و من كتاب له عليه السّلام إليه أيضا
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَتْنِي مِنْكَ مَوْعِظَةٌ مُوَصَّلَةٌ وَ رِسَالَةٌ مُحَبَّرَةٌ- نَمَّقْتَهَا بِضَلَالِكَ وَ أَمْضَيْتَهَا بِسُوءِ رَأْيِكَ- وَ كِتَابُ امْرِئٍ لَيْسَ لَهُ بَصَرٌ يَهْدِيهِ- وَ لَا قَائِدٌ يُرْشِدُهُ قَدْ دَعَاهُ الْهَوَى فَأَجَابَهُ- وَ قَادَهُ الضَّلَالُ فَاتَّبَعَهُ- فَهَجَرَ لَاغِطاً وَ ضَلَّ خَابِطاً وَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ لِأَنَّهَا بَيْعَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُثَنَّى فِيهَا النَّظَرُ- وَ لَا يُسْتَأْنَفُ فِيهَا الْخِيَارُ- الْخَارِجُ مِنْهَا طَاعِنٌ وَ الْمُرَوِّي فِيهَا مُدَاهِنٌ
أقول: هذا جواب كتاب كتبه إليه معاوية. و صورته: من معاوية بن أبي سفيان إلى عليّ بن أبي طالب أمّا بعد فلو كنت على ما كان عليه أبو بكر و عمر إذن ما قاتلتك و لا استحللت لك ذلك و لكنّه إنّما أفسد عليك بيعتى خطيئتك [خطبتك- خ- ] في عثمان بن عفّان. و إنّما كان أهل الحجاز الحكّام على الناس حين كان الحقّ فيهم فلمّا تركوه صار أهل الشام الحكّام على أهل الحجار و غيرهم من الناس. و لعمرى ما حجّتك على أهل الشام كحجّتك على أهل البصرة و لا حجّتك علىّ كحجّتك على طلحة و الزبير لأنّ أهل البصرة قد كانوا بايعوك و لم يبايعك أهل الشام و إنّ طلحة و الزبير بايعاك و لم ابايعك. و أمّا فضلك في الإسلام و قرابتك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و موضعك من هاشم فلست أدفعه. و السلام. فكتب عليه السّلام جوابه من عبد اللّه علىّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن صخر أمّا بعد فإنّه أتانى كتابك كتاب امرىء. إلى قوله: خابطا. ثمّ يتّصل به أن قال: زعمت أنّه إنّما أفسد علىّ بيعتك خطيئتى في عثمان، و لعمرى ما كنت إلّا رجلا من المهاجرين أوردت كما أوردوا و صدرت كما صدروا و ما كان اللّه ليجمعهم على ضلال و لا يضربهم بعمى. و أمّا ما زعمت أنّ أهل الشام الحكّام على أهل الحجاز فهات رجلين من قريش الشام يقبلان في الشورى أن تحلّ لهما الخلافة فإن زعمت ذلك كذّبك المهاجرون و الأنصار. و إلّا فأنا آتيك بهما من قريش الحجاز. و أمّا ما ميّزت بين أهل الشام و أهل البصرة و بينك و بين طلحة و الزبير فلعمرى ما الأمر في ذلك إلّا واحد. ثمّ يتّصل به قوله: لأنّها بيعة عامّة. إلى آخره. ثمّ يتّصل به: و أمّا فضلى في الإسلام و قرابتى من الرسول و شرفى في بني هاشم فلو استطعت دفعه لفعلت. و السلام. و أمّا قوله، أمّا بعد فقد أتتنى. إلى قوله: بسوء رأيك.
فهو صدر كتاب آخر أجاب به معاوية عن كتاب كتبه إليه بعد الكتاب الّذي ذكرناه. و ذلك أنّه لمّا وصل إليه هذا الكتاب من عليّ عليه السّلام كتب إليه كتابا يعظه فيه. و صورته: أمّا بعد فاتّق اللّه يا علىّ ودع الحسد فإنّه طالما لم ينتفع به أهله، و لا تفسد سابقة قديمك بشره من حديثك فإنّ الأعمال بخواتيمها، و لا تلحدنّ بباطل في حقّ من لا حقّ لك في حقّه فإنّك إن تفعل ذلك لا تضلل إلّا نفسك و لا تمحق إلّا عملك، و لعمرى إنّ ما مضى لك من السوابق الحسنة لحقيقة أن تردّك و تردعك عمّا قد اجترأت عليه من سفك الدماء و إجلاء أهل الحقّ عن الحلّ و الحرام، فاقرء سورة الفلق و تعوّذ باللّه من شرّ ما خلق و من شرّ نفسك الحاسد إذا حسد. قفل اللّه بقلبك و أخذ بناصيتك و عجّل توفيقك فإنّى أسعد الناس بذلك و السلام.
فكتب إليه عليّ عليه السّلام أمّا بعد فقد أتتنى منك موعظة. إلى قوله: سوء رأيك.
