77 و من وصية له ع لعبد الله بن العباس أيضا- لما بعثه للاحتجاج على الخوارج
لَا تُخَاصِمْهُمْ بِالْقُرْآنِ- فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ- تَقُولُ وَ يَقُولُونَ… وَ لَكِنْ حَاجِجْهُمْ بِالسُّنَّةِ- فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصاً هذا الكلام لا نظير له في شرفه و علو معناه- و ذلك أن القرآن كثير الاشتباه- فيه مواضع يظن في الظاهر أنها متناقضة متنافية- نحو قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ- و قوله إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ- و نحو قوله وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا- فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ- و قوله وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ- فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى- و نحو ذلك و هو كثير جدا- و أما السنة فليست كذلك- و ذلك لأن الصحابة كانت تسأل رسول الله ص- و تستوضح منه الأحكام في الوقائع- و ما عساه يشتبه عليهم من كلامهم يراجعونه فيه- و لم يكونوا يراجعونه في القرآن إلا فيما قل- بل كانوا يأخذونه منه تلقفا- و أكثرهم لا يفهم معناهلا لأنه غير مفهوم- بل لأنهم ما كانوا يتعاطون فهمه- إما إجلالا له أو لرسول الله أن يسألوه عنه- أو يجرونه مجرى الأسماء الشريفة- التي إنما يراد منها بركتها لا الإحاطة بمعناها- فلذلك كثر الاختلاف في القرآن- و أيضا فإن ناسخه و منسوخه- أكثر من ناسخ السنة و منسوخها- و قد كان في الصحابة من يسأل الرسول- عن كلمة في القرآن يفسرها له تفسيرا موجزا- فلا يحصل له كل الفهم- لما أنزلت آية الكلالة و قال في آخرها- يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا-
سأله عمر عن الكلالة ما هو- فقال له يكفيك آية الصيف- لم يزد على ذلك فلم يراجعه عمر و انصرف عنه- فلم يفهم مراده و بقي عمر على ذلك إلى أن مات- و كان يقول بعد ذلك اللهم مهما بينت- فإن عمر لم يتبين- يشير إلى قوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا- و كانوا في السنة و مخاطبة الرسول على خلاف هذه القاعدة- فلذلك أوصاه علي ع أن يحاجهم بالسنة لا بالقرآن- .
فإن قلت فهل حاجهم بوصيته- . قلت لا بل حاجهم بالقرآن- مثل قوله فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها- و مثل قوله في صيد المحرم- يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ- و لذلك لم يرجعوا و التحمت الحرب- و إنما رجع باحتجاجه نفر منهم- . فإن قلت- فما هي السنة التي أمره أن يحاجهم بها- . قلت كان لأمير المؤمنين ع في ذلك غرض صحيح- و إليه أشار و حوله كان يطوف و يحوم- و ذلك أنه أراد أن يقول لهم-
قال رسول الله ص علي مع الحق و الحق مع علي يدور معه حيثما دارو قوله اللهم وال من والاه و عاد من عاداه- و انصر من نصره و اخذل من خذله- و نحو ذلك من الأخبار- التيكانت الصحابة قد سمعتها من فلق فيه ص- و قد بقي ممن سمعها جماعة تقوم الحجة و تثبت بنقلهم- و لو احتج بها على الخوارج- أنه لا يحل مخالفته و العدول عنه بحال- لحصل من ذلك غرض أمير المؤمنين في محاجتهم- و أغراض أخرى أرفع و أعلى منهم- فلم يقع الأمر بموجب ما أراد- و قضي عليهم بالحرب حتى أكلتهم عن آخرهم- و كان أمر الله مفعولا
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 18