9 و من كتاب له ع إلى معاوية
فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا وَ اجْتِيَاحَ أَصْلِنَا- وَ هَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ وَ فَعَلُوا بِنَا الْأَفَاعِيلَ- وَ مَنَعُونَا الْعَذْبَ وَ أَحْلَسُونَا الْخَوْفَ- وَ اضْطَرُّونَا إِلَى جَبَلٍ وَعْرٍ- وَ أَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ- فَعَزَمَ اللَّهُ لَنَا عَلَى الذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ- وَ الرَّمْيِ مِنْ وَرَاءِ حَوْمَتِهِ- مُؤْمِنُنَا يَبْغِي بِذَلِكَ الْأَجْرِ وَ كَافِرُنَا يُحَامِي عَنِ الْأَصْلِ- وَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ خِلْوٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِحِلْفٍ يَمْنَعُهُ- أَوْ عَشِيرَةٍ تَقُومُ دُونَهُ فَهُوَ مِنَ الْقَتْلِ بِمَكَانِ أَمْنٍ- وَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ- وَ أَحْجَمَ النَّاسُ- قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ- فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ وَ الْأَسِنَّةِ- فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ- وَ قُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ- وَ قُتِلَ جَعْفَرٌ يَوْمَ مُؤْتَةَ- وَ أَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ- مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ- وَ لَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَ مَنِيَّتَهُ أُخِّرَتْ- فَيَا عَجَباً لِلدَّهْرِ- إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي- وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي- الَّتِي لَا يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا- إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لَا أَعْرِفُهُ وَ لَا أَظُنُّ اللَّهَ يَعْرِفُهُ- وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ- وَ أَمَّا مَا سَأَلْتَ مِنْ دَفْعِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إِلَيْكَ- فَإِنِّي نَظَرْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ- فَلَمْ أَرَهُ يَسَعُنِي دَفْعُهُمْ إِلَيْكَ وَ لَا إِلَى غَيْرِكَ- وَ لَعَمْرِي لَئِنْ لَمْ تَنْزِعْ عَنْ غَيِّكَ وَ شِقَاقِكَ- لَتَعْرِفَنَّهُمْ عَنْ قَلِيلٍ يَطْلُبُونَكَ- لَا يُكَلِّفُونَكَ طَلَبَهُمْ فِي بَرٍّ وَ لَا بَحْرٍ- وَ لَا جَبَلٍوَ لَا سَهْلٍ- إِلَّا أَنَّهُ طَلَبٌ يَسُوءُكَ وِجْدَانُهُ- وَ زَوْرٌ لَا يَسُرُّكَ لُقْيَانُهُ وَ السَّلَامُ لِأَهْلِهِ
قوله ع فأراد قومنا يعني قريشا- . و الاجتياح الاستئصال و منه الجائحة و هي السنة- أو الفتنة التي تجتاح المال أو الأنفس- . قوله و منعونا العذب أي العيش العذب- لا أنهم منعوهم الماء العذب على أنه قد نقل- أنهم منعوا أيام الحصار في شعب بني هاشم- من الماء العذب- و سنذكر ذلك- . قوله و أحلسونا الخوف أي ألزموناه- و الحلس كساء رقيق يكون تحت برذعة البعير- و أحلاس البيوت ما يبسط تحت حر الثياب- و في الحديث كن حلس بيتك – أي لا تخالط الناس و اعتزل عنهم- فلما كان الحلس ملازما ظهر البعير- و أحلاس البيوت ملازمة لها- قال و أحلسونا الخوف- أي جعلوه لنا كالحلس الملازم- . قوله و اضطرونا إلى جبل وعر- مثل ضربه ع لخشونة مقامهم و شظف منزلهم- أي كانت حالنا فيه- كحال من اضطر إلى ركوب جبل وعر- و يجوز أن يكون حقيقة لا مثلا- لأن الشعب الذي حصروهم فيه مضيق بين جبلين- . قوله فعزم الله لنا أي قضى الله لنا- و وفقنا لذلك و جعلنا عازمين عليه- . و الحوزة الناحية و حوزة الملك بيضته- .
و حومة الماء و الرمل معظمه- . و الرمي عنها المناضلة و المحاماة- و يروى و الرمي من وراء حرمته- و الضمير في حوزته و حومته- راجع إلى النبي ص و قد سبق ذكره- و هو قوله نبينا و يروى و الرميا- . و قال الراوندي و هموا بنا الهموم- أي هموا نزول الهم بنا- فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه- و ليس ما قاله بجيد- بل الهموم منصوب هاهنا على المصدر- أي هموا بنا هموما كثيرة- و هموا بنا أي أرادوا نهبنا- كقوله تعالى وَ هَمَّ بِها على تفسير أصحابنا- و إنما أدخل لام التعريف في الهموم- أي هموا بنا تلك الهموم التي تعرفونها- فأتى باللام ليكون أعظم و أكبر- في الصدور من تنكيرها- أي تلك الهموم معروفة مشهورة بين الناس- لتكرر عزم المشركين- في أوقات كثيرة مختلفة على الإيقاع- . و قوله و فعلوا بنا الأفاعيل- يقال لمن أثروا آثارا منكرة فعلوا بنا الأفاعيل- و قل أن يقال ذلك في غير الضرر و الأذى- و منه قول أمية بن خلف لعبد الرحمن بن عوف- و هو يذكر حمزة بن عبد المطلب يوم بدر- ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل- .
قوله يحامي عن الأصل- أي يدافع عن محمد و يذب عنه حمية و محافظة على النسب- . قوله خلو مما نحن فيه- أي خال و الحلف العهد- . و احمر البأس كلمة مستعارة- أي اشتدت الحرب حتى احمرت الأرض من الدم- فجعل البأس هو الأحمر مجازا- كقولهم الموت الأحمر- .
قوله و أحجم الناس- أي كفوا عن الحرب و جبنوا عن الإقدام- يقال حجمت فلانا عن كذا أحجمه بالضم فأحجم هو- و هذه اللفظة من النوادر كقولهم كببته فأكب- . و يوم مؤتة بالهمز و مؤتة أرض معروفة- . و قوله و أراد من لو شئت لذكرت اسمه- يعني به نفسه- . قوله إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي- إشارة إلى معاوية في الظاهر- و إلى من تقدم عليه من الخلفاء في الباطن- و الدليل عليه قوله التي لا يدلي أحد بمثلها- فأطلق القول إطلاقا عاما مستغرقا لكل الناس أجمعين- . ثم قال إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه- و لا أظن الله يعرفه- أي كل من ادعى خلاف ما ذكرته فهو كاذب- لأنه لو كان صادقا لكان علي ع يعرفه لا محالة- فإذا قال عن نفسه إن كل دعوة تخالف ما ذكرت- فإني لا أعرف صحتها فمعناه أنها باطلة- . و قوله و لا أظن الله يعرفه- فالظن هاهنا بمعنى العلم كقوله تعالى- وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها- و أخرج هذه الكلمة مخرج قوله تعالى- قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ- و ليس المراد سلب العلم بل العلم بالسلب- كذلك ليس مراده ع- سلب الظن الذي هو بمعنى العلم- بل ظن السلب أي علم السلب- أي و أعلم أن الله سبحانه يعرف انتفاءه- و كل ما يعلم الله انتفاءه فليس بثابت- .
و قال الراوندي قوله ع- و لا أظن الله يعرفه مثل قوله تعالى- وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ- .و الله يعلم كل شيء قبل وجوده- و إنما معناه حتى نعلم جهادهم موجودا- و ليست هذه الكلمة من الآية بسبيل لتجعل مثالا لها- و لكن الراوندي يتكلم بكل ما يخطر له- من غير أن يميز ما يقول- . و تقول أدلى فلان بحجته أي احتج بها- و فلان مدل برحمه أي مت بها- و أدلى بماله إلى الحاكم- دفعه إليه ليجعله وسيلة إلى قضاء حاجته منه- فأما الشفاعة فلا يقال فيها أدليت- و لكن دلوت بفلان أي استشفعت به- و قال عمر لما استسقى بالعباس رحمه الله- اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك- و قفية آبائه و كبر رجاله- دلونا به إليك مستشفعين قوله ع فلم أره يسعني- أي لم أر أنه يحل لي دفعهم إليك- و الضمير في أره ضمير الشأن و القصة- و أره من الرأي لا من الرؤية- كقولك لم أر الرأي الفلاني- .
و نزع فلان عن كذا- أي فارقه و تركه ينزع بالكسر- و الغي الجهل و الضلال- . و الشقاق الخلاف- . الوجدان مصدر وجدت كذا أي أصبته- و الزور الزائر- . و اللقيان مصدر لقيت تقول لقيته لقاء و لقيانا- . ثم قال و السلام لأهله- لم يستجز في الدين أن يقول له و السلام عليك- لأنه عنده فاسق لا يجوز إكرامه- فقال و السلام لأهله أي على أهله- . و يجب أن نتكلم في هذا الفصل في مواضع- منها ذكر ما جاء في السيرة- من إجلاب قريش على رسول الله ص و بني هاشم- و حصرهم في الشعب- .و منها الكلام في المؤمنين و الكافرين من بني هاشم- الذين كانوا في الشعب محصورين معه ص من هم- . و منها شرح قصة بدر- . و منها شرح غزاة أحد- . و منها شرح غزاة مؤتة
الفصل الأول إجلاب قريش على بني هاشم و حصرهم في الشعب
فأما الكلام في الفصل الأول- فنذكر منه ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار- في كتاب السيرة و المغازي- فإنه كتاب معتمد عند أصحاب الحديث و المؤرخين- و مصنفه شيخ الناس كلهم- . قال محمد بن إسحاق رحمه الله- لم يسبق عليا ع إلى الإيمان بالله- و رسالة محمد ص أحد من الناس- اللهم إلا أن تكون خديجة زوجة رسول الله ص- قال و قد كان ص يخرج و معه علي مستخفين من الناس- فيصليان الصلوات في بعض شعاب مكة- فإذا أمسيا رجعا فمكثا بذلك ما شاء الله أن يمكثا- لا ثالث لهما- ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما و هما يصليان- فقال لمحمد ص يا ابن أخي ما هذا الذي تفعله- فقال أي عم هذا دين الله و دين ملائكته و رسله- و دين أبينا إبراهيم- أو كما قال ع بعثني الله به رسولا إلى العباد- و أنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة- و دعوته إلى الهدى- و أحق من أجابني إليه و أعانني عليه أو كما قال- فقال أبو طالب إني لا أستطيع يا ابن أخي أن أفارقديني- و دين آبائي و ما كانوا عليه- و لكن و الله لا يخلص إليك شيء تكرهه ما بقيت- فزعموا أنه قال لعلي أي بني ما هذا الذي تصنع- قال يا أبتاه آمنت بالله و رسوله و صدقته فيما جاء به- و صليت إليه و اتبعت قول نبيه- فزعموا أنه قال له أما إنه لا يدعوك أو لن يدعوك- إلا إلى خير فالزمه- . قال ابن إسحاق- ثم أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله ص- فكان أول من أسلم- و صلى معه بعد علي بن أبي طالب ع- .
ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة فكان ثالثا لهما- ثم أسلم عثمان بن عفان و طلحة و الزبير- و عبد الرحمن و سعد بن أبي وقاص- فصاروا ثمانية- فهم الثمانية الذين سبقوا الناس إلى الإسلام بمكة- ثم أسلم بعد هؤلاء الثمانية أبو عبيدة بن الجراح- و أبو سلمة بن عبد الأسد و أرقم بن أبي أرقم- ثم انتشر الإسلام بمكة و فشا ذكره- و تحدث الناس به- و أمر الله رسوله أن يصدع بما أمر به- فكانت مدة إخفاء رسول الله ص نفسه و شأنه- إلى أن أمر بإظهار الدين ثلاث سنين فيما بلغني- .
قال محمد بن إسحاق- و لم تكن قريش تنكر أمره حينئذ كل الإنكار- حتى ذكر آلهتهم و عابها- فأعظموا ذلك و أنكروه- و أجمعوا على عداوته و خلافه- و حدب عليه عمه أبو طالب فمنعه و قام دونه- حتى مضى مظهرا لأمر الله لا يرده عنه شيء- قال فلما رأت قريش محاماة أبي طالب عنه- و قيامه دونه و امتناعه من أن يسلمه- مشى إليه رجال من أشراف قريش- منهم عتبة بن ربيعة و شيبة أخوه- و أبو سفيان بن حرب و أبو البختري بن هشام- و الأسود بن المطلب- و الوليد بن المغيرة و أبو جهل عمرو بن هشام-و العاص بن وائل و نبيه و منبه ابنا الحجاج- و أمثالهم من رؤساء قريش- فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا- و عاب ديننا و سفه أحلامنا و ضلل آراءنا- فإما أن تكفه عنا و إما أن تخلي بيننا و بينه- فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا و ردهم ردا جميلا- فانصرفوا عنه و مضى رسول الله ص على ما هو عليه- يظهر دين الله و يدعو إليه- ثم شرق الأمر بينه و بينهم تباعدا و تضاغنا- حتى أكثرت قريش ذكر رسول الله ص بينها- و تذامروا فيه و حض بعضهم بعضا عليه- فمشوا إلى أبي طالب مرة ثانية- فقالوا يا أبا طالب إن لك سنا و شرفا و منزلة فينا- و إنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا- و إنا و الله لا نصبر على شتم آبائنا- و تسفيه أحلامنا و عيب آلهتنا- فإما أن تكفه عنا أو ننازله و إياك- حتى يهلك أحد الفريقين ثم انصرفوا- فعظم على أبي طالب فراق قومه و عداوتهم- و لم تطب نفسه بإسلام ابن أخيه لهم و خذلانه- فبعث إليه فقال يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني- فقالوا لي كذا و كذا للذي قالوا- فأبق علي و على نفسك- و لا تحملني من الأمر ما لا أطيقه- قال فظن رسول الله ص أنه قد بدا لعمه فيه بداء- و أنه خاذله و مسلمه و أنه قد ضعف عن نصرته و القيام دونه- فقال يا عم- و الله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في شمالي- على أن أترك هذا الأمر ما تركته- حتى يظهره الله أو أهلك- ثم استعبر باكيا و قام- فلما ولى ناداه أبو طالب أقبل يا ابن أخي فأقبل راجعا- فقال له اذهب يا ابن أخي- فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشيء أبدا- .
قال ابن إسحاق- و قال أبو طالب يذكر ما أجمعت عليه قريش من حربه- لما قام بنصر محمد ص-
و الله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
فانفذ لأمرك ما عليك مخافة
و ابشر و قر بذاك منه عيونا
و دعوتني و زعمت أنك ناصحي
و لقد صدقت و كنت قبل أمينا
و عرضت دينا قد علمت بأنه
من خير أديان البرية دينا
لو لا الملامة أو حذاري سبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا
قال محمد بن إسحاق- ثم إن قريشا حين عرفت أن أبا طالب- قد أبى خذلان رسول الله ص و إسلامه إليهم- و رأوا إجماعه على مفارقتهم و عداوتهم- مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي- و كان أجمل فتى في قريش- فقالوا له يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد- أبهى فتى في قريش و أجمله- فخذه إليك فاتخذه ولدا فهو لك- و أسلم لنا هذا ابن أخيك- الذي قد خالف دينك و دين آبائك- و فرق جماعة قومك لنقتله- فإنما هو رجل برجل- فقال أبو طالب و الله ما أنصفتموني- تعطوني ابنكم أغذوه لكم- و أعطيكم ابني تقتلونه- هذا و الله ما لا يكون أبدا- فقال له المطعم بن عدي بن نوفل و كان له صديقا مصافيا- و الله يا أبا طالب ما أراك تريد أن تقبل من قومك شيئا- لعمري قد جهدوا في التخلص مما تكره- و أراك لا تنصفهم- فقال أبو طالب و الله ما أنصفوني و لا أنصفتني- و لكنك قد أجمعت على خذلاني- و مظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك قال فعند ذلك تنابذ القوم و صارت الأحقاد- و نادى بعضهم بعضا- و تذامروا بينهم على من في القبائل من المسلمين- الذين اتبعوا محمدا ص- فوثبت كل قبيلة على من فيها منهم- يعذبونهم و يفتنونهم عن دينهم- و منع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب- و قام في بني هاشم و بني عبد المطلب- حين رأى قريشا تصنع ما تصنع- فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله ص- و القيام دونه فاجتمعوا إليه و قاموا معه- و أجابوه إلى ما دعاهم إليه- من الدفاع عن رسول الله ص- إلا ما كان من أبي لهب- فإنه لم يجتمع معهم على ذلك- فكان أبو طالب يرسل إليه الأشعار- و يناشده النصر منها القطعة التي أولها-
حديث عن أبي لهب أتانا و كانفه على ذاكم رجال- .
و منها القطعة التي أولها-
أ ظننت عني قد خذلت و غالني
منك الغوائل بعد شيب المكبر
و منها القطعة التي أولها-
تستعرض الأقوام توسعهم
عذرا و ما إن قلت من عذر
قال محمد بن إسحاق فلم يؤثر عن أبي لهب خير قط- إلا ما يروى أن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي- لما وثب عليه قومه- ليعذبوه و يفتنوه عن الإسلام هرب منهم- فاستجار بأبي طالب و أم أبي طالب مخزومية- و هي أم عبد الله والد رسول الله ص فأجاره- فمشى إليه رجال من بني مخزوم- و قالوا له يا أبا طالب هبك منعت منا ابن أخيك محمدا- فما لك و لصاحبنا تمنعه منا- قال إنه استجار بي و هو ابن أختي- و إن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي- فارتفعت أصواتهم و أصواته- فقام أبو لهب و لم ينصر أبا طالب قبلها و لا بعدها- فقال يا معشر قريش- و الله لقد أكثرتم على هذاالشيخ- لا تزالون تتوثبون عليه في جواره من بين قومه- أما و الله لتنتهن عنه- أو لنقومن معه فيما قام فيه حتى يبلغ ما أراد- فقالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة- فقاموا فانصرفوا و كان وليا لهم- و معينا على رسول الله ص و أبي طالب- فاتقوه و خافوا أن تحمله الحمية على الإسلام- فطمع فيه أبو طالب حيث سمعه قال ما قال- و أمل أن يقوم معه في نصرة رسول الله ص- فقال يحرضه على ذلك-
و إن امرأ أبو عتيبة عمه
لفي معزل من أن يسام المظالما
و لا تقبلن الدهر ما عشت خطة
تسب بها أما هبطت المواسما
أقول له و أين منه نصيحتي
أبا عتبة ثبت سوادك قائما
و ول سبيل العجز غيرك منهم
فإنك لم تخلق على العجز لازما
و حارب فإن الحرب نصف و لن ترى
أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما
كذبتم و بيت الله نبزى محمدا
و لما تروا يوما من الشعب قائما
و قال يخاطب أبا لهب أيضا-
عجبت لحلم يا ابن شيبة
عازب و أحلام أقوام لديك سخاف
يقولون شايع من أراد محمدا
بظلم و قم في أمره بخلاف
أضاميم إما حاسد ذو خيانة
و إما قريب عنك غير مصاف
فلا تركبن الدهر منه ذمامة
و أنت امرؤ من خير عبد مناف
و لا تتركنه ما حييت لمعظم
و كن رجلا ذا نجدة و عفاف
يذود العدا عن ذروة هاشمية
إلافهم في الناس خير إلاف
فإن له قربى لديك قريبة
و ليس بذي حلف و لا بمضاف
و لكنه من هاشم ذي صميمها
إلى أبحر فوق البحور طواف
و زاحم جميع الناس عنه و كن
له وزيرا على الأعداء غير مجاف
و إن غضبت منه قريش فقل لها
بني عمنا ما قومكم بضعاف
و ما بالكم تغشون منه ظلامة
و ما بال أحقاد هناك خوافي
فما قومنا بالقوم يخشون ظلمنا
و ما نحن فيما ساءهم بخفاف
و لكننا أهل الحفائظ و النهى
و عز ببطحاء المشاعر واف
قال محمد بن إسحاق- فلما طال البلاء على المسلمين و الفتنة و العذاب- و ارتد كثير عن الدين باللسان لا بالقلب- كانوا إذا عذبوهم يقولون- نشهد أن هذا الله و أن اللات و العزى هي الآلهة- فإذا خلوا عنهم عادوا إلى الإسلام- فحبسوهم و أوثقوهم بالقد- و جعلوهم في حر الشمس على الصخر و الصفا- و امتدت أيام الشقاء عليهم- و لم يصلوا إلى محمد ص لقيام أبي طالب دونه- فأجمعت قريش على أن يكتبوا بينهم و بين بني هاشم صحيفة- يتعاقدون فيها ألا يناكحوهم- و لا يبايعوهم و لا يجالسوهم- فكتبوها و علقوها في جوف الكعبة- تأكيدا على أنفسهم- و كان كاتبها منصور بن عكرمة بن هاشم- بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي- فلما فعلوا ذلك انحازت هاشم و المطلب- فدخلوا كلهم مع أبي طالب في الشعب- فاجتمعوا إليه- و خرج منهم أبو لهب إلى قريش فظاهرها على قومه- .
قال محمد بن إسحاق- فضاق الأمر ببني هاشم و عدموا القوت- إلا ما كان يحمل إليهم سرا و خفية- و هو شيء قليل لا يمسك أرماقهم- و أخافتهم قريش- فلم يكن يظهر منهم أحد و لا يدخل إليهم أحد- و ذلك أشد ما لقي رسول الله ص و أهل بيته بمكة- .
قال محمد بن إسحاق- فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا- حتى جهدوا ألا يصل إليهم شيء- إلا القليل سرا ممن يريد صلتهم من قريش- و قد كان أبو جهل بن هشام لقي حكيم بن حزام- بن خويلد بن أسد بن عبد العزى- معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد- و هي عند رسول الله محاصرة في الشعب- فتعلق به و قال أ تحمل الطعام إلى بني هاشم- و الله لا تبرح أنت و طعامك حتى أفضحك بمكة- فجاءه أبو البختري العاص بن هشام- بن الحارث بن أسد بن عبد العزى- فقال ما لك و له- قال إنه يحمل الطعام إلى بني هاشم- فقال أبو البختري يا هذا- إن طعاما كان لعمته عنده بعثت إليه فيه- أ فتمنعه أن يأتيها بطعامها خل سبيل الرجل- فأبى أبو جهل حتى نال كل منهما من صاحبه- فأخذ له أبو البختري لحي بعير فضربه به- فشجه و وطئه وطئا شديدا- فانصرف و هو يكره أن يعلم رسول الله ص- و بنو هاشم بذلك فيشمتوا- فلما أراد الله تعالى من إبطال الصحيفة- و الفرج عن بني هاشم من الضيق- و الأزل الذي كانوا فيه-
قام هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب- بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي- في ذلك أحسن قيام- و ذلك أن أباه عمرو بن الحارث- كان أخا لنضلة بن هاشم بن عبد مناف بن قصي من أمه- فكان هشام بن عمرو يحسب لذلك واصلا ببني هاشم- و كان ذا شرف في قومه بني عامر بن لؤي- فكان يأتي بالبعير ليلا و قد أوقره طعاما- و بنو هاشم و بنو المطلب في الشعب- حتى إذا أقبل به فم الشعب فمنع بخطامه من رأسه- ثم يضربه على جنبه فيدخل الشعب عليهم- ثم يأتي به مرة أخرى- و قد أوقره تمرا فيصنع به مثل ذلك ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي- فقال يا زهير- أ رضيت أن تأكل الطعام و تشرب الشراب- و تلبس الثياب و تنكح النساء- و أخوالك حيث قد علمت لا يبتاعون و لا يبتاع منهم- و لا ينكحون و لا ينكح إليهم- و لا يواصلون و لا يزارون- أما إني أحلف لو كان أخوك أبو الحكم بن هشام- و دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم- ما أجابك أبدا- قال ويحك يا هشام فما ذا أصنع- إنما أنا رجل واحد- و الله لو كان معي رجل آخر- لقمت في نقض هذه الصحيفة القاطعة- قال قد وجدت رجلا قال من هو- قال أنا قال زهير أبغنا ثالثا- فذهب إلى مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف- فقال له يا مطعم- أ رضيت أن يهلك بطنان من عبد مناف جوعا و جهدا- و أنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه- أما و الله لئن أمكنتموهم من هذا- لتجدن قريشا إلى مساءتكم في غيره سريعة- قال ويحك ما ذا أصنع إنما أنا رجل واحد- قال قد وجدت ثانيا- قال من هو قال أنا قال أبغني ثالثا- قال قد وجدت قال من هو قال زهير بن أمية-
قال أنا قال أبغنا رابعا فذهب إلى أبي البختري بن هشام- فقال له نحو ما قال للمطعم- قال و هل من أحد يعين على هذا- قال نعم و ذكرهم قال فأبغنا خامسا- فمضى إلى زمعة بن الأسود- بن المطلب بن أسد بن عبد العزى فكلمه- فقال و هل يعين على ذلك من أحد- قال نعم ثم سمى له القوم- فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة فأجمعوا أمرهم- و تعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها- و قال زهير أنا أبدؤكم و أكون أولكم يتكلم- فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم- و غدا زهير بن أبي أمية عليه حلة له- فطاف بالبيت سبعا ثم أقبل على الناس- فقال يا أهل مكة أ نأكل الطعام- و نشرب الشراب و نلبس الثياب و بنو هاشم هلكى- و الله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة- و كان أبو جهل في ناحية المسجد- فقال كذبت و الله لا تشق- فقال زمعة بن الأسود لأبي جهل و الله أنت أكذب- ما رضينا و الله بها حين كتبت- فقال أبو البختري معه صدق و الله زمعة- لا نرضى بها و لا نقر بما كتب فيها- فقال المطعم بن عدي صدقا و الله- و كذب من قال غير ذلك- نبرأ إلى الله منها و مما كتب فيها- و قال هشام بن عمرو مثل قولهم- فقال أبو جهل هذا أمر قضي بليل- و قام مطعم بن عدي إلى الصحيفة فحطها و شقها- فوجد الأرضة قد أكلتها- إلاما كان من باسمك اللهم- قالوا و أما كاتبها منصور بن عكرمة- فشلت يده فيما يذكرون- فلما مزقت الصحيفة خرج بنو هاشم من حصار الشعب- .
