نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 108 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 109 صبحی صالح

109- و من خطبة له ( عليه‏ السلام  ) في بيان قدرة اللّه و انفراده بالعظمة و أمر البعث‏

قدرة اللّه‏

كُلُّ شَيْ‏ءٍ خَاشِعٌ لَهُ

وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ قَائِمٌ بِهِ

غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ

وَ عِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ

وَ قُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ

وَ مَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ

مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ

وَ مَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ

وَ مَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ

وَ مَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ

لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ

بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ

لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ

وَ لَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ

وَ لَا يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ

وَ لَا يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ

وَ لَا يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ

وَ لَا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ

وَ لَا يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ

وَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ

كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلَانِيَةٌ

وَ كُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ

أَنْتَ الْأَبَدُ فَلَا أَمَدَ لَكَ

وَ أَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلَا مَحِيصَ عَنْكَ

وَ أَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ

بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ

وَ إِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ

سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ

سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ

وَ مَا أَصْغَرَ كُلَّ عَظِيمَةٍ فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ

وَ مَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ‏ مَلَكُوتِكَ

وَ مَا أَحْقَرَ ذَلِكَ فِيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ

وَ مَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا

وَ مَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الْآخِرَةِ

الملائكة الكرام‏

و منهامِنْ مَلَائِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ

وَ رَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ

هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ

وَ أَخْوَفُهُمْ لَكَ

وَ أَقْرَبُهُمْ مِنْكَ

لَمْ يَسْكُنُوا الْأَصْلَابَ

وَ لَمْ يُضَمَّنُوا الْأَرْحَامَ

وَ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ‏

وَ لَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ الْمَنُونِ

وَ إِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِمْ مِنْكَ

وَ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ

وَ اسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ

وَ كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ

وَ قِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ

لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ

وَ لَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ

وَ لَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ

وَ لَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ

عصيان الخلق‏

سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَ مَعْبُوداً

بِحُسْنِ بَلَائِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ

خَلَقْتَ دَاراً

وَ جَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً

مَشْرَباً وَ مَطْعَماً

وَ أَزْوَاجاً وَ خَدَماً وَ قُصُوراً وَ أَنْهَاراً وَ زُرُوعاً وَ ثِمَاراً

ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا

فَلَا الدَّاعِيَ أَجَابُوا

وَ لَا فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا

وَ لَا إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا

أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا

وَ اصْطَلَحُوا عَلَى‏حُبِّهَا

وَ مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ

وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ

فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ

وَ يَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ

قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ

وَ أَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ

وَ وَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ

فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا

وَ لِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْ‏ءٌ مِنْهَا

حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا

وَ حَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا

لَا يَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهِ بِزَاجِرٍ

وَ لَا يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ

وَ هُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ

حَيْثُ لَا إِقَالَةَ وَ لَا رَجْعَةَ

كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ

وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ

وَ قَدِمُوا مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ

فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ

اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَ حَسْرَةُ الْفَوْتِ

فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ

وَ تَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ

ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً

فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ

وَ إِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ

وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ

عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ

وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ

يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَهُ

وَ فِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ

وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا

أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا

وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا

قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا

وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا

تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا

وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا

فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ

وَ الْعِبْ‏ءُ عَلَى ظَهْرِهِ

وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا

فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ

وَ يَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ

وَ يَتَمَنَّى أَنَ‏الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ

فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ

فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ

وَ لَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ

يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ

يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ

وَ لَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ

ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ

فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ

وَ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ

فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ

قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ

وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ

لَا يُسْعِدُ بَاكِياً

وَ لَا يُجِيبُ دَاعِياً

ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الْأَرْضِ

فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ

وَ انْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ

القيامة

حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ

وَ الْأَمْرُ مَقَادِيرَهُ

وَ أُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ

وَ جَاءَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ

أَمَادَ السَّمَاءَ وَ فَطَرَهَا

وَ أَرَجَّ الْأَرْضَ وَ أَرْجَفَهَا

وَ قَلَعَ جِبَالَهَا وَ نَسَفَهَا

وَ دَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ وَ مَخُوفِ سَطْوَتِهِ

وَ أَخْرَجَ مَنْ فِيهَا

فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلَاقِهِمْ

وَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ

ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ خَفَايَا الْأَعْمَالِ وَ خَبَايَا الْأَفْعَالِ

وَ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ

أَنْعَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ

وَ انْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ

فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ وَ خَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ

حَيْثُ لَا يَظْعَنُ النُّزَّالُ

وَ لَا تَتَغَيَّرُ بِهِمُ‏الْحَالُ

وَ لَا تَنُوبُهُمُ الْأَفْزَاعُ

وَ لَا تَنَالُهُمُ الْأَسْقَامُ

وَ لَا تَعْرِضُ لَهُمُ الْأَخْطَارُ

وَ لَا تُشْخِصُهُمُ الْأَسْفَارُ

وَ أَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ

وَ غَلَّ الْأَيْدِيَ إِلَى الْأَعْنَاقِ

وَ قَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالْأَقْدَامِ

وَ أَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ

وَ مُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ

فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ

وَ بَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ

فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَ لَجَبٌ

وَ لَهَبٌ سَاطِعٌ

وَ قَصِيفٌ هَائِلٌ

لَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا وَ لَا يُفَادَى أَسِيرُهَا

وَ لَا تُفْصَمُ كُبُولُهَا

لَا مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى

وَ لَا أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى

زهد النبي‏

و منها في ذكر النبي ( صلى‏ الله ‏عليه‏ وآله  )

قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَ صَغَّرَهَا

وَ أَهْوَنَ بِهَا وَ هَوَّنَهَا

وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً

وَ بَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً

فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ

وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ

وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ

لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً

أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً

بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً

وَ نَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِراً

وَ دَعَا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً

وَ خَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً

أهل البيت‏

نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ

وَ مَحَطُّ الرِّسَالَةِ

وَ مُخْتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ

وَ مَعَادِنُ الْعِلْمِ

وَ يَنَابِيعُ الْحُكْمِ

نَاصِرُنَا وَ مُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ

وَ عَدُوُّنَا وَ مُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج7  

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الثامنة من المختار في باب الخطب

و شرحها فى ضمن فصول:

الفصل الاول

كلّ شي‏ء خاضع له، و كلّ شي‏ء قائم به، غنى كلّ فقير، و عزّ كلّ ذليل، و قوّة كلّ ضعيف، و مفزع كلّ ملهوف، من تكلّم سمع نطقه، و من سكت علم سرّه، و من عاش فعليه رزقه، و من مات فإليه منقلبه، لم ترك العيون فتخبر عنك، بل كنت قبل الواصفين من خلقك، لم تخلق الخلق لوحشة، و لا استعملتهم لمنفعة، و لا يسبقك من طلبت، و لا يفلتك من أخذت، و لا ينقص سلطانك من عصاك، و لا يزيد في ملكك من أطاعك، و لا يردّ أمرك من سخط قضاءك، و لا تستغنى عنك من توّلى عن أمرك، كلّ سرّ عندك علانية و كلّ غيب عندك شهادة، أنت الأبد لا أمد لك، و أنت المنتهى لا محيص عنك، و أنت الموعد لا منجا منك إلّا إليك، بيدك ناصية كلّ دآبّة، و إليك مصير كلّ نسمة، سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك، و ما أصغر عظمه في جنب قدرتك، و ما أهول ما نرى من‏ ملكوتك، و ما أحقر ذلك فى ما غاب عنّا من سلطانك، و ما أسبغ نعمك في الدّنيا، و ما أصغرها في نعم الآخرة. منها: من ملائكة أسكنتهم سمواتك، و رفعتهم عن أرضك، هم أعلم خلقك بك، و أخوفهم لك، و أقربهم منك، لم يسكنوا الأصلاب، و لم يضمّنوا الأرحام، و لم يخلقوا من ماء مهين، و لم يشعّبهم ريب المنون، و إنّهم على مكانهم منك، و منزلتهم عندك و استجماع أهوائهم فيك، و كثرة طاعتهم لك، و قلّة غفلتهم عن أمرك، لو عاينوا كنه ما خفي عليهم منك، لحقّروا أعمالهم، و لزروا على أنفسهم، و لعرفوا أنّهم لم يعبدوك حقّ عبادتك، و لم يطيعوك حقّ طاعتك.

اللغة

(لهف) لهفا من باب فرح حزن و تحسّر، و اللّهوف و اللّهيف و اللّهفان و اللّاهف المظلوم المضطرّ يستغيث و يتحسّر و (أفلت) الطائر و غيره إفلاتا تخلّص و أفلتّه اذا أطلقته و خلّصته يستعمل لازما و متعدّيا، و فلت فلتا من باب ضرب لغة و فلته أنا يستعمل أيضا لازما و متعدّيا.

و (الناصية) الشعر المسترسل في مقدّم الراس أى شعر الجبهة و قال الأزهريّ منبت الشعر و اطلاقها على الشعر مجاز من باب تسمية الحالّ باسم المحلّ و (ماء مهين) أى ضعيف حقير و هى النطفة و (انشعبت) أغصان الشجرة و تشعّبت تفرّقت و (المنون) الدّهر من مننت الشي‏ء قطعته، لأنه يقطع الأعمار و (زرى) عليه زريا من باب رمى‏و زرية و زراية بالكسر عابه و استهزء به قال أبو عمر الشيباني: الرّاري على الانسان هو الذي ينكر عليه و لا يعدّه شيئا.

الاعراب

قوله: لم ترك العيون فتخبر عنك، في بعض النسخ تخبر بالنصب و هو الأظهر و في بعضها بالجزم، و الأوّل مبنىّ على كونه منصوبا بان مضمرة وجوبا بعد الفاء السببيّة المسبوقة بالنفى، و الثاني مبنىّ على جعل الفاء لمجرّد عطف ما بعدها على ما قبلها، فيكون ما بعدها شريكا لما قبلها في الاعراب.

قال في التصريح: و لك في نحو ما تأتيني فاكرمك أن تقدّر الفاء لمجرّد عطف لفظ الفعل على لفظ ما قبلها فيكون شريكه في اعرابه فيجب هنا الرّفع لأنّ الفعل الذي قبلها مرفوع و المعطوف شريك المعطوف عليه و كأنّك قلت ما تأتيني فما اكرمك فهو شريكه فى النفى الداخل عليه.

و إن تقدّر الفاء أيضا لعطف مصدر الفعل الذى بعدها على المصدر المؤل ممّا قبلها، و لكن يقدّر النفى منصبّا على المعطوف عليه و ينتفي المعطوف لأنه مسبّب عنه و قد انتفى، و المعنى ما يكون منك اتيان فكيف يكون منّى إكرام.

و قوله عليه السّلام: لا يفلتك، من باب الحذف و الايصال أى لا يفلت منك على حدّ قوله:

استغفر اللّه ذنبا لست محصيه            ربّ العباد اليه الوجه و العمل‏

أى من ذنب، و قوله: سبحانك ما اعظم ما نرى، سبحانك منصوب على المصدر و عامله محذوف وجوبا، أى أسبّح سبحانا فحذف الفعل لسدّ المصدر مسدّه و تبعه اللّام أيضا في الحذف تخفيفا فاضيف المصدر إلى كاف الخطاب، و هذه اللفظة واردة في هذا المقام للتعجّب كما في قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في رواية أبي هريرة: سبحان اللّه إنّ المؤمن لا ينجس، صرّح به في التوضيح، و معنى التعجّب انفعال يعرض للنّفس عند الشعور بأمر يخفى سببه، و لهذا قيل: إذا ظهر السّبب بطل العجب، و يشترط أن يكون المتعجّب منه عادم النظير أو قليل النّظاير، فما يكثر نظائره في الوجود لا يستعظم‏ فلا يتعجّب منه.

قوله عليه السّلام ما اعظم ما نرى، تأكيد للتعجّب، فانّ ما في ما أعظم تعجّبة أيضا و ماء الثانية موصولة، و قد طال التشاجر بين علماء الأدبيّة في ماء التّعجب و صيغة أفعل بعدها بعد اتفاقهم على اسميتها و كونها مبتدأ، فالمحكىّ عن سيبويه و جمهور البصرييّن أنّها نكرة تامّة بمعنى شي‏ء و ابتدء بها على نكارتها لتضمّنها معنى التّعجب.

قال الرّضيّ (ره): فانّ التعجّب كما ذكرنا إنّما يكون فيما يجهل سببه فالتنكير يناسب معنى التعجّب، فكان معنى ما أحسن زيدا، في الأصل شي‏ء من الأشياء لا أعرفه جعل زيدا حسنا، ثمّ انتقل إلى إنشاء التعجّب و انمحى عنه معنى الجعل فجاز استعماله في التعجّب عن شي‏ء يستحيل كونه جعل جاعل، نحو ما أقدر اللّه و ما أعلمه، و ذلك لأنه اقتصر من اللفظ على ثمرته و هى التعجّب من الشي‏ء سواء كان مجعولا و له سبب أولا، فما مبتداء و افعل فعل ماض خبره و فيه ضمير راجع إلى ما هو فاعله و المنصوب بعده مفعوله، فعلى ذلك يكون فتحة أفعل فتحة بناء فاعراب ما أحسن زيدا مثل اعراب زيد ضرب عمرا حرفا بحرف.«» و قال الأخفش في أحد قوله إنّ ما موصولة بمعنى الذي و ما بعدها من الجملة الفعلية صلة لها لا محلّ لها من الاعراب، أو نكرة موصوفة بمعنى شي‏ء و ما بعدها صفة لها، فمحلّها رفع تبعا لمحلّ ما، و على التقديرين فالخبر محذوف وجوبا أى الذي أحسن زيدا أو شي‏ء أحسن زيدا موجود أو شي‏ء عظيم.

و استبعدوه بأنّ فيه التزام وجوب حذف الخبر مع عدم ما يسدّ مسدّه، و بأنه ليس فيه معنى الابهام اللّايق بالتعجّب، و أيضا إذا تضمّن الكلام افهاما و ابهاما فالمعتاد تقدّم الابهام، و فيما ذكره يكون الأمر بخلاف ذلك إذ فيه تقديم الافهام بالصّلة أو الصفة و تأخير الابهام بالتزام حذف الخبر.

و ذهب الفرّاء و ابن درستويه و ربما عزّى إلى الكوفيّين إلى أنّ ما استفهامية ما بعدها خبرها.

قال نجم الأئمة و هو قوىّ من حيث المعنى، لأنّه كان جهل سبب حسنه فاستفهم عنه، و قد يستفاد من الاستفهام معنى التعجّب نحو: ما أدراك ما يوم الدّين و أ تدرى من هو، و للّه درّه أىّ رجل كان قال و للّه غنيّا خيرا أيّما فتى.

و ربما يضعف بأنّ فيه نقل من الاستفهام إلى التعجّب و النقل من انشاء إلى انشاء مما لم يثبت، هذا.

و بقى الكلام في أفعل و قد ظهر من كلام البصريّين أنه فعل ماض و فتحته فتحة بناء للزومه مع ياء المتكلم نون الوقاية نحو ما أفقرنى إلى رحمة اللّه و ما أحوجنى اليها، و قال الكوفيّون غير الكسائي«» إنه اسم و فتحته فتحة اعراب كفتحة عندك في زيد عندك، و يؤيد قولهم تصغيرهم اياه«» في نحو ما احيسنه و ما اميلحه قال الشاعر:

يا ما اميلح غزلانا شددن لنا

و اعتذروا عن فتحة الخبر بأنّ مخالفة الخبر للمبتدأ تقتضى نصبه و أحسن إنّما هو في المعنى وصف لزيد لا لضمير ما، فلذلك كان منصوبا، بيان ذلك. أنّ الخبر إذا كان فى المعنى هو المبتدأ كاللّه ربّنا أو مشبه به نحو: أزواجه امّهاتهم، ارتفع ارتفاعه، و إذا كان مخالفا له بحيث لا يحمل عليه حقيقة أو حكما خالفه في الاعراب كما في زيد عندك، و الناصب له عندهم معنوىّ و هو معنى المخالفة التي اتّصف بها، و لا حاجة على قولهم إلى شي‏ء يتعلّق به الخبر، و امّا انتصاب زيدا فلمشابهة المفعول به، لأنّ ناصبه وصف قاصر فأشبه نصب الوجه في قولك زيد حسن الوجه هكذا قال في التوضيح و شرحه.

و قال نجم الأئمة بعد حكاية هذا المذهب أعنى مذهب الكوفيّة في أفعل و كونه اسما كأفعل التفضيل: و لو لا انفتاح أفعل التعجّب و انتصاب ما بعده انتصاب المفعول به لكان مذهبهم جديرا بأن ينصر.

و قد اعتذروا لفتح آخره بكونه متضمنّا لمعنى التعجّب الذى كان حقيقا بأن يوضع له حرف كما مرّ في بناء اسم الاشارة، فبنى لتضمنه معنى الحرف و بنى على الفتح لكونه أخفّ.

و اعتذروا لنصب المتعجّب منه بعد افعل بكونه مشابها للمفعول لمجيئه بعد افعل المشابه لفعل مضمر فاعله فموقعه موقع المفعول به فانتصب انتصابه فهو نحو قوله:

و لدنا بعده بذناب«» عيش            اجبّ الظّهر ليس له سنام‏

بنصب الظهر، و هو ضعيف، لأنّ النّصب في مثل أجبّ الظهر و حسن الوجه توطئة لصحة الاضافة إلى ذلك المنصوب و لا يضاف أفعل إلى المتعجّب منه هذا.

و قوله عليه السّلام لم يخلقوا من ماء مهين، حرف من ابتدائية نشويّة، و قوله: و انّهم على مكانهم، جملة مستأنفة و خبر إن الجملة الشرطية الآتية أعني قوله: لو عاينوا آه، و على في قوله: على مكانهم، للاستعلاء المجازى، و المعنى أنهم حالكونهم مستقرّين على مكانهم المعيّن لهم منك و منزلتهم الموجودة لهم عندك لو عاينوا ما خفى عليهم لحقّروا أعمالهم.

المعنى

قال الشارح المعتزلي: من أراد أن يتعلّم الفصاحة و البلاغة و يعرف فضل الكلام بعضهم على بعض فليتأمّل هذه الخطبة، فانّ نسبتها إلى كلّ فصيح من الكلام عدا كلام اللّه و رسوله نسبة الكواكب المنيرة الفلكية إلى الحجارة المظلمة الأرضية، ثمّ لينظر الناظر إلى ما عليها من البهاء و الجلالة و الرواء و الدّيباجة و ما يحدثه من الروعة و الرهبة و المخافة و الخشية، حتى لو تليت على زنديق ملحد و مصمم على اعتقاد نفى البعث و النشور، لهدت قواه و رعبت قلبه، و أصعقت على نفسه و زلزلت اعتقاده.

فجزى اللّه قائلها عن الاسلام أفضل ما جزى به وليا من أوليائه، فما أبلغ نصرته له تارة بيده و سيفه، و تارة بلسانه و نطقه، و تارة بقلبه و فكره.

إن قيل جهاد و حرب فهو سيّد المجاهدين و المحاربين، و إن قيل وعظ و تذكير فهو أبلغ الواعظين و المذكرين، و إن قيل فقه و تفسير فهو رئيس الفقهاء و المفسرين و إن قيل عدل و توحيد فهو إمام أهل العدل و الموحّدين، و ليس للّه بمستنكر أن يجمع العالم في واحد.

ثمّ نعود إلى الشرح فنقول: افتتح عليه السّلام كلامه بالتوحيد و التنزيه و الاجلال و ذكر نعوت الجمال و الجلال، و عقّبه بالموعظة و التذكير و الانذار و التحذير فقال (كلّ شي‏ء خاشع له) أو خاضع له كما في بعض النسخ، أى متذلّل معترف بالفاقة إليه سبحانه و الحاجة الى تخليقه و تكوينه، و إن من شي‏ء إلّا يسبّح بحمده.

فالمراد بالخشوع الخضوع التكويني و الافتقار الذاتي اللّازم المهية الممكن مثل نفس الامكان، هذا.

و قال الشارح البحراني (ره): الخشوع هنا مراد بحسب الاشتراك اللفظى إذ الخشوع من الناس يعود إلى تطامنهم و خضوعهم للّه، و من الملائكة دؤبهم في عبادتهم ملاحظة لعظمته سبحانه و من ساير الممكنات انفعالها عن قدرته و خضوعها في رقّ الامكان و الحاجة اليه، و المشترك و إن كان لا يستعمل في جميع مفهوماته حقيقة فقد بينّا أنّه يجوز استعماله مجازا فيها بحسب القرينة، و هى هنا اضافته لكلّ شي‏ء، أو لأنه في قوّة المتعدّد كقوله تعالي: إنّ اللّه و ملائكته يصلّون على النبيّ فكانه قال: الملك خاشع له و البشر خاشع له، انتهى.

أقول: و أنت خبير بما فيه أمّا أوّلا فلأنّ كونه من المشتركات اللّفظية ممنوع، بل المستفاد من كلام أكثراللّغويين أنّه موضوع لمطلق الخضوع أعني الذلّ و الاستكانة، و ربما يفرّق بينه و بين الخضوع كما في مجمع البحرين و غيره بأنّ الأوّل في البدن و البصر و القلوب و الثاني في البدن، و قال الفيومى خشع خشوعا خضع و خشع في صلاته و دعائه أقبل بقلبه، و هو مأخوذ من خشعت الأرض إذا سكنت و اطمأنّت، و قال خضع خضوعا ذلّ و استكان، و الخضوع قريب من الخشوع إلّا أنّ الخضوع أكثر ما يستعمل في الاعناق و الخشوع في الصوت، و قال الفيروز آبادى الخشوع الخضوع أو قريب منه أو هو في البدن و الخشوع في الصوت و البصر، و قال خضع خضوعا تطامن و تواضع و قريب من ذلك كلام ساير أهل اللّغة.

