعوا حوائجكم.
نقله المسعودي في مروج الذهب (ص 63 ج 2) ثم قال: و قد كان قيس بن سعد من الزهد و الديانة و الميل إلى علي بالموضع العظيم.
لما قدم معاوية الكوفة صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: أما بعد ذلكم فإنه لم تختلف امة بعد نبيها إلا غلب باطلها حقها إلا ما كان من هذه الامة فإن حقها غلب باطلها. ثم نزل و أحضر الناس لبيعته و كان الرجل يحضر فيقول: و الله يا معاوية إني لا بايعك و إني لكاره لك فيقول: بايع فان الله قد جعل في المكروه خيرا كثيرا؛ و يأتي الاخر فيقول: أعوذ بالله من نفسك، و أتاه قيس بن سعد بن عبادة فقال: بايع قيس، قال: إن كنت لأكره مثل هذا اليوم يا معاوية؟ فقال له: مه رحمك الله، فقال: لقد حرصت أن افرق بين روحك و جسدك قبل ذلك فأبى الله يا ابن أبي سفيان إلا ما أحب، قال: فلا يرد أمر الله، فأقبل قيس على الناس بوجهه فقال: «يا معشر الناس لقد اعتضتم الشر من الخير، و استبدلتم الذل من العز، و الكفر من الإيمان، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين و سيد المسلمين و ابن عم رسول رب العالمين، و قد وليكم الطليق ابن الطليق، يسومكم الخسف، و يسير فيكم بالعسف، فكيف تجهل ذلك أنفسكم أم طبع الله على قلوبكم و أنتم لا تعقلون» فجثا معاوية على ركبتيه ثم أخذ بيده و قال: أقسمت عليك ثم صفق على كفه و نادى الناس: بايع قيس؛ فقال: كذبتم و الله ما بايعت و لم يبايع لمعاوية أحد إلا أخذ عليه الإيمان فكان أول من استخلف على بيعته.
و دخل إليه سعد بن مالك فقال: السلام عليك أيها الملك. فغضب معاوية فقال: ألا قلت السلام عليك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذاك إن كنا أمرناك، إنما أنت منتز، (نقلهما اليعقوبي في التاريخ ص 192 ج 2).
حدث أبو الهيثم قال: حدثني أبو البشر محمد بن بشر الفزاري عن إبراهيم بن عقيل البصري قال: قال معاوية يوما و عنده صعصعة و كان قدم عليه بكتاب علي و عنده وجوه الناس: الأرض لله و أنا خليفة الله فما آخذ من مال الله فهو لي و ما تركته منه كان جائزا لي، فقال صعصعة:
تمنيك نفسك ما لا يكون | جهلا معاوى لا تأثم | |
فقال معاوية: يا صعصعة تعلمت الكلام قال: العلم بالتعلم و من لا يعلم يجهل، قال معاوية: ما أحوجك إلى أن اذيقك و بال أمرك! قال: ليس ذلك بيدك ذلك بيد الذي لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، قال معاوية: و من يحول بيني و بينك؟ قال:الذي يحول بين المرء و قلبه، قال معاوية: اتسع بطنك للكلام كما اتسع بطن البعير للشعير: قال: اتسع بطن من لا يشبع و دعا عليه من لا يجمع، نقله المسعودي في مروج الذهب (ص 79 ج 2).
و دخل صعصعة بن صوحان على معاوية فقال له: يا ابن صوحان أنت ذو معرفة بالعرب و بحالها فأخبرني عن أهل البصرة و إياك و الحمل على قوم لقوم فأجابه و أخبره عنهم، ثم قال: فأخبرني عن أهل الكوفة؛ قال: قبة الاسلام و ذروة الكلام- إلى أن قال: غير أن لهم ثباتا في الدين و تمسكا بعروة اليقين يتبعون الأئمة الأبرار و يخلعون الفسقة الفجار؛ فقال معاوية من البررة و الفسقة؟ فقال: يا ابن أبي سفيان ترك الخداع من كشف القناع، علي و أصحابه من الأئمة الأبرار و أنت و أصحابك من اولئك، ثم أحب معاوية أن يمضي صعصعة في كلامه بعد أن بان فيه الغضب فقال:أخبرني عن القبة الحمراء في ديار مضر فأخبره عنها ثم استخبره عن ديار ربيعة، و عن مضر فأخبره عنهما ثم أمسك معاوية فقال له صعصعة: سل يا معاوية و إلا أخبرتك بما تحيد عنه؛ قال: و ما ذاك يا ابن صوحان؟ قال: أهل الشام، قال: فأخبرني عنهم قال: أطوع الناس لمخلوق، و أعصاهم للخالق، عصاة الجبار، و خلفة الأشرار، فعليهم الدمار، و لهم سوء الدار، فقال معاوية: و الله يا ابن صوحان إنك لحامل مديتك منذ أزمان إلأ أن حلم أبي سفيان يرد عنك، فقال صعصعة: بل أمر الله و قدرته إن أمر الله كان قدرا مقدورا.
