نامه 16 صبحی صالح
16- و كان يقول ( عليه السلام ) لأصحابه عند الحرب
لَا تَشْتَدَّنَّ عَلَيْكُمْ فَرَّةٌ بَعْدَهَا كَرَّةٌ وَ لَا جَوْلَةٌ بَعْدَهَا حَمْلَةٌ
وَ أَعْطُوا السُّيُوفَ حُقُوقَهَا وَ وَطِّئُوا لِلْجُنُوبِ مَصَارِعَهَا وَ اذْمُرُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الطَّعْنِ الدَّعْسِيِّ وَ الضَّرْبِ الطِّلَحْفِيِّ وَ أَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ
فَوَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَسْلَمُوا وَ لَكِنِ اسْتَسْلَمُوا وَ أَسَرُّوا الْكُفْرَ فَلَمَّا وَجَدُوا أَعْوَاناً عَلَيْهِ أَظْهَرُوهُ
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج 18
و كان يقول عليه الصلاة و السلام لاصحابه عند الحرب و هذا هو المختار السادس عشر من باب المختار من كتبه و رسائله عليه السلام
لا تشتدن عليكم فرة بعدها كرة، و لا جولة بعدها حملة. و أعطوا السيوف حقوقها. و وطنوا للجنوب مصارعها. و اذمروا أنفسكم على الطعن الدعسي، و الضرب الطلخفي. و أميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل. و الذي فلق الحبة، و برأ النسمة ما أسلموا و لكن استسلموا و أسروا الكفر فلما وجدوا أعوانا عليه أظهروه.
المصدر
قوله هذا على النضد المذكور ما وجدناه فيما حضرني من الكتب و الرسائل مع طول الفحص و كثرة الطلب إلا أن المجلسي رحمه الله قد نقله في المجلد الثامن من البحار (ص 626 من الطبع الكمباني) و في المجلد الحادي و العشرين (ص 102 من ذلك الطبع) عن نهج البلاغة أيضا و لم يذكر مأخذا آخر.
و كذا نقله المحدث النوري في كتاب الجهاد من المستدرك عن النهج بلا ذكر سند آخر و فيه نقل- از مروا- بالزاى و لكنه تصحيف من الناسخ (ص 259 ج 2) و كذلك في الموضع الثاني من البحار.
نعم قد وجد متفرقا في أقواله الاخر المروية في الجوامع الروائية مما سنتلوها عليك، و لا بعد أن يكون هذا القول ملتقطا منها لما قد نبهناك عليه غير مرة من أن هذه عادة الرضي رضوان الله في النهج فإن غرضه كان التقاط الفصيح و البليغ من كلامه و لعله نقله عن مأخذ لم يحضرنا و الله تعالى هو العالم، و لكن المتدرب في أساليب الكلام يعلم أن قوله عليه السلام: «و الذي فلق الحبة- إلخ» خارج من اسلوب ما قبله و سيأتي رواية نصر في كتاب صفين المتضمنة هذا القول و يعلم أنه في رواية على حدة و بالجملة لو لم نقل أن عبارات هذا المختار ملفقة من أحاديث شتى فكون ذيلها أعني و الذي فلق إلى آخره التقط من رواية آت نقلها و لفق إلى ما قبله فمما لا ينبغي أن يرتاب فيه، فنقول:قد رويت عنه عليه السلام في الجوامع الروائية و المجاميع التي دونها القدماء في امور متنوعة و علوم متفننة، و كتب المغازي و الملاحم و التواريخ و السير روايات متظافرة و وصايا متكاثرة بطرق عديدة و اسناد كثيرة في آداب الحرب و رسومها و هي سنن كلية لن تجد لها بمضي الليالي و الأيام و انصرام الشهور و الأعوام تبديلا و لا تحويلا، اللهم إلا في آلات السلاح و أوزار الحرب و نذكر في المقام ما وجدناها في مظان ماخذها بالفحص و الطلب و فيها توجد ما أتى بها الرضي ههنا على أن مصادر طائفة مما في نهج البلاغة تعلم بنقلها طائفة من أقوالها التي حرض بها الناس على الجهاد.
ففي الباب الخامس عشر من كتاب الجهاد من فروع الكافي لقدوة المحدثين الكليني قدس سره (ص 439 من الرحلي المطبوع على الحجر) و في الوافي (ص 20 ج 9): و في كلام له آخر- يعني أمير المؤمنين عليه السلام بقوله له-. و إذا لقيتم هؤلاء القوم غدا فلا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم فإذا بدأوكم فانهدوا إليهم، و عليكم السكينة و الوقار، و عضوا على الأضراس فإنه أنبأ للسيوف عن الهام، و غضوا الأبصار، و مدوا جباه الخيول و وجوه الرجال و أقلوا الكلام فإنه أطرد للفشل و أذهب بالوهل، و وطنوا أنفسكم على المبارزة و المنازلة و المجاولة، و اثبتوا و اذكروا الله عز و جل كثيرا فإن المانع للذمار عند نزول الحقائق أهل الحفاظ الذين يحفون براياتهم، و يضربون حافتيها و أمامها، و إذا حملتم فافعلوا فعل رجل واحد، و عليكم بالتحامي فإن الحرب سجال، لا يشدون عليكم كرة بعد فرة، و لا حملة بعد جولة، و من ألقى إليكم السلام فاقبلوا منه، فاستعينوا بالصبر فإن بعد الصبر النصر من الله عز و جل، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين.
أقول: روي قوله عليه السلام في هذه الرواية بلفظ: «أقلوا الكلام فإنه أطرد للفشل» و روي في كلامه المقدم ذكره من النهج بلفظ «أميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل».و في رواية اخرى من الكافي أعني حديث مالك بن أعين الذي أتينا به في مصادر الوصية الرابعة عشرة من المختار من باب الكتب و الرسائل بلفظ «أميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل».
و في رواية نصر في صفين (ص 106 من الطبع الناصري) بصورة: «و غضوا الأبصار و اخفضوا الأصوات و أقلوا الكلام» و قد نقلنا روايته كاملة في شرح المختار 236 من باب الخطب (ج 15 ص 222) و توافق رواية نصر رواية أبي جعفر الطبري في التاريخ (ص 7 ج 4) و قد مضى نقل روايته في شرح المختار 236 من باب الخطب أيضا (ج 15 ص 238).
ثم إنه عليه السلام على رواية الكافي نبه أصحابه بقوله: «لا يشدون عليكم كرة بعد فرة، و لا حملة بعد جولة» على أن إدبار الخصم ربما لا يكون عن هزيمة و ذلك لأن الأعداء قد يولون الأدبار عن الحرب خدعة لكي يغتر المقاتلون المقابلون لهم بادبارهم عنها فيحسبون أنهم هزموا فيذهبون في آثارهم متفرقين و بعد ما سلكوا مسافة كذلك يرجع إليهم الأعداء بغتة و يحملون عليهم حملة يد واحدة و رجل واحد فيهزمونهم.
و على رواية النهج وصى عليه السلام أصحابه كذلك بقوله: «لا تشتدن عليكم فرة بعدها كرة، و لا جولة بعدها حملة» أي أنكم إذا رأيتم المصلحة في الفرار لجذب العدو إلى حيث تتمكنوا منه فلا يشق عليكم و لا تستصعبوه فإن الحرب خدعة.
أو يقال في تفسير هاتين الجملتين أنه عليه السلام نبه أصحابه في الاولى على أن يواظبوا أنفسهم من الأعداء و إن فروا عن هزيمة واقعا، و ذلك لأن الأعداء ربما ينهزمون ثم يكرون على الفئة الغالبة لما رأو أنهم خرجوا من مكامنهم و انتشروا في معسكرهم و اطمأنوا بالغلبة على فرارهم و خرجوا من أوزار الحرب و اشتغلوا بأنفسهم و غيرها مما لا يحصى كثرة أحوالها و أطوارها.
و في الثانية حرضهم بأنكم إذا اتفقت لكم الهزيمة من العدو و فررتم فلا تستحيوا من الكرة عليهم ثانيا و لا تحسبوها عارا فان هذه الكرة يتدارك الفرة و يناسب هذا التفسير الثاني قوله المروي في المستدرك عن فرات بن إبراهيم الاتي نقله: عاودوا الكر و استحيوا الفر.
و في الإرشاد للمفيد رحمه الله (ص 121 طبع طهران 1377 ه): و من كلامه عليه السلام حين دخل البصرة و جمع أصحابه فحرضهم على الجهاد فكان مما قال:عباد الله انهدوا إلى هؤلاء القوم منشرحة صدوركم بقتالهم فإنهم نكثوا بيعتي، و أخرجوا ابن حنيف عاملي بعد الضرب المبرح، و العقوبة الشديدة، و قتلوا السيابجة، و مثلوا حكيم بن جبلة العبدي، و قتلوا رجالا صالحين، ثم تتبعوا منهم من نجى يأخذونهم في كل حائط و تحت كل رابية، ثم يأتون بهم فيضربون رقابهم صبرا، مالهم قاتلهم الله أنى يؤفكون؟ انهدوا إليهم و كونوا أشداء عليهم، و القوهم صابرين محتسبين تعلمون أنكم منازلوهم و مقاتلوهم و لقد وطنتم أنفسكم على الطعن الدعسي، و الضرب الطلحفي، و مبارزة الأقران، و أي امرىء منكم أحس من نفسه رباطة جاش عند اللقاء و رأى من أحد من إخوانه فشلا فليذب عن أخيه الذي فضل عليه كما يذب عن نفسه فلو شاء الله لجعله مثله.
أقول: إنه عليه السلام قال في كلامه هذا: «و لقد وطنتم أنفسكم على الطعن الدعسي و الضرب الطلحفي» و هو يشابه قوله المقدم «و اذ مروا أنفسكم على الطعن الدعسي و الضرب الطلخفي إلا أن المفيد روى الطلحفي بالحاء المهملة، و قد روى قوله عليه السلام في الجمل (ص 162 من طبع النجف) و نسخة في الجمل: «و قد وطنتم أنفسكم على الضرب و الطعن» من غير ذكر كلمتي الدعسي و الطلحفي، و قد مضى نقل نسخة الجمل هذه في شرح المختار الثاني من كتبه و رسائله (ص 52 ج 17).
