خطبه 192 صبحی صالح
192- و من خطبة له ( عليه السلام ) تسمى القاصعة و هي تتضمن ذم إبليس لعنه اللّه، على استكباره و تركه السجود لآدم ( عليه السلام )، و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية، و تحذير الناس من سلوك طريقته.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْكِبْرِيَاءَ وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَخَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ
رأس العصيان
وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ
ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ
فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ
اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ
أَ لَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً
ابتلاء اللّه لخلقه
وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ
وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِوَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ
طلب العبرة
فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ
فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً
إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ
التحذير من الشيطان
فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ وَ أَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ
فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَ قَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَقَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيبٍ
صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِوَ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ
اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ
وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ
فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ
فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ
لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ
فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ
وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَوَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجِلًا وَ فُرْسَاناً
وَ لَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ
وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
التحذير من الكبر
أَلَا وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ
فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلَالَتِهِ
ذُلُلًا عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ
التحذير من طاعة الكبراء
أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَ أَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْوَ جَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لِآلَائِهِ
فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً وَ لَا تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ
وَ هُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ
اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ
العبرة بالماضين
فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ
وَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ
فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ أَوْلِيَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ
فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ كَانُوا قَوْماً
مُسْتَضْعَفِينَ قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ
فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَى وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ وَ الِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الِاقْتِدَارِ
فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ
تواضع الأنبياء
وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ( عليهماالسلام )عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامَ عِزِّهِ
فَقَالَ أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَ بَقَاءَ الْمُلْكِ وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ
وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُوَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا
وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى
وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ وَ أَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ
وَ لَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً
وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ
وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ
الكعبة المقدسة
أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ( صلوات الله عليه )إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَا تُبْصِرُ وَ لَا تَسْمَعُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً
ثُمَ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً وَ أَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ
ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ( عليهالسلام )وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ
مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلًا يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ
قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ ابْتِلَاءً عَظِيماً وَ امْتِحَاناً شَدِيداً وَ اخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ
وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى
بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ وَ رِيَاضٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ
وَ لَوْ كَانَ الْإِسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ
لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ
وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ
عود إلى التحذير
فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ
فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لَا تُشْوِي أَحَداً لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ
وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ
وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ
فضائل الفرائض
انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ
وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلَاءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ
عصبية المال
وَ أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ فَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ
وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ وَ الْآثَارِ الْمَحْمُودَةِ
فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْكَظْمِ لِلْغَيْظِوَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ
وَ احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ الْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَ احْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ
وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَ مُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَ انْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَ التَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ التَّوَاصِي بِهَا
وَ اجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَيْدِي
وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَ الْبَلَاءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا
اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَ جَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ الْغَلَبَةِ لَا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ وَ لَا سَبِيلًا إِلَى دِفَاعٍ
حَتَّى إِذَا رَأَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ وَ الْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ
فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلَاماً وَ قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْمَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً وَ الْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَ الْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ السُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَ الْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ الْعَزَائِمُ وَاحِدَةً
أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ
فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ وَ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ
وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ
الاعتبار بالأمم
فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( عليهمالسلام )فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَ الْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ
يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الْآفَاقِ وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ وَ خُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ وَ مَهَافِي الرِّيحِ وَ نَكَدِ الْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً
لَا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍيَعْتَصِمُونَ بِهَا وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا
فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ الْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ وَ الْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي بَلَاءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ
النعمة برسول اللّه
فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ
كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ
قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ
فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ
لوم العصاة
أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَعَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ
وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ الْمُوَالَاةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ
تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ
وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلُ وَ لَا مِيكَائِيلُ وَ لَا مُهَاجِرُونَ وَ لَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ
وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي
أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلَامِ وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ
أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ النَّكْثِ وَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ
فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ وَ أَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ
وَ أَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ لَئِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً
فضل الوحي
أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ
وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله )بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ
وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ
وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ ( صلى الله عليه وآله )مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ
وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ
وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ
فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله )وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ
وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ( صلى الله عليه وآله )فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ
إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ( صلى الله عليه وآله )لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ
وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ
فَقَالَ ( صلى الله عليه وآله )وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ( صلى الله عليه وآله ) إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌفَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ قَالُوا نَعَمْ
قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ وَ إِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ
ثُمَّ قَالَ ( صلى الله عليه وآله )يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ
فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْبِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله )مُرَفْرِفَةً
وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله )وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ( صلى الله عليه وآله )
فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله )
فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ فَأَمَرَهُ ( صلى الله عليه وآله )فَرَجَعَ
فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ
فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي
وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وَ كَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ
لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لَا يَعْلُونَ وَ لَا يَغُلُّونَ وَ لَا يُفْسِدُونَ قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12
و من خطبة له عليه السّلام تسمى بالقاصعة و هى المأة و الحادية و التسعون من المختار فى باب الخطب
الجزء الثاني عشر
الفصل التاسع
و لقد كنت معه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أتاه الملاء من قريش، فقالوا له: يا محمّد إنّك قد إدّعيت عظيما لم يدّعه آباؤك و لا أحد من بيتك و نحن نسئلك أمرا إن أجبتنا إليه و أريتناه علمنا أنّك نبيّ و رسول و إن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم: و ما تسئلون قالوا: تدع لنا هذه الشّجرة حتّى تنقلع بعروقها و تقف بين يديك فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه على كلّ شيء قدير فإن فعل اللّه ذلك بكم أ تؤمنون و تشهدون بالحقّ قالوا: نعم. قال: فإنّي ساريكم ما تطلبون، و إنّى لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير، و أنّ فيكم من يطرح في القليب، و من يحزّب الأحزاب. ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أيّتها الشّجرة إن كنت تؤمنين باللّه و اليوم الاخر و تعلمين أنّي رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتّى تقفى بين يديّ بإذن اللّه. و الّذي بعثه بالحقّ لانقلعت بعروقها و جاءت و لها دويّ شديد و قصف كقصيف أجنحة الطّير، حتّى وقفت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرفرفة، و ألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ببعض أغصانها على منكبي، و كنت عن يمينه صلّى اللّه عليه و آله. فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّا و استكبارا: فمرها فليأتك نصفها و يبقى نصفها، فأمرها بذلك، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال و أشدّه دويّا، فكادت تلتفّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالوا كفرا و عتوّا فمر هذا النّصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فرجع. فقلت أنا: لا إله إلّا اللّه فإنّي أوّل مؤمن بك يا رسول اللّه و أوّل من أقرّ بأنّ الشّجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تعالى، تصديقا لنبوّتك و إجلالا لكلمتك، و قال القوم كلّهم: بل ساحر كذّاب عجيب السّحر خفيف فيه و هل يصدّقك في أمرك إلّا مثل هذا- يعنونني و إنّي لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم، سيماهم سيما الصّدّيقين، و كلامهم كلام الأبرار، عمّار اللّيل، و منار النّهار، متمسّكون بحبل القرآن، يحيون سنن اللّه و سنن رسوله لا يستكبرون، و لا يعلون، و لا يغلوّن، و لا يفسدون، قلوبهم في الجنان، و أجسادهم في العمل.
اللغة
(القليب) البئر يذكّر و يؤنّث أو العاديّة القديمة منها و (الأحزاب) جمع الحزب الطائفة و جماعة الناس و تحزّبوا صاروا أحزابا و حزّبتهم تحزيبا جعلتهم حزبا حزبا و (القصف و القصيف) الصوت، و في بعض النسخ قصف كقصف أجنحة الطير، و الجميع بمعنى واحد و (رفرف) الطائر بجناحيه إذا بسطهما عند السقوط على شيء يحوم عليه ليقع فوقه (و السّيما) بالقصر و المدّ العلامة و (غلّ) يغلّ من باب قعد غلولا إذا خان في الغنيمة كأغلّ أو مطلق الخيانة و غلّ غلّا من باب ضرب أى حقد حقدا.
الاعراب
قوله: مرفرفة بالنصب حال من فاعل وقفت، و قوله: و ألقت عطف على وقفت، و علوّا و استكبارا منصوبان على المفعول لأجله، و دويّا منصوب على التميز، و كفرا و عتوّا أيضا منصوبان على المفعول له، و كذلك تصديقا و اجلالا، و عمّار اللّيل بالرّفع خبر لمبتدأ محذوف، قوله: و أجسادهم فى العمل، الواو فيه للعطف و تحتمل الحال.