قال محمد بن إسحاق- فلم يزل أبو طالب ثابتا صابرا- مستمرا على نصر رسول الله ص- و حمايته و القيام دونه- حتى مات في أول السنة الحادية العشرة- من مبعث رسول الله ص فطمعت فيه قريش حينئذ- و نالت منه- فخرج عن مكة خائفا يطلب أحياء العرب- يعرض عليهم نفسه- فلم يزل كذلك حتى دخل مكة في جوار المطعم بن عدي- ثم كان من أمره مع الخزرج ما كان ليلة العقبة- . قال و من شعر أبي طالب- الذي يذكر فيه رسول الله ص و قيامه دونه-
أرقت و قد تصوبت النجوم
و بت و لا تسالمك الهموم
لظلم عشيرة ظلموا و عقوا
و غب عقوقهم لهم وخيم
هم انتهكوا المحارم من أخيهم
و كل فعالهم دنس ذميم
و راموا خطة جورا و ظلما
و بعض القول ذو جنف مليم
لتخرج هاشما فتكون منها
بلاقع بطن مكة فالحطيم
فمهلا قومنا لا تركبونا
بمظلمة لها خطب جسيم
فيندم بعضكم و يذل بعض
و ليس بمفلح أبدا ظلوم
أرادوا قتل أحمد زاعميه
و ليس بقتله منهم زعيم
و دون محمد منا ندي هم
العرنين و العضو الصميم
و من ذلك قوله-
و قالوا لأحمد أنت امرؤ خلوف
الحديث ضعيف السبب
و إن كان أحمد قد جاءهم
بصدق و لم يأتهم بالكذب
فإنا و من حج من راكب
و كعبة مكة ذات الحجب
تنالون أحمد أو تصطلوا
ظباة الرماح و حد القضب
و تغترفوا بين أبياتكم
صدور العوالي و خيلا شزب
تراهن من بين ضافي السبيب
قصير الحزام طويل اللبب
عليها صناديد من هاشم
هم الأنجبون مع المنتجب
و روى عبد الله بن مسعود قال- لما فرغ رسول الله ص من قتلى بدر- و أمر بطرحهم في القليب- جعل يتذكر من شعر أبي طالب بيتا فلا يحضره- فقال له أبو بكر لعله قوله يا رسول الله-
و إنا لعمر الله إن جد جدنا
لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
فسر بظفره بالبيت و قال إي لعمر الله لقد التبست- . و من شعر أبي طالب قوله-
ألا أبلغا عني لؤيا رسالة بحق
و ما تغني رسالة مرسل
بني عمنا الأدنين فيما يخصهم
و إخواننا من عبد شمس و نوفل
أ ظاهرتم قوما علينا سفاهة
و أمرا غويا من غواة و جهل
يقولون لو أنا قتلنا محمدا
أقرت نواصي هاشم بالتذلل
كذبتم و رب الهدي تدمى نحوره
بمكة و البيت العتيق المقبل
تنالونه أو تصطلوا دون نيله
صوارم تفري كل عضو و مفصل
فمهلا و لما تنتج الحرب بكرها
بخيل تمام أو بآخر معجل
و تلقوا بيع الأبطحين محمدا
على ربوة في رأس عنقاء عيطل
و تأوي إليه هاشم إن هاشما
عرانين كعب آخر بعد أول
فإن كنتم ترجون قتل محمد
فروموا بما جمعتم نقل يذبل
فإنا سنحميه بكل طمرة
و ذي ميعة نهد المراكل هيكل
و كل رديني ظماء كعوبه
و عضب کإيماض الغمامة مفصل
قلت كان صديقنا علي بن يحيى البطريق رحمه الله- يقول لو لا خاصة النبوة و سرها- لما كان مثل أبي طالب- و هو شيخ قريش و رئيسها و ذو شرفها- يمدح ابن أخيه محمدا- و هو شاب قد ربي في حجره و هو يتيمه و مكفوله- و جار مجرى أولاده بمثل قوله-
و تلقوا ربيع الأبطحين محمدا
على ربوة في رأس عنقاء عيطل
و تأوي إليه هاشم إن هاشما
عرانين كعب آخر بعد أول
و مثل قوله-
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يطيف به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في نعمة و فواضل
فإن هذا الأسلوب من الشعر- لا يمدح به التابع و الذنابى من الناس- و إنما هو من مديح الملوك و العظماء- فإذا تصورت أنه شعر أبي طالب- ذاك الشيخ المبجل العظيم- في محمد ص و هو شاب مستجير به- معتصم بظله من قريش قد رباه في حجره غلاما- و على عاتقه طفلا و بين يديه شابا- يأكل من زاده و يأوي إلى داره- علمت موضع خاصية النبوة و سرها- و أن أمره كان عظيما- و أن الله تعالى أوقع في القلوب و الأنفس له- منزلة رفيعة و مكانا جليلا و قرأت في أمالي أبي جعفر بن حبيب رحمه الله- قال كان أبو طالب إذا رأى رسول الله ص أحيانا- يبكي و يقول إذا رأيته ذكرت أخي- و كان عبد الله أخاه لأبويه- و كان شديد الحب و الحنو عليه- و كذلك كان عبد المطلب شديد الحب له- و كان أبو طالب- كثيرا ما يخاف على رسول الله ص البيات- إذا عرف مضجعه يقيمه ليلا من منامه- و يضجع ابنه عليا مكانه- فقال له علي ليلة يا أبت إني مقتول فقال له-
اصبرن يا بني فالصبر أحجى
كل حي مصيره لشعوب
قدر الله و البلاء شديد
لفداء الحبيب و ابن الحبيب
لفداء الأعز ذي الحسب
الثاقب و الباع و الكريم النجيب
إن تصبك المنون فالنبل تبري
فمصيب منها و غير مصيب
كل حي و إن تملى بعمر
آخذ من مذاقها بنصيب
فأجاب علي ع فقال له
أ تأمرني بالصبر في نصر أحمد
و و الله ما قلت الذي قلت جازعا
و لكنني أحببت أن ترى نصرتي
و تعلم أني لم أزل لك طائعا
سأسعى لوجه الله في نصر أحمد
نبي الهدى المحمود طفلا و يافعا
الفصل الثاني القول في المؤمنين و الكافرين من بني هاشم
الفصل الثاني في تفسير قوله ع- مؤمننا يبغي بذلك الأجر و كافرنا يحامي عن الأصل- و من أسلم من قريش خلو مما نحن فيه لحلف يمنعه- أو عشيرة تقوم دونه فهم من القتل بمكان أمن- فنقول إن بني هاشم لما حصروا في الشعب- بعد أن منعوا رسول الله ص من قريش- كانوا صنفين مسلمين و كفارا- فكان علي ع و حمزة بن عبد المطلب مسلمين- . و اختلف في جعفر بن أبي طالب- هل حصر في الشعب معهم أم لا- فقيل حصر في الشعب معهم- و قيل بل كان قد هاجر إلى الحبشة- و لم يشهد حصار الشعب و هذا هو القول الأصح- و كان من المسلمين المحصورين في الشعب مع بني هاشم- عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف- و هو و إن لم يكن من بني هاشم- إلا أنه يجري مجراهم- لأن بني المطلب و بني هاشم كانوا يدا واحدة- لم يفترقوا في جاهلية و لا إسلام- .
و كان العباس رحمه الله في حصار الشعب معهم- إلا أنه كان على دين قومه- و كذلك عقيل بن أبي طالب و طالب بن أبي طالب- و نوفل بن الحارث بن عبد المطلب- و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب- و ابنه الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب- و كان شديدا على رسول الله ص- يبغضه و يهجوه بالأشعار- إلا أنه كان لا يرضى بقتله- و لا يقار قريشا في دمه محافظة على النسب- و كان سيد المحصورين في الشعب و رئيسهم و شيخهم- أبو طالب بن عبد المطلب و هو الكافل و المحامي
اختلاف الرأي في إيمان أبي طالب
و اختلف الناس في إيمان أبي طالب- فقالت الإمامية و أكثر الزيدية ما مات إلا مسلما- .و قال بعض شيوخنا المعتزلة بذلك- منهم الشيخ أبو القاسم البلخي- و أبو جعفر الإسكافي و غيرهما- . و قال أكثر الناس من أهل الحديث و العامة- من شيوخنا البصريين و غيرهم- مات على دين قومه- و يروون في ذلك حديثا مشهورا أن رسول الله ص قال له عند موته- قل يا عم كلمة أشهد لك بها غدا عند الله تعالى – فقال لو لا أن تقول العرب- إن أبا طالب جزع عند الموت لأقررت بها عينك- .
و روي أنه قال أنا على دين الأشياخ- . و قيل إنه قال- أنا على دين عبد المطلب و قيل غير ذلك- . و روى كثير من المحدثين أن قوله تعالى- ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ- وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى- مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ- وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ- إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ- فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ الآية- أنزلت في أبي طالب لأن رسول الله استغفر له بعد موته- . و رووا أن قوله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ- نزلت في أبي طالب- .
و رووا أن عليا ع- جاء إلى رسول الله ص بعد موت أبي طالب- فقال له إن عمك الضال قد قضى- فما الذي تأمرني فيه- . و احتجوا بأنه لم ينقل أحد عنه أنه رآه يصلي- و الصلاة هي المفرقة بين المسلم و الكافر- و أن عليا و جعفرا لم يأخذا من تركته شيئا- و رووا عن النبي ص أنه قال إن الله قد وعدني بتخفيف عذابه- لما صنع في حقي و إنه في ضحضاح من نار و رووا عنه أيضا أنه قيل له لو استغفرت لأبيك و أمك- فقال لو استغفرت لهما لاستغفرت لأبي طالب- فإنه صنع إلي ما لم يصنعا- و إن عبد الله و آمنة و أبا طالب جمرات من جمرات جهنم – .
فأما الذين زعموا أنه كان مسلما فقد رووا خلاف ذلك- و أسندوا خبرا إلى أمير المؤمنين ع أنه قال قال رسول الله ص قال لي جبرائيل إن الله مشفعك في ستة- بطن حملتك آمنة بنت وهب- و صلب أنزلك عبد الله بن عبد المطلب- و حجر كفلك أبي طالب- و بيت آواك عبد المطلب- و أخ كان لك في الجاهلية- قيل يا رسول الله و ما كان فعله- قال كان سخيا يطعم الطعام و يجود بالنوال- و ثدي أرضعتك حليمة بنت أبي ذؤيب – .
قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد- عن هذا الخبر و قد قرأته عليه- هل كان لرسول الله ص أخ من أبيه- أو من أمه أو منهما في الجاهلية- فقال لا إنما يعني أخا له في المودة و الصحبة- قلت له فمن هو قال لا أدري- . قالوا و قد نقل الناس كافة- عن رسول الله ص أنه قال نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية – فوجب بهذا أن يكون آباؤه كلهم منزهين عن الشرك- لأنهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين- . قالوا و أما ما ذكر في القرآن من إبراهيم و أبيه آزر- و كونه كان ضالا مشركا فلا يقدح في مذهبنا- لأن آزر كان عم إبراهيم- فأما أبوه فتارخ بن ناحور- و سمي العم أبا كما قال- أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ- إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي- قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ- ثم عد فيهم إسماعيل و ليس من آبائه و لكنه عمه- . قلت و هذا الاحتجاج عندي ضعيف- لأن المراد من قوله- نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية- تنزيه آبائه و أجداده و أمهاته عن السفاح لا غير- هذا مقتضى سياقة الكلام- لأن العرب كان يعيب بعضها بعضا- باختلاط المياه و اشتباه الأنساب و نكاح الشبهة- .
و قولهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين- يقال لهم لم قلتم إنهم لو كانوا عبدة أصنام- لما كانوا طاهري الأصلاب- فإنه لا منافاة بين طهارة الأصلاب و عبادة الصنم- أ لا ترى أنه لو أراد ما زعموه- لما ذكر الأصلاب و الأرحام بل جعل عوضها العقائد- و اعتذارهم عن إبراهيم و أبيه يقدح في قولهم في أبي طالب- لأنه لم يكن أبا محمد ص بل كان عمه- فإذا جاز عندهم أن يكون العم و هو آزر مشركا- كما قد اقترحوه في تأويلهم- لم يكن لهم حجة من هذا الوجه على إسلام أبي طالب- . و احتجوا في إسلام الآباء- بما روي عن جعفر بن محمد ع أنه قال يبعث الله عبد المطلب يوم القيامة- و عليه سيماء الأنبياء و بهاء الملوك و روي أن العباس بن عبد المطلب قال لرسول الله ص بالمدينة- يا رسول الله ما ترجو لأبي طالب- فقال أرجو له كل خير من الله عز و جل و روي أن رجلا من رجال الشيعة و هو أبان بن محمود- كتب إلى علي بن موسى الرضا ع- جعلت فداك إني قد شككت في إسلام أبي طالب- فكتب إليه- وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى- وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الآية و بعدها- إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب- كان مصيرك إلى النار و قد روي عن علي بن محمد الباقر ع أنه سئل عما يقوله الناس- إن أبا طالب في ضحضاح من نار- فقال لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان- و إيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه- ثم قال أ لم تعلموا أن أمير المؤمنين عليا ع- كان يأمر أن يحج عن عبد الله- و أبيه أبي طالب في حياته- ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم – .
و روي أن أبا بكر جاء بأبي قحافة إلى النبي ص- عام الفتح يقوده و هو شيخ كبير أعمى- فقال رسول الله أ لا تركت الشيخ حتى نأتيه- فقال أردت يا رسول الله أن يأجره الله- أما و الذي بعثك بالحق- لأنا كنت أشد فرحا بإسلام عمك أبي طالب- مني بإسلام أبي- ألتمس بذلك قرة عينك فقال صدقت- .
و روي أن علي بن الحسين ع سئل عن هذا- فقال وا عجبا إن الله تعالى نهى رسوله- أن يقر مسلمة على نكاح كافر- و قد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام- و لم تزل تحت أبي طالب حتى مات – . و يروي قوم من الزيدية- أن أبا طالب أسند المحدثون عنه حديثا- ينتهي إلى أبي رافع مولى رسول الله ص- قال سمعت أبا طالب يقول بمكة- حدثني محمد ابن أخي أن ربه بعثه بصلة الرحم- و أن يعبده وحده لا يعبد معه غيره- و محمد عندي الصادق الأمين- .
و قال قوم- إن قول النبي ص أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة – إنما عنى به أبا طالب- . و قالت الإمامية- إن ما يرويه العامة من أن عليا ع و جعفرا- لم يأخذا من تركة أبي طالب شيئا- حديث موضوع- و مذهب أهل البيت بخلاف ذلك- فإن المسلم عندهم يرث الكافر- و لا يرث الكافر المسلم- و لو كان أعلى درجة منه في النسب- .
قالوا و قوله ص لا توارث بين أهل ملتين نقول بموجبه- لأن التوارث تفاعل و لا تفاعل عندنا في ميراثهما- و اللفظ يستدعي الطرفين- كالتضارب لا يكون إلا من اثنين- قالوا و حب رسول الله ص لأبي طالب معلوم مشهور- و لو كان كافرا ما جاز له حبه لقوله تعالى- لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ- يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ الآية- . قالوا و قد اشتهر و استفاض الحديث- و هو قوله ص لعقيل أنا أحبك حبين- حبا لك و حبا لحب أبي طالب فإنه كان يحبك – .
قالوا و خطبة النكاح مشهورة-
خطبها أبو طالب عند نكاح محمد ص خديجة- و هي قوله الحمد لله- الذي جعلنا من ذرية إبراهيم و زرع إسماعيل- و جعل لنا بلدا حراما و بيتا محجوجا- و جعلنا الحكام على الناس- ثم إن محمد بن عبد الله أخي- من لا يوازن به فتى من قريش- إلا رجح عليه برا و فضلا- و حزما و عقلا و رأيا و نبلا- و إن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل- و عارية مسترجعة و له في خديجة بنت خويلد رغبة- و لها فيه مثل ذلك و ما أحببتم من الصداق فعلي- و له و الله بعد نبأ شائع و خطب جليل- . قالوا أ فتراه يعلم نبأه الشائع و خطبه الجليل- ثم يعانده و يكذبه و هو من أولي الألباب- هذا غير سائغ في العقول- .
قالوا و قد روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد ع أن رسول الله ص قال إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان- و أظهروا الكفر فآتاهم الله أجرهم مرتين- و إن أبا طالب أسر الإيمان و أظهر الشرك- فآتاه الله أجره مرتين و في الحديث المشهور أن جبرائيل ع قال له ليلة مات أبو طالب- اخرج منها فقد مات ناصرك – . قالوا و أما حديث الضحضاح من النار- فإنما يرويه الناس كلهم عن رجل واحد- و هو المغيرة بن شعبة- و بغضه لبني هاشم- و على الخصوص لعلي ع مشهور معلوم- و قصته و فسقه أمر غير خاف- .
و قالوا و قد روي بأسانيد كثيرة- بعضها عن العباس بن عبد المطلب- و بعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة- أن أبا طالب ما مات حتى قال- لا إله إلا الله محمد رسول الله- و الخبر مشهور أن أبا طالب عند الموت قال كلاما خفيا- فأصغى إليه أخوه العباس- ثم رفع رأسه إلى رسول الله ص فقال يا ابن أخي- و الله لقد قالها عمك و لكنه ضعف عن أن يبلغك صوته- . و روي عن علي ع أنه قال ما مات أبو طالب حتى أعطى رسول الله ص من نفسه الرضا – .
قالوا و أشعار أبي طالب تدل على أنه كان مسلما- و لا فرق بين الكلام المنظوم و المنثور- إذا تضمنا إقرارا بالإسلام- أ لا ترى أن يهوديا لو توسط جماعة من المسلمين- و أنشد شعرا قد ارتجله و نظمه- يتضمن الإقرار بنبوة محمد ص- لكنا نحكم بإسلامه- كما لو قال أشهد أن محمدا رسول الله ص- فمن تلك الأشعار قوله-
يرجون منا خطة دون نيلها
ضراب و طعن بالوشيج المقوم
يرجون أن نسخى بقتل محمد
و لم تختضب سمر العوالي من الدم
كذبتم و بيت الله حتى تفلقوا
جماجم تلقى بالحطيم و زمزم
و تقطع أرحام و تنسى حليلة
حليلا و يغشى محرم بعد محرم
على ما مضى من مقتكم و عقوقكم
و غشيانكم في أمركم كل مأثم
و ظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى
و أمر أتى من عند ذي العرش قيم
فلا تحسبونا مسلميه فمثله
إذا كان في قوم فليس بمسلم
و من شعر أبي طالب في أمر الصحيفة- التي كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم-
ألا أبلغا عني على ذات بينها
لؤيا و خصا من لؤي بني كعب
أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا
رسولا كموسى خط في أول الكتب
و أن عليه في العباد محبة
و لا حيف فيمن خصه الله بالحب
و أن الذي رقشتم في كتابكم
يكون لكم يوما كراغية السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبى
و يصبح من لم يجن ذنبا كذي ذنب
و لا تتبعوا أمر الغواة و تقطعوا
أواصرنا بعد المودة و القرب
و تستجلبوا حربا عوانا و ربما
أمر على من ذاقه حلب الحرب
فلسنا و بيت الله نسلم أحمد
العزاء من عض الزمان و لا كرب
و لما تبن منا و منكم سوالف
سياقة الكلام- لأن العرب كان يعيب بعضها بعضا- باختلاط المياه و اشتباه الأنساب و نكاح الشبهة- . و قولهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين- يقال لهم لم قلتم إنهم لو كانوا عبدة أصنام- لما كانوا طاهري الأصلاب- فإنه لا منافاة بين طهارة الأصلاب و عبادة الصنم- أ لا ترى أنه لو أراد ما زعموه- لما ذكر الأصلاب و الأرحام بل جعل عوضها العقائد- و اعتذارهم عن إبراهيم و أبيه يقدح في قولهم في أبي طالب- لأنه لم يكن أبا محمد ص بل كان عمه- فإذا جاز عندهم أن يكون العم و هو آزر مشركا- كما قد اقترحوه في تأويلهم- لم يكن لهم حجة من هذا الوجه على إسلام أبي طالب- .
و احتجوا في إسلام الآباء- بما روي عن جعفر بن محمد ع أنه قال يبعث الله عبد المطلب يوم القيامة- و عليه سيماء الأنبياء و بهاء الملوك و روي أن العباس بن عبد المطلب قال لرسول الله ص بالمدينة- يا رسول الله ما ترجو لأبي طالب- فقال أرجو له كل خير من الله عز و جل و روي أن رجلا من رجال الشيعة و هو أبان بن محمود- كتب إلى علي بن موسى الرضا ع- جعلت فداك إني قد شككت في إسلام أبي طالب- فكتب إليه- وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى- وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الآية و بعدها- إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب- كان مصيرك إلى النار و قد روي عن علي بن محمد الباقر ع أنه سئل عما يقوله الناس- إن أبا طالب في ضحضاح من نار- فقال لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان- و إيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه- ثم قال أ لم تعلموا أن أمير المؤمنين عليا ع- كان يأمر أن يحج عن عبد الله- و أبيه أبي طالب في حياته- ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم – .
و روي أن أبا بكر جاء بأبي قحافة إلى النبي ص- عام الفتح يقودهو هو شيخ كبير أعمى- فقال رسول الله أ لا تركت الشيخ حتى نأتيه- فقال أردت يا رسول الله أن يأجره الله- أما و الذي بعثك بالحق- لأنا كنت أشد فرحا بإسلام عمك أبي طالب- مني بإسلام أبي- ألتمس بذلك قرة عينك فقال صدقت- .
و روي أن علي بن الحسين ع سئل عن هذا- فقال وا عجبا إن الله تعالى نهى رسوله- أن يقر مسلمة على نكاح كافر- و قد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام- و لم تزل تحت أبي طالب حتى مات – . و يروي قوم من الزيدية- أن أبا طالب أسند المحدثون عنه حديثا- ينتهي إلى أبي رافع مولى رسول الله ص- قال سمعت أبا طالب يقول بمكة- حدثني محمد ابن أخي أن ربه بعثه بصلة الرحم- و أن يعبده وحده لا يعبد معه غيره- و محمد عندي الصادق الأمين- .
و قال قوم- إن قول النبي ص أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة – إنما عنى به أبا طالب- . و قالت الإمامية- إن ما يرويه العامة من أن عليا ع و جعفرا- لم يأخذا من تركة أبي طالب شيئا- حديث موضوع- و مذهب أهل البيت بخلاف ذلك- فإن المسلم عندهم يرث الكافر- و لا يرث الكافر المسلم- و لو كان أعلى درجة منه في النسب- .
قالوا و قوله ص لا توارث بين أهل ملتين نقول بموجبه- لأن التوارث تفاعل و لا تفاعل عندنا في ميراثهما- و اللفظ يستدعي الطرفين- كالتضارب لا يكون إلا من اثنين- قالوا و حب رسول الله ص لأبي طالب معلوم مشهور- و لو كان كافرا ما جاز له حبه لقوله تعالى- لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ- يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ الآية- .
قالوا و قد اشتهر و استفاض الحديث- و هو قوله ص لعقيل أنا أحبك حبين- حبا لك و حبا لحب أبي طالب فإنه كان يحبك – . قالوا و خطبة النكاح مشهورة- خطبها أبو طالب عند نكاح محمد ص خديجة- و هي قوله الحمد لله- الذي جعلنا من ذرية إبراهيم و زرع إسماعيل- و جعل لنا بلدا حراما و بيتا محجوجا- و جعلنا الحكام على الناس- ثم إن محمد بن عبد الله أخي- من لا يوازن به فتى من قريش- إلا رجح عليه برا و فضلا- و حزما و عقلا و رأيا و نبلا- و إن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل- و عارية مسترجعة و له في خديجة بنت خويلد رغبة- و لها فيه مثل ذلك و ما أحببتم من الصداق فعلي- و له و الله بعد نبأ شائع و خطب جليل- .
قالوا أ فتراه يعلم نبأه الشائع و خطبه الجليل- ثم يعانده و يكذبه و هو من أولي الألباب- هذا غير سائغ في العقول- . قالوا و قد روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد ع أن رسول الله ص قال إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان- و أظهروا الكفر فآتاهم الله أجرهم مرتين- و إن أبا طالب أسر الإيمان و أظهر الشرك- فآتاه الله أجره مرتين و في الحديث المشهور أن جبرائيل ع قال له ليلة مات أبو طالب- اخرج منها فقد مات ناصرك – .
قالوا و أما حديث الضحضاح من النار- فإنما يرويه الناس كلهم عن رجل واحد- و هو المغيرة بن شعبة- و بغضه لبني هاشم- و على الخصوص لعلي ع مشهور معلوم- و قصته و فسقه أمر غير خاف- .
و قالوا و قد روي بأسانيد كثيرة- بعضها عن العباس بن عبد المطلب- و بعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة- أن أبا طالب ما مات حتى قال- لا إله إلا الله محمد رسول الله- و الخبر مشهور أن أبا طالب عند الموت قال كلاما خفيا- فأصغى إليه أخوه العباس- ثم رفع رأسه إلى رسول الله ص فقال يا ابن أخي- و الله لقد قالها عمك و لكنه ضعف عن أن يبلغك صوته- .