و في كتاب صفين لنصر (ص 120 من الطبع الناصري) عن عمر بن سعد، عن عبد الرحيم بن عبد الرحمن، عن أبيه أن عليا أمير المؤمنين عليه السلام حرض الناس فقال: إن الله عز و جل قد دلكم على تجارة تنجيكم من العذاب، و تشفى بكم على الخير: إيمان بالله و رسوله، و جهاد في سبيله، و جعل ثوابه مغفرة الذنوب، و مساكن طيبة في جنات عدن و رضوان من الله أكبر، فأخبركم بالذي يحب فقال: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص، و قدموا الدارع، و أخروا الحاسر، و عضوا على الأضراس فإنه أنبا للسيوف عن الهام و أربط للجاش، و أسكن للقلوب، و أميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل و أولى بالوقار، و التووافي أطراف الرماح فإنه امور للأسنة وراياتكم فلا تميلوها و لا تزيلوها و لا تجعلوها إلا في أيدي شجعانكم المانعي الذمار و الصبر عند نزول الحقائق، أهل الحفاظ الذين يحفون براياتكم، و يكتنفونها يضربون خلفها و أمامها و لا تضيعوها، أجزأ كل امرىء منكم رحمكم الله قرنه و واسى أخاه بنفسه، و لم يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه و قرن أخيه فيكتسب بذلك لائمة و يأتي به دنائة، و أنى هذا و كيف يكون هكذا؟ هذا يقاتل اثنين، و هذا ممسك يده قد خلى قرنه إلى أخيه هاربا منه و قائما ينظر إليه من يفعل هذا يمقته الله فلا تعرضوا لمقت الله فإنما مردكم إلى الله قال الله لقوم: قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل و إذا لا تمتعون إلا قليلا، و أيم الله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الاخرة، استعينوا بالصدق و الصبر فإنه بعد الصبر ينزل النصر.
و فيه أيضا (ص 130 من ذلك الطبع): عن عمر، عن مالك بن أعين، عن زيد بن وهب أن عليا لما رأى ميمنته قد عادت إلى موقفها و مضافها و كشف من بازائها حتى ضاربوهم في مواقفهم و مراكزهم فأقبل حتى انتهى إليهم فقال: إني قد رأيت جولتكم و انحيازكم عن صفوفكم، و تحرزكم الجفاة الطغاة و أعراب أهل الشام، و أنتم لهاميم العرب، و السنام الأعظم، و عمار الليل بتلاوة القرآن و أهل دعوة الحق إذا ضل الخاطؤن فلو لا إقبالكم بعد إدباركم، و كركم بعد انحيازكم وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره، و كنتم فيما أرى من الهالكين، و لقد هون علي بعض وجدي، و شفى بعض حاج نفسي أني رأيتكم باخرة حزتموهم كما حازوكم و أزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم، تحوزونهم بالسيوف ليركب أولهم آخرهم كالإبل المطرودة اليهم فالان فاصبروا، انزلت عليكم السكينة و ثبتكم الله باليقين، و ليعلم المنهزم أنه مسخط لربه، و موبق نفسه، و في الفرار موجدة الله عليه، الذل اللازم، و فساد العيش، و أن الفار لا يزيد الفرار في عمره، و لا يرضى ربه فموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبس بها و الإقرار عليها.
أقول: الرواية الاولى قد ذكر طائفة منها العلامة ابن خلدون في الفصل السابع و الثلاثين من الباب الثالث من المقدمة و قال: انظر وصية علي رضي الله عنه و تحريضه لأصحابه يوم صفين تجد كثيرا من علم الحرب و لم يكن أحد أبصر بها منه قال في كلام له: فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص- و فيه: و اخفتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل و أولى بالوقار (ص 275 طبع مصر).
و قد رواها أبو جعفري الطبري في تاريخه عن أبي مخنف (ص 11 ج 4) و لكن بين النسختين تفاوتا في الجملة و أرى أن نسخة نصر أصح و أمتن و قد مضى نقل نسخة الطبري في شرح المختار 236 من باب الخطب (ص 257 ج 15) و قد رواها المفيد في الإرشاد (ص 127 طبع طهران 1377 ه) و تخالف الاوليين في الجملة، و هي رواية مالك بن أعين المروية في الباب الخامس عشر من جهاد الكافي (ص 338 من الطبع الرحلي المطبوع على الحجر 1315 ه) و قد أشرنا آنفا إلى نقله في مصادر المختار الرابع عشر من باب الكتب إلا أن بين روايتي الكافي و نصر اختلافا كما و كيفا و قد أتى الكليني قدس سره بزيادة فيها لم يأت بها نصر في صفين و هي من قوله: «و لا تمثلوا بقتيل- إلى قوله: فيعير بها و عقبه من بعده».
و الرواية الثانية مروية في الكافي أيضا بعد الرواية الاولى و إن كان يوجد بينهما اختلاف أيضا: فعلى نسخة الكافي: قال عليه السلام: إني رأيت جولتكم و انحيازكم عن صفوفكم تحوزكم الجفاة الطغاة و أعراب أهل الشام و أنتم لهاميم العرب و السنام الأعظم و عمار الليل بتلاوة القرآن، و دعوة أهل الحق إذا ضل الخاطئون فلو لا إقبالكم بعد إدباركم، و كركم بعد انحيازكم لوجب عليكم ما يجب على المولي يوم الزحف دبره، و كنتم فيما أرى من الهالكين و لقد هون علي بعض و جدي، و شفى بعض حاج صدري إذ رأيتكم حزتموهم كما حازوكم فأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم و أنتم تضربونهم بالسيوف حتى ركب أولهم آخرهم كالإبل المطرودة الهيم الأن، فاصبروا نزلت عليكم السكينة، و ثبتكم الله باليقين، و ليعلم المنهزم بأنه مسخط ربه، و موبق نفسه، إن في الفرار موجدة الله (موجدة الله عليه- خ) و الذل اللازم، و العار الباقي، و أن. الفار لغير مزيد في عمره، و لا محجور بينه و بين يومه، و لا يرضى ربه، و لموت الرجل محقا قبل اتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبيس بها، و الإقرار عليها.
قوله: الهيم الان: فعلى نسخة صفين ظرف و النون مخففة، و على نسخة الكافي من الأنين و هي مثقلة، و الفرق بين سائر العبائر ظاهر.
و رواية نصر الثانية مذكورة في جهاد البحار أيضا (ص 99 ج 21 من الطبع الكمباني) قال: و قال: نصر بن مزاحم، عن عمر بن سعد، عن مالك بن أعين، عن زيد بن وهب أن عليا- إلخ، فأسقط عمر بن سعد في الطبع الناصري.
ثم تجد رواية مالك بن أعين في الكافي و التي نقلناها عن الكافي أولا مشتركتين في جملة من الألفاظ و الجمل و العبارات كما أن نسختي نصر و الكافي منقولتان عن مالك بن أعين إلا أن الاولى منهما ذكرت أن مالك بن أعين روى عن زيد بن وهب، و الثانية أكتفت بذكر مالك.
و قد مضى كلامنا في شرح المختار 236 من الخطب (ص 257 ج 15) أن نسخة تاريخ الطيري أعني الرواية الاولى من كتاب صفين لنصر مذكورة في النهج و هو المختار 122 من باب الخطب أوله: فقدموا الدارع و أخروا الحاسر و عضوا على الأضراس فإنه أنبا للسيوف عن الهام- إلى آخره، و نزيدك ههنا بيانا فنقول: ذلك المختار المذكور ملتقط و ملفق من عدة روايات إحداها هي الرواية الاولى من كتاب صفين التي رواها ثقة الإسلام الكليني في الكافي، و أبو جعفر الطبري في التاريخ، و الشيخ الأجل المفيد في الإرشاد كما مر آنفا و هذه الرواية التقطت و ذكرت في صدر المختار 122 المذكور من أوله إلى قوله عليه السلام: لا تسلموا من سيف الاخرة.
و الثانية هي الرواية الثانية من كتاب صفين لنصر التي رواها الكليني في الكافي أيضا و هي قوله عليه السلام: إني رأيت جولتكم و انحيازكم- إلخ، و قد التقط منها قوله عليه السلام: «و أنتم لهاميم العرب- إلى قوله: لا محجوز بينه و بين يومه» المذكور في ذلك المختار.
الثالثة ما رواها نصر في صفين أيضا (ص 207 من الطبع الناصري) قال: حدثني رجل عن مالك الجهني، عن زيد بن وهب أن عليا عليه السلام مر على جماعة من أهل الشام بصفين فيهم الوليد بن عقبة و هم يشتمونه و يقصبونه فأخبروه بذلك فوقف في ناس من أصحابه فقال: انهدوا إليهم و عليكم السكينة و سيما الصالحين و وقار الإسلام و الله لأقرب قوم من الجهل بالله عز و جل قوم قائدهم و مؤدبهم معاوية، و ابن النابغة، و أبو الأعور السلمي و ابن أبي معيط شارب الخمر و المجلود حدا في الإسلام و هم أولى يقومون فيقصبونني و يشتمونني، و قبل اليوم ما قاتلوني و شتموني و أنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام و هم يدعونني إلى عبادة الأصنام، فالحمد لله و لا إله إلا الله، و قديما ما عاداني الفاسقون، إن هذا لهو الخطب الجليل أن فساقا كانوا عندنا غير مرضيين، و على الإسلام و أهله متخوفين حتى خدعوا شطر هذه الامة فأشربوا قلوبهم حب الفتنة فاستمالوا أهوائهم بالإفك و البهتان، و قد نصبوا لنا الحرب، و جدوا في إطفاء نور الله و الله متم نوره و لو كره الكافرون، اللهم فانهم قد ردوا الحق فافضض جمعهم، و شتت كلمتهم، أبسلهم بخطاياهم فانه لا يذل من واليت، و لا يعز من عاديت.و قد أتى بذيلها المفيد قدس سره في الإرشاد (ص 126 طبع طهران 1377 ه) و يوجد اختلاف يسير بينهما.
الرابعة رواية رواها نصر في صفين أيضا بعد الرواية الثالثة عن نمير بن و علة عن عامر الشعبي أن علي بن أبي طالب عليه السلام مر بأهل راية فرآهم لا يزولون عن موقفهم فحرض الناس على قتالهم و ذكر أنهم غسان فقال: إن هؤلاء القوم لن يزولوا عن موقفهم دون طعن دراك يخرج منه النسيم و ضرب يفلق الهام و يطيح العظام، و تسقط منه المعاصم و الأكف حتى تصدع جباههم، و تنثر حواجبهم، على الصدور و الأذقان، أين أهل الصبر و طلاب الخير؟ أين من يشري وجهه لله عز و جل، فثابت إليه عصابة من المسلمين فدعا ابنه محمدا فقال له: امش نحو هذه الراية مشيا رويدا على هنيئتك حتى إذا أشرعت في صدورهم الرماح فامسك يدك حتى يأتيك أمري و رأيي.و قد أتى بشطر من هذه الرواية الشيخ الأجل المفيد في الإرشاد (ص 127 و 128) من الطبع المقدم ذكره.و قد التقط من هاتين الروايتين قوله عليه السلام: «اللهم فإن ردوا الحق- إلى قوله: و يندر السواعد و الأقدام» المذكور في ذلك المختار.
