خطبه 195 صبحی صالح
195- و من خطبة له ( عليه السلام ) يحمد اللّه و يثني على نبيه و يعظ
حمد اللّه
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ وَ جَلَالِ كِبْرِيَائِهِ مَا حَيَّرَ مُقَلَ الْعُقُولِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ وَ رَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ النُّفُوسِ عَنْ عِرْفَانِ كُنْهِ صِفَتِهِ
الشهادتان
وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةَ إِيمَانٍ وَ إِيقَانٍ وَ إِخْلَاصٍ وَ إِذْعَانٍ
وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ وَ أَعْلَامُ الْهُدَى دَارِسَةٌ وَ مَنَاهِجُ الدِّينِ طَامِسَةٌ فَصَدَعَ بِالْحَقِّ وَ نَصَحَ لِلْخَلْقِوَ هَدَى إِلَى الرُّشْدِ وَ أَمَرَ بِالْقَصْدِ ( صلى الله عليه وآله وسلم )
العظة
وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يُرْسِلْكُمْ هَمَلًا عَلِمَ مَبْلَغَ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ وَ أَحْصَى إِحْسَانَهُ إِلَيْكُمْ
فَاسْتَفْتِحُوهُ وَ اسْتَنْجِحُوهُ وَ اطْلُبُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَمْنِحُوهُ فَمَا قَطَعَكُمْ عَنْهُ حِجَابٌ وَ لَا أُغْلِقَ عَنْكُمْ دُونَهُ بَابٌ
وَ إِنَّهُ لَبِكُلِّ مَكَانٍ وَ فِي كُلِّ حِينٍ وَ أَوَانٍ وَ مَعَ كُلِّ إِنْسٍ وَ جَانٍّ
لَا يَثْلِمُهُ الْعَطَاءُ وَ لَا يَنْقُصُهُ الْحِبَاءُ وَ لَا يَسْتَنْفِدُهُ سَائِلٌ وَ لَا يَسْتَقْصِيهِ نَائِلٌ
وَ لَا يَلْوِيهِ شَخْصٌ عَنْ شَخْصٍ وَ لَا يُلْهِيهِ صَوْتٌ عَنْ صَوْتٍ وَ لَا تَحْجُزُهُ هِبَةٌ عَنْ سَلْبٍ وَ لَا يَشْغَلُهُ غَضَبٌ عَنْ رَحْمَةٍ وَ لَا تُولِهُهُ رَحْمَةٌ عَنْ عِقَابٍ وَ لَا يُجِنُّهُ الْبُطُونُ عَنِ الظُّهُورِ وَ لَا يَقْطَعُهُ الظُّهُورُ عَنِ الْبُطُونِ
قَرُبَ فَنَأَى وَ عَلَا فَدَنَا وَ ظَهَرَ فَبَطَنَ وَ بَطَنَ فَعَلَنَ وَ دَانَ وَ لَمْ يُدَنْ
لَمْ يَذْرَأِ الْخَلْقَ بِاحْتِيَالٍ وَ لَا اسْتَعَانَ بِهِمْ لِكَلَالٍ
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا الزِّمَامُ وَ الْقِوَامُ
فَتَمَسَّكُوا بِوَثَائِقِهَا وَ اعْتَصِمُوا بِحَقَائِقِهَا تَؤُلْ بِكُمْ إِلَى أَكْنَانِ الدَّعَةِ وَ أَوْطَانِ السَّعَةِ وَ مَعَاقِلِ الْحِرْزِ وَ مَنَازِلِ الْعِزِّ فِي يَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُوَ تُظْلِمُ لَهُ الْأَقْطَارُ وَ تُعَطَّلُ فِيهِ صُرُومُ الْعِشَارِ
وَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَزْهَقُ كُلُّ مُهْجَةٍ وَ تَبْكَمُ كُلُّ لَهْجَةٍ وَ تَذِلُّ الشُّمُّ الشَّوَامِخُ وَ الصُّمُّ الرَّوَاسِخُ فَيَصِيرُ صَلْدُهَا سَرَاباً رَقْرَقاً وَ مَعْهَدُهَا قَاعاً سَمْلَقاً فَلَا شَفِيعٌ يَشْفَعُ وَ لَا حَمِيمٌ يَنْفَعُ وَ لَا مَعْذِرَةٌ تَدْفَعُ
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12
و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الرابعة و التسعون من المختار فى باب الخطب
الحمد للّه الّذي أظهر من آثار سلطانه و جلال كبريائه ما حيّرمقل العيون من عجائب قدرته، و ردع خطرات هماهم النّفوس عن عرفان كنه صفته، و أشهد أن لا إله إلّا اللّه شهادة إيمان و إيقان، و إخلاص و إذعان، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، أرسله و أعلام الهدى دارسة، و مناهج الدّين طامسة، فصدع بالحقّ، و نصح للخلق و هدى إلى الرّشد، و أمر بالقصد صلّى اللّه عليه و آله.
و اعلموا عباد اللّه أنّه لم يخلقكم عبثا، و لم يرسلكم هملا، علم مبلغ نعمه عليكم، و أحصى إحسانه إليكم، فاستفتحوه، و استنجحوه، و اطلبوا إليه، و استمنحوه، فما قطعكم عنه حجاب، و لا أغلق عنكم دونه باب، و إنّه لبكلّ مكان، و في كلّ حين و أوان «زمان خ»، و مع كلّ إنس و جانّ، لا يثلمه العطاء، و لا ينقصه الحباء، و لا يستنفده سائل، و لا يستقصيه نائل، و لا يلويه شخص عن شخص، و لا يلهيه صوت عن صوت، و لا تحجزه هبة عن سلب، و لا يشغله غضب عن رحمة، و لا تولهه رحمة عن عقاب، و لا يجنّه البطون عن الظّهور، و لا يقطعه الظّهور عن البطون، قرب فناى، و علا فدنى، و ظهر فبطن، و بطن فعلن، و دان و لم يدن، لم يذرء الخلق باحتيال و لا استعان بهم لكلال.
أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه، فإنّها الزّمام و القوام، فتمسّكوا بوثائقها، و اعتصموا بحقائقها، تؤل بكم إلى أكنان الدّعة، و أوطان السّعة، و معاقل الحرز، و منازل العزّ، في يوم تشخص فيه الأبصار، و تظلم له الأقطار، و تعطّل فيه صروم العشار، و ينفخ في الصّور فتزهق كلّ مهجة، و تبكم كلّ لهجة، و تذلّ الشّمّ الشّوامخ، و الصّمّ الرّواسخ، فيصير صلدها سرابا رقرقا، و معهدها قاعا سملقا، فلا شفيع يشفع، و لا حميم يدفع، و لا معذرة تنفع.
اللغة
(المقل) جمع مقلة كغرف و غرفة و هى شحمة العين الّتي تجمع سوادها و بيضها و (الهمهمة) الكلام الخفي أو صوت يسمع و لا يفهم محصوله و تردّد الزئير في الصّدر من الهمّ و نحوه، قاله في القاموس أقول: و الزئير مأخوذ من الزئر و هو ترديد الصّوت في الجوف ثمّ مدّه، و يطلق الزئير على صوت الأسد من صدره و على كلّ صوت فيه بحح كصوت الفيلة و نحوها.