و روي عن علي ع أنه قال ما مات أبو طالب حتى أعطى رسول الله ص من نفسه الرضا – . قالوا و أشعار أبي طالب تدل على أنه كان مسلما- و لا فرق بين الكلام المنظوم و المنثور- إذا تضمنا إقرارا بالإسلام- أ لا ترى أن يهوديا لو توسط جماعة من المسلمين- و أنشد شعرا قد ارتجله و نظمه- يتضمن الإقرار بنبوة محمد ص- لكنا نحكم بإسلامه- كما لو قال أشهد أن محمدا رسول الله ص- فمن تلك الأشعار قوله-
يرجون منا خطة دون نيلها
ضراب و طعن بالوشيج المقوم
يرجون أن نسخى بقتل محمد
و لم تختضب سمر العوالي من الدم
كذبتم و بيت الله حتى تفلقوا
جماجم تلقى بالحطيم و زمزم
و تقطع أرحام و تنسى حليلة
حليلا و يغشى محرم بعد محرم
على ما مضى من مقتكم و عقوقكم
و غشيانكم في أمركم كل مأثم
و ظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى
و أمر أتى من عند ذي العرش قيم
فلا تحسبونا مسلميه فمثله
إذا كان في قوم فليس بمسلم
و من شعر أبي طالب في أمر الصحيفة- التي كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم-
ألا أبلغا عني على ذات بينها
لؤيا و خصا من لؤي بني كعب
أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا
رسولا كموسى خط في أول الكتب
و أن عليه في العباد محبة
و لا حيف فيمن خصه الله بالحب
و أن الذي رقشتم في كتابكم
يكون لكم يوما كراغية السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبى
و يصبح من لم يجن ذنبا كذي ذنب
و لا تتبعوا أمر الغواة و تقطعوا
أواصرنا بعد المودة و القرب
و تستجلبوا حربا عوانا و ربما
أمر على من ذاقه حلب الحرب
فلسنا و بيت الله نسلم أحمدا
لعزاء من عض الزمان و لا كرب
و لما تبن منا و منكم سوالف
و أيد أترت بالمهندة الشهب
بمعترك ضيق ترى قصد القنا
به و الضباع العرج تعكف كالشرب
كأن مجال الخيل في حجراته
و غمغمة الأبطال معركة الحرب
أ ليس أبونا هاشم شد أزره
و أوصى بنيه بالطعان و بالضرب
و لسنا نمل الحرب حتى تملنا
و لا نشتكي مما ينوب من النكب
و لكننا أهل الحفائظ و النهى
إذا طار أرواح الكماة من الرعب
و من ذلك قوله-
فلا تسفهوا أحلامكم في محمد
و لا تتبعوا أمر الغواة الأشائم
تمنيتم أن تقتلوه و إنما
أمانيكم هذي كأحلام نائم
و إنكم و الله لا تقتلونه و لما تروا
قطف اللحى و الجماجم
زعمتم بأنا مسلمون محمدا
و لما نقاذف دونه و نزاحم
من القوم مفضال أبي على العدا
تمكن في الفرعين من آل هاشم
أمين حبيب في العباد مسوم
بخاتم رب قاهر في الخواتم
يرى الناس برهانا عليه و هيبة
و ما جاهل في قومه مثل عالم
نبي أتاه الوحي من عند ربه
و من قال لا يقرع بها سن نادم
و من ذلك قوله- و قد غضب لعثمان بن مظعون الجمحي- حين عذبته قريش و نالت منه-
أ من تذكر دهر غير مأمون
أصبحت مكتئبا تبكي كمحزون
أم من تذكر أقوام ذوي سفه
يغشون بالظلم من يدعو إلى الدين
أ لا يرون أذل الله جمعهم
أنا غضبنا لعثمان بن مظعون
و نمنع الضيم من يبغي مضامتنا
بكل مطرد في الكف مسنون
و مرهفات كأن الملح خالطها
يشفى بها الداء من هام المجانين
حتى تقر رجال لا حلوم لها
بعد الصعوبة بالإسماح و اللين
أو تؤمنوا بكتاب منزل عجب
على نبي موسى أو كذي النون
قالوا و قد جاء في الخبر- أن أبا جهل بن هشام- جاء مرة إلى رسول الله ص و هو ساجد- و بيده حجر يريد أن يرضخ به رأسه- فلصق الحجر بكفه فلم يستطع ما أراد- فقال أبو طالب في ذلك من جملة أبيات-
أفيقوا بني عمنا و انتهوا
عن الغي من بعض ذا المنطق
و إلا فإني إذا خائف
بوائق في داركم تلتقي
كما ذاق من كان من قبلكم
ثمود و عاد و ما ذا بقي
و منها-
و أعجب من ذاك في أمركم
عجائب في الحجر الملصق
بكف الذي قام من حينه
إلى الصابر الصادق المتقي
فأثبته الله في كفه
على رغمه الخائن الأحمق
قالوا و قد اشتهر عن عبد الله المأمون رحمه الله- أنه كان يقول أسلم أبو طالب و الله بقوله-
نصرت الرسول رسول المليك
ببيض تلألأ كلمع البروق
أذب و أحمي رسول الإله
حماية حام عليه شفيق
و ما إن أدب لأعدائه
دبيب البكار حذار الفنيق
و لكن أزير لهم ساميا
كما زار ليث بغيل مضيق
قالوا و قد جاء في السيرة و ذكره أكثر المؤرخين- أن عمرو بن العاص لما خرج إلى بلاد الحبشة- ليكيد جعفر بن أبي طالب و أصحابه عند النجاشي قال-
تقول ابنتي أين أين الرحيل
و ما البين مني بمستنكر
فقلت دعيني فإني امرؤ
أريد النجاشي في جعفر
لأكويه عنده كية
أقيم بها نخوة الأصعر
و لن أنثني عن بني هاشم
بما اسطعت في الغيب و المحضر
و عن عائب اللات في قوله
و لو لا رضا اللات لم تمطر
و إني لأشنا قريش له
و إن كان كالذهب الأحمر
قالوا فكان عمرو يسمى الشانئ ابن الشانئ- لأن أباه كان إذا مر عليه رسول الله ص بمكة- يقول له و الله إني لأشنؤك و فيه أنزل- إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ- قالوا فكتب أبو طالب إلى النجاشي شعرا- يحرضه فيه على إكرام جعفر و أصحابه- و الإعراض عما يقوله عمرو فيه و فيهم من جملته-
ألا ليت شعري كيف في الناس
جعفر و عمرو و أعداء النبي الأقارب
و هل نال إحسان النجاشي جعفرا
و أصحابه أم عاق عن ذاك شاغب
في أبيات كثيرة- . قالوا و روي عن علي ع أنه قال قال لي أبي يا بني الزم ابن عمك- فإنك تسلم به من كل بأس عاجل و آجل- ثم قال ليإن الوثيقة في لزوم محمد فاشدد بصحبته على أيديكا- .و من شعره المناسب لهذا المعنى قوله-
إن عليا و جعفرا ثقتي
عند ملم الزمان و النوب
لا تخذلا و انصرا ابن عمكما
أخي لأمي من بينهم و أبي
و الله لا أخذل النبي
و لا يخذله من بني ذو حسب
قالوا و قد جاءت الرواية أن أبا طالب لما مات- جاء علي ع إلى رسول الله ص فآذنه بموته- فتوجع عظيما و حزن شديدا- ثم قال له امض فتول غسله- فإذا رفعته على سريره فأعلمني ففعل- فاعترضه رسول الله ص و هو محمول على رءوس الرجال- فقال وصلتك رحم يا عم و جزيت خيرا- فلقد ربيت و كفلت صغيرا- و نصرت و آزرت كبيرا- ثم تبعه إلى حفرته فوقف عليه- فقال أما و الله لأستغفرن لك- و لأشفعن فيك شفاعة يعجب لها الثقلان- .
قالوا و المسلم لا يجوز أن يتولى غسل الكافر- و لا يجوز للنبي أن يرق لكافر- و لا أن يدعو له بخير- و لا أن يعده بالاستغفار و الشفاعة- و إنما تولى علي ع غسله- لأن طالبا و عقيلا لم يكونا أسلما بعد- و كان جعفر بالحبشة و لم تكن صلاة الجنائز شرعت بعد- و لا صلى رسول الله ص على خديجة- و إنما كان تشييع و رقة و دعاء- . قالوا و من شعر أبي طالب يخاطب أخاه حمزة- و كان يكنى أبا يعلى-
فصبرا أبا يعلى على دين أحمد
و كن مظهرا للدين وفقت صابرا
و حط من أتى بالحق من عند ربه
بصدق و عزم لا تكن حمز كافرا
فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن
فكن لرسول الله في الله ناصرا
و باد قريشا بالذي قد أتيته
جهارا و قل ما كان أحمد ساحرا
قالوا و من شعره المشهور-
أنت النبي محمد
قرم أعز مسود
لمسودين أكارم
طابوا و طاب المولد
نعم الأرومة أصلها
عمرو الخضم الأوحد
هشم الربيكة في الجفان
و عيش مكة أنكد
فجرت بذلك سنة
فيها الخبيزة تثرد
و لنا السقاية للحجيج
بها يماث العنجد
و المأزمان و ما حوت
عرفاتها و المسجد
أنى تضام و لم أمت
و أنا الشجاع العربد
و بطاح مكة لا يرى
فيها نجيع أسود
و بنو أبيك كأنهم
أسد العرين توقد
و لقد عهدتك صادقا
في القول لا تتزيد
ما زلت تنطق بالصواب
و أنت طفل أمرد
قالوا و من شعره المشهور أيضا- قوله يخاطب محمدا و يسكن جأشه- و يأمره بإظهار الدعوة-
لا يمنعنك من حق تقوم به
أيد تصول و لا سلق بأصوات
فإن كفك كفي إن بليت بهم
و دون نفسك نفسي في الملمات
لا يمنعنك من حق تقوم به
أيد تصول و لا سلق بأصوات
فإن كفك كفي إن بليت بهم
و دون نفسك نفسي في الملمات
و من ذلك قوله و يقال إنها لطالب بن أبي طالب-
إذا قيل من خير هذا الورى
قبيلا و أكرمهم أسره
أناف لعبد مناف أب
و فضله هاشم العزه
لقد حل مجد بني هاشم
مكان النعائم و النثره
و خير بني هاشم أحمد
رسول الإله على فتره
– . و من ذلك قوله-
لقد أكرم الله النبي محمدا
فأكرم خلق الله في الناس أحمد
و شق له من اسمه ليجله
فذو العرش محمود و هذا محمد
و قوله أيضا و قد يروى لعلي ع-
يا شاهد الله علي فاشهد
أني على دين النبي أحمد
من ضل في الدين فإني مهتد
قالوا فكل هذه الأشعار قد جاءت مجيء التواتر- لأنه إن لم تكن آحادها متواترة- فمجموعها يدل على أمر واحد مشترك- و هو تصديق محمد ص و مجموعها متواتر- كما أن كل واحدة من قتلات علي ع الفرسان- منقولة آحادا و مجموعها متواتر- يفيدنا العلم الضروري بشجاعته- و كذلك القول فيما روي من سخاء حاتم- و حلم الأحنف و معاوية- و ذكاء إياس و خلاعة أبي نواس و غير ذلك- قالوا و اتركوا هذا كله جانبا- ما قولكم في القصيدة اللامية- التي شهرتها كشهرة قفا نبك- و إن جاز الشك فيها أو في شيء من أبياتها- جاز الشك في قفا نبك و في بعض أبياتها- و نحن نذكر منها هاهنا قطعة و هي قوله-
أعوذ برب البيت من كل طاعن
علينا بسوء أو يلوح بباطل
و من فاجر يغتابنا بمغيبة
و من ملحق في الدين ما لم نحاول
كذبتم و بيت الله يبزى محمد
و لما نطاعن دونه و نناضل
و ننصره حتى نصرع دونه
و نذهل عن أبنائنا و الحلائل
و حتى نرى ذا الردع يركب ردعه
من الطعن فعل الأنكب المتحامل
و ينهض قوم في الحديد إليكم
نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
و إنا و بيت الله من جد جدنا
لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكل فتى مثل الشهاب سميدع
أخي ثقة عند الحفيظة باسل
و ما ترك قوم لا أبا لك سيدا
يحوط الذمار غير نكس مواكل
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في نعمة و فواضل
و ميزان صدق لا يخيس شعيرة
و وزان صدق وزنه غير عائل
أ لم تعلموا أن ابننا لا مكذب
لدينا و لا يعبأ بقول الأباطل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد
و أحببته حب الحبيب المواصل
و جدت بنفسي دونه فحميته
و دافعت عنه بالذرى و الكواهل
فلا زال للدنيا جمالا لأهلها
و شينا لمن عادى و زين المحافل
و أيده رب العباد بنصره
و أظهر دينا حقه غير باطل
و ورد في السيرة و المغازي- أن عتبة بن ربيعة أو شيبة- لما قطع رجل عبيدة بن الحارث بن المطلب يوم بدر- أشبل عليه علي و حمزة فاستنقذاه منه- و خبطا عتبة بسيفيهما حتى قتلاه- و احتملا صاحبهما من المعركة إلى العريش- فألقياه بين يدي رسول الله ص و إن مخ ساقه ليسيل- فقال يا رسول الله لو كان أبو طالب حيا- لعلم أنه قد صدق في قوله-
كذبتم و بيت الله نخلي محمدا
و لما نطاعن دونه و نناضل
و ننصره حتى نصرع حوله
و نذهل عن أبنائنا و الحلائل
فقالوا إن رسول الله ص استغفر له- و لأبي طالب يومئذ- و بلغ عبيدة مع النبي ص إلى الصفراء فمات فدفن بها- .
قالوا و قد روي أن أعرابيا- جاء إلى رسول الله ص في عام جدب- فقال أتيناك يا رسول الله و لم يبق لنا صبي يرتضع- و لا شارف يجتر ثم أنشده-
أتيناك و العذراء تدمى لبانها
و قد شغلت أم الرضيع عن الطفل
و ألقى بكفيه الفتى لاستكانة
من الجوع حتى ما يمر و لا يحلي
و لا شيء مما يأكل الناس عندنا
سوى الحنظل العامي و العلهز الفسل
و ليس لنا إلا إليك فرارنا
و أين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام النبي ص يجر رداءه- حتى صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه- و قال اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا هنيئا- مريعا سحا سجالا غدقا طبقا قاطبا دائما- درا تحيي به الأرض و تنبت به الزرع- و تدر به الضرع و اجعله سقيا نافعا عاجلا غير رائث- فو الله ما رد رسول الله ص يده إلى نحره- حتى ألقت السماء أرواقها و جاء الناس يضجون- الغرق الغرق يا رسول الله- فقال اللهم حوالينا و لا علينا- فانجاب السحاب عن المدينة- حتى استدار حولها كالإكليل- فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه- ثم قال لله در أبي طالب- لو كان حيا لقرت عينه- من ينشدنا قوله فقام علي- فقال يا رسول الله لعلك أردت-
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه
– قال أجل فأنشده أبياتا من هذه القصيدة- و رسول الله يستغفر لأبي طالب على المنبر- ثم قام رجل من كنانة فأنشده-
لك الحمد و الحمد ممن شكر
سقينا بوجه النبي المطر
دعا الله خالقه دعوة
إليه و أشخص منه البصر
فما كان إلا كما ساعة
أو أقصر حتى رأينا الدرر
دفاق العزالي و جم البعاق
أغاث به الله عليا مضر
فكان كما قاله عمه
أبو طالب ذو رواء غرر
به يسر الله صوب الغمام
فهذا العيان و ذاك الخبر
فمن يشكر الله يلق المزيد
و من يكفر الله يلق الغير
فقال رسول الله إن يكن شاعر أحسن فقد أحسنت قالوا و إنما لم يظهر أبو طالب الإسلام و يجاهر به- لأنه لو أظهره لم يتهيأ له- من نصرة النبي ص ما تهيأ له- و كان كواحد من المسلمين الذين اتبعوه- نحو أبي بكر- و عبد الرحمن بن عوف و غيرهما ممن أسلم- و لم يتمكن من نصرته و القيام دونهحينئذ- و إنما تمكن أبو طالب من المحاماة عنه- بالثبات في الظاهر على دين قريش و إن أبطن الإسلام- كما لو أن إنسانا كان يبطن التشيع مثلا- و هو في بلد من بلاد الكرامية- و له في ذلك البلد وجاهة و قدم- و هو يظهر مذهب الكرامية- و يحفظ ناموسه بينهم بذلك- و كان في ذلك البلد نفر يسير من الشيعة- لا يزالون ينالون بالأذى و الضرر من أهل ذلك البلد و رؤسائه- فإنه ما دام قادرا على إظهار مذهب أهل البلد- يكون أشد تمكنا من المدافعة- و المحاماة عن أولئك النفر- فلو أظهر ما يجوز من التشيع- و كاشف أهل البلد بذلك- صار حكمه حكم واحد من أولئك النفر- و لحقه من الأذى و الضرر ما يلحقهم- و لم يتمكن من الدفاع أحيانا عنهم كما كان أولا- .
قلت فأما أنا فإن الحال ملتبسة عندي- و الأخبار متعارضة- و الله أعلم بحقيقة حاله كيف كانت- . و يقف في صدري رسالة النفس الزكية إلى المنصور- و قوله فيها فأنا ابن خير الأخيار و أنا ابن شر الأشرار- و أنا ابن سيد أهل الجنة و أنا ابن سيد أهل النار- . فإن هذه شهادة منه على أبي طالب بالكفر- و هو ابنه و غير متهم عليه- و عهده قريب من عهد النبي ص- لم يطل الزمان فيكون الخبر مفتعلا- . و جملة الأمر أنه قد روي في إسلامه أخبار كثيرة- و روي في موته على دين قومه أخبار كثيرة- فتعارض الجرح و التعديل- فكان كتعارض البينتين عند الحاكم- و ذلك يقتضي التوقف فأنا في أمره من المتوقفين- .
فأما الصلاة و كونه لم ينقل عنه أنه صلى- فيجوز أن يكون لأن الصلاة لم تكن بعد قد فرضت- و إنما كانت نفلا غير واجب- فمن شاء صلى و من شاء ترك- و لم تفرض إلا بالمدينة- و يمكن أن يقول أصحاب الحديث- إذا تعارض الجرح و التعديل كما قد أشرتم إليه- فالترجيح عند أصحاب أصول الفقه لجانب الجرح- لأن الجارح قد اطلع على زيادة لم يطلع عليها المعدل- . و لخصومهم أن يجيبوا عن هذا فنقول- إن هذا إنما يقال و يذكر في أصول الفقه- في طعن مفصل في مقابلة تعديل مجمل- مثاله أن يروي شعبة مثلا حديثا عن رجل- فهو بروايته عنه قد وثقه- و يكفي في توثيقه له أن يكون مستور الحال- ظاهره العدالة- فيطعن فيه الدار قطني مثلا- بأن يقول كان مدلسا- أو كان يرتكب الذنب الفلاني- فيكون قد طعن طعنا مفصلا في مقابلة تعديل مجمل- و فيما نحن فيه و بصدده- الروايتان متعارضتان تفصيلا لا إجمالا- لأن هؤلاء يروون- أنه تلفظ بكلمتي الشهادة عند الموت- و هؤلاء يروون أنه قال عند الموت- أنا على دين الأشياخ- .
و بمثل هذا يجاب على من يقول من الشيعة- روايتنا في إسلامه أرجح- لأنا نروي حكما إيجابيا و نشهد على إثبات- و خصومنا يشهدون على النفي و لا شهادة على النفي- و ذلك أن الشهادة في الجانبين معا- إنما هي على إثبات و لكنه إثبات متضاد- . و صنف بعض الطالبيين في هذا العصر- كتابا في إسلام أبي طالب و بعثه إلي- و سألني أن أكتب عليه بخطي نظما أو نثرا- أشهد فيه بصحة ذلك و بوثاقة الأدلة عليه- فتحرجت أن أحكم بذلك حكما قاطعا- لما عندي من التوقف فيه- و لم أستجز أن أقعد عن تعظيم أبي طالب- فإني أعلم أنه لولاه لما قامت للإسلام دعامة- و أعلم أن حقه واجب على كل مسلم في الدنيا- إلى أن تقوم الساعة فكتبت على ظاهر المجلد-
و لو لا أبو طالب و ابنه لما
مثل الدين شخصا فقاما
فذاك بمكة آوى و حامى
و هذا بيثرب جس الحماما
تكفل عبد مناف بأمر
و أودى فكان علي تماما
فقل في ثبير مضى بعد ما
قضى ما قضاه و أبقى شماما
فلله ذا فاتحا للهدى
و لله ذا للمعالي ختاما
و ما ضر مجد أبي طالب
جهول لغا أو بصير تعامى
كما لا يضر إياة الصباح
من ظن ضوء النهار الظلاما
فوفيته حقه من التعظيم و الإجلال- و لم أجزم بأمر عندي فيه وقفة
الفصل الثالث قصة غزوة بدر
الفصل الثالث في شرح القصة في غزاة بدر- و نحن نذكر ذلك من كتاب المغازي- لمحمد بن عمر الواقدي- و نذكر ما عساه زاده محمد بن إسحاق- في كتاب المغازي- و ما زاده أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري- في تاريخ الأشراف- . قال الواقدي بلغ رسول الله ص- أن عير قريش قد فصلت من مكة تريد الشام- و قد جمعت قريش فيها أموالها فندب لها أصحابه- و خرج يعترضها على رأس ستة عشر شهرا من مهاجره ع- فخرج في خمسين و مائة و يقال في مائتين- فلم يلق العير و فاتته ذاهبة إلى الشام- و هذه غزاة ذي العشيرة- رجع منها إلى المدينة فلم يلق حربا- فلما تحين انصراف العير من الشام قافلة- ندب أصحابه لها- و بعث طلحة بن عبيد الله- و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل- قبل خروجه من المدينة بعشر ليال-يتجسسان خبر العير حتى نزلا على كشد الجهني- بالموضع المعروف بالنخبار- و هو من وراء ذي المروة على الساحل- فأجارهما و أنزلهما- فلم يزالا مقيمين في خباء وبر حتى مرت العير- فرفعهما على نشز من الأرض-
فنظرا إلى القوم و إلى ما تحمل العير- و جعل أهل العير يقولون لكشد- يا كشد هل رأيت أحدا من عيون محمد- فيقول أعوذ بالله و أنى لمحمد عيون بالنخبار- فلما راحت العير باتا حتى أصبحا ثم خرجا- و خرج معهما كشد خفيرا حتى أوردهما ذا المروة- و ساحلت العير فأسرعت- و سار بها أصحابها ليلا و نهارا فرقا من الطلب- و قدم طلحة و سعيد المدينة- في اليوم الذي لقي رسول الله ص قريشا ببدر- فخرجا يعترضان رسول الله ص- فلقياه بتربان و تربان بين ملل و السالة على المحجة- و كانت منزل عروة بن أذينة الشاعر- و قدم كشد بعد ذلك على النبي ص- و قد أخبر طلحة و سعيد رسول الله ص بما صنع بهما- فحباه و أكرمه و قال أ لا أقطع لك ينبع- قال إني كبير و قد نفد عمري- و لكن أقطعها لابن أخي فأقطعها له قالوا و ندب رسول الله ص المسلمين- و قال هذه عير قريش فيها أموالهم- لعل الله أن يغنمكموها- فأسرع من أسرع- حتى إن كان الرجل ليساهم أباه في الخروج- فكان ممن ساهم أباه سعد بن خيثمة- فقال سعد لأبيه إنه لو كان غير الجنة آثرتك به- إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا- فقال خيثمة آثرني و قر مع نسائك- فأبى سعد-
فقال خيثمة إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم- فاستهما فخرج سهم سعد فقتل ببدر- و أبطأ عن النبي ص بشر كثير من أصحابه- و كرهوا خروجه- و كان في ذلك كلام كثير و اختلاف- و بعضهم تخلف من أهل النيات و البصائر- لم يظنوا أنه يكون قتال- إنما هو الخروج للغنيمة- و لو ظنوا أنه يكون قتال لما تخلفوا- منهم أسيد بن حضير- فلما قدم رسول الله ص- قال أسيد الحمد لله الذي سرك و أظهرك على عدوك- و الذي بعثك بالحق- ما تخلفت عنك رغبة بنفسي عن نفسك- و لا ظننت أنك تلاقي عدوا- و لا ظننت إلا أنها العير- فقال له رسول الله ص صدقت- . قال و خرج رسول الله ص- حتى انتهى إلى المكان المعروف بالبقع- و هي بيوت السقيا و هي متصلة ببيوت المدينة- فضرب عسكره هناك و عرض المقاتلة- فعرض عبد الله بن عمر- و أسامة بن زيد و رافع بن خديج- و البراء بن عازب و أسيد بن ظهير- و زيد بن أرقم و زيد بن ثابت- فردهم و لم يجزهم- .
قال الواقدي فحدثني أبو بكر بن إسماعيل- عن أبيه عن عامر بن سعد عن أبيه- قال رأيت أخي عمير بن أبي وقاص- قبل أن يعرضنا رسول الله ص يتوارى- فقلت ما لك يا أخي- قال إني أخاف أن يراني رسول الله ص- فيستصغرني فيردني و أنا أحب الخروج- لعل الله أن يرزقني الشهادة- قال فعرض على رسول الله ص فاستصغره- فقال ارجع فبكى عمير فأجازه- . قال فكان سعد يقول- كنت أعقد له حمائل سيفه من صغره- فقتل ببدر و هو ابن ست عشرة سنة- . قال فلما نزل ع بيوت السقيا- أمر أصحابه أن يستقوا من بئرهم- و شرب ع منها- كان أول من شرب و صلى عندها- و دعا يومئذ لأهل المدينة-
فقال اللهم إن إبراهيم عبدك و خليلك و نبيك- دعاك لأهل مكة و إني محمد عبدك و نبيك- أدعوك لأهل المدينة- أن تبارك لهم في صاعهم و مدهم و ثمارهم- اللهم حبب إلينا المدينة- و اجعل ما بها من الوباء بخم- اللهم إني حرمت ما بين لابتيها- كما حرم إبراهيم خليلك مكة- .
قال الواقدي و خم على ميلين من الجحفة- . و قدم رسول الله ص أمامه عدي بن أبي الزغباء- و بسيس بن عمرو و جاء إليه عبد الله بن عمرو بن حرام- فقال يا رسول الله لقد سرني منزلك هذا- و عرضك فيه أصحابك و تفاءلت به- إن هذا منزلنا في بني سلمة- حيث كان بيننا و بين أهل حسيكة ما كان- .
قال الواقدي هي حسيكة الذباب- و الذباب جبل بناحية المدينة- و كان بحسيكة يهود و كان لهم بها منازل- . قال عبد الله بن عمرو بن حرام- فعرضنا يا رسول الله هاهنا أصحابنا- فأجزنا من كان يطيق السلاح- و رددنا من صغر عن حمل السلاح- ثم سرنا إلى يهود حسيكة- و هم أعز يهود كانوا يومئذ- فقتلناهم كيف شئنا- فذلت لنا سائر يهود إلى اليوم- و أنا أرجو يا رسول الله- أن نلتقي نحن و قريش- فيقر الله عينك منهم- .
قال الواقدي و كان خلاد بن عمرو بن الجموح- لما كان من النهار رجع إلى أهله بخرباء- فقال له أبوه عمرو بن الجموح- ما ظننت إلا أنكم قد سرتم- فقال إن رسول الله ص يعرض الناس بالبقيع- فقال عمرو نعم الفأل- و الله إني لأرجو أن تغنموا- و أن تظفروا بمشركي قريش- إن هذا منزلنا يوم سرنا إلى حسيكة-قال فإن رسول الله ص قد غير اسمه- و سماه السقيا- قال فكانت في نفسي أن أشتريها- حتى اشتراها سعد بن أبي وقاص ببكرين- و يقال بسبع أواق- فذكر للنبي ص أن سعدا اشتراها- فقال ربح البيع- .
قال الواقدي- فراح رسول الله ص من بيوت السقيا- لاثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان- و خرج المسلمون معه ثلاثمائة و خمسة- و تخلف ثمانية ضرب لهم بسهامهم و أجورهم- فكانت الإبل سبعين بعيرا- و كانوا يتعاقبون الإبل الاثنين و الثلاثة و الأربعة- فكان رسول الله ص و علي بن أبي طالب ع- و مرثد بن أبي مرثد-
و يقال زيد بن حارثة مكان مرثد- يتعاقبون بعيرا واحدا- و كان حمزة بن عبد المطلب- و زيد بن حارثة و أبو كبشة و أنسة- موالي النبي ص على بعير- و كان عبيدة بن الحارث و الطفيل- و الحصين ابنا الحارث- و مسطح بن أثاثة على بعير- لعبيدة بن الحارث ناضح- ابتاعه من أبي داود المازني- و كان معاذ و عوف و معوذ بنو عفراء- و مولاهم أبو الحمراء على بعير- و كان أبي بن كعب و عمارة بن حزام- و حارثة بن النعمان على بعير- و كان خراش بن الصمة و قطبة بن عامر بن حديدة- و عبد الله بن عمرو بن حزام على بعير- و كان عتبة بن غزوان و طليب بن عمير- على جمل لعتبة بن غزوان يقال له العبس- و كان مصعب بن عمير و سويبط بن حرملة- و مسعود بن ربيع على جمل لمصعب- و كان عمار بن ياسر و عبد الله بن مسعود على بعير- و كان عبد الله بن كعب و أبو داود المازني- و سليط بن قيس على جمل لعبد الله بن كعب- و كان عثمان بن عفان و قدامة بن مظعون- و عبد الله بن مظعون و السائب بن عثمان على بعير يتعاقبون- و كان أبو بكر و عمر و عبد الرحمن بن عوف على بعير- و كان سعد بن معاذ و أخوه- و ابن أخيه الحارث بن أوس- و الحارث بن أنس على جمل لسعد بن معاذ- ناضح يقال له الذيال- و كان سعيد بن زيد- و سلمة بن سلامة بن وقش- و عباد بن بشر و رافع بن يزيد- على ناضح لسعيد بن زيد- ما تزودوا إلا صاعا من تمر- .
قال الواقدي فروى معاذ بن رفاعة عن أبيه- قال خرجت مع النبي ص إلى بدر- و كان كل ثلاثة يتعاقبون بعيرا- فكنت أنا و أخي خلاد بن رافع على بكر لنا- و معنا عبيدة بن يزيد بن عامر- فكنا نتعاقب فسرنا حتى إذا كنا بالروحاء- إذ مر بنا بكرنا و برك علينا و أعيا- فقال أخي اللهم إن لك علي نذرا- لئن رددتنا إلى المدينة لأنحرنه- فمر بنا النبي ص و نحن على تلك الحال- فقلنا يا رسول الله برك علينا بكرنا- فدعا بماء فتمضمض و توضأ في إناء- ثم قال افتحا فاه ففعلنا فصبه في فيه- ثم على رأسه ثم على عنقه ثم على حاركه- ثم على سنامه ثم على عجزه- ثم على ذنبه ثم قال اركبا- و مضى رسول الله ص فلحقناه أسفل من المنصرف- و إن بكرنا لينفر بنا- حتى إذا كنا بالمصلى راجعين من بدر- برك علينا فنحره أخي فقسم لحمه و تصدق به- .