الخامسة رواية رواها نصر في صفين أيضا (ص 283 من الطبع الناصرى)عن عمر بن سعد، عن إسحاق بن يزيد، عن الشعبي أن عليا عليه السلام قال يوم صفين حين أقر الناس بالصلح: إن هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحق و لا ليجيبوا إلى كلمة السواء حتى يرموا بالمناسر تتبعها العساكر، و حتى يرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب و حتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس حتى يدعق الخيول في نواحي أرضهم و بأحناء مساربهم و مسارحهم، و حتى تشن عليهم الغارات من كل فج، و حتى تلقاهم قوم صدق صبر لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم و موتاهم في سبيل الله إلا جدا في طاعة الله، و حرصا على لقاء الله، و لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه و اله نقتل آباءنا و أبناءنا و إخواننا و أعمامنا ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا و تسليما، و مضيا على أمض الألم، و جدا على جهاد العدو، و الإستقلال بمبارزة الأقران، و لقد كان الرجل منا و الاخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيهما سقى صاحبه كأس المنون فمرة لنا من عدونا، و مرة لعدونا منا، و لما رآنا الله صبرا صدقا أنزل الله بعدونا الكبت، و أنزل علينا النصر، و لعمري لو كنا نأتي مثل الذي أتيتم ما قام الدين و لا عز الإسلام، أيم الله لتجلبنها دما فاحفظوا ما أقول لكم- يعني الخوارج. انتهى.
و رواها الشيخ الأجل المفيد في الإرشاد (ص 128 طبع طهران 1377 ه) و بين النسختين اختلاف يسير، و هي مروية في الكتاب المنسوب إلى سليم بن قيس الكوفي (ص 118 من طبع النجف) و هي تخالف روايتي نصر و المفيد.و قد التقط من هذه الرواية قوله: «حتى يرموا بالمناسر- إلى قوله:مساربهم و مسارحهم» المذكور في ذيل ذلك المختار من النهج، و إنما بقى من ذلك المختار قوله عليه السلام: «الرائح إلى الله كالظمان- إلى قوله: إلى ديارهم» فلم نجد مأخذه بعد و لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، و العارف بأساليب الكلام المتدرب فيها يرى تلفيقه و انضمامه من أساليب شتى و إن كانت كلها مما أفاضها المرتضى روحي له الفداء، و قد مر منا الإشارة غير مرة إلى أن غرض الرضي في النهج كان التقاط الفصيح من كلامه و انتخاب بليغه، و يا ليت الرضي أتى في النهج بجميع الروايات المتقدمة لأنها فوق كلام البشر و دون كلام الخالق و الكل فصيح بليغ.
و في مستدرك الوسائل (الباب 32 من كتاب الجهاد ص 258 ج 2) للمحدث النوري رحمه الله قال: فرات بن إبراهيم الكوفي في تفسيره عن إبراهيم بن بنان الخثعمي، عن جعفر بن محمد بن يحيى بن شمس، عن علي بن أحمد بن الباهلي، عن ضرار بن الأزور أن رجلا من الخوارج سأل ابن عباس عن علي بن أبي طالب عليه السلام فأعرض عنه ثم سأله فقال: لقد كان و الله علي أمير المؤمنين عليه السلام يشبه القمر الزاهر، و الأسد الخادر- إلى أن قال: و قد رأيته يوم صفين و عليه عمامة بيضاء و كأن عينيه سراجان و هو يتوقف على شر ذمة شرذمة يحضهم و يحثهم إلى أن انتهى إلى و أنا في كنف من المسلمين فقال: معاشر الناس استشعروا الخشية، و أميتوا الأصوات، و تجلببوا بالسكينة، و اكملوا الأمة، و قلقلوا السيوف في الغمد قبل السلة، و الحظوا الشرز، و اطعنوا الخزز، و نافجوا بالظبي، و صلوا السيوف بالحظا، و الرماح بالنبال، فإنكم بعين الله مع ابن عم نبيكم، عاودوا الكر، و استحيوا الفر فإنه عار باق في الأعقاب، و نار يوم الحساب، فطيبوا عن أنفسكم نفسا، و اطووا عن الحياة كشحا و امشوا إلى الموت مشيا- إلى أن قال: ألا فسووا بين الركب، و عضوا على النواجد. و اضربوا القوابض (للقوانص- خ) بالصوارم، و اشرعوا الرماح بالجوانح شدوا فإني شاذ ما هم (ماحم- خ) لا ينصرون. الخبر.
و روي هذا الخبر أعني خبر فرات بن إبراهيم في تفسيره المجلسي في الثامن من البحار (ص 518 من الطبع الكمباني) بتمامه.و أتى به الرضي في المختار الرابع و الستين من باب الخطب من النهج أوله:معاشر المسلمين استشعروا الخشية و تجلببوا السكينة- إلخ.
و قد رواه المسعودي في مروج الذهب (ص 20 ج 2 من طبع مصر 1346 ه)و قد نقلنا نسخته في شرح المختار 236 (ص 254 ج 15). و أتى به الخواجه نصير الدين الطوسي قدس سره في الباب السابع و الثلاثين من أخلاق محتشمي.
و قال الجاحظ في البيان و التبيين (ص 285 ج 2 طبع مصر 1380 ه):قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ (يعني يوم صفين) عضوا على النواجذ من الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام، انتهى، و لم ينقل من كلامه عليه السلام أكثر من ذلك كما هو دأبه في ذلك الكتاب غالبا من التقاط بعض الجمل و ترك الاخرى.
و نقل ما أتى به الجاحظ ابن قتيبة الدينوري في كتاب الحرب من عيون الأخبار (ص 133 ج 1 من طبع مصر) و قال أيضا (ص 110 ج 1): ذكر ابن عباس عليا عليه السلام فقال: ما رأيت رئيسا يوزن به، لرأيته يوم صفين و كأن عينيه سراجا سليط و هو يحمس أصحابه إلى أن انتهى إلي و أنا في كثف فقال: معشر المسلمين استشعروا الخشية، و عنوا الأصوات و تجلببوا السكينة، و أكملوا اللؤم و أخفوا الخون، و قلقلوا السيوف في أغمادها قبل السلة، و الحظوا الشزر، و اطعنوا النبر، و نافحوا بالظبا، و صلوا السيوف بالخطا، و الرماح بالنبل و امشوا إلى الموت مشيا سجحا، و عليكم بهذا السواد الأعظم، و الرواق المطنب فاضربوا ثبجه فإن الشيطان راكد في كسره، نافج خصييه، مفترش ذراعيه، قد قدم للوثبة يدا، و أخر للنكوص رجلا.
و روى الكليني قدس سره في آخر الباب الخامس عشر من جهاد الكافي (ص 339 من الطبع على الحجر) بإسناده عن حريز، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه لأصحابه: إذا لقيتم عدوكم في الحرب فأقلوا الكلام و اذكروا الله عز و جل و لا تولوهم الأدبار فتسخطوا الله تبارك و تعالى و تستوجبوا غضبه و إذا رأيتم من إخوانكم المجروح و من قد نكل به أو من قد طمع عدوكم فيه فقوه بأنفسكم.
و روى أبو جعفر الطبري في التاريخ (ص 7 ج 4) و نصر في صفين (ص 106)بإسنادهما إلى الحضرمي قال: سمعت عليا عليه السلام عرض في الناس في ثلاثة مواطن في يوم الجمل و يوم صفين و يوم نهروان فقال: عباد الله اتقوا الله عز و جل و غضوا الأبصار و اخفضوا الأصوات و أقلوا الكلام- إلى آخر ما مضى في شرح المختار 236 من باب الخطب (ص 222 و 238 ج 15).
فمن هذه الروايات دريت أنه عليه السلام كان يأمر أصحابه باخفاء الصوت تارة بقوله: أميتوا الأصوات، و اخرى بقوله: أميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل و مرة بأنه أطرد للفشل و أولى بالوقار، و اخرى بقوله: و عنوا الأصوات، و هو من التعنية أي الحبس و الأسر، و دفعة بقوله: فعموا الأصوات كما في نسخة اخرى، و هو من التعمية بمعنى الإخفاء، و اخرى بقوله: اخفضوا الأصوات، و في نسخة: اخفتوا الأصوات كما علم من نقلها مصادر صدر هذا المختار الذي نحن بصدر الشرح عليه و إنما بقى ذكر مأخذ قوله عليه السلام: «و الذي فلق الحبة»- إلخ فنقول:رواه نصر بن مزاحم في كتاب صفين (ص 110 و 111 من الطبع الناصري) عن أبي عبد الرحمن المسعودي قال: حدثني يونس بن الأرقم بن عوف، عن شيخ من بكر بن وائل قال: كنا مع علي عليه السلام بصفين فرفع عمرو بن العاص شقة قميصة سوداء في رأس رمح. فقال ناس: هذا لواء عقده له رسول الله صلى الله عليه و آله فلم يزالوا كذلك حتى بلغ عليا، فقال علي: هل تدرون ما أمر هذا اللواء؟ إن عدو الله عمرو بن العاص أخرج له رسول الله هذه الشقة فقال: من يأخذها بما فيها؟
فقال عمرو: و ما فيها يا رسول الله؟ قال: فيها أن لا تقاتل به مسلما، و لا تقربه من كافر، فأخذها فقد و الله قربه من المشركين و قاتل به اليوم المسلمين، و الذي فلق الحبة و برأ النسمة ما أسلموا و لكن استسلموا و أسروا الكفر فلما وجدوا أعوانا رجعوا إلى عداوتهم منا إلا أنهم لم يدعوا الصلاة.
أقول: و قد روي نحو كلامه هذا من أبي اليقظان عمار بن ياسر رحمة الله عليهما و الظاهر أنه اقتبس من كلام إمامه أمير المؤمنين علي عليه السلام و قد رواه نصر في صفين،كما روى نحوه من ابنه محمد ابن الحنفية رضوان الله عليه فدونك ما روي عنهما.
قال بعد نقل كلامه هذا: أخبرني عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت قال: لما كان قتال صفين قال رجل لعمار: يا أبا اليقظان ألم يقل رسول الله صلى الله عليه و اله: قاتلوا الناس حتى يسلموا فإذا أسلموا عصموا مني دماءهم و أموالهم؟
قال: بلى، و لكن و الله ما أسلموا و لكن استسلموا و أسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعوانا.
نصر عن قطرب بن خليفة، عن منذر الثوري قال: قال عمار بن ياسر:و الله ما أسلم القوم و لكن استسلموا و أسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعوانا.
نصر، عبد العزيز قال حبيب بن أبي ثابت قال: حدثني منذر العلوي قال:قال محمد ابن الحنفية لما أتاهم الله من أعلى الوادي و من أسفله و ملأ الأودية كتائب: استسلموا حتى وجدوا أعوانا.
اللغة
اشتد عليه الأمر أى شق عليه و استصعبه، يقال: اشتد عليه المرض أي زاد و عظم، و هو تفتعل من الشد.
الفرة: الفرار، فعلة للمرة، و الكرة: الجوع، و الحملة في الحرب.
«الجولة» مصدر، أي الدوران في الحرب يقال: جال القوم جولة إذا انكشفوا ثم كروا و قال عبد الشارق بن عبد العزى الجهني (الحماسة 152).
سمعنا دعوة عن ظهر غيب | فجلنا جولة ثم ارعوينا | |
و قال الشارح المرزوقي: يقول: قرع أسماعنا في أثناء التهيؤ و التطالع دعوة تأدت من مكان غائب عن عيوننا فدرنا دورة ثم رجعنا إلى أماكننا.و في منتهى الأرب جال في الحرب جولة بالفتح من باب نصر: گرد برآمد.