و على قولهم فهو إما من باب الاشتراك المعنوي فيكون استعماله في الانسان و الملك و غيرها من باب استعمال العامّ في افراده.

و إما من باب الحقيقة و المجاز إن خصّصناه بذوات الأبدان و الابصار، فيكون اطلاقه على غيرها مجازا و استعماله في الجميع بعنوان عموم المجاز، و على أيّ تقدير فالقول بكونه مشتركا لفظيا و توهّم تعدّد الوضع فيه باطل.

و أمّا ثانيا فلأنّ تجويز استعمال اللّفظ المشترك في معانيه المتعدّدة و لو بالمجاز و القرينة خلاف ما عليه المحقّقون من الاصوليّين، و قد حقّقناه في ديباجة هذا الشرح و في حواشينا على قوانين الاصول بما لا مزيد عليه.

نعم لا بأس بجواز استعماله في معنى عام شامل للمعاني المتعدّدة بعنوان عموم الاشتراك كاستعمال لفظ الأمر في مطلق الطلب الشامل للوجوب و الندب على القول بكونه حقيقة فيهما، كما لا ريب في جواز استعمال اللّفظ في معنى عام شامل لمعناه الحقيقي و المجازي و يسمّى بعموم المجاز كالمثال الذى ذكرناه على القول بكون الأمر حقيقة في الوجوب مجازا في الندب، و لا يمكن حمل مراد الشّارح على ذلك، لمنافاته بقوله: و الخشوع هنا مراد بحسب الاشتراك اللّفظي فافهم.

و أمّا ثالثا فلأنّ جعل خاشع بمنزلة المتعدّد بالعطف قياسا بقوله يصلّون في الآية الشريفة فاسد، فانّ يصلّون في الآية لفظ جمع و خاشع لفظ مفرد و كون الأوّل في قوّة المتعدّد لا يدلّ على كون الثّاني كذلك مع امكان منع أصل‏الدّعوى في الآية أيضا لاحتمال حذف الخبر فيها أى إنّ اللّه يصلّى و ملائكته يصلّون على حدّ قوله: نحن بما عندنا و أنت بما عندك راض و الرّأى مختلف أو كونها من باب عموم الاشتراك بأن يكون معنى يصلّون يعتنون باظهار شرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تعظيمه كما فسّرها به الطبرسيّ و البيضاوى و غيرهما على ما مرّ تفصيلا و توضيحا في ديباجة الشرح.

و هذا كلّه مبنيّ على التنزّل و المماشاة و إلّا فنقول: إنّ كون الآية بمنزلة المفرد المتكرّر المتعدّد لا يوجب الحاقها به في جميع الأحكام، فانّ المفرد المتكرّر شي‏ء، و ما بمنزلته شي‏ء آخر، فاطلاق المكرّرات و إرادة المعاني المتعدّدة منها لا يوجب جواز إرادة المعاني المتعدّدة مما هو بمنزلتها كما لا يخفى.

فقد وضح و اتّضح بما ذكرنا كلّه أنّ الآية الشريفة لا دلالة فيها على جواز استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى، و أنّ كلام الامام عليه السّلام ليس من هذا القبيل فافهم ذلك و اغتنم.

(و كلّ شي‏ء قائم به) لأنّ جميع الممكنات إمّا جواهر أو أعراض، و ليس شي‏ء منها يقوم بذاته في الوجود أمّا الأعراض فظاهر، لظهور حاجتها إلى المحلّ الجوهرى، و أما الجواهر فلأنّ قوامها في الوجود انما هو بعللها، و تنتهى إلى المبدأ الأوّل و علّة العلل جلّت عظمته فهو إذا الفاعل المطلق الذي به قوام وجود كلّ موجود، هكذا قال الشارح البحراني، ثمّ قال: و اذ ثبت أنّه تعالى غنّى عن كلّ شي‏ء في كلّ شي‏ء ثبت أنّ به قوام كلّ شي‏ء فثبت أنّه القيّوم المطلق اذ مفهوم القيّوم هو القائم بذاته المقيم لغيره، فكان هذا الاعتبار مستلزما لهذا الوصف.

(غنى كلّ فقير) قال الشارح: و يجب أن يحمل الفقير على ما هو أعمّ من الفقر المتعارف و هو مطلق الحاجة ليعمّ التمجيد كما أنّ الغنى هو سلب مطلق الحاجة و إذ ثبت أنّ كلّ ممكن فهو مفتقر في طرفيه منته في سلسلة الحاجة إليه و أنّه تعالى المقيم له في الوجود ثبت أنه تعالى رافع حاجة كلّ موجود بل كلّ ممكن، و هو المراد بكونه غنى له و اطلق عليه تعالى لفظ الغنى و إن كان الغنى به مجازا إطلاقا لاسم السّبب على المسبّب.

(و عزّ كلّ ذليل) يعني أنه سبحانه سبب عزّة كلّ من كان به ذلّة، لأنّه العزيز المطلق الذي لا يعادله شي‏ء و لا يغلبه شي‏ء، فكلّ عزّة لكلّ موجود منتهية إليه سبحانه، و قد سبق تفسير العزيز في شرح الخطبة الرّابعة و السّتين.

(و قوّة كلّ ضعيف) معنى هذه الفقرة كسابقتها، و قد مرّ تفسير القوى من أسمائه سبحانه في شرح الخطبة الرابعة و السّتين أيضا، و روى أنّ الحسن عليه السّلام قال: واعجبا لنبيّ اللّه لوط إذ قال لقومه: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ.

أ تراه أراد ركنا أشدّ من اللّه، و في المجمع عن الصادق عليه السّلام لو يعلم أىّ قوّة له، و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحم اللّه أخى لوطا لو يدرى من معه في الحجرة لعلم أنّه منصور حيث (حين خ ل) يقول، لو أنّ لى بكم قوّة أو آوى الى ركن شديد، أىّ ركن أشد من جبرئيل معه في الحجرة و رواه في عقاب الأعمال عن أبي جعفر عليه السّلام مثله.

(و مفزع كلّ ملهوف) يعني أنه تعالى ملجأ كلّ مضطرّ محزون حال حزنه و اضطراره فيفرّج همّه و يكشف ضرّه و يرفع اضطراره كما قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ و قال: وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ.

و هذا العطف يستلزم عموم قدرته و شمول علمه تعالى بشهادة فطرة المضطرّ بنسبة جميع أحوال وجوده إلى جوده و شهادة فطرته أيضا بعلمه بحاله و اطلاعه على ضرورته و وجوه اللهف و الاضطرار غير معدودة، و جهات الحاجة و الافتقار غير محصورة، و لا يقدر الاجابة لها على كثرتها إلّا الحقّ و القادر المطلق، و أما غيره سبحانه فانما يكون مفزعا و ملجئا لمضطرّ لا لكلّ مضطرّ فكونه مفزعا مجاز لا حقيقة و اتّصافه به اضافيّ لا حقيقيّ.

فمفزع جميع العباد في الداهية و الناوية«» ليس إلّا اللّه الحىّ القيّوم السّميع البصير العالم القادر الخبير المجيب الدّعوات الكاشف للكربات المنجح للطّلبات المنفّس لكلّ حزن و همّ المفرّج من كلّ ألم و غمّ و قال تعالى: وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ.

يعني إذا كنتم في البحر و خفتم الغرق ذهب عن خواطركم كلّ من تدعونه في حوادثكم إلّا إيّاه وحده، فلا ترجون هناك النجاة إلّا من عنده.

روى في التّوحيد انه قال رجل للصّادق عليه السّلام يابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دلّني على اللّه ما هو فقد أكثر علىّ المجادلون و حيّروني، فقال عليه السّلام: يا عبد اللّه هل ركبت سفينة قطّ قال: بلى، قال: فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك و لا سباحة تغنيك قال: بلى، قال: فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك قال: بلى، قال الصادق عليه السّلام: فذلك الشي‏ء هو اللّه القادر على الانجاء حين لا منجى و على الاغاثة حيث لا مغيث.

و (من تكلّم سمع نطقه و من سكت علم سرّه) يعني أنه سبحانه سميع عليم محيط بما أظهره العبد و أبداه، خبير بما أسّره و أخفاه في حالتي نطقه و سكوته، و هو إشارة إلى عموم علمه و إحاطته سبحانه و عدم التفاوت فيه بين السرّ و الاعلان، و الاظهار و الكتمان و قد مضى تحقيق الكلام في هذا المعنى في شرح الفصل السادس و السّابع من الخطبة الاولى و في شرح الخطبة الرابعة و السّتين.

(و من عاش فعليه رزقه و من مات فاليه منقلبه) يعني أنه مرجع العباد الأحياء منهم و الأموات، و به قيام وجودهم حالتي الحياة و الممات، و تقدّم تحقيق الكلام في الرزق في شرح الفصل الأوّل من فصول الخطبة التسعين.

(لم ترك العيون فيخبر عنك) التبقات من الغيبة إلى الخطاب، يعنى امتنع الرؤية من العيون لك فامتنع اخبارها عنك، و قد تقدّم بيان وجه امتناع الرؤية في‏ شرح الخطبة التاسعة و الأربعين، و في اسناد الاخبار إلى العيون توسّع، و المراد نفى امكان الاخبار المستند إلى المشاهدة الحسيّة عنه تعالى.

(بل كنت قبل الواصفين من خلقك) أى بالذات و العلية، و هو وارد في مقام التعليل لنفى الرؤية.

قال الشارح المعتزلي: فان قلت فأىّ منافاة بين هذين الأمرين أليس من الممكن أن يكون سبحانه قبل الواصفين له، و مع ذلك يدرك بالابصار إذا خلق خلقه ثمّ يصفونه رأى عين قلت بل ههنا منافاة ظاهرة و ذلك لأنه إذا كان قديما لم يكن جسما و لا عرضا و ما ليس بجسم و لا عرض يستحيل رؤيته فيستحيل أن يخبر عنه على سبيل المشاهدة (لم تخلق الخلق لوحشة) لاستحالة الاستيحاش كالاستيناس في حقّه سبحانه حسب ما عرفت تفصيلا في شرح الفصل السادس من فصول الخطبة الاولى (و لا استعملتهم لمنفعة) تعود اليك و إنما هى عايدة اليهم لنقصانهم في ذاتهم و لو كانت عايدة اليه سبحانه لزم نقصه في ذاته و استكماله بغيره و هو محال، و قد تقدّم توضيح ذلك في شرح الخطبة الرابعة و الستين و (لا يسبقك من طلبت) أى لا تطلب أحدا فيسبقك و يفوتك (و لا يفلتك من أخذت) أى من أخذته لا يفلت منك بعد أخذه، و الغرض بهذين الوصفين الاشارة إلى كمال قدرته و تمام ملكه، فانّ ملوك الدّنيا أيّهم فرضت ربما يفوت منهم هارب و ينجو من قيد اسرهم المأخوذ بحيلة و نحوها، و أما اللّه العزيز القادر القاهر فلا يمكن في حقّه ذلك.

(و لا ينقص من سلطانك من عصاك و لا يزيد في ملكك من أطاعك) و هو تزيد له سبحانه عن قياس سلطانه و ملكه بسلطنة ملوك الزّمان، فانّ كمال سلطان أحدهم إنما هو بزيادة جنوده و كثرة مطيعيه و قلّة مخالفيه و عصاته، و نقصان سلطانه إنما هو بعكس ذلك، فأما الحقّ تعالى فلمّا كان سلطانه بذاته لا لغيره مالك الملك يعطى الملك من يشاء و ينزع الملك ممّن يشاء و يعزّ من يشاء و يذلّ من يشاء لم‏ يتصوّر خروج العاصي بعصيانه عن كمال سلطانه حتّى يؤثر في نقصانه، و لا طاعة المطيع في ازدياد ملكه حتى تؤثر في زيادته.

و محصلّ ذلك كلّه أنه تعالى كامل من جميع الجهات في ذاته و صفاته بذاته و لذاته و لا حاجة له في عزّه و سلطانه إلى الغير، و لا تأثير للغير في ملكه و سلطنته بالنقصان و الزيادة، و إلّا لزم نقصه في ذاته استكماله بغيره، و هو باطل.

(و لا يردّ أمرك من سخط قضائك) المراد بالأمر هنا الأمر التّكويني المشار إليه بقوله سبحانه: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

و اريد الأمر لكونه بارتفاع الوسايط لا بدّ فيه من وقوع المأمور به لا محالة من غير احتمال تمرّد و عصيان و أما الأمر التشريعي كما في قوله: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ و قوله: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ.

و نحوهما فهو لكونه بالواسطة و على ألسنة الرّسل و الملائكة، فيمكن فيه العصيان و عدم الطّاعة فمعنى قوله: انه لا يردّ أمرك الملزم أى المقدّرات الحادثة على طبق العلم الأزلى من سخط قضائك و كرهه، و قد مرّ في شرح الفصل التاسع من فصول الخطبة الاولى ماله ربط بتوضيح المقام، و في هذه الفقرة أيضا دلالة على كمال قدرته و عموم سلطانه لافادته أنّ كلّ ما علم وجوده فلا بدّ من وجوده، سواء كان محبوبا للعبد أو مبغوضا له كما قال تعالى: وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ و قال إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ.

و تخصيص السّاخط للقضاء بالعجز عن ردّ الأمر لأنّ من شأنه أن لو قدر على ردّ الأمر و القدر لفعل.

(و لا يستغنى عنك من تولّى عن أمرك) أراد به الأمر التشريعى، و من المعلوم‏ أنّ من تمرّد عن أمره و خالفه اشدّ افتقارا و حاجة إلى غفرانه و رحمته ممن قام بوظايف الطاعة و العبادة، و الأظهر أن يراد به الأعمّ من ذلك، و يكون المعنى أنّ من أدبر و تولّى عن حكمه و لم يرض بقضائه و قدره لا يمكن استغنائه عنه و انقطاع افتقاره منه.

و يوضح ذلك ما رواه الصّدوق في التّوحيد باسناده عن سعد الخفاف عن الأصبغ بن نباته قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام لرجل: ان كنت لا تطيع خالقك فلا تأكل رزقه، و إن كنت و اليت عدوّه فاخرج من ملكه، و إن كنت غير قانع بقضائه و قدره فاطلب ربّا سواه.

(كلّ سرّ عندك علانية و كلّ غيب عندك شهادة) و هما إشارتان إلى عموم علمه و إحاطته، و قد مرّ ذلك في شرح الفصل السّابع من الخطبة الاولى و نقول هنا مضافا إلى ما مرّ: انّ واجب الوجود سبحانه مجرّد غاية التجرّد، و الغيبة و الخفاء إنّما يتصوّران بالنسبة إلى القلوب المحجوبة بحجب الطّبيعة و سترات الهيآت البدنية و الأرواح المستولى عليها نقصان الامكان الحاكم عليها بجهل أحوال ما هو أكمل منها، و الواجب تعالى لتجرّده و بساطته و منتهى كماله لا يحجبه شي‏ء عن شي‏ء و فوق كلّ شي‏ء ليس فوقه شي‏ء حتى يقصر عن إدراكه.

(أنت الأبد فلا أمد لك) أى أنت الدّائم فلا غاية لك يقف عندها وجودك و ذلك لاستلزام وجوب الوجود امتناع العدم و الانتهاء إلى الغاية، و يمكن ان يكون إطلاق الأبد عليه سبحانه من باب المجاز مبالغة في الدّوام، و الأصل أنت ذو الأبد على حدّ قوله: فانما هى إقبال و إدبار، و قوله: فأنت طلاق، و هذا المجاز شايع في عرف العرب.

(و أنت المنتهى فلا محيص عنك) أى إليه مصير الخلائق و وقوفهم عنده و إليه انتهاؤهم و إيابهم فيجزى كلّ أحد ما يستحقّه من الثواب و العقاب، فلا محيد عن حكمه و لا مهرب عن أمره و لا معدل يلجئون إليه كما قال تعالى:

وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ و قال إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (و أنت الموعد فلا منجى منك إلّا إليك) و معناها قريب من سابقتها أى لا مخلص و لا ملجأ لأحد منه سبحانه إلّا إليه، و لا عاصم من عذابه إلّا هو عزّ و جلّ فيعصم منه و يرفعه عنه إما بالتوبة و الانابة، أو بالمنّ و الرّحمة.

(بيدك ناصية كلّ دابّة) أى أنت مالك لها قادر عليها تصرفها كيف تشاء غير مستعصية عليك، فانّ الأخذ بالناصية تمثيل لذلك قال المفسّرون في تفسير قوله سبحانه: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها.

هو تمثيل لغاية التسخير و نهاية التذليل، و كان العرب إذا اسر الأسير فأرادوا إطلاقه و المنّ عليه جزوا ناصيته فكان علامة لقهره.

و قال الشارح البحراني: و انما خصت النّاصية لحكم الوهم بأنّه تعالى في جهة فوق فيكون أخذه بالناصية، و لأنها أشرف ما في الدابة فسلطانه تعالى على الأشرف يستلزم القهر و الغلبة و تمام القدرة.

أقول: و الأظهر أنّ تخصيصها من جهة جريان العادة بأنّ الممسك للدابة و المريد لتسخيرها إنّما يستمسك و يقبض ناصيتها بيدها، فأجرى كلامه تعالى و كلام وليّه عليه السّلام على ما هو المتعارف المعتاد.

(و اليك مصير كلّ نسمة) أى مرجع كلّ نفس ثمّ نزّهه سبحانه و قدّسه عن أحكام الأوهام بكونه تعالى مشابها لمدركاتها فقال: (سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك و ما أصغر عظمه في جنب قدرتك) و هو تعجّب في معرض التمجيد من عظم ما يشاهد من مخلوقاته تعالى من الأرض و السّماء و الجوّ و الهواء و النبات و الماء و الشجر و الحجر و الشّمس و القمر و الانسان و الحيوان و البرّ و البحر و اللّيل و النّهار و السّحاب و الغمام و الضّياء و الظّلام إلى غير هذه مما لا ينتهي إلى حدّ و لا يستقصى بعدّ ثمّ من حقارة هذه كلّها بالنسبة إلى ما تعتبره العقول من مقدوراته و ما يمكن في‏ كمال قدرته من الممكنات الغير المتناهية و من البيّن أنّ قياس الموجود على الممكن و نسبته إليه في العظم و الكثرة يستلزم صغره و حقارته ثمّ قال (و ما أهول ما نرى من ملكوتك و ما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك) و هو تعجّب من هول ما وصلت إليه العقول من عظمة ملكوته ثمّ من حقارته بالنسبة إلى ما غاب عنها و خفى عليها مما هو محتجب تحت أستار القدرة و حجبّ العزّة من بدايع الملاء الأعلى و عجائب العالم العلوى و سكّان حظائر القدس.

ثمّ قال (و ما اسبغ نعمك في الدّنيا و ما أصغرها في نعم الآخرة) و هو تعجّب من سبوغ نعمه على عباده في الدّنيا بما لا تحصى ثمّ من حقارتها بالقياس إلى نعم الآخرة و ما أعدّه للمؤمنين فيها من الجزاء الأوفى، فانّ نسبتها إليها نسبة المتناهى إلى ما لا يتناهى كما هو ظاهر لا يخفى.

ثمّ إنّه سلام اللّه عليه و آله لما افتتح كلامه بذكر أوصاف العظمة و الكبرياء للرّب العزيز تبارك و تعالى عقّبه بذكر حالات ملائكة السماء و أنّهم على ما هم عليه من القدس و الطهارة و الفضايل الجمّة و الكمالات الدثرة الّتي فضّلوا بها على الاشباح و الأقران و تميزوا بها عن نوع الانسان، و من العلم و المعرفة التي لهم بخالقهم، و الخوف و الخشية التي لهم من بارئهم، و الخضوع و الخشوع الذى لهم لمعبودهم لم يعبدوه حقّ عبادته و لم يطيعوه حقّ طاعته.

فقال (من ملائكة أسكنتهم سماواتك و رفعتهم عن أرضك) هذا محمول على الأغلب أو المراد أنّ مسكنهم الأصلي هو السّماء، فلا ينافي كون بعضهم في الأرض لاقتضاء المصلحة و التّدبير مثل الكرام الكاتبين و المجاورين بمرقد الحسين عليه السّلام و نظرائهم.

(هم أعلم خلقك بك) لتجرّدهم و بعد علومهم من منازعة النفس الأمارة التي هي مبدء السّهو و النسيان و الغفلة، فيكونون أبلغ معرفة و أكمل علما (و أخوفهم لك) لأنّ العلم كلما كان أكمل كان الخوف آكد و الخشية أشدّ كما قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ.

قال الطبرسي أى ليس يخاف اللّه حقّ خوفه و لا يحذر معاصيه خوفا من نقمته إلّا العلماء الذين يعرفونه حقّ معرفته و إنما خصّ العلماء بالخشية لأنّ العالم أحذر لعقاب اللّه من الجاهل، حيث يختصّ بمعرفة التوحيد و العدل و يصدّق بالبعث و الحساب و الجنّة و النّار.

(و أقربهم منك) أى من حيث الشرف و الرتبة لا بالمكان و المنزلة، لتنزّهه سبحانه عن المحلّ و المكان و تقدّسه من لوازم الامكان، و غير خفىّ أنّ نفضيلهم على غيرهم في القرب و الشرف إنما هو إضافيّ لا حقيقيّ فقد قدّمنا في شرح الفصل الخامس من فصول الخطبة التسعين أنّ بعض أفراد البشر كالنبيّ و الأئمة عليهم السّلام أفضل منهم و أشرف، و قد تقدّم في الفصل المذكور شرح حالات الملائكة مستوفا، و كذلك في شرح الفصل التّاسع من فصول الخطبة الاولى من أراد الاطّلاع فليراجع إليه.