المعنى
اعلم أنّه عليه الصّلاة و السّلام لمّا نبّه فى الفصل السابق على علوّ مقامه و رفعة شأنه و شرف محلّه، و ذكر المخاطبين بمناقبه الجميلة و عدّ فيه منها تسعا أردفه بهذا الفصل تذكيرا لهم بمنقبته العاشرة و هو ايمانه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تصديقه بالمعجزة الظاهرة منه صلوات اللّه و سلامه عليه فى الشجرة لمّا كفر به غيره و نسبوه إلى السّحر و الكذب و هو قوله عليه الصّلاة و السّلام: (و لقد كنت معه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أتاه الملاء من قريش) أى الجماعة منهم (فقالوا له يا محمّد إنّك قد ادّعيت أمرا عظيما) و هو النّبوة و الرّسالة (لم يدّعه آباؤك) أى الأقربون منهم و إن كان الأبعدون أنبياء و مرسلين كاسماعيل و إبراهيم و غيرهما (و لا أحد من) أهل (بيتك و نحن نسألك أمرا) خارقا للعادة (إن أجبتنا إليه) و أتيت به (و أريتناهعلمنا أنّك نبيّ و رسول) لاتيانك بما أتى به ساير الأنبياء و الرّسل ممّا يعجز عنه غيرهم من الايات البيّنات المصدّقة لرسالتهم و نبوّتهم (و ان لم تفعل علمنا) بطلان دعواك و انّك ساحر كذّاب) لأنّ عدم فعلك لما نسأله كاشف عن عجزك من معاجزة النّبوة و دلائل الرّسالة.
ف (قال لهم) النّبي صلّى اللّه عليه و آله (و ما تسألون).
(قالوا تدع لنا هذه الشجرة حتّى تنقلع بعروقها) من الأرض و تأتى (و تقف بين يديك) إجابة لدعوتك (فقال صلّى اللّه عليه و آله إنّ اللّه على كلّ شيء قدير) لا يعجزه شيء و لا يقصر قدرته عن شيء (فان فعل اللّه ذلك بكم) و أجاب إلى مسئولكم (أ تؤمنون) به (و تشهدون بالحقّ) و إنّما نسب الفعل إلى اللّه و لم ينسبه إلى نفسه تنبيها لهم على أنّ ما يفعله و يصدر منه صلّى اللّه عليه و آله فانّما هو فعل اللّه سبحانه و هو عليه السّلام مظهر له كما قال تعالى فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ و لذلك ذكر أوّلا عموم قدرته تعالى و فرّع عليه قوله: فان فعل اللّه ذلك، ايماء إلى أنّ ما تسألونه من انقلاع الشجرة من مكانها و وقوفها بين أيديهم أمر يعجز عنه المخلوق الضعيف و يقدر عليه الخالق القاهر القادر على كلّ شيء، فقال لهم: فان فعلت ذلك مع كونى بشرا مثلكم فانّما هو بكونى مبعوثا من عنده خليفة له و كون فعلى فعله أ تؤمنون حينئذ و تشهدون بأن لا إله إلّا اللّه و أنّى رسول اللّه.
(قالوا نعم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانّى ساريكم ما تطلبون) أسند الارائة إلى نفسه القدسى بعد اسناد الفعل إلى اللّه، لما ذكرناه من النكتة (و إنّي لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير) أى لا ترجعون إلى الاسلام الجامع لخير الدّنيا و الاخرة و فى تصدير الجملة بانّ و اللّام تنبيها على أنّ عدم رجوعهم إلى الحقّ و بقائهم على الكفر و الضلال محقّق معلوم له صلّى اللّه عليه و آله بعلم اليقين ليس فيه شكّ و ريب (و انّ فيكم من) يبقى على كفره و يقتل و (يطرح فى القليب) قليب بدر (و من) يستمرّ على غيّه و (يحزّب الأحزاب) و يجمع جموع الكفّار و المشركين علىمحاربتى و جهادى.
و هذه الخبر من أخباره الغيبيّة و دلائل نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و قد وقع المخبر به على طبق الخبر، فممّن طرح فى القليب بعد قتلهم عتبة و شيبة ابنى ربيعة و أبى جهل و اميّة ابن عبد شمس و الوليد بن المغيرة و غيرهم، و ممّن حزّب الأحزاب أبو سفيان بن حرب و عمرو بن ود و صفوان بن اميّة و عكرمة بن أبى جهل و سهل بن عمرو و غيرهم.
(ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين باللّه و اليوم الاخر و تعلمين أنّى رسول اللّه) خطابه للشّجرة بخطاب ذوي العقول يدلّ على أنّها صارت بتوجّه نفسه القدسى إليها شاعرة مدركة قابلة للخطاب كساير ذوى العقول المتّصفة بالاحساس و الحياة لأنّ مشيّته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مشية اللّه و إذا أراد اللّه شيئا أن يقول له كن فيكون.