«السيوف» جمع السيف معروف، و هو مأخوذ من قولهم: ساف إذا هلك لأنه به يقع الهلك. قال القلقشندي في صبح الأعشى (ص 139 ج 2 طبع مصر): السيف إن كان من حديد ذكر- و هو المعبر عنه بالفولاذ- قيل: سيف فولاذ.
و إن كان من حديد انثى- و هو المعبر عنه في زماننا بالحديد- قيل: سيف أنيث، فان كان متنه من حديد انثى وحداه من حديد ذكر كما في سيوف الفرنجة قيل: سيف مذكر، و يقال: إن الصاعقة إذا نزلت إلى الأرض وردت (بردت- ظ) صارت حديدا، و ربما حفر عليها و اخرجت فطبعت سيوفا، فتجيء في غاية الحسن و المضاء.
ثم إن كان عريض الصفيح قيل له: صفيحة، و إن كان محدقا (مدققا- ظ) لطيفا قيل له: قضيب؛ فإن كان قصيرا قيل: أبتر؛ فإن كان قصره بحيث يحمل تحت الثياب و يشتمل عليه قيل: مشتمل- بالكسر-.
فإن كان له حد واحد و جانبه الاخر جاف قيل فيه: صمصامه:- و بهذا كان يوصف سيف عمرو بن معدي كرب فارس العرب، فإن كان فيه حزوز مستطيلة (مطمئنة- ظ) قيل فيه: فقارات- بذلك سمى سيف رسول الله صلى الله عليه و اله: ذا الفقار، يروى أنه كان فيه سبع عشرة فقارة.
ثم تارة ينسب السيف إلى الموضع الذي طبع فيه، فيقال فيما طبع بالهند:هندي و مهند، و فيما طبع باليمن: يمان، و فيما طبع بالمشارف- و هي قرى من قرى العرب قريبة من ريف العراق- قيل له: مشرفي؛ فإن كان من المعدن المسمى بقساس و هو معدن موصوف بجودة الحديد قيل له: قساسي.
و تارة ينسب السيف إلى صاحبه كالسيف السريحي- نسبة إلى قين من قيون العرب اسمه: سريح معروف عندهم بحسن الصنعة.و يوصف السيف بالحسام و هو القاطع أخذا من الحسم و هو القطع، و بالصارم و هو الذي لا ينبو عن الصريبة.
«وطنوا» بالنون كما في النسخة الخطية التي عندنا قوبلت على نسخة الرضي، و في نسخة الجامع الكافي و غيرها مما تلوناها عليك، يقال: وطن البلدتوطينا أي اتخذه محلا و مسكنا يقيم به، و وطن نفسه على الأمر و للأمر أي مهدها لفعله و ذللها و حملها عليه، قال سيار بن قصير الطائي (الحماسة 30).
لو شهدت أم القديد طعاننا | بمرعش خيل الأرمني أرنت | |
عشية أرمى جمعهم بلبانه | و نفسي و قد وطنتها فاطمأنت | |
و في أساس البلاغة للزمخشري:
وطنت نفسي على كذا فتوطنت |
. قال:
و لا خير فيمن لا يوطن نفسه | على نائبات الدهر حين تنوب | |
و في غير واحدة من النسخ المطبوعة و الخطية كتبت: وطئوا بالهمزة من التوطئة أي التمهيد يقال وطأ الأمر إذا مهده.
استعاره [وطنوا للجنوب مصارعها] و الجنوب جمع الجنب بالفتح فالسكون كفلس و فلوس يقال بالفارسية: پهلو و قال الراغب في المفردات: أصل الجنب الجارحة و جمعه جنوب قال الله عز و جل «فتكوى بها جباههم و جنوبهم» و قال تعالى: تتجافى جنوبهم عن المضاجع و قال عز و جل: قياما و قعودا و على جنوبهم ثم يستعار في الناحية التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين و الشمال كقول الشاعر: من عن يميني مرة و أمامي.
«المصارع» جمع المصرع، يقال: صرعه على الأرض صرعا من باب منع أي طرحه عليها، و المصرع مكان الصرع، و مصارع القوم حيث قتلوا.
«اذمروا» بالذال المعجمة اخت الدال المهملة، ذمره على الأمر بالتخفيف من باب نصر، و بالتشديد أيضا حضه مع لوم ليجد فيه يقال: القائد يذمر أصحابه في الحرب أي يسمعهم المكروه ليشحذهم، و رأيتهم يتذامرون في الحرب، و أقبل يتذمر أي يلوم نفسه على التفريط في فعله و هو ينشطها لئلا تفرط ثانية، و فلان يتذمم و يتذمر و يرفع أذياله و يتشمر، و هو ذمر من الأذمار: شجاع، قاله في الأساس و ذمرته أذمره ذمرا حثثته، ذمار اسم فعل للحض على الحرب و تذامر القوم أي حث بعضهم بعضا و ذلك في الحرب.
«الدعسي» الدعس بالفتح فالسكون: الدفع في الأصل، ثم يستعمل في الطعن و شدة الوطأ و الجماع قاله المرزوقي في شرحه على الحماسة قال العباس بن مرداس (الحماسة 151):
إذا ما حملنا حملة نصبوا لنا | صدور المذاكي و الرماح الدواعسا | |
و قال قتادة بن مسلمة الحنفي (الحماسة 258):
و في النقع ساهمة الوجوه عوابس | و بهن من دعس الرماح كلوم | |
قال الجوهري في الصحاح. الدعس بالفتح: الأثر، يقال: رأيت طريقا دعسا أي كثير الاثار، و المدعاس الطريق الذي لينته المارة و الدعس: الطعن و قد يكنى به عن الجماع، و دعست الوعاء: حشوته، و المدعس: الرمح يدعس به، و يقال: المداعس الصم من الرمح، انتهى ما أردنا من نقل كلامه، يقال:
بينهم مداعسة أي مطاعنة بالرماح، و في القاموس: الدعس كالمنع: حشو الوعاء.
و بما ذكرنا علمت أن الطعن بمعنى الضرب بالرماح فان الدعسي صفة للطعن و الدعس و الدواعس و المدعس و المداعس قد استعملت في فصيح الكلام للرماح فقط، و قد قال الأشتر في أبيات آت نقلها:فاصبروا للطعان بالأسل السمر و ضرب يجري به الأمثال و الأسل بالتحريك في الأصل نبات دقيق الأغصان تتخذ منه الغرابيل و يقال للرماح الأسل على التشبيه و المستدق اللسان و الذراع الأسلة.
«الطلخفي» بكسر الطاء و فتح اللام و سكون الخاء المعجمة، قال الجوهري في مادة ط خ ف من الصحاح: ضرب طلخف بزيادة اللام مثال حبجر أي شديد، و قال الصفي پورى في منتهى الأرب: ضرب طلخف كهزبر زدگى سخت، لام زائد است.
و جاءت الطلحفي في غير واحدة من النسخ بالحاء المهملة و لكن نسختنا التي قوبلت على نسخة الرضي مضبوطة بالمعجمة و المهملة كالمعجمة معنى يقال:ضربته ضربا طلحيفا و طلحفا و طلحفا و طلحفى و طلحافا أي شديدا، و قالوا إن اللام في المهملة أصلية، و قال في القاموس بعد ضروب اللغات في الطلحفي المهملة: و اللام أصلية لذكرهم الطلحفي في باب فعلى مع حبركى و وهم الجوهري.
أقول: زيادة اللام أول الكلمة و حشوها قليلة جدا و أما في الاخر فقد ثبت في الأعلام كزيدل و عبدل في زيد و عبد و لكن عدم زيادتها أولا و حشوا فمما لم يثبت بل لها نظير و الجوهري ذهب إلى أن اللام في الطلخفى المعجمة زائدة و لم يأت بالمهملة في الصحاح و ذكر الصفي پوري المعجمة في مادة ط خ ف و صرح بأن اللام زائدة و المهملة في ط ل ح ف و بين بأنها أصلية، فاسناد الوهم إلى الجوهري و هم.
ثم إن المعجمة في المعاجم التي عندنا مضبوطة على الوجه المقدم ذكره إلا في أقرب الموارد فانه قال في طلخف بالخاء المعجمة: ضرب طلخيف بالخاء: كالحاء في لغاته.«إماتة الصوت»: إخفاؤه.«الطرد»: الإبعاد، تقول طردته فاطرد أي أبعدته فابتعد.
«الفشل» بالتحريك: ضعف مع جبن مصدر من فشل الرجل من باب علم إذا جبن و ضعف و تراخى عند حرب أو شدة. قال الفيومي في مصباح المنير: فشل فشلا فهو فشل عن باب تعب و هو الجبان الضعيف القلب.
تقول: دعي إلى القتال ففشل أي جبن، و ذهبت قوته فهو فشل و فشيل و فشل و قال الطرماح مستهزءا برجل:
فقد بزمام بظر امك و احتفر | بأير أبيك الفشل كراث عاسم | |
و هو من أبيات الحماسة (628) و قد يروى في البيت الفسل أيضا.
و عزم على كذا ثم فشل عنه أي نكل عنه و لم يمضه.
و في القرآن الكريم: و لقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم و تنازعتم في الأمر و عصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون (آل عمران 147) و أطيعوا الله و رسوله و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم (الانفال- 50).
إذ يريكهم الله في منامك قليلا و لو أراكهم كثيرا لفشلتم (الأنفال- 46).إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا (آل عمران 123).
«فلق»: شق، و قال ابن الأثير في النهاية: فيه- يعني في الحديث «من أعتق نسمة أو فك رقبة» النسمة: النفس و الروح أى من أعتق ذا روح، و كل دابة فيها روح فهي سمة و إنما يريد الناس و منه حديث علي عليه السلام و الذي فلق الحبة و برأ النسمة أي خلق ذات الروح و كثيرا ما كان يقولها إذا اجتهد في يمينه، انتهى.
الاعراب
النون المثقلة من تشتدن نون تأكيد، عليكم ظرف لغو متعلق بالفعل، فرة فاعل الفعل، «بعدها كرة» خبر و مبتداء قدم الخبر توسعا للظروف و الجملة صفة للفرة، و لا جوله بعدها حملة عطف على فرة بعدها كرة و الكلام فيها كالاولى، و مفعول وطنوا محذوف إن اخذ التوطين بمعنى التمهيد على وجه ستعرفه أي وطنوا أنفسكم، أو أن حرف التعريف في الجنوب بدل من المضاف إليه كما سيعلم وجهه في المعنى، على الطعن ظرف لغو متعلق بقوله: اذ مروا، و ياء الدعسي للنسبة.