قال الواقدي و قد روي أن سعد بن عبادة- حمل في بدر على عشرين جملا- . قال و روي عن سعد بن أبي وقاص- أنه قال فخرجنا إلى بدر مع رسول الله ص و معنا سبعون بعيرا- فكانوا يتعاقبون الثلاثة و الأربعة و الاثنان- على بعير- و كنت أنا من أعظم أصحاب النبي ع عنه غناء- و أرجلهم رجلة و أرماهم لسهم- لم أركب خطوة ذاهبا و لا راجعا قال الواقدي و قال رسول الله ص حين فصل من بيوت السقيا اللهم إنهم حفاة فاحملهم و عراة فاكسهم- و جياع فأشبعهم و عالة فأغنهم من فضلك- فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا- للرجل البعير و البعيران و اكتسىمن كان عاريا- و أصابوا طعاما من أزوادهم- و أصابوا فداء الأسرى فأغنى به كل عائل – .
قال و استعمل رسول الله ص على المشاة- قيس بن أبي صعصعة- و اسم أبي صعصعة عمر بن يزيد بن عوف بن مبذول- و أمره النبي ص حين فصل من بيوت السقيا أن يعد المسلمين- فوقف لهم ببئر أبي عبيدة يعدهم- ثم أخبر النبي ص و خرج من بيوت السقيا- حتى سلك بطن العقيق ثم سلك طريق المكيمن- حتى خرج على بطحاء بن أزهر- فنزل تحت شجرة هناك- فقام أبو بكر إلى حجارة هناك فبنى منها مسجدا- فصلى فيه رسول الله و أصبح يوم الاثنين و هو هناك- ثم صار إلى بطن ملل و تربان بين الحفيرة و ملل- .
قال الواقدي فكان سعد بن أبي وقاص- يقول لما كنا بتربان قال لي رسول الله ص- يا سعد انظر إلى الظبي فأفوق له بسهم- و قام رسول الله ص فوضع رأسه بين منكبي و أذني- ثم قال اللهم سدد رميته- قال فما أخطأ سهمي عن نحره- فتبسم رسول الله ص- و خرجت أعدو فأخذته و به رمق فذكيته- فحملناه حتى نزلنا قريبا- و أمر به رسول الله ص فقسم بين أصحابه- . قال الواقدي و كان معهم فرسان- فرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي- و فرس للمقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة- و يقال فرس للزبير- و لم يكن إلا فرسان لاختلاف عندهم- أن المقداد له فرس- و قد روي عن ضباعة بنت الزبير عن المقداد-
قال كان معي يوم بدر فرس يقال له سبحة- و قد روى سعد بن مالك الغنوي عن آبائه- أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي- شهد بدرا على فرس له يقال له السيل- . قال الواقدي و لحقت قريش بالشام في عيرها- و كانت العير ألف بعير و كان فيها أموال عظام- و لم يبق بمكة قرشي و لا قرشية- له مثقال فصاعدا إلا بعث به في العير- حتى إن المرأة لتبعث بالشيء التافه- و كان يقال إن فيها لخمسين ألف دينار- و قالوا أقل و إن كان ليقال إن أكثر ما فيها من المال- لآل سعيد بن العاص لأبي أحيحة- إما مال لهم أو مال مع قوم قراض على النصف- و كان عامة العير لهم- و يقال بل كان لبني مخزوم فيها مائتا بعير- و خمسة أو أربعة آلاف مثقال ذهبا- و كان يقال للحارث بن عامر بن نوفل فيها ألفا مثقال- .
قال الواقدي و حدثني هشام بن عمارة بن أبي الحويرث- قال كان لبني عبد مناف فيها عشرة آلاف مثقال- و كان متجرهم إلى غزة من أرض الشام- . قال الواقدي و حدثني عبد الله بن جعفر- عن أبي عون مولى المسور عن مخرمة بن نوفل- قال لما لحقنا بالشام أدركنا رجل من جذام فأخبرنا أن محمدا قد كان عرض لعيرنا في بدأتنا- و أنه تركه مقيما ينتظر رجعتنا- قد حالف علينا أهل الطريق و وادعهم- قال مخرمة فخرجنا خائفين نخاف الرصد- فبعثنا ضمضم بن عمرو حين فصلنا من الشام- .
قال الواقدي و كان عمرو بن العاص مع العير- و كان يحدث بعد ذلك يقول- لما كنا بالزرقاء و الزرقاء بالشام- من أذرعات على مرحلتين- و نحن منحدرون إلى مكة لقينا رجلا من جذام- فقال قد كان عرض محمد لكم في بدأتكم في أصحابه- فقلنا ما شعرنا قال بلى فأقام شهرا- ثم رجع إلى يثرب- و أنتم يوم عرض محمد لكم مخفون- فهو الآن أحرى أن يعرض لكم- إنما يعد لكم الأيام عدا فاحذروا على عيركم-و ارتئوا آراءكم- فو الله ما أرى من عدد و لا كراع و لا حلقة- فأجمع القوم أمرهم- فبعثوا ضمضم بن عمرو و كان في العير- و قد كانت قريش مرت به و هو بالساحل- معه بكران فاستأجروه بعشرين مثقالا- و أمره أبو سفيان أن يخبر قريشا أن محمدا قد عرض لعيرهم- و أمره أن يجدع بعيره إذا دخل- و يحول رحله و يشق قميصه من قبله و دبره- و يصيح الغوث الغوث- و يقال إنما بعثوه من تبوك- و كان في العير ثلاثون رجلا من قريش- فيهم عمرو بن العاص و مخرمة بن نوفل- .
قال الواقدي و قد كانت عاتكة بنت عبد المطلب- رأت قبل مجيء ضمضم بن عمرو رؤيا أفزعتها- و عظمت في صدرها- فأرسلت إلى أخيها العباس- فقالت يا أخي لقد و الله رأيت رؤيا أفزعتني- و تخوفت أن يدخل على قومك منها شر و مصيبة- فاكتم علي ما أحدثك منها- رأيت راكبا أقبل على بعير حتى وقف بالأبطح- ثم صرخ بأعلى صوته يا آل غدر- انفروا إلى مصارعكم في ثلاث فصرخ بها ثلاث مرات- فأرى الناس اجتمعوا إليه- ثم دخل المسجد و الناس يتبعونه- إذ مثل به بعيره على ظهر الكعبة- فصرخ مثلها ثلاثا- ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس- فصرخ بمثلها ثلاثا- ثم أخذ صخرة من أبي قبيس فأرسلها فأقبلت تهوي- حتى إذا كانت في أسفل الجبل ارفضت- فما بقي بيت من بيوت مكة و لا دار من دورها- إلا دخلته منها فلذة- .
قال الواقدي و كان عمرو بن العاص يحدث بعد ذلك- فيقول لقد رأيت كل هذا- و لقد رأيت في دارنا فلقة من الصخرة- التي انفلقت من أبي قبيس- و لقد كان ذلك عبرة- و لكن الله لم يرد أن نسلم يومئذ- لكنه أخر إسلامنا إلى ما أراد- . قلت كان بعض أصحابنا يقول- لم يكف عمرا أن يقول- رأيت الصخرة في دور مكة عيانا- فيخرج ذلك مخرج الاستهزاء- باطنا على وجه النفاق و استخفافه بعقول المسلمين زعم- حتى يضيف إلى ذلك القول بالخبر الصراح- فيقول إن الله تعالى لم يكن أراد منه الإسلام يومئذ- .
قال الواقدي- قالوا و لم يدخل دارا و لا بيتا- من دور بني هاشم و لا بني زهرة من تلك الصخرة شيء- قال فقال العباس إن هذه لرؤيا فخرج مغتما- حتى لقي الوليد بن عتبة بن ربيعة و كان له صديقا- فذكرها له و استكتمه ففشا الحديث في الناس- قال العباس فغدوت أطوف بالبيت- و أبو جهل في رهط من قريش- يتحدثون برؤيا عاتكة- فقال أبو جهل ما رأت عاتكة هذه- فقلت و ما ذاك فقال يا بني عبد المطلب- أ ما رضيتم بأن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساءكم- زعمت عاتكة أنها رأت في المنام كذا و كذا للذي رأت- فسنتربص بكم ثلاثا- فإن يكن ما قالت حقا فسيكون- و إن مضت الثلاث و لم يكن- نكتب عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب- فقال له العباس يا مصفر استه- أنت أولى بالكذب و اللؤم منا- فقال أبو جهل إنا استبقنا المجد و أنتم- فقلتم فينا السقاية- فقلنا لا نبالي تسقون الحجاج- ثم قلتم فينا الحجابة- فقلنا لا نبالي تحجبون البيت- ثم قلتم فينا الندوة- قلنا لا نبالي يكون الطعام فتطعمون الناس- ثم قلتم فينا الرفادة فقلنا لا نبالي- تجمعون عندكم ما ترفدون به الضعيف- فلما أطعمنا الناس و أطعمتم- و ازدحمت الركب و استبقنا المجد- فكنا كفرسي رهان- قلتم منا نبي ثم قلتم منا نبية- فلا و اللات و العزى لا كان هذا أبدا- .
قلت لا أرى كلام أبي جهل منتظما- لأنه إذا سلم للعباس أن هذه الخصال كلها فيهم- و هي الخصال التي تشرف بها القبائل- بعضها على بعض- فكيف يقول لا نبالي لا نبالي- و كيف يقول فلما أطعمنا للناس و أطعمتم- و قد كان الكلام منتظما- لو قال و لنا بإزاء هذه المفاخر كذا و كذا- ثم يقول بعد ذلك- استبقنا المجد فكنا كفرسي رهان- و ازدحمت الركب- و لم يقل شيئا و لا عد مآثره- و لعل أبا جهل قد قال ما لم ينقل قال الواقدي قال العباس- فو الله ما كان مني غير أني جحدت ذلك- و أنكرت أن تكون عاتكة رأت شيئا- فلما أمسيت لم تبق امرأة- أصابتها ولادة عبد المطلب إلا جاءت- فقلن لي أ رضيتم بهذا الفاسق الخبيث- يقع في رجالكم ثم قد تناول نساءكم- و لم تكن لك عند ذلك غيرة- فقلت و الله ما قلت إلا لأني لا أبالي به- و لايم الله لأعرضن له غدا- فإن عاد كفيتكن إياه- فلما أصبحوا من ذلك اليوم- الذي رأت فيه عاتكة ما رأت- قال أبو جهل هذه ثلاثة أيام ما بقي-
قال العباس و غدوت في اليوم الثالث- و أنا حديد مغضب- أرى أن قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه- و أذكر ما أحفظني به النساء من مقالتهن- فو الله إني لأمشي نحوه- و كان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان- حديد النظر إذ خرج نحو باب بني سهم يشتد- فقلت ما باله لعنه الله- أ كل هذا فرقا من أن أشاتمه- فإذا هو قد سمع صوت ضمضم بن عمرو- و هو يقول يا معشر قريش- يا آل لؤي بن غالب- اللطيمة قد عرض لها محمد في أصحابه- الغوث الغوث و الله ما أرى أن تدركوها- و ضمضم ينادي بذلك في بطن الوادي- و قد جدع أذني بعيره و شق قميصه قبلا و دبرا- و حول رحله و كان يقول- لقد رأيتني قبل أن أدخل مكة- و إني لأرى في النوم و أنا على راحلتي- كأن وادي مكة يسيل من أسفله إلى أعلاه دما- فاستيقظت فزعا مذعورا فكرهتها لقريش- و وقع في نفسي أنها مصيبة في أنفسهم- .
قال الواقدي- و كان عمير بن وهب الجمحي يقول- ما رأيت أعجب من أمر ضمضم قط- و ما صرح على لسانه إلا شيطان- كأنه لم يملكنا من أمورنا شيئا- حتى نفرنا على الصعب و الذلول- و كان حكيم بن حزام يقول- ما كان الذي جاءنا فاستنفرنا إلى العير إنسانا- إن هو إلا شيطان- قيل كيف يا أبا خالد قال إني لأعجب منه- ما ملكنا من أمرنا شيئا- .
قال الواقدي- فجهز الناس و شغل بعضهم عن بعض- و كان الناس بين رجلين- إما خارج و إما باعث مكانه رجلا- و أشفقت قريش لرؤيا عاتكة و سر بنو هاشم-و قال قائلهم كلا- زعمتم أنا كذبنا و كذبت عاتكة- فأقامت قريش ثلاثا تتجهز و يقال يومين- و أخرجت أسلحتها و اشتروا سلاحا- و أعان قويهم ضعيفهم- و قام سهيل بن عمرو في رجال من قريش- فقال يا معشر قريش- هذا محمد و الصباة معه من شبانكم- و أهل يثرب قد عرضوا لعيركم و لطيمتكم- فمن أراد ظهرا فهذا ظهر- و من أراد قوة فهذه قوة- و قام زمعة بن الأسود- فقال إنه و اللات و العزى- ما نزل بكم أمر أعظم من أن طمع محمد و أهل يثرب- أن يعرضوا لعيركم فيها خزائنكم- فأوعبوا و لا يتخلف منكم أحد- و من كان لا قوة له فهذه قوة- و الله لئن أصابها محمد و أصحابه لا يروعكم منهم- إلا و قد دخلوا عليكم بيوتكم- و قال طعيمة بن عدي يا معشر قريش- و الله ما نزل بكم أمر أجل من هذه- أن يستباح عيركم- و لطيمة قريش فيها أموالكم و خزائنكم- و الله ما أعرف رجلا و لا امرأة من بني عبد مناف- له نش فصاعدا إلا و هو في هذه العير- فمن كان لا قوة به فعندنا قوة نحمله و نقويه- فحمل على عشرين بعيرا و قوي بهم- و خلفهم في أهلهم بمعونة- و قام حنظلة بن أبي سفيان و عمرو بن أبي سفيان- فحضا الناس على الخروج- و لم يدعوا إلى قوة و لا حملان- فقيل لهما أ لا تدعوان- إلى ما دعا إليه قومكما من الحملان- قالا و الله ما لنا مال- و ما المال إلا لأبي سفيان- و مشى نوفل بن معاوية الديلمي إلى أهل القوة من قريش- و كلمهم في بذل النفقة و الحملان لمن خرج- فكلم عبد الله بن أبي ربيعة- فقال هذه خمسمائة دينار تضعها حيث رأيت- و كلم حويطب بن عبد العزى- فأخذ منه مائتي دينار أو ثلاثمائة- ثم قوي بها في السلاح و الظهر- .
قال الواقدي- و ذكروا أنه كان لا يتخلف أحد من قريش- إلا بعث مكانه بعثا- فمشت قريش إلى أبي لهب- فقالوا له إنك سيد من سادات قريش- و إنك إن تخلفت عن النفير- يعتبر بك غيرك من قومك- فاخرج أو ابعث رجلا- فقال و اللات و العزى لا أخرج و لا أبعث أحدا- فجاءه أبو جهل فقال أقم يا أبا عتبة- فو الله ما خرجنا إلا غضبا لدينك و دين آبائك- و خاف أبو جهل أن يسلم أبو لهب- فسكت أبو لهب و لم يخرج و لم يبعث- و ما منع أبا لهب أن يخرج- إلا الإشفاق من رؤيا عاتكة- كان يقول إنما رؤيا عاتكة أخذ باليد- و يقال إنه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة- و كان له عليه دين- فقال اخرج و ديني عليك لك فخرج عنه- .
و قال محمد بن إسحاق في المغازي- كان دين أبي لهب على العاص بن هشام- أربعة آلاف درهم فمطله بها و أفلس- فتركها له على أن يكون مكانه فخرج مكانه- . قال الواقدي و أخرج عتبة و شيبة دروعا لهما- فنظر إليهما مولاهما عداس- و هما يصلحان دروعهما و آلة حربهما- فقال ما تريدان- فقالا أ لم تر إلى الرجل الذي أرسلناك إليه- بالعنب في كرمنا بالطائف قال نعم- قالا نخرج فنقاتله فبكى- و قال لا تخرجا فو الله إنه لنبي- فأبيا فخرجا و خرج معهما فقتل ببدر معهما- .
قلت حديث العنب في كرم ابني ربيعة بالطائف- قد ذكره أرباب السيرة و شرحه الطبري في التاريخ- قال لما مات أبو طالب بمكة- طمعت قريش في رسول الله ص- و نالت منه ما لم تكن تناله في حياة أبي طالب- فخرج من مكة خائفا على نفسه- مهاجرا إلى ربه يؤم الطائف- راجيا أن يدعو أهلها إلى الإسلام فيجيبوه- و ذلك في شوال من سنة عشر من النبوة- فأقام بالطائف عشرة أيام و قيل شهرا- لا يدع أحدا من أشراف ثقيف إلا جاءه و كلمه- فلم يجيبوه و أشاروا عليه أن يخرج عن أرضهم- و يلحق بمجاهل الأرض و بحيث لا يعرف- و أغروا به سفهاءهم فرموه بالحجارة- حتى إن رجليه لتدميان- فكان معه زيد بن حارثة فكان يقيه بنفسه- حتى لقد شج في رأسه- .
و الشيعة تروي أن علي بن أبي طالب- كان معه أيضا في هجرة الطائف- فانصرف رسول الله ص عن ثقيف و هو محزون- بعد أن مشى إلى عبد ياليل و مسعود- و حبيب ابني عمرو بن عمير- و هم يومئذ سادة ثقيف- فجلس إليهم و دعاهم إلى الله- و إلى نصرته و القيام معه على قومه- فقال له أحدهم أنا أمرط بباب الكعبة- إن كان الله أرسلك- و قال الآخر أ ما وجد الله أحدا أرسله غيرك- و قال الثالث و الله لا أكلمك كلمة أبدا- لئن كنت رسولا من الله كما تقول- لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام- و لئن كنت كاذبا على الله ما ينبغي أن أكلمك- فقام رسول الله ص من عندهم- و قد يئس من خير ثقيف- و اجتمع عليه صبيانهم و سفهاؤهم- و صاحوا به و سبوه و طردوه- حتى اجتمع عليه الناس يعجبون منه- و ألجئوه بالحجارة و الطرد و الشتم- إلى حائط لعتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة- و هما يومئذ في الحائط- فلما دخل الحائط رجع عنه سفهاء ثقيف- فعمد إلى ظل حبلة منه فجلس فيه- و ابنا ربيعة ينظران و يريان ما لقي من سفهاء ثقيف قال الطبري فلما اطمأن به قال فيما ذكر لي اللهم إليك أشكو ضعف قوتي و قلة حيلتي- و هواني على الناس يا أرحم الراحمين- أنت رب المستضعفين و أنت ربي- إلى من تكلني إلى بعيد فيتجهمني- أم إلى عدو ملكته أمري- فإن لم يكن منك غضب علي فلا أبالي- و لكن عافيتك هي أوسع لي- أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات- و صلح عليه أمر الدنيا و الآخرة- من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك- لك العتبى حتى ترضى لا حول و لا قوة إلا بك – .
فلما رأى عتبة و شيبة ما لقي تحركت له رحمهما- فدعوا غلاما نصرانيا لهما يقال له عداس- فقالا له خذ قطفا من هذا العنب- و ضعه في ذلك الطبق- ثم اذهب به إلى ذلك الرجل- و قل له فليأكل منه- ففعل و أقبل به حتى وضعه بين يديه- فوضع يده فيه فقال بسم الله و أكل- فقال عداس و الله إن هذه الكلمة- لا يقولها أهل هذه البلدة- فقال له رسول الله ص من أي البلاد أنت و ما دينك- قال أنا نصراني من أهل نينوى- قال أ من قرية الرجل الصالح يونس بن متى- قال و ما يدريك من يونس بن متى- قال ذاك أخي كان نبيا و أنا نبي- فأكب عداس على يديه و رجليه و رأسه يقبلها- قال يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه- أما غلامك فقد أفسده عليك- فلما جاءهما قالا ويلك ويلك يا عداس- ما لك تقبل رأس هذا الرجل و يديه و قدميه- قال يا سيدي ما في الأرض خير من هذا- فقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي- . قال الواقدي- و استقسمت قريش بالأزلام عند هبل للخروج- و استقسم أمية بن خلف و عتبة و شيبة بالآمر و الناهي- فخرج القدح الناهي- فأجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل- فقال ما استقسمت و لا نتخلف عن عيرنا- .
قال الواقدي لما توجه زمعة بن الأسود خارجا- فكان بذي طوى أخرج قداحه و استقسم بها- فخرج الناهي عن الخروج فلقي غيظا- ثم أعادها الثانية فخرج مثل ذلك فكسرها- و قال ما رأيت كاليوم قدحا أكذب- و مر به سهيل بن عمرو و هو على تلك الحال- فقال ما لي أراك غضبان يا أبا حكيمة- فأخبره زمعة- فقال امض عنك أيها الرجل- قد أخبرني عمير بن وهب أنه لقيه مثل الذي أخبرتني- فمضوا على هذا الحديث- .
قال الواقدي- و حدثني موسى بن ضمرة بن سعيد عن أبيه- قال قال أبو سفيان بن حرب لضمضم- إذا قدمت على قريش فقل لها لا تستقسم بالأزلام- . قال الواقدي- و حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري- عن أبي بكر بن سليم بن أبي خيثمة- قال سمعت حكيم بن حزام يقول- ما توجهت وجها قط- كان أكره إلي من مسيري إلى بدر- و لا بان لي في وجه قط- ما بان لي قبل أن أخرج- ثم قال قدم ضمضم- فصاح بالنفير فاستقسمت بالأزلام- كل ذلك يخرج الذي أكره- ثم خرجت على ذلك حتى نزلنا مر الظهران- فنحر ابن الحنظلية جزورا منها بها حياة- فما بقي خباء من أخبية العسكر- إلا أصابه من دمها- فكان هذا بين ثم هممت بالرجوع- ثم أذكر ابن الحنظلية و شؤمه- فيردني حتى مضيت لوجهي- و كان حكيم يقول- لقد رأينا حين بلغنا الثنية البيضاء- و هي الثنية التي تهبطك على فخ- و أنت مقبل من المدينة- إذا عداس جالس عليها- و الناس يمرون إذ مر علينا ابنا ربيعة- فوثب إليهما فأخذ بأرجلهما في غرزهما- و هو يقول بأبي أنتما و أمي- و الله إنه لرسول الله ص- و ما تساقان إلا إلى مصارعكما- و إن عينيه لتسيل دمعا على خديه- فأردت أن أرجع أيضا ثم مضيت- و مر به العاص بن منبه بن الحجاج- فوقف عليه حين ولى عتبة و شيبة- فقال ما يبكيك قال يبكيني سيدي- أو سيدا أهل الوادي يخرجان إلى مصارعهما- و يقاتلان رسول الله ص- فقال العاص و إن محمدا لرسول الله- فانتفض عداس انتفاضة و اقشعر جلده- ثم بكى و قال إي و الله- إنه لرسول الله إلى الناس كافة- قال فأسلم العاص بن منبه- و مضى و هو على الشك- حتى قتل مع المشركين على شك و ارتياب- و يقال رجع عداس و لم يشهد بدرا- و يقال شهد بدرا و قتل- . قال الواقدي و القول الأول أثبت عندنا- .
قال الواقدي و خرج سعد بن معاذ معتمرا قبل بدر- فنزل على أمية بن خلف- فأتاه أبو جهل و قال أ تترك هذا- و قد آوى محمدا و آذننا بالحرب- فقال سعد بن معاذ قل ما شئت- أما إن طريق عيركم علينا- قال أمية بن خلف مه- لا تقل هذا لأبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي- قال سعد بن معاذ و أنت تقول ذلك يا أمية- أما و الله لسمعت محمدا يقول لأقتلن أمية بن خلف- قال أمية أنت سمعته- قال سعد بن معاذ فقلت نعم- قال فوقع في نفسه- فلما جاء النفير أبى أمية أن يخرج معهم إلى بدر- فأتاه عقبة بن أبي معيط و أبو جهل- و مع عقبة مجمرة فيها بخور- و مع أبي جهل مكحلة و مرود- فأدخلها عقبة تحته فقال تبخر فإنما أنت امرأة- و قال أبو جهل اكتحل فإنما أنت امرأة- فقال أمية ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي- فابتاعوا له جملا بثلاثمائة دينار من نعم بني قشير- فغنمه المسلمون يوم بدر- فصار في سهم خبيب بن يساف- .
قال الواقدي و قالوا ما كان أحد ممن خرج إلى العير- أكره للخروج من الحارث بن عامر- و قال ليت قريشا تعزم على القعود- و أن مالي في العير تلف و مال بني عبد مناف أيضا- فيقال له إنك سيد من ساداتها- أ فلا تردعها عن الخروج- قال إني أرى قريشا قد أزمعت على الخروج- و لا أرى أحدا به طرق تخلف إلا من علة- و أنا أكره خلافها- و ما أحب أن تعلم قريش ما أقول- على أن ابن الحنظلية رجل مشئوم على قومه- ما أعلمه إلا يحرز قومه أهل يثرب- و لقد قسم الحارث مالا من ماله بين ولده- و وقع في نفسه أنه لا يرجع إلى مكة- و جاءه ضمضم بن عمرو و كانت للحارث عنده أياد- فقال أبا عامر إني رأيت رؤيا كرهتها- و إني لكاليقظان على راحلتي- و أراكم أن واديكم يسيل دما من أسفله إلى أعلاه- فقال الحارث ما خرج أحد وجها من الوجوه- أكره له من وجهي هذا- قال يقول ضمضم- و الله إني لأرى لك أن تجلس- فقال لو سمعت هذا منك قبل أن أخرج ما سرت خطوة- فاطو هذا الخبر أن تعلمه قريش- فإنها تتهم كل من عوقها عن المسير- و كان ضمضم قد ذكر هذا الحديث- للحارث ببطن يأجج- قالوا و كرهت قريش أهل الرأي منهم المسير- و مشى بعضهم إلى بعض- و كان ممن أبطأ بهم عن ذلك الحارث بن عامر- و أمية بن خلف و عتبة و شيبة ابنا ربيعة- و حكيم بن حزام و أبو البختري- و علي بن أمية بن خلف و العاص بن منبه- حتى بكتهم أبو جهل بالجبن- و أعانه عقبة بن أبي معيط- و النضر بن الحارث بن كلدة- و حضوهم على الخروج- و قالوا هذا فعل النساء فأجمعوا المسير- و قالت قريش لا تدعوا أحدا من عدوكم خلفكم- .
