و من كتاب له عليه السّلام إلى عمرو بن العاص
فَإِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ دِينَكَ تَبَعاً لِدُنْيَا امْرِئٍ- ظَاهِرٍ غَيُّهُ مَهْتُوكٍ سِتْرُهُ- يَشِينُ الْكَرِيمَ بِمَجْلِسِهِ وَ يُسَفِّهُ الْحَلِيمَ بِخِلْطَتِهِ- فَاتَّبَعْتَ أَثَرَهُ وَ طَلَبْتَ فَضْلَهُ- اتِّبَاعَ الْكَلْبِ لِلضِّرْغَامِ يَلُوذُ بِمَخَالِبِهِ- وَ يَنْتَظِرُ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ فَضْلِ فَرِيسَتِهِ- فَأَذْهَبْتَ دُنْيَاكَ وَ آخِرَتَكَ- وَ لَوْ بِالْحَقِّ أَخَذْتَ أَدْرَكْتَ مَا طَلَبْتَ- فَإِنْ يُمَكِّنِّي اللَّهُ مِنْكَ وَ مِنِ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ- أَجْزِكُمَا بِمَا قَدَّمْتُمَا- وَ إِنْ تُعْجِزَا وَ تَبْقَيَا فَمَا أَمَامَكُمَا شَرٌّ لَكُمَا- وَ السَّلَامُ
المعنى
أقول: قد ذكر هذا الكتاب برواية تزيد على هذه، و أوّله: من عبد اللّه علىّ أمير المؤمنين إلى الأبتر ابن الأبتر عمرو بن العاص شانئ محمّد و آل محمّد في الجاهليّة و الإسلام. سلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد فإنّك تركت مروّتك لامرء فاسق مهتوك ستره يشين الكريم بمجلسه و يسفّه الحليم بخلطته. فصار قلبك لقلبه تبعا كما وافق شنّ طبقه. فسلبك دينك و أمانتك و دنياك و آخرتك و كان علم اللّه بالغا فيك.
فصرت كالذئب يتبع الضرغام إذا ما الليل دجى يلتمس أن يداوسه. و كيف تنجو من القدر و لو بالحقّ طلبت أدركت ما رجوت، و قد يرشد من كان قائده. فإن يمكّنّى اللّه منك و من ابن آكلة الأكباد ألحقكما بمن قتله اللّه من ظلمة قريش على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إن تعجزا أو تبقيا بعدى فاللّه حسبكما و كفى بانتقامه انتقاما و بعقابه عقابا. و مدار الكتاب على توبيخ عمرو بمتابعته لمعاوية في باطله و تنفيره عمّا هو عليه و وعيده لهما على ذلك. و معنى جعله دينه تبعا لدنيا معاوية أنّه يصرفه في مرضاته بحسب ما يتصوّر حصوله عليه من دنياه كما أشرنا إليه قبل من بيعه دينه في المظاهرة على حربه عليه السّلام بطعمة مصر. ثمّ ذمّ معاوية بأوصاف أربعة لغاية التنفير عنه:
أحدها: كونه ظاهرا غيّه، و ضلال معاوية عن طريق اللّه أوضح أن يوضح.
الثاني: كونه مهتوكا ستره، و من المشهور عنه أنّه كان هاتكا لستر دين اللّه عنه فإنّه كان كثير الخلاعة به و الهزل صاحب سمار و جلساء لهو و مناع و شرب و سماع، و قد كان يتستّر بذلك في زمان عمر خوفا منه إلّا أنّه كان يلبس الحرير و الديباج و يشرب في آنية الذهب و الفضّة و أمّا في أيّام عثمان فكان شديد التهتّك، و إنّما قارب الوقار حيث خرج على عليّ عليه السّلام لحاجته إلى استغواء الناس بظاهر الدين.
الثالث: يشين الكريم بمجلسه، و ذاك أنّ الكريم هو الّذي يضبط نفسه و ينزّهها عمّا يشين العرض من الرذائل، و قد كان مجلس معاوية مشحونا ببنى أميّة و رذائلهم، و مجالسة الكريم لهم يستلزم نسبته إليهم و لحاقه بهم، و ذلك مشين لعرضه و مقبّح لذكره.
الرابع: كونه يسفّه الحليم بخلطته، و ذلك أنّه كان دأبه هو و بنو اميّة شتم بني هاشم و قذفهم و التعرّض بذكر الإسلام و الطعن عليه، و إن أظهروا الانتماء إليه، و ذلك ممّا يستفزّ الحليم و يسفّه رأيه في الثبات عند مخالطتهم و سماعه منهم، و كنّى باتّباعه لأثره عن متابعته له فيما يفعله، و أشار بقوله: و طلبت فضله إلى غرض اتّباعه، و شبّه اتّباعه له باتّباع الكلب الأسد تحقيرا له و تنفيرا، و نبّهه على وجه الشبه بقوله: يلوذ. إلى قوله: فريسته، و أراد أنّ اتّباعه له على وجه الذلّة و الحقارة و دناءة الهمّة للطمع فيما يعطيه من فضل ماله و انتظار ذلك منه كاتّباع الكلب للأسد، و في مثل هذا التشبيه بلاغ لعمرو في التنفير لو كان له كرم. ثمّ نبّهه على لازم اتّباعه له بقوله: فأذهبت دنياك و آخرتك، و أراد بدنياه ما كان يعيش به من الرزق و العطاء الحلال على وجه يلتذّ به في طيب نفس و أمن من الحروب الّتي لقيها بصفّين و الأهوال الّتي باشرها في موافقته لمعاوية، و تلك هى الدنيا الحقّة. إذ الدنيا إنّما يراد للّذّة بها و الاستمتاع، و ذلك ممّا لم يحصل عليه عمرو. و أمّا ذهاب آخرته فظاهر. و قوله: و لو بالحقّ أخذت. إلى قوله: طلبت. جذب له إلى لزوم الحقّ و ترغيب فيه بذكر لازمه، و هو إدراك ما طلب من دنيا و آخرة، و ظاهر أنّه لو لزم الحقّ لوصل إلى دنيا كاملة و آخرة بالمعالى كافلة. و قوله: فإن يمكّنّى اللّه. إلى آخره. و عيد بعذاب واقع على تقدير كلّ واحد من النقيضين و ذلك العذاب إمّا بواسطته في الدنيا بتقدير تمكين اللّه منهما و هو جزائه لهما بما قدّما من معصية اللّه، و إمّا من اللّه فى الآخرة على تقدير أن يعجزاه و تبقيا بعده و هو عذاب النار، و نبّه عليه بقوله: فما أمامكما شرّ لكما لقوله تعالى وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى و استعار لفظ الأمام للآخرة باعتبار استقبال النفوس لها و توجّهها نحوها. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 5 ، صفحهى 86