و قال بعض المتأخرين في تعاليقه على النهج: الدعسي اسم من الدعس أي الطعن الشديد فإن عنى أن كلمة الدعسي إحدى اللغات في الدعس غير أنها اسم للدعس لا يساعده المعاجم اللغوية و الكتب الأدبية، و الدعسي على أي نحو كان صفة للطعن، و كذلك الطلخفي صفة للضرب فان كانت بالخاء المعجمة فالياء مشددة للنسبة، و إن كانت بالحاء المهملة فهي مقصورة إحدى اللغات الخمس فيها، و الضمير في انه راجع إلى المصدر أعني الإماتة المستفاد من قوله: أميتوا كقوله تعالى: اعدلوا هو أقرب للتقوى، و لا بأس بتذكير الضمير لمكان المصدر، و كلمة أطرد للتفضيل و المفضل منه محذوف بقرينة المقام أي أن أماتة الأصوات أطرد للفشل من اعلائها، «و الذي» كلمة الواو للقسم متعلقه محذوفا وجوبا فانها لا تدخل إلا على مظهر و لا تتعلق إلا محذوف. فلق الحبة صلة للذي و برأ النسمة عطف عليها «ما اسلموا» جواب للقسم، و كلمة ما نافية. لما علم للظرف و هو لوقوع الشيء لوقوع غيره و الشيء الأول في المقام اظهارهم الكفر، و الثاني وجود الأعوان عليه
المعنى
قوله عليه السلام: «لا تشتدن عليكم فرة بعدها كرة و لا جولة بعدها حملة» قد علمت آنفا أنه عليه السلام قد كان ينبه أصحابه على أن لا يغتروا بفرار الأعداء من المعارك فإن الفرار قد يكون عن حيلة و خدعة فيولون الأدبار لكى يفرجوا الذين يقاتلونهم و يغروهم و يغروهم باتباعهم آثارهم مهر عين و يخرجوهم من مكامنهم ظنا منهم بأنهم انهزموا و ما كان فرارهم عن هزيمة و بعد ما أفرجوهم برهة من الزمان يعطفون و يقبلون عليهم و يحملونهم حملة رجل واحد فيهزمونهم، كما كان هذا التنبيه هو المروي عن الكافي حيث أيقظ عليه السلام أصحابه بقوله: «لا يشدون عليكم كرة بعد فرة، و لا حملة بعد جولة».
و ههنا أرشدهم إلى أن الحرب خدعة، و فر و كر فإن علموا أن مقتضي الحال في القتال يوجب أن يولوهم الأدبار و يخيلوهم و يروهم بأنهم منهزمون حتى إذا أمكنتهم الفرصة من الحملة عليهم كروا عليهم دفعة واحدة فلا يحسبوه عارا و لا يستحيوا منه، و لا يستصعب عليهم هذا النحو من الفرار الظاهري الموجب للظفر على الخصم و انما الذي ينبغي أن يستصعب و يشق على المجاهد و يستحيي منه هو أن تكون فرة من غير كرة، بل لا يجوز الفرار إذا كان العدو على الضعف أو أقل.
و قد مضى قول ثامن الأئمة علي بن موسى الرضا عليه السلام في شرح المختار 235 من باب الخطب (ص 178 ج 15) في الفرار عن الزحف حيث قال عليه السلام: و حرم الله الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين، و الاستخفاف بالرسل صلوات الله و سلامه عليهم و الأئمة العادلة عليهم السلام، و ترك نصرتهم على الأعداء و العقوبة لهم على انكار ما دعوا إليه من الاقرار بالربوبية، و اظهار العدل، و ترك الجور، و إماتة الفساد لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين و ما يكون في ذلك من السبي و القتل و إبطال حق الله تعالى و غيره من الفساد. و كذا في المقام غيره من النصوص المستفاضة المستفاد منها أن الفرار من الزحف من جملة الكبائر.
و بما قدمنا علم وجه كون عبارة النهج بعكس ما في الكافي ففي الكافي كانت الكرة مقدمة على الفرة و الحملة على الجولة و ههنا كانت الكرة متأخرة من الفرة، و الحملة من الجولة، و هناك أيقظهم بقوله: لا يشدون عليكم، و ههنا وصاهم بقوله: لا تشتدن عليكم.
و اعلم أن قوله عليه السلام: «لا تشتدن عليكم فرة بعدها كرة» قول في تفسير قوله تعالى إلا متحرفا لقتال في الأنفال حيث قال عز من قائل: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار و من يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله و مأواه جهنم و بئس المصير (آية 17، 18).
و الزحف الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف أي يدب دبيبا، و الزحف أيضا الدنو قليلا قليلا كما قال الأزهري: أصل الزحف هو أن يزحف الصبي على استه قبل أن يقوم، شبه بزحف الصبى مشي الطائفتين يتمشى كل فئة مشيا رويدا إلى الفئة الاخرى يتدانى للضراب، و زحفا منصوب في موضع الحال للكفار.
و في تفسير المجمع: التحرف: الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف فالمعنى- و الله تعالى أعلم- إذا لقيتم الكفار للقتال و الحال أنهم كثير جم و أنتم قليل فلا تولوهم الأدبار أي لا تجعلوا ظهوركم إليهم أي لا تفروا منهم فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم، و من يولهم يومئذ أي وقتئذ سواء كان نهارا أو ليلا فقد استحق و احتمل غضب الله و مأويه جهنم و بئس المصير فالاية تدل على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي.
و في الكافي بإسناده عن عقيل الخزاعي: أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: إن الرعب و الخوف من جهاد المستحق للجهاد و المتوازرين على الضلال، ضلال في الدين و سلب للدنيا مع الذل و الصغار، و فيه استيجاب النار بالفرار من الزحف عند حضرة القتال يقول الله عز و جل: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار.
و استثنى جل و علا من حرمة الفرار حالتين إحداهما إذا كان المجاهد متحرفا لقتال، فقال في الكشاف: و هو الكر بعد الفر يخيل عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه و هو باب من خدع الحرب و مكائدها.
و نحوه النيسابوري في غرائب القرآن، و البيضاوي في أنوار التنزيل حيث قال في معناه: يريد الكر بعد الفر و تغرير العدو فانه من مكائد الحرب.
و قال الطبرسي في المجمع: و قيل معناه إلا منعطفا مستطردا كأنه يطلب عورة يمكنه اصابتها فيتحرف عن وجه و يرى أنه يفر ثم يكر و الحرب كر و فر.
و القول الاخر في تفسير قوله تعالى: إلا متحرفا لقتال هو أن من ولى دبره يبغي موقفا أصلح للقتال من الموقف الأول فهو خارج عن حرمة الفرار من الزحف و الحق إنه شامل على كلا القولين، أي إن الفار عن الزحف قد باء بغضب من الله إلا أن يدبر عن القتال و ينحرف عن مضيق إلى اتساع لتجول الخيل، أو من معاطش إلى مياه، أو كانت الشمس أو الريح في وجهه فاستدبرها، أو كان يوهم باستدباره خصمه أنه منهزم منه ليغريه باتباعه فينفرد عن أشياعه فيكر عليه فيقتله و ما أشبه ذلك.
و ثانيتهما إذا كان متحيزا إلى فئة، و التحيز طلب حيز يتمكن فيه و المعنى أو كان منحازا و منتقلا إلى جماعة اخرى من المسلمين أي غير الجماعة التي كان فيها و هم الذين يريدون قتال الأعداء و الجهاد في سبيل الله فهو يريد أن يستعين بهم عليهم.و عن ابن عباس أن الفرار من الزحف في غير هاتين الصورتين من أكبر الكبائر كما في الكشاف و غرائب القرآن.
و قد روى أهل السنة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و اله قال: اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه و اله و ما هن؟ قال: الشرك بالله، و السحر، و قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، و أكل الربا، و أكل مال اليتيم، و التولي يوم الزحف، و قذف المحصنات الغافلات و المؤمنات.
و قد مرت الإشارة إلى أن مثل ذلك قد روي عن أهل بيت النبوة عليهم السلام بروايات متكاثرة متظافرة و تقدم نقل شطر مما أفاضه أبو الحسن الرضا عليه السلام في علل تحريم الكبائر و منها الفرار عن الزحف. كما تقدم آنفا قول أمير المؤمنين علي عليه السلام عن الكافي و صفين لنصر: و ليعلم المنهزم أنه مسخط لربه و موبق نفسه و في الفرار موجدة الله عليه و الذل اللازم- إلخ.
الحرب خدعة
لا كلام في أن الخدعة في نفسها قبيحة تنفر الطباع عنها. روى الكليني في الكافي بإسناده عن هشام بن سالم رفعه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لو لا أن المكر و الخديعة في النار لكنت أمكر الناس (الوافي ص 156 ج 3) و قد رفع قبحها في الحرب فإن الغرض الأسنى من الجهاد قمع اصول الفساد، و قطع فروعه و قد جوز الشارع تعالى التوصل بالخدعة في حضرة القتال إلى ذلك، و تنفذه الأحلام و تقبله الطباع لذلك.
قال العلامة قدس سره في آخر المقصد الثاني من جهاد المنتهى (ص 913 من الطبع الرحلي على الحجر 1333 ه): يجوز المخادعة في الحرب و يجوز للمبارز أن يخدع قرنه ليتوصل بذلك إلى قتله إجماعا، روى الجمهور أن عمرو بن عبدود بارز عليا عليه السلام فقال: ما احب قتلك يا ابن أخي، فقال علي عليه السلام: لكني احب أن أقتلك فغضب عمرو و أقبل عليه، فقال علي عليه السلام: ما برزت لا قاتل اثنين، فالتفت عمرو فوثب علي عليه السلام فضربه، فقال عمرو: خدعتني، فقال علي عليه السلام:الحرب خدعة، انتهى ما أردنا من نقل كلامه.
و روى شيخ الطائفة قدس سره في باب أن الحرب خدعة من جهاد التهذيب بإسناده عن إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام أن عليا عليه السلام كان يقول:لأن يخطفني الطير أحب إلي من أن أقول على رسول الله صلى الله عليه و اله ما لم يقل، سمعترسول الله صلى الله عليه و اله يقول يوم الخندق: الحرب خدعة، يقول: تكلموا بما أردتم، (الوافي ص 21 ج 9).
و فيه بإسناده عن مصعدة بن صدقة قال: حدثني شيخ من ولد عدي بن حاتم عن أبيه، عن جده عدي بن حاتم و كان مع علي عليه السلام في غروته أن عليا عليه السلام قال يوم التقى هو و معاوية بصفين فرفع بهم صوته يسمع أصحابه: و الله لأقتلن معاوية و أصحابه ثم قال في آخر قوله: إن شاء الله خفض بها صوته فكنت منه قريبا فقلت: يا أمير المؤمنين إنك حلفت على ما قلت ثم استثنيت فما أردت بذلك؟ فقال:إن الحرب خدعة و أنا عند المؤمنين غير كذوب فأردت أن احرض أصحابي عليهم لكيلا يفشلوا و لكي يطمعوا فيهم فافهم فانك تنتفع بها بعد اليوم إن شاء الله، و اعلم أن الله عز و جل قال لموسى حيث أرسله إلى فرعون: «فأتياه فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى» و قد علم أنه لا يتذكر و لا يخشى و لكن ليكون ذلك أحرص لموسى عليه السلام على الذهاب، (الوافي ص 95 ج 7 و ص 22 ج 9)، و رواه في البحار عن تفسير العياشي (ص 98 ج 21 من الطبع الكمباني).