قال الواقدي- و مما استدل به على كراهة الحارث بن عامر للخروج- و عتبة و شيبة- أنه ما عرض رجل منهم حملانا- و لا حملوا أحدا من الناس- و إن كان الرجل ليأتيهم حليفا أو عديدا- و لا قوة له فيطلب الحملان منهم- فيقولون إن كان لك مال و أحببت أن تخرج فافعل- و إلا فأقم حتى كانت قريش تعرف ذلك منهم- . قال الواقدي فلما اجتمعت قريش إلى الخروج و المسير- ذكروا الذي بينهم و بين بني بكر من العداوة- و خافوهم على من يخلفونه- و كان أشدهم خوفا عتبة بن ربيعة- و كان يقول يا معشر قريش- إنكم و إن ظفرتم بالذي تريدون- فإنا لا نأمن على من نخلف- إنما نخلف نساء و لا ذرية و من لا طعم به- فارتئوا آراءكم- فتصور لهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجي- فقال يا معشر قريش قد عرفتم شرفي و مكاني في قومي- أنا لكم جار أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه- فطابت نفس عتبة- و قال له أبو جهل فما تريد- هذا سيد كنانة هو لنا جار على من نخلف- فقال عتبة لا شيء أنا خارج قال الواقدي و كان الذي بين بني كنانة و قريش- أن ابنا لحفص بن الأحنف- أحد بني معيط بن عامر بن لؤي- خرج يبغي ضالة و هو غلام في رأسه ذؤابة- و عليه حلة و كان غلاما وضيئا- فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح بن يعمر- أحد رؤساء بني كنانة و كان بضجنان- فقال من أنت يا غلام- قال ابن لحفص بن الأحنف- فقال يا بني بكر أ لكم في قريش دم قالوا نعم-
قال ما كان رجل يقتل هذا برجله إلا استوفى- فاتبعه رجل من بني بكر فقتله بدم له في قريش- فتكلمت فيه قريش- فقال عامر بن يزيد قد كانت لنا فيكم دماء- فإن شئتم فأدوا ما لنا قبلكم- و نؤدي إليكم ما كان فينا- و إن شئتم فإنما هو الدم رجل برجل- و إن شئتم فتجافوا عنا فيما قبلنا- و نتجافى عنكم فيما قبلكم- فهان ذلك الغلام على قريش- و قالوا صدق رجل برجل- فلهوا عنه أن يطلبوا بدمه- فبينا أخوه مكرز بن حفص بمر الظهران- إذ نظر عامر بن يزيد و هو سيد بني بكر على جمل له- فلما رآه قال ما أطلب أثرا بعد عين- و أناخ بعيره و هو متوشح سيفه- فعلاه به حتى قتله ثم أتى مكة من الليل- فعلق سيف عامر بن يزيد بأستار الكعبة- فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد- فعرفوا أن مكرز بن حفص قتله- و قد كانت تسمع من مكرز في ذلك قولا- و جزعت بنو بكر من قتل سيدها- فكانت معدة لقتل رجلين من قريش سيدين- أو ثلاثة من ساداتها- فجاء النفير و هم على هذا الأمر- فخافوهم على من تخلف بمكة من ذراريهم- فلما قال سراقة ما قال و هو ينطق بلسان إبليس شجع القوم- .
قال الواقدي و خرجت قريش سراعا- و خرجوا بالقيان و الدفوف- سارة مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب- و عزة مولاة أسود بن المطلب- و فلانة مولاة أمية بن خلف- يغنين في كل منهل و ينحرون الجزر- و خرجوا بالجيش يتقاذفون بالحراب- و خرجوا بتسعمائة و خمسين مقاتلا- و قادوا مائة فرس بطرا و رئاء الناس- كما ذكر الله تعالى في كتابه- و أبو جهل يقول أ يظن محمد- أن يصيب منا ما أصاب بنخلة و أصحابه- سيعلم أ نمنع عيرنا أم لا- .
قلت سرية نخلة سرية قبل بدر- و كان أميرها عبد الله بن جحش- قتل فيها عمرو بن الحضرمي- حليف بني عبد شمس- قتله واقد بن عبد الله التميمي رماه بسهم فقتله- و أسر الحكم بن كيسان- و عثمان بن عبد الله بن المغيرة- و استاق المسلمون العير- و كانت خمسمائة بعير فخمسها رسول الله ص- و قسم أربعمائة فيمن شهدها من المسلمين- و هم مائتا رجل فأصاب كل رجل بعيران- . قال الواقدي و كانت الخيل لأهل القوة منهم- و كان في بني مخزوم منها ثلاثون فرسا- و كانت الإبل سبعمائة بعير- و كان أهل الخيل كلهم دارع و كانوا مائة- و كان في الرجالة دروع سوى ذلك- .
قال الواقدي و أقبل أبو سفيان بالعير- و خاف هو و أصحابه خوفا شديدا حين دنوا من المدينة- و استبطئوا ضمضما و النفير- فلما كانت الليلة التي يصبحون فيها على ماء بدر- جعلت العير تقبل بوجوهها إلى ماء بدر- و كانوا باتوا من وراء بدر آخر ليلتهم- و هم على أن يصبحوا بدرا إن لم يعترض لهم- فما أقرتهم العير حتى ضربوها بالعقل- على أن بعضها ليثنى بعقالين- و هي ترجع الحنين تواردا إلى ماء بدر- و ما إن بها إلى الماء من حاجة لقد شربت بالأمس- و جعل أهل العير يقولون- إن هذا شيء ما صنعته الإبل منذ خرجنا- قالوا و غشينا تلك الليلة ظلمة شديدة- حتى ما نبصر شيئا- .
قال الواقدي- و كان بسبس بن عمرو و عدي بن أبي الزغباء- وردا على مجدي بدرا يتجسسان الخبر- فلما نزلا ماء بدر- أناخا راحلتيهما إلى قريب من الماء- ثم أخذ أسقيتهما يسقيان من الماء- فسمعا جاريتين من جواري جهينة- يقال لإحداهما برزة و هي تلزم صاحبتها في درهم- كان لها عليها و صاحبتها تقول- إنما العير غدا أو بعد غد قد نزلت- و مجدي بن عمر يسمعها فقال صدقت- فلما سمع ذلك بسبس و عدي انطلقا- راجعين إلى النبي ص- حتى أتياه بعرق الظبية فأخبراه الخبر- .
قال الواقدي و حدثني كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده و كان أحد البكاءين قال قال رسول الله ص لقد سلك فج الروحاء موسى النبي ع- في سبعين ألفا من بني إسرائيل- و صلوا في المسجد الذي بعرق الظبية – . قال الواقدي- و هي من الروحاء على ميلين مما يلي المدينة- إذا خرجت على يسارك- . قال الواقدي و أصبح أبو سفيان ببدر- قد تقدم العير و هو خائف من الرصد- فقال يا مجدي هل أحسست أحدا- تعلم و الله ما بمكة قرشي و لا قرشية له نش فصاعدا- و النش نصف أوقية وزن عشرين درهما- إلا و قد بعث به معنا- و لئن كتمتنا شأن عدونا- لا يصالحك رجل من قريش ما بل بحر صوفة- فقال مجدي و الله ما رأيت أحدا أنكره- و لا بينك و بين يثرب من عدو- و لو كان بينك و بينها عدو لم يخف علينا- و ما كنت لأخفيه عنك- إلا أني قد رأيت راكبين أتيا إلى هذا المكان- و أشار إلى مناخ عدي و بسبس فأناخا به- ثم استقيا بأسقيتهما ثم انصرفا- فجاء أبو سفيان مناخهما- فأخذ أبعارا من أبعار بعيريهما ففتها- فإذا فيها نوى- فقال هذه و الله علائف يثرب- هذه و الله عيون محمد و أصحابه- ما أرى القوم إلا قريبا- فضرب وجه عيره فساحل بها- و ترك بدرا يسارا و انطلق سريعا- و أقبلت قريش من مكة ينزلون كل منهل- يطعمون الطعام من أتاهم و ينحرون الجزور- فبينا هم كذلك في مسيرهم- إذ تخلف عتبة و شيبة و هما يترددان- قال أحدهما لصاحبه- أ لم تر إلى رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب- لقد خشيت منها قال الآخر فاذكرها- و ذكرها فأدركهما أبو جهل- فقال ما تتحادثون به- قالا نذكر رؤيا عاتكة- قال يا عجبا من بني عبد المطلب- لم يرضوا أن تتنبأ علينا رجالهم- حتى تنبأت علينا النساء- أما و الله لئن رجعنا إلى مكة لنفعلن بهم و لنفعلن- قال عتبة إن لهم أرحاما و قرابة قريبة- ثم قال أحدهما لصاحبه هل لك أن ترجع- قال أبو جهل أ ترجعان بعد ما سرنا فتخذلان قومكما- و تقطعان بهم بعد أن رأيتم ثأركم بأعينكم- أ تظنان أن محمدا و أصحابه يلاقونكما- كلا و الله إن معي من قومي- مائة و ثمانين كلهم من أهل بيتي يحلون إذا أحللت- و يرحلون إذا رحلت فارجعا إن شئتما- قالا و الله لقد هلكت و أهلكت قومك- .
ثم قال عتبة لأخيه شيبة- إن هذا رجل مشئوم يعني أبا جهل- و إنه لا يمسه من قرابة محمد ما يمسنا- مع أن محمدا معه الولد فارجع بنا و دع قوله- .
قلت مراده بقوله مع أن محمدا معه الولد- أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة- كان أسلم و شهد بدرا مع رسول الله ص قال الواقدي فقال شيبة- و الله تكون علينا سبة يا أبا الوليد- أن نرجع الآن بعد ما سرنا فمضينا- ثم انتهى إلى الجحفة عشاء- فنام جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف- فقال إني لأرى بين النائم و اليقظان- أنظر إلى رجل أقبل على فرس معه بعير له- حتى وقف علي فقال قتل عتبة بن ربيعة- و شيبة بن ربيعة و زمعة بن الأسود- و أمية بن خلف و أبو البختري- و أبو الحكم و نوفل بن خويلد- في رجال سماهم من أشراف قريش- و أسر سهيل بن عمرو- و فر الحارث بن هشام عن أخيه- قال و كأن قائلا يقول- و الله إني لأظنهم الذين يخرجون إلى مصارعهم- ثم قال أراه ضرب في لبة بعيره فأرسله في العسكر- فقال أبو جهل و هذا نبي آخر من بني عبد مناف- ستعلم غدا من المقتول نحن أو محمد و أصحابه- و قالت قريش لجهيم- إنما يلعب بك الشيطان في منامك- فسترى غدا خلاف ما رأيت- يقتل أشراف محمد و يؤسرون- قال فخلا عتبة بأخيه شيبة- فقال له هل لك في الرجوع- فهذه الرؤيا مثل رؤيا عاتكة و مثل قول عداس- و الله ما كذبنا عداس- و لعمري لئن كان محمد كاذبا- إن في العرب لمن يكفيناه- و لئن كان صادقا إنا لأسعد العرب به للحمته- فقال شيبة هو على ما تقول- أ فنرجع من بين أهل العسكر- فجاء أبو جهل و هما على ذلك- فقال ما تريدان قالا الرجوع- أ لا ترى إلى رؤيا عاتكة- و إلى رؤيا جهيم بن الصلت مع قول عداس لنا- فقال لا تخذلان و الله قومكما و تقطعان بهم- قالا هلكت و الله و أهلكت قومك فمضيا على ذلك- .
قال الواقدي فلما أفلت أبو سفيان بالعير- و رأى أن قد أحرزها و أمن عليها- أرسل إلى قريش قيس بن إمرئ القيس- و كان مع أصحاب العير خرج معهم من مكة- فأرسله أبو سفيان يأمرهم بالرجوع- و يقول قد نجت عيركم و أموالكم- فلا تحرزوا أنفسكم أهل يثرب- فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك- إنما خرجتم لتمنعوا عيركم و أموالكم- و قد نجاها الله- فإن أبوا عليك فلا يأبون خصلة واحدة- يردون القيان- فعالج قيس بن إمرئ القيس قريشا فأبت الرجوع- قالوا أما القيان فسنردهن- فردوهن من الجحفة- .
قلت لا أعلم مراد أبي سفيان برد القيان- و هو الذي أخرجهن مع الجيش يوم أحد- يحرضن قريشا على إدراك الثأر- و يغنين و يضربن الدفوف- فكيف نهى عن ذلك في بدر و فعله في أحد- و أقول من تأمل الحال علم- أن قريشا لم يمكن أن تنتصر يوم بدر- لأن الذي خالطها من التخاذل و التواكل- و كراهية الحرب و حب الرجوع- و خوف اللقاء و خفوق الهمم و فتور العزائم- و رجوع بني زهرة و غيرهم من الطريق- و اختلاف آرائهم في القتال- يكفي بعضه في هلاكهم و عدم فلاحهم- لو كانوا قد لقوا قوما جبناء- فكيف و إنما لقوا الأوس و الخزرج- و هم أشجع العرب- و فيهم علي بن أبي طالب ع و حمزة بن عبد المطلب- و هما أشجع البشر- و جماعة من المهاجرين أنجاد أبطال- و رئيسهم محمد بن عبد الله رسول الله- الداعي إلى الحق و العدل و التوحيد- المؤيد بالقوة الإلهية- دع ما أضيف إلى ذلك من ملائكة السماء- كما نطق به الكتاب- .
قال الواقدي و لحق الرسول أبا سفيان بالهدة- و الهدة على سبعة أميال من عقبة عسفان- على تسعة و ثلاثين ميلا من مكة- فأخبره بمضي قريش فقال وا قوماه- هذا عمل عمرو بن هشام- يكره أن يرجع لأنه قد ترأس على الناس و بغى- و البغي منقصة و شؤم- و الله لئن أصاب أصحاب محمد النفير- ذللنا إلى أن يدخل مكة علينا- .
قال الواقدي و قال أبو جهل- و الله لا نرجع حتى نرد بدرا- و كانت بدر موسمامن مواسم العرب في الجاهلية- يجتمعون بها و فيها سوق- تسمع بنا العرب و بمسيرنا فنقيم على بدر ثلاثا- ننحر الجزر و نطعم الطعام و نشرب الخمر- و تعزف علينا القيان- فلن تزال العرب تهابنا أبدا- . قال الواقدي و كان الفرات بن حيان العجلي- أرسلته قريش حين فصلت من مكة- إلى أبي سفيان بن حرب- يخبره بمسيرها و فصولها و ما قد حشدت- فحالف أبا سفيان في الطريق- و ذلك أن أبا سفيان لصق بالبحر- و لزم الفرات بن حيان المحجة- فوافى المشركين بالجحفة- فسمع كلام أبي جهل و هو يقول لا نرجع- فقال ما بأنفسهم عن نفسك رغبة- و إن الذي يرجع- بعد أن رأى ثأره من كثب لضعيف- فمضى مع قريش فترك أبا سفيان- و جرح يوم بدر جراحات كثيرة- و هرب على قدميه و هو يقول- ما رأيت كاليوم أمرا أنكد- إن ابن الحنظلية لغير مبارك الأمر- .
قال الواقدي- و قال الأخنس بن شريق و اسمه أبي- و كان حليفا لبني زهرة يا بني زهرة- قد نجى الله عيركم و خلص أموالكم- و نجى صاحبكم مخرمة بن نوفل- و إنما خرجتم لتمنعوه و ماله- و إنما محمد رجل منكم ابن أختكم- فإن يك نبيا فأنتم أسعد به- و إن يك كاذبا يلي قتله غيركم- خير من أن تلوا قتل ابن أختكم- فارجعوا و اجعلوا خبثها لي- فلا حاجة لكم أن تخرجوا في غير ما يهمكم- و دعوا ما يقوله هذا الرجل- يعني أبا جهل فإنه مهلك قومه- سريع في فسادهم فأطاعته بنو زهرة- و كان فيهم مطاعا و كانوا يتيمنون به- فقالوا فكيف نصنع بالرجوع حتى نرجع- فقال الأخنس نسير مع القوم- فإذا أمسيت سقطت عن بعيري- فيقولون نحل الأخنس- فإذا أصبحوا فقالوا سيروا- فقولوا لا نفارق صاحبنا- حتى نعلم أ حي هو أم ميت فندفنه- فإذا مضوا رجعنا إلى مكة- ففعلت بنو زهرة ذلك- فلما أصبحوا بالأبواء راجعين- تبين للناس أن بني زهرة رجعوا- فلم يشهدها زهري البتة- و كانوا مائة و قيل أقل من مائة و هو أثبت- و قال قوم كانوا ثلاثمائة و لم يثبت ذلك- .
قال الواقدي و قال عدي بن أبي الزغباء- منحدره من بدر إلى المدينة- و انتشرت الركاب عليه فجعل عدي يقول-
أقم لها صدورها يا بسبس
إن مطايا القوم لا تحبس
و حملها على الطريق أكيس
قد نصر الله و فر الأخنس
قال الواقدي- و ذكر أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن- بن عبد الله بن عمر بن الخطاب- إن بني عدي خرجوا من النفير- حتى كانوا بثنية لفت- فلما كان في السحر عدلوا في الساحل منصرفين إلى مكة- فصادفهم أبو سفيان فقال كيف رجعتم يا بني عدي- و لا في العير و لا في النفير- قالوا أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع- فرجع من رجع و مضى من مضى- فلم يشهدها أحد من بني عدي- و يقال إنه لاقاهم بمر الظهران- فقال تلك المقالة لهم- . قال الواقدي و أما رسول الله ص- فكان صبيحة أربع عشرة من شهر رمضان بعرق الظبية- فجاء أعرابي قد أقبل من تهامة- فقال له أصحاب النبي ص- هل لك علم بأبي سفيان بن حرب- قال ما لي بأبي سفيان علم- قالوا تعال فسلم على رسول الله ص- قال أ و فيكم رسول الله قالوا نعم- قال فأيكم رسول الله قالوا هذا- فقال أنت رسول الله قال نعم- قال فما في بطن ناقتي هذه إن كنت صادقا- فقال سلمة بن سلامة بن وقش نكحتها و هي حبلى منك- فكره رسول الله ص مقالته و أعرض عنه- .
قال الواقدي و سار رسول الله ص- حتى أتى الروحاء ليلة الأربعاء للنصف من شهر رمضان- فقال لأصحابه هذا سجاسج- يعني وادي الروحاء هذا أفضل أودية العرب- .
قال الواقدي و صلى رسول الله ص بالروحاء- فلما رفع رأسه من الركعة الأخيرة من وتره- لعن الكفرة و دعا عليهم- فقال اللهم لا تفلتن أبا جهل بن هشام فرعون هذه الأمة- اللهم لا تفلتن زمعة بن الأسود- اللهم أسخن عين أبي زمعة- اللهم أعم بصر أبي دبيلة- اللهم لا تفلتن سهيل بن عمرو- ثم دعا لقوم من قريش- فقال اللهم أنج سلمة بن هشام- و عياش بن أبي ربيعة و المستضعفين من المؤمنين
– و لم يدع للوليد بن المغيرة يومئذ و أسر ببدر- و لكنه لما رجع إلى مكة بعد بدر أسلم- و أراد أن يخرج إلى المدينة فحبس- فدعا له النبي ص بعد ذلك قال الواقدي و كان خبيب بن يساف رجلا شجاعا- و كان يأبى الإسلام- فلما خرج النبي ص إلى بدر- خرج هو و قيس بن محرث و يقال ابن الحارث- و هما على دين قومهما- فأدركا رسول الله ص بالعقيق- و خبيب مقنع في الحديد- فعرفه رسول الله ص من تحت المغفر- فالتفت إلى سعد بن معاذ و هو يسير إلى جنبه- فقال أ ليس بخبيب بن يساف قال بلى- فأقبل خبيب حتى أخذببطان ناقة رسول الله ص- فقال له و لقيس بن محرث ما أخرجكما- قال كنت ابن أختنا و جارنا- و خرجنا مع قومنا للغنيمة- فقال ص لا يخرجن معنا رجل ليس على ديننا- فقال خبيب لقد علم قومي أني عظيم الغناء في الحرب- شديد النكاية- فأقاتل معك للغنيمة و لا أسلم- فقال رسول الله ص لا و لكن أسلم ثم قاتل- فلما كان بالروحاء جاء- فقال يا رسول الله أسلمت لرب العالمين- و شهدت أنك رسول الله فسر بذلك و قال امضه- فكان عظيم الغناء في بدر و في غير بدر- و أما قيس بن الحارث فأبى أن يسلم فرجع إلى المدينة- فلما قدم النبي ص من بدر- أسلم و شهد أحدا فقتل- . قال الواقدي- و لما خرج رسول الله ص صام يوما أو يومين- ثم نادى مناديه يا معشر العصاة- إني مفطر فأفطروا- و ذلك أنه قد كان قال لهم قبل ذلك أفطروا فلم يفعلوا- .
قلت هذا هو سر النبوة و خاصيتها- إذا تأمل المتأملون ذلك- و هو أن يبلغ بهم حبه و طاعته و قبول قوله- على أن يكلفهم ما يشق عليهم- فيمتثلوه امتثالا صادرا عن حب شديد- و حرص عظيم على الطاعة- حتى إنه لينسخه عنهم و يسقط وجوبه عليهم- فيكرهون ذلك و لا يسقطونه عن أنفسهم- إلا بعد الإنكار التام- و هذا أحسن من المعجزات الخارقة للعادات- بل هذا بعينه معجزة خارقة للعادة- أقوى و آكد من شق البحر و قلب العصا حية- .
قال الواقدي- و مضى رسول الله ص حتى إذا كان دوين بدر- أتاه الخبر بمسير قريش- فأخبر رسول الله ص بمسيرهم- و استشار الناس فقام أبو بكر فقال فأحسن- ثم قام عمر فقال فأحسن- ثم قال يا رسول الله إنها قريش و عزها- و الله ما ذلت منذ عزت و لا آمنت منذ كفرت- و الله لا تسلم عزها أبدا و لتقاتلنك- فاتهب لذلك أهبته و أعد عدته- ثم قام المقداد بن عمرو- فقال يا رسول الله لأمر الله فنحن معك- و الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها- فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ- و لكن اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون- و الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا- .
قال الواقدي برك الغماد من وراء مكة- بخمس ليال من وراء الساحل مما يلي البحر- و هو على ثمان ليال من مكة إلى اليمن- . فقال له رسول الله ص خيرا و دعا له بخير- ثم قال ص أشيروا علي أيها الناس- و إنما يريد الأنصار- و كان يظن أن الأنصار لا تنصره إلا في الدار- و ذلك أنهم شرطوا أن يمنعوه- مما يمنعون منه أنفسهم و أولادهم- فقال رسول الله ص أشيروا علي- فقام سعد بن معاذ فقال أنا أجيب عن الأنصار- كأنك يا رسول الله تريدنا قال أجل- قال إنك عسى أن تكون خرجت عن أمر- قد أوحي إليك- و إنا قد آمنا بك و صدقناك- و شهدنا أن ما جئت به حق- و أعطيناك مواثيقنا و عهودنا على السمع و الطاعة- فامض يا نبي الله لما أردت- فو الذي بعثك بالحق- لو استعرضت بنا هذا البحر- فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل- و صل من شئت و خذ من أموالنا ما أردت- فما أخذته من أموالنا أحب إلينا مما تركت- و الذي نفسي بيده ما سلكت هذه الطريق قط- و ما لي بها من علم- و إنا لا نكره أن نلقى عدونا غدا- إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء- لعل الله يريك منا بعض ما تقر به عينك- .
قال الواقدي و حدثني محمد بن صالح- عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد- قال قال سعد بن معاذ يومئذ يا رسول الله- إنا قد خلفنا من قومنا قوما ما نحن بأشد حبا لك منهم- و لا أطوع لهم رغبة و نية في الجهاد- و لو ظنوا أنك يا رسول الله ملاق عدوا ما تخلفوا عنك- و لكن إنما ظنوا أنها العير- نبني لك عريشا فتكون فيه و نعد عندك رواحلك- ثم نلقى عدونا- فإن أعزنا الله و أظهرنا على عدونا- كان ذلك ما أحببنا- و إن تكن الأخرى جلست على رواحلك- فلحقت من وراءنا- فقال له النبي ص خيرا- ثم قال أ و يقضي الله خيرا يا سعد- . قال الواقدي فلما فرغ سعد من المشورة- قال رسول الله ص سيروا على بركة الله- فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين- و الله لكأني أنظر إلى مصارع القوم- .
قال الواقدي- و قالوا لقد أرانا رسول الله ص مصارعهم يومئذ- هذا مصرع فلان و هذا مصرع فلان- فما عدا كل رجل منهم مصرعه- قال فعلم القوم أنهم يلاقون القتال- و أن العير تفلت- و رجا القوم النصر لقول النبي ص- . قال الواقدي فمن يومئذ عقد رسول الله ص الألوية- و كانت ثلاثة و أظهر السلاح- و كان خرج من المدينة على غير لواء معقود- و سار فلقي سفيان الضمري- و مع رسول الله ص قتادة بن النعمان و معاذ بن جبل- فقال رسول الله ص من الرجل- فقال الضمري بل و من أنتم- فقال رسول الله ص تخبرنا و نخبرك- فقال الضمري و ذاك بذاك قال نعم- قال الضمري فاسألوا عما شئتم- فقال له ص أخبرنا عن قريش- قال الضمري بلغني أنهم خرجوا يوم كذا من مكة- فإن كان الخبر صادقا فإنهم بجنب هذا الوادي- ثم قال الضمري فمن أنتم- فقال النبي ص نحن من ماء- و أشار بيده نحو العراق- فجعل الضمري يقول من ماء من أي ماء- من العراق أم من غيره- ثم انصرف رسول الله ص إلى أصحابه- .
قال الواقدي- فبات الفريقان كل منهم لا يعلم بمنزل صاحبه- إنما بينهم قوز من رمل- . قال الواقدي و مر رسول الله ص بجبلين- فسأل عنهما فقالوا هذا مسلح و مخرئ- فقال من ساكنهما- فقيل بنو النار و بنو حراق- فانصرف عنهما و جعلهما يسارا- و لقيه بسبس بن عمرو و عدي بن أبي الزغباء- فأخبراه خبر قريش- و نزل رسول الله ص وادي بدر- عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان- فبعث عليا ع و الزبير و سعد بن أبي وقاص- و بسبس بن عمرو يتحسسون على الماء- و أشار لهم إلى ظريب- و قال أرجو أن تجدوا الخير عند القليب- الذي يلي هذا الظريب- فاندفعوا تلقاءه- فوجدوا على تلك القليب- روايا قريش فيها سقاؤهم فأسروهم و أفلت بعضهم- فكان ممن عرف أنه أفلت عجير- فكان أول من جاء قريشا بخبر النبي ص و أصحابه- فنادى يا آل غالب هذا ابن أبي كبشة و أصحابه- و قد أخذوا سقاءكم فماج العسكر و كرهوا ما جاء به- .
قال الواقدي فكان حكيم بن حزام يحدث- قال كنا يومئذ في خباء لنا على جزور نشوي من لحمها- فما هو إلا أن سمعنا الخبر- فامتنع الطعام منا و لقي بعضنا بعضا- و لقيني عتبة بن ربيعة فقال يا أبا خالد- ما أعلم أحدا يسير أعجب من مسيرنا- إن عيرنا قد نجت- و إنا جئنا إلى قوم في بلادهم بغيا عليهم- فقلت أراه لأمر حم و لا رأي لمن لا يطاع- هذا شؤم ابن الحنظلية- فقال عتبة أبا خالد أ تخاف أن تبيتنا القوم- قلت لأنت آمن من ذلك- قال فما الرأي يا أبا خالد- قلت نتحارس حتى نصبح و ترون رأيكم- قال عتبة هذا الرأي- قال فتحارسنا حتى أصبحنا- فقال أبو جهل هذا عن أمر عتبة- كره قتال محمد و أصحابه- إن هذا لهو العجب- أ تظنون أن محمدا و أصحابه يعترضون لجمعكم- و الله لأنتحين ناحية بقومي فلا يحرسنا أحد- فتنحى ناحية و إن السماء لتمطر عليه- قال يقول عتبة إن هذا لهو النكد قال الواقدي أخذ من السقاء من على القليب- يسار غلام سعيد بن العاص- و أسلم غلام منبه بن الحجاج- و أبو رافع غلام أمية بن خلف- فأتي بهم النبي ص و هو قائم يصلي- فسألهم المسلمون فقالوا نحن سقاء قريش- بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهم- و رجوا أن يكونوا لأبي سفيان و أصحاب العير- فضربوهم فلما أذلقوهم بالضرب- قالوا نحن لأبي سفيان و نحن في العير- و هذا العير بهذا القوز- فكانوا إذا قالوا ذلك يمسكون عن ضربهم- فسلم رسول الله ص من صلاته- ثم قال إن صدقوكم ضربتموهم- و إن كذبوكم تركتموهم- فقال أصحابه ع- إنهم يا رسول الله يقولون إن قريشا قد جاءت- فقال لقد صدقوكم خرجت قريش تمنع عيرها- و خافوكم عليها ثم أقبل ص على السقاء- فقال أين قريش- فقالوا خلف هذا الكثيب الذي ترى- قال كم هم قالوا كثير- قال كم عددهم قالوا لا ندري- قال كم ينحرون- قالوا يوما عشرة و يوما تسعة- فقال القوم ما بين الألف و التسعمائة- ثم قال للسقاء كم خرج من أهل مكة- قالوا لم يبق أحد به طعم إلا خرج- فأقبل رسول الله ص على الناس- فقال هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها- ثم سألهم رسول الله ص هل رجع منهم أحد- قالوا نعم رجع ابن أبي شريق ببني زهرة- فقال ص راشدهم و ما كان برشيد- و إن كان ما علمت لمعاديا لله و لكتابه- ثم قال فأحد غيرهم- قالوا نعم بنو عدي بن كعب فتركهم رسول الله ص- ثم قال لأصحابه أشيروا علي في المنزل- فقال الحباب بن المنذر- يا رسول الله أ رأيت منزلك هذا- أ هو منزل أنزلكه الله- فليس لنا أن نتقدمه و لا نتأخر عنه- أم هو الرأي و الحرب و المكيدة- قال بل هو الرأي و الحرب و المكيدة- قال فإن هذا ليس بمنزل- انطلق بنا إلى أدنى مياه القوم- فإني عالم بها و بقلبها- فإن بها قليبا قد عرفت عذوبة مائها- و ماؤها كثير لا ينزح- نبني عليها حوضا و نقذف فيها بالآنية فنشرب- و نقاتل و نعور ما سواها من القلب- .