و قوله (لم يسكنوا الأصلاب) و ما يتلوه من الجملات الثّلاث السّلبية إشارة إلى ارتفاعهم عن النقصانات البشرية، أى لم يسكنوا أصلاب الآباء (و لم يضمّنوا الأرحام) أى أرحام الامّهات يعني لم يخالطوا المحالّ المستقذرة (و لم يخلقوا من من ماء مهين) أى ضعيف حقير (و لم يشعبهم ريب المنون) أى لم يفرّقهم حوادث الدهر، و هو إشارة إلى سلامتهم من الأمراض و الأسقام البدنية العارضة للموادّ العنصرية المانعة من الاستغراق التامّ، و التّوجه الكلّي لشهود أنوار الحضرة الرّبوبية.

(و أنّهم على مكانهم منك و منزلتهم عندك) يعني أنهم على ما هم عليه من القرب و الزلفى (و استجماع أهوائهم فيك) أى كمال محبّتهم لك و رغبتهم و شوقهم اليك (و كثرة طاعتهم لك) بحيث لا يفترون عن تسبيحك و لا يسئمون عن تقديسك (و قلّة غفلتهم عن أمرك) التعبير بقلّة الغفلة لمحض المشاكلة و المقابلة بكثرة الطاعة، و إلّا فلا يتصوّر في حقّهم الغفلة كما يدلّ عليه قوله سبحانه: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ.

و في دعاء الصّحيفة العلويّة السجّادية على صاحبها آلاف الصّلاة و السّلام و التحيّة في الصّلاة على حملة العرش: اللّهمّ و حملة عرشك الذي لا يفترون من تسبيحك و لا يسأمون من تقديسك و لا يستحسرون عن عبادتك و لا يؤثرون التقصير على الجدّ في امرك و لا يغفلون عن الوله اليك.

فانّ المقصود ذلك كلّه الاشارة إلى كمال مراتبهم في صنوف العبادات و التأكيد لاستغراقهم في مقام المعرفة و المحبّة و بيان خلوّ عبوديّتهم من النقصانات اللّاحقة، فانّ كلّا من هذه الصّفات المنفية لو وجد كان نقصانا فيما يتعلّق به و اعراضا عن الجهة المقصودة.

و بالجملة فالغرض أنّ هؤلاء الملائكة الرّوحانيّات مع هذه المراتب و الكمالات التي لهم (لو عاينوا كنه ما خفى عليهم منك) أى لو عرفوك حقّ معرفتك (لحقروا أعمالهم) علما منهم بأنها لا تليق بحضرتك (و لزروا على أنفسهم) أى عابوها و عاتبوها لمعرفتهم بكونهم مقصّرين في القيام بوظايف عبوديّتك (و لعرفوا أنّهم لم يعبدوك حقّ عبادتك و لم يطيعوك حقّ طاعتك) لظهور أنّ العبادة و الطاعة إنما هي على قدر المعرفة و كلّما كانت المعرفة أكمل كانت العبادة أكمل، فعبادتهم الحالية على قدر معرفتهم الموجودة، فلو ازدادت المعرفة ازدادت العبادة لا محالة.

الترجمة

از جمله خطب فصيحه آن سرور عالميان و مقتداى آدميانست در ذكر صفات كمال و نعوت جلال خداوند متعال و أوصاف فرشتگان و غرور بندگان بمتاع اين جهان و بيان حشر و نشر انسان و ذكر صفات پيغمبر آخر الزّمان عليه و آله أفضل الصّلاة و السّلام چنانچه فرموده: هر چيز فروتني كننده است بر حضرت عزّت، و هر چيز قايم است در وجود بجناب احديت او، توانگرى هر فقير است، و عزّت هر ذليل و حقير، و قوّت هر ضعيف و ناتوان، و پناهگاه هر مضطرّ و محزون، هر كس تكلّم نمود شنود او گفتار او را،و هر كه خاموش شد دانست أسرار او را، و هر كه زندگاني نمايد بر او است روزى او، و هر كه وفات نمايد بسوى اوست باز گشت او، نديد تو را چشمها تا خبر دهد از تو صاحبان ديدها، بلكه بودى تو پيش از وصف كنندگان از خلايق خودت، نيافريدى خلق را از جهة ترس و وحشت، و طلب عمل ننمودى از ايشان بجهة جلب منفعت، پيشي نمى‏ گيرد بتو كسى كه طلب كردى تو او را، و خلاصى نيافت از تو كسى كه أخذ نمودى تو او را، و كم نمى‏ نمايد پادشاهى تو را كسى كه معصيت تو را نمود، و زياد نمى‏ كند در ملك تو كسى كه اطاعت تو را كرد، و ردّ نمى ‏كند أمر تو را كسى كه ناخوش دارد حكم تو را، و مستغنى نمى ‏باشد از تو كسى كه رو گردان شود از فرمان تو، هر نهاني در نزد تو آشكار است، و هر غايبى در نزد تو حاضر، توئى صاحب دوام پس هيچ نهايتى نيست تو را، و توئى محلّ نهايت خلايق پس هيچ گريز گاهى نيست از تو، و توئى وعده گاه همه پس جاى نجاتي نيست از تو مگر بسوى تو، در دست قدرت تست موى پيشانى هر جنبنده، و بسوى تست باز گشت هر نفس تنزيه ميكنم تو را تنزيه كردنى چه بزرگست آنچه كه مى‏ بينيم از مخلوقات، و چه كوچكست بزرگى آن در جنب قدرت تو، و چه هولناكست آنچه كه مشاهده مى ‏كنيم از پادشاهى تو، و چه حقير است اين در جنب آنچه كه پنهانست از مادر سلطنت تو، و چه وافر است نعمتهاى تو در دنيا، و چه كوچكست اين نعمتها در جنب نعمتهاى آخرت.

بعض ديگر از اين خطبه در صفت فرشتگان فرموده: از ملائكه كه ساكن نمودى ايشان را در آسمانهاى خود، و برداشتى ايشان را از زمين خود، ايشان داناترين مخلوقات تو است بتو، و ترسنده ترين خلايق است مر تو را، و مقرّب‏ترين ايشان است از تو، ساكن نشده ‏اند ايشان در پشت پدران، و نهاده نشده ‏اند در رحمهاى مادران، و آفريده نشده ‏اند از نطفه كه ضعيف است و بي مقدار، و پراكنده نساخته است ايشان را حوادث روزگار.

و بدرستى كه ايشان در مكان قربى كه ايشان را است از تو، و منزلت و مرتبتى كه‏ ايشان را است نزد تو، و كمال خواهشهائيست كه ايشان را است در تو، و كثرت عبادتى كه ايشان را است بتو، و كمى غفلتى كه ايشان را است از امر تو اگر مشاهده كنند پايان آنچه كه پنهانست برايشان در معرفت، هر آينه حقير مى‏ شمارند عملهاى خودشان را و هر آينه عتاب مى‏ نمايند بر نفسهاى خود، و هر آينه مى‏ دانند كه ايشان نپرستيده‏ اند تو را حقّ پرستش، و فرمان نبرده‏اند تو را همچنان كه لايق فرمان بردارى تست.

الفصل الثاني

سبحانك خالقا و معبودا، بحسن بلائك عند خلقك، خلقت دارا و جعلت فيها مأدبة، مشربا، و مطعما، و أزواجا، و خدما، و قصورا، و أنهارا، و زروعا، و ثمارا، ثمّ أرسلت داعيا يدعو إليها، فلا الدّاعي أجابوا، و لا فيما رغّبت إليه رغبوا، و لا إلى «على خ ل» ما شوّقت إليه اشتاقوا، أقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها، و اصطلحوا على حبّها، و من عشق شيئا أعشى بصره، و أمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، و يسمع باذن غير سميعة، قد خرقت الشّهوات عقله، و أماتت الدّنيا قلبه، و ولهت عليها نفسه، فهو عبد لها، و لمن في يديه شي‏ء منها، حيثما زالت زال إليها، و حيثما أقبلت أقبل عليها، لا ينزجر من اللّه بزاجر، و لا يتّعظ منه بواعظ، و هو يرى المأخوذين على الغرّة، حيث لا إقالة و لا رجعة، كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون، و جاءهم من فراق الدّنيا ما كانوا يأمنون، و قدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون. فغير موصوف ما نزل بهم، اجتمعت عليهم سكرة الموت، و حسرة الفوت، ففترت لها أطرافهم، و تغيّرت لها ألوانهم، ثمّ ازداد الموت فيهم و لوجا، فحيل بين أحدهم و بين منطقه، و إنّه لبين أهله، ينظر ببصره، و يسمع باذنه، على صحّة من عقله، و بقاء من لبّه، يفكّر فيم أفنى عمره، و فيم أذهب دهره، و يتذكّر أموالا جمعها، أغمض في مطالبها، و أخذها من مصرّحاتها و مشتبهاتها، قد لزمته تبعات جمعها، و أشرف على فراقها، تبقى لمن ورائه، ينعّمون فيها، و يتمتّعون بها، فيكون المهناء لغيره، و العب‏ء على ظهره، و المرء قد غلقت رهونه بها، فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره، و يزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره، و يتمنّى أنّ الّذي كان يغبطه بها، و يحسده عليها قد حازها دونه. فلم يزل الموت يبالغ في جسده، حتّى خالط لسانه سمعه، فصار بين أهله، لا ينطق بلسانه، و لا يسمع بسمعه، يردّد طرفه بالنّظر في وجوههم، يرى حركات ألسنتهم، و لا يسمع رجع كلامهم، ثمّ ازداد الموت التياطا، فقبض بصره كما قبض سمعه، و خرجت الرّوح من جسده، فصار جيفة بين أهله، قد أوحشوا من جانبه، و تباعدوا من قربه، لا يسعد باكيا، و لا يجيب داعيا، ثمّ حملوه إلى مخطّ من الأرض، فأسلموه فيه إلى عمله، و انقطعوا عن زورته.

اللغة

(المأدبة) بفتح الهمزة و ضمّها وزان مسعدة و مكرمة طعام صنع لدعوة أو عرس من أدب فلان أدبا من باب ضرب إذا عمل مأدبة و (و له) الرّجل من باب ضرب و منع و حسب اذا تحيّر من شدّة الوجد و في بعض النسخ و لهت بالتضعيف و نصب نفسه على المفعول و (الغرّة) بكسر الغين المعجمة الاغترار و الغفلة يقال اغترّه فلان أى أتاه على غرّة منه و (أطراف) البدن الرأس و اليدان و الرّجلان و (و لج) يلج ولوجا أى دخل و (المصرّح) خلاف المشتبه و هو الظاهر البيّن و (التبعات) جمع التبعة و هو الاثم، و (المهنأ) المصدر من هنأ الطعام يهنأ و هنوء يهنوء بالكسر و الضم إذا صار هنيئا و (العب‏ء) الثقل و (أصحر) أى ظهر و انكشف و اصله من أصحر القوم اذا برزوا من المكمن الى الصحرا و (رجع) الكلام ما يتراجع منه و (الالتياط) الالتصاق و (الاسعاد) الاعانة و (المخطّ من الأرض) بالخاء المعجمة كناية عن القبر يخطّ أولا ثمّ يحفر، و في بعض النسخ بالحاء المهملة و هو المنزل من حطّ القوم إذا نزلوا.

الاعراب

خالقا و معبودا منصوبان على الحال من كاف الخطاب في سبحانك، و العامل فيهما هو المصدر لتضمّنه معنى الفعل و يحتملان الانتصاب على التميز.

قال الشارح المعتزلي: و الباء في قوله بحسن بلائك، للتعليل كقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ، أى لأنّهم، فتكون متعلّقة بما في سبحانك من معنى الفعل أى اسبّحك لحسن بلائك، و يجوز أن تتعلّق بمعبود أى يعبد لذلك، انتهى.

و الأظهر أن تكون متعلّقة بقوله خلقت، و تقديمها عليه للتّوسّع، و المعنى خلقت دارا بسبب حسن بلائك كما تقول ضربت زيدا بسوء أدبه، و قوله مأدبة قال الشارح البحراني: المأدبة هنا الجنّة، و المنصوبات الثمانية مميّزات لتلك المأدبة أقول: و هو غلط إذ المأدبة سواء اريد به معناه الاصلي أو المجازى أعني الجنة لا ابهام فيه حتى يحتاج إلى التميز، بل الظاهر أنّ المراد به في المقام مطلق ما يصنع لدعوة من طعام أو غيره.

و انتصاب المنصوبات الثمانية إما على أنّها عطف بيان كما هو مذهب الكوفيّين و جماعة من البصريّين من علماء الأدبيّة حيث جوّزوا عطف البيان في النكرات و جعلوا منه قوله سبحانه: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ، فيمن نوّن كفّارة.

و إما على البدل كما هو مذهب جمهور البصريّين حيث خصّوا عطف البيان بالمعارف زعما منهم أنّ البيان بيان كاسمه، و النكرة مجهولة و المجهول لا يبين المجهول.

و فيه أنّ بعض النكرات قد يكون أخصّ من بعض و الأخصّ يبيّن غير الأخصّ كما في كلام الامام عليه السّلام، و قوله: و لا فيما رغبت رغبوا، الظرف متعلّق برغبوا، و رغبت صلة ما، و العايد محذوف بقرينة المقام و دلالة الكلام أى فيما رغبت فيه، و جملة أقبلوا، استيناف بيانيّ، و نفسه بالضمّ فاعل و لهت، و لمن في يديه، عطف على لها.

و جملة و هو يرى، منصوبة المحلّ على الحال من فاعل يتّعظ، و قوله: فغير موصوف ما نزل بهم، غير بالرّفع خبر مقدّم على مبتدئه أعني ماء الموصولة لافادة الحصر و الدّلالة على أنّ غير ما نزل قابل لأن يوصف كما في قوله سبحانه: لا فيهاغول، أى ليس غول في خمور الجنة بخلاف خمور الدّنيا و ايراد المسند اليه بلفظ الموصول للتفخيم و التهويل كما في قوله: فغشيهم من اليمّ ما غشيهم.

و وصل جملة اجتمعت لسابقتها لما بينهما من كمال الاتّصال و كون الثانية أو فى بتمام المراد و اقتضاء المقام الاعتناء بشأنه لكونه فظيعا في نفسه و نظيرها قوله سبحانه: أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ.

فانّ المراد التنبيه على نعم اللّه، و الثّانية أو في بتاديته لدلالتها عليها بالتفصيل، فالجملة الثانية في المقامين منزّلة منزلة بدل البعض، و كذلك وصل جملة يفكر لسابقتها لما بينهما من كمال الاتصال أيضا لكونها من سابقتها بمنزلة التّأكيد المعنوى مثل: لا ريب فيه، في قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ، و وزانهما وزان جائنى زيد نفسه، و هذا كله من محسّنات البيان و إنما نبّهنا عليه مع عدم مدخلية في الاعراب اشارة إلى بعض وجوه الحسن في كلامه عليه السّلام.

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من كلامه تحذير للمتمرّدين العصاة و المذنبين الغواة، و تنفير لهم عن الركون إلى الدّنيا و إلى زخارفها و ما فيها، و تذكير لهم بما يحلّ بساحتهم من سكرات الموت و ينزل بفنائهم من حسرات الفناء و الفوت.

و افتتح بتسبيحه تعالى و تقديسه فقال: (سبحانك خالقاً و معبوداً) أى أنزّهك تنزيها عن الشركاء و الأمثال في حالة خلقك و معبوديّتك لا موجد غيرك و لا معبود سواك (بحسن بلائك عند خلقك خلقت دارا) أى خلقت دارا بسبب ابتلاء عبادك و امتحانا لهم و تميزا بينهم و تفرقه بين السّعداء أعنى الطالبين المشتاقين إلى تلك الدار، و بين الأشقياء و هم الرّاغبون المعرضون عنها، و المراد بالدّار دار الآخرة،و ما في شرح البحراني من أنّ لفظ الدّار مستعار للاسلام باعتبار أنه يجمع أهله و يحميهم كالدّار، لا يخفى بعده و الأظهر ما ذكرناه، و يشعر به قوله سبحانه: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.

و يؤيّده قوله (و جعلت فيها مأدبة) فانّه لو أريد بالدّار الاسلام لا بدّ من حمل الظرف أعنى قوله: فيها، على المجاز بخلاف ما لو اريد بها الآخرة و الأصل في الكلام الحقيقة، و المراد بالمأدبة الجنّة التي هيأت للمتّقين و دعى اليها عباد اللّه الصّالحون، و أعدّ اللّه سبحانه لهم فيها ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و ما تشتهيه أنفسهم.

(مشربا و مطعما) أى شرابا و طعاما (و أزواجا) من الحور العين (و خدما) من الولدان المخلّدين (و قصورا) عالية (و أنهارا) جارية (و زروعا) زاكية (و ثمارا) طيّبة (ثمّ أرسلت داعيا يدعو) الناس (اليها) إى إلى هذه الدّار أو المأدبة، و أراد بالداعى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو إيّاه مع ساير الأنبياء.

(فلا الدّاعى أجابوا و لا فيما رغبت اليه) من الدار الآخرة الباقية و نعيمها (رغبوا و لا إلى ما شوّقت اليه) من حور الجنة و قصورها و أنهارها و ثمارها و ساير ما اعدّ فيها.

(اشتاقوا اقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها) استعار عليه السّلام لفظ الجيفة للدنيا باعتبار نفرة طباع أهل البصيرة. و المعرفة عنها و كونها مستقذرة في نظر أرباب اليقين و أولياء الدّين كالجيفة المنتنة التي ينفرّ عنها النّاس و يفرّون منها، أو باعتبار اجتماع أهلها عليها و فرط رغبتهم إليها و كون همّ كلّ واحد جذبها إلى نفسه بمنزلة جيفة منبوذة تجتمع عليها الكلاب و يجذبها كلّ إليه قال الشاعر:

و ما هى إلّا جيفة مستحيلة
عليها كلاب همّهنّ اجتذابها

فان تجتنبها كنت سلما لأهلها
و ان تجتذ بها نازعتك كلابها

و أما افتضاحهم بأكلها فلانّها بعد ما كانت بمنزلة الجيفة يكون آكلها مفتضحا بأكلها لا محالة، و هو ترشيح للاستعارة.

و قوله عليه السّلام (و اصطلحوا على حبّها) أى اتفقوا على محبّتها و توافقوا عليها، فانّ أصل الصلح هو التراضي بين المتنازعين و تجوّز به عن التوافق و الاتفاق للملازمة بينهما (و من عشق شيئا) أى كان مولعا به شديد المحبّة له، فانّ العشق هو الافراط في الحبّ و التجاوز عن حدّ الاعتدال.

قال جالينوس الحكيم العشق من فعل النفس و هى كامنة في الدّماغ و القلب و الكبد، و في الدماغ ثلاث مساكن التخيّل في مقدّمه، و الفكر في وسطه، و الذكر في آخره فلا يكون أحد عاشقا حتى اذا فارق معشوقه لم يخل من تخيّله و فكره و ذكره فيمتنع من الطعام و الشراب باشتغال قلبه و كبده من النوم باشتغال الدّماغ بالتخيّل و الذكر و الفكر للمعشوق، فيكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به، و متى لم يكن كذلك لم يكن عاشقا.

و كيف كان فالمراد أنّ من أفرط في محبّة شي‏ء (اغشى) ذلك الشي‏ء (بصره و أمرض قلبه) أى يكون فرط حبّه لذلك الشي‏ء مانعا عن توجّهه الى ما يلزمه التوجّه إليه و حاجبا عن النظر إلى مصالحه و ما يلزمه الاشتغال به فيكون غافلا عما عداه، صارفا أوقاته بكلّيته إلى هواه، و يكون«» عشقه مانعا عن ادراكه العقول، و يكون عشقه ايضا مانعا عن ادراكه لعيوب المعشوق، و عن التفاته الى مساويه، و من هنا قيل:

و عين الرّضا عن كلّ عيب كليلة
كما أنّ عين السّخط تبدى المساويا

و غرضه عليه السّلام أنّ أهل الدّنيا لكثرة حبّهم لها و فرط رغبتهم إليها قصرت أبصارهم عن النظر إلى اخراهم، و مرضت قلوبهم عن التوجه إلى عقباهم، و صرفوا أوقاتهم بكلّيتها إليها و إلى زخارفها و قنياتها، غافلين عن ادراك عيوباتها و مساويها و لم يعرفوا أنها غدّارة مكّارة، غرّارة يونق منظرها و يوبق مخبرها، و لم تف إلى الآن لأحد من عشّاقها، و لم تصدق ظنّ أحد من طالبيها و راغبيها (فهو ينظر بعين غير صحيحة و يسمع باذن غير سميعة) لغفلته عما سوى المحبوب و عدم تنبّهه بما فيه من العيوب فلا ينظر اليه بنظر البصيرة و الاعتبار حتى يبصر ما فيه من المفاسد و المضار، و لا يستمع إلى المواعظ و الزواجر و النواهى و الأوامر حتّى يأخذ عدّته ليوم تبلى السرائر.

(قد خرقت الشهوات عقله) شبّه العقل بالثوب اذ كما أنّ الثوب زينة الانسان و وقاية للبدن من الحرّ و البرد فكذلك العقل زينة للمرء و وقاية له من حرّ نار الجحيم يعبد به الرّحمن و يكتسب به الجنان، و جعل عقل الرجل الموصوف بمنزلة ثوب خلق و رشح الاستعارة بذكر الخرق إذا الثوب إذا كان خرقا خلقا ممزقا لا ينتفع به صاحبه فكذلك العقل إذا كان مفرقا بالشهوات الباطلة مصروفا في اللّذات العاجلة لا ينتفع به فيما خلق لأجله البتة و في الحقيقة هذه القوّة نكر أو شيطنة و ليست بالعقل و إنما هى شبيهة بالعقل.