نقله المسعودي في مروج الذهب مفصلا و ما أتينا به ههنا ملتقط منه.و من ذلك أن معاوية حبس صعصعة بن صوحان العبدي، و عبد الله بن الكواء اليشكري و رجالا من أصحاب علي عليه السلام مع رجال من قريش فدخل عليهم معاوية يوما فقال: نشدتكم بالله إلا ما قلتم حقا و صدقا أي الخلفاء رأيتموني؟ فبعد ما تكلم ابن الكواء في مساوي معاوية قال صعصعة: تكلمت يا ابن أبي سفيان فأبلغت و لم تقصر عما أردت و ليس الأمر على ما ذكرت أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهرا، و دانهم كبرا، و استولى بأسباب الباطل كذبا و مكرا؟ أما و الله مالك في يوم بدر مضرب و لا مرمى و ما كنت فيه إلا كما قال القائل «لا حلى و لا سيرى» و لقد كنت أنت و أبوك في العير و النفير ممن أجلب على رسول الله صلى الله عليه و اله و إنما أنت طليق ابن طليق أطلقكما رسول الله صلى الله عليه و اله فأنى تصلح الخلافة لطليق؟ فقال معاوية: لو لا أني أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول:
قابلت جهلهم حلما و مغفرة | و العفو عن قدرة ضرب من الكرم | |
لقتلتكم. (مروج الذهب ص 78 ج 2).
دخل صعصعة على معاوية أول ما دخل عليه و قد كان يبلغ معاوية عنه فسأله عن نسبه فبين له نسبه، ثم قال له معاوية: أما و الله لقد كان يسوءني أن أراك أسيرا! قال: و أنا و الله لقد كان يسوءني أن أراك أميرا، نقلهما القالي في الأمالي و القصة طويلة عذبة غير مملة (ص 227 ج 2) و قريب منها ما نقله المسعودي في مروج الذهب (ص 76 ج 2) و لصعصعة بن صوحان أخبار حسان و كلام في نهاية البلاغة و الفصاحة و الإيضاح عن المعاني على إيجاز و اختصار و قد جرى بينه و بين معاوية كلام كثير في غير موطن تكلم فيها بقبائح أعمال معاوية و خبث سريرته و سوء رويته و قد أتى الشيخ الأجل الطبرسي في كتاب الاحتجاج طائفة من احتجاجات الإمامين سيدي شباب أهل الجنة و ريحانتي الرسول الحسن و الحسين عليهما السلام، و غيرهما من كبار الصحابة و التابعين على معاوية بن أبي سفيان، و ما تكلم القوم بها معاوية من مساوي أفعاله أكثر من أن تحصى و إنما نقلنا نبذة منها فإن القليل ينبىء عن الكثير.
و فيما نقلناها مواقع للتدبر و الاستبصار في أمر معاوية و أشياعه و أتباعه كيف لعبوا بالقرآن، و رفعوا راية البغي و الطغيان فاتخذوا دين الله دغلا، و مال الله دولا، و عباده خولا و الصالحين حربا، و الفاسقين حزبا، و قد قال السيوطي في تاريخ الخلفاء إنه أخرج السلفي في الطيوريات عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال:سألت عن علي عليه السلام و معاوية، فقال: اعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتش له أعداؤه عيبا فلم يجدوا فجاءوا إلى رجل قد حاربه و قاتله فأطروه كيادا منهم له.
فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا و يذرون طيبا من القول و يأخذون خبيثا فبعدا للمفترين و سحقا للممترين رب نعوذ بك من أماني الأنفس و شرورها.
اشارة: قد احتج صعصعة على معاوية بأن الطليق لا يصلح للخلافة، و هذا حق و صعصعة رضوان الله عليه قد استنار من ضياء القرآن، و اقتبس من مشكاة النبوة و الولاية و ذلك لأن الطلقاء كانوا مشركين قبل الإسلام و عبدوا الأصنام و قد قال عز من قائل: إن الشرك لظلم عظيم (لقمان- 14) و قال الله تعالى: لا ينال عهدي الظالمين (البقرة- 119) و الخلافة عهد الله تعالى فلا يناله الطلقاء، و تقدم بحثنا عن ذلك في شرح المختار 237 من باب الخطب فراجع (ص 49- 59 ج 16).
