68 و من كتاب له ع كتبه إلى سلمان الفارسي رحمه الله- قبل أيام خلافته
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا مَثَلُ الدُّنْيَا مَثَلُ الْحَيَّةِ- لَيِّنٌ مَسُّهَا قَاتِلٌ سَمُّهَا- فَأَعْرِضْ عَمَّا يُعْجِبُكَ فِيهَا- لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكَ مِنْهَا- وَ ضَعْ عَنْكَ هُمُومَهَا- لِمَا أَيْقَنْتَ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا- وَ تَصَرُّفِ حَالَاتِهَا- وَ كُنْ آنَسَ مَا تَكُونُ بِهَا أَحْذَرَ مَا تَكُونُ مِنْهَا- فَإِنَّ صَاحِبَهَا كُلَّمَا اطْمَأَنَّ فِيهَا إِلَى سُرُورٍ- أَشْخَصَتْهُ إِلَى مَحْذُورٍ- أَوْ إِلَى إِينَاسٍ أَزَالَتْهُ عَنْهُ إِلَى إِيحَاشٍ وَ السَّلَامُ
سلمان الفارسي و خبر إسلامه
سلمان رجل من فارس من رامهرمز- و قيل بل من أصبهان- من قرية يقال لها جي- و هو معدود من موالي رسول الله ص- و كنيته أبو عبد الله- و كان إذا قيل ابن من أنت- يقول أنا سلمان ابن الإسلام أنا من بني آدم- . و قد روي أنه قد تداوله أرباب كثيرة- بضعة عشر ربا- من واحد إلى آخر حتى أفضى إلى رسول الله ص- .
و روى أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب- أن سلمان أتى رسول الله ص بصدقة- فقال هذه صدقة عليك و على أصحابك- فلم يقبلها و قال إنه لا تحل لنا الصدقة- فرفعها ثم جاء من الغد بمثلها- و قال هدية هذه فقال لأصحابه كلوا- . و اشتراه من أربابه و هم قوم يهود بدراهم- و على أن يغرس لهم من النخيل كذا و كذا- و يعمل فيها حتى تدرك- فغرس رسول الله ص ذلك النخل كله بيده- إلا نخلة واحدة غرسها عمر بن الخطاب- فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة- فقال رسول الله ص من غرسها قيل عمر- فقلعها و غرسها رسول الله ص بيده فأطعمت- .
قال أبو عمر و كان سلمان يسف الخوص- و هو أمير على المدائن و يبيعه و يأكل منه- و يقول لا أحب أن آكل إلا من عمل يدي- و كان قد تعلم سف الخوص من المدينة- . و أول مشاهده الخندق و هو الذي أشار بحفره- فقال أبو سفيان و أصحابه لما رأوه- هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها- . قال أبو عمر و قد روي أن سلمان شهد بدرا و أحدا- و هو عبد يومئذ و الأكثر أن أول مشاهده الخندق- و لم يفته بعد ذلك مشهد- . قال و كان سلمان خيرا فاضلا حبرا- عالما زاهدا متقشفا- .
قال و ذكر هشام بن حسان عن الحسن البصري- قال كان عطاء سلمان خمسة آلاف- و كان إذا خرج عطاؤه تصدق به- و يأكل من عمل يده- و كانت له عباءة يفرش بعضها و يلبس بعضها- .قال و قد ذكر ابن وهب و ابن نافع- أن سلمان لم يكن له بيت- إنما كان يستظل بالجدر و الشجر- و أن رجلا قال له أ لا أبني لك بيتا تسكن فيه- قال لا حاجة لي في ذلك- فما زال به الرجل حتى قال له- أنا أعرف البيت الذي يوافقك قال فصفه لي- قال أبني لك بيتا إذا أنت قمت فيه- أصاب رأسك سقفه- و إن أنت مددت فيه رجليك أصابهما الجدار- قال نعم فبنى له- .