و في الباب السابع و الثلاثين من أخلاق محتشمي للخواجة الطوسي قدس سره:كان النبي صلى الله عليه و اله إذا أراد سفرا ورى إلى غيره و قال: الحرب خدعة.
و في مروج الذهب للمسعودي (ص 6 ج 2) قال ابن عباس لعلي عليه السلام:يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع أما سمعت رسول الله صلى الله عليه و اله يقول: الحرب خدعة؟
فقال علي عليه السلام: بلى. و سيأتي تمام كلامهما في شرح الكتاب السابع عشر إن شاء الله تعالى.و في الجامع الصغير للسيوطي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه و اله: الحرب خدعة.
و روى الكليني في الكافي بإسناده عن صفوان، عن أبي مخلد (محمد- خ) السراج، عن عيسى بن حسان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كل كذب مسئول عنه صاحبه يوما إلا في ثلاثة: رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه، أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا يريد بذلك الاصلاح فيما بينهما، أو رجل وعد أهله شيئا و هو لا يريد أن يتم لهم، (الوافي ص 158 ج 3).
و في الكامل لأبي العباس المبرد (ص 193 ج 2 طبع مصر) ناقلا عن المهلب قال: انه جاء عن رسول الله صلى الله عليه و اله قوله: «كل كذب يكتب كذبا إلا ثلاثة:الكذب في الصلح بين الرجلين، و كذب الرجل لامرأته يعدها، و كذب الرجل في الحرب يتوعد و يتهدد.
و قال: و جاء عنه صلى الله عليه و اله إنما أنت رجل فخذل عنا فانما الحرب خدعة.
قال: و قال عليه السلام في حرب الخندق لسعد بن عبادة و سعد بن معاذ و هما سيد الحيين الخزرج و الأوس: «ائتيا بني قريظة فإن كانوا على العهد فأعلنا بذلك؛ و إن كانوا قد نقضوا ما بيننا فالحنا لي لحنا أعرفه و لا تفتا في أعضاد المسلمين» فرجعا بغدر القوم فقالا يا رسول الله: عضل و القارة فقال رسول الله صلى الله عليه و اله للمسلمين:ابشروا فإن الأمر ما تحبون.
قال الأخفش: سألت المبرد عن قولهما عضل و القارة فقال: هذان حيان كانا في نهاية العداوة لرسول الله صلى الله عليه و اله فأرادا أنهم في الانحراف عنه و الغدر به كهاتين القبيلتين.
قال ابن إسحاق: لما خرج رسول الله صلى الله عليه و اله إلى بدر نزل قريبا منه فركب هو و رجل من أصحابه يتعرفان أخبار قريش حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش، و عن محمد و أصحابه، و ما بلغه عنهم؛ فقال الشيخ: لا اخبر كما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و اله: إذا أخبرتنا أخبرناك، قال: أذاك بذاك؟ قال: نعم، قال الشيخ: فانه بلغني أن محمدا و أصحابه خرجوا يوم كذا و كذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا و كذا- للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه و اله- و بلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا و كذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا و كذا- للمكان الذي فيه قريش- فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و اله: نحن ماء ثم انصرف عنه فجعل الشيخ
يقول: نحن من ماء! من ماء العراق أو ماء كذا أو ماء كذا، نقله ابن هشام في السيرة النبوية (ج 1 ص 616 من طبع مصر 1375 ه)، و ابن قتيبة الدينوري في باب الحيل في الحروب من كتاب الحرب من عيون الأخبار (ص 194 ج 1 طبع مصر 1383 ه).
و اعلم أن ما قدمناه من جواز الخدعة في الحرب هو غير الغدر بهم أي قتالهم و قتلهم بغتة بعد الأمان، و الغدر ترك الوفاء و نقض العهد، قال شيخ الطائفة قدس سره في جهاد المبسوط: من أذم مشركا أو غير مشرك ثم خفره و نقض ذمامه كان غادرا آثما.
و إنما لا يجوز الغدر بهم لقوله تعالى: أوفوا بالعقود و لقوله صلى الله عليه و اله:«لا تغلوا و لا تمثلوا و لا تغدروا» و غيره من الأخبار الواردة في النهي عن الغدر بهم ففي خبر رواه الكليني قدس سره في جامع الكافي بإسناده عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قريتين من أهل الحرب لكل واحدة منهما ملك على حدة اقتتلوا ثم اصطلحوا ثم إن أحد الملكين غدر بصاحبه فجاء إلى المسلمين فصالحهم على أن يغزوا تلك المدينة، فقال أبو عبد الله عليه السلام: لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا و لا يأمروا بالغدر و لا يقاتلوا مع الذين غدروا و لكنهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم و لا يجوز عليهم ما عاهد عليه الكفار. (جهاد الوسائل الباب 20) و الروايات عن الرسول صلى الله عليه و اله و عن أئمة الدين في التحذير عن الغدر و كراهيته كثيرة.
و قد نقل ابن قتيبة في كتاب الحرب من عيون الأخبار (ص 117 ج 1 طبع مصر) قضية معجبة في خدعة مستغربة، و سوء عاقبة الغدر و البغي تأبى نفسي إلا الإتيان بها، قال: و قرأت في كتاب سير العجم أن فيروز بن يزدجرد بن بهرام لما ملك سار بجنوده نحو خراسان ليغزو اخشنوار ملك الهياطلة ببلخ، فلما انتهى إلى بلاده اشتد رعب اخشنوار منه و حذره له، فناظر أصحابه و وزراءه في أمره.
فقال له رجل منهم: أعطنى موثقا و عهدا تطمئن إليه نفسي أن تكفيني أهلي و ولدي و تحسن إليهم و تخلفني فيهم، ثم اقطع يدي و رجلي و القني على طريق فيروز حتى يمربي هو و أصحابه فأكفيك مئونتهم و شوكتهم و أورطهم مورطا تكون فيه هلكتهم.
فقال له اخشنوار: و ما الذي تنتفع به من سلامتنا و صلاح حالنا إذا أنت قد هلكت و لم تشركنا في ذلك؟
قال: إني قد بلغت ما كنت احب أن أبلغه من الدنيا و أنا موقن بأن الموت لا بد منه و إن تأخر أياما قلائل، فاحب أن أختم عمري بأفضل ما تختم به الأعمار من النصيحة لإخواني و النكاية في عدوي فيشرف بذلك عقبي و اصيب سعادة و حظوة فيما أمامى.
ففعل به ذلك و أمر به فلما مر به فيروز سأله عن أمره فأخبره أن اخشنوار فعل ذلك به و أنه احتال حتى حمل إلى ذلك الموضع ليدله على عورته و غرته، و قال: إني أدلك على طريق هو أقرب من هذا الذي تريدون سلوكه و أخفى، فلا يشعر اخشنوار حتى تهجموا عليه فينتقم الله لي منه بكم، و ليس في هذا الطريق من المكروه إلا تفويز يومين ثم تفضون إلى كل ما تحبون.
فقبل فيروز قوله بعد أن أشار عليه و زراؤه بالإتهام له و الحذر منه و بغير ذلك فخالفهم و سلك الطريق حتى انتهى بهم إلى موضع من المفازة لا صدر عنه ثم بين لهم أمره فتفرقوا في المفازة يمينا و شمالا يلتمسون الماء فقتل العطش أكثرهم و لم يخلص مع فيروز منهم إلا عدة يسيرة فإنهم انطلقوا معه حتى أشرفوا على أعدائهم و هم مستعدون لهم فواقعهم على تلك الحاله و على ما بهم من الضر و الجهد فاستمكنوا منهم و أعظموا النكاية فيهم.
ثم رغب فيروز إلى اخشنوار و سأله أن يمن عليه و على من بقي من أصحابه على أن يجعل لهم عهد الله و ميثاقه ألا يغزوه أبدا فيما يستقبل من عمره؛ و على أنه يحد فيما بينه و بين مملكته حدا لا تجاوزه جنوده، فرضى اخشنوار بذلك و خلى سبيله و انصرف إلى مملكته.
فمكث فيروز برهة من دهره كئيبا، ثم حمله الأنف على أن يعود لغزوه و دعا أصحابه إلى ذلك فردوه عنه و قالوا: إنك قد عاهدته و نحن نتخوف عليك عاقبة البغي و الغدر مع ما في ذلك من العار و سوء المقالة.
فقال لهم: إني شرطت له ألا أجوز الحجر الذي جعلته بيني و بينه فأنا آمر بالحجر ليحمل على عجلة أمامنا.
فقالوا له: أيها الملك إن العهود و المواثيق التي يتعاطاها الناس بينهم لا تحمل على ما يسر المعطي لها و لكن على ما يعلن المعطي، و إنك إنما جعلت له عهد الله و ميثاقه على الأمر الذي عرفه لا على أمر لم يخطر بباله.
فأبى فيروز و مضى في غزاته حتى انتهى إلى الهياطلة و تصاف الفريقان للقتال فأرسل اخشنوار إلى فيروز يسأله أن يبرز فيما بين صفيهم ليكلمه، فخرج إليه.
فقال له اخشنوار: قد ظننت أنه لم يدعك إلى غزونا إلا الأنف مما أصابك و لعمري لئن كنا احتلنا لك بما رأيت لقد كنت التمست منا أعظم منه، و ما ابتدأناك ببغي و لا ظلم و لا أردنا إلا دفعك عن أنفسنا و عن حريمنا، و لقد كنت جديرا أن تكون مكافأتنا بمننا عليك و على من معك من نقض العهد و الميثاق الذي وكدت على نفسك أعظم أنفا و أشد امتعاظا مما نالك منا فإنا أطلقناكم و أنتم أسرى، و مننا عليكم و أنتم مشرفون على الهلكة، و حقنا دماءكم و بنا قدرة على سفكها، و إنا لم نجبرك على ما شرطت لنا بل كنت أنت الراغب إلينا فيه، و المريد لنا عليه؛ ففكر في ذلك، و ميل بين هذين الأمرين فانظر أيهما أشد عارا و أقبح سماعا: إن طلب رجل أمرا ينح له، و سلك سبيلا فلم يظفر فيها ببغيته، و استمكن منه عدوه على حال جهد وضيعة منه و ممن معه فمن عليهم و أطلقهم على شرط شرطوه و أمر اصطلحوا عليه فاضطر لمكروه القضاء، و استحيا من النكث و الغدر؛ أم يقال[1] امرؤ نكث العهد و ختر الميثاق؟
مع أني قد ظننت أنه يزيدك نجاحا ما تثق به من كثرة جنودك و ما ترى من حسن عدتهم و طاعتهم لك و ما أجدني أشك أنهم أو أكثرهم كارهون لما كان من شخوصك بهم عارفون بأنك قد حملتهم على غير الحق، و دعوتهم إلى ما يسخط الله فهم في حربنا غير مستبصرين، و نياتهم في مناصحتك اليوم مدخولة، فانظر ما قدر غناء من يقاتل على مثل هذه الحال؛ و ما عسى أن تبلغ نكايته في عدوه إذا كان عارفا بأنه إن ظفر فمع عار، و إن قتل فإلى النار؟
فأنا اذكرك الله الذي جعلته على نفسك كفيلا، و نعمتي عليك و على من معك[2] بعد يأسكم من الحياة و إشفائكم على الممات، و أدعوك إلى ما فيه حظك و رشدك من الوفاء بالعهد و الاقتداء بابائك الذين مضوا على ذلك في كل ما أحبوه أو كرهوه فأحمدوا عواقبه و حسن عليهم أثره.