و (طمست) الشيء طمسا محوته و طمس هو يتعدّى و لا يتعدّي و طمس الطريق درست و (الجانّ) اسم جمع للجنّ و أبو الجنّ و (استمنحوه) بالنّون من المنحة و هى العطيّة و في بعض النّسخ بالياء يقال استمحت الرّجل طلبت عطاءه و محت الرّجل أعطيته و (الثّلمة) في الحائط و غيره الخلل و الجمع ثلم كغرفة و غرف و (نفد) الشيء ينفد من باب تعب نفادا فنى و انقطع و أنفدته أفنيته و (النّائل)العطاء كالنوال و النّال و (سلبت) ثوب زيد من باب قتل أخذته و السّلب بالتحريك الاختلاس و اسم لما يسلب و منه الحديث من قتل قتيلا فله سلبه.
و قوله (و لا يجنه البطون عن الظهور و لا يقطعه الظهور عن البطون) هكذا في نسخة الشّارح المعتزلي بتذكير الفعلين، و عليها فالبطون و الظهور مصدر بطن و ظهر، و في بعض النّسخ بتأنيثهما و على ذلك فلا بدّ من جعلهما جمعا للبطن و الظهر كما هو مقتضى القواعد الأدبيّة.
و (الدّين) الجزاء و منه الحديث كما تدين تدان أى كما تجازى تجازى بما فعلت و يقال أيضا على القهر و الغلبة قال ابن الأثير: و منه الحديث كان عليّ عليه السّلام ديّان هذه الامّة أى قاهرهم على الطّاعة و في القاموس الدّين الحساب و القهر و الغلبة و الاستعلاء و السّلطان و الملك و الحكم.
و (الكلال) العجز و الاعياء و (الاكنان) جمع كن و هو السّتر يستر من الحرّ و البرد قال تعالى مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً و (المعاقل) جمع معقل و هو الملجأ.
و (الصّروم) إمّا جمع صرمة بالكسر القطعة من الابل ما بين العشرة إلى الأربعين و القطعة من السّحاب و تجمع على صرم مثل سدرة و سدر و إمّا جمع صرم و هى الطّائفة المجتمعة من القوم ينزلون بابلهم ناحية من الماء و يجمع على أصرام مثل حمل و أحمال، أو جمع صرماء و هى النّاقة القليلة اللّبن، و تجمع على صرم وزان قفل و الأخير أظهر.
و (العشار) من الابل النّوق أتى عليها من يوم ارسل الفحل فيها عشرة شهر فزال عنها اسم المخاض و لا يزال ذلك اسمها حتّى تضع، و الواحدة عشراء، و قال الفيروز آبادى و العشراء من النّوق الّتى مضى لحملها عشرة أشهر أو ثمانية أو هى كالنّفساء من النساء و الجمع عشراوات و عشار، أو العشار اسم يقع على النّوق حتّى تنتج بعضها و بعضها ينتظر نتاجها.
(و الشمّ) جمع اشم يقول جبل اشم أى فيه شمم و ارتفاع و رجل اشم أى بأنفه ارتفاع قال في القاموس و (رقرقان) السّراب بالضم ما ترقرق منه أى تحرّك و الرّقراقة التي كان الماء يجرى فى وجهها و (القاع) الأرض السهلة المطمئنة قد انفرجت عنها الجبال و الاكام و (السملق) الصفصف و هى المستوى من الأرض.
الاعراب
قوله و اطلبوا إليه، تعدية الطلب لتضمينة معنى التضرّع، و قوله: تؤل، بالجزم لوقوعه في جواب الأمر كما في نسخة الشارح المعتزلي، و في أكثر النسخ بالرفع و الظاهر أنه على الاستيناف البياني، و قوله: في يوم تشخص، متعلّق بقوله تؤل، و الفاء في قوله: فتزهق، و قوله: فيصير، و قوله: فلا شفيع، كلّها فصيحة.
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة مسوقة للنصح و الموعظة و الأمر بالتقوى مع التنبيه على جملة من صفات الكمال و العظمة و الجلال للّه عزّ و جلّ، و افتتحها بحمده و الثناء عليه و الشهادة بالتوحيد و الرّسالة فقال: (الحمد للّه الذي أظهر) في الملك و الملكوت و الانفس و الافاق و الأرض و السماوات (من آثار سلطانه و جلال كبريائه ما حيّر مقل العيون) و ابصار البصاير (من عجايب قدرته) و بدايع صنعته و قد تقدّم الاشارة إلى بعضها في شرح الخطب المسوقة لهذا الغرض و مرّ فصل واف منها في الخطبة التسعين و شرحها فانظر ما ذا ترى.
و نسبة عجائب القدرة إلى سلطانه و جلال كبريائه لأنّ الاثار العظيمة و المبدعات المحكمة المتقنة إنما يناسب صدورها بالسّلطنة الالهيّة و الجلال الالهى.
(و ردع خطرات هماهم النفوس عن عرفان كنه صفته) أى دفع و منع الافكار و الرّويات التي تخطر بالنفوس و توجب همهمتها عن معرفة كنه صفات جماله و جلاله و يحتمل أن يراد بالهماهم نفس تلك الأفكار على سبيل الاستعارة لتردّدها في الجوف مثل تردّد الهماهم.
و كيف كان فالغرض منه التنبيه على عجز العقول و المشاعر الظاهرة و الباطنة عن إدراك حقيقته و ذاته حسبما عرفته فى شرح الفصل الثاني من الخطبة التسعين و في تضاعيف الشّرح مرارا، و أردف الثّناء عليه تعالى بالشّهادة بتوحيده فقال: (و أشهد أن لا إله إلّا اللّه) و قد مضى الكلام في تحقيق معناها و الأخبار الواردة في فضلها بما لا مزيد عليه في شرح الفصل الثاني من الخطبة الثانية، و وصفها هنا بأوصاف أربعة:
أحدها كونها (شهادة ايمان) أى يطابق القول فيها للعقد القلبي.
(و) ثانيها كونها شهادة (ايقان) أى صادرة عن علم اليقين لا عن وجه التقليد و لا تكون كذلك إلّا باعتقاد أن لا إله إلّا هو مع اعتقاد أنّه لا يمكن أن يكون ذلك المعتقد إلّا كذلك.
(و) ثالثها أن تكون عن (اخلاص) أى جعلها خالصا عن شوب غيره من الرّيا و نحوه و قال الشّارح البحراني: هى أن يحذف عن ذلك المعتقد كلّ أمر عن درجة الاعتبار و لا يلاحظ معه غيره، انتهى و قد مرّ له معنى آخر في الأخبار المتقدّمة في شرح الخطبة الثانية من أنّ إخلاصها أن حجزه لا إله إلّا اللّه عمّا حرّم اللّه.
(و) رابعها أن تكون متلبّسة ب (اذعان) و انقياد لما هو من توابعها و مقتضياتها من التّكاليف و الأحكام.