قال الواقدي فكان ابن عباس يقول- نزل جبريل على النبي ص فقال- الرأي ما أشار به الحباب- فقال يا حباب أشرت بالرأي- و نهض و فعل كل ذلك- . قال الواقدي و بعث الله السماء- و كان الوادي دهسا أي كثير الرمل- فأصاب المسلمين ما لبد الأرض و لم يمنعهم من المسير- و أصاب قريشا ما لم يقدروا معه أن يرتحلوا منه- و إنما بين الطائفتين قوز من رمل- . قال الواقدي- و أصاب المسلمين تلك الليلة النعاس ألقي عليهم- فناموا و لم يصبهم من المطر ما يؤذيهم- .
قال الزبير بن العوام- لقد سلط الله عليهم النعاس تلك الليلة- حتى إني كنت لأتشدد- و النعاس يجلد بي الأرض فما أطيق إلا ذلك- فكان رسول الله ص و أصحابه على مثل ذلك الحال- و قال سعد بن أبي وقاص لقد رأيتني- و إن ذقني بين ثديي فما أشعر حتى أقع على جنبي- . و قال رفاعة بن رافع بن مالك لقد غلبني النوم- فاحتلمت حتى اغتسلت آخر الليل- . قال الواقدي فلما تحول رسول الله ص إلى المنزل- بعد أن أخذ السقاء- أرسل عمار بن ياسر و عبد الله بن مسعود- فأطافا بالقوم ثم رجعا إليه- فقالا له يا رسول الله القوم مذعورون فزعون- إن الفرس ليريد أن يصهل فيضرب وجهه- مع أن السماء تسح عليهم- .
قال الواقدي فلما أصبحوا قال منبه بن الحجاج- و كان رجلا يبصر الأثر- هذا و الله أثر ابن سمية و ابن أم عبد أعرفهما- لقد جاءنا محمد بسفهائنا و سفهاء أهل يثرب- ثم قال لم يترك الجوع لنا مبيتا لا بد أن نموت أو نميتا- . يا معشر قريش انظروا غدا إن لقينا محمد و أصحابه- فاتقوا على شبانكم و فتيانكم بأهل يثرب- فإنا إن نرجع بهم إلى مكة- يبصروا من ضلالتهم ما فارقوا من دين آبائهم- . قال الواقدي و لما نزل رسول الله ص على القليب- بني له عريش من جريد- فقام سعد بن معاذ على باب العريش متوشحا سيفه- فدخل النبي ص و أبو بكر- .
قلت لأعجب من أمر العريش من أين كان لهم- أو معهم من سعف النخل ما يبنون به عريشا- و ليس تلك الأرض أعني أرض بدر أرض نخل- و الذي كان معهم من سعف النخل- يجري مجرى السلاح كان يسيرا جدا- قيل إنه كان بأيدي سبعة منهم سعاف عوض السيوف- و الباقون كانوا بالسيوف و القسي- و هذا قول شاذ- و الصحيح أنه ما خلا أحد منهم عن سلاح- اللهم إلا أن يكون معهم سعافات يسيرة- و ظلل عليها بثوب أو ستر- و إلا فلا أرى لبناء عريش- من جريد النخل هناك وجها- .
قال الواقدي- و صف رسول الله ص أصحابه قبل أن تنزل قريش- فطلعت قريش و رسول الله ص يصف أصحابه- و قد أترعوا حوضا يفرطون فيه من السحر- و قذفت فيه الآنية- و دفع رسول الله ص رايته إلى مصعب بن عمير- فتقدم بها إلى الموضع الذي أمره أن يضعها- و وقف رسول الله ص ينظر إلى الصفوف- فاستقبل المغارب و جعل الشمس خلفه- و أقبل المشركون فاستقبلوا الشمس- و نزل بالعدوة الدنيا من الوادي- و نزلوا بالعدوة اليمانية و هي القصوى- و جاءه رجل من أصحابه فقال يا رسول الله- إن كان هذا عن وحي فامض له- و إلا فإني أرى أن تعلوا الوادي- فإني أرى ريحا قد هاجت من أعلاها- و أراها بعثت بنصرك- فقال رسول الله ص قد صففت صفوفي- و وضعت رايتي فلا أغير ذلك- ثم دعا رسول الله ص فأمده الله بالملائكة- .
قال الواقدي و روى عروة بن الزبير- قال عدل رسول الله ص الصفوف يومئذ- فتقدم سواد بن غزية أمام الصف- فدفع النبي ص بقدح في بطنه- و قال استو يا سواد- فقال أوجعتني و الذي بعثك بالحق- أقدني فكشف ص عن بطنه- و قال استقد فاعتنقه و قبله- فقال ما حملك على ما صنعت- قال حضر يا رسول الله من أمر الله ما قد ترى- و خشيت القتل- فأردت أن يكون آخر عهدي بك و أن أعتنقك- .
قال الواقدي فحدثني موسى بن يعقوب عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير بن مطعم عن رجل من بني أود قال سمعت عليا ع يخطب على منبر الكوفة و يقول بينا أنا أميح في قليب بدر- جاءت ريح لم أر مثلها قط شدة- ثم ذهبت فجاءت أخرى- لم أر مثلها إلا التي كانت قبلها- ثم جاءت ريح أخرى لم أر مثلها إلا الأوليين- فكانت الأولى جبريل في ألف مع رسول الله ص- و الثانية ميكائيل في ألف عن ميمنته- و الثالثة إسرافيل في ألف عن ميسرته- فلما هزم الله أعداءه- حملني رسول الله ص على فرس- فجرت بي فلما جرت بي خررت على عنقها- فدعوت ربي فأمسكني حتى استويت- و ما لي و للخيل و إنما كنت صاحب الحشم- فلما استويت طعنت فيهم بيدي هذه- حتى اختضبت مني ذي يعني إبطه قلت أكثر الرواة يروونه- فحملني رسول الله على فرسه- و الصحيح ما ذكرناه- لأنه لم يكن لرسول الله ص فرس يوم بدر- و إنما حضرها راكب بعير- و لكنه لما اصطدم الصفان- و قتل قوم من فرسان المشركين- حمل رسول الله ص عليا ع على بعض الخيل المأخوذة منهم- .
قال الواقدي- قالوا كان على ميمنة رسول الله ص أبو بكر- و كان على ميسرته علي بن أبي طالب ع- و كان على ميمنة قريش هبيرة بن أبي وهب المخزومي- و على ميسرتهم عمرو بن عبد ود- قيل كان زمعة بن الأسود على ميسرتهم- و قيل بل كان على خيل المشركين- و قيل الذي على الخيل الحارث بن هشام- و قال قوم لم يكن هبيرة على الميمنة- بل كان عليها الحارث بن عامر بن نوفل- . قال الواقدي- و حدثني محمد بن صالح عن يزيد بن رومان- و ابن أبي حبيبة- قالا ما كان على ميمنة النبي ص يوم بدر- و لا على ميسرته أحد يسمى- و كذلك ميمنة المشركين و ميسرتهم ما سمعنا فيها بأحد قال الواقدي و هذا هو الثبت عندنا- قال و كان لواء رسول الله ص يومئذ الأعظم- لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير- و لواء الخزرج مع الحباب بن المنذر- و لواء الأوس مع سعد بن معاذ- و كان مع قريش ثلاثة ألوية- لواء مع أبي عزيز و لواء مع المنذر بن الحارث- و لواء مع طلحة بن أبي طلحة- .
قال الواقدي و خطب رسول الله ص المسلمين يومئذ- فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد- فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه- و أنهاكم عما نهاكم الله عنه- فإن الله عظيم شأنه- يأمر بالحق و يحب الصدق- و يعطي على الخير أهله- على منازلهم عنده به يذكرون و به يتفاضلون- و إنكم أصبحتم بمنزل من منازل الحق- لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه- و إن الصبر في البأس مما يفرج الله به الهم- و ينجي به من الغم- تدركون به النجاة في الآخرة- فيكم نبي الله يحذركم و يأمركم- فاستحيوا اليوم أن يطلع الله على شيء من أمركم- يمقتكم عليه- فإنه تعالى يقول- لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ- انظروا إلى الذي أمركم به من كتابه- و أراكم من آياته و ما أعزكم به بعد الذلة- فاستمسكوا به يرض ربكم عنكم- و ابلوا ربكم في هذه المواطن أمرا- تستوجبون به الذي وعدكم من رحمته و مغفرته- فإن وعده حق و قوله صدق و عقابه شديد- و إنما أنا و أنتم بالله الحي القيوم- إليه ألجأنا ظهورنا و به اعتصمنا- و عليه توكلنا و إليه المصير و يغفر الله لي و للمسلمين – .
قال الواقدي- و لما رأى رسول الله ص قريشا تصوب من الوادي- و كان أول من طلع زمعة بن الأسود- على فرس له يتبعه ابنه- فاستجال بفرسه يريد أن يبنوا للقوم منزلا- فقال رسول الله ص اللهم إنك أنزلت علي الكتاب و أمرتني بالقتال- و وعدتني إحدى الطائفتين- و أنت لا تخلف الميعاد- اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها و فخرها- تخاذل و تكذب رسولك- اللهم نصرك الذي وعدتني اللهم أحنهم الغداة
– و طلع عتبة بن ربيعة على جمل أحمر- فقال رسول الله ص- إن يك في أحد من القوم خير- ففي صاحب الجمل الأحمر- إن يطيعوه يرشدوا- .
قال الواقدي- و كان إيماء بن رحضة قد بعث إلى قريش ابنا له- بعشر جزائر حين مروا به أهداها لهم- و قال إن أحببتم أن يمدكم بسلاح و رجال- فإنا معدون لذلك مؤدون فعلنا- فأرسلوا أن وصلتك رحم- قد قضيت الذي عليك- و لعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم- و لئن كنا نقاتل الله بزعم محمد- فما لأحد بالله طاقة- . قال الواقدي فروى خفاف بن إيماء بن رحضة- قال كان أبي ليس شيء أحب إليه من إصلاح بين الناس- موكلا بذلك- فلما مرت به قريش أرسلني بجزائر عشر هدية لها- فأقبلت أسوقها و تبعني أبي- فدفعتها إلى قريش فقبلوها و وزعوها في القبائل- فمر أبي على عتبة بن ربيعة و هو سيد الناس يومئذ- فقال يا أبا الوليد ما هذا المسير- قال لا أدري و الله غلبت- قال فأنت سيد العشيرة- فما يمنعك أن ترجع بالناس و تحمل دم حليفك- و تحمل العير التي أصابوا بنخلة- فتوزعها على قومك- فو الله ما يطلبون قبل محمد إلا هذا- و الله يا أبا الوليد ما تقتلون بمحمد و أصحابه- إلا أنفسكم- . قال الواقدي- و حدثني ابن أبي الزناد عن أبيه- قال ما سمعنا بأحد سار بغير مال إلا عتبة بن ربيعة- .
قال الواقدي و روى محمد بن جبير بن مطعم- قال لما نزل القوم أرسل رسول الله ص- عمر بن الخطاب إلى قريش- فقال ارجعوا فلأن يلي هذا الأمر مني غيركم- أحب إلي من أن تلوه مني- و أن أليه من غيركم أحب إلى من أن أليه منكم- فقال حكيم بن حزام قد عرض نصفا فلبوه- و الله لا تنصرون عليه- بعد أن عرض عليكم من النصف ما عرض- و قال أبو جهل لا نرجع بعد أن أمكننا الله منهم- و لا نطلب أثرا بعد عين- و لا يعرض لعيرنا بعد هذا أبدا- .
قال الواقدي- و أقبل نفر من قريش حتى وردوا الحوض- منهم حكيم بن حزام فأراد المسلمون تنحيتهم عنه- فقال النبي ص دعوهم- فوردوا الماءفشربوا- فلم يشرب منهم أحد إلا قتل- إلا ما كان من حكيم بن حزام- . قال الواقدي فكان سعيد بن المسيب يقول- نجا حكيم من الدهر مرتين- لما أراد الله تعالى به من الخير- خرج رسول الله ص على نفر من المشركين- و هم جلوس يريدونه- فقرأ يس و نثر على رءوسهم التراب- فما أفلت منهم أحد إلا قتل ما عدا حكيم بن حزام- و ورد الحوض يوم بدر مع من ورده مع المشركين- فما ورده إلا من قتل إلا حكيم بن حزام- .
قال الواقدي فلما اطمأن القوم- بعثوا عمير بن وهب الجمحي و كان صاحب قداح- فقالوا احزر لنا محمدا و أصحابه- فاستجال بفرسه حول العسكر- و صوب في الوادي و صعد يقول- عسى أن يكون لهم مدد أو كمين- ثم رجع فقال لا مدد و لا كمين- و القوم ثلاثمائة إن زادوا قليلا- و معهم سبعون بعيرا و معهم فرسان- ثم قال يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا- نواضح يثرب تحمل الموت الناقع- قوم ليس لهم منعة و لا ملجأ إلا سيوفهم- أ لا ترونهم خرسا لا يتكلمون- يتلمظون تلمظ الأفاعي- و الله ما أرى أن يقتل منهم رجل حتى يقتل رجلا- فإذا أصابوا منكم عددهم- فما خير في العيش بعد ذلك فروا رأيكم- .
قال الواقدي- و حدثني يونس بن محمد الظفري عن أبيه- أنه قال لما قال لهم عمير بن وهب هذه المقالة- أرسلوا أبا أسامة الجشمي و كان فارسا- فأطاف بالنبي ص و أصحابه- ثم رجع إليهم فقالوا له ما رأيت- قال و الله ما رأيت جلدا و لا عددا و لا حلقة و لا كراعا- و لكني و الله رأيت قوما- لا يريدون أن يردوا إلى أهليهم- رأيت قوما مستميتين- ليست معهم منعة و لا ملجأ إلا سيوفهم- زرق العيون كأنهم الحصا تحت الحجف- ثم قال أخشى أن يكون لهم كمين أو مدد- فصوب في الوادي ثم صعد ثم رجع إليهم- فقال لا كمين و لا مدد فروا رأيكم- .
قال الواقدي- و لما سمع حكيم بن حزام ما قال عمير بن وهب- مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة- فقال يا أبا الوليد- أنت كبير قريش و سيدها و المطاع فيها- فهل لك ألا تزال تذكر فيها بخير آخر الدهر- مع ما فعلت يوم عكاظ- و عتبة يومئذ رئيس الناس- فقال و ما ذاك يا أبا خالد- قال ترجع بالناس و تحمل دم حليفك- و ما أصابه محمد من تلك العير ببطن نخلة- إنكم لا تطلبون من محمد شيئا غير هذا الدم و العير- فقال عتبة قد فعلت و أنت علي بذلك- ثم جلس عتبة على جمله فسار في المشركين من قريش- يقول يا قوم أطيعوني- و لا تقاتلوا هذا الرجل و أصحابه- و اعصبوا هذا الأمر برأسي و اجعلوا جبنها في- فإن منهم رجالا قرابتهم قريبة- و لا يزال الرجل منكم ينظر إلى قاتل أبيه و أخيه- فيورث ذلك بينكم شحناء و أضغانا- و لن تخلصوا إلى قتلهم حتى يصيبوا منكم عددهم- مع أنه لا آمن أن تكون الدائرة عليكم- و أنتم لا تطلبون إلا دم القتيل منكم- و العير التي أصيبت و أنا أحتمل ذلك- و هو علي يا قوم إن يك محمد كاذبا يكفيكموه ذؤبان العرب- و إن يك ملكا كنتم في ملك ابن أخيكم- و إن يك نبيا كنتم أسعد الناس به- يا قوم لا تردوا نصيحتي و لا تسفهوا رأيي- فحسده أبو جهل حين سمع خطبته- و قال إن يرجع الناس عن خطبة عتبة- يكن سيد الجماعة- و كان عتبة أنطق الناس- و أطولهم لسانا و أجملهم جمالا- ثم قال عتبة لهم أنشدكم الله في هذه الوجوه- التي كأنها المصابيح- أن تجعلوها أندادا لهذه الوجوه- التي كأنها وجوه الحيات- فلما فرغ عتبة من كلامه- قال أبو جهل إن عتبة يشير عليكم بهذا-لأن محمدا ابن عمه- و هو يكره أن يقتل ابنه و ابن عمه- امتلأ و الله سحرك يا عتبة و جبنت- حين التقت حلقتا البطان- الآن تخذل بيننا و تأمرنا بالرجوع- لا و الله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا و بين محمد- فغضب عتبة فقال يا مصفرا استه- ستعلم أينا أجبن و ألأم- و ستعلم قريش من الجبان المفسد لقومه و أنشد-
هذاي و أمرت أمري
فبشري بالثكل أم عمرو
قال الواقدي- و ذهب أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي- أخي عمرو بن الحضرمي المقتول بنخلة- فقال له هذا حليفك يعني عتبة- يريد أن يرجع بالناس و قد رأيت ثأرك بعينك- و تخذل بين الناس أ قد تحمل دم أخيك- و زعم أنك قابل الدية- أ لا تستحي تقبل الدية- و قد قدرت على قاتل أخيك- قم فانشد خفرتك فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف- ثم حثا على استه التراب و صرخ وا عمراه- يخزي بذلك عتبة لأنه حليفه من بين قريش- فأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة- و حلف عامر لا يرجع حتى يقتل من أصحاب محمد- و قال أبو جهل لعمير بن وهب حرش بين الناس- فحمل عمير فناوش المسلمين لأن ينفض الصف- فثبت المسلمون على صفهم و لم يزولوا- و تقدم ابن الحضرمي فشد على القوم فنشبت الحرب- .
قال الواقدي- فروى نافع بن جبير عن حكيم بن حزام- قال لما أفسد الرأي أبو جهل على الناس- و حرش بينهم عامر بن الحضرمي فأقحم فرسه- كان أول من خرج إليه من المسلمين- مهجع مولى عمر بن الخطاب فقتله عامر- و كان أول قتيل قتل من الأنصار حارثة بن سراقة- قتله حيان بن العرقة- . قال الواقدي و قال عمر بن الخطاب في مجلس ولايته- يا عمير بن وهب أنت حاذرنا للمشركين يوم بدر- تصعد في الوادي و تصوب- كأني أنظر إلى فرسك تحتك تخبر المشركين- أنه لا كمين لنا و لا مدد- قال إي و الله يا أمير المؤمنين و أخرى- أنا و الله الذي حرشت بين الناس يومئذ- و لكن الله جاءنا بالإسلام و هدانا له- و ما كان فينا من الشرك أعظم من ذلك- قال عمر صدقت- .
قال الواقدي- و كان عتبة بن ربيعة كلم حكيم بن حزام- و قال ليس عند أحد خلاف إلا عند ابن الحنظلية- فاذهب إليه فقل له إن عتبة يحمل دم حليفه- و يضمن العير- قال حكيم فدخلت على أبي جهل- و هو يتخلق بخلوق طيب و درعه موضوعة بين يديه- فقلت إن عتبة بن ربيعة بعثني إليك- فأقبل علي مغضبا- فقال ما وجد عتبة أحدا يرسله غيرك- فقلت و الله لو كان غيره أرسلني ما مشيت في ذلك- و لكني مشيت في إصلاح بين الناس- و كان أبو الوليد سيد العشيرة- فغضب غضبة أخرى-
قال و تقول أيضا سيد العشيرة- فقلت أنا أقوله و قريش كلها تقوله- فأمر عامرا أن يصيح بخفرته و اكتشف- و قال إن عتبة جاع فاسقوه سويقا- و جعل المشركين يقولون- عتبة جاع فاسقوه سويقا- و جعل أبو جهل يسر بما صنع المشركون بعتبة- قال حكيم فجئت إلى منبه بن الحجاج- فقلت له مثل ما قلت لأبي جهل- فوجدته خيرا من أبي جهل- قال نعما مشيت فيه و ما دعا إليه عتبة- فرجعت إلى عتبة فوجدته قد غضب من كلام قريش- فنزل عن جمله- و قد كان طاف عليهم في عسكرهم- يأمرهم بالكف عن القتال- فيأبون فحمي فنزل فلبس درعه- و طلبوا له بيضة فلم يوجد في الجيش بيضة- تسع رأسه من عظم هامته- فلما رأى ذلك اعتجر- ثم برز راجلا بين أخيه شيبة و بين ابنه الوليد بن عتبة- فبينا أبو جهل في الصف على فرس أنثى- حاذاه عتبة و سل سيفه- فقيل هو و الله يقتله- فضرب بالسيف عرقوب فرس أبي جهل- فاكتسعت الفرس-و قال انزل فإن هذا اليوم ليس بيوم ركوب- ليس كل قومك راكبا- فنزل أبو جهل و عتبة يقول- سيعلم أينا شؤم عشيرته الغداة- قال حكيم فقلت تالله ما رأيت كاليوم- .
قال الواقدي- ثم دعا عتبة إلى المبارزة و رسول الله ص في العريش- و أصحابه على صفوفهم فاضطجع فغشيه النوم- و قال لا تقاتلوا حتى أوذنكم- و إن كثبوكم فارموهم- و لا تسلوا السيوف حتى يغشوكم- فقال أبو بكر يا رسول الله قد دنا القوم- و قد نالوا منا فاستيقظ- و قد أراه الله إياهم في منامه قليلا- و قلل بعضهم في أعين بعض- ففزع رسول الله ص و هو رافع يديه- يناشد ربه ما وعده من النصر- و يقول اللهم إن تظهر علي هذه العصابة- يظهر الشرك و لا يقم لك دين – و أبو بكر يقول- و الله لينصرنك الله و ليبيضن وجهك- قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله- إني أشير عليك و أنت أعظم و أعلم بالله- من أن يشار عليك- إن الله أجل و أعظم من أن ينشد وعده- فقال ع يا ابن رواحة- أ لا أنشد الله وعده- إن الله لا يخلف الميعاد- و أقبل عتبة يعمد إلى القتال- فقال له حكيم بن حزام- مهلا مهلا يا أبا الوليد- لا تنه عن شيء و تكون أوله- .
قال الواقدي قال خفاف بن إيماء- فرأيت أصحاب النبي ص يوم بدر- و قد تصاف الناس و تزاحفوا و هم لا يسلون السيوف- و لكنهم قد انتضوا القسي- و قد تترس بعضهم عن بعض- بصفوف متقاربة لا فرج بينها- و الآخرون قد سلوا السيوف حين طلعوا- فعجبت من ذلك- فسألت بعد ذلك رجلا من المهاجرين- فقال أمرنا رسول الله ص ألا نسل السيوف حتى يغشونا- . قال الواقدي- فلما تزاحف الناس قال الأسود بن عبد الأسد المخزومي- حين دنا من الحوض- أعاهد الله لأشربن من حوضهم- أو لأهدمنه أو لأموتن دونه- فشد حتى دنا من الحوض- و استقبله حمزة بن عبد المطلب- فضربه فأطن قدمه- فزحف الأسود ليبر قسمه زعم- حتى وقف في الحوض فهدمه برجله الصحيحة- و شرب منه و أتبعه حمزة فضربه في الحوض فقتله- و المشركون ينظرون ذلك على صفوفهم- .
قال الواقدي- و دنا الناس بعضهم من بعض- فخرج عتبة و شيبة و الوليد حتى فصلوا من الصف- ثم دعوا إلى المبارزة- فخرج إليهم فتيان ثلاثة من الأنصار و هم بنو عفراء- معاذ و معوذ و عوف بنو الحارث- و يقال إن ثالثهم عبد الله بن رواحة- و الثابت عندنا أنهم بنو عفراء- فاستحى رسول الله ص من ذلك- و كره أن يكون أول قتال- لقي المسلمون فيه المشركين في الأنصار- و أحب أن تكون الشوكة لبني عمه و قومه- فأمرهم فرجعوا إلى مصافهم و قال لهم خيرا- ثم نادى منادي المشركين- يا محمد أخرج إلينا الأكفاء من قومنا- فقال لهم رسول الله ص يا بني هاشم قوموا فقاتلوا- بحقكم الذي بعث الله به نبيكم- إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله- فقام حمزة بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب- و عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف- فمشوا إليهم فقال عتبة- تكلموا نعرفكم و كان عليهم البيض- فأنكروهم فإن كنتم أكفاءنا قاتلناكم و روى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي- خلاف هذه الرواية- قال إن بني عفراء و عبد الله بن رواحة- برزوا إلى عتبة و شيبة و الوليد- فقالوا لهم من أنتم قالوا رهط من الأنصار- فقالوا ارجعوا فما لنا بكم من حاجة- ثم نادى مناديهم يا محمد-أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا- فقال رسول الله ص قم يا فلان قم يا فلان قم يا فلان- .
قلت و هذه الرواية أشهر من رواية الواقدي- و في رواية الواقدي ما يؤكد صحة رواية محمد بن إسحاق- و هو قوله إن منادي المشركين نادى يا محمد- أخرج إلينا الأكفاء من قومنا- فلو لم يكن قد كلمهم بنو عفراء و كلموهم و ردوهم- لما نادى مناديهم بذلك- و يدل على ذلك قول بعض القرشيين- لبعض الأنصار في فخر فخر به عليه- أنا من قوم لم يرض مشركوهم- أن يقتلوا مؤمني قومك- . قال الواقدي فقال حمزة أنا حمزة بن عبد المطلب- أسد الله و أسد رسوله- فقال عتبة كفء كريم و أنا أسد الحلفاء- من هذان معك قال علي بن أبي طالب- و عبيدة بن الحارث بن المطلب- فقال كفآن كريمان- .