قال أبو عمر و قد روي عن رسول الله ص من وجوه أنه قال لو كان الدين في الثريا لناله سلمانو في رواية أخرى لناله رجل من فارسقال و قد روينا عن عائشة قالت كان لسلمان مجلس من رسول الله ص- ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله ص قال و قد روي من حديث ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله ص قال أمرني ربي بحب أربعة و أخبرني أنه يحبهم- علي و أبو ذر و المقداد و سلمان قال و روى قتادة عن أبي هريرة قال سلمان صاحب الكتابين- يعني الإنجيل و القرآن- .
و قد روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي ع أنه سئل عن سلمان فقال- علم العلم الأول و العلم الآخر- ذاك بحر لا ينزف و هو منا أهل البيت قال و في رواية زاذان عن علي ع سلمان الفارسي كلقمان الحكيم قال و قال فيه كعب الأحبار سلمان حشي علما و حكمة- .
قال و في الحديث المروي- أن أبا سفيان مر على سلمان و صهيب و بلال- في نفر من المسلمين- فقالوا ما أخذت السيوف من عنق عدو الله مأخذها- و أبو سفيان يسمع قولهم- فقال لهم أبو بكر أ تقولون هذا لشيخ قريش و سيدها- و أتى النبي ص و أخبره فقال- يا أبا بكر لعلك أغضبتهم- لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله فأتاهم أبو بكر- فقال أبو بكر يا إخوتاه لعلي أغضبتكم- قالوا لا يا أبا بكر يغفر الله لك- . قال و آخى رسول الله ص بينه و بين أبي الدرداء- لما آخى بين المسلمين- .
قال و لسلمان فضائل جمة و أخبار حسان- و توفي في آخر خلافة عثمان سنة خمس و ثلاثين- و قيل توفي في أول سنة ست و ثلاثين- و قال قوم توفي في خلافة عمر و الأول أكثر- . و أما حديث إسلام سلمان- فقد ذكره كثير من المحدثين و رووه عنه- قال كنت ابن دهقان قرية جي من أصبهان- و بلغ من حب أبي لي أن حبسني في البيت- كما تحبس الجارية- فاجتهدت في المجوسية حتى صرت قطن بيت النار- فأرسلني أبي يوما إلى ضيعة له- فمررت بكنيسة النصارى فدخلت عليهم- فأعجبتني صلاتهم- فقلت دين هؤلاء خير من ديني- فسألتهم أين أصل هذا الدين- قالوا بالشام فهربت من والدي حتى قدمت الشام- فدخلت على الأسقف فجعلت أخدمه و أتعلم منه- حتى حضرته الوفاة- فقلت إلى من توصي بي فقال- قد هلك الناس و تركوا دينهم إلا رجلا بالموصل فالحق به- فلما قضى نحبه لحقت بذلك الرجل-فلم يلبث إلا قليلا حتى حضرته الوفاة- فقلت إلى من توصي بي فقال- ما أعلم رجلا بقي على الطريقة المستقيمة إلا رجلا بنصيبين- فلحقت بصاحب نصيبين- قالوا و تلك الصومعة اليوم باقية- و هي التي تعبد فيها سلمان قبل الإسلام-
قال ثم احتضر صاحب نصيبين- فبعثني إلى رجل بعمورية من أرض الروم- فأتيته و أقمت عنده و اكتسبت بقيرات و غنيمات- فلما نزل به الموت قلت له بمن توصي بي- فقال قد ترك الناس دينهم و ما بقي أحد منهم على الحق- و قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم- يخرج بأرض العرب مهاجرا إلى أرض بين حرتين- لها نخل قلت فما علامته- قال يأكل الهدية- و لا يأكل الصدقة- بين كتفيه خاتم النبوة قال و مر بي ركب من كلب فخرجت معهم- فلما بلغوا بي وادي القرى ظلموني و باعوني من يهودي- فكنت أعمل له في زرعه و نخله- فبينا أنا عنده إذ قدم ابن عم له- فابتاعني منه و حملني إلى المدينة- فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها- و بعث الله محمدا بمكة- و لا أعلم بشيء من أمره- فبينا أنا في رأس نخلة إذ أقبل ابن عم لسيدي-