(و أماتت الدّنيا قلبه) فلا انتفاع له به كميّت لا نفع له (و ولهت عليها نفسه) أى صار في فرط محبّته للدّنيا بمنزلة الواله عليها و المفتون بها (فهو عبد لها و لمن في يديه شي‏ء منها) لأنه اذا كانت همته مصروفة اليها و أوقاته مستغرقة في جمعها و جبايتها صار زمام أمره بيدها (حيثما زالت زال اليها و حيثما أقبلت أقبل عليها) كعبد دائر في حركاته و سكناته مدار مولاه بل عبوديته لها أشدّ و أخسّ من عبودية العبد لسيّده، إذ طاعة العبد و انقياده لسيّده ربما يكون قسّريا و خدمة ذلك لدنياه عن وجه الشّوق و الرّغبة و الرضاء و المحبة و في هذا المعنى قال الشاعر:

ما النّاس إلّا مع الدّنيا و صاحبها
فكيف ما انقلبت يوما به انقلبوا

يعظّمون أخا الدّنيا فان و ثبت‏
يوما عليه بما لا يشتهى و ثبوا

(لا ينزجر من اللّه بزاجر و لا يتّعظ منه بواعظ و هو يرى) الكتب الالهية و الصحف‏ السّماويّة و الأخبار النّبويّة المشحونة بذمّ الدّنيا النّاهية عن الركون اليها و الاعتماد عليها، مضافا إلى رؤيته المخرجين عن الدّنيا بجبر و قهر، و المقلعين عنها بكره و قسر (المأخوذين على الغرّة) و حالة الاغترار و الغفلة المشغولين بالدّنيا و شهواتها الغافلين عن هادم اللّذات و سكراته (حيث لا اقالة) لهم عن ذنوبهم (و لا رجعة) لهم إلى الدّنيا ليتداركوا سيئات أعمالهم.

(كيف نزل بهم) من شدايد الأهوال (ما كانوا يجهلون و جاءهم من فراق الدّنيا ما كانوا يأمنون و قدموا من) عقبات (الآخرة على ما كانوا يوعدون) فانه لو تفكّر في ذلك و تذكّر ذلك يوشك أن يؤثر فيه و يقلّ فرحه بالدّنيا و شعفه بها.

لأنه بعد ما لاحظ أحوال هؤلاء الماضين و تصوّر تبدّد أجزائهم في قبورهم، و محو التراب حسن صورهم، و أنهم كيف ارملوا نسائهم و ايتموا أولادهم و ضيّعوا أموالهم، و خلت عنهم مجالسهم و مدارسهم، و انقطعت عنهم آثارهم و معالمهم، و عرف أنّه عن قريب كائن مثلهم انقلع لا محالة عن هواه و ارتدع عن حبّ دنياه

تفانوا جميعا فما مخبر
و ماتوا جميعا و مات الخبر

تروح و تغد و بنات الثرى‏
فتمحو محاسن تلك الصّور

فيا سائلى عن اناس مضوا
أما لك فيما ترى معتبر

لا سيّما لو عمق نظره في ما حلّ بالأموات بعد موتهم، و ما نزل بساحتهم حين موتهم، لكان ندمه أشدّ و حسرته آكد.

(ف) انه (غير موصوف ما نزل بهم) من الشّدائد و الآلام، و يحتمل أن يكون ضمير بهم راجعا إلى الذين لم يجيبوا الدّاعي المقدّم ذكرهم بقوله: فلا الدّاعي أجابوا و لا فيما رغبت إليه رغبوا (اجتمعت عليهم سكرة الموت و حسرة الفوت ففترت لها أطرافهم و تغيّرت لها ألوانهم) و ذلك لأنّ ألم النزع يسرى جميع اعضاء البدن و يستوعب الأطراف و يوجب ضعفها و فتورها.

قال الغزالي: و اعلم أنّ شدّة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها، و من لم يذقها فانما يعرفها بالقياس إلى الآلام التي أدركها، بيان ذلك القياس أنّ كلّ عضولا روح فيه فلا يحسّ بالألم، فاذا كان فيه فالمدرك للألم هو الرّوح فمهما أصاب العضو جرح أو حريق سرى الأثر إلى الروح فبقدر ما يسرى إلى الروح يتألّم، و المؤلم يتفرّق على اللّحم و الدم و ساير الأجزاء فلا يصيب الرّوح إلّا بعض الألم، فان كان في الآلام ما يباشر نفس الروح و لا يلاقي غيره، فما اعظم ذلك الألم و ما أشدّ، و النزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الرّوح، فاستغرق جميع أجزائه حتى لم يبق جزء من اجزاء المنتشر في أعماق البدن إلّا و قد حلّ به الألم، فلو أصابته شوكة فالألم الذى يجده إنّما يجرى في جزء من الرّوح يلاقي ذلك الموضوع الذي أصابته الشوكة، و إنما يعظم أثر الاحتراق لأنّ أجزاء النار تغوص في ساير أجزاء البدن، فلا يبقى جزء من العضو المحترق ظاهرا و باطنا إلّا و تصيبه النّار، فتحسر الأجزاء الرّوحانية المنتشرة في ساير أجزاء اللحم، و أمّا الجراحة فانّما تصيب الموضوع الذي مسّه الحديد فقط فكان لذلك ألم الجرح دون ألم النار فألم النزع يهجم على نفس الرّوح و يستغرق جميع أجزائه، فانّه المنزوع المجذوب من كلّ عرق من العروق و عصب من الأعصاب و جزء من الأجزاء و مفصل من المفاصل و من أصل كلّ شعرة و بشرة من الفرق إلى القدم حتّى قالوا إنّ الموت لأشد من ضرب بالسّيف و نشر بالمناشير و قرض بالمقاريض، لأنّ قطع البدن بالسيف إنما يولمه لتعلّقه بالرّوح فكيف إذا كان المتناول المباشر نفس الروح، و إنما يستغيث المضروب و يصيح لبقاء قوّته في قلبه و في لسانه، و إنّما انقطع صوت الميّت و صياحه مع شدّة ألمه لأنّ الكرب قد بالغ فيه و تصاعد على قلبه و بلغ كلّ موضع منه، فهدّ كلّ قوّة و ضعف كلّ جارحة، فلم يترك له قوّة الاستغاثة.

و إلى ذلك أشار بقوله (ثمّ ازداد الموت فيهم و لوجا فحيل بين أحدهم و بين منطقه) و استعار لفظ الولوج لما يتصوّر من فراق الحياة بعضو عضو، فأشبه ذلك دخول جسم في جسم آخر، و المقصود بذلك شدّة تأثير الموت في أبدانهم و ايجابه لضعف اللّسان عن قوّة النطق و التكلّم.

نعم في رواية الكافي باسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: الحياة و الموت خلقان من خلق اللّه فاذا جاء الموت فدخل في الانسان لم يدخل في شي‏ء إلّا و خرج منه الحياة.

فانّ ظاهر هذه الرواية مفيدة لكون الولوج في كلامه مستعملا في معناه الحقيقي اللهمّ إلّا أن يرتكب المجاز في ظاهر هذه أيضا فافهم.

(و انه لبين أهله ينظر) اليهم (ببصره و يسمع) كلامهم (باذنه) و لا يتمكّن من اظهار ما فيه من الشدّة و الحسرة عليهم لمكان ضعفه و عجزه مع أنه (على صحّة من عقله و بقاء من لبّه) فهو راغب عن الدّنيا مقبل إلى الآخرة، مشغول بحاله محاسب على نفسه، متحسّر على ما قدّمت يداه، نادم على ما فرّط في جنب مولاه.

(يفكّر فيم أفنى عمره و فيم أذهب دهره) و يتأثّر على غفلته في أيّام مهلته (و يتذكّر أموالا جمعها) و استغرق أوقاته فيها (أغمض في مطالبها) و تساهل في اكتسابه أيّامه و ذلك لعدم مبالاته بأنها من حلال أو حرام (و أخذها من مصرّحاتها و مشتبهاتها) أى من وجوه مباحة و ذوات شبهة.

كما اشير إليه في النبوى المعروف قال عليه السّلام إنما الامور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، و أمر بيّن غيّه فيجتنب، و شبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات و من أخذ بالشّبهات وقع في المحرّمات و هلك من حيث لا يعلم.

(قد لزمته تبعات جمعها) و آثام جبايتها (و أشرف على فراقها تبقى لمن ورائه ينعّمون فيها و يتمتّعون بها) و هم إما أهل طاعة اللّه فسعدوا بما شقى، و إمّا أهل معصيته فكان عونا لهم على معصيتهم (فيكون المهنأ لغيره و العبؤ على ظهره) أى يكون هنائة تلك الأموال أى كونها هنيئة لغيره، و وزرها و ثقلها على ظهره.

و في الحديث النبويّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المرويّ عن ارشاد القلوب قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا حمل الميّت على نعشه رفرف روحه فوق النعش و هو ينادى: يا أهلي و ولدي لا تلعبنّ بكم الدّنيا كما لعبت بي، جمعته من حلّ و غير حلّ و خلّفته لكم فالمهنأ لكم‏ و التعب علىّ فاحذروا مثل ما قد نزل بي، و نعم ما قيل:

يمرّ أقاربي جنبات قبرى
كأنّ أقاربي لم يعرفوني‏

و ذو الميراث يقتسمون مالي‏
و ما يألون أن جحدوا ديوني‏

و قد أخذوا سهامهم و عاشوا
فياللّه أسرع ما نسوني‏

و قوله عليه السّلام (و المرء قد غلقت رهونه بها) قال الشارح المعتزلي: معناه أنه لما كان قد شارف الرّحيل و أشفى على الفراق صارت تلك الأموال التي جمعها مستحقّه لغيره و لم يبق له فيها تصرّف، و أشبهت الرّهن الذى غلق على صاحبه، فخرج عن كونه مستحقا له و صار مستحقا لغيره و هو المرتهن.

و اورد عليه بأنه و إن كان محتملا إلّا أنه يضيع فائدة قوله: بها، لأنّ الضمير يعود إلى الأموال المجموعة، و هو إشارة إلى المال الذى انغلق الرّهن به فلا نكون هى نفس الرّهن.

و قال الشارح البحراني: ضربه عليه السّلام مثلا لحصول المرء في تبعات ما جمع و ارتباطه بها عن الوصول إلى كماله و انبعاثه الى سعادته بعد الموت، و قد كان يمكنه فكاكها بالتوبة و الأعمال الصالحة، فأشبه ما جمع من الهيآت الرّديّة في نفسه عن اكتساب الأموال، فارتهنت بها بما على الراهن من المال.

أقول: و يتوجّه عليه أنّ الراهن على ذلك التوجيه هو نفس المراد و لو كان مراده عليه السّلام ذلك لقال و المرء قد صار رهينا بها كما قال تعالى: كلّ نفس بما كسبت رهينة.

و الذي يلوح على النّظر القاصر هو أن يقال: إنّه من باب الاستعارة التمثيلية و الغرض تشبيه حال هذا المرء المحجوب عن الترقّي إلى مدارج الكمال الغير المتمكّن من الوصول إليها بجمع تلك الأموال بحال من غلقت عليه أمواله المرهونة في مقابل دين المرتهن في عدم امكان وصوله اليها و محجوريته عنها، أو أنّ رهونه استعارة لبعض ما فعله من الأعمال الصالحة و ذكر الغلق ترشيح، و تشبيه تلك الأعمال‏ بالرّهن باعتبار عدم تمكّنه من الانتفاع بها و محجوبيّته عنها بما جمعه من الأموال فصارت تلك الأموال حاجبة مانعة عن انتفاعه بها بمنزلة دين المرتهن المانع عن تصرف الراهن في العين المرهونة الموجب لحجره عنها و عن استفادته بها، و إنّما صارت تلك الأموال سببا للحجب و المنع عن الانتفاع، لكون حقّ النّاس مقدّما على حقّ اللّه، و لذلك كان أوّل عقبات القيامة موضوعة للحكم بين النّاس و أخذ المظالم، هذا ما يخطر بالخاطر القاصر، و اللّه العالم بحقايق كلام وليّه عليه السّلام (فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره) و انكشف له حينئذ من تفريطه كما يعضّ يوم القيامة إذا عاين العقاب و شاهد طول العذاب قال سبحانه: وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى‏ يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى‏ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي.

قال في التفسير أى يعضّ على يديه ندما و أسفا، قال عطا: يأكل يديه حتى تذهب إلى المرفقين ثمّ تنبتان لا يزال هكذا كلّما نبتت يداه أكلهما ندامة على ما فعل، هذا فغضّ اليد في الآية مستعمل على التّفسير المذكور في معناه الحقيقي، و في كلامه عليه السّلام كناية عن النّدم و التّحسّر على ما فرّط في جنب اللّه و قصر في امتثال أمر مولاه (و يزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره) من الأموال التي جمعها و خلّفها لغيره (و يتمنّى انّ الذى كان يغبطه بها و يحسده عليها قد حازها دونه) لما ظهر له من تبعاتها و سوء عاقبتها.

(فلم يزال الموت يبالغ في جسده حتى خالط لسانه سمعه فصار بين أهله لا) يقدر أن (ينطق بلسانه و لا) أن (يسمع بسمعه) لانقطاع مادّة الحياة عن السّمع‏ و اللّسان (يردّد طرفه بالنظر في وجوههم) أى مخاطباتهم و (يرى حركات ألسنتهم و لا يسمع رجع كلامهم) أى ما يتراجعونه من الكلام لبطلان قوّته السّامعة و بقاء قوّته الباصرة بعد.

(ثمّ ازداد الموت التياطا به) أى التصاقا (فقبض بصره كما قبض سمعه و خرجت الرّوح من جسده) و ظاهر هذا الكلام بملاحظة ما سبق من قوله: ثمّ ازداد الموت فيهم و لوجا فحيل بين أحدهم و بين منطقه آه، و ما سبق أيضا من قوله: فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتى خالط لسانه سمعه، يفيد لبطلان آلة النطق في الانسان قبل آلتى السمع و البصر، ثمّ بطلان آلة البصر و إنّما تبطل مع خروج الرّوح و مفارقتها عن البدن.

قال الشارح البحراني: و ليس ذلك مطلقا بل في بعض الناس و أغلب ما يكون ذلك فيمن تعرض الموت الطبيعي لآلاته و الّا فقد تعرض الآفة لقوّة البصر و آلته قبل آلة السّمع و آلة النطق، و الذي يلوح من اسباب ذلك أنه لما كان السبب العام القريب للموت هو انطفاء الحرارة الغريزية عن فناء الرّطوبة الأصلية التي منها خلقنا، و كان فناء تلك الرطوبة عن عمل الحرارة الغريزية فيها التجفيف و التحليل، و قد تعينها على ذلك الأسباب الخارجية من الأهوية و استعمال الأدوية المجففة و ساير المجففات، كان كلّ عضو أيبس من طبيعته و أبرد أسرع إلى البطلان و أسبق إلى الفساد.

إذا عرفت ذلك فنقول: أما أنّ آلة النطق أسرع فسادا من آلة السمع، فلأنّ آلة النطق مبنيّة على الأعصاب المحركة و مركبة منها، و آلة السمع من الاعصاب المفيدة للحسّ و اتّفق الأطباء على أنّ الأعصاب المحرّكة أيبس و أبرد، لكونها منبعثة من مؤخّر الدماغ دون الأعصاب المفيدة للحسّ، فانّ جلّها منبعث من مقدّم الدّماغ فكان لذلك أقرب إلى البطلان، و لأنّ النطق أكثر شروطا من السّماع لتوقفه مع الآلة و سلامتها على الصّوت و سلامة مخارجه و مجارى النفس، و الأكثر شرطا أسرع إلى الفساد.

و أما بطلان آلة السمع قبل البصر فلأنّ منبت الأعصاب التي هي محلّ القوّة السامعة أقرب إلى مؤخّر الدّماغ من منابت محلّ القوّة الباصرة، فكانت أيبس و أبرد و أقبل لانطفاء الحرارة الغريزية، و لأنّ العصب المفروش على الصّماخ الذي رتّبت فيه قوة السّمع احتاج أن يكون مكشوفا غير مسدود عنه سبيل الهواء بخلاف العصب الذى هو آلة البصر، فكانت لذلك أصلب و الأصلب أيبس و أسرع فسادا، هذا مع أنّه قد يكون ذلك لتحلّل الروح الحامل للسّمع قبل الرّوح الحامل للبصر أو لغير ذلك، و اللّه اعلم.

و قوله عليه السّلام (فصار جيفة بين أهله) لا يخفى ما في هذا التعبير من النكتة اللّطيفة، و هو التنفير عن التعلّق بهذا البدن العنصرى و النهى عن التعزّز بهذا الهيكل الجسماني، فإنّ من كان أوّله جيفة و آخره جيفة و هو في الدّنيا حامل الجيف كيف يجوز له الاغترار بوجوده، و التعزّز و التّكبر بذاته لا سيّما بعد ملاحظة كون آخره جيفة أقذر من ساير الجيف حتّى جيفة الكلب و الخنزير، حيث إنّ ساير الجيف لا توجب على من لامسها الغسل بخلاف ميتة الانسان فانّ ملامستها توجب غسل المسّ خصوصا لو لاحظ أنّ أقرب النّاس إليه و آنسهم به من الآباء و الاخوان و البنات و الولدان: (قد أوحشوا من جانبه و تباعدوا من قربه) مع كمال انسهم به و محبّتهم له، و جهة استيحاشهم منه حكم أوهامهم السخيفة على قواهم المتخيلة بمحاكات حاله في نفس المتوهم و عزل العقل في ذلك الموضع، و لذلك أنّ المجاور لميّت في موضع ظلماني منفرد يتخيل أنّ الميّت يجذ به إليه و يصيره بحاله المنفورة عنها طبعا.

و بالجملة فالمرء إذا خرجت روحه من جسده تنافر الناس عنه و يبقى فريدا وحيدا (لا يسعد باكيا) على بكائه (و لا يجيب داعيا) على دعائه.

(ثمّ حملوه) أى حفدة الولدان و حشدة الاخوان (الى محطّ من الأرض) أى قبره الذى يحطّ و ينزل فيه و على ما في بعض النسخ من رواية مخط بالخاء المعجمة تكون كناية عن القبر لكونه يخط أولا ثمّ يحفر أو عن اللحد لكونه كالخطّ فى الدّقة(فأسلموه فيه إلى عمله و انقطعوا عن زورته) و وجد ما عمله محضرا فان كان العمل صالحا فنعم المونس و المعين، و إن كان سيئا فبئس المصاحب و القرين و العدوّ المبين أقول: لو كان كلام يؤخذ بالأعناق في التزهيد عن الدّنيا و الترغيب الى الآخرة لكان هذا الكلام الذى في هذا الفصل، و ما أبعد غوره و اجزل قدره، فانّ عمدة ما أوجب رغبة الراغبين إلى الدّنيا و الرّاكنين اليها و المغترّين بها إنما هى امور ثلاثة احدها حبّ المال و الثاني حبّ الوجود و الثالث حبّ الأولاد و البنين و الأزواج و الأقربين، فزهّد عليه السّلام عن كلّ ذلك بأحكم بيان و أوضح برهان.

أما عن المال فبأنه عن قريب يفارقه و ينتقل عنه و يكون لذّته و مهنائه لغيره و يبقى وزره و تبعته عليه.

و أمّا عن وجوده و نفسه فبأنّه سينمحى أعضاؤه و جوارحه و يبطل قواه و آلاته و يكون بالآخرة جيفة منبوذة بين أهله.

و أما عن الأولاد و الابناء و الاخوان و الأقرباء فبأنهم سيفارقونه و يتنفّرون عنه و يستوحشون منه، فمن كان مآل ما أحبّه ذلك فكيف يغترّ بذلك مع علمه بأنّ كلّ ذلك واقع لا محالة و اعتقاده بأنّ الموت لا يمكن الفرار منه البتة.

قال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: عجب كلّ العجب لمن أنكر الموت و هو يرى من يموت كلّ يوم و ليلة، و العجب كلّ العجب لمن أنكر النشأة الآخرة و هو يرى النشأة الاولى و قال اللّه سبحانه: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ.

روى الأعمش عن خثيمة قال: دخل ملك الموت على سليمان بن داود على نبيّنا و آله و عليهما السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر اليه، فلما خرج قال الرجل: من هذا قال: هذا ملك الموت، قال: لقد رأيته ينظر الىّ كأنه يريدني، قال عليه السّلام: فما ذا تريد قال: اريد أن تخلصني منه فتأمر الريح حتّى تحملني إلى أقصى الهند، ففعلت الرّيح ذلك ثمّ قال سليمان عليه السّلام لملك الموت بعد أن أتاه ثانيا: رأيتك تديم النظر إلى واحد من جلسائى، قال: نعم كنت أتعجّب منه، لأنى كنت‏ أمرت أن أقبضه بأقصى الهند في ساعة قريبة و كانت عندك فتعجّبت من ذلك.