و مع ذلك إنك لست على ثقة من الظفر بنا، و البلوغ لنهمتك فينا و إنما تلتمس منا أمرا نلتمس منك مثله، و تناوىء عدوا لعله يمنح النصر عليك فقد بالغت في الاحتجاج عليك، و تقدمت الإعدار إليك، و نحن نستظهر بالله الذي اعتززنا به و وثقنا بما جعلته لنا من عهده إذا استظهرت بكثرة جنودك و ازدهتك عدة أصحابك، فدونك هذه النصيحة فوالله ما كان أحد من نصحانك ببالغ لك أكثر منها، و لا زائد لك عليها، و لا يحرمنك منفعتها مخرجها مني فإنه لا يزرى بالمنافع عند ذوي الرأي أن كانت من قبل الأعداء كما لا يحبب المضار إليهم أن تكون على أيدي الأولياء.
و اعلم أنه ليس يدعوني إلى ما تسمع من مقالتي ضعف أحسه من نفسي، و لا قلة من جنودي؛ و لكني أحببت أن أزداد بذلك حجة و استظهارا، و أزداد به من الله النصر و المعونة استيجابا، و لا أوثر على العافية و السلامة شيئا ما وجدت إليهما سبيلا.
فأبى فيروز إلا تعلقا بحجته في الحجر الذي جعله حدا بينه و بينه و قال: لست ممن يردعه عن الأمر يهم به وعيد، و لا يقتاده التهدد و الترهيب، و لو كنت أرى ما أطلبك غدرا مني ما كان أحد أنظر و لا أشد اتقاء مني على نفسي فلا يغرنك منا الحال التي صادفتنا عليها في المرة الاولى من القلة و الجهد و الضعف.
قال اخشنوار: لا يغرنك ما تخدع به نفسك من حملك الحجر أمامك فإن الناس لو كانوا يعطون العهود على ما تصف من إسرار أمر و إعلان آخر إذا ما كان ينبغي لأحد أن يغتر بأمان، و لا يثق بعهد، و إذا لما قبل الناس شيئا مما يعطونه من ذلك؛ و لكنه وضع على العلانية و على نية من تعقد العهود و الشروط له.
فانصرفا يومهما ذلك فقال فيروز لأصحابه: لقد كان اخشنوار حسن المحاورة، و ما رأيت للفرس الذي كان تحته نظيرا في الدواب فإنه لم يزل قوائمه و لم يرفع حوافره عن موضعها و لا صهل و لا أحدث شيئا يقطع به المحاورة في طول ما تواقفنا.
و قال اخشنوار لأصحابه: لقد واقفت فيروز كما علمتم و عليه السلاح كله فلم يحرك رأسه، و لم ينزع رجله من ركابه، و لا حنا ظهره، و لا التفت يمينا و لا شمالا و لقد توركت أنا مرارا، و تمطيت على فرسي و تلفت إلى من خلفي، و مددت بصري في أمامي و هو منتصب ساكن على حاله، و لولا محاورته إياي لظننت أنه لا يبصرني.
و إنما أرادا بما وصفا من ذلك أن ينتشر هذان الحديثان في أهل عسكريهما فيشغلوا بالإفاضة فيهما عن النظر فيما تذاكراه.
فلما كان في اليوم الثاني أخرج اخشنوار الصحيفة التي كتبها لهم فيروز فرفعها على رمح لينظر إليها أهل عسكر فيروز فيعرفوا غدره و بغيه و يخرجوا من متابعته، فانتقض عسكر فيروز و اختلفوا و ما لبثوا إلا يسيرا حتى انهزموا و قتل منهم خلق كثير و هلك فيروز، فقال اخشنوار: لقد صدق الذي قال: لا راد لما قدر، و لا أشد إحالة لمنافع الرأي من الهوى و اللجاج، و لا أضيع من نصيحة يمنحها من لا يوطن نفسه على قبولها و الصبر على مكروهها، و لا أسرع عقوبة و لا أسوأ عاقبة من البغي و الغدر، و لا أجلب لعظيم العار و الفضوح من إفراط الفخر و الأنفة.
و قد مضى وجه آخر في تفسير كلامه هذا في ضمن بيان المصادر، و يحتمل الوجهين قوله عليه السلام المنقول من الكافي و نصر و الطبري و المفيد آنفا في ذكر المصادر:فلو لا إقبالكم بعد إدباركم و كركم بعد انحيازكم وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره و كنتم فيما أرى من الهالكين.
و الشارح البحراني احتمل في تفسير قوله عليه السلام: «لا تشتدن عليكم فرة بعدها كرة» وجها آخر سوى الوجهين الذين اخترناهما فقال:و يحتمل أن يريد فلا تشتدن عليكم فرة من عدوكم بعدها كرة منه عليكم فإن تلك الكرة لما كانت عقيب الفرة لم تكن إلا عن قلوب مدخولة و نيات غير صحيحة و انما قدم الفرة في هذا الاحتمال لأن مقصوده تحقير تلك الكرة بذكر الفرة و كان ذكرها أهم فلذلك قدمت و كذلك قوله: و لا جولة بعدها حملة. انتهى.
و أقول: قد علمت أن أمير المؤمنين عليا تارة يوصي عسكره و يوقظهم بأن لا يغرنكم فرار الخصم فإنه ربما يكون من مكائد الحرب لأن الخصم ربما يوليكم الدبر ليخيلكم أنه منهزم ثم يعطف و يشد عليكم؛ كما رواه الكليني في الجامع الكافي عنه عليه السلام حيث قال: و لا يشدون عليكم كرة بعد فرة و لا حملة بعد جولة.
و تارة يوصيهم و يحثهم إذا رأيتم المصلحة في أن تولوهم الأدبار لكي توهموهم الانهزام حتى إذا أمكنتهم الفرصة تكرون عليهم فلا يشتد عليكم هذا النحو من الفرار الذي هو من مكائد الحرب أي لا تحسبوه عارا حتى يستصعب عليكم هذا الفرار كما هو المروي في النهج قال عليه السلام: لا تشتدن عليكم فرة بعدها كرة، و لذا كانت العبارتان متعاكستين، و قد علمت أن قوله في النهج كان ناظرا إلى قوله تعالى إلا متحرفا لقتال، و الروايات كالايات يفسر بعضها بعضا، و رواية الكافي هذا و الرواية المتقدمة الحاوية قوله عليه السلام: فلو لا إقبالكم بعد إدباركم و كركم بعد انحيازكم- إلخ، و قوله تعالى إلا متحرفا لقتال تدل على أن معنى ما في النهج هو الذي قدمناه أولا، و كان للجملتان معنى صحيح آخر ذكرناه في ضمن بيان المصادر و كان معنياهما متعاكسين أيضا، و لا يجري هذا الاحتمال الثالث في قوله المروي في الكافي، و لو يفسر ما في النهج به لوجب أن يقال لا تشتدن عليكم كرة بعد فرة.على أن لأساليب الكلام معنى يتبادر إليه الذهن من غير تكلف و ما من كلام إلا أمكن فيه تقدير وجوه من المعاني البعيدة فيخرج حينئذ عن الفصاحة و الجودة و بالجملة إذا تأملت فيما قدمنا و في سيرة أهل الحرب يظهر لك أن ما ينبغي أن تفسر الجملتان هو المعنيان المختاران.
كنايه قوله عليه السلام: «و أعطوا السيوف حقوقها» لا يخفى عليك أن هذا الفصل من مختار كلامه عليه السلام يفيد ثلاثة مطالب: الأول أن الحرب خدعة فالفرار منها إذا كان موجبا لتغرير الخصم و هلاكه لا ينبغي أن يستصعب و يحسب عارا، الثاني أن على المجاهد أن يراعي امورا، الثالث أن هؤلاء المحاربين للإمام كانوا كافرين إلا أنهم أسروا كفرهم، أما الأول فقد مضى مفصلا، و أما الثالث فسيأتي بيانه، أما الثاني فقد ذكر أربعة منها: الأول أن يعطوا السيوف حقوقها هذا تحريض على الجد في القتال أي إذا ضربتم بها فاحكموا الضرب، و اضربوا ضربة منكرة و إعطاءها حقوقها كناية عن هذا النحو من الضرب، فجعل للسيف حقا و هو ما ينبغي أن يستفاد منه ثم أمرهم باعطاء حقها فإذا لم يضربوا بها على ما كان الحري بها جدا فكأنهم خانوها، كما يقال أيضا: إن سيف فلان لم يخنه، أي إنه لشدة حدته و جودته فعل ما أراد منه صاحبه كما قال نهشل بن حري النهشلي في قصيدة يرثى بها أخاه مالكا رحمه الله و قد قتل بصفين بحضرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قتله الفئة الباغية:
أخ ما جد لم يخزني يوم مشهد | كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه | |
و هون وجدي عن خليلي إنني | إذا شئت لا قيت امرء مات صاحبه | |
قوله عليه السلام: «و وطنوا للجنوب مصارعها» هذا هو الثاني من الامور أمرهم بها، الظاهر من كلامه عليه السلام أنه حثهم و نشطهم على الإحكام في الضرب، و إن شئت قلت: هذا تأكيد و تشديد في الأمر الأول أى أدوا حقوق السيوف و اضربوا بها ضربة و احكموا الضرب إلى حد تطرحوا بها جنوب الأعداء على مصارعهم و تجعلوا مصارعهم أوطانا لهم أي بحيث لا يقدر الصرعى أن يقوموا من الأرض فكأنهم أخذوها أوطانا لهم أو مهدوا مصارعهم لجنوبهم أي اجعلوها ممهدة لسقوطهم عليها بضروبكم المنكرة و المال واحد و إن كان الأول ألصق و أنسب بسياق الكلام إن لم يكن متعينا، هذا ما ينادي به اسلوب الكلام.
كنايه [و وطنوا للجنوب مصارعها] و قال الشارح البحراني: و المعنى أن يوطنوا لجنوبهم مصارعها أى يتخذوا مصارع جنوبهم أوطانا لها و هو كناية عن الأمر بالعزم الجازم على القتل في سبيل الله و الإقدام على أهوال الحرب إذا كان اتخاذ المصارع أوطانا للجنوب مستلزما لذلك العزم و الإقدام.
و احتذى على مثاله المجلسي في فتن البحار (ص 626 ج 8 من الطبع الكمباني) حيث قال: أي اجعلوا مصارع الجنوب و مساقطها وطنا لها أو وطيئا لها أي استعدوا للسقوط على الأرض و القتل كناية على العزم على الحرب و عدم الاحتراز عن مفاسدها. انتهى.