الترجمة
نصر بن مزاحم منقرى كوفي در كتاب صفين و ديگر أرباب تاريخ آورده اند كه أمير المؤمنين علي عليه السلام روزى در صفين اظهار داشت كه فردا بأنبوه لشكرم فرمان كارزار دهم و به مقاتلت اقدام نمايم تا كار را يكسره كرده مردم را از جنگ و جوش رهائى داده أمر را بخاتمت رسانم چون اين خبر بمعاوية رسيد و در شاميان كه پيروان او بودند پراكنده شد همگى سخت مضطرب شدند و فزعى تمام در آنها در گرفت.
و از آن سوى معاوية بن ضحاك نيز أبياتى چند بسرود كه بر فزعشان افزود معاويه در اين خيال افتاد و در خاطر نهاد كه نامهاى بأمير عليه السلام نويسد و از حضرتش بحيلت و خديعت و مكر درخواست كند كه ايالت شام را- كه پيش از اينهم از وى خواسته بود- بدو واگذار كند و وى را از بيعت معاف بدارد، باشد كه از اين درخواست دو دلى در علي روى دهد و رقتى بىاساس بوى دست دهد كه در دام فريب معاويه افتاده، دست از كارزار بردارد.
سپس مكنون خاطرش را به عمرو عاص مكشوف داشت عمرو از بلاهت وى بر عقلش بخنديد و گفت: اى معاويه تو كجا تا توانى علي را فريب دهى؟
معاويه گفت: مگر من و او هر دو از دودمان عبد مناف نيستيم؟
گفت: آرى ولى ايشان را رتبت و فضيلت نبوت است و تو را نيست- يعنى أمير عليه السلام از مشكاة نبوت اقتباس معارف حقه إلهية كرده است و هيچگاه أهل نبوت و وحى گول مردم نخورند، چه در تمام صفات انسانيت از ديگران بهتر و برترند و در هوش و زيركى سرور و سر آمد و بالاتر از همه هستند- و با اين همه اگر خواهى نامهاى بنويسى بنويس (تا صدق گفتارم بر تو روشن آيد).
معاوية نامهاى نوشت و عبد الله بن عقبة را كه از قبيله سكاسك بود با نامه بسوى أمير عليه السلام گسيل داشت مضمون نامهاش اين كه: أما بعد اگر ما و شما مىدانستيم كه جنگ كار را بدين غايت و خونريزى را بدين نهايت مىرساند هيچگاه بان اقدام نمىكرديم و لكن نفوس هر دو ما بر عقول ما غلبه كرد- يعنى بخواهش نفسانى و از روى هوا و هوس آتش جنگ بر افروختيم و بفرمان خرد ساز جنگ نكرديم- و اكنون وقت آن هست كه از گذشته پشيمان شويم و در پى اصلاح آينده برآييم.
و پيش از اين از شما خواستيم كه ايالت شام را بمن واگذار و از بيعت و طاعت معافم دار ولى شما از خواسته من سرباز زديد و نپذيرفتيد و آنچه را كه از من باز داشتيد خداوند بمن عطا فرمود، و اكنون نيز همان خواسته پيش را خواهانم كه تو از بقا نخواهى مگر آنچه را كه من خواهم، و از فنا نمىترسى مگر آنچه كه من مى ترسم سوگند بخدا كه لشكريان نابود شدند و مردان جنگى از بين رفتند، و عرب طعمه جنگ گرديد و نيم جانى بيش نمانده، و ما و شما در جنگ و مردان جنگى برابريم و هر دو از دودمان عبد مناف و يكى از ما بر ديگرى برترى ندارد و اگر هم دارد نبايد بدان ارجمندى را خوار و آزادى را بنده گرداند. و السلام.
چون عبد الله بن عقبة نامه را بأمير عليه السلام رسانيد و حضرت آن را بگشود و قرائت فرمود بخنديد و گفت: شگفتم مىآيد از معاوية و نامه او و خديعت و مكرى كه خواهد با من بكار برد، پس كاتبش عبيد الله بن أبي رافع را پيش خواند و فرمود پاسخ نامهاش بنويس:أما بعد «اين كه گفتهاى اگر مىدانستيم كار جنگ بدين حد خواهد رسيد هيچيك بان تن در نمىداديم» همانا كه اين جنگ را نهايت و سرانجامى است كه كه هنوز بدان نرسيدهايم، و اگر من در راه ذات حق هفتاد بار كشته و زنده شوم از سختگيرى و كوشش در راه خدا و جهاد با دشمنان خدا بر نخواهم گشت.
و أما آنكه گفتهاى «هواى ما بر خرد ما چيره شد و اينك وقت آنست كه از كرده پيش نادم و در راه اصلاح آينده باشيم» همانا كه من از دائره فرمان خرد پاى بدر ننهادم و از كرده خود پشيمان نيستم.