و في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن عمرو بن عثمان عن مفضل بن صالح عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أخبرني جبرئيل أنّ ملكا من ملائكة اللّه كانت له عند اللّه منزلة عظيمة فتعتّب عليه فأهبطه من السماء إلى الأرض، فأتى ادريس عليه السّلام فقال: إنّ لك من اللّه منزلة فاشفع لى عند ربك، فصلّى ثلاث ليال لا يفتر و صام أيّامها لا يفطر، ثمّ طلب الى اللّه في السحر في الملك، فقال الملك: إنك قد اعطيت سؤلك و قد اطلق لى جناحى و أنا احبّ أن اكافيك فاطلب إلىّ حاجة قال: ترينى ملك الموت لعلّي آنس به فانه ليس يهنئني مع ذكره شي‏ء، فبسط جناحه ثمّ قال: اركب، فصعد به يطلب ملك الموت في السماء الدّنيا، فقيل له: اصعد، فاستقبله بين السماء الرابعة و الخامسة فقال الملك: يا ملك الموت مالى أراك قاطبا قال: العجب انى تحت ظلّ العرش حيث امرت أن أقبض روح آدمى بين السماء الرابعة و الخامسة، فسمع إدريس عليه السّلام بها فامتعض فخرّ من جناح الملك فقبض روحه مكانه، و قال اللّه عزّ و جلّ: و رفعناه مكانا عليّا و نعم ما قيل:

انّ الحبيب من الاحباب مختلس
لا يمنع الموت بوّاب و لا حرس‏

فكيف تفرح بالدّنيا و لذّتها
يا من يعدّ عليه اللّفظ و النّفس‏

أصبحت يا غافلا في النقص منغمسا
و أنت دهرك في اللّذات منغمس‏

لا يرحم الموت ذا جهل لغرّته‏
و لا الذى كان منه العلم يقتبس‏

كم أخرس الموت في قبر وقفت به
عن الجواب لسانا ما به خرس‏

قد كان قصرك معمورا به شرف‏
فقبرك اليوم في الأجداث مندرس‏

ايقاظ

في ذكر بعض ما ورد في وصف الموت و حالات الميّت.

فأقول: قال الغزالي: روى عن مكحول عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: لو أنّ شعرة من شعر الميت وضعت على أهل السّماوات و الأرض لماتوا باذن اللّه، لأنّ في كلّ شعرة الموت و لا يقع الموت بشي‏ء إلّا لمات، قال: و يروى لو أنّ قطرة من‏ ألم الموت وضعت على جبال الدّنيا كلها لذابت، قال: و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ العبد ليعالج كرب الموت و سكرات الموت و أنّ مفاصله يسلّم بعضها على بعض تقول: عليك السلام تفارقنى و افارقك الى يوم القيامة.

و في الكافي باسناده عن جابر قال قال عليّ بن الحسين عليهما السّلام ما ندرى كيف نصنع بالناس، إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضحكوا، و إن سكتنا لم يسعنا، قال: فقال ضمرة بن معبد: حدّثنا فقال: هل تدرون ما يقول عدوّ اللّه إذا حمل على سريره قال: فقلنا: لا، قال عليه السّلام: فانه يقول لحملته ألا تستمعون إني أشكو إليكم عدوّ اللّه خدعنى و أوردنى ثمّ لم يصدرني، و أشكو اليكم اخوانا و اخيتهم فخذلونى، و أشكو اليكم أولادا حاميت عليهم فخذلونى «فأسلموني خ» و أشكو اليكم دارا أنفقت فيها حريبتى فصار سكّانها غيرى، فارفقوا بى و لا تستعجلوني قال: فقال ضمرة يا أبا الحسن إن كان هذا يتكلّم بهذا الكلام يوشك أن يثب بجهد على أعناق الذين يحملونه قال: فقال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: اللهمّ إن كان ضمرة هزاء من حديث رسولك فخذه أخذ أسف، قال: فمكث أربعين يوما ثمّ مات، فحضره مولى له قال: فلما دفن أتى عليّ بن الحسين عليهما السّلام فجلس إليه فقال له: من أين جئت يا فلان قال: من جنازة ضمرة فوضعت وجهى عليه حين سوى عليه فسمعت صوته و اللّه أعرفه كما كنت أعرفه و هو حىّ يقول: و يلك يا ضمرة بن معبد اليوم خذلك كلّ خليل، و صار مصيرك إلى الجحيم، فيها مسكنك و مبيتك و المقيل قال: فقال عليّ ابن الحسين عليهما السّلام: أسأل اللّه العافية هذا جزاء من يهزء من حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن قوله اللّه عز و جلّ: وَ قِيلَ مَنْ راقٍ وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ.

قال: فانّ ذلك ابن آدم إذا حلّ به الموت قال: هل من طبيب إنه الفراق أيقن بمفارقة الأحبّة قال، و التفّت السّاق بالسّاق التفّت الدّنيا بالآخرة، ثمّ إلى ربّك يومئذ المساق قال: المصير إلى ربّ العالمين.

و عن عبد اللّه بن سليم العامري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ عيسى بن مريم جاء إلى قبر يحيى بن زكريّا عليه السّلام و كان سأل ربّه أن يحييه له، فدعا فأجابه و خرج إليه من القبر، فقال له ما تريد منّى فقال له: اريد أن تونسنى كما كنت في الدّنيا، فقال له يا عيسى ما سكنت عنّى حرارة الموت و أنت تريد أن تعيدنى إلى الدّنيا و تعود علىّ حرارة الموت، فتركه فعاد إلى قبره.

و عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن محبوب عن أبي أيّوب عن يزيد الكناسي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ فتية من أولاد ملوك بني إسرائيل كانوا متعبّدين، و كانت العبادة في اولاد ملوك بني إسرائيل و أنهم خرجوا يسيرون في البلاد ليعتبروا، فمرّوا بقبر على ظهر الطّريق قد سفى عليه السّافي ليس منه إلّا اسمه، فقالوا: لودعونا اللّه السّاعة فينشر لنا صاحب هذا القبر فساءلناه كيف وجد طعم الموت، فدعوا اللّه و كان دعائهم الذى دعوا به: اللّه أنت إلهنا يا ربّنا ليس لنا إله غيرك و البدى‏ء الدّايم غير الغافل الحىّ الذي لا يموت لك في كلّ يوم شأن تعلم كلّ شي‏ء بغير تعليم، انشر لنا هذا الميت بقدرتك، قال: فخرج من ذلك القبر رجل أبيض الرأس و اللّحية ينفض رأسه من التراب فزعا شاخصا بصره إلى السماء، فقال له: ما يوقفكم على قبرى فقالوا: دعوناك لنسألك كيف وجدت طعم الموت فقال لهم: قد سكنت في قبرى تسعة و تسعون «تسعين خ ل» سنة ما ذهب عنّى ألم الموت و كربه، و لا خرج مرارة طعم الموت من حلقي فقال له: متّ يوم متّ و أنت على ما نرى أبيض الرّأس و اللّحية قال: لا و لكن لما سمعت الصيحة اخرج اجتمعت تربة عظامى إلى روحى و بقيت فيه فخرجت فزعا شاخصا بصرى مهطعا إلى صوت الدّاعى فابيضّ لذلك رأسي و لحيتي.

و في عقايد الصّدوق (ره) قال: قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام: صف لنا الموت، فقال عليه السّلام: على الخبير سقطتم هو أحد امور ثلاثة يرد عليه: إما بشارة بنعيم الأبد، و إما بشارة بعذاب الأبد و إما تخويف و تهويل و أمر مبهم لا يدرى من أىّ الفرق هو، أمّا وليّنا و المطيع لأمرنا فهو المبشّر بنعيم الأبد، و أما عدوّنا و المخالف لأمرنا فهو المبشّر بعذاب الأبد و أما المبهم أمره الذي لا يدرى ما حاله فهو المؤمن المسرف على نفسه لا يدرى ما يؤل إليه حاله، يأتيه الخبر مبهما مخوفا ثمّ لن يشوبه اللّه عزّ و جلّ بأعدائنا و لكن يخرجه من النّار بشفاعتنا، فاعملوا و أطيعوا و لا تتّكلوا و لا تستصغروا عقوبة اللّه، فانّ من المسرفين من لا يلحقه شفاعتنا إلّا بعد عذاب اللّه بثلاثمأة ألف سنة قال: و سئل عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ما الموت الذي جهلوه فقال: أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد، و أعظم ثبور يرد على الكافرين إذا نقلوا من جنّتهم إلى نار لا تبيد و لا تنفد.

قال: و قيل لعليّ بن الحسين عليه السّلام: ما الموت قال: للمؤمن كنزع ثياب و سخة قملة أو فكّ قيود و أغلال ثقيلة و الاستبدال بأفخر الثّياب و أطيبها روايح و أوطى المراكب و آنس المنازل، و للكافر كخلع ثياب فاخرة و النقل عن منازل أنيسة و الاستبدال بأوسخ الثياب و أخشنها و أوحش المنازل و أعظم العذاب.

قال: و قيل للصادق عليه السّلام: صف لنا الموت، فقال: هو للمؤمن كأطيب ريح يشمّه فينفس لطيبه فيقطع التعب و الألم كلّه عنه، و للكافر كلسع الأفاعى و لذع العقارب و أشدّ، قيل له: فانّ قوما يقولون هو أشدّ من نشر بالمناشير و قرض بالمقاريض و رضخ بالحجارة و تدوير قطب ارحية في الأحداق، فقال: هو كذلك على بعض الكافرين و الفاجرين، ألا ترون من يعاين تلك الشدائد، فذلكم الذي هو أشد من هذا و هو أشدّ من عذاب الدّنيا، قيل: فما لنا نرى كافرا يسهل عليه النزع فينطفى و هو يتحدّث و يضحك و يتكلّم، و في المؤمنين من يكون أيضا كذلك، و في المؤمنين و الكافرين من يقاسى عند سكرات الموت هذه الشدائد فقال عليه السّلام: ما كان راحة للمؤمن فهو من عاجل ثوابه، و ما كان من شدّة فهو تمحيصه من ذنوبه ليرد إلى الآخرة تقيا طاهرا نظيفا مستحقا لثواب اللّه ليس له مانع دونه، و ما كان هناك من سهولة على الكافرين فليستوفي أجر حسناته في الدّنيا ليرد إلى الآخرة و ليس له إلّا ما يوجب عليه العذاب، و ما كان من شدّة على الكافرين هناك فهو ابتداء عقاب اللّه تعالى عند نفاد حسناته، ذلك بأنّ اللّه عزّ و جلّ عدل لا يجور.

و روى عن الصّادق عليه السّلام قال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه ما بالى لا أحبّ الموت فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألك مال قال: نعم، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قدمته أمامك قال: لا، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فمن ثمّ لا تحبّ الموت.

قال: و جاء رجل إلى أبي ذر رحمه اللّه و قال ما لنا نكره الموت فقال: لأنكم عمّرتم الدّنيا و خرّبتم الآخرة فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب، و قيل له كيف ترى قدومنا على اللّه تعالى فقال: أما المحسن فكالغائب يقدم على اهله، و أما المسى‏ء فكالآبق يقدم على مولاه و هو منه خائف، قيل: و كيف ترى حالنا عند اللّه قال: اعرضوا أعمالكم على كتاب اللّه تعالى حيث يقول: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ قال رجل «الرجل ظ» فأين رحمة اللّه قال: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.

تنبيه

أحببت أن أورد هنا الرّواية المتضمّنة لتكلّم الميّت مع سلمان الفارسي رضى اللّه عنه و ما أخبره به من حالات سكرات الموت و ما بعدها من الشدائد و الدّواهى لأنّ فيها تنبيها للغافلين و تذكرة للجاهلين.

فأقول: روى غير واحد من أصحابنا أنار اللّه برهانهم عن أبي الفضل سديد الملّة و الدّين شاذان بن جبرئيل بن إسماعيل بن أبي طالب القمّي في الجزء الثاني من كتابه كتاب الفضايل عن أبي الحسن بن عليّ بن محمّد المهدي بالاسناد الصّحيح عن الأصبغ ابن نباته أنه قال: كنت مع سلمان الفارسى و هو أمير المداين في زمان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و ذلك أنه قد ولّاه المداين عمر بن الخطاب فقام إلى أن ولي الأمر عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

قال الأصبغ فأتيته يوما و قد مرض مرضه الذى مات فيه، قال: فلم أزل أعوده‏ في مرضه حتّى اشتدّ به الأمر و أيقن بالموت، قال: فالتفت إلىّ و قال لي: يا أصبغ عهدى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول يا سلمان سيكلّمك ميّت إذا دنت وفاتك و قد اشتهيت أن أدرى وفاتي دنت أم لا، فقال الأصبغ: بماذا تأمرني يا سلمان يا أخي قال له ان تخرج و تأتيني بسرير و تفرش لي عليه ما يفرش للموتى ثمّ تحملني بين أربعة فتأتون بي الى المقبرة.

فقال الاصبغ: حبا و كرامة، فخرجت مسرعا و غبت ساعة و أتيته بسرير و فرشت عليه ما يفرش للموتى، ثمّ أتيته بقوم حملوه إلى المقبرة، فلما وضعوه فيها قال لهم: يا قوم استقبلوا بوجهى القبلة، فلما استقبل بوجهه القبلة نادى بأعلى صوته: السّلام عليكم يا أهل عرصة البلاء، السّلام عليكم يا محتجبين عن الدّنيا قال: فلم يجبه أحد فنادى ثانية، السّلام عليكم يا من جعلت المنايا لهم غذاء، السلام عليكم يا من جعلت الأرض عليهم غطاء، السّلام عليكم يا من القوا أعمالهم في دار الدّنيا، السّلام عليكم يا منتظرين النفخة الاولى سألتكم باللّه العظيم و النبيّ الكريم إلّا أجابني منكم مجيب فأنا سلمان الفارسى مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانه قال لي: يا سلمان إذا دنت وفاتك سيكلّمك ميّت، قد اشتهيت أن أدرى دنت وفاتي أم لا.

فلما سكت سلمان من كلامه فاذا هو بميّت قد نطق من قبره و هو يقول: السّلام عليك و رحمة اللّه و بركاته، يا أهل البناء و الفناء المشتعلون بعرصة الدّنيا و ما فيها، نحن لكلامك مستمعون، و لجوابك مسرعون فسل عمّا بدا لك يرحمك اللّه تعالى.

قال سلمان: أيّها الناطق بعد الموت و المتكلّم بعد حسرة الفوت أمن أهل الجنة بعفوه أم من أهل النار بعدله فقال: يا سلمان أنا ممن أنعم اللّه تعالى عليه بعفوه و كرمه، و أدخله الجنة برحمته.

فقال له سلمان: الآن يا عبد اللّه صف لى الموت كيف وجدته و ما ذا لقيت منه و ما رأيت و ما عاينت قال: مهلا يا سلمان فواللّه إنّ قرضا بالمقاريض و نشرا بالمناشير لأهون علىّ من غصّة من غصص الموت، و تسعين ضربة بالسّيف أهون من نزعة من نزعات الموت.

فقال سلمان: ما كان حالك في دار الدّنيا قال: اعلم أني كنت في دار الدّنيا ممن ألهمني اللّه تعالى الخير و العمل به و كنت اؤدّى فرائضه و أتلو كتابه، و كنت أحرص في برّ الوالدين و أجتنب الحرام و المحارم و أنزع من المظالم و اكدّ اللّيل و النّهار في طلب الحلال خوفا من وقعة السؤال، فبينا أنا في ألذّ العيش و غبطة و فرح و سرور إذ مرضت و بقيت في مرضى أيّاما حتى انقضت من الدّنيا مدّتي و قربت موتى، فأتانى عند ذلك شخص عظيم الخلقة فظيع المنظر فوقف«» مقابل وجهى لا إلى السماء صاعدا و لا إلى الأرض نازلا، فأشار إلى بصرى فأعماه، و إلى سمعى فأصمه، و إلى لسانى فأخرسه فصرت لا ابصر و لا اسمع و لا انطق، فعند ذلك بكى أهلى و اخواني و ظهر بخبرى إلى اخواني و جيراني.

فقلت له عند ذلك: من أنت يا هذا الذي أشغلتني عن مالي و أهلي و ولدي فقد ارتعدت فرايصي من مخافتك.

فقال: أنا ملك الموت أتيتك لقبض روحك و لأنقلك من دار الدّنيا إلى دار الآخرة، فقد انقضت مدّتك من الدّنيا، و جاءت منيّتك.

و بينا هو كذلك يخاطبني إذا أتاني شخصان و لهما منظر أحسن ما يكون و ما رأيت من الخلق أحسن منهما، فجلس أحدهما عن يميني و الآخر عن شمالي فقالا: السّلام عليك أيها العبد و رحمة اللّه و بركاته، قد جئناك بكتابك فخذه الآن و انظر ما فيه‏

فقلت لهما: من أنتما يرحمكما اللّه و أىّ كتاب لى أنظره و أقرء فقالا: نحن الملكان اللّذان كنامعك في دار الدّنيا على كتفيك نكتب مالك و ما عليك فهذا كتاب عملك، فلما نظرت في كتاب حسناتى بيد الرّقيب فسرّ لى ما فيه و ما رأيت من الخير و فرحت و ضحكت عند ذلك و فرحت فرحا شديدا، و نظرت إلى كتاب السّيئآت و هو بيد العتيد فسائنى ما رأيت و أبكاني، فقالا لي: ابشر فلك الخير.

ثمّ دنى منى الشخص الأوّل فجذب الرّوح فليس من جذبة يجذبها إلّا و هى تقوم مقام كلّ شدّة من السّماء إلى الأرض، فلم يزل كذلك حتّى صارت الروح في صدرى، ثمّ أشار الىّ بجذبة لو أنّها وضعت على الجبال لذابت، فقبض روحي من عرنين أنفي فعلا من اهلي عند ذلك الصّراخ و ليس من شي‏ء يقال أو يفعل إلّا و أنا به عالم.

فلما اشتدّ صراخ القوم و بكاؤهم جزعا علىّ التفت اليهم ملك الموت بغيض و حنق و قال: معاشر القوم ممّ بكائكم فو اللّه ما ظلمناه فتشكون و لا اعتدينا عليه فتصيحون و تبكون و لكن نحن و أنتم عبيد ربّ واحد و لو امرتم فينا كما امرنا فيكم لا متثلتم فينا كما امتثلنا فيكم، و اللّه ما أخذناه حتى فنى رزقه و انقطعت مدّته و صار إلى ربّ كريم يحكم فيه ما يشاء و هو على كلّ شي‏ء قدير فان صبرتم أوجرتم و إن جزعتم أثمتم كم لي من رجعة إليكم آخذ البنين و البنات و الآباء و الأمّهات.

ثمّ انصرف عند ذلك عنّى و الروح معه فعند ذلك أتاه ملك آخر فأخذها منه و طرحها في ثوب أخضر من الحرير و صعد بها و وضعها بين يدي اللّه في أقلّ من طبقة جفن.

فلمّا حصلت الرّوح بين يدي ربي سبحانه سألها عن الصغيرة و الكبيرة، و عن الصّلاة و الصّيام في شهر رمضان و حجّ بيت اللّه الحرام و قراءة القرآن و الزكاة و الصّدقات و ساير الأوقات و الأيام و طاعة الوالدين و عن قتل النفس بغير الحقّ‏ و أكل مال اليتيم و مال الرّبا و الزّنا و الفواحش و عن مظالم العباد، و عن التهجّد باللّيل و النّاس نيام و ما يشاكل ذلك، و ما بعد ذلك ردّت الرّوح إلى الأرض باذن اللّه تعالى.

فعند ذلك أتاني الغاسل فجرّدنى من أثوابي و أخذ في تغسيلى، فنادته الرّوح باللّه عليك يا عبد اللّه رفقا بالبدن الضعيف فو اللّه ما خرجت من عرق إلّا انقطع و لا من عضو إلّا انصدع فو اللّه لو سمع الغاسل ذلك القول لما غسل ميّتا أبدا.

ثمّ أنّه أجرى علىّ الماء و غسّلنى ثلاثة أغسال و كفّننى في ثلاثة أثواب و حنّطنى بحنوط و هو الزّاد الذي خرجت به الى الآخرة، ثمّ جذب الخاتم من يدي اليمنى فدفعه إلى أكبر أولادى و قال: آجرك اللّه في أبيك و أحسن لك الاجر و العزاء.

ثمّ أدرجنى في الكفن و لفّنى و نادى أهلى و جيرانى و قال هلمّوا إليه بالوداع فقاموا عند ذلك لو داعى.

فلمّا فرغوا من وداعى حملت على سرير خشب و حملوني على أكتاف أربعة، و الرّوح عند ذلك بين وجهى و كفى واقفة على نعشي و هى تقول: يا أهلى و أولادي لا تلعب بكم الدّنيا كما لعبت بي، فهذا ما جمعته من حلّ و من غير حلّ و خلّفته بالهناءة و الصّحة فاحذروني فيه.

و لم أزل كذلك حتى وضعت للصّلاة فصلّوا علىّ، فلما فرغوا من الصّلاة و حملت إلى قبرى ادليت فيه ثمّ رفعت روحى بين كتفى و وجهى ادنيت من قبرى و طرحت على شفير القبر، فعاينت هو لا عظيما.

يا سلمان يا عبد اللّه لما وضعت في قبرى خيّل لي أنّي سقطت من السّماء إلى الأرض في لحدى، و شرج علىّ اللّبن و حثى علىّ التراب و زارونى «و ارونى ظ» و انصرفوا، فرجعت الرّوح إلىّ فأخذت في النّدم فقلت: يا ليتنى كنت مع الراجعين.

فعند ذلك سلبت الرّوح من اللّسان و انقلبت السّمع و البصر فلما نادى المنادى بالانصراف أخذت في الندم و بكيت من القبر و ضيقه و ضغطته و كنت قلت: يا ليتنى كنت مع الراجعين لعملت عملا صالحا فجاوبنى مجيب من جانب القبر:

كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ.

فقلت من أنت يا هذا الذي تكلّمني و تحدّثنى قال: أنا منبّه، قلت: و ما منبّه قال: أنا ملك و كلنى اللّه بجميع خلقه لأنبّههم بعد مماتهم ليكتبوا أعمالهم على أنفسهم بين يدي اللّه.