و نظير هذا الخطاب خطاب اللّه سبحانه للأرض و السماء بقوله «وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا» و في قوله: ان كنت تؤمنين باللّه و اليوم الاخر، دلالة على أنّ للنبات و الجماد تكليفا كساير المكلّفين، و قد مرّ بعض الكلام فى ذلك فى شرح المختار المأة و التسعين.
و كيف كان فقد خاطب الشّجرة و قال لها (فانقلعى بعروقك حتّى تقفى بين يدىّ باذن اللّه) و مشيّته ف (و الّذى بعثه بالحقّ) نبيّا (لانقلعت بعروقها و جاءت و لها دوىّ شديد) صوت كصوت الرّيح (و قصف كقصيف) أى صوت مثل صوت (أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) ممتثلة لأمره منقادة لحكمه (مرفرفة) رفرفة الطير (و ألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) متثلة لأمر منقادة لحكمه (مرفوعة) رفرقة الطير (و ألقت بغضها الأعلى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم) إجلالا له و إعظاما (و ببعض أغصانها على منكبى) تكريما و تعظيما (و كنت) واقفا (عن يمينه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلمّا نظر القوم إلى ذلك) الاعجاز (قالوا) له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (علوا و استكبارا) لا اهتداء و استرشادا (فمرها فليأتك نصفها و يبقى نصفها فأمرها بذلك) إتماما للحجّة و اكمالا للبيّنة (فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال و أشدّه دويا) و هو كناية عن سرعة إجابتها لأمره (فكادت تلتفّبرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بمزيد دنوّها منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (فقالوا) ثالثة (كفرا و عتوّا) و تمرّدا و اعتلاء بقصد تعجيزه و افحامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (فمر هذا النّصف فليرجع إلى نصفه كما كان فأمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) قطعا للعذر و حسما لمادّة المكابرة (فرجع) إلى النّصف الاخر و انضمّ اليه.
قال أمير المؤمنين لما شاهد هذه المعجزة (فقلت أنا: لا إله إلّا اللّه فانّى أوّل مؤمن بك) أى برسالتك (يا رسول اللّه و أوّل من أقرّ بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه) و اذنه (تصديقا لنبوّتك و إجلالا لكلمتك) و إجابة لأمرك.
(فقال القوم كلّهم بل ساحر كذّاب) أى أنت مموّه مدلّس لا حقيقة لما فعلته و إنّما هو تمويه و تخييل لا أصل له و أنّك كذّاب فيما تدعوننا إليه من التوحيد و الايمان.
و قد حكى اللّه عنهم ذلك بقوله في سورة ص وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ.
قال الطبرسي في وجه نزول الاية: قال المفسّرون: إنّ أشراف قريش و هم خمسة و عشرون منهم الوليد بن المغيرة و هو أكبرهم و أبو جهل و أبيّ و اميّة ابنا خلف و عتبة و شيبة ابنا ربيعة و النضر بن الحارث أتوا أبا طالب و قالوا أنت شيخنا و كبيرنا و قد أتيناك لتقضى بيننا و بين ابن اخيك فانّه سفّه أحلامنا و شتم آلهتنا، شيخنا و كبيرنا و قد أتيناك لتقضى بيننا و بين ابن اخيك فانّه سفّه أحلامنا و شتم آلهتنا، فدعى أبو طالب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: يا ابن أخ هؤلاء قومك يسألونك: فقال: ما ذا يسألونني قالوا دعنا و آلهتنا ندعك و إلهك فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أ تعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب و العجم، فقال أبو جهل: للّه أبوك نعطيك ذلك و عشر أمثالها فقال: قولوا: لا إله إلّا اللّه، فقاموا و قالوا: أ جعل الالهة إلها واحدا، فنزلت هذه الايات، هذا.
و لمّا قالوا: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ساحر و لم يكونوا شاهدين مثل ما أتى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به من غيره أعظموا أمره و وصفوه بأنّه (عجيب السّحر) لأنّه قد أتى بما يعجز عنه غيره و بأنّه (خفيف فيه) لأنّه فعل ما فعل سريعا من دون تراخ و تأخير.
ثمّ قالوا استحقارا و استصغارا: (و هل يصدّقك) و يؤمن بك (فى أمرك إلّا مثل هذا) الغلام الحدث السنّ (يعنونني) و قد حذا حذو هؤلاء الكفّار أتباعهم الّذينفضّلوا ابن أبي قحافة على أمير المؤمنين عليه السّلام حيث قالوا: إنّ ابن أبي قحافة أسلم و هو ابن أربعين سنة و علىّ أسلم و هو حدث و لم يبلغ الحلم فكان إسلام الأوّل أفضل و قد نقل تفصيل مقالهم الشارح المعتزلي من كتاب العثمانيّة للجاحظ، و تفصيل الجواب عن ذلك من كتاب نقض العثمانية لأبي جعفر الاسكافي تغمّده اللّه بغفرانه، و كفانا نقل الشّارح المعتزلي له مؤنة النقل هنا، من أراد الاطلاع فليراجع شرحه.