أما اين كه «شام را از من طلب كردهاى» همانا كه من كسى نيستم كه امروز بدهم بتو آنچه را كه ديروز تو را از آن بازداشتم- چه در ديروز استحقاق آن نداشت و امروز هم بر آن حال باقى است-.
أما اين كه گفتهاى «جنگ عرب را خورده و در چنگش نيم جانى بيش نمانده» آگاه باش هر كه را حق در ربود و خورده و سترده است رخت بدوزخ كشد.
أما آنكه گفتهاى «در جنگ و سپاه جنگى يكسانيم» درست نيست چه تو به شك و ترديد در كار خود استوارتر و گذراندهتر از من كه به علم و يقينم نيستى، و مردم شام در اكتساب دنيا حريصتر از مردم عراق در كسب آخرت نيستند.
أما اين كه گفتى «ما فرزندان عبد منافيم» آرى همه ما فرزندان يك پدريم ولى امية پدر جد تو بمنزلت هاشم پدر جد من نيست، و حرب جد تو به مرتبت
عبد المطلب جد من نيست، و أبو سفيان پدر تو به پايه أبو طالب پدر من نيست- چه بني هاشم خانوادهاى نجيب و دلسوز و مهربان و يكتاپرست بودند و در شرافت و اصالت سر آمد عرب و همواره ملجأ و مأمن مردم، علاوه اين كه حاملين نور نبوت و صدفهاى در ولايت بودند، أما بني امية جز خونخوارى و بيدادگرى و نخوت و حب شهوت و دنيا پرستى نمىدانستند-.
و مهاجر مانند طليق نيست- مهاجر أمير عليه السلام كه از مكه بمدينه هجرت فرمود چنانكه شرح آن بطور اجمال در شرح خطبه 234 گفته شد ص 126- 167 ج 15، و طليق يعنى آزاد شده و رها شده از قيد اسارت چون معاويه و پدرش و از اين روى معاويه را طليق ابن طليق گويند-.
و نه خالص پاكيزه نسب مانند بسته و چسبيده بقومى است- چون بني امية از قريش نيستند چون امية رومى بود و آزاد شده عبد شمس بن عبد مناف و عرب او را بقاعده نسبت و محاورت ابن عبد الشمس گفتند، اين ابن يعنى پسر خوانده نه پسر حقيقى لذا حضرت أمير عليه السلام امضاء نكرده كه معاويه از عبد مناف است بلكه در جوابش فرمود: إنا بنو أب واحد چنانكه نصر در كتاب صفين روايت كرده بود.
و نه صاحب حق مانند طرفدار باطل است، و نه مؤمن مثل منافق مفسد ناپاك است، و چه بد فرزندى است فرزندى كه گذشتگانش را كه أهل جهنمند تقليد و پيروى كند و راه آنان را پيش بگيرد- يعنى معاويه كه گذشتگانش از كفر و شرك و نفاق در آتش دوزخند و او راه آنان را پيش گرفت-.
و حال آنكه بعد از اين همه فضائل، در دست ما فضل نبوت است- كه هيچ فضيلتى با آن برابرى نمىكند- كه بدان گردنكشان را خوار، و بيچارگان را بلند گردانيديم.
و چون خداوند عرب را دسته دسته بدينش در آورد و اين امت برخى برضا و رغبت و برخى به بى ميلى و كراهت اسلام آوردند، شما از كسانى بوديد كه يا بجهت طمع بدنيا و يا از ترس شمشير داخل در دين شديد؛ علاوه آنهم در وقتى كه سابقان به سبقتشان در دين رستگار شدند، و هجرت كنندگانى كه پيش از اين بودند فضل و بزرگى را برده بودند پس براى شيطان در خود بهرهاى و بر خويشتن راهى قرار مده. و السلام.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی
______________________________________________________________
[1] ( 1) ذو الهرم اسم بئر حفرها عبد المطلب بالطائف بعد ما حفر زمزم بمكة؛ كما في تاريخ اليعقوبي أيضا ص 206 ج 1- منه.
[2] ( 1) و اسند الى عبد المطلب هذان البيتان أيضا:\s\iُ وصيت من كنيته بطالب\z عبد مناف و هو ذو تجارب\z بابن الحبيب الاكرم الاقارب\z بابن الذى قد غاب غير آئب\z\E\E فهذه الوصية و التي في المتن تدلان على أن أبا طالب كان سمى جده عبد مناف و أن أبا طالب كان كنية له، و في السادس من البحار: أبو طالب اسمه عبد مناف و قيل اسمه عمران و يؤيد الاول وصية عبد المطلب بقوله: اوصيك يا عبد مناف بعدى، و الثاني ما عن بعض النسخ في زيارة النبي صلى الله عليه و آله من بعيد السلام على عمك عمران أبى طالب- منه.
[1] ( 1) كان الاصل: يموه، و انما صححناه على القياس. منه.