ثمّ إنّه جذبني و أجلسني و قال لي: اكتب عملك و مالك و ما عليك في دار الدّنيا، قلت: انى لا احصيه و لا أعرفه، قال: أو ما سمعت قول ربّك: أحصيه اللّه و نسوه ثمّ قال لي: اكتب الآن و أنا أملي عليك، فقلت: أين البياض فجذب جانبا من كفنى فاذا هو رقّ فقال: هذه صحيفتك، فقلت: من أين القلم قال: سبّابتك، فقلت: من أين المداد فقال: ريقك.

ثمّ أملى علىّ جميع ما فعلته في دار الدّنيا من أوّل عمرى إلى آخره، فلم يبق من أعمالى صغيرة و لا كبيرة، ثمّ تلى علىّ: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً.

ثمّ إنّه أخذ الكتاب و ختمه بخاتم و طوّقه في عنقى فخيّل لي أنّ جبال الدّنيا جميعا قد طوّقها في عنقى، فقلت له: يا منبّه و لم تفعل بي هكذا قال: ألم تسمع قول ربّك وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً.

فهذا ما تخاطب به يوم القيامة و يؤتى بك و بكتابك بين عينيك منشورا لتشهد به على نفسك.

ثمّ انصرف عنّى فبقيت أبكى على نفسي على حسرة الدّنيا و أقول: يا ليتني‏عملت خيرا حتّى لا يكتب علىّ شرّ.

فبينا أنا كذلك و إذا أنا بملك منكر أعظم منظرا و أهول شخصا ما رأيته في الدّنيا، و معه عمود من الحديد لو اجتمعت عليه الثقلان ما حرّكوه، فراعنى و أفزعني و هدّدنى و دنا منّى فجذبنى بلحيتي، ثمّ انه صاح بي صيحة لو سمعها أهل الأرض لماتوا جميعا ثمّ قال لي: يا عبد اللّه أخبرني من ربّك و من نبيّك و ما دينك و ما كنت عليه في دار الدّنيا فاعتقل لساني من فزعه و تحيّرت في أمرى و ما أدرى ما أقول و ليس في جسمي عضو إلّا فارقنى من الفزع و انقطعت أعضائى و أوصالى من الخوف.

فأتتني رحمة من ربّي فأمسك بها في قلبي و شدّ بها ظهرى و اطلق بها لساني و رجع إلىّ ذهني فقلت له عند ذلك: يا عبد اللّه لم تفزعني و أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنّ اللّه ربّي و محمّد نبيّي و الاسلام ديني و القرآن كتابي و الكعبة قبلتي و عليّ امامي و بعده أولاده الطاهرون أئمتي، و المؤمنون اخواني و أنّ الموت حقّ و السّؤال حقّ و الصّراط حقّ و الجنة حقّ و النّار حقّ و أنّ السّاعة آتية لا ريب فيها و أنّ اللّه يبعث من فى القبور فهذا قولي و اعتقادي و عليه القى ربّي في معادي.

فعند ذلك قال لي: يا عبد اللّه ابشر بالسلامة فقد نجوت منّي فنم نومة العروس ثمّ مضى عنّى.

ثمّ أتاني شخص أهول منه يعرف بنكير، فصاح صيحة هائلة أعظم من صيحة الاولى، فاشتبكت أعضائي بعضها في بعض كاشتباك الأصابع، ثمّ قال لي: هات الآن عملك يا عبد اللّه و ما خرجت عليه من دار الدّنيا و من ربّك و من نبيّك و ما دينك فبقيت حايرا متفكّرا في ردّ الجواب لا أعرف جوابا و لا انطق بخطاب لما رأيت و سمعت منه.

فعند ذلك صرف اللّه عنّي شدّة الرّوع و الفزع و ألهمني حجّتي و حسن التوفيق و اليقين فقلت: ارفق بي و لا تزعجني يا عبد اللّه و امهل علىّ حتّى أقول لك، فقال: قل‏ فقلت: اني خرجت من شهادة أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، و أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب و الأئمة الطاهرين من ذرّيته أئمتي و أنّ الموت حقّ و القبر حقّ و الصّراط حقّ و الميزان حقّ و الحساب حقّ و مسائلة منكر و نكير حقّ، و أنّ الجنّة و ما وعد اللّه فيها من النّعيم حقّ و أنّ النّار و ما وعد اللّه من العذاب حقّ، و أنّ السّاعة آتية لا ريب فيها و أنّ اللّه يبعث من في القبور.

ثمّ قال لي: يا عبد اللّه ابشر بالنّعيم الدّائم و الخير المقيم ثمّ إنّه أضجعنى و قال: نم نومة العروس، ثمّ انه فتح لي بابا من عند رأسي إلى الجنّة و بابا من عند رجلي الى النار ثمّ قال لي: يا عبد اللّه انظر إلى ما صرت إليه في الجنّة و إلى ما نجوت منه من نار الجحيم، ثمّ سدّ الباب التي من عند رجلي و ابقى الباب الذي هو من عند رأسي فجعل يدخل علىّ من روح الجنّة و نعيمها و أوسع لحدى مدّ البصر«» و اسرج لي سراجا أضوء من الشمس و القمر و خرج عنّي.

فهذه صفتي و حديثي و ما لقيته من شدّة الأهوال، و أنا أشهد باللّه أنّ مرارة الموت في حلقي إلى يوم القيامة، فراقب اللّه أيّها السائل من رفعة المسائل، و خف من هول المطّلع و ما قد ذكرته، هذا الذى لقيته و أنا من الصّالحين ثمّ انقطع عند ذلك كلامه عن سلمان.

فقال سلمان للأصبغ و من كان معه: هلمّوا إليّ و احملوني، فلمّا وصل إلى منزله قال: حطونى رحمكم اللّه، فلمّا حططناه إلى الأرض و شهدناه فقال: اسندوني، ثمّ رمق بطرفه إلى السّماء و قال: يا من بيده ملكوت كلّ شي‏ء و إليه يرجعون و هو يجير و لا يجار عليه بك آمنت و عليك توكلت و بنبيّك أقررت و بكتابك صدقت، و قد أتاني ما وعدتني يا من لا يخلف الميعاد فلقني جودك، و أقبضنى إلى رحمتك، و أنزلني إلى دار كرامتك فاني اشهد اللّه لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له،و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، و أنّ عليّا أمير المؤمنين و الأئمّة من ذرّيته أئمتّي و ساداتي فلمّا أكمل شهادته قضى نحبه و لقى ربّه رضى اللّه تعالى عنه.

فقال بينما نحن كذلك إذ أتا رجل على بعلة شهباء متلثّما فسلّم علينا فرددنا السّلام عليه فقال: يا أصبغ اجهدوا في أمر سلمان، فأخذنا في أمره فأخذ معه حنوطا و كفنا فقال: هلمّوا فانّ عندى ما ينوب عنه، فأتيناه بماء و مغسل، فلم يزل يغسله بيده حتّى فرغ و كفّنه و صلّى عليه فصلّينا خلفه، ثمّ إنّه دفنه بيده فلمّا فرغ من دفنه همّ بالانصراف تعلّقنا به و قلنا له: من أنت يرحمك اللّه فكشف لنا عن وجهه فسطع النور من ثناياه كالبرق الخاطف فاذا هو أمير المؤمنين فقلت له يا أمير المؤمنين كيف كان مجيئك و من أعلمك بموت سلمان قال: فالتفت إلىّ و قال: آخذ عليك يا أصبغ عهد اللّه و ميثاقه و أنّك لا تحدّث به أحدا ما دمت حيّا في دار الدّنيا، فقلت يا أمير المؤمنين أموت قبلك فقال: لا يا أصبغ بل يطول عمرك، قلت له: يا أمير المؤمنين خذ علىّ عهدا و ميثاقا فانّي لك سامع مطيع انى لا احدّث به حتّى يقضى اللّه من أمرك ما يقضى و هو على كلّ شي‏ء قدير.

فقال: يا أصبغ بهذا عهدني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاني قد صلّيت هذه السّاعة بالكوفة و قد خرجت اريد منزلي فلمّا وصلت إلى منزلي اضطجعت، فأتاني آت في منامى و قال: يا على إنّ سلمان قد قضى نحبه فركبت بغلتي و أخذت معى ما يصلح للموتى فجعلت أسير فقرّب اللّه لى البعيد كما ترانى، و بهذا أخبرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم انه دفنه و واراه فلم أر أصعد إلى السّماء أم في الأرض نزل، فأتى الكوفة و المنادى ينادى بصلاة المغرب فحضر عندهم.«» و هذا ما كان من حديث وفاة سلمان الفارسي (ره) على التمام و الكمال و الحمد للّه حقّ حمده و قد رويت الخبر على طوله لاقتضاء المقام ذلك من حيث اشتماله على‏ كثير من أحوال الميّت و أهوال البرزخ المسوق لها هذا الفصل من كلامه عليه السّلام، و أوردت ذيله مع خروجه عن مقتضى المقام لانّى إن ساعدني التوفيق إنشاء اللّه اورد في شرح باب الكتب و الوصايا مبدء أمر سلمان و كيفيّة اسلامه و بعض مناقبه فأحببت أن اورد هنا مآل أمره و منتهاه ليطلع النّاظر في الشرح على بداية حاله و نهايته مع ما فيه من اعجاز عجيب لأمير المؤمنين سلام اللّه عليه و على آله الطّيبين هذا.

و لا يخفى ما في هذه الرّواية من الكفاية للمهتدى الطالب للرّشاد، بما فيها من التّنبيه و الايقاظ من الغفلة و الرقاد، فانّ هذا الميّت مع كونه ممّن ألهمه اللّه الخير و الصلاح و كونه من أهل السعادة و الفلاح إذا كان حاله ذلك، و مصير أمره كذلك فكيف بنا و نحن المنهمكون في الشّهوات و المستغرقون في بحار السّيئآت.

تروّ عنا الجنائز مقبلات
و نلهوحين تذهب مدبرات‏

كروعة ثلّة لمغار ذئب‏
فلمّا غاب عادت راتعات‏

اشتغلنا ببدوات الخواطر، و نسينا اللّه و اليوم الآخر، و غفلنا عن أخذ الزاد ليوم المعاد، و لا سبب لهذه الغفلة إلّا قسوة القلوب بكثرة المعاصي و الذّنوب، فليس لنا خلاص و مناص، و لا معاذ و لا ملاذ، و لا مطمع و لا رجاء إلّا في بحر الكرم و الجود، و التّفضل من واجب الوجود

و لما قسى قلبي و ضاقت مذاهبي
جعلت رجائى نحو عفوك سلّما

تعاظمنى ذنبي فلمّا قرنته‏
بعفوك ربّي كان عفوك أعظما

فما زلت ذا عفو عن الذّنب لم تزل
تجود و تعفو منّة و تكرّما

الترجمة

تنزيه ميكنم تو را تنزيه كردني در آن حال كه آفريننده مخلوقاتي و معبود موجودات بسبب حسن امتحان خود در حين آفريدن، آفريدي خانه را كه عبارت است از خانه آخرت و مهيا نمودى در آن مهمانى را: شرابي و طعامي و زناني و خدمتگذاراني و غرفه‏هاى رفيعه و نهرهاى لطيفه و زراعتهاى خوب و ميوه‏هاى‏ مرغوب، بعد از آن فرستادى دعوت كننده را كه مى‏خواند مردمان را بسوى آن پس اين مردمان نادان نه دعوت كننده را اجابت نمودند، و نه در آنچه ترغيب نمودى راغب شدند، و نه بسوى آنچه كه مشتاق نمودى بسوى آن شايق گشتند.

روى آوردند بر جيفه دنياى غدّار در حالتى كه مفتضح و رسوا شدند بسبب خوردن آن، و اتفاق و آشتي كردند بر دوستي آن، و هر كه عاشق گشت بچيزى پرده كشيد آن چيز چشم او را، و ناخوش گردانيد قلب او را، پس او نظر مى‏كند با چشم نا صحيح، و مى‏شنود با گوش ناشنوا، در حالتى كه دريده و پاره كرده شهوات دنيويه عقل او را، و كشته دنياى دني قلب او را، و واله و شيفته شده بر دنيا نفس او.

پس آن محبّ دنيا بنده دنيا است و بنده كسيست كه در دستهاى آن چيزيست از متاع دنيا، هر كجا كه گرديد دنيا گرديد آن شخص بسوى آن، و هر كجا كه روى آورد دنيا روى نهاد او بر آن در حالتي كه منزجر نمى‏شود از خدا بزجر كننده و متعظ نمى‏شود از حق تعالى بموعظه نماينده، و حال آنكه مى‏بيند كسانى را كه گرفتار شدند در حالت غفلت و مغروري در مكاني كه نيست هيچ فسخ و اقاله مر ايشان را و نه رجوع و بازگشتي در حق ايشان، چگونه نازلشد بايشان چيزى كه جاهل بودند بآن، و آمد مالشان در مفارقت دنيا چيزى كه خاطر جمع بودند از آن، و آمدند از آخرت بر آنچه كه بودند كه وعده داده مى‏شدند بآن.

پس قابل وصف و تعريف نيست چيزى كه نازلشد به آنها، جمع شد برايشان سختي و شدت مرگ و حسرت و پشيماني وفات، پس سست گشت از جهة سكرات موت اعضاء ايشان، و تغيير يافت از جهة آن رنگهاى ايشان.

بعد از آن افزون شد مرگ در ايشان از حيثيت دخول، پس حايل شد ميان هر يك از ايشان و ميان سخن گفتن او، و بدرستى كه او در ميان اهل خود نگاه ميكند بديده خود و مى‏شنود بگوش خود بر صحت عقل خود و باقي بودن ادراك خود، تفكر مى‏كند كه در چه چيز فاني كرد عمر خود را، و در چه چيز گذرانيد روزگار خود را، و بياد مى‏آورد مالهائى را كه جمع نمود آنها را، و اغماض نمود در مواضع طلب آنها، و أخذ نمود آنها را از جاهائى كه واضح و روشن بود حليّت آن، و از جاهاى شبهه‏ناك آنها بتحقيق كه لازم شد او را گناههاى جمع آورى آنها، و مشرف شد بر مفارقت آنها باقي ماند آنها از براى پس ماندگان او در حالتى كه منعم ميشوند بر آنها، و متمتع مى‏باشند به آنها، پس باشد گوارائى آن اموال از براى غير او، و بار گران و وزر و بال آنها بر پشت او، و حال آنكه آن مرد بسته شده گروهاى او بسبب آن مالها، پس او گزد دندان خود را از روى ندامت و پشيمانى بر آنچه كه ظاهر شد باو در حين مرگ از امر خود، و ترك رغبت ميكند در آنچه كه راغب بود در آن در مدّت عمر خود، و آرزو ميكند اين كه كاشكى آن شخصى كه غبطه مى‏نمود باو بسبب آن اموال و حسد مى‏برد بر او در آنها آن شخص حيازت نمودى و جمع مى‏كردى آنها را نه او.

پس هميشه مرگ ثابت بود مبالغه مى‏كرد در بدن او تا آنكه آميخته شد بقوّه ناطقه او سامعه او، پس گرديد در ميان اهل خود بحيثيتى كه قادر نبود سخن بگويد با زبان خود، و نه بشنود با گوش خود در حالتى كه گرداند چشم خود را بنگاه كردن در رويهاى ايشان، بيند حركتهاى زبانهاى ايشان را، و نمى‏شنود ترديد سخنان و جواب باز دادن ايشان را.

پس از آن زياده مى‏شود مرگ در حيثيّت چسبيدن باو، پس أخذ كند چشم او را همچنان كه قبض نمود گوش او را، و خارج شود روح از تن او، پس گردد جيفه و مردارى در ميان اهل خود در حالتى كه وحشت كنند از جانب او و دورى جويند از نزديكى او، و موافقت نمى‏كند گوينده خود را، و جواب نمى‏تواند بدهد برخواننده خود.

پس از آن بردارند او را بسوى منزل او در زمين پس سپارند او را در آن منزل بعمل خودش و بريده شوند از زيارت كردن او.

شارح فقير كثير التقصير مى‏گويد كه مخفى نماند كفايت اين كلام بلاغت نظام در مقام وعظ و تذكير و انذار و تحذير و هدايت سرگشتگان باديه ضلالت‏

و نجات دادن غرق شدگان درياى غفلت را، و لنعم ما قيل:

دلا يكدم از خواب بيدار شو
ز سر مستى كبر هشيار شو

بعبرت نظر كن سوى رفتگان‏
كه فردا شوى عبرت ديگران‏

بزرگى كه سودى بگردون سرش
نگه كن كه چون خاك شد پيكرش‏

ز دور زمان نگذرد اندكى‏
كه خواهى تو هم بود از ايشان يكى‏

الفصل الثالث

حتّى إذا بلّغ الكتاب أجله، و الأمر مقاديره، و الحق آخر الخلق بأوّله، و جاء من أمر اللّه ما يريده من تجديد خلقه، أماد السّماء و فطرها، و أرجّ الأرض و أرجفها، و قلع جبالها و نسفها، و دكّ بعضها بعضا من هيبة جلاله، و مخوف سطوته، و أخرج من فيها، فجدّدهم بعد إخلاقهم و جمعهم بعد تفريقهم، ثمّ ميّزهم لما يريد من مسائلتهم: عن خفايا الأعمال، و خبايا الأفعال، و جعلهم فريقين: أنعم على هؤلاء، و انتقم من هؤلاء. فأمّا أهل الطّاعة، فأثابهم بجواره، و خلّدهم في داره، حيث لا يظعن النّزّال، و لا يتغيّر لهم الحال، و لا تنوبهم الأفزاع، و لا تنالهم الأسقام، و لا تعرض لهم الأخطار، و لا تشخصهم الأسفار، و أمّا أهل المعصية، فأنزلهم شرّ دار، و غلّ الأيدي إلى الأعناق، و قرن‏ النّواصي بالأقدام، و ألبسهم سرابيل القطران، و مقطّعات النّيران، في عذاب قد اشتدّ حرّه، و باب قد أطبق على أهله، في نار لها كلب و لجب، و لهب ساطع، و قصيف هائل، لا يظعن مقيمها، و لا يفادى أسيرها، و لا تفصم كبولها، لا مدّة للدّار فتفنى، و لا أجل للقوم فيقضى.

اللغة

(الكتاب) بمعنى المكتوب من كتب بمعنى حكم و قضى يقال كتب القاضى بالنّفقة و (ماد) يميد ميدا و ميدانا تحرّك و أماده حرّكه، و في بعض النّسخ أمار، و الموران الحركة (و أرجّ) الأرض زلزلها أرجّت الأرض و أرجّها اللّه يستعمل لازما و متعدّيا و في بعض النسخ و رجّ الأرض بغير همز و هو الأفصح المطابق لقوله تعالى إذا رجّت الأرض رجّا و (الرّجفة) الزّلزلة الشّديدة و (نسفها) قلعها من اصولها.

و قوله (بعد اخلاقهم) في بعض النسخ بفتح الهمزة و في بعضها بالكسر من خلق الثّوب بالضّم اذا بلى فهو خلق بفتحتين و أخلق الثوب بالالف لغة و أخلقته يكون الرّباعي لازما و متعدّيا هكذا في المصباح، و قال الطّريحى: و ثوب اخلاق اذا كانت الخلوق فيه كلّه و (ظعن) ظعنا و ظعنا من باب نفع سار و ارتحل، و يتعدّي بالهمزة و بالحرف يقال أظعنته و ظعنت به و (الاخطار) جمع الخطر محرّكة كأسباب و سبب و هو الاشراف على الهلاك و خوف التّلف.

و (شخص) يشخص من باب منع خرج من موضع إلى غيره و يتعدّى بالهمزة فيقال أشخصته و (السّربال) القميص و (القطران) بفتح القاف و كسر الطاء و بها قرأ السّبعة في قوله تعالى سرابيلهم من قطران، و ربما يكسر القاف و يسكن الطّاءو هو شي‏ء أسود لزج منتن يطلى به الابل.

و (المقطّعات) الثياب التي تقطع و قيل: هى قصار الثياب و (الكلب) محرّكة الشدّة و يقال كلب الدّهر على أهله اذا ألحّ عليهم و اشتدّ و (اللّجب) بالتحريك أيضا الصّوت و (القصيف) الصّوت الشديدة و (تفصم) بالفاء من انفصم و هو كسر الشي‏ء من غير إبانة، و في بعض النسخ بالقاف و هو الكسر مع إبانة و (الكبول) جمع الكبل كفلس و فلوس و هو القيد يقال كبلت الأسير و كبلته إذا قيدته فهو مكبول و مكبل قال الشّاعر:

لم يبق الّا أسير غير منقلب
و موثق في عقال الاسر مكبول‏

الاعراب

قوله: فأما أهل الطّاعة فأثابهم بجواره، أما حرف شرط و تفصيل و توكيد أما أنها شرط فبدليل لزوم الفاء بعدها، و أما أنها تفصيل فلكونها مكرّرة غالبا قال تعالى: و أمّا السّفينة فكانت لمساكين، و أمّا الغلام، و أمّا الجدار، الآيات، و أما أنها مفيدة للتوكيد فقد أفصح عنه الزمخشري حيث قال: فايدة أمّا في الكلام أن تعطيه فضل توكيد، تقول زيد ذاهب فاذا قصدت توكيد ذلك و أنه لا محالة ذاهب و أنّه بصدد الذهاب و أنه منه على عزيمة تقول: أمّا زيد فذاهب، و لذلك قال سيبويه في تفسيره: مهما يكن من شي‏ء فزيد ذاهب، فهذا التفسير مفيد لفائدتين: بيان كونه تأكيدا، و أنه في معنى الشرط.