و أردفها بالشهادة بالرّسالة لما عرفت في الأخبار المتقدّمة في شرح الخطبة الثّانية من فضل المقارنة بينهما فقال: (و أشهد أنّ محمّدا عبده) المرتضى (و رسوله) المصطفى (أرسله) إلى الخلق بالهدى و دين الحقّ على حين فترة من الرّسل و طول هجعة من الامم و انتقاض من المبرم (و) الحال أنّ (أعلام الهدى دارسة) استعارها للأنبياء و المرسلين و أولياء الدّين الّذين يهتدى بأنوارهم في سلوك سبيل اللّه كما يهتدى بالأعلام في الطّرق، و دروسها بما كانت من الفترة بعد عيسى إلى بعثه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (و مناهج الدّين طامسة) أى طرق المعارف الحقّة الالهيّة مندرسة منمحية بطول المدّة و بعد العهد و غلبة الغفلة.
(فصدع بالحقّ) امتثالا لما كان مامورا به بقوله عزّ و جلّ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ و أصل الصّدع عبارة عن كسر الزّجاجة و شقّها و تفريقها، فاستعير عنه للبيان الواضح و التبليغ الكامل، و الجامع التأثّر.
و قد قيل في تفسير الاية: أنّ معناها أبن الأمر إبانة لا تنمحى كما لا يلتئم كسر الزّجاجة، و قيل: أفرق بين الحقّ و الباطل، و قيل: شقّ جماعاتهم بالتّوحيد أو بالقرآن.
(و نصح للخلق) بصرفهم عن الرّدى إلى الهدى و ردّهم عن الجحيم إلى النعيم (و هدى إلى الرّشد) أى إلى الصّواب و السّداد في القول و العمل (و أمر بالقصد) أى بالعدل في الامور المصون عن الافراط و التّفريط، و يحتمل أن يكون المراد به قصد السبيل الموصل إلى الحقّ أى الصّراط المستقيم (صلّى اللّه عليه و آله) و سلّم ثمّ نبّه المخاطبين على عدم كونه تعالى في خلقهم و ايجادهم لاغيا عابثا فقال (و اعلموا عباد اللّه أنّه لم يخلقكم عبثا) تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، و انما خلقكم للمعرفة و العبوديّة كما قال «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ».
(و لم يرسلكم هملا) أى لم يترككم سدى مهملين كالبهائم و الأنعام، و إنّما كلّفكم بالتكاليف و الأحكام (علم مبلغ نعمه) و مقدارها كمّا و كيفا (عليكم و أحصى إحسانه) و فضله (إليكم) ليبلوكم أ تشكرونه أم تكفرون و من شكر فانّما يشكر لنفسه و من كفر فانّه غنىّ كريم (فاستفتحوه) أى اطلبوا منه فتح أبواب النّعم (و استنجحوه) أى اطلبوا منه نجاح عوائد المزيد و القسم (و اطلبوا) منه متضرّعين (إليه) أن يصرف عنكم ما لا يصرفه أحد غيره من عذاب النّار و سخط الجبّار.
(و استمنحوه) أى اطلبوا منه أن يعطيكم ما لا يعطيه أحد غيره من فوز الجنان و رضى الرّحمن، و طلب ذلك كلّه منه سبحانه إنما هو بالقيام بمراسم الحمد و الشكر و بالمواظبة على وظايف الطّاعات و القربات الّتي بها يستعدّ لافاضة الرّحمة و نزول الخيرات، هذا.
و لمّا أمرهم بالطّلب و السّؤال أردفه بما يشوّقهم إلى ذلك و يرغّبهم إليه بالتّنبيه على انتهاء جميع السّؤالات و الطلبات إليه و عدم رادع و مانع من وصولها إليه و هو قوله: (فما قطعكم عنه حجاب و لا اغلق عنكم دونه باب) يعني أنّ بابه مفتوح لمن دعاه و ليس بينه و بين خلقه حجاب مانع و لا باب مغلق يمنع من الوصول إليه و من عرض الحوائج و المقاصد عليه كساير الملوك و السّلاطين يأخذون لأنفسهم حجّابا و بوّابا، لأنّ ذلك من أوصاف الأجسام و صفات النّقص و الامكان و اللّه تعالى موصوف بالعظمة و الجلال منزّه عن الحيّز و المكان فلا يتصوّر أن يكون له باب أو عنده حجاب كما أفصح عن ذلك بقوله: (و انّه لبكلّ مكان) بالعلم و الاحاطة لا بالتحيّز و الحواية، فلا يخفى عليه شيء من حوائج السّائلين و إنّما منظره فى القرب و البعد سواء، لم يبعد منه قريب و لم يقرب منه بعيد، و لا يحويه مكان و لا يحيط به مكان حتّى إذا كان في ذلك المكان يحجب عنه أخبار ساير الأمكنة و المكانيّات.
يوضح ذلك ما رواه في الكافي باسناده عن عيسى بن يونس قال: قال ابن أبي العوجاء لأبي عبد اللّه عليه السّلام في بعض ما كان يحاوره: ذكرت اللّه فأحلت على غايب فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد و اليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم و يرى أشخاصهم و يعلم أسرارهم، فقال ابن أبى العوجاء أ هو في كلّ مكان أ ليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض و إذا كان في الأرض كيف يكون في السماء فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان اشتغل به مكان و خلا منه مكان فلا يدرى في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذى كان فيه، فأما اللّه العظيم الشأن الملك الدّيان فلا يخلو منه مكان و لا يشتغل به مكان و لا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان.
و قد مرّ هذا الحديث في شرح الفصل السادس من الخطبة الاولى و مرّ تحقيق الكلام في تنزّهه سبحانه من المكان في شرح الفصل الخامس منها فليراجع ثمّةفانّ هناك مطالب نفيسة.
و لما نبّه على عدم خلوّ الأمكنة منه عزّ و جلّ أردفه بالتنبّه على عدم خلوّ الأزمنة منه فقال: (و في كلّ حين و زمان) بالعلم و الاحاطة أيضا لا بمعنى ظرفيّته له، لأنّ الكون فيه بمعنى الظرفية مستلزم للحدوث المنافي للوجوب، فالواجب الأوّل تعالى منزّه عن ذلك، و قد تقدّم مزيد تحقيق لذلك في شرح الخطبة المأة و الخامسة و الثمانين (و مع كلّ إنس و جانّ) لا معيّة بالاقتران بل بمعنى كونه عالما بهم شاهدا عليهم غير غايب عنهم كما قال عزّ من قائل «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» و قد مرّ مزيد تحقيق لهذا المعنى في شرح الفصل الخامس و السادس من الخطبة الاولى، هذا.
و لما شوّق المخاطبين إلى الطلب و السؤال بالتنبيه على عموم علمه بحالات السائلين و حاجات الطالبين و عدم خفاء شيء منها عليه أكد تشويقهم بالتنبيه على سعة جوده فقال: (لا يثلمه العطاء و لا ينقصه الحباء) أى لا يوجب كثرة عطائه و مزيد حبائه خللا و نقصا في خزانة كرمه و بحر جوده، و ذلك لعدم تناهى مقدوراته.
و يوضح ذلك ما فى الحديث المرويّ فى الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فلو أنّ أهل سماواتي و أهل أرضي أمّلوا جميعا ثمّ أعطيت كلّ واحد منهم مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرّة، و كيف ينتقص ملك أنا قيّمه، فيا بؤسا للقانطين من رحمتي، و يا بؤسا لمن عصانى و لم يراقبني.
