و من وصيّه له عليه السّلام لعسكره قبل لقاء العدو بصفين
لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ- فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ- وَ تَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ- فَإِذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِإِذْنِ اللَّهِ- فَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِراً وَ لَا تُصِيبُوا مُعْوِراً- وَ لَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ- وَ لَا تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذًى- وَ إِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَ سَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ- فَإِنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ الْقُوَى وَ الْأَنْفُسِ وَ الْعُقُولِ- إِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وَ إِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ- وَ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ- بِالْفَهْرِ أَوِ الْهِرَاوَةِ- فَيُعَيَّرُ بِهَا وَ عَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ
أقول: روى أنّه عليه السّلام كان يوصى أصحابه في كلّ موطن يلقون العدوّ فيه بهذه الوصيّة.
اللغة
الهزيمة: الهرب. و أعور الصيد: أمكن من نفسه، و أعور الفارس: ظهر فيه موضع خال للضرب. فهو معور. و أجهز على الجريح: قتله. و أهجت الشيء: أثرته. و الفهر: الحجر المستطيل الأملس. و الهراوة: خشبة كالدبوس. و العقب: الولد ذكرا و انثى.
و قد وصىّ في هذا الفصل بامور:
أحدها: ان لا يقاتلوهم إلى أن يبدءوهم بالقتال،
و أشار إلى أنّ ذلك يكون حجّة ثانية عليهم و أومى بالحجّة الاولى إلى قوله تعالى وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى«» و ظاهر أنّ هؤلاء بغاة على الإمام الحقّ فوجب قتالهم.
و أمّا الثانية: فهي تركهم حتّى يبدءوا بالحرب
و بيان هذه الحجّة من وجهين: أحدهما: أنّهم إذا بدءوا بالحرب فقد تحقّق دخولهم في حرب اللّه و حرب رسوله لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حربك يا علىّ حربي. و محقّق سعيهم في الأرض بالفساد بقتلهم النفس الّتي حرّم اللّه ابتداء بغير حقّ و كلّ من تحقّق دخوله في ذلك دخل في عموم قوله تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ«» الآية. الثاني: أنّ البادى بالحرب معتد ابتداءا. و كلّ معتد كذلك فيجب الاعتداء عليه لقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ الآية فوجب الاعتداء عليهم إذا بدءوا بالحرب.
الثالث: وصّاهم على تقدير وقوع الهزيمة منهم بإذن اللّه أن لا يقتلوا مدبرا:
أى مولّيا هاربا و لا يصيبوا معورا، و هو الّذي أمكنتهم الفرصة في قتله بعد انكسار العدوّ كالمعور من الصيد. و قيل: أراد بالمعور المريب و هو الّذي وقع فيه الشكّ أنّه محارب أم لا: أى لا تقتلوا إلّا من علمتم أنّه محارب لكم.
الرابع: أن لا تجهزوا على جريح.
و هذه الامور الأربعة المنهىّ عنها هاهنا هي من أحكام الكفّار حال الحرب. ففرّق عليه السّلام بين هؤلاء البغاة و بينهم فيها و إن أوجب قتالهم و قتلهم، و يلحق بذلك من أحكامهم ما نقله نضر بن مزاحم تماما لهذا الفصل بعد قوله: و لا تجهزوا على جريح: و لا تكشفوا عورة، و لا تمثّلوا بقتيل، و إذا وصلتم إلى رجال القوم فلا تهتكوا سرّا و لا تدخلوا دارا إلّا بإذن و لا تأخذوا شيئا من أموالهم. ثمّ يتّصل بقوله: و لا تهيجوا النساء، و المراد بذلك أن لا تثيروا شرورهنّ بأذى و إن بلغن الغاية المذكورة من شتم الأعراض و سبّ الامراء، و علّل أولويّة الكفّ عنهنّ بكونهنّ ضعيفات القوى: أى ضعيفات القدر عن مقاومات الرجال و حربهم. و سلاح الضعيف و العاجز لسانه، و بكونهنّ ضعيفات الأنفس: أى لا صبر لنفوسهنّ على البلاء فيجتهدن في دفعه بما أمكن من سبّ و غيره، و بكونهنّ ضعيفات العقول: أى لا قوّة لعقولهنّ أن يرين عدم الفايدة في السبّ و الشتم و أنّه من رذايل الأخلاق و أنّه يستلزم زيادة الشرور و إثارة الطبايع الّتي يراد تسكينها و كفّها.
و قوله: و إن كنّا. إلى آخره.
و قوله: و إن كنّا. إلى آخره. تنبيه على الأمر بالكفّ عنهنّ لأنّه إذا امر بالكفّ عنهنّ حال كونهنّ مشركات ففى حال إظهارهنّ الإسلام أولى. و الواو في و إنهنّ للحال.
و قوله: و إن كان الرجل. إلى آخره.
و قوله: و إن كان الرجل. إلى آخره. تنبيه على ما في أذاهنّ من المفسدة و هي السمة اللازمة لفاعله في حالتى حياته و بعد وفاته، و ذلك تنفير عن أذاهنّ في معرض النهى عنه و تناولها بالفهر و الهراوة كناية عن ضربها بهما، و- إن- في قوله: و إن كنّا، و في قوله: و إن كان. هي المخفّفة من الثقيلة و تلزم اللام خبرها فرقا بينها و بين إن النافية.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحهى 384