ثمّ اشار عليه السّلام إلى مناقب له اخرى و فصّلها بقوله (و انّى لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم) أى لا تأخذهم في سلوك سبيله و التقرّب إليه سبحانه و اقامة أحكام الدّين و اعلاء كلمة الاسلام، ملامة لائم و وصف هؤلاء القوم بعشرة أوصاف: أولها أنّ (سيماهم سيما الصّديقين) أى علامتهم علامة هؤلاء قال الطبرسىّ في تفسير قوله تعالى: من يطع اللّه و الرّسول فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين و الصّديقين، قيل: في معنى الصّديق إنّه المصدّق بكلّ ما أمر اللّه به و بأنبيائه لا يدخله في ذلك شكّ و يؤيّده قوله تعالى وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ و قال في قوله: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا أى كثير التصديق في امور الدّين، و قيل: صادقا مبالغا في الصدق فيما يخبر عن اللّه.
أقول: مقتضى كون الصدّيق من أبنية المبالغة أن يكون كثير الصّدق مبالغا فيه، و ذلك مستلزم لكون عمله مطابقا لقوله مصدّقا له غير مكذّب أى صادقا في أقواله و أفعاله.
قال سبحانه فى وصف الصّادقين «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ» و فى البحار عن بصاير الدّرجات عن بريد العجلى قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» قال عليه السّلام ايّانا عنى و فيه من البصاير عن أحمد بن محمّد قال: سألت الرّضا عليه السّلام عن هذه الاية قال: الصادقون الأئمة الصدّيقون بطاعتهم.
و فيه من كنز جامع الفوايد عن عباد بن صهيب عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام قال: هبط على النبيّ ملك له عشرون ألف رأس فوثب النبىّ ليقبّل يده، فقال له الملك: مهلا مهلا يا محمّد فأنت و اللّه أكرم على اللّه من أهل السّماوات و أهل الأرضين أجمعين و الملك يقال له: محمود، فاذا بين منكبيه مكتوب لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علىّ الصّديق الأكبر، فقال له النّبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حبيبى محمود كم هذا مكتوب بين منكبيك قال: من قبل أن يخلق اللّه أباك باثنى عشر ألف عام.
فقد علم بما ذكرنا كلّه أنّ المراد بالصدّيقين خصوص الأئمة أو الأعمّ منهم و من ساير المتّقين، و على أىّ تقدير فرئيسهم هو أمير المؤمنين عليه السّلام.
(و) الثاني (أنّ كلامهم كلام الأبرار) أى المطيعين للّه المحسنين فى أفعالهم قال تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً قال الحسن فى تفسيره هم الذين لا يؤذون الذّر و لا يرضون الشرّ و قيل هم الّذين يقضون الحقوق اللّازمة و النّافلة قال الطبرسيّ و قد أجمع أهل البيت عليهم السّلام و موافقوهم و كثير من مخالفيهم أنّ المراد بذلك علىّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام، و الاية مع ما بعدها متعيّنة فيهم و أيضا فقد انعقد الاجماع على أنهم كانوا أبرارا و فى غيرهم خلاف، و على أيّ معنى فالمراد بكلامهم الذكر الدائم و قول الحقّ و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر
و الثالث أنّهم (عمّار اللّيل) أى بالدّعاء و المناجاة و الصّلاة و تلاوة القرآن
(و) الرابع أنّهم (منار النّهار) يعنى أنّهم يفرغون باللّيل لعبادة الخالق و يقومون فى النّهار بهداية الخلايق فالنّاس يهتدون بهم من ظلمات الجهالة و الضّلالة كما يهتدي بالمنار فى غياهب الدّجى.
الخامس أنّهم (متمسّكون بحبل القرآن) قال الشارح البحراني استعارلفظ الحبل للقرآن باعتبار كونه سببا لمتعلّميه و متدبّريه إلى التروّى من ماء الحياة الباقية كالعلوم و الأخلاق الفاضلة كالحبل هو سبب الارتواء و الاستسقاء من الماء أو باعتبار كونه عصمة لمن تمسّك به صاعدا من دركات الجهل إلى أقصى درجات العقل كالحبل يصعد فيه من السفل إلى العلو، انتهى و الأظهر أنّ تشبيهه بالحبل لأنّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض كما فى أخبار الثقلين: من اعتصم به فاز و نجا و ارتقى به إلى مقام القرب و الزلفى، و من تركه و لم يعتصم به ضلّ و غوى و فى مهواة المهانة هوى.