قال الواقدي قال ابن أبي الزناد حدثني أبي- قال لم أسمع لعتبة كلمة قط أوهن من قوله- أنا أسد الحلفاء يعني بالحلفاء الأجمة- . قلت قد روي هذه الكلمة على صيغة أخرى- و أنا أسد الحلفاء- و روي أنا أسد الأحلاف- . قالوا في تفسيرهما أراد أنا سيد أهل الحلف المطيبين- و كان الذين حضروه بني عبد مناف- و بني أسد بن عبد العزى و بني تيم- و بني زهرة و بني الحارث بن فهر- خمس قبائل- و رد قوم هذا التأويل- فقالوا إن المطيبين لم يكن يقال لهم- الحلفاء و لا الأحلاف- و إنما ذلك لقب خصومهم و أعدائهم- الذين وقع التحالف لأجلهم- و هم بنو عبد الدار و بنو مخزوم- و بنو سهم و بنو جمح و بنو عدي بن كعب- خمس قبائل- و قال قوم في تفسيرهما إنما عنى حلف الفضول- و كان بعد حلف المطيبين بزمان- و شهد حلف الفضول رسول الله ص- و هو صغير في دار ابن جدعان- و كان سببه أن رجلا من اليمن قدم مكة بمتاع- فاشتراه العاص بن وائل السهمي و مطله بالثمن حتى أتعبه- فقام بالحجر و ناشد قريشا ظلامته- فاجتمع بنو هاشم و بنو أسد بن عبد العزى- و بنو زهرة و بنو تميم في دار ابن جدعان- فتحالفوا غمسوا أيديهم في ماء زمزم- بعد أن غسلوا به أركان البيت- أن ينصروا كل مظلوم بمكة- و يردوا عليه ظلامته و يأخذوا على يد الظالم- و ينهوا عن كل منكر ما بل بحر صوفة- فسمي حلف الفضول لفضله- و
قد ذكره رسول الله ص فقال شهدته و ما أحب أن لي به حمر النعم- و لا يزيده الإسلام إلا شدة – و هذا التفسير أيضا غير صحيح- لأن بني عبد الشمس لم يكونوا في حلف الفضول- فقد بان أن ما ذكره الواقدي أصح و أثبت- .
قال الواقدي ثم قال عتبة لابنه- قم يا وليد فقام الوليد و قام إليه علي- و كانا أصغر النفر فاختلفا ضربتين- فقتله علي بن أبي طالب ع- ثم قام عتبة و قام إليه حمزة فاختلفا ضربتين- فقتله حمزة رضي الله عنه- ثم قام شيبة و قام إليه عبيدة- و هو يومئذ أسن أصحاب رسول الله ص- فضرب شيبة رجل عبيدة بذباب السيف- فأصاب عضلة ساقه فقطعها- و كر حمزة و علي على شيبة فقتلاه- و احتملا عبيدة فحازاه إلى الصف- و مخ ساقه يسيل- فقال عبيدة يا رسول الله أ لست شهيدا- قال بلى قال أما و الله لو كان أبو طالب حيا- لعلم أني أحق بما قال حين يقول-
كذبتم و بيت الله نخلي محمدا
و لما نطاعن دونه و نناضل
و ننصره حتى نصرع حوله
و نذهل عن أبنائنا و الحلائل
و نزلت فيهم هذه الآية- هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ- .و روى محمد بن إسحاق- أن عتبة بارز عبيدة بن الحارث- و أن شيبة بارز حمزة بن عبد المطلب- فقتل حمزة شيبة لم يمهله أن قتله- و لم يمهل علي الوليد أن قتله- و اختلف عبيدة و عتبة بينهما ضربتين- كلاهما أثبت صاحبه- و كر حمزة و علي ع على عتبة بأسيافهما- حتى وقعا عليه و احتملا صاحبهما- فحازاه إلى الصف- . قلت- و هذه الرواية توافق ما يذكره أمير المؤمنين ع في كلامه- إذ يقول لمعاوية- و عندي السيف الذي أعضضت به- أخاك و خالك و جدك يوم بدر- و يقول في موضع آخر- قد عرفت مواقع نصالها في أخيك و خالك و جدك- و ما هي من الظالمين ببعيد- . و اختار البلاذري رواية الواقدي- و قال إن حمزة قتل عتبة- و إن عليا ع قتل الوليد و شرك في قتل شيبة- .
و هذا هو المناسب لأحوالهم من طريق السن- لأن شيبة أسن الثلاثة- فجعل بإزاء عبيدة و هو أسن الثلاثة- و الوليد أصغر الثلاثة سنا- فجعل بإزاء علي ع و هو أصغر الثلاثة سنا- و عتبة أوسطهم سنا فجعل بإزاء حمزة- و هو أوسطهم سنا- و أيضا فإن عتبة كان أمثل الثلاثة- فمقتضى القياس أن يكون قرنه أمثل الثلاثة- و هو حمزة إذ ذاك- لأن عليا ع لم يكن قد اشتهر أمره جدا- و إنما اشتهر الشهرة التامة بعد بدر- و لمن روى أن حمزة بارز شيبة و هي رواية ابن إسحاق- أن ينتصر بشعر هند بنت عتبة ترثي أباها-
أ عيني جودا بدمع سرب
على خير خندف لم ينقلب
تداعى له رهطه قصرة
بنو هاشم و بنو المطلب
يذيقونه حر أسيافهم
يعلونه بعد ما قد عطب
فإذا كانت قد قالت إن عتبة أباها- أذاقه بنو هاشم و بنو المطلب حر أسيافهم- فقد ثبت أن المبارز لعتبة إنما هو عبيدة- لأنه من بني المطلب جرح عتبة- فأثبته ثم ذفف عليه حمزة و علي ع- فأما الشيعة فإنها تروي أن حمزة بادر عتبة فقتله- و أن اشتراك علي و حمزة إنما هو في دم شيبة- بعد أن جرحه عبيدة بن الحارث- هكذا ذكر محمد بن النعمان في كتاب الإرشاد- و هو خلاف ما تنطق به كتب أمير المؤمنين ع إلى معاوية- و الأمر عندي مشتبه في هذا الموضع- .
و روى محمد بن النعمان عن أمير المؤمنين ع أنه كان يذكر يوم بدر و يقول- أختلف أنا و الوليد بن عتبة ضربتين- فأخطأتني ضربته- و أضربه فاتقاني بيده اليسرى فأبانها السيف- فكأني أنظر إلى وميض خاتم في شماله- ثم ضربته أخرى فصرعته و سلبته- فرأيت به الردع من خلوق- فعلمت أنه قريب عهد بعرس قال الواقدي- و قد روي أن عتبة بن ربيعة حين دعا إلى البراز- قام إليه ابنه أبو حذيفة بن عتبة يبارزه- فقال له النبي ص اجلس- فلما قام إليه النفر- أعان أبو حذيفة على أبيه عتبة بضربة- .
قال الواقدي و أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه- قال شيبة أكبر من عتبة بثلاث سنين- و حمزة أسن من النبي ص بأربع سنين- و العباس أسن من النبي ص بثلاث سنين- . قال الواقدي و استفتح أبو جهل يوم بدر- فقال اللهم أقطعنا للرحم و آتانا بما لا يعلم- فأحنه الغداة فأنزل الله تعالى- إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ الآية- .
قال الواقدي و روى عروة عن عائشة- أن النبي ص جعل شعار المهاجرين يوم بدر- يا بني عبد الرحمن- و شعار الخزرج يا بني عبد الله- و شعار الأوس يا بني عبد الله- . قال و روى زيد بن علي بن الحسين ع- أن شعار رسول الله ص يوم بدر يا منصور أمت- . قال الواقدي- و نهى رسول الله ص عن قتل أبي البختري- و كان قد لبس السلاح بمكة يوما قبل الهجرة- في بعض ما كان ينال النبي ص من الأذى- و قال لا يعرض اليوم أحد لمحمد بأذى- إلا وضعت فيه السلاح- فشكر ذلك له النبي ص- قال أبو داود المازني فلحقته يوم بدر- فقلت له إن رسول الله ص- قد نهى عن قتلك إن أعطيت بيدك- قال و ما تريد إلي إن كان قد نهى عن قتلي- فقد كنت أبليته ذلك- فأما أن أعطي بيدي- فو اللات و العزى لقد علمت نسوة بمكة أني لا أعطي بيدي- و قد عرفت أنك لا تدعني فافعل الذي تريد- فرماه أبو داود بسهم- و قال اللهم سهمك و أبو البختري عبدك- فضعه في مقتله- و أبو البختري دارع ففتق السهم الدرع فقتله- .
قال الواقدي- و يقال إن المجذر بن ذياد قتل أبا البختري و لا يعرفه- و قال المجذر في ذلك شعرا عرف منه أنه قاتله- . و في رواية محمد بن إسحاق- أن رسول الله ص نهى يوم بدر عن قتل أبي البختري- و اسمه الوليد بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى- لأنه كان أكفالناس عن رسول الله ص بمكة- كان لا يؤذيه و لا يبلغه عنه شيء يكرهه- و كان فيمن قام في نقض الصحيفة- التي كتبتها قريش على بني هاشم- فلقيه المجذر بن ذياد البلوي حليف الأنصار- فقال له إن رسول الله ص نهانا عن قتلك- و مع أبي البختري زميل له خرج معه من مكة- يقال له جنادة بن مليحة فقال البختري و زميلي- قال المجذر و الله ما نحن بتاركي زميلك- ما نهانا رسول الله ص إلا عنك وحدك- قال إذا و الله لأموتن أنا و هو جميعا- لا تتحدث عني نساء أهل مكة- أني تركت زميلي حرصا على الحياة- فنازله المجذر و ارتجز أبو البختري فقال-
لن يسلم ابن حرة زميله
حتى يموت أو يرى سبيله
ثم اقتتلا فقتله المجذر- و جاء إلى رسول الله ص فأخبره- و قال و الذي بعثك بالحق- لقد جهدت أن يستأسر فآتيك به- فأبى إلا القتال فقاتلته فقتلته- . قال الواقدي- و نهى النبي ص عن قتل الحارث بن عامر بن نوفل- و قال ائسروه و لا تقتلوه و كان كارها للخروج إلى بدر- فلقيه خبيب بن يساف فقتله و لا يعرفه- فبلغ النبي ص ذلك- فقال لو وجدته قبل أن يقتل لتركته لنسائه- و نهى عن قتل زمعة بن الأسود- فقتله ثابت بن الجذع و لا يعرفه- . قال الواقدي- و ارتجز عدي بن أبي الزغباء يوم بدر فقال-
أنا عدي و السحل
أمشي بها مشي الفحل
يعني درعه- فقال النبي ص من عدي- فقال رجل من القوم أنا يا رسول الله- قال و ما ذا قال ابن فلان- قال لست أنت عديا- فقال عدي بن أبيالزغباء- أنا يا رسول الله عدي قال و ما ذا- قال و السحل أمشي بها مشي الفحل- قال النبي ص و ما السحل- قال درعي فقال ص- نعم العدي عدي بن أبي الزغباء- . قال الواقدي و كان عقبة بن أبي معيط قال بمكة- حين هاجر رسول الله ص إلى المدينة-
يا راكب الناقة القصواء ها
جرنا عما قليل تراني راكب الفرس
أعل رمحي فيكم ثم أنهله
و السيف يأخذ منكم كل ملتبس
فبلغ قوله النبي ص- فقال اللهم أكبه لمنخره و اصرعه- فجمح به فرسه يوم بدر بعد أن ولى الناس- فأخذه عبد الله بن سلمة العجلاني أسيرا- و أمر النبي ص عاصم بن أبي الأقلح فضرب عنقه صبرا- . قال الواقدي و كان عبد الرحمن يحدث يقول- إني لأجمع أدراعا يوم بدر بعد أن ولى الناس- فإذا أمية بن خلف و كان لي صديقا في الجاهلية- و كان اسمي عبد عمرو- فلما جاء الإسلام تسميت عبد الرحمن- فكان يلقاني بمكة فيقول يا عبد عمرو فلا أجيبه- فيقول إني لا أقول لك عبد الرحمن- إن مسيلمة باليمامة تسمى بالرحمن- فأنا لا أدعوك إليه- فكان يدعوني عبد الإله- فلما كان يوم بدر رأيته و كأنه جمل يساق- و معه ابنه علي فناداني يا عبد عمرو- فأبيت أن أجيبه فناداني يا عبد الإله- فأجبته فقال أ ما لكم حاجة في اللبن- نحن خير لك من أدرعك هذه- فقلت امضيا فجعلت أسوقهما أمامي- و قد رأى أمية أنه قد أمن بعض الأمن- فقال لي أمية رأيت رجلا فيكم اليوم- معلما في صدره بريشة نعامة من هو- فقلت حمزة بن عبد المطلب-فقال ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل- ثم قال فمن رجل دحداح قصير معلم بعصابة حمراء- قلت ذاك رجل من الأنصار يقال له سماك بن خرشة- قال و بذاك أيضا يا عبد الإله صرنا اليوم جزرا لكم- قال فبينا هو معي أزجيه أمامي و معه ابنه- إذ بصر به بلال و هو يعجن عجينا له فترك العجين- و جعل يفتل يديه منه فتلا ذريعا- و هو ينادي يا معشر الأنصار أمية بن خلف رأس الكفر- لا نجوت إن نجوت قال لأنه كان يعذبه بمكة- فأقبلت الأنصار كأنهم عوذ حنت إلى أولادها- حتى طرحوا أمية على ظهره- و اضطجعت عليه أحميه منهم- فأقبل الخباب بن المنذر فأدخل سيفه- فاقتطع أرنبة أنفه- فلما فقد أمية أنفه قال لي إيها عنك- أي خل بيني و بينهم- قال عبد الرحمن فذكرت قول حسان- أو عن ذلك الأنف جادع- .
قال و يقبل إليه خبيب بن يساف فضربه حتى قتله- و قد كان أمية ضرب خبيب بن يساف- حتى قطع يده من المنكب- فأعادها النبي ص فالتحمت و استوت- فتزوج خبيب بن يساف بعد ذلك ابنة أمية بن خلف- فرأت تلك الضربة- فقالت لا يشل الله يد رجل فعل هذا- فقال خبيب و أنا و الله قد أوردته شعوب- فكان خبيب يحدث يقول فأضربه فوق العاتق- فأقطع عاتقه حتى بلغت مؤتزره و عليه الدرع- و أنا أقول خذها و أنا ابن يساف- و أخذت سلاحه و درعه- و أقبل علي بن أمية فتعرض له الخباب فقطع رجله- فصاح صيحة ما سمع مثلها قط- و لقيه عمار فضربه ضربة فقتله- و يقال إن عمارا لاقاه قبل ضربة الخباب- فاختلفا ضربات فقتله عمار- و الأولى أثبت أنه ضربه بعد أن قطعت رجله- . قال الواقدي و قد سمعنا في قتل أمية غير ذلك-
حدثني عبيد بن يحيى عن معاذ بن رفاعة عن أبيه- قال لما كان يوم بدر و أحدقنا بأمية بن خلف- و كان له فيهم شأن و معي رمحي و معه رمحه- فتطاعنا حتى سقطت أزجتها- ثم صرنا إلى السيفين فتضاربنا بهما حتى انثلما- ثم بصرت بفتق في درعه تحت إبطه- فحششت السيف فيه حتى قتلته- و خرج السيف عليه الودك قال الواقدي و قد سمعنا وجها آخر- حدثني محمد بن قدامة بن موسى عن أبيه- عن عائشة بنت قدامة- قالت قال صفوان بن أمية بن خلف يوما- يا قدام لقدامة بن مظعون- أنت المشلي بأبي يوم بدر الناس- فقال قدامة لا و الله ما فعلت- و لو فعلت ما اعتذرت من قتل مشرك- قال صفوان فمن يا قدام المشلي به يوم بدر- قال رأيت فتية من الأنصار أقبلوا إليه- فيهم معمر بن خبيب بن عبيد الحارث- يرفع سيفه و يضعه فيه- فقال صفوان أبو قرد و كان معمر رجلا دميما- فسمع بذلك الحارث بن حاطب فغضب له- فدخل على أم صفوان- فقال ما يدعنا صفوان من الأذى في الجاهلية و الإسلام- قالت و ما ذاك فأخبرها بمقالة صفوان لمعمر- حين قال أبو قرد فقالت أم صفوان- يا صفوان أ تنتقص معمر بن خبيب من أهل بدر- و الله لا أقبل لك كرامة سنة- قال صفوان يا أمة لا أعود و الله أبدا- تكلمت بكلمة لم ألق لها بالا- .
قال الواقدي و حدثني محمد بن قدامة عن أبيه- عن عائشة بنت قدامة- قالت قيل لأم صفوان بن أمية- و نظرت إلى الخباب بن المنذر بمكة- هذا الذي قطع رجل علي بن أمية يوم بدر- قالت دعونا عن ذكر من قتل على الشرك- قد أهان الله عليا بضربة الخباب بن المنذر- و أكرم الله الخباب بضربته عليا- و لقد كان على الإسلام حين خرج من هاهنا- فقتل على غير ذلك- .
فأما محمد بن إسحاق- فإنه قال قال عبد الرحمن بن عوف- أخذت بيد أمية بن خلف- و يد ابنه علي بن أمية أسيرين يوم بدر- فبينا أنا أمشي بينهما رآنا بلال- و كان أمية هو الذي يعذب بلالا بمكة- يخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت- فيضجعه على ظهره ثم يأمره بالصخرة العظيمة- فتوضع بحرارتها على صدره- و يقول له لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد- فيقول بلال أحد أحد لا يزيده على ذلك- فلما رآه صاح رأس الكفر أمية بن خلف- لا نجوت إن نجوت- قال عبد الرحمن فقلت أي بلال أسيري- فقال لا نجوت إن نجا- فقلت استمع يا ابن السوداء- قال لا نجوت إن نجا ثم صرخ بأعلى صوته- يا أنصار الله أمية بن خلف رأس الكفر لا نجوت إن نجا- فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة و أنا أذب عنه- و يحذف عمار بن ياسر عليا ابنه بالسيف- فأصاب رجله فوقع- و صاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط- فخليت عنه و قلت انج بنفسك و لا نجاء به- فو الله ما أغني عنك شيئا- قال فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما- قال فكان عبد الرحمن بن عوف يقول- رحم الله بلالا أذهب أدرعي و فجعني بأسيري- .
قال الواقدي و كان الزبير بن العوام يحدث فيقول- لما كان يومئذ لقيت عبيدة بن سعد بن العاص على فرس- عليه لأمة كاملة لا يرى منه إلا عيناه- و هو يقول و كانت له صبية صغيرة- يحملها و كان لها بطين و كانت مقسمة- أنا أبو ذات الكرش أنا أبو ذاتالكرش- قال و في يدي عنزة فأطعن بها في عينه و وقع- و أطؤه برجلي على خده- حتى أخرجت العنزة متعقفة و أخرجت حدقته- و أخذ رسول الله ص تلك العنزة- فكانت تحمل بين يديه- ثم صارت تحمل بين يدي أبي بكر و عمر و عثمان- .
قال الواقدي- و أقبل عاصم بن أبي عوف بن صبيرة السهمي- لما جال الناس و اختلطوا و كأنه ذئب و هو يقول- يا معشر قريش عليكم بالقاطع مفرق الجماعة- الآتي بما لا يعرف محمد- لا نجوت إن نجا- و يعترضه أبو دجانة فاختلفا ضربتين- و يضربه أبو دجانة فقتله و وقف على سلبه يسلبه- فمر به عمر بن الخطاب فقال- دع سلبه حتى يجهض العدو- و أنا أشهد لك به قال الواقدي- و يقبل معبد بن وهب أحد بني عامر بن لؤي- فضرب أبا دجانة ضربة- برك منها أبو دجانة كما يبرك الجمل- ثم انتهض و أقبل على معبد- فضربه ضربات لم يصنع سيفه شيئا- حتى يقع معبد بحفرة أمامه لا يراها- و نزل أبو دجانة عليه- فذبحه ذبحا و أخذ سلبه- .
قال الواقدي- و لما كان يومئذ و رأت بنو مخزوم مقتل من قتل- قالت أبو الحكم لا يخلص إليه- فإن ابني ربيعة عجلا و بطرا- و لم تحام عنهما عشيرتهما- فاجتمعت بنو مخزوم فأحدقوا به- فجعلوه في مثل الحرجة- و أجمعوا أن يلبسوا لأمة أبي جهل رجلا منهم- فألبسوها عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة- فصمد له علي ع فقتله و هو يراه أبا جهل- و مضى عنه و هو يقول أنا ابن عبد المطلب- ثم ألبسوها أبا قيس بن الفاكه بن المغيرة- فصمد له حمزة و هو يراه أبا جهل- فضربه فقتله و هو يقول- خذها و أنا ابن عبد المطلب- ثم ألبسوها حرملة بن عمرو- فصمد له علي ع فقتله- ثم أرادوا أن يلبسوها خالد بن الأعلم- فأبى أن يلبسها- قال معاذ بن عمرو بن الجموح- فنظرت يومئذ إلى أبي جهل في مثل الحرجة- و هم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه- فعرفت أنه هو فقلت- و الله لأموتن دونه اليوم أو لأخلصن إليه- فصمدت له حتى إذا أمكنتني منه غرة حملت عليه- فضربته ضربة طرحت رجله من الساق- فشبهتها النواة تنزو من تحت المراضخ- فأقبل ابنه عكرمة علي فضربني على عاتقي- فطرح يدي من العاتق إلا أنه بقيت جلدة- فذهبت أسحب يدي بتلك الجلدة خلفي- فلما آذتني وضعت عليها رجلي- ثم تمطيت عليها فقطعتها- ثم لاقيت عكرمة و هو يلوذ كل ملاذ- و لو كانت يدي معي لرجوت يومئذ أن أصيبه- و مات معاذ في زمن عثمان- .
قال الواقدي- فروي أن رسول الله ص- نفل معاذ بن عمرو بن الجموح سيف أبي جهل- و أنه عند آل معاذ بن عمرو اليوم و به فل- بعد أن أرسل النبي ص- إلى عكرمة بن أبي جهل- يسأله من قتل أباك- قال الذي قطعت يده- فدفع رسول الله ص سيفه إلى معاذ بن عمرو- لأن عكرمة بن أبي جهل قطع يده يوم بدر- . قال الواقدي- و ما كان بنو المغيرة يشكون أن سيف أبي الحكم- صار إلى معاذ بن عمرو بن الجموح- و أنه قاتله يوم بدر- .
قال الواقدي- و قد سمعت في قتله و أخذ سلبه غير هذا- حدثني عبد الحميد بن جعفر عن عمر بن الحكم بن ثوبان- عن عبد الرحمن بن عوف- قال عبأنا رسول الله ص بليل- فأصبحنا و نحن على صفوفنا- فإذا بغلامين ليس منهما واحد- إلا قد ربطت حمائل سيفه في عنقه لصغره- فالتفت إلي أحدهما فقال يا عم أيهم أبو جهل- قال قلت و ما تصنع به يا ابن أخي- قال بلغني أنه يسب رسول الله ص- فحلفت لئن رأيته لأقتلنه أو لأموتن دونه- فأشرت إليه فالتفت إلي الآخر و قال لي مثل ذلك- فأشرت له إليه و قلت له من أنتما- قالا ابنا الحارث- قال فجعلا لا يطرفان عن أبي جهل- حتى إذا كان القتال خلصا إليه فقتلاه و قتلهما- .
قال الواقدي فحدثني محمد بن عوف- عن إبراهيم بن يحيى بن زيد بن ثابت- قال لما كان يومئذ قال عبد الرحمن- و نظر إليهما عن يمينه و عن شماله- ليته كان إلى جنبي من هو أبدن من هذين الصبيين- فلم أنشب أن التفت إلى عوف- فقال أيهم أبو جهل- فقلت ذاك حيث ترى- فخرج يعدو إليه كأنه سبع- و لحقه أخوه فأنا أنظر إليهم- يضطربون بالسيوف- ثم نظرت إلى رسول الله ص يمر بهم في القتلى- و هما إلى جانب أبي جهل- .
قال الواقدي و حدثني محمد بن رفاعة بن ثعلبة- قال سمعت أبي ينكر ما يقول الناس- في ابني عفراء من صغرهما- و يقول كانا يوم بدر أصغرهما ابن خمس و ثلاثين سنة- فهذا يربط حمائل سيفه- قال الواقدي و القول الأول أثبت- . و روى محمد بن عمار بن ياسر- عن ربيع بنت معوذ قالت- دخلت في نسوة من الأنصار على أسماء أم أبي جهل- في زمن عمر بن الخطاب- و كان ابنها عبد الله بن أبي ربيعة- يبعث إليها بعطر من اليمن- فكانت تبيعه إلى الأعطية فكنا نشتري منها- فلما جعلت لي في قواريري- و وزنت لي كما وزنت لصواحبي- قال اكتبن لي عليكن حقي- قلت نعم اكتب لها على الربيع بنت معوذ- فقالت أسماء خلفي و إنك لابنة قاتل سيده- فقلت لا و لكن ابنة قاتل عبده- فقالت و الله لا أبيعك شيئا أبدا- فقلت أنا و الله لا أشتري منك أبدا- فو الله ما هو بطيب و لا عرف- و الله يا بني ما شممت عطرا قط كان أطيب منه- و لكني يا بني غضبت قال الواقدي فلما وضعت الحرب أوزارها- أمر رسول الله ص أن يلتمس أبو جهل-
قال ابن مسعود فوجدته في آخر رمق- فوضعت رجلي على عنقه- فقلت الحمد لله الذي أخزاك- قال إنما أخزى الله العبد ابن أم عبد- لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا- لمن الدبرة قلت لله و لرسوله- قال ابن مسعود فأقلع بيضته عن قفاه- و قلت إني قاتلك- قال لست بأول عبد قتل سيده- أما إن أشد ما لقيته اليوم لقتلك إياي- ألا يكون ولي قتلي- رجل من الأحلاف أو من المطيبين- قال فضربه عبد الله ضربة وقع رأسه بين يديه- ثم سلبه و أقبل بسلاحه و درعه و بيضته- فوضعها بين يدي رسول الله ص- فقال أبشر يا نبي الله بقتل عدو الله أبي جهل- فقال رسول الله أ حقا يا عبد الله- فو الذي نفسي بيده لهو أحب إلي من حمر النعم- أو كما قال ثم قال إنه أصابه جحش- من دفع دفعته في مأدبة ابن جدعان- فجحشت ركبته فالتمسوه- فوجدوا ذلك الأثر- .
قال الواقدي- و روي أن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي- كان عند النبي ص تلك الساعة- فوجد في نفسه- و أقبل على ابن مسعود و قال أنت قتلته- قال نعم الله قتله- قال أبو سلمة أنت وليت قتله قال نعم- قال لو شاء لجعلك في كمه- فقال ابن مسعود فقد و الله قتلته و جردته- فقال أبو سلمة فما علامته- قال شامة سوداء ببطن فخذه اليمنى- فعرف أبو سلمة النعت- فقال أ جردته و لم يجرد قرشي غيره- فقال ابن مسعود- إنه و الله لم يكن في قريش و لا في حلفائها- أحد أعدى لله و لا لرسوله منه- و ما أعتذر من شيء صنعته به فأمسك أبو سلمة- .
قال الواقدي سمع أبو سلمة بعد ذلك- يستغفر الله من كلامه في أبي جهل و قال- اللهم إنك قد أنجزت ما وعدتني فتمم علي نعمتك- قال و كان عبد الله بن عتبة بن مسعود يقول- سيف أبي جهل عندنا محلى بفضة- غنمه عبد الله بن مسعود يومئذ- . قال الواقدي اجتمع قول أصحابنا- أن معاذ بن عمرو و ابني عفراء أثبتوه- و ضرب ابن مسعود عنقه في آخر رمق- فكل شرك في قتله- . قال الواقدي و قد روي أن رسول الله ص وقف على مصرع ابني عفراء- فقال يرحم الله ابني عفراء- فإنهما قد شركا في قتل فرعون هذه الأمة- و رأس أئمة الكفر- فقيل يا رسول الله و من قتله معهما- قال الملائكة و ذفف عليه ابن مسعود- فكان قد شرك في قتله – .