و قوله: حيث لا يظعن النزال، حيث ظرف مكان بدل من قوله في داره، و هى من الظّروف الواجبة الاضافة الى الجمل و مبنيّة على الضمّ أمّا بناؤها فلأنها مضافة في المعنى إلى المصدر الذي تضمّنته الجملة إذ معنى جلست حيث جلس زيد جلست مكان جلوسه و إن كانت في الظّاهر مضافة إلى الجملة فاضافتها اليها كلا اضافة فشابهت الغايات المحذوف ما اضيفت اليه فلهذا بنيت على الضمّ كالغايات.

قال نجم الأئمة الرّضيّ: و اعلم أنّ الظرف المضاف إلى الجملة لما كان ظرفاللمصدر الذي تضمّنته الجملة على ما قرّرنا لم يجز أن يعود من الجملة اليه ضمير فلا يقال آتيك يوم قدم زيد فيه، لأنّ الرّبط الذي يطلب حصوله من مثل هذا الضمير حصل باضافة الضمير الى الجملة و جعله ظرفا لمضمونها، فيكون كانّك قلت يوم قدوم زيد فيه، أى في اليوم و ذلك غير مستعمل و إنما وجب الرّبط لما لم يكن الظرف مرتبطا بأن كان منوّنا نحو يوما قدم فيه زيد، قال تعالى: يوم تسوّد وجوه و قد يقول العوام: يوم تسودّ فيه الوجوه و نحوه، و هو شاذّ و بذلك ظهر عدم الحاجة الى الضّمير في قوله حيث لا يظعن النزال، فانّ معناه مكان عدم ظعن النزال فافهم ذلك فانّه ينفعك في كثير من المقامات الآتية.

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من كلامه عليه السّلام متضمّن لبيان حال العباد في المعاد و كيفيّة محشرهم و منشرهم و بعثهم و جمعهم و إثابة المطيعين منهم و عقاب العاصين و أكثر ما أورده عليه السّلام هنا مطابق لآيات الكتاب الكريم و القرآن الحكيم حسبما تطلع عليه فيما يتلى عليك فأقول: قوله: (حتّى اذا بلغ الكتاب أجله و الأمر مقاديره) أراد بالكتاب ما كتبه اللّه تعالى سبحانه و قضاه في حقّ النّاس من لبثهم في القبور إلى يوم الحشر و النشور و بالأمر«» الامورات المقدّرة الحادثة في العالم السفلي المشار اليها بقوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.

فالمعنى أنّه إذا بلغ المقضي في حقّ العباد غايته و نهايته في الامورات المقدّرة مقاديرها المعلومة و حدودها المعينة التي اقتضت الحكمة الالهية و التدبير الأزلى بلوغها اليها (و الحق آخر الخلق بأوّله) أى انتزعوا جميعا عن الدّنيا و أحاط بهم الموت و الفنا و اجتمعوا فى القبور بعد سكنى القصور (و جاء من أمر اللّه) و حكمه (ما يريده من‏ تجديد خلقه) أى بعثهم و حشرهم (أما السّماء و فطرها) أى حرّكها و شقّها، و هو اشارة إلى خراب هذا العالم.

و به نطق قوله سبحانه: يوم تمور السّماء مورا، أى تضطرب و تموج و تتحرّك، و في سورة المزمّل: السّماء منفطر به و كان وعده مفعولا، قال الطّبرسيّ: المعنى أنّ السّماء تنفطر و تنشقّ في ذلك اليوم من هو له، و في سورة الانفطار: إذا السّماء انفطرت، قال الطّبرسىّ تشقّقت و تقطّعت، (و أرجّ الأرض و أرجفها) أى حرّكها و زلزلها كما قال تعالى في سورة الواقعة: إذا رجّت الأرض رجّا، قال الطّبرسيّ أى حركت حركة شديدة، و قيل زلزلت زلزالا شديدا، و قيل معناه رجّت بما فيها كما يرجّ الغربال بما فيه فيكون المراد ترجّ باخراج من في بطنها من الموتى، و في سورة النّازعات: يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة، قيل أى تضطرب الأرض اضطرابا شديدا و تحرّك تحرّكا عظيما يعني يوم القيامة تتبعها الرادفة أى اضطرابة اخرى كائنة بعد الاولى في موضع الرّدف من الراكب فلا تزال تضطرب حتى يفنى كلّها.

(و قلع جبالها و نسفها) و هو موافق لقوله تعالى في سورة طه: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى‏ فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً.

قال الطّبرسيّ أى و يسألك منكر و البعث عند ذكر القيامة عن الجبال ما حالها فقل: يا محمّد ينسفها ربّى نسفا، أى يجعلها ربّي بمنزلة الرّمل، ثمّ يرسل عليها الرّياح فيذريها كتذرية الطعام من القشور و التّراب فلا يبقى على وجه الأرض منها شي‏ء و قيل يصيّرها كالهباء، و قيل إنّ رجلا من ثقيف سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف تكون الجبال يوم القيامة مع عظمها فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه يسوقها بأن يجعلها كالرّمال ثمّ يرسل عليها الرّياح فتفرّقها، فيذرها، اى فيدع أما كنها من الأرض إذا نسفها، قاعا، أى أرضا ملساء، و قيل منكشفة، صفصفا، أى أرضا مستوية ليس للجبل فيها أثر،لا ترى فيها عوجا و لا أمتا، أى ليس فيها منخفض و لا مرتفع و في سورة الواقعة: وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا.

أى فتت فتأ أو كسرت كسرا، فكانت غبارا متفرّقا كالذى يرى من شعاع الشّمس اذا دخل من الكوّة و في سورة المزّمل: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا.

قال الطّبرسيّ: أى رملا سائلا مستأثرا عن ابن عباس و قيل: المهيل الذى اذا وطأه القدم زلّ من تحتها و إذا اخذت أسفله انهار أعلاه، عن الضحاك، و المعنى أنّ الجبال تنقلع من اصولها فتصير بعد صلابتها كالرّمل السّائل و دلّ بعضها بعضا من هيبة جلاله و مخوف سلطنته، و يشهد به قوله سبحانه في سورة الحاقّة: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ.

أى رفعت الأرض و الجبال من اماكنها و ضرب بعضها ببعض حتّى تفتت الجبال و سفتها الرّياح و بقيت الأرض شيئا واحدا لا جبل فيها و لا رابية، بل تكون قطعة مستوية، و قال عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيرها: قد وقعت فدكّ بعضها على بعض، و قال الطّبرسىّ أى كسرتا كسرة واحدة لا تثنى حتى يستوى ما عليها من شي‏ء مثل الأديم الممدود.

(و اخرج من فيها فجدّدهم بعد اخلاقهم) أى بعد كونهم خلقا باليا أو بعد جعله لهم كذلك (و جمعهم بعد تفريقهم) يحتمل أن يكون المراد به جمع اجزائهم بعد تفتتهم و تأليف أعضائهم بعد تمزيقهم و جمع نفوسهم في المحشر بعد تفرّقهم في مشارق الأرض و مغاربها و الثّاني أظهر (ثمّ ميّزهم لما يريد من مسائلتهم عن خفايا الأعمال و خبايا الأفعال) أى أعمالهم الّتي فعلوها في خلواتهم (و جعلهم فريقين أنعم على هؤلاء و انتقم من هؤلاء) كما قال تعالى:

إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ و في سورة الرّعد: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ.

و اليه أشار بقوله (فأمّا أهل الطّاعة) و السّعادة (فأثا بهم بجواره) و قربه (و خلّدهم فيداره) الاضافة للتشريف و التكريم و فيها تشويق و ترغيب الى هذه الدّار لا سيّما و انها دار خلود (حيث لا يظعن النزال) أى لا يرتحل النازلون فيها عنها و لا يجوز عليهم الانتقال (و) دار سلامة و استقامة (لا يتغيّر لهم الحال و) دار أمن و كرامة (لا تنوبهم الأفزاع و) دار صحّة و عافية (لا تنالهم الأسقام و) دار سرور و لذّة (لا تعرض لهم الأخطار و) دار استراحة (لا تشخصهم الأسفار) و في هذه كلّها اشارة إلى سلامة أهل الجنان من الهموم و الأحزان، و آفات الأجساد و الأبدان، و طوارق المحن و البلاء العارضة لأهل الدّنيا، و فيها حسبما اشرنا اليه حثّ و ترغيب اليها و إلى المجاهدة في طلبها.

فتنبّه أيّها المسكين من نوم الغفلة، و استيقظ من رقدة الجهالة، و عليك بالمجاهدة و التّقوى، و نهى النفس عن الهوى لتصل إلى تلك النعمة العظمى و تدرك الجنّة التي عرضها الأرض و السموات العلى، و تفكّر في أهلها و ساكنيها تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ.

جالسين على منابر الياقوت الأحمر في خيام من اللّؤلؤ الرّطب الأبيض فيها بسط من العبقري الأخضر متّكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر و العسل محفوفة بالغلمان و الولدان مزيّنة بالحور العين من الخيرات الحسان، كأنّهنّ الياقوت و المرجان لم يطمثهنّ انس قبلهم و لا جانّ، يمشين في درجات الجنان‏ و اذا اختالت احديهنّ في مشيها حمل اعطافها سبعون ألفا من الولدان عليها من طرايف الحرير ما تتحيّر فيه الأبصار مكلّلات بالتّيجان المرصّعة باللّؤلؤ و المرجان مشكلات غنجات عطرات امنات من الهرم و البوس و حوادث الزّمان مقصورات في الخيام في قصور من الياقوت بنيت وسط روضات الجنان قاصرات الطرف عين ثمّ يطاف عليهم و عليهنّ بأكواب و أباريق و كأس من معين بيضاء لذّة للشّاربين، و يطوف عليهم ولدان مخلّدون كأمثال اللّؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون، في مقام أمين في جنّات و نهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، لا يرهقهم قتر و لا ذلّة بل عباد مكرمون لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، و من ريب المنون آمنون، خالدون فيها و يأكلون من أطعمتها و يشربون من أنهارها لبنا و خمرا و عسلا مصفّى، و أيّ أنهار أراضيها من فضّة بيضاء و حصبائها مرجان، و يمطرون من سحاب من ماء النسرين على كثبان الكافور و يجلسون على أرض ترابها مسك أذفر، و نباتها زعفران.

فيا عجبا لمن يؤمن بدار هذه صفتها، و يوقن بأنه لا يموت أهلها و لا تحلّ الفجائع بمن نزل بساحتها، و لا تنظر الأحداث بعين التغيير إلى أهلها، كيف يأنس بدار قد أذن اللّه في خرابها، و نودى بالرّحيل قطانها، و اللّه لو لم يكن فيها الّا سلامة الأبدان مع الأمن من البلاء و الموت و ساير الحدثان، لكان جديرا بأن يهجر الدّنيا بسببها، و لا تؤثر عليها مع كون التنغّص و التصرّم من ضروراتها، فانّ نعم الدّنيا زايلة كلّها فانية، و نعم الجنّة دائمة باقية، و أهل الدّنيا كلّهم متنغّصون هالكون، و أهل الجنّة منعّمون آمنون.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ينادى مناديا أهل الجنة انّ لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا، و انّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، و انّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا و انّ لكم أن تنعّموا فلا تيأسوا أبدا، فذلك قول اللّه عزّ و جلّ: وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.

(و أمّا أهل المعصية) و الشّقاوة (فأنزلهم شرّدار) و بئس القرار (و غلّ الأيدى إلى‏ الأعناق) بأغلال و سلاسل من نار قال سبحانه: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ و في سورة يس: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ.

قال الطّبرسيّ: يعني أيديهم، كنّى عنها و ان لم يذكرها لأنّ الأعناق و الأغلال تدلّان عليها، و ذلك انّ الغلّ انما يجمع اليد الى الذقن و العنق و لا يجمع الغلّ العنق الى الذقن، و روى عن ابن عباس و ابن مسعود انهما قرءا انّا جعلنا في أيمانهم أغلالا، و قرأ بعضهم في أيديهم، و المعنى في الجميع واحد، لأنّ الغلّ لا يكون في العنق دون اليد و لا في اليد دون العنق، و قوله: فهم مقمحون«»، أراد أنّ أيديهم لما غلّت الى أعناقهم و رفعت الأغلال أذقانهم و رؤوسهم صعدا فهم مرفوع و الرّأس برفع الأغلال ايّاها وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ.

اشارة الى ضيق المكان في النار بحيث لا يجدون متقدّما و لا متأخّرا إذ سدّ عليهم جوانبهم فأغشيناهم بالعذاب فهم لا يبصرون في النار.

(و قرن النّواصي بالأقدام) بالأغلال و الأصفاد كما قال تعالى في سورة الرحمن يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ.

قال الطّبرسيّ في تفسير: تأخذهم الزّبانية فتجمع بين نواصيهم و أقدامهم بالغلّ‏ ثمّ يسحبون في النّار و يقذفون فيها (و ألبسهم سرابيل القطران) كما قال عزّ من قائل في سورة إبراهيم: وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ قال المفسّر و هو ما يطلى به الابل الجربي فيحرق الجرب و الجلد، و هو شي‏ء أسود لزج منتن يطلون به فيصير كالقميص عليهم ثمّ يرسل النار فيهم ليكون أسرع اليهم و أبلغ في الاشتعال و أشدّ في العذاب، و قيل السّربال من قطران تمثيل لما يحيط بجوهر النّفس من المهلكات الرّدية و الهيآت الموحشات المؤلمة (و مقطّعات النّيران) قيل: المقطّعات كلّ ثوب يقطع كالقميص و الجبّة و نحوهما لا ما لا يقطع كالازار و الرّداء، و لعلّ السرّ في كون ثياب أهل النار مقطعات كونها أشدّ في العذاب لاشتمالها على جميع البدن، و في مجمع البيان في تفسير قوله: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قال ابن عباس: حين صاروا إلى جهنّم لبسوا مقطّعات النيران، و هى الثياب القصار و قيل يجعل لهم ثياب نحاس من نار و هى أشدّ ما تكون حمى، و قيل أنّ النّار تحيط بهم كاحاطة الثياب التي يلبسونها (في عذاب قد اشتدّ حرّه و باب قد اطبق على أهله) لكونهم في العذاب مخلّدين، و في النار محبوسين، و من خروج الباب ممنوعين، فالأبواب عليهم مغلقة، و أسباب الخروج بهم منقطعة قال سبحانه: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ.

قال الحسن: انّ النار ترميهم بلهبها حتّى اذا كانوا في أعلاها ضربوا بمقامع فهو وا فيها سبعين خريفا، فاذا انتهوا إلى أسفلها ضربهم زفير لهبها فلا يستقرّون ساعة فذلك قوله: كلّما أرادوا الآية، و أمّا أهل الجنّة فأبوا بها عليهم مفتوحة كما قال تعالى:

وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ.

(في نار لها كلب و لجب و لهب ساطع) أى لها شدّة و صوت و اشتعال مرتفع (و قصيف هائل) أى صوت شديد مخوف (لا يظعن مقيمها) بل كلّما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها و قيل لهم ذوقوا عذاب النّار الذي كنتم به تكذّبون (و لا ينادى أسيرها) أى لا يؤخذ عنه الفدية فيخلص كأسراء الدّنيا (و لا تفصهم كبولها) و قيودها بل هى و ثيقة محكمة (لا مدّة للدّار فتفنى و لا أجل للقوم فيقضى) بل عذابها أبدىّ سرمديّ.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيذبح بين الجنّة و النّار، و يقال: يا أهل الجنّة خلود بلا موت، و يا أهل النّار خلود بلا موت.

فيا أيّها الغافل عن نفسه المغرور بما هو فيه من شواغل هذه الدّنيا المؤذنة بالزّوال و الانقضاء، دع التّفكر فيما أنت مرتحل عنه و اصرف الفكر الى موردك و مصيرك و قد اخبرت بأنّ النار مورد للجميع اذ قيل: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا.

فانت من الورود على يقين و من النّجاة في شكّ، فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد فعساك تستعدّ للنجاة منه، و تأمّل في حال الخلايق و قد قاسوا من دواهى القيامة ما قاسوا، فبينما هم في كربها و أهوالها وقوفا ينتظرون حقيقة أنبائها، اذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات شعب و أظلّت عليهم نار ذات لهب، و سمعوا لها زفيرا و جرجرة تفصح عن شدّة الغيظ و الغضب، فعند ذلك أيقن المجرمون بالهلاك و العطب، و جثت الامم على الركب، حتى اشفق البرآء من سوء المنقلب، و خرج المنادى من الزّبانية قائلا أين فلان بن فلان المسوّف نفسه في الدّنيا بطول الأمل‏ المضيّع عمره في سوء العمل، فيبادرونه بمقامع من حديد، و يستقبلونه بعظائم التّهديد و يسوقونه الى العذاب الشّديد، و ينكسونه في قعر الجحيم، و يقولون له: ذق إنّك أنت العزيز الكريم.

فاسكنوا دارا ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك يخلد فيها الأسير، و يوقد فيها السعير، شرابهم فيها الحميم، و مستقرّهم الجحيم، الزّبانية تقمعهم، و الهاوية تجمعهم، أمانيهم فيها الهلاك، و مآلهم منها فكاك، قد شدّت أقدامهم إلى النواصي، و اسودّت وجوههم من ظلمة المعاصى.

ينادون من أكنافها، و يصيحون في أطرافها، يا مالك قد حقّ علينا الوعيد يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك اخرجنا منها فانّا لا نعود، فتقول الرّبانية لات حين أمان، لا خروج لكم من دار الهوان، فاخسئوا فيها و لا تكلّمون، و لو اخرجتم لكنتم الى ما نهيتم عنه تعودون، فعند ذلك يقنطون و على ما فرّطوا في جنب اللّه يتأسّفون، و لا يغنيهم الأسف و لا ينجيهم الندّم، اذ زلّت بهم القدم، بل يكبّون على وجوههم مغلولين، النار من فوقهم، و النّار من تحتهم، و النار عن أيمانهم، و النّار عن شمائلهم. فهم غرقى في النّار، طعامهم و شرابهم نار، و لباسهم نار، و مهادهم نار.

فهم بين مقطعات النّيران، و سرابيل القطران، و ضرب المقامع، و ثقل السّلاسل، و هم يتجلجلون في مضايقها، و يتحطّمون في دركاتها، و يضطربون بين غواشيها، تغلي بهم النّار كغلى القدور، و يهتفون بالويل و العويل و الثبور، و مهما دعوا بذلك صبّ من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم و الجلود، و لهم مقامع من حديد، تهشم بها جباههم، فيتفجّر الصّديد من أفواههم، و تنقطع من العطش اكبادهم، و تسيل على الخدود أحداقهم و يسقط من الوجنات لحومها، و يتمعّط«» من الأطراف جلودها، و كلّما نضجت جلودهم بدّلوا جلودا غيرها قد عريت من اللّحم عظامهم، فبقيت الأرواح منوطة بالعروق و علايق العصب، و هى تنش في نفخ تلك النيران و هم مع ذلك يتمنّون الموت فلا يموتون.

فكيف بك لو نظرت اليهم و قد اسودّت و جوههم أشدّ سوادا من الحميم، و اعميت ابصارهم، و ابكمت ألسنتهم، و قصمت ظهورهم، و كسرت عظامهم. و جدعت آذانهم، و مزّقت جلودهم، و غلّت أيديهم إلى أعناقهم، و جمع بين نواصيهم و أقدامهم و هم يمشون على النار بوجوههم و يطؤن حسك الحديد بأحداقهم، فلهيب النار سار في بواطن أجزائهم، و حيّات الهاوية و عقاربها متشبّثة بظواهر أعضائهم.

قال أبو الدّردا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يلقى على أهل النّار الجوع حتّى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن و لا يغنى من جوع، و يستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذى غصّة فيذكرون انّهم كانوا يجيزون «يجرعون» الغصص في الدّنيا فيستغيثون بشراب فيرفع اليهم الحميم بكلاليب الحديد فاذ ادنت من وجوههم شوت وجوههم، فاذا دخل الشراب بطونهم قطع ما في بطونهم فيقولون: ادعوا اخزنة جهنم، قال: فيدعون فيقولون: ادعوا ربّكم يخفّف عنّا يوما من العذاب، و يقولون أولم تك تأتيكم رسلكم بالبيّنات قالوا بلى قالوا فادعوا و ما دعاء الكافرين إلّا في ضلال، قال فيقولون ادعوا مالكا، فيدعون، فيقولون: يا مالك ليقض علينا ربّك، قال فيجيبهم إنّكم ما كثون.

قال الاعمش انبئت أنّ بين دعائهم و بين اجابة مالك إيّاهم ألف عام قال: فيقولون: ادعوا ربّكم، فلا أحد خير من ربّكم فيقولون: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ.

قال: فيجيبهم: اخسئوا فيها و لا تكلّمون، قال: فعند ذلك يئسوا من كلّ خير، و عند ذلك اخذوا في الزّفير و الحسرة و الويل.

و عن زيد بن أسلم في قوله تعالى:سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ.

قال صبروا مأئة سنة ثمّ جزعوا مأئة سنة ثمّ صبروا مأئة سنة ثمّ قالوا سواء علينا أجزعنا أم صبرنا.

و قال محمّد بن كعب: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم اللّه عزّ و جلّ في أربعة فاذا كانت الخامسة لم يتكلّموا بعدها أبدا يقولون: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى‏ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ فيقول اللّه تعالى مجيبا لهم: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ثمَّ يقولون: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً فيجيبهم اللّه تعالى: أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ فيقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فيجيبهم اللّه تعالى: أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ثمّ يقولون: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ فيجيبهم اللّه تعالى قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا.

