35 و من كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مِصْرَ قَدِ افْتُتِحَتْ- وَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدِ اسْتُشْهِدَ- فَعِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُهُ وَلَداً نَاصِحاً وَ عَامِلًا كَادِحاً- وَ سَيْفاً قَاطِعاً وَ رُكْناً دَافِعاً- وَ قَدْ كُنْتُ حَثَثْتُ النَّاسَ عَلَى لَحَاقِهِ- وَ أَمَرْتُهُمْ بِغِيَاثِهِ قَبْلَ الْوَقْعَةِ- وَ دَعَوْتُهُمْ سِرّاً وَ جَهْراً وَ عَوْداً وَ بَدْءاً- فَمِنْهُمُ الآْتِي كَارِهاً وَ مِنْهُمُ الْمُعْتَلُّ كَاذِباً- وَ مِنْهُمُ الْقَاعِدُ خَاذِلًا- أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لِي مِنْهُمْ فَرَجاً عَاجِلًا- فَوَاللَّهِ لَوْ لَا طَمَعِي عِنْدَ لِقَائِي عَدُوِّي فِي الشَّهَادَةِ- وَ تَوْطِينِي نَفْسِي عَلَى الْمَنِيَّةِ- لَأَحْبَبْتُ أَلَّا أَبْقَى مَعَ هَؤُلَاءِ يَوْماً وَاحِداً- وَ لَا أَلْتَقِيَ بِهِمْ أَبَداً انظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها- و تملكه زمامها و اعجب لهذه الألفاظ المنصوبة- يتلو بعضها بعضا كيف تواتيه و تطاوعه سلسة سهلة- تتدفق من غير تعسف و لا تكلف- حتى انتهى إلى آخر الفصل فقال- يوما واحدا و لا ألتقي بهم أبدا- و أنت و غيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أو خطبة- جاءت القرائن و الفواصلتارة مرفوعة- و تارة مجرورة و تارة منصوبة- فإن أرادوا قسرها بإعراب واحد- ظهر منها في التكلف أثر بين و علامة واضحة- و هذا الصنف من البيان أحد أنواع الإعجاز في القرآن- ذكره عبد القاهر قال- انظر إلى سورة النساء و بعدها سورة المائدة- الأولى منصوبة الفواصل- و الثانية ليس فيها منصوب أصلا- و لو مزجت إحدى السورتين بالأخرى لم تمتزجا- و ظهر أثر التركيب و التأليف بينهما- .
ثم إن فواصل كل واحد منهما- تنساق سياقة بمقتضى البيان الطبيعي لا الصناعة التكلفية- ثم انظر إلى الصفات و الموصوفات في هذا الفصل- كيف قال ولدا ناصحا و عاملا كادحا- و سيفا قاطعا- و ركنا دافعا- لو قال ولدا كادحا و عاملا ناصحا- و كذلك ما بعده لما كان صوابا و لا في الموقع واقعا- فسبحان من منح هذا الرجل- هذه المزايا النفيسة و الخصائص الشريفة- أن يكون غلام من أبناء عرب مكة- ينشأ بين أهله لم يخالط الحكماء- و خرج أعرف بالحكمة و دقائق العلوم الإلهية- من أفلاطون و أرسطو- و لم يعاشر أرباب الحكم الخلقية و الآداب النفسانية- لأن قريشا لم يكن أحد منهم مشهورا بمثل ذلك- و خرج أعرف بهذا الباب من سقراط و لم يرب بين الشجعان- لأن أهل مكة كانوا ذوي تجارة- و لم يكونوا ذوي حرب- و خرج أشجع من كل بشر مشى على الأرض- قيل لخلف الأحمر- أيما أشجع عنبسة و بسطام- أم علي بن أبي طالب- فقال إنما يذكر عنبسة و بسطام مع البشر و الناس- لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة- فقيل له فعلى كل حال- قال و الله لو صاح في وجوههما لماتا- قبل أن يحمل عليهما- و خرج أفصح من سحبان و قس- و لم تكن قريش بأفصح العرب كان غيرها أفصح منها- قالوا أفصح العرب جرهم و إن لم تكن لهم نباهة- و خرج أزهد الناس في الدنيا و أعفهم- مع أن قريشا ذوو حرص و محبة للدنيا- و لا غرو فيمن كانمحمد ص مربيه و مخرجه- و العناية الإلهية تمده- و ترفده أن يكون منه ما كان- .
يقال احتسب ولده إذا مات كبيرا- و افترط ولده إذا مات صغيرا- قوله فمنهم الآتي- قسم جنده أقساما- فمنهم من أجابه و خرج كارها للخروج- كما قال تعالى كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ- و منهم من قعد و اعتل بعلة كاذبة كما قال تعالى- يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ- إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً- و منهم من تأخر و صرح بالقعود و الخذلان- كما قال تعالى فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ- وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- و المعنى أن حاله كانت مناسبة لحال النبي ص- و من تذكر أحوالهما و سيرتهما- و ما جرى لهما إلى أن قبضا- علم تحقيق ذلك- . ثم أقسم أنه لو لا طمعه في الشهادة- لما أقام مع أهل العراق و لا صحبهم- . فإن قلت فهلا خرج إلى معاوية وحده من غير جيش- إن كان يريد الشهادة- قلت ذلك لا يجوز لأنه إلقاء النفس إلى التهلكة- و للشهادة شروط متى فقدت- فلا يجوز أن تحمل إحدى الحالتين على الأخرى
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 16