السادس أنّهم (يحيون سنن اللّه و سنن رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) أى يقومون بنشر آثار الدّين و يواظبون على وظايف الشّرع المبين بأقوالهم و أعمالهم السابع أنّهم (لا يستكبرون و لا يعلون) لما قد علموا من مخازي الكبر و التّرفع و مفاسده التي تضمّنتها هذه الخطبة الشريفة و غيرها من الخطب المتقدّمة (و) الثامن أنّهم (لا يغلون) أى لا يحقدون و لا يحسدون علما منهم برذايل الحقد و الحسد المتكفلة لبيانها الخطبة الخامسة و الثمانون و شرحها، و لرذالة هذه الصّفة و دنائتها أخرجها سبحانه من صدور أهل الجنّة كما قال فى وصفهم «وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» أى أخرجنا ما في قلوبهم من حقد و حسد و عداوة في الجنّة حتّى لا يحسد بعضهم بعضا و إن رآه أرفع درجة منه، و على كون يغلون من الغلول فالمراد براءتهم من وصف الخيانة لمعرفتهم برذالتها.
(و) التاسع أنّهم (لا يفسدون) أى لا يحدثون الفساد لأنّه من صفة الفسّاق و المنافقين كما قال تعالى وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ الاية قال الطبرسيّ: معناه إذا قيل للمنافقين لا تفسدوا في الأرض بعمل المعاصي و صدّ الناس عن الايمان أو بممايلة الكفار فانّ فيه توهين الاسلام أو بتغيير الملّة و تحريف الكتاب.
و العاشر أنّ (قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل) يعني أنّ قلوبهم متوجّهة إلى الجنان مشتاقة إلى الرّضوان، فهم و الجنّة كمن قد رآها و هم فيها منعّمون، و محصّله أنّ نفوسهم بكلّيتها معرضة عن الدّنيا مقبلة إلى الاخرة،و الحال أنّ أجسادهم مستغرقة في العبادة و أوقاتهم مصروفة بالطاعة.
و على كون الواو للعطف يكون قوله: و أجسادهم في العمل الوصف الحادى عشر، و على الاحتمالين فالمراد واحد.
تبصرة
حديث الشجرة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد روي في ضمن معاجزه على أنحاء مختلفة لا حاجة بنا إلى روايتها، و لكنّي أحببت أن اورد رواية مرويّة في تفسير الامام متضمنة لمعجزة شجرية له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوجب مشاهدتها لمشاهدها علما و ايمانا، كما أنّ مشاهدة ما رواه أمير المؤمنين عليه السّلام لم يزد كفّار قريش إلّا كفرا و عتوّا و طغيانا فاقول: في تفسير الامام قال عليّ بن محمّد عليهما السّلام و أمّا دعاؤه صلّى اللّه عليه و آله الشجرة فانّ رجلا من ثقيف كان أطبّ النّاس يقال له حارث بن كلدة الثّقفي، جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال يا محمّد جئت اداويك من جنونك فقد داويت مجانين كثيرا فشفوا على يدي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا حارث أنت تفعل فعل المجانين و تنسبني إلى الجنون، قال الحارث: و ما ذا فعلته من أفعال المجانين، قال: نسبتك إيّاى إلى الجنون من غير محنة منك و لا تجربة و نظر في صدقي أو كذبي، فقال الحارث: أو ليس قد عرفت كذبك و جنونك بدعويك النّبوّة التي لا تقدر لها، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قولك لا تقدر لها، فعل المجانين، لأنّك لم تقل لم قلت كذا و لا طالبتني بحجّة فعجزت عنها، فقال الحارث: صدقت و أنا أمتحن أمرك باية اطالبك بها، إن كنت نبيّا فادع تلك الشّجرة- و أشار بشجرة عظيمة بعيد عمقها- فان أتتك علمت أنّك رسول اللّه و شهدت لك بذلك، و إلّا فأنت المجنون الّذي قيل لي.
فرفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يده إلى تلك الشّجرة و أشار إليها أن تعالى، فانقلعت الشّجرة باصولها و عروقها و جعلت تخدّ في الأرض اخدودا عظيما كالنهر حتّى دنت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فوقفت بين يديه و نادت بصوت فصيح: ها أنا ذا يا رسول اللّه ما تأمرني.
فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: دعوتك لتشهد لي بالنبوّة بعد شهادتك للّه بالتوحيد ثم تشهدي لعليّ هذا بالامامة و أنّه سندي و ظهري و عضدي و فخرى، و لولاه لما خلق اللّه شيئا ممّا خلق.
فنادت أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أشهد أنّك يا محمّد عبده و رسوله أرسلك بالحقّ بشيرا و نذيرا و داعيا إلى اللّه باذنه و سراجا منيرا، و أشهد أنّ عليّا ابن عمّك هو أخوك في دينك أوفر خلق اللّه من الدّين حظّا، و أجز لهم من الاسلام نصيبا، و أنّه سندك و ظهرك قاطع أعدائك و ناصر أوليائك، باب علومك في امتك، و أشهد أنّ أولياءك الّذين يوالونه و يعادون أعداءه حشو الجنّة، و أن أعداءك الذين يوالون أعداءك و يعادون أولياءك حشو النّار.
فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الحارث بن كلدة فقال: يا حارث أو مجنونا تعدّ من هذه آياته فقال: لا و اللّه يا رسول اللّه، و لكنّي أشهد أنّك رسول ربّ العالمين و سيّد الخلق أجمعين و حسن اسلامه.
و قد مضى نظير هذه المعجزة لأمير المؤمنين عليه السّلام في شرح الفصل الأوّل من الخطبة المأة و السابعة فتذكر.
قال الشارح عفى اللّه عنه: إنّ الفصول السّبعة الاول من هذه الخطبة الشريفة كما كانت قاصعة للمستكبرين المتجبّرين، راغمة لأنفهم، لاطمة لرأسهم بمقامع التوبيخ و التّقريع و التهديد، فكذلك الفصل الثامن و التاسع منها قاصعان للمنحرفين عنه عليه السّلام من غاصبي الخلافة و النّاكثين و القاسطين و المارقين بما فصّله عليه السّلام فيهما من مناقبه و مفاخره، فتلك المناقب الجميلة له عليه السّلام:
على قمم من آل صخر ترفّعت
كجلمود صخر حطّه السّيل من عل
الترجمة
اين فصل آخر از خطبه شريفه باز در ذكر مفاخر و مناقب خود آن بزرگوار است مى فرمايد:
و بتحقيق بودم من با حضرت رسالت ماب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وقتى كه آمدند نزد آن حضرت جماعتى از كفار قريش پس گفتند او را: أى محمّد بدرستى كه تو ادّعا كردى أمر عظيمى را كه ادّعا نكرده بود آنرا پدران تو و نه أحدى از خانواده تو و ما خواهش مى كنيم از تو كارى را اگر اجابت كردى ما را بان كار و نمودى آن را بما مى دانيم كه تو پيغمبر مرسلى، و اگر اجابت نكردى مى دانيم كه تو جادوگر و بسيار دروغ گوئى.
پس فرمود آن حضرت بايشان چه خواهش داريد گفتند كه بخوانى بجهت ما اين درخت را تا پر كنده شود با ريشه هاى خود و بايستد پيش تو، پس فرمود آن حضرت كه خداى تعالى بهر چيز قادر است پس اگر بكند خداوند عالم بجهت شما آن را آيا ايمان مى آوريد و شهادت مى دهيد بحق پس گفتند: بلى فرمود پس بدرستى كه بزودى بنمايم من بشما آن چيزى را كه طلب مى كنيد و حال آنكه بدرستى كه يقين منست كه شما باز نمى گرديد بسوى اسلام كه خير دنيا و آخرت است، و بدرستى كه در ميان شما است كسى كه انداخته مى شود در چاه بدر، و كسى كه جمع سازد لشكرهاى كفّار را بمحاربه من.
بعد از آن فرمود آن حضرت بطريق خطاب بدرخت كه اى درخت اگر هستى كه ايمان دارى بخداى تعالى و بروز آخرت و مى دانى كه منم پيغمبر خدا پس بركنده شو با ريشه هاى خود تا اين كه بايستى پيش من با اذن خدا.
پس قسم بخدائى كه مبعوث فرمود او را بحق هر آينه بر كنده شد با رگ و ريشه هاى خود و آمد بسوى آن حضرت در حالتى كه مر او را صداى سخت بود، و آوازى بود مانند آواز بالهاى مرغان، تا اين كه ايستاد پيش حضرت رسالت ماب صلّى اللّه عليه و آله حركت كنان مثل مرغ بال زنان، و انداخت شاخه بلندتر خود را بر پيغمبر خدا و بعض شاخهاى خود را بر دوش من، و بودم من در جانب راست آن حضرت.