قال الواقدي و حدثني معمر عن الزهري قال- قال رسول الله ص يوم بدر اللهم اكفني نوفل بن العدوية و هو نوفل بن خويلد- من بني أسد بن عبد العزى- و أقبل نوفل يومئذ يصيح و هو مرعوب- قد رأى قتل أصحابه- و كان في أول ما التقوا هم و المسلمون- يصيح بصوت له زجل رافعا عقيرته- يا معشر قريش إن هذا اليوم يوم العلاء و الرفعة- فلما رأى قريشا قد انكشفت جعل يصيح بالأنصار- ما حاجتكم إلى دمائنا- أ ما ترون من تقتلون- أ ما لكم في اللبن من حاجة- فأسره جبار بن صخر فهو يسوقه أمامه- فجعل نوفل يقول لجبار- و رأى عليا ع مقبلا نحوه- يا أخا الأنصار من هذا و اللات و العزى- إني لأرى رجلا إنه ليريدني- قال جبار هذا علي بن أبي طالب- قال نوفل- تالله ما رأيت كاليوم رجلا أسرع في قومه- فصمد له علي ع- فيضربه فينشب سيف علي في حجفته ساعة- ثم ينزعه فيضرب به ساقيه- و درعه مشتمرة فيقطعها- ثم أجهز عليه فقتله- فقال رسول الله ص من له علم بنوفل بن خويلد- قال علي ع أنا قتلته- فكبر رسول الله ص- و قال الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه – .
قال الواقدي- و أقبل العاص بن سعيد بن العاص يبحث للقتال- فالتقى هو و علي ع و قتله علي- فكان عمر بن الخطاب- يقول لابنه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص- ما لي أراك معرضا تظن أني قتلت أباك- فقال سعيد لو قتلته لكان على الباطل و كنت على الحق- قال فقال عمر إن قريشا أعظم الناس أحلاما- و أكثرها أمانة- لا يبغيهم أحد الغوائل إلا كبه الله لفيه- . قال الواقدي- و روي أن عمر قال لسعيد بن العاص- ما لي أراك معرضا كأني قتلت أباك يوم بدر- و إن كنت لا أعتذر من قتل مشرك- لقد قتلت خالي بيدي العاص بن هاشم بن المغيرة- .
و نقلت من غير كتاب الواقدي- أن عثمان بن عفان و سعيد بن العاص- حضرا عند عمر في أيام خلافته- فجلس سعيد بن العاص حجرة- فنظر إليه عمر فقال ما لي أراك معرضا- كأني قتلت أباك إني لم أقتله- و لكنه قتله أبو حسن و كان علي ع حاضرا- فقال اللهم غفرا ذهب الشرك بما فيه- و محا الإسلام ما قبله- فلما ذا تهاج القلوب فسكت عمر- و قال سعيد لقد قتله كفء كريم- و هو أحب إلي من أن يقتله من ليس من بني عبد مناف- .
قال الواقدي و كان علي ع يحدث فيقول إني يومئذ بعد ما متع النهار- و نحن و المشركون قد اختلطت صفوفنا و صفوفهم- خرجت في إثر رجل منهم- فإذا رجل من المشركين على كثيب رمل و سعد بن خيثمة- و هما يقتتلان حتى قتل المشرك سعد بن خيثمة- و المشرك مقنع في الحديد و كان فارسا- فاقتحم عن فرسه فعرفني و هو معلم- فناداني هلم يا ابن أبي طالب إلى البراز- فعطفت إلى البراز فعطفت عليه- فانحط إلي مقبلا و كنت رجلا قصيرا- فانحططت راجعا لكي ينزل إلي- كرهت أن يعلوني- فقال يا ابن أبي طالب فررت- فقلت قريبا مفر ابن الشتراء- فلما استقرت قدماي و ثبت أقبل- فاتقيت فلما دنا مني ضربني بالدرقة- فوقع سيفه فلحج فأضربه على عاتقه و هو دارع- فارتعش و لقد قط سيفي درعه- فظننت أن سيفي سيقتله- فإذا بريق سيف من ورائي فطأطأت رأسي- و يقع السيف فأطن قحف رأسه بالبيضة- و هو يقول خذها و أنا ابن عبد المطلب- فالتفت من ورائي فإذا هو حمزة عمي- و المقتول طعيمة بن عدي – .
قلت في رواية محمد بن إسحاق بن يسار- أن طعيمة بن عدي قتله علي بن أبي طالب ع- ثم قال و قيل قتله حمزة- . و في رواية الشيعة قتله علي بن أبي طالب- شجره بالرمح- فقال له و الله لا تخاصمنا في الله بعد اليوم أبدا- و هكذا روى محمد بن إسحاق- .
و روى محمد بن إسحاق قال و خرج النبي ص من العريش إلى الناس ينظر القتال- فحرض المسلمين و قال كل امرئ بما أصاب- و قال و الذي نفس محمد بيده- لا يقاتلهم اليوم رجل في جملة- فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر- إلا أدخله الله الجنة – فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة- و في يده تمرات يأكلهن بخ بخ- فما بيني و بين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء- ثم قذف التمرات من يده- و أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل قال محمد بن إسحاق- و حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة- أن عوف بن الحارث و هو ابن عفراء- قال لرسول الله ص يوم بدر- يا رسول الله ص ما يضحك الرب من عبده- قال غمسه يده في العدو حاسرا- فنزع عوف درعا كانت عليه و قذفها- ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل- .
قال الواقدي و ابن إسحاق و أخذ رسول الله ص كفا من البطحاء- فرماهم بها و قال شاهت الوجوه- اللهم أرعب قلوبهم و زلزل أقدامهم
فانهزم المشركون لا يلوون على شيء- و المسلمون يتبعونهم يقتلون و يأسرون- . قال الواقدي- و كان هبيرة بن أبي وهب المخزومي- لما رأى الهزيمة انخزل ظهره فعقر- فلم يستطع أن يقوم- فأتاه أبو أسامة الجشمي حليفه- ففتق درعه و احتمله- و يقال ضربه أبو داود المازني بالسيف فقطع درعه- و وقع لوجهه و أخلد إلى الأرض- و جاوزه أبو داود- و بصر به ابنا زهير الجشميان- مالك و أبو أسامة و هما حليفاه- فذبا عنه حتى نجوا به- و احتمله أبو أسامة و مالك يذب عنه حتى خلصاه- فقال رسول الله ص حماه كلباه الحليفان- .
قال الواقدي- و حدثني عمر بن عثمان عن عكاشة بن محصن- قال انقطع سيفي يوم بدر- فأعطاني رسول الله ص عودا- فإذا هو سيف أبيض طويل- فقاتلت به حتى هزم الله المشركين- و لم يزل ذلك السيف عند عكاشة حتى هلك- . قال و قد روى رجال من بني عبد الأشهل عدة- قالوا انكسر سيف سلمة بن أسلم بن حريش يوم بدر- فبقي أعزل لا سلاح معه- فأعطاه رسول الله ص قضيبا- كان في يده من عراجين ابن طاب- فقال اضرب به فإذا هو سيف جيد- فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد- . قال الواقدي و أصاب حارثة بن سراقة- و هو يكرع في الحوض سهم غرب من المشركين- فوقع في نحره فمات- فلقد شرب القوم آخر النهار من دمه- و بلغ أمه و أخته و هما بالمدينة مقتله- فقالت أمه و الله لا أبكي عليه- حتى يقدم رسول الله ص فأسأله- فإن كان في الجنة لم أبك عليه- و إن كان في النار بكيته لعمر الله فأعولته- فلما قدم رسول الله ص من بدر جاءت أمه إليه- فقالت يا رسول الله قد عرفت موضع حارثة في قلبي- فأردت أن أبكي عليه- ثم قلت لا أفعل حتى أسأل رسول الله ص عنه- فإن كان في الجنة لم أبكه- و إن كان في النار بكيته فأعولته- فقال النبي ص هبلت- أ جنة واحدة إنها جنان كثيرة- و الذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى- قالت فلا أبكي عليه أبدا- .
قال الواقدي- و دعا رسول الله ص حينئذ بماء في إناء- فغمس يده فيه و مضمض فاه- ثم ناول أم حارثة بن سراقة- فشربت ثم ناولت ابنتها فشربت-ثم أمرهما فنضحتا في جيوبهما- ثم رجعتا من عند النبي ص- و ما بالمدينة امرأتان أقر عينا منهما و لا أسر- . قال الواقدي- و كان حكيم بن حزام يقول- انهزمنا يوم بدر فجعلت أسعى و أقول- قاتل الله ابن الحنظلية يزعم أن النهار قد ذهب- و الله إن النهار لكما هو- قال حكيم و ما ذا بي إلا حبا- أن يأتي الليل فيقصر عنا طلب القوم- فيدرك حكيم عبيد الله و عبد الرحمن بني العوام- على جمل لهما- فقال عبد الرحمن لأخيه- انزل فاحمل أبا خالد- و كان عبيد الله رجلا أعرج لا رجلة به- فقال عبيد الله إنه لا رجلة بي كما ترى- و قال عبد الرحمن و الله أن منه لا بد- ألا نحمل رجلا إن متنا كفانا ما خلفنا من عيالنا- و إن عشنا حملنا كلنا- فنزل عبد الرحمن و أخوه الأعرج- فحملاه فكانوا يتعاقبون الجمل- فلما دنا من مكة و كان بمر الظهران- قال و الله لقد رأيت هاهنا أمرا- ما كان يخرج على مثله أحد له رأي- و لكنه شؤم ابن الحنظلية- إن جزورا نحرت هاهنا- فلم يبق خباء إلا أصابه من دمها- فقالا قد رأينا ذلك- و لكن رأيناك و قومك قد مضيتم- فمضينا معكم و لم يكن لنا معكم أمر- .
قال الواقدي- فحدثني عبد الرحمن بن الحارث عن مخلد بن خفاف- عن أبيه قال كانت الدروع في قريش كثيرة يومئذ- فلما انهزموا جعلوا يلقونها- و جعل المسلمون يتبعونهم و يلقطون ما طرحوا- و لقد رأيتني يومئذ- التقطت ثلاث أدرع جئت بها أهلي- فكانت عندنا بعد- فزعم لي رجل من قريش- و رأى درعا منها عندنا فعرفها- قال هذه درع الحارث بن هشام- .
قال الواقدي- و حدثني محمد بن حميد- عن عبد الله بن عمرو بن أمية- قال أخبرني من انكشف من قريش يومئذ منهزما- و إنه ليقول في نفسه- ما رأيت مثل هذا فر منه إلا النساء- .
قال الواقدي- كان قباث بن أشيم الكناني يقول- شهدت مع المشركين بدرا- و إني لأنظر إلى قلة أصحاب محمد في عيني- و كثرة من معنا من الخيل و الرجل- فانهزمت فيمن انهزم- فلقد رأيتني و إني لأنظر إلى المشركين- في كل وجه- و إني لأقول في نفسي- ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء- و صاحبني رجل- فبينا هو يسير معي إذ لحقنا من خلفنا- فقلت لصاحبي أ بك نهوض- قال لا و الله ما بي- قال و عقر و ترفعت فلقد صبحت غيقة- قال و غيقة عن يسار السقيا- بينها و بين الفرع ليلة- و بين الفرع و المدينة ثمانية برد قبل الشمس- كنت هاديا بالطريق- و لم أسلك المحاج- و خفت من الطلب فتنكبت عنها- فلقيني رجل من قومي بغيقة- فقال ما وراءك قلت لا شيء- قتلنا و أسرنا و انهزمنا- فهل عندك من حملان- قال فحملني على بعير و زودني زادا- حتى لقيت الطريق بالجحفة- ثم مضيت حتى دخلت مكة- و إني لأنظر إلى الحيسمان بن حابس الخزاعي بالغميم- فعرفت أنه تقدم ينعى قريشا بمكة- فلو أردت أن أسبقه لسبقته- فتنكبت عنه حتى سبقني ببعض النهار- فقدمت و قد انتهى إلى مكة خبر قتلاهم- و هم يلعنون الخزاعي و يقولون- ما جاءنا بخير فمكثت بمكة- فلما كان بعد الخندق قلت- لو قدمت المدينة فنظرت ما يقول محمد- و قد وقع في قلبي الإسلام فقدمت المدينة- فسألت عن رسول الله ص- فقالوا هو ذاك في ظل المسجد- مع ملأ من أصحابه- فأتيته و أنا لا أعرفه من بينهم- فسلمت فقال يا قباث بن أشيم- أنت القائل يوم بدر- ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء- قلت أشهد أنك رسول الله- و أن هذا الأمر ما خرج مني إلى أحد قط- و ما ترمرمت به- إلا شيئا حدثت به نفسي- فلو لا أنك نبي ما أطلعك الله عليه- هلم حتى أبايعك فأسلمت قال الواقدي- و قد روي أنه لما توجه المشركون إلى بدر- كان فتيان ممن تخلف عنهم بمكة سمارا- يسمرون بذي طوى في القمر حتى يذهب الليل- يتناشدون الأشعار و يتحدثون- فبينا هم كذلك إذ سمعوا صوتا قريبا منهم- و لا يرون القائل رافعا صوته يتغنى-
أزاد الحنيفيون بدرا مصيبة
سينقض منها ركن كسرى و قيصرا
أرنت لها صم الجبال و أفزعت
قبائل ما بين الوتير فخيبرا
أجازت جبال الأخشبين و جردت
حرائر يضربن الترائب حسرا
قال الواقدي أنشدنيه- و رواه لي عبد الله بن أبي عبيدة- عن محمد بن عمار بن ياسر- قال فاستمعوا الصوت- فلا يرون أحدا فخرجوا في طلبه- فلم يروا أحدا فخرجوا فزعين- حتى جازوا الحجر- فوجدوا مشيخة منهم جلة سمارا- فأخبروهم الخبر فقالوا لهم- إن كان ما تقولون- فإن محمدا و أصحابه يسمون الحنيفية- قال فلم يبق أحد من الفتيان- الذين كانوا بذي طوى إلا وعك- فما مكثوا إلا ليلتين أو ثلاثا- حتى قدم الحيسمان الخزاعي بخبر أهل بدر- و من قتل منهم فجعل يخبرهم- فيقول قتل عتبة و شيبة ابنا ربيعة- و قتل ابنا الحجاج و أبو البختري- و زمعة بن الأسود قال- و صفوان بن أمية في الحجر جالس يقول- لا يعقل هذا شيئا مما يتكلم به- سلوه عني فقالوا صفوان بن أمية لك به علم- قال نعم هو ذاك في الحجر- و لقد رأيت أباه و أخاه مقتولين- و رأيت سهيل بن عمرو- و النضر بن الحارث أسيرين- رأيتهما مقرونين في الحبال- .
قال الواقدي- و بلغ النجاشي مقتل قريش- و ما ظفر الله به رسوله- فخرج في ثوبين أبيضين- ثم جلس على الأرض- و دعا جعفر بن أبي طالب و أصحابه- فقال أيكم يعرف بدرا فأخبروه- فقال أنا عارف بها قد رعيت الغنم في جوانبها- هي من الساحل على بعض نهار- و لكني أردت أن أتثبت منكم- قد نصر الله رسوله ببدر فاحمدوا الله على ذلك- فقال بطارقته أصلح الله الملك- إن هذا شيء لم تكن تصنعه- يريدون لبس البياض و الجلوس على الأرض- فقال إن عيسى ابن مريم كان إذا حدثت له نعمة- ازداد بها تواضعا- .
قال الواقدي فلما رجعت قريش إلى مكة- قام فيهم أبو سفيان بن حرب- فقال يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم- و لا تنح عليهم نائحة- و لا يندبهم شاعر و أظهروا الجلد و العزاء- فإنكم إذا نحتم عليهم و بكيتموهم بالشعر- أذهب ذلك غيظكم فأكلكم ذلك- عن عداوة محمد و أصحابه- مع أن محمدا إن بلغه و أصحابه ذلك شمتوا بكم- فتكون أعظم المصيبتين- و لعلكم تدركون ثأركم- فالدهن و النساء علي حرام حتى أغزو محمدا- فمكثت قريش شهرا لا يبكيهم شاعر- و لا تنوح عليهم نائحة- .
قال الواقدي- و كان الأسود بن المطلب قد ذهب بصره- و قد كمد على من قتل من ولده- و كان يحب أن يبكي عليهم فتأبى عليه قريش ذلك- فكان يقول لغلامه بين اليومين- ويلك احمل معي خمرا- و اسلك بي الفج الذي سلكه أبو حكيمة- يعني زمعة ولده المقتول ببدر- فيأتي به غلامه على الطريق عند ذلك الفج فيجلس- فيسقيه الخمرحتى ينتشي- ثم يبكي على أبي حكيمة و إخوته- ثم يحثي التراب على رأسه- و يقول لغلامه ويحك اكتم علي- فإني أكره أن تعلم بي قريش- إني أراها لم تجمع البكاء على قتلاها- .
قال الواقدي- حدثني مصعب بن ثابت عن عيسى بن معمر- عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت- قالت قريش حين رجعوا إلى مكة- لا تبكوا على قتلاكم- فيبلغ محمدا و أصحابه فيشمتوا بكم- و لا تبعثوا في أسراكم فيأرب بكم القوم- ألا فأمسكوا عن البكاء- . قال و كان الأسود بن المطلب أصيب له ثلاثة من ولده- زمعة و عقيل و الحارث بن زمعة- فكان يحب أن يبكي على قتلاه- فبينا هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل- فقال لغلامه و قد ذهب بصره- انظر هل بكت قريش على قتلاها- لعلي أبكي على أبي حكيمة يعني زمعة- فإن جوفي قد احترق- فذهب الغلام و رجع إليه- فقال إنما هي امرأة تبكي على بعيرها قد أضلته- فقال الأسود-
تبكي أن يضل لها بعير
و يمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر و لكن
على بكر تصاغرت الخدود
فبكى إن بكيت على عقيل
و بكى حارثا أسد الأسود
و بكيهم و لا تسمي جميعا
فما لأبي حكيمة من نديد
على بدر سراة بني هصيص
و مخزوم و رهط أبي الوليد
ألا قد ساد بعدهم رجال
و لو لا يوم بدر لم يسودوا
قال الواقدي- و مشت نساء من قريش إلى هند بنت عتبة- فقلن أ لا تبكين على أبيك و أخيك و عمك و أهل بيتك- فقالت حلأني أن أبكيهم- فيبلغ محمدا و أصحابه فيشمتوا بنا و نساء بني الخزرج- لا و الله حتى أثأر محمدا و أصحابه- و الدهن علي حرام إن دخل رأسي حتى نغزو محمدا- و الله لو أعلم أن الحزن يذهب عن قلبي لبكيت- و لكن لا يذهبه إلا أن أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبة- فمكثت على حالها لا تقرب الدهن- و لا قربت فراش أبي سفيان من يوم حلفت- حتى كانت وقعة أحد- .
قال الواقدي- و بلغ نوفل بن معاوية الديلي و هو في أهله- و قد كان شهد معهم بدرا- أن قريشا بكت على قتلاها- فقدم مكة فقال يا معشر قريش- لقد خفت أحلامكم و سفه رأيكم- و أطعتم نساءكم أ مثل قتلاكم يبكى عليهم- هم أجل من البكاء- مع أن ذلك يذهب غيظكم عن عداوة محمد و أصحابه- فلا ينبغي أن يذهب الغيظ عنكم- إلا أن تدركوا ثأركم من عدوكم- فسمع أبو سفيان بن حرب كلامه- فقال يا أبا معاوية غلبت- و الله ما ناحت امرأة من بني عبد شمس- على قتيل لها إلى اليوم- و لا بكاهم شاعر إلا نهيته- حتى ندرك ثأرنا من محمد و أصحابه- و إني لأنا الموتور الثائر- قتل ابني حنظلة و سادة أهل هذا الوادي- أصبح هذا الوادي مقشعرا لفقدهم- .
قال الواقدي- و حدثني معاذ بن محمد الأنصاري- عن عاصم بن عمر بن قتادة قال- لما رجع المشركون إلى مكة- و قد قتل صناديدهم و أشرافهم- أقبل عمير بن وهب بن عمير الجمحي- حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحجر- فقال صفوان بن أمية قبح العيش بعد قتلى بدر- قال عمير بن وهب أجل و الله- ما في العيش بعدهم خير- و لو لا دين علي لا أجد له قضاء- و عيال لا أدع لهم شيئا- لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه- فإنه بلغني أنه يطوف في الأسواق- فإن لي عندهم علة- أقول قدمت على ابني هذا الأسير- ففرح صفوان بقوله و قال يا أبا أمية- و هل نراك فاعلا قال إي و رب هذه البنية- قال صفوان فعلي دينك و عيالك أسوة عيالي- فأنت تعلم أنه ليس بمكة- رجل أشد توسعا على عياله مني-
قال عمير قد عرفت ذلك يا أبا وهب- قال صفوان فإن عيالك مع عيالي- لا يسعني شيء و نعجز عنهم و دينك علي- فحمله صفوان على بعيره و جهزه- و أجرى على عياله مثل ما يجري على عيال نفسه- و أمر عمير بسيفه فشحذ و سم- ثم خرج إلى المدينة- و قال لصفوان اكتم علي أياما حتى أقدمها- و خرج فلم يذكره صفوان- و قدم عمير فنزل على باب المسجد- و عقل راحلته و أخذ السيف فتقلده- ثم عمد نحو رسول الله ص- و عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون- و يذكرون نعمة الله عليهم في بدر- فرأى عميرا و عليه السيف ففزع عمر منه- و قال لأصحابه دونكم الكلب- هذا عمير بن وهب عدو الله- الذي حرش بيننا يوم بدر- و حزرنا للقوم و صعد فينا و صوب- يخبر قريشا أنه لا عدد لنا و لا كمين- فقاموا إليه فأخذوه- فانطلق عمر إلى رسول الله ص- فقال يا رسول الله هذا عمير بن وهب- قد دخل المسجد و معه السلاح- و هو الغادر الخبيث الذي لا يؤمن على شيء فقال النبي ص أدخله علي فخرج عمر فأخذ بحمائل سيفه فقبض بيده عليها و أخذ بيده الأخرى قائم السيف- ثم أدخله على رسول الله ص- فلما رآه قال يا عمر تأخر عنه- فلما دنا عمير إلى النبي ص قال أنعم صباحا- فقال له النبي ص- قد أكرمنا الله عن تحيتك- و جعل تحيتنا السلام و هي تحية أهل الجنة-
قال عمير إن عهدك بها لحديث- فقال النبي ص قد أبدلنا الله خيرا- فما أقدمك يا عمير- قال قدمت في أسيري عندكم- تفادونه و تقاربوننا فيه- فإنكم العشيرة و الأصل- قال النبي ص فما بال السيف- قال عمير قبحها الله من سيوف- و هل أغنت من شيء- إنما نسيته حين نزلت و هو في رقبتي- و لعمري إن لي لهما غيره فقال رسول الله ص- اصدق يا عمير ما الذي أقدمك- قال ما قدمت إلا في أسيري- قال ص فما شرطت لصفوان بن أمية في الحجر- ففزع عمير و قال ما ذا شرطت له- قال تحملت بقتلي- على أن يقضي دينك و يعول عيالك- و الله حائل بينك و بين ذلك- قال عمير أشهد أنك صادق- و أشهد أن لا إله إلا الله- كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي- و بما يأتيك من السماء- و إن هذا الحديث كان بيني و بين صفوان كما قلت- لم يطلع عليه غيره و غيري- و قد أمرته أن يكتمه ليالي- فأطلعك الله عليه فآمنت بالله و رسوله- و شهدت أن ما جئت به حق- الحمد لله الذي ساقني هذا المساق- و فرح المسلمون حين هداه الله- و قال عمر بن الخطاب- لخنزير كان أحب إلي منه حين طلع- و هو الساعة أحب إلي من بعض ولدي-
و قال النبي ص- علموا أخاكم القرآن و أطلقوا له أسيره- فقال عمير يا رسول الله- إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله- فله الحمد أن هداني- فأذن لي فألحق قريشا- فأدعوهم إلى الله و إلى الإسلام- فلعل الله يهديهم و يستنقذهم من الهلكة- فأذن له فخرج فلحق بمكة- و كان صفوان يسأل عن عمير بن وهب- كل راكب يقدم من المدينة- يقول هل حدث بالمدينة من حدث- و يقول لقريش أبشروا بوقعة تنسيكم وقعة بدر- فقدم رجل من المدينة فسأله صفوان عن عمير- فقال أسلم فلعنه صفوان و لعنه المشركون بمكة- و قالوا صبأ عمير و حلف صفوان ألا يكلمه أبدا- و لا ينفعه و طرح عياله- و قدم عمير فنزل في أهله- و لم يأت صفوان و أظهر الإسلام- فبلغ صفوان فقال- قد عرفت حين لم يبدأ بي قبل منزله- و قد كان رجل أخبرني أنه ارتكس- لا أكلمه من رأسي أبدا- و لا أنفعه و لا عياله بنافعة أبدا- فوقع عليه عمير و هو في الحجر- فقال يا أبا وهب فأعرض صفوان عنه- فقال عمير أنت سيد من ساداتنا- أ رأيت الذي كنا عليه- من عبادة حجر و الذبح له أ هذا دين- أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله- فلم يجبه صفوان بكلمة و أسلم مع عمير بشر كثير- .
قال الواقدي- و كان فتية من قريش خمسة قد أسلموا- فاحتبسهم آباؤهم- فخرجوا مع أهلهم و قومهم إلى بدر- و هم على الشك و الارتياب لم يخلصوا إسلامهم- و هم قيس بن الوليد بن المغيرة- و أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة- و الحارث بن زمعة بن الأسود- و علي بن أمية بن خلف- و العاص بن منبه بن الحجاج- فلما قدموا بدرا و رأوا قلة أصحاب النبي ص- قالوا غر هؤلاء دينهم ففيهم أنزل- إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ- غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ثم أنزل فيهم- إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ- قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ- قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها- إلى تمام ثلاث آيات- .
قال فكتب بها المهاجرون بالمدينة- إلى من أقام بمكة مسلما- فقال جندب بن ضمرة الخزاعي- لا عذر لي و لا حجة في مقامي بمكة- و كان مريضا فقال لأهله أخرجوني- لعلي أجد روحا قالوا أي وجه أحب إليك- قال نعم التنعيم فخرجوا به إلى التنعيم- و بين التنعيم و مكة أربعة أميال من طريق المدينة- فقال اللهم إني خرجت إليك مهاجرا فأنزل الله تعالى- وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ الآية- فلما رأى ذلك من كان بمكة ممن يطيق الخروج- خرجوا فطلبهم أبو سفيان في رجال من المشركين-فردوهم و سجنوهم فافتتن منهم ناس- و كان الذين افتتنوا إنما افتتنوا حين أصابهم البلاء- فأنزل الله تعالى فيهم- وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ- فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ- الآية و ما بعدها- فكتب بها المهاجرون بالمدينة إلى من كان بمكة مسلما- فلما جاءهم الكتاب بما أنزل فيهم- قالوا اللهم إن لك علينا إن أفلتنا- ألا نعدل بك أحدا- فخرجوا الثانية فطلبهم أبو سفيان و المشركون- فأعجزوهم هربا في الجبال- حتى قدموا المدينة- و اشتد البلاء على من ردوا من المسلمين- فضربوهم و آذوهم و أكرهوهم على ترك الإسلام- و رجع ابن أبي سرح مشركا- فقال لقريش ما كان يعلم محمدا- إلا ابن قمطة عبد نصراني- لقد كنت أكتب له فأحول ما أردت- فأنزل الله تعالى- وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ الآية
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 14