و بذلك الحديث أيضا اتّضح معنى قوله (لا يستنفده سائل و لا يستقصيه نائل) أى لا ينفى جوده سائل و إن بلغ الغاية فى طلبه و سؤاله، و كذا لا يبلغ القصوى و الغاية عطاؤه و نواله بل لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال و ضحكت عنه أصداق البحار من فلزّ اللّجين و العقيان و نثارة الدّر و حصيد المرجان ما أثّر ذلك فى جوده و لاأنفد سعة ما عنده، و لكان عنده من ذخاير الأنعام ما لا تنفده مطالب الأنام، لأنّه الجواد الّذى لا يغيضه سؤال السّائلين، و لا يبخّله إلحاح الملحّين حسبما مرّ في الخطبة التّسعين.
(و لا يلويه) أى لا يصرفه (شخص عن شخص و لا يلهيه) أى لا يشغله (صوت عن صوت) لأنّ الصّرف و اللّهو يستلزمان الغفلة عن أمر و الفطنة لغيره بعد الغفلة عنه و هما من عوارض المزاج الحيواني و توابع الامكان.
(و لا تحجزه هبة عن سلب) أى لا يمنعه البذل و الانعام عن سلب المال و أخذه قال الشّارح المعتزلي: أى ليس كالقادرين منّا فانّ الواحد منّا يصرفه اهتمامه بعطيّة عن سلب مال عمرو حال ما يكون مهتمّا بتلك العطيّة لأنّ اشتغال القلب بأحد الأمرين يشغله عن الاخر، انتهى.
أقول: و محصّله أنّه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، و يحتمل أن يراد به أنّه تعالى لا يمنعه هبته لأحد و إنعامه عليه عن سلب نعمة اخرى عنه كالواحد منّا إذا وهب يمنعه هبته عن سلبه، لاستلزام الهبة فينا التلطف و العطف، و استلزام السلب فينا الغيظ و الغضب، و هما أمران متضادّ ان لا يمكن اجتماعهما في شخص واحد في حالة واحدة، فلا يكون الواهب حال ما هو واهب سالبا و بالعكس، و أمّا الواجب تعالى فلمّا لم يكن منشأ هبته و سلبه العطف و الغضب لكونهما من عوارض المزاج الحيوانى و تنزّهه عنها جاز اتّصافه بهما معا.
و هذان الاحتمالان يأتيان في قوله (و لا يشغله غضب عن رحمة) و المراد بهما غايتهما، أى العقاب و الاحسان لا معناهما المعروف المستلزم للحدوث و النّقصان.
و أمّا قوله (و لا تولهه رحمة عن عقاب) فقد قال الشارح المعتزلي أى لا يحدث الرّحمة لمستحقها عنده ولها و هو التحيّر و التردّد و يصرفه عن عقاب المستحقّ، و ذلك لأنّ الواحد منّا إذا رحم انسانا حدث عنده رقّة خصوصا إذا توالت منه الرّحمة لقوم متعدّدين فانه يصير الرّحمة كالملكة عنده فلا يطيق فى تلك الحال أن ينتقمو البارى سبحانه بخلاف ذلك، لأنّه ليس بذى مزاج سبحانه، هذا.
و قوله (و لا يجنّه البطون عن الظّهور) قد تقدّم منّا في شرح الخطبة التّاسعة و الأربعين و الخطبة الرّابعة و السّتين ما هو كاف في شرح معنى هذه الفقرة و ما يتلوها من الفقرات الاتية إلى قوله: و بطن فعلن.
و أقول هنا مزيدا للتّوضيح: إنّ الغرض بهذه الجملات جميعا التّنبيه على كمال الحقّ المتعال عزّ و جلّ و على تنزّهه من صفات المخلوقين، فانّ البطون في الخلق مانع من الظهور، و الظهور من البطون، و القرب من البعد، و البعد من القرب، و العلوّ من الدّنوّ، و الدّنوّ من العلوّ لكون كلّ من هذه الصّفات بمعناه المعروف مضادا للاخر، فلا يمكن اتّصاف شخص واحد بهما معا في حالة واحدة و لا اجتماعهما في محلّ واحد على ما هو مقتضى التّضادّ.
أمّا اللّه الحىّ القيّوم جلّ جلاله فيتّصف بهما جميعا بمعنى آخر وراء ذلك المعنى المعروف، فهو تعالى ظاهر باطن قريب بعيد عال دان.
و على ذلك فلا يجنّه البطون عن الظهور، أى لا يستره خفاؤه بذاته عن ظهوره باياته، أو لا يستره اختفاؤه عن الأبصار عن ظهوره للعقول و البصاير، أو لا يحجبه خفاؤه عن الأبصار و الأوهام بذاته عن قهره و غلبته للأشياء بسلطانه و قدرته.
و محصّله أنّه ليس بطونه بلطافة أو اجتنان، و لا ظهوره برؤية و عيان حتّى يكون اتّصافه بأحدهما حاجبا و مانعا عن الاخر كما في المخلوق.
و على ما في بعض النّسخ من رواية لا تجنّه بصيغة التّأنيث، فالمراد أنّه لا تستره بواطن الأشياء عن ظواهرها أى لا تحجب علمه بطونها عن ظهورها، لأنّ علمه ببواطن الأشياء ليس على وجه الاستبطان و الغور فيها، و لا علمه بظواهر الأشياء من أجل كونه فوقها حتّى تحجبه البطون عن الظّهور و الظّهور عن البطون كما فينا.
و يحتمل أن يكون المراد أنّه تعالى حين ما هو عالم بالباطن عالم بالظاهر لكمال علمه و عموم إحاطته، و ليس كالمخلوق حين علمه بأحدهما يغفل عن الاخر لنقصان علمه و قصوره.
(و) بذلك كلّه ظهر أيضا معنى قوله: (لا يقطعه الظّهور عن البطون) و أمّا قوله (قرب فنأى) فالمراد به أنّه قرب من الخلق بالعلم و الاحاطة و بالرّحمة و الافاضة، و بعد عنهم بالذّات و الحقيقة و ليس قربه قربا مكانيّا حتّى ينافي لبعده، و لا بعده بعدا مكانيّا بتراخى مسافة حتّى ينافي لقربه.
(و علا فدنا) أى علا بحوله و قدرته و غلبته و سلطانه و دنا بطوله و فضله و مننه و احسانه كما مرّ التصريح به منه عليه السّلام في الخطبة الثّانية و الثمانين، و يجوز أن يراد علوّه على الأشياء بجلاله و عزّته و دنوّه منها بعلمه و احاطته، و أن يراد بالعلوّ العلوّ بالعليّة و بالدّنوّ قربه من الأشياء قرب العلّة من معلولها، و هذا هو الأولى بالارادة هنا و أنسب بعطفه الدّنوّ على العلوّ بالفاء المفيدة لتفريعه عليه فافهم جيّدا و قد مضى تحقيق ذلك في شرح الخطبة التّاسعة و الأربعين.