پس وقتى كه نظر كردند آن جماعت بان معجزه گفتند از روى تكبّر و گردن كشى پس أمر كن تا بيايد بسوى تو نصف آن و باقى ماند بر جاى خود نصف ديگر آن، پس أمر فرمود آن را باين پس پيش آمد بسوى او نصف آن درخت مانند عجبترين روى آوردن و سخت ترين آن از روى آواز پس نزديك شد كه پيچيده شود بحضرت رسول خدا پس گفتند آن ملاعين از روى كفر و ستيزهگى پس أمر كن اين نصف را برگردد بسوى آن نصف ديگر چنانكه در اصل بود، پس أمر فرمود او را پس برگشت.
پس گفتم من: لا إله إلّا اللّه بدرستى كه من أوّل ايمان آورنده ام بتو يا رسول اللّه و أوّل كسى هستم كه ايمان آورد باين كه آن درخت كرد آنچه كرد بفرمان خدا از جهت تصديق پيغمبرى تو و تعظيم فرمايش تو.
پس گفتند آن كفّار شقاوت آثار جميعا كه تو جادوگر دروغ گوئى عجيب و غريب است سحر تو چابك و سبك دستى در آن، و تصديق نمى كند تو را در پيغمبرى تو مگر مثل اين- و قصد مى كردند در اين حرف مرا- و بدرستى كه من از قومى هستم كه اخذ نمى كند ايشان را در راه خدا ملامت هيچ ملامت كننده كه علامت ايشان علامت صدّيقين است، و كلام ايشان كلام نيكوكاران، آباد كنندگان شبند بعبادت، و منارهاى روزند بهدايت، چنگ زنندگانند بريسمان محكم قرآن، زنده مي كنند شريعت إلهى و سنّت رسالت پناهى را، تكبّر نمى نمايند، بلندى نمى جويند، حقد و حسد نمى كنند، در راه فساد نمى پويند، قلبهاى ايشان در بهشت برينست و بدنهاى ايشان مشغول عبادت ربّ العالمين، و الحمد للّه و الصّلاة على محمّد و آله.
قال الشارح المحتاج إلى غفران ربّه: هذا آخر المجلّد الخامس«» من مجلّدات منهاج البراعة، و يتلوه إنشاء اللّه المجلد السّادس بتوفيق منه سبحانه، و قد يسّر اللّه بفضله الواسع ختامه، و بكرمه السّابغ اتمامه بعد حصول الاياس و تفرّق الحواس و اضطراب النّاس و اختلال الحال بداهية دهيا، و بليّة عظمى، و زلزلة شديدة أدّب اللّه أهل بلدنا بها في هذه الأيام،يا لها رجفة ما رأيت مثلها و قد جاوزت خمسين درجة أخذتهم نصف الليل بينما كانوا راقدين فقاموا من مضاجعهم ذعرين مرعوبين كأنّهم من الأجداث إلى ربّهم ينسلون بهول ترتعد منه الفرائص، و تفتّ الأكباد، و تصدّع القلوب، و تقشعرّ الجلود، و كان النّاس سكارى من مهول البلا.
فلو لا أن تداركنا رحمته السابقة على غضبه سبحانه لم يكن لأحد منها النجاة و لا لذى روح طماعية في الحياة، و قد حرمنا منذ ليال من سبت الرّقاد، و خرجنا من تحت الأبنية و العروش بعد ما أشرفت على السّقوط و الانهدام، و اتّخذنا الأخبية مسكنا و المظلة أكنانا، و الرّجفة في هذه المدّة و قد مضت منذ ظهرت عشرة أيّام تطرقنا ساعة بعد ساعة.
نعوذ باللّه سبحانه من غضبه و نسأله عزّ و جلّ أن لا يخاطبنا بذنوبنا و لا يؤاخذنا بأعمالنا و لا يقايسنا بأفعالنا، و أن يرفع عنا هذه البلية، و ينجينا من تلك الرزيّة بمحمّد و آله خير البرية، فانّه ذو المنّ الكريم و الرّؤف الرّحيم.
و قد وقع الفراغ منه ثالث عشر شهر ذى القعدة الحرام- من سنة سبع عشرة و ثلاثمأة بعد الألف- و هذه هى النسخة الأصل كتبتها بيمينى و أسأله سبحانه أن يحشرني في أصحاب اليمين بجاه محمّد و آله الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»