فقال قاتل الله بني قيلة- قد اجتمعوا على رجل بقباء قدم عليهم من مكة- يزعمون أنه نبي قال فأخذني القر و الانتفاض- و نزلت عن النخلة و جعلت أستقصي في السؤال- فما كلمني سيدي بكلمة- بل قال أقبل على شأنك و دع ما لا يعنيك- فلما أمسيت أخذت شيئا كان عندي من التمر- و أتيت به النبي ص فقلت له بلغني أنك رجل صالح- و أن لك أصحابا غرباء ذوي حاجة- و هذا شيء عندي للصدقة- فرأيتكم أحق به من غيركم- فقال ع لأصحابه كلوا و أمسك فلم يأكل- فقلت في نفسي هذه واحدة و انصرفت- فلما كان من الغد أخذت ما كان بقي عندي و أتيته به- فقلت له إني رأيتك لا تأكل الصدقة- و هذه هدية فقال كلوا و أكل معهم- فقلت إنه لهو فأكببت عليه أقبله و أبكي- فقال ما لك فقصصت عليه القصة فأعجبه- ثم قال يا سلمان كاتب صاحبك- فكاتبته على ثلاثمائة نخلة و أربعين أوقية- فقال رسول الله ص للأنصار أعينوا أخاكم- فأعانوني بالنخل حتى جمعت ثلاثمائة ودية- فوضعها رسول الله ص بيده فصحت كلها- و أتاه مال من بعض المغازي فأعطاني منه- و قال أد كتابتك فأديت و عتقت- .
و كان سلمان من شيعة علي ع و خاصته- و تزعم الإمامية أنه أحد الأربعة الذين حلقوا رءوسهم- و أتوه متقلدي سيوفهم في خبر يطول- و ليس هذا موضع ذكره- و أصحابنا لا يخالفونهم في أن سلمان كان من الشيعة- و إنما يخالفونهم في أمر أزيد من ذلك- و ما يذكره المحدثون من قوله للمسلمين يوم السقيفة- كرديد و نكرديد- محمول عند أصحابنا على أن المراد صنعتم شيئا و ما صنعتم- أي استخلفتم خليفة و نعم ما فعلتم- إلا أنكم عدلتم عن أهل البيت- فلو كان الخليفة منهم كان أولى- و الإمامية تقول معناه أسلمتم و ما أسلمتم- و اللفظة المذكورة في الفارسية لا تعطي هذا المعنى- و إنما تدل على الفعل و العمل لا غير- و يدل على صحة قول أصحابنا أن سلمان عمل لعمر على المدائن- فلو كان ما تنسبه الإمامية إليه حقا لم يعمل له.
فأما ألفاظ الفصل و معانيه فظاهرة- و مما يناسب مضمونه قول بعض الحكماء- تعز عن الشيء إذا منعته بقلة صحبته لك إذا أعطيته- . و كان يقال الهالك على الدنيا رجلان- رجل نافس في عزها و رجل أنف من ذلها- .
و مر بعض الزهاد بباب دار و أهلها يبكون ميتا لهم- فقال وا عجبا لقوم مسافرين- يبكون مسافرا قد بلغ منزله- . و كان يقال يا ابن آدم- لا تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت- و لا تفرح بموجود لا يتركه عليك الموت- . لقي عالم من العلماء راهبا فقال أيها الراهب- كيف ترى الدنيا قال تخلق الأبدان- و تجدد الآمال و تباعد الأمنية و تقرب المنية- قال فما حال أهلها- قال من ظفر بها نصب و من فاتته أسف- قال فكيف الغنى عنها- قال بقطع الرجاء منها- قال فأي الأصحاب أبر و أوفى- قال العمل الصالح- قال فأيهم أضر و أنكى- قال النفس و الهوى- قال فكيف المخرج قال في سلوك المنهج- قال و بما ذا أسلكه- قال بأن تخلع لباس الشهوات الفانية- و تعمل للدار الباقية
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 18