ثمّ يتّصل به: و كتاب ليس ببعيد الشبه منك حملك على الوثوب على ما ليس لك فيه حقّ. و لولا علمى بك و ما قد سبق من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيك ممّا لا مردّ له دون إنفاذه إذن لو عظتك و لكن عظتى لا تنفع من حقّت عليه كلمة العذاب و لم يخف العقاب و لم يرج للّه و قارا و لم يخف له حذارا. فشأنك و ما أنت عليه من الضلالة و الحيرة و الجهالة تجد اللّه في ذلك بالمرصاد من دنياك المنقطعة و تمنّيك الأباطيل.
و قد علمت ما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيك و في امّك و أبيك. و السلام. و ممّا ينبّه على أنّ هذا الفصل المذكور ليس من الكتاب الأوّل أنّ الأوّل لم يكن فيه ذكر موعظة حتّى يذكرها عليه السّلام في جوابه غير أنّ السيّد- رحمه اللّه- أضافه إلى هذا الكتاب كما هو عادته في عدم مراعات ذلك و أمثاله. و لنرجع إلى المقصود. فنقول:
اللغة
المحّبرة: المزيّنة. و التنميق: التزيين بالكتاب. و هجر يهجر هجرا: إذ أهذى أو أفحش في منطقه. و اللغط: الصوت و الجلبة. و أصل الخبط: الحركة على غير نظام. و منه خبط عشواء للناقة الّتي ضعف بصرها. و المروّي: المفكّر. و المداهنة: المصانعة و إظهار الرضى بالأمر مع إضمار خلافه.
المعنى
و الفصل من باب المنافرات. و أراد بكونها موصّلة: أى ملتقطة من كلام الناس
ملفّقة قد زيّنت بالكتابة، و نسب تنميقها إلى ضلالة لأنّ موعظته و تكلّفه إيّاها لمثله عليه السّلام عن اعتقاد منه أنّه على طرف الحقّ و أنّ عليّا مخطئ كما زعم، و ظاهر أنّ ذلك الاعتقاد ضلال عن سبيل اللّه أوجب له تكلّف تلك الموعظة، و لأنّه لمّا كان جاهلا بسبك الكلام و وضعه مواضعه جاءت موصّلة منمّقة بحسب ذلك الجهل ظهر عليها أثرا لكلفة في التنميق فاستدلّ به على ضلاله. و استعار لفظ البصر للعقل باعتبار أنّ له نورا يدرك به صور المعقولات كما يدرك البصر بنوره صور المحسوسات ثمّ سلب عنه البصر الّذي يهديه في سبيل اللّه إذ كان عقله قد قصر عن إدراك حقايق الدين و مقاصده و وجوه المصالح الكليّة المطلوبة للشارع فلم يكن لعقله بصر يهديه في تلك الامور و لا له قايد من إمام حقّ أو روىّ صالح يرشده إلى سبيل اللّه فلا- جرم كان مجيبا لهواه إذ دعاه، و منقادا لضلاله و آرائه الجائرة المخطئة لوجه المصلحة المطلوبة للّه تعالى فاتّبعها. و استلزم ذلك أن يهجر فيقول ما لا ينبغي من القول لاغطا و مجلبا، و أن يضلّ عن سبيل اللّه خابطا في التيه لا يتّقى مصارع الهوان في دين اللّه. و لاغطا و خابطا حالان. و قوله: لأنّها. فالضمير قبل الذكر لأنّه ضمير البيعة كقوله تعالى فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ«» و يحتمل أن يرجع إلى ما علم من حالها في قوله: فلعمرى ما الأمر في ذلك إلّا واحد. يعنى ما شأن أهل البصرة و شأن أهل الشام و شأن طلحة و الزبير في بيعتى إلّا واحدا. و المعنى أنّها كما لزمت اولئك فقد لزمتكم أيضا. ثمّ أشار إلى الحجّة في ذلك بقياس ضمير من الشكل الأوّل صغراه: و هي كونها بيعه واحدة باتّفاق المهاجرين و الأنصار الّذين هم أهل الحلّ و العقد من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تقدير كبراه: و كلّ بيعة وقعت كذلك فلا يثّنى فيها نظر و لا يستأنف فيها خيار، و بيان الكبرى ما سبق من حال الأئمّة الثلاثة قبله عليه السّلام إذ لم يكن لأحد أن يثّنى في بيعتهم نظرا و لا يستأنف خيارا بعد أن عقدها المهاجرون و الأنصار لأحدهم. ثمّ أشار إلى حكم من لم يدخل في بيعته و هم قسمان لأنّ من لم يدخل فيها إمّا أن يخرج عنها أو يقف فيها. فحكم الخارج عنها أن يكون طاعنا في صحّتها و انعقادها فيجب أن يجاهد و يقاتل حتّى يرجع إليها إذ هي سبيل المؤمنين كما سبق، و حكم الواقف فيها و المتروّى في صحّتها أنّه مداهن و هو نوع من النفاق و مستلزم للشكّ في سبيل اللّه و المؤمنين و وجوب اتّباعه. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى 355