(و ظهر فبطن) أى ظهر على الأشياء بسلطانه و عظمته، و بطن في الأشياء بعلمه و معرفته (و بطن فعلن) أى خفى بذاته و كنهه و ظهر باثاره و آياته، و هاتان الفقرتان تأكيدتان للفقرتين المتقدّمتين، فانّه لمّا نبّه فيهما على عدم حجب بطونه عن ظهوره و ظهوره عن بطونه نبّه هنا على ما يستلزمه عدم الحجب و هو اتّصافه بهما معا روى في الكافي في باب الفرق بين المعاني الّتي تحت أسماء اللّه تعالى و أسماء المخلوقين عن عليّ بن محمّد مرسلا عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال: قال: و أمّا الظاهر فليس من أجل أنّه علا الأشياء بركوب فوقها و قعود عليها و تسنّم لذراها، و لكن ذلك لقهره و غلبته الأشياء و قدرته عليها، كقول الرّجل ظهرت على أعدائى و أظهرنى اللّه على خصمى، يخبر عن الفلج و الغلبة فهكذا ظهور اللّه على الأشياء، و وجه آخر أنّه الظّاهر لمن أراده و لا يخفى عليه شيء و أنّه مدبّر لكلّ ما برء فأىّ ظاهر أظهر و أوضح من اللّه تبارك و تعالى، لأنّك لا تعدم صنعته حيثما توجّهت و فيك من آثاره ما يغنيك، و الظّاهر منّا البارز بنفسه و المعلوم بحدّه فقد جمعنا الاسم و لم يجمعنا المعنى.
و أمّا الباطن فليس على معنى الاستبطان في الأشياء بأن يغور فيها، و لكن ذلك منه على استبطانه للأشياء علما و حفظا و تدبيرا كقول القائل أبطنته يعني خبرته و علمت مكتوم سرّه، و الباطن منّا الغايب في الشيء المستتر و قد جمعنا الاسم و اختلف المعنى.
(و) أمّا قوله (دان و لم يدن) فأراد به أنّه جزى العباد بأعمالهم إن خيرا فخيرا و إن شرّا فشرّا، و لم يجز، أو أنّه حاسب و لم يحاسب، أو أنّه استعلا عليهم و لم يستعل عليه، أو أنّه تسلّط على كلّ ما سواه و لم يسلّط عليه، أو أنّه ملك جميع الخلايق و لم يملك، أو أنّه قهر الكلّ و غلبهم بافتقار الكلّ إليه و استغنائه عنهم و لم يقهر عليه.
قال الرّضا عليه السّلام في الحديث الّذى قدّمناه آنفا: و أما القاهر فانّه ليس على معنى علاج و نصب «و تصلّب خ» و احتيال و مداراة و مكر كما يقهر العباد بعضهم بعضا و المقهور منهم يعود قاهرا و القاهر يكون مقهورا، و لكن ذلك من اللّه عزّ و جلّ على أنّ جميع ما خلق ملبس به الذّل لفاعله و قلّة الامتناع لما أراد به لم يخرج منه طرفة عين أن يقول له كن فيكون، و القاهر منّا على ما ذكرت و وصفت فقد جمعنا الاسم و اختلف المعنى.
(لم يذرء الخلق باحتيال) أى لم يخلقهم باستخراج وجوه الحيل و إجالة الرّأى و الفكر في استخراجها كما هو شأن البشر في صنعهم، و ذلك لأنّ الفكرة و الحركة القلبية مختصّة بذوى الضمائر، و جلال البارى تعالى شأنه منزّه عنه و إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
(و لا استعان بهم لكلال) أى لعجز و اعياء، لأنّ منشأ الاعياء تناهي القوّة الجسمية المخصوصة بذوى الأجسام، و طلب العون و الحاجة إلى المعين من ضعف القدرة، و إذ لا ضعف و لا عجز لكمال ذاته سبحانه قوّة و قدرة فلا يتصوّر في حقه الاستعانة.
و لما فرغ من تمجيد الحقّ المتعال بما هو أهله و تنزيهه عن صفات النقصو الافتقار أردفه بالايصاء بما لا يزال يوصى به فقال: (اوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه فانها الزّمام) للانسان المانع له عن تقحّم المهالك الجاذب إلى أقوم المسالك و الصارف له عن الرّدى إلى الهدى و عن الجحيم إلى النعيم كما أنّ الزّمام للخيل مانع لها عن اقتحام الهلكات و تورّط الورطات (و) هي أيضا (القوام) أى قوام الدّين و نظام وظايف الشرع المبين.
(فتمسكوا بوثائقها) أى بعريها الوثيقة و حبالها المحكمة من الطاعات و القربات التي هي جزؤها.
(و اعتصموا بحقايقها) أى باصولها الثابتة الموافقة للواقع و المطابقة لغرض الشارع.
و أشار إلى ثمرة التمسك و الاعتصام بها بقوله (تؤل بكم) أى ترجعكم و تقودكم (إلى أكنان الدّعة) و مواطن الرّاحة متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا، و دانية عليهم ظلالها و ذللت قطوفها تذليلا.
(و أوطان السعة) أى جنة عرضها السموات و الأرض مع عيش سعيد و أكل رغيد، فالدّاخل فيها في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية.
(و معاقل الحرز) المانعة من عذاب النار و من غضب الجبار و ظلّ ذى ثلاث شعب لا ظليل و لا يغنى من اللّهب.
(و منازل العزّ) أى حظاير القدس و مجالس الانس مع النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين من السادة الأبرار و القادة الأخيار في جنات تجرى من تحتها الأنهار، و إذا رأيت ثمّ رأيت نعيما و ملكا كبيرا عاليهم ثياب سندس خضر و استبرق و حلّوا أساور من فضّة و سقيهم ربّهم شرابا طهورا، إنّ هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا و لما أوصى بالتقوى و أمر بالتمسك و الاعتصام بها و رغّب فيها بالتنبيه على مالها من المنفعة العظيمة و هى إرجاعها إلى جنّة النعيم أكّد ذلك الترغيب بانجائها من الهول العظيم و أشار إلى ذلك بقوله.
(في يوم) أى اعتصموا بالتقوى تؤل بكم إلى مساكن الأمن و العزّ و السعة و الراحة في يوم القيامة و ما أعظم شدايدها و أهوالها، و قد زلزلت الأرض فيها زلزالها و أخرجت الارض أثقالها و قال الانسان ما لها.
(تشخص فيه الأبصار و تظلم له الأقطار) أما شخوص الأبصار في ذلك اليوم فهو نصّ الكتاب الكريم قال تعالى فى سورة إبراهيم وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ. مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ.
قال الطبرسيّ: معناه إنما يؤخّر عقابهم إلى يوم القيامة و هو اليوم الذي تكون الابصار فيه شاخصة عن مواضعها لا تغمض لهول ما ترى في ذلك اليوم و لا تطرف، و قيل تشخص أبصارهم إلى إجابة الدّاعي حين يدعوهم، و قيل: تبقى أبصارهم مفتوحة لا تنطبق للتحير و الرّعب.
مهطعين أى مسرعين، و قيل: يريد دائمى النظر إلى ما يرون لا يطرفون.
مقنعى رؤسهم، أى رافعى رؤوسهم إلى السماء حتى لا يرى الرّجل مكان قدمه من شدّة رفع الرّأس، و ذلك من هول يوم القيامة.
لا يرتدّ إليهم طرفهم، أى لا يرجع إليهم أعينهم و لا يطبقونها و لا يغمضونها، و إنما هو نظر دائم.