فلا يتكلّمون بعدها أبدا، و ذلك غاية شدّة العذاب، و هذه بعض أحوال أهل النّار اجمالا، و أمّا تفصيل غمومها و أحزانها و محنها و حسراتها فلا نهاية لها، فالعجب‏ كلّ العجب لي و لأمثالي نضحك و نلهو و نشتغل بمحقرات الدّنيا و قيناتها، و لا ندرى أنحن من أهل الجنّة و فيها منعّمون، أم من أهل النّار و فيها معذّبون، و كيف لنا بالجنّة مع شرور أنفسنا و غرورها، و لا رجاء بل لا طمع إلّا برحمة الغفّار و شفاعة الشّفعاء الأطهار نعوذ باللّه من النّار و من غضب الجبّار.

الترجمة

تا اين كه زمانى كه برسد مكتوب در حقّ بندگان بنهاية خود، و امورات مقدّره بغاية خود، و لا حق گردانيده شود آخر مردمان بأوّل ايشان، و بيايد از فرمان خداى متعال آنچه اراده كرده باشد آنرا از تازه كردن خلق خود، بحركت بياورد آسمان را، و بشكافد آنرا، و حركت دهد زمين را، و بجنباند آنرا، و بركند كوههاى زمين را، و پراكنده گرداند أجزاى آنها را مثل ريك، و بكوبد بعضى از آنها بعضى را از هيبة جلال پروردگار، و ترس سطوت خداوند قهّار، و بيرون بياورد هر كس كه باشد در بطن زمين، پس تجديد نمايد ايشان را بعد از كهنه بودن ايشان، و جمع كند ايشان را بعد از پراكنده نمودن ايشان، بعد از آن تميز مى‏دهد در ما بين ايشان از براى آنچه كه اراده نموده باشد از نوال كردن از عملهاى نهان و فعلهاى پنهان، و بگرداند ايشان را دو فرقه انعام بفرمايد بر اين فرقه و انتقام بكشد از آن فرقه.

پس أما أهل طاعت و صلاح پس جزا مى‏دهد ايشان را بجوار رحمت خود و جاويد گرداند ايشان را در سراى خود، در مكانى كه كوچ نكند فرود آيندگان و متغير نشود بايشان احوال، و نرسد بايشان خوفها، در نيايد بايشان ناخوشيها، و عارض نمى‏شود بايشان خطرها، و از جاى بجائى نفرستد ايشان را.

و أمّا أهل معصيت و شقاوت پس نازل ميكند ايشان را در بدترين سرا، و ببندد دستهاى ايشان را بسوى گردنها، و پيوست گرداند پيشانى ايشان را بقدمها، و بپوشاند برايشان پيراهن‏هاى قطران جامهاى آتش سوزان، در عذابى كه سخت‏ باشد گرمى آن، و در ميان درى كه بهم آورده باشد بروى أهل آن، در آتشى كه باشد او را شدّة و صدا و زبانه بلند شده و او را سخت ترساننده كه كوچ نكند اقامة كننده در آن، و فديه گرفته نشود از اسيران، و شكسته نشود قيدهاى آن، مدّت و نهايت نباشد آن سرا را تا فانى شود، و وقت معيّنى نباشد آن قوم را تا بآخر برسد.

الفصل الرابع

منها فى ذكر النبي صلى الله عليه و آله قد حقّر الدّنيا و صغّرها، و أهونها و هوّنها، و علم أنّ اللّه زويها عنه اختيارا، و بسطها لغيره احتقارا، فأعرض عنها بقلبه، و أمات ذكرها عن نفسه، و أحبّ أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتّخذ منها رياشا، أو يرجو فيها مقاما، بلّغ عن ربّه معذرا، و نصح لامّته منذرا، و دعا إلى الجنّة مبشّرا، نحن شجرة النّبوة، و محطّ الرّسالة، و مختلف الملائكة، و معادن العلم، و ينابيع الحكم، ناصرنا و محبّنا ينتظر الرّحمة، و عدوّنا و مبغضنا ينتظر السّطوة.

اللغة

(هان) الشي‏ء هونا و هوانا ذلّ و حقر فهو هيّن بالتّشديد و هين بالسّكون و يتعدّى بالهمزة فيقال أهنته و بالتّضعيف فيقال هوّنته أى أذللته و في بعض النّسخ أهون بها بدل أهونها أى لم يعتدّ بها و لم تكن عزيزة عليه و (زواه) زيّا و زويّما نحاه‏و زوى المال عن صاحبه طواه و (الرّيش) و الرّياش واحد و هو ما ظهر من اللّباس الفاخر و (السّطوة) القهر و الذلّة.

الاعراب

اختيارا منصوب بنزع الخافض و يحتمل الحال من فاعل زوى أو من ضمير عنه على تاويله بالمشتق أى مختارا، و احتقارا إما منصوب على المفعول له أو حال من فاعل بسط على التأويل بالمشتق أيضا و معذرا و منذرا و مبشّرا منصوبات على الحال

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من كلامه عليه السّلام متضمّن لأمرين: أحدهما وصف زهد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فيه تعريض على ذمّ الدّنيا و زخارفها، و الثاني افتخاره و مباهاته عليه السّلام بكمالاته النفسانيّة و اختصاصه الخاصّ الذى كان له برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المستلزم سبقه على غيره و تقدّمه على الكلّ.

اما الامر الاول

فهو ما أفصح عنه بقوله عليه السّلام (قد حقّر الدّنيا و صغّرها) التشديد للتكثير فيقتضي زيادة تحقيره و تصغيره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو أبلغ في الثناء عليه (و أهونها و هوّنها) أى عدّها هيّنة ذليلة في نظره و لم يعتدّ بها (و علم أنّ اللّه زويها) أى صرفها و طويها (عنه اختيارا) أى مختارا بصيغة الفاعل و باختيار منه سبحانه زويها و حقّه أو اختيار منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك لنفسه و رضاه (و بسطها لغيره احتقارا) أى محتقرا بالكسر أو لحقارتها عنده سبحانه.

و يشهد بذلك كلّه ما رواه في الكافي باسناده عن عبد اللّه بن القاسم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا أراد اللّه بعبد خيرا زهّده في الدّنيا و فقّهه في الدّين و بصّر عيوبها و من اوتيهنّ فقد اوتى خير الدّنيا و الآخرة.

و عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: خرج النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو محزون فأتاه ملك و معه مفاتيح خزائن الأرض فقال يا محمّد هذه مفاتيح خزائن الأرض‏ يقول لك ربّك افتح و خذ منها ما شئت من غير أن ينقص شيئا عندى، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الدّنيا دار من لا دار له و لها يجمع من لا عقل له، فقال الملك و الذي بعثك بالحقّ لقد سمعت هذا الكلام من ملك يقوله في السّماء الرابعة حين اعطيت المفاتيح.

و عن جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بجدى أسك ملقى على مزبلة ميّتا فقال لأصحابه: كم يساوى هذا فقالوا: لعله لو كان حيّا لم يساو درهما، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الذي نفسي بيده الدّنيا أهون على اللّه من هذا الجدى على أهله.

و في احياء العلوم للغزالي قال: قال نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ ربّي عزّ و جلّ عرض علىّ أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت: لا يا ربّ أجوع يوما و أشبع يوما، فأمّا اليوم الذي أجوع فيه فأتضرّع اليك و أدعوك، و أمّا اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك و اثنى عليك.

و يأتي انشاء اللّه في فصول الخطبة المأة و السّابعة و الخمسين أخبار اخر مناسبة للمقام.

(فأعرض عنها بقلبه و أمات ذكرها عن نفسه و أحبّ أن تغيب زينتها عن عينه) قال الغزالي: روى أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرّ في أصحابه بعشار من النوق حصل و هى الحوامل و كانت من أحبّ أموالهم اليهم و أنفسها عندهم، لأنها تجمع الظهر و اللّحم و اللّبن و الوبر، و لعظمها في قلوبهم قال اللّه تعالى: و إذا العشار عطّلت، قال: فأعرض عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أغمض بصره، فقيل له: يا رسول اللّه هذه أنفس أموالنا لم لا تنظر إليها فقال: قد نهاني اللّه عن ذلك ثمّ تلا قوله تعالى: وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا-  الآية.

(كيلا يتّخذ منها رياشا) أى لباسا فاخرا (أو يرجو فيها مقاما) أى اقامة مع الايمان و الاسلام و الشرائع و الأحكام (بلّغ عن ربّه معذرا) أى مزيلا للعذر عن‏ النّاس لئلّا يكون للنّاس على اللّه حجّة و ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حىّ عن بيّنة و لئلّا يقولوا يوم القيامة انّا كنّا عن هذا غافلين (و نصح لأمّته منذرا) لهم عن أليم العذاب و شديد العقاب (و دعا إلى الجنّة مبشرا) بجزيل الثّواب و حسن المآب.

و أما الامر الثاني

فهو قوله (نحن شجرة النبوّة) أراد به رسول اللّه و نفسه الشريف و زوجته الصّديقة و أولاده الطّيبين الطّاهرين سلام اللّه عليهم أجمعين و به فسّر قوله سبحانه: كشجرة طيّبة أصلها ثابت و فرعها في السّماء الآية، و قد مضى توضيحه في شرح الكلام السّادس و السّتين، و شرح الخطبة الثّالثة و التّسعين فتذكّر.

(و محطّ الرّسالة) لم يرد بذلك أنهم عليهم السّلام جميعا رسل اللّه جعلهم محالّ الرّسالة و موضعها كما توهّمه بعض الغلاة و زعموا أنّ الأئمة يوحى اليهم كالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد كذبوا لعنهم اللّه و انما هم محدثون مفهمون، بل المراد به أنّ قبيلتهم محلّ نزول الرسالة أو نزلت في بيتهم، أو أنّ رسول اللّه مرسل من عند اللّه و جميع ما أرسله به و وصل إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد وصل اليه سلام اللّه عليه و أولاده الطّاهرين فهم موضع الرّسالة و محطّها بهذا المعنى.

و يشهد بذلك ما في الكافي باسناده عن حمران بن أعين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ جبرئيل أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم برمّانتين فأكل رسول اللّه إحداهما و كسر الاخرى بنصفين فأكل نصفا و أطعم عليا نصفا، ثمّ قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا أخى هل تدرى ما هاتان الرّمانتان قال: لا، قال: أمّا الاولى فالنبوّة ليس لك فيها نصيب، و أمّا الاخرى فالعلم فأنت شريكى فيه، فقلت: أصلحك اللّه كيف يكون شريكه فيه قال: لم يعلم اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علما إلّا و أمره أن يعلّمه عليّا و عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول، نزل جبرئيل عليه السّلام على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم برمّانتين من الجنّة فلقاه عليّ عليه السّلام فقال: ما هاتان الرّمانتان اللتان في يديك فقال: أمّا هذه فالنبوّة ليس لك فيها نصيب، و أمّا هذه فالعلم،ثمّ فلقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنصفين فأعطاه نصفها و أخذ رسول اللّه نصفها ثمّ قال: أنت شريكى فيه و أنا شريكك فيه و قال عليه السّلام فلم يعلم و اللّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حرفا مما علّمه اللّه إلّا و قد علّمه عليا عليه السّلام، ثمّ انتهى العلم إلينا ثمّ وضع يده على صدره و بالجملة فالمراد أنّهم مخزن علم الرسالة و أسرارها (و مختلف الملائكة) أى محلّ اختلافهم و تردّدهم و مجيئهم و ذهابهم مرّة بعد اخرى، أما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فظاهر، و أما الأئمة عليهم السّلام فلأنّهم ينزلون اليهم مرّة بعد اولى و طائفة بعد اخرى لزيارتهم و التشرّف بهم و إنزال الأخبار اليهم.

و يدلّ عليه ما في الكافي باسناده عن مسمع كردين البصرى قال: كنت لا أزيد على اكلة باللّيل و النّهار فربّما استأذنت على أبي عبد اللّه و أجد المائدة قد رفعت لعلّى لا أراها بين يديه فاذا دخلت دعابها فاصيب معه من الطعام و لا أتأذّى بذلك و اذا عقبت بالطعام عند غيره لم أقدر على أن أقرّ و لم أنم من النفخة، فشكوت ذلك إليه عليه السّلام و أخبرته بأنّى اذا أكلت عنده لم أتأذّبه، فقال: يا با سيّار إنّك تأكل طعام قوم صالحين تصافحهم الملائكة على فرشهم، قال: قلت: و يظهرون لكم قال، فمسح يده على بعض صبيانه فقال: هم ألطف بصبياننا منّا بهم.

و عن الحسين بن أبي العلا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال يا حسين و ضرب بيده إلى مساور في البيت: مساور طال ما اتّكت عليها الملائكة و ربّما التقطنا من زغبها و المساور جمع المسورة و هو المتّكاء، و الزّغب محرّكة صغار الريش و لينه.

و فيه عن أبي حمزة الثمالي قال: دخلت على عليّ بن الحسين عليهما السّلام فاحتبست في الدار ساعة ثمّ دخلت البيت و هو يلتقط شيئا و أدخل يده من وراء الستر فناوله من كان في البيت، فقلت: جعلت فداك هذا الذي أراك تلتقطه أىّ شي‏ء هو فقال: فضلة من زغب الملائكة نجمعه إذا خلونا نجعله سبحا لأولادنا، فقلت جعلت فداك و انّهم ليأتونكم فقال: يا با حمزة انّهم ليزاحمونا على تكائتنا و السبح بالباء الموحدة النّوم و السّكون، و في بعض النّسخ سيحا بالياء المثناة التحتانيّة و هو الكساء المخطط، و في البحار عن بصائر الدّرجات سحابا بدله‏ و هو ككتاب خيط ينظم فيه خرز و يلبسه الصبيان و الجوارى، و التّكأة كهمزة ما يتّكا عليه.

و في الكافي أيضا عن عليّ بن أبي حمزة عن أبي الحسن قال: سمعته يقول: ما من ملك يهبطه اللّه في أمر ما يهبطه إلّا بدء بالامام فعرض ذلك عليه، و أنّ مختلف الملائكة من عند اللّه تبارك و تعالى إلى صاحب هذا الأمر.

و في البحار من بصائر الدرجات عن أحمد عن الحسين عن الحسن بن برة الأصم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: إنّ الملائكة لتنزل علينا في رحالنا و تنقلب على فرشنا و تحضر موائدنا و تأتينا من كلّ نبات في زمانه رطب و يابس، و تقلب أجنحتها على صبياننا، و تمنع الدّواب أن تصل الينا و يأتينا في وقت كلّ صلاة لتصلّيها معنا، و ما من يوم يأتي علينا و لا ليل إلّا و أخبار أهل الأرض عندنا، و ما يحدث فيها، و ما من ملك يموت في الأرض و يقوم غيره إلّا و تأتينا بخبره، و كيف كان سيرته في الدّنيا.

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة، و في ما ذكرناه كفاية، و قد عقد العلّامة المجلسي (ره) في المجلد السابع من البحار بابا في أنّ الملائكة تأتيهم و تطاء فرشهم و أنهم يرونهم صلوات اللّه عليهم أجمعين.

(و معادن العلم) أى مستقرّه و محلّه و قد مضى بيان ذلك في التذييل الثالث من الفصل السابع عشر من فصول الخطبة الاولى، و في شرح الفصل الرّابع من فصول الخطبة الثانية.

(و ينابيع الحكم) أى منهم عليهم السّلام يخرج الأحكام إلى العباد يجرى إلى الموادّ القابلة على حسب الاستعداد حسبما يجرى المياه من مجاريها و منابعها فتربط الجاش و تسقى العطاش كما يروّى الماء للغليل و يقوى للعليل، و المراد بالحكم إمّا الأحكام الشرعية أو فصل الخطاب أعنى القضاء و قطع الخصومات بالصّواب في كلّ باب على ما مضى تحقيقه و تفصيله في شرح الفصل الرّابع من فصول الخطبة الثانية، و شرح الفصل الثاني من فصول الخطبة الثالثة هذا.

و يحتمل أن يراد بالحكم الحكمة كما فسّربه قوله سبحانه: وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، قال الباقر عليه السّلام في رواية الكافي: مات زكريّا فورثه ابنه يحيى الكتاب و الحكمة و هو صبىّ صغير، ثمّ تلى هذه الآية و يؤيّد هذا الاحتمال ما في بعض النّسخ من ضبط الحكم بكسر الحاء و فتح الكاف و هو جمع الحكمة و الحكمة هو الفهم و العقل و به فسّره الكاظم عليه السّلام في قوله سبحانه: و لقد آتينا لقمان الحكمة و في مجمع البيان أى أعطيناه العقل و العلم و العمل به و الاصابة في الامور، و كيف كان فلا غبار على كون الأئمة متّصفين بالحكم بأىّ معنى يراد، و هم الحاكمون بين العباد بالحقّ و الصّواب و السّداد.

ثمّ اعلم أنّ الشّارح المعتزلي قد أورد في شرح المقام بعض الأخبار الدالّة على غزارة علم أمير المؤمنين عليه السّلام و قال بعد ذلك: و بالجملة فحاله عليه السّلام في العلم رفيعة جدا لم يلحقه أحد فيها و لا قاربه و حقّ له أن يصف نفسه بأنه معادن العلم و ينابيع الحكم فلا أحد أحقّ به منها بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

أقول: و بعد الاعتراف بسبقه على غيره في العلم و الحكم و أنّه لم يدانيه في ذلك أحد و لم يقاربه فيه، كيف يجوز أن يقدّم غيره عليه و يؤتمّ به دونه قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ وَ لَا الظُّلُماتُ وَ لَا النُّورُ وَ لَا الظِّلُّ وَ لَا الْحَرُورُ وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.

ثمّ إنّه لما أشار إلى بعض فضائله و مناقبه الجميلة عقّب ذلك بذكر ما لعلّه هو الغرض الأصلى من ذكر هذه المناقب و هو الحثّ و الترغيب في نصرته ببشرى ناصريه بالثّواب، و التحذير و التنفير عن عداوته بانذار مبغضيه من العقاب و هو قوله: (ناصرنا و محبّنا ينتظر الرّحمة و عدوّنا و مبغضنا ينتظر السّطوة) لما كان‏ نزول الرّحمة في حقّ ناصريه و السّخط و العقوبة في حقّ معانديه معلوما محقق الوقوع لا محالة، جعل كلا من الفريقين بمنزلة المنتظرين لما يستحقّه من الأمرين كمن أيقن بشى‏ء فانتظره و إلّا فلا انتظار للمعاندين حقيقة و أمّا المحبّون و الأنصار فلهم الانتظار حقيقة برحمة اللّه الغفّار و شفاعة الشفعاء الأطهار سلام اللّه عليهم ما تعاقب اللّيل و النّهار.

و يدلّ على ما ذكر ما في البحار من أمالي الشيخ باسناد أخى دعبل عن الرّضا عن آبائه عليهم السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في «قرء ظ» الآية: لا يستوى أصحاب النّار و أصحاب الجنّة، أصحاب الجنّة هم الفائزون. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصحاب الجنّة من أطاعني و سلّم لعليّ بن أبي طالب بعدى و أقرّ بولايته، فقيل و أصحاب النّار قال من سخط الولاية و نقض العهد و قاتله بعدى.

و من امالي الصّدوق باسناده عن عباد الكلبيّ عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن عليّ بن الحسين عن فاطمة الصغرى عن الحسين بن عليّ عن امّه فاطمة بنت محمّد صلوات اللّه عليهم قالت خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشيّة عرفة فقال: إنّ اللّه تبارك تعالى باهى بكم و غفر لكم عامّة و لعلىّ خاصّة، و إنّى رسول اللّه إليكم غير محاب«» لقرابتي، هذا جبرئيل يخبرني أنّ السّعيد كلّ السّعيد حقّ السّعيد من أحبّ عليّا في حياته و بعد موته، و أنّ الشقىّ كلّ الشقيّ حقّ الشّقي من أبغض عليّا في حياته و بعد وفاته.

و من العيون باسناده عن الرّضا عليه السّلام قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام من أحبّك كان مع النّبيّين في درجتهم يوم القيامة، و من مات و هو يبغضك فلا يبالي مات يهوديا او نصرانيا.

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا و قد تقدّم في التذنيب الثّالث من تذنيبات الفصل الرّابع من فصول الخطبة الاولى روايات مناسبة للمقام.

الترجمة

بعض ديگر از اين خطبه در ذكر حضرت رسالتمآب و وصف زهد آن جناب است كه فرموده: بتحقيق كه حقير شمرد و كوچك گردانيد آن بزرگوار دنياى غدّار را در نظر خود، و اعتنا نفرمود بآن و خوار نمود آن را در نزد خود، و دانست بعلم يقين كه خداوند سبحانه دور نمود و پيچيده كرد دنيا را از او از جهة برگزيدن او سبحانه دورى آن را در حق او، و بسط كرد آن را در حق غير او از براى خوار داشتن آن پس اعراض نمود رسول مختار از دنيا بقلب خود، و ميرانيد ياد دنيا را از نفس خود و دوست داشت آنكه غايب شود زينت دنيا از چشم او تا اين كه أخذ ننمايد از زينت آن لباس فاخر يا اين كه اميد بدارد در آن اقامة و آسايش را تبليغ نمود از جانب پروردگار شريعت و أحكام را در حالتي كه زايل كننده بود عذر را از خلقان و نصيحت فرمود بامت خود در حالتى كه ترساننده بود ايشان را، و دعوت كرد بسوى بهشت در حالتى كه بشارت دهنده بود بمزدمان.

ما درخت نبوّت هستيم و موضع نزول رسالت مى‏باشيم، و محلّ تردّد فرشتگان و معدنهاى علم و عرفان و سرچشمه‏هاى أحكام، نصرت كننده و دوست دارنده ما منتظر ميباشد رحمت پروردگار را، و خصم و دشمن دارنده ما منتظر ميباشد قهر و سطوت كردگار را.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.