و هذا كما ترى لا يناسب تحريض العسكر على الجهاد و حثهم على القتال، أرأيت أن أمر أمير عسكره بالاستعداد للسقوط على الأرض لا يوجب و هنهم؟ و لو سلم أن فيه تشجيعا بالعزم الجازم على الإقدام على أهوال الحرب و القتال في سبيل الله تعالى فسوق الكلام يأبى عن ذلك الحمل.
قوله عليه السلام: «و اذمروا أنفسكم على الطعن الدعسي، و الضرب الطلخفي» هذا ثالث الامور أمرهم بها، حثهم عليه السلام أن يحضوا و يوطنوا أنفسهم على الجد في الطعن بالرماح و الضرب بالسيوف و يوبخوها على الفشل و الضعف، حتى يتشمروا للطعن بالرماح على الأعداء بحيث يظهر أثره و يحشى به أجوافهم، و يتهيئوا لإيقاع الضرب الشديد بالسيوف عليهم.
ثم بالتأمل الصحيح في سياق هذه الامور الثلاثة يعلم أن مساقها واحد، و مفادها فارد، و الحق أن يقال أنها ملتقطة من روايات شتى كما قد أتينا بها في بيان مصادرها.
قوله عليه السلام: «و أميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل» هذا رابع الامور أمرهم بها، أي اخفضوا الأصوات و عنوها فإن اخفائها أولى بالوقار و أطرد للفشل و أذهب بالوهل و إن شدة الضوضاء في الحرب أمارة الخوف و الوجل.
و في كتاب الحرب من عيون الأخبار لابن قتيبة (ص 108 ج 1) أن قوما استشاروا أكثم بن صيفي في حرب قوم أرادوهم و سألوه أن يوصيهم فقال: أقلوا الخلاف على امرائكم، و اعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، و المرء يعجز لا محالة تثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين، و ربة عجلة تعقب ريثا، و اتزروا للحرب، و ادرعوا الليل فأنه أخفى للويل، و لا جماعة لمن اختلف عليه.
و قال ابن قتيبة بعد نقل ما قاله أكثم: قال بعض الحكماء: قد جمع الله لنا أدب الحرب في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون و أطيعوا الله و رسوله و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا إن الله مع الصابرين (الأنفال 48- 49).
و قال: حدثني محمد بن عبيد قال: حدثنا معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق عن الأوزاعي قال: قال عتبة بن ربيعة يوم بدر لأصحابه: ألا ترونهم- يعني أصحاب النبي صلى الله عليه و اله- جثيا على الركب كأنهم خرس يتلمظون تلمظ الحيات، قال: و سمعتهم عائشة يكبرون يوم الجمل فقالت: لا تكثروا الصياح فإن كثرة التكبير عند اللقاء من الفشل.
قوله عليه السلام: «و الذي فلق الحبة- إلخ» هذا هو المطلب الثالث الموعود بيانه و في بعض النسخ: فالذي بالفاء و هو من تصرفات النساخ أتوا بالفاء ليرتبط الذيل بالصدر و قد غفلوا أن. كلامه هذا ليس بمقالة فاردة بل ملتقطة من عدة مقالات مروية عنه عليه السلام.
و كان عليه السلام كثيرا ما يحلف بقوله و الذي فلق الحبة و برأ النسمة إذا اجتهد في يمينه و هذا مما لم يسمع من غيره أن يقسموا به و كان عليه السلام متفردا بإنشائه و الحلف به.
و قد دريت أنه عليه السلام قال كلامه هذا في صفين لما رفع عمرو بن العاص شقة قميصة سوداء في رأس رمح فقال ناس: هذا لواء عقده له رسول الله صلى الله عليه و اله- إلى آخر ما نقلنا في ذكر مصادر هذا الفصل عن كتاب صفين لنصر بن مزاحم المنقري و أشار عليه السلام بقوله: «فأخذها فقد و الله قربه من المشركين و قاتل به اليوم المسلمين» إلى أن القوم كانوا كافرين.
ثم إن سياق الكلام يقتضي افراد الأفعال و الضمائر إلا أنه عدل من الإفراد إلى الجمع تنبيها على أن عمرو بن العاص و معاوية بن أبي سفيان و أشياعهما و أشباههما ما أسلموا واقعا بقلوبهم و لكن استسلموا أي أظهروا الإسلام بألسنتهم في زمن رسول الله صلى الله عليه و اله و انقادوه خوفا من السيف و كانوا قد أسروا كفرهم لأنهم لم يجدوا أعوانا عليه حتى يظهروه فلما وجدوهم أظهروه و كان كلامه عليه السلام المروي آنفا عن صفين لنصر حيث قال: «و قد نصبوا لنا الحرب و جدوا في إطفاء نور الله و الله متم نوره و لو كره الكافرون» مشعرا بكفرهم كما لا يخفى.
و قد مر كلام ابن الحنفية المنقول عن كتاب صفين لنصر في ذكر المصادر أنه قال: لما أتاهم الله من أعلى الوادي و من أسفله و ملأ الأودية كتائب استسلموا حتى وجدوا أعوانا، و كذا كلام عمار رضوان الله عليه، و سيأتي كلام الأمير عليه السلام في الكتاب التالي إلى معاوية: و لما أدخل الله العرب في دينه أفواجا و أسلمت له هذه الأمة طوعا و كرها كنتم ممن دخل في الدين إما رغبة و إما رهبة- إلخ.
و راجع إلى باب ما ورد في كفر معاوية و عمرو بن العاص و أوليائهما من المجلد الثامن من البحار (ص 560- 571 من الطبع الكمباني).و قال الفاضل الشارح المعتزلي: و هذا يدل على أنه عليه السلام جعل محاربتهم له كفرا. انتهى.
أقول: هذا الكلام من أمير المؤمنين عليه السلام صريح في أن القوم كانوا كافرين و لا يدل على أن من حاربه فهو كافر نعم إن محاربتهم له عليه السلام توجب كفرا و محاربيه كفرة بالأدلة التي قدمناها في شرح المختار 236 من باب الخطب (ص 367- 379 ج 15) و في شرح المختار الثاني من باب الكتب و الرسائل (ص 76- 80 ج 16).
و أرسل معاوية كتابا إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام و ذلك كان لما دعى الناس من حيلة عمرو بن العاص و روغانه إلى كتاب الله و كتب فيما كتب فيه: و اقطع لهذه الفتن فاتق الله فيما دعيت له و ارض بحكم القرآن إن كنت من أهله. و السلام.
فكتب إليه أمير المؤمنين علي عليه السلام كتابا جوابا عن كتابه، و من جملته:إنك قد دعوتني إلى حكم القرآن و لقد علمت أنك لست من أهل القرآن- إلخ.
و قد نقلهما نصر في كتاب صفين (ص 267).و روى نصر في صفين (ص 167) عن يحيى، عن علي بن حزور، عن الأصبغ بن نباتة قال: جاء رجل إلى علي عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء القوم الذين نقاتلهم الدعوة واحدة و الرسول واحد و الصلاة واحدة و الحج واحد فبم نسميهم؟ قال: نسميهم بما سماهم الله في كتابه، قال: ما كل ما في الكتاب أعلمه، قال: أما سمعت الله قال: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض- إلى قوله- و لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات و لكن اختلفوا فمنهم من آمن و منهم من كفر فلما وقع الإختلاف كنا نحن أولى بالله و بالكتاب و بالنبي و بالحق فنحن الذين آمنوا و هم الذين كفروا و شاء الله قتالهم فقاتلناهم هدى بسنة الله ربنا و إرادته.
أقول: و رواية نصر بن بن مزاحم في صفين عن الأصبغ ظاهرة في أن الرجل سأل الأمير عليه السلام عن القاسطين، و قد روى نحوه الشيخ الأجل المفيد في المجلس الثاني عشر من أماليه (ص 59 طبع النجف) أن الرجل سأله عليه السلام عن الناكثين حيث قال: حدثنا أبو الحسن بلال المهلبي رحمه الله يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شعبان سنة ثلاث و خمسين و ثلاثمائة قال: حدثنا محمد بن الحسين بن حميد بن الربيع اللحمي قال: حدثنا سليمان بن الربيع النهدي قال: حدثنا نصر بن مزاحم المنقري قال: حدثنا يحيى بن يحيى الأسلمي، عن علي بن الحزور، عن الأصبغ بن نباتة رحمه الله قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالبصرة فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء القوم الذين نقاتلهم- إلخ- على حذوا الرواية الاولى من نصر في صفين.
و من الممكن أن السؤال وقع عن كل واحدة من الطائفتين فقد سأله رجل عن الناكثين في البصرة، و ذلك الرجل أو آخر سأله عن القاسطين، أو السؤال كان عن إحداهما فاشتبه الأمر على الراوي و أسند تارة إلى هؤلاء و تارة إلى هؤلاء أو يقال: إن ما في كتاب صفين مطلق مرسل فانه قال يا أمير المؤمنين هؤلاء القوم الذين نقاتلهم، فهو يشمل الطائفتين و لما رأى نصر أن السؤال الذي كان من الرجل عن الناكثين جار في القاسطين أيضا فما سئل الأمير عليه السلام في البصرة أتى به في صفين لاتحاد الحكم فيهما و الحق أن جواب الأمير عليه السلام الرجل جار في محاربي علي عليه السلام سواء كانوا من الطوائف الثلاث الناكثين و القاسطين و المارقين أو غيرهم.
و في بشارة المصطفى لشيعة المرتضى (ص 235 من طبع النجف): بإسناده عن الأصبغ بن نباتة أنه قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في بعض خطبه: أيها الناس اسمعوا قولي و اعقلوه- إلى أن قال: لقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه و اله أن الناكثين و القاسطين و المارقين ملعونون على لسان النبي الأمي و قد خاب من افترى.
الترجمة
أمير عليه السلام در هنگام كارزار به لشكريانش تعليم مى داد كه: گريختن و عقبنشيني كه پس از بازگشت و حمله بر دشمن باشد بر شما سخت و ناگوار نباشد و از آن ننگ نداشته باشيد- يا اگر از دشمن شكست خورديد و رو بگريز گذاشتيد از برگشتن و جنگيدن و تدارك گذشته كردن شرم نكنيد و آنرا دشوار مپنداريد، حق شمشيرها را بدهيد، و پهلوى دشمنان را بر خاك هلاك جاى دهيد، و خودتان را بر نيزه زدنى كه بدرون دشمن رسد و كارگر شود، و بشمشير زدن سخت بر آنها وادار كنيد و آماده سازيد، و آوازها را بميرانيد و صدا بلند نكنيد كه ترس را بهتر و بيشتر رانندهتر و دور كننده تر است، سوگند به آنكه دانه را شكافت و آدمى را آفريد اين قوم منافق اسلام نياوردند و از ترس و حفظ جان خود گردن نهادند و بظاهر دعوى اسلام كردند و كفر را در دل پنهان داشتند تا چون اكنون يارى كنندگان و پشتيبانان بر آن يافتند آشكارش كردند و پرچم مخالفت برافراشتند.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی
_____________________________________________________________
[1] ( 1) كان في الاصل: أن يقال، و الصواب: أم يقال كما صححناه في المتن لانه عدل ان طلب. منه.