و أما ظلمة الاقطار فقد اشير إليها و إلى ما تقدّم أيضا في قوله تعالى فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَ خَسَفَ الْقَمَرُ وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ.
في الصّافي عن القمّي قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف و قرء بفتح الرّاء و هو لغة، أو من البريق من شدّة شخوصه، و خسف القمر ذهب ضوءه و نوره، و جمع الشّمس و القمر قال الطبرسيّ: أى جمع بينهما في ذهاب ضوئهما بالخسوف ليتكامل ظلام الأرض على أهلها حتّى يراهما كلّ أحد بغير نور و ضياء.
و في الصّافي من الاحتجاج عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه سئل عن قوله «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» و قيل له: فأين النّاس يومئذ فقال: في الظلمة دون المحشر.
(و تعطل فيه صروم العشار) قد مرّ تفسيرهما في بيان اللّغة، و قد صرّح بتعطيلها و اشير إلى ظلمة الأقطار كليهما في قوله تعالى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ. وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ قال أمين الاسلام الطبرسيّ: أخبر اللّه سبحانه عن القيامة و شدائدها فقال: إذا الشّمس كوّرت، أى ذهب ضوءها و نورها فاظلمت و اضمحلّت، و إذا النّجوم انكدرت، أى تساقطت و تناثرت، و إذا الجبال سيّرت، عن وجه الأرض فصارت هباء منبثّا، و إذا العشار عطلت، أى النّوق الحوامل الّتي أتت عليها عشرة أشهر، و هو أنفس مال عند العرب تركت هملا بلا راع، هذا.
و لمّا ذكر جملة من أوصاف يوم القيامة و أهاويلها تحذيرا منها أردفها بذكر نفخ الصّور الذى هو من أشراط الساعة و علاماتها الدّالة على قربها تهويلا به أيضا فقال: (و ينفخ في الصّور) و قد مضى شرح وصفه و تفصيل كيفيّة النفخ فيه في شرح الفصل الثّالث من الخطبة الثّانية و الثمانين بما لا مزيد عليه.
و أراد به النّفعة الاولى كما يدلّ عليه قوله: (فتزهق كلّ مهجة و تبكم كلّ لهجة) أى تضمحلّ و تهلك كلّ قلب و تخرس كلّ لسان، و هو كناية عن هلاك العموم، و قد اشير إليه في قوله تعالى وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ.
و يدلّ عليه أيضا قوله (و تذلّ الشّم الشّوامخ) أى الجبال الرّاسيات الشّامخات العاليات (و الصّم الرّواسخ) أى الثابتات المحكمات الرّاسيات و أراد بذلّتها دكّ بعضها بعضا من هيبة جلاله عزّ و جلّ و مخوف سلطنته.
و قد اشير إلى ذلك في قوله تعالى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ.. وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. قال السيّد المحدّث الجزائرى: إنّ النفخة الاولى الّتي هى للهلاك تأتىالنّاس بغتة و هم في أسواقهم و طلب معايشهم، فاذا سمعوا صوت الصّور تقطعت قلوبهم و أكبادهم من شدّته فيموتوا دفعة واحدة، فيبقى الجبّار جلّ جلاله فيأمر عاصفة فتقطع الجبال من أماكنها و تلقيها في البحار، و تفور مياه البحار و كلّما في الأرض و تسطح الأرض كلّها للحساب، فلا يبقى جبل و لا شجر و لا بحر و لا وهدة و لا تلعة، فتكون أرضا بيضاء حتّى أنّه روي لو وضعت بيضة في المشرق رأيت في المغرب.
و إلى ذلك أشار بقوله (فيصير صلدها سرابا رقرقا) أى يصير صلبها مثل السّراب المترقرق المتحرّك.
(و معهدها قاعا سملقا) أى ما كان منها معهدا للنّاس و منزلا لهم أرضا خالية صفصفا مستوية ليس للجبل فيها أثر.
و قد اشير إلى هذين في قوله تعالى وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً و في قوله وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا و قوله يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا و قد مضى تفسير هذه الايات و جملة ممّا ينفع في هذا المقام في شرح الفصل الثالث من الخطبة المأة و الثامنة، هذا.
و لمّا ذكر جملة من أهوال يوم القيامة و أفزاعها و شدائدها رتّب على ذلك قوله (فلا شفيع يشفع و لا حميم يدفع و لا معذرة تنفع) تنبيها بذلك على أنه لا ملجأ من أهاويلها و لا منجا ترغيبا به على ملازمة التقوى الّتي هى الغرض الأصلى من سوق هذا الفصل و النتيجة لتمهيد تلك المقدّمات لأنّها المعاذ و الملاذ و الملجاء و المنجا من هذه الأهاويل القائدة للاخذ بها و الملازم عليها إلى أكنان الدّعة و أوطان السّعة و غرفات الجنان و منازل الرّضوان كما قال تعالى وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ و قد اشير إلى عدم الشفيع و الحميم في قوله تعالى في سورة الشعرا يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَ بُرِّزَتِ. الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ إلى قوله حكاية عن الغاوين فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ
قال أمين الاسلام الطبرسيّ: أى لا ينفع المال و البنون أحدا إذ لا يتهيّأ لذى مال أن يفتدى من شدائد ذلك اليوم به، و لا يتحمّل من صاحب البنين بنوه شيئا من معاصيه إلّا من أتى اللّه بقلب سليم من الشّرك و الشكّ.
و روى عن الصادق عليه السّلام أنه قال: هو القلب الذى سلم من حبّ الدّنيا، و يؤيّده قول النبي صلّى اللّه عليه و آله: حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة.
و ازلفت الجنّة للمتقين أى قربت لهم ليدخلوها، و برّزت الجحيم للغاوين.
أى أظهرت و كشف الغطاء عنها للضالين عن طريق الحقّ و الصواب.
ثمّ أظهر الغاوون الحسرة فقالوا: فما لنا من شافعين يشفعون لنا و يسألون فى أمرنا، و لا صديق حميم أى ذى قرابة يهمّه أمرنا أى ما لنا شفيع من الأباعد و لا صديق من الأقارب، و ذلك حين يشفع الملائكة و النّبيون و المؤمنون.
و اشير إلى عدم نفع المعذرة فى سورة الرّوم بقوله «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» أى لا ينفع الظالمين اعتذارهم لعدم تمكنهم من الاعتذار، و لو اعتذروا لم يقبل عذرهم و لا يطلب منهم الاعتاب و الرّجوع إلى الحقّ، و فى سورة المؤمن «يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» أى ان اعتذروا من كفرهم لم يقبل منهم و إن تابوا لم ينفعهم التّوبة.
قال الطبرسىّ: و انما نفى أن ينفعهم المعذرة فى الاخرة مع كونها نافعة فى دار الدّنيا، لأنّ الاخرة دار الالجاء إلى العمل و الملجأ غير محمود على العمل الذى الجأ اليه، و لهم اللعنة و البعد من الرّحمة، و لهم سوء الدّار جهنّم و بئس القرار، نعوذ باللّه من غضب الجبار.
بشارة
اعلم أنّ ظاهر قوله: فلا شفيع يشفع و لا حميم يدفع، عموم انتفاء الانتفاع بالشفيع و الحميم يوم القيامة على ما هو مقتضى القاعدة الاصولية المقرّرة من إفادة النّكرة في سياق النفى للعموم، لكن الأدلة القاطعة من الكتاب و السّنة قد قامت على التخصيص أمّا القرابة فقد ورد في الأخبار الكثيرة المستفيضة أنّ كلّ سبب و نسب منقطع يوم القيامة إلّا سبب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نسبه.
و أمّا الشفاعة فلا خلاف بين علماء الاسلام بل صار من ضرورىّ دين سيّد الأنام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشفع يوم القيامة لامّته بل لساير الامم أيضا.
و إنّما الخلاف في أنّ الشّفاعة هل هى لطلب مزيد الأجر و جلب زيادة المنفعة فمختصّة بالمؤمنين المطيعين المستحقّين للثّواب فقط، أو لدفع مضرّة العقوبة أيضا فتعمّ المجرمين المستحقّين للعقاب.
فأكثر العامّة على عدم اختصاصها بأحد الفريقين، و ذهب الخوارج و الوعيديّة من المعتزلة إلى اختصاصها بالفرقة الاولى.
و الذى ذهبت إليه أصحابنا الاماميّة رضوان اللّه عليهم من دون خلاف بينهم هو عدم الاختصاص، و قالوا: إنّه تنال الشفاعة للمذنبين من الشيعة و لو كان من أهل الكباير و الذى دلت عليه أخبارهم أيضا عدم اختصاص الشفيع برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل الأئمّة الهداة من ذرّيته و كذا ابنته الصّديقة الكبرى سلام اللّه عليها و عليهم تترى أيضا شفعاء دار البقاء بل المستفاد من بعض الأخبار أنّ علماء الشّيعة و الصالحين منهم أيضا يشفعون.
إذا عرفت ذلك فلا بأس بايراد بعض الايات و الأخبار الواردة في هذا الباب فأقول: قال أمين الاسلام في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً معناه يقيمك ربك مقاما محمودا يحمدك فيه الأَوّلون و الاخرون، و هو مقام الشّفاعة تشرف فيه على جميع الخلايق تسأل فتعطى و تشفع فتشفع.
و قد أجمع المفسّرون على أنّ المقام المحمود هو مقام الشّفاعة، و هو المقام الذى يشفع فيه للنّاس، و هو المقام الذى يعطى فيه لواء الحمد فيوضع في كفّه و يجتمع تحته الأنبياء و الملائكة فيكون أوّل شافع و أوّل مشفّع.
و قال عليّ بن إبراهيم في تفسير هذه الاية: حدّثنى أبي عن الحسن بن محبوب عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألتهعن شفاعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة قال يلجم الناس يوم القيامة بالعرق فيقولون انطلقوا بنا إلى آدم عليه السّلام يشفع لنا، فيأتون آدم عليه السّلام، فيقولون اشفع لنا عند ربك فيقول: إنّ لى ذنبا و خطيئة فعليكم بنوح عليه السّلام، فيأتون نوحا فيردهم إلى من يليه، و يردّهم كلّ نبيّ إلى من يليه حتّى ينتهوا إلى عيسى عليه السّلام فيقول: عليكم بمحمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيعرضون أنفسهم عليه و يسألونه فيقول: انطلقوا فينطلق بهم إلى باب الجنّة و يستقبل باب الرّحمن و يخرّ ساجدا فيمكث ما شاء اللّه فيقول اللّه: ارفع رأسك و اشفع تشفّع و سل تعط، و ذلك قول اللّه عزّ و جل عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
و روى عليّ بن إبراهيم أيضا عن أبيه عن محمّد بن أبي عمير عن معاوية و هشام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في أبي و امّى و عمّي و أخ كان لى في الجاهليّة.
و فى الصافى عن العياشي عن أحدهما عليهما السّلام في هذه الاية قال: هى الشّفاعة.
و فيه عن روضة الواعظين عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: هو المقام الذى أشفع لامّتي.
قال و قال صلّى اللّه عليه و آله إذا قمت المقام المحمود تشفّعت في أصحاب الكباير من امّتي فيشفعنى اللّه فيهم، و اللّه لا تشفعت فيمن أذى ذرّيتى و قال الطبرسيّ في قوله تعالى وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ إنّه لا تنفع الشّفاعة عند اللّه إلّا لمن رضيه اللّه و ارتضاه و أذن له في الشفاعة مثل الملائكة و الأنبياء و الأولياء، و يجوز أن يكون المعنى إلّا لمن أذن اللّه في أن يشفع له فيكون مثل قوله وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى و إنّما قال سبحانه ذلك، لأنّ الكفار كانوا يقولون نعبدهم ليقرّبونا إلى اللّه زلفى و هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه، فحكم اللّه ببطلان اعتقاداتهم.
و فى تفسير علىّ بن إبراهيم في هذه الاية قال: لا يشفع أحد من أنبياء اللّه و رسله يوم القيامة حتّى يأذن اللّه له إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانّ اللّه قد أذن له الشّفاعة من قبل يوم القيامة و الشفاعة له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و للأئمة من ولده، ثمّ بعد ذلك للأنبياء صلواتاللّه عليهم و على محمّد و آله قال: حدّثنى أبي عن ابن أبى عمير عن معاوية بن عمّار عن أبي العبّاس المكبّر قال: دخل مولى لامرأة عليّ بن الحسين عليهما السّلام على أبي جعفر عليه السّلام يقال له أبو أيمن فقال: يا أبا جعفر تغترّون الناس و تقولون شفاعة محمّد شفاعة محمّد، فغضب أبو جعفر عليه السّلام حتّى تربد وجهه ثمّ قال: ويحك يا أبا أيمن أغرّك أن عفّ بطنك و فرجك أما لو قد رأيت أفزاع القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و يلك فهل يشفع إلّا لمن وجبت له النّار، ثمّ قال: ما أحد من الأوّلين و الاخرين إلّا و هو محتاج إلى شفاعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة ثمّ قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الشفاعة في امّته و لنا شفاعة في شيعتنا، و لشيعتنا شفاعة في أهاليهم، ثمّ قال عليه السّلام: و إنّ المؤمن ليشفع في مثل ربيعة و مضر، و إنّ المؤمن ليشفع حتّى لخادمه و يقول: يا ربّ حقّ خدمتى كان يقينى الحرّ و البرد.
و قال الطبرسيّ فى قوله عزّ و جلّ لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أى لا يقدرون على الشفاعة فلا يشفعون و لا يشفع لهم حين يشفع أهل الايمان بعضهم لبعض، لأنّ تلك الشفاعة على وجهين: أحدهما أن يشفع للغير، و الاخر أن يستدعى الشفاعة من غيره لنفسه، فبيّن سبحانه أنّ هؤلاء الكفار لا تنفذ شفاعتهم لغيرهم و لا شفاعة لهم لغيرهم، ثمّ استثنى سبحانه فقال: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً، أى لا يملك الشفاعة إلّا هؤلاء، و قيل: لا يشفع إلّا لهؤلاء و العهد هو الايمان و الاقرار بوحدانيّة اللّه تعالى و تصديق أنبيائه، و قيل: هو شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أن يتبرّء إلى اللّه من الحول و القوّة و لا يرجو إلّا اللّه.
و فى الصافى من الكافي عن الصادق عليه السّلام إلّا من دان اللّه بولاية أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام من بعده فهو العهد عند اللّه.
و فيه من الجوامع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال لأصحابه ذات يوم:
أ يعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح و مساء عند اللّه عهدا قالوا: و كيف ذاك قال: يقول: اللّهمّ فاطر السّموات و الأرض عالم الغيب و الشّهادة إني أعهد إليك بأنّى أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك و أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبدك و رسولك و أنّك إن تكلني إلى نفسى تقربنى من الشرّ و تباعدنى من الخير، و أنّى لا أثق إلّا برحمتك، فاجعل لى عندك عهدا توفينه يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد، فاذا قال ذلك طبع عليه بطابع وضع تحت العرش، فاذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند اللّه عهد فيدخلون الجنّة.
و قال الطبرسيّ في قوله تعالى فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ في الخبر المأثور عن جابر بن عبد اللّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إنّ الرّجل يقول في الجنّة ما فعل صديقى و صديقه في الجحيم، فيقول اللّه تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنّة، فيقول من بقى في النّار: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم.
و قال و روى العياشيّ عن حمران بن أعين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا، و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا، و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا حتّى يقول النّاس: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم فلو أنّ لنا كرّة فنكون من المؤمنين، و في رواية اخرى حتّى يقول عدوّنا.
و عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته فيشفع فيهم حتّى يبقى خادمه فيقول و يرفع سبّا بتيه: يا ربّ خويدمى كان يقيني الحرّ و البرد، فيشفع فيه.
و فى الصافى من المحاسن عن الصادق عليه السّلام الشّافعون الأئمّة و الصّديق من المؤمنين، و اللّه لنشفعنّ من المذنبين في شيعتنا حتّى يقول أعداؤنا إذا رأوا ذلك: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم.
و فيه من الكافي عن الباقر عليه السّلام و انّ الشّفاعة لمقبولة و لا تقبل في ناصب، و إنّ المؤمن ليشفع في جاره و ما له حسنة فيقول: يا ربّ جارى كان يكفّ عنّى الأذى فيشفع فيه فيقول اللّه تبارك و تعالى: أنا ربّك و أنا أحقّ من كافي عنك فيدخله اللّه الجنّة و ماله حسنة، و إنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنسانا فعند ذلك يقول أهل النار: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم و لنقتصر بذلك في هذا المقام و نسأل اللّه سبحانه بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله الكرام عليهم السّلام أن يثبتنا على القول الثّابت في الحياة الدّنيا، و أن يخرجنا منها إلى الدّار الأخرى بموالاة أئمّة الهدى، و أن لا يحرمنا من شفاعتهم الكبرى يوم لا ينفع مال و لا بنون و لا يدفع صديق حميم إلّا من أتى اللّه بقلب سليم، إنّه الغفور الرحيم ذو الفضل العظيم.
الترجمة
از جمله خطب شريفه آن بزرگوار است در حمد و ثناى إلهى و وصيّت به تقوى و پرهيزكارى مى فرمايد: سپاس خدا راست آن چنان خدائى كه آشكار كرد از آثار پادشاهى خود و بزرگى بزرگوارى خود آن چيزى را كه متحيّر گردانيد ديدهاى عقلها را از مقدورات عجيبه خود، و دفع نمود خطورات فكرهاى نفسها را از شناسائى حقيقت صفت خود و شهادت مى دهم باين كه معبود بحقى نيست مگر خدا شهادتى از روى اعتقاد جازم ثابت خالص از شوب ريا ملازم طاعات و عبادات، و شهادت مى دهم كه محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنده خالص اوست و پيغمبر اوست فرستاد او را در حالتى كه نشانهاى هدايت مندرس بود، و راههاى دين محو شده بود، پس آشكار كرد حق را و نصيحت كرد خلق را و هدايت نمود براه راست، و امر نمود بعدل و قسط، صلوات خدا بر او و بر أولاد او باد.
و بدانيد اى بندگان خدا كه بتحقيق خدا خلق نفرموده شما را عبث و بى فايده و رها نكرده شما را سر خود، دانسته است مقدار نعمتهاى خود را بر شما، و شمرده است انعام خود را بر شما، پس طلب فتح و نصرت كنيد از او و طلب فوز بمقصود نمائيد از او، و متوجّه شويد بسوى او در مطالب، و طلب بخشش او كنيد، پسنبريده است شما را از او پرده، و بسته نشده است از شما نزد او هيچ درى، و بدرستى كه او در هر مكان و در هر وقت و زمان حاضر، و با هر انسان و جانّ مصاحب.
صدمه نمى رساند كرم او را بخشش و عطا، و نقصان نمى رساند خزانه احسان او را كرم او، و تمام نمى نمايد بحر عطاى او را هيچ سؤال كننده، و بپايان نمى رساند نعمتهاى او را هيچ عطيه، پيچيده نمى نمايد او را شخصى از شخصى، و مشغول نمى گرداند او را آوازى از آوازى، و مانع نمى شود او را بخششى از ربودنى، و رو گردان نمى سازد او را غضبى از رحمتى، و حيران نمى گرداند او را رأفتى از عذابى، و پنهان نمى دارد پنهانى ذات او از آشكارى آثار او، و منقطع نمى سازد ظهور آثار او از خفاء ذات او، نزديك شد بمخلوقات با علم و قيوميّت پس دور شد از ايشان بحسب ذات، و بلند شد بهمه چيز با استيلا و سلطنت پس نزديك شد بايشان با علم و احاطه و ظاهر شد پس از كثرت ظهور خفا بهم رساند، و مخفى گشت پس در خفايش آشكار گرديد، و لنعم ما قيل:
از همه كان بى نياز و بر همه مشفق و ز همه عالم نهان و بر همه پيدا
و جزا داد بهمه عباد و جزا داده نشد، و خلق نفرمود خلق را با جولان فكر و تدبير، و طلب اعانت نجست از ايشان بجهت عجز و ضعفى.
وصيّت مي كنم شما را اى بندگان خدا بتقوى و پرهيزكارى خدا پس بدرستى كه آن تقوى افساريست مانع از دخول هلاكتها، و قوام دين شما با اوست، پس بچسبيد بريسمانهاى محكم او، و چنك بزنيد بحقيقتهاى آن يعنى اعتقادات حقه يقينيه كه راجع مى سازد شما را بمكانهاى راحت و وطنهاى با وسعت و حصارهاى محكم و منزلهاى عزت در روزى كه شاخص مى شود در آن ديدها، و تاريك مى شود بسبب شدت آن روز اطراف عالم، و معطل و بى صاحب مى ماند در آن روز شتران كم شير كه از مدت حمل او ده ماه گذشته باشد و نزديك بزائيدن شود.
و دميده شود در صور اسرافيل پس مضمحل و هلاك مى شود هر قلب، و لال مى شود هر زبان، و ذليل مى شود كوههاى بلند بالا و سنگهاى سخت محكم پس مى گردد سنگهاى صلب آنها مثل سراب متحرّك، و قرارگاههاى آنها زمين خالى هموار بى بلند و پست، پس نباشد شفيعى كه شفاعت نمايد، و نه خويشى كه دفع عذاب كند و نه عذرى كه منفعت بخشد.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»