و من خطبة له عليه السّلام لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان
دَعُونِي وَ الْتَمِسُوا غَيْرِي- فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً- لَهُ وُجُوهٌ وَ أَلْوَانٌ- لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ- وَ لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ- وَ إِنَّ الْآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ- وَ الْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ- . وَ اعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ- رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ- وَ لَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَ عَتْبِ الْعَاتِبِ- وَ إِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ- وَ لَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَ أَطْوَعُكُمْ- لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ- وَ أَنَا لَكُمْ وَزِيراً- خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً
المعنى
أقول: حاصل هذا الفصل أنّه لا بدّ لكلّ مطلوب على أمر من تعزّز فيه و تمنّع.
و الحكمة في ذلك أنّ الطالب له يكون بذلك أرغب فيما يطلب فإنّ الطبع حريص على ما منع سريع النفرة عمّا سورع إلى إجابته فيه فأراد عليه السّلام التمنّع عليهم لتقوى رغبتهم إليه فإنّه لم يصل إليه هذا الأمر إلّا بعد اضطراب في الدين في قتل عثمان و الجرأة على الدم فاحتاج في تقويم الخلق و ردّهم إلى قواعد الحقّ إلى أنّ يزدادوا فيه رغبة بهذا الكلام و مثله فقال: دعونى و التمسوا غيرى. ألا ترى أنّه نبّههم بعد هذه التمنّع على أنّ هاهنا امورا صعبة مختلفة يريد أن ينكرها عليهم و يقاوم ببعضهم فيها بعضا و يحملهم على الصلاح، و جعل استقباله لتلك الامور الصعبة علّة لاستقالته من هذا الأمر فقال:
قوله فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تقوم له القلوب
أى لا تصبر و لا تثبت عليه العقول بل تنكره و تأباه لمخالفته الشريعة و مضادّته لنظام العالم، و ذلك الأمر هو ما كان يعلمه من اختلاف الناس عليه بضروب من التأويلات الفاسدة و الشبهات الباطلة كتهمة معاوية و أهل البصرة له بدم عثمان و كتأويل الخوارج عليه في الرضا بالتحكيم و نحو ذلك، و هو المكنىّ عنه بالوجوه و الألوان كناية بالمستعار.
و قوله: و إنّ الآفاق قد أغامت و المحجّة قد تنكّرت.
و قوله: و إنّ الآفاق قد أغامت و المحجّة قد تنكّرت. استعار لفظ الغيم لما غشى آفاق البلاد و أقطار القلوب المتغيّرة العازمة على الفساد من ظلمات الظلم و الجهل، و وجه المشابهة ما تستلزمه هذه الظلمات من توقّع نزول الشرور منها كما يتوقّع نزول المطر و الصواعق من الغيم، و أشار بالمحجّة إلى واضح طريق الشريعة، و تنكّرها جهل الناس بها و عدم سلوكهم لها.
و قوله: و اعلموا. إلى قوله: عتب العاتب.
لمّا تمنّع عليهم و علم صدق رغبتهم فيه شرع فى تقرير ما يريد أن يفعله تقريرا إجماليّا عليهم مع تمنّع دوين الأوّل فأعلمهم أنّه على تقدير إجابتهم إلى هذا الأمر لا يركب بهم إلّا ما يعلم من أمر الشريعة و لا يصغى إلى قول قائل خالف أمر اللّه لمقتضى هواه، و لا عتب عاتب عليه فى أنّه يفضّله أو لم يرضه بما يخالف ما يعلم من الشريعة إذ القائل و العاتب فى ذلك مفتر على اللّه و عاتب عليه و لقد وفى عليه السّلام بما وعدهم به من ذلك كما سنذكره فى قصّة أخيه عقيل لمّا استماحه صاعا من برّ أو شعير فحمى له حديدة و قرّبها منه فأنّ عقيل فقال له: ثكلتك الثواكل أتإنّ من حديدة حماها إنسان للعبة و لا تأنّ من نار أجّجها جبّار لغضبه. و لفظ الركوب مستعار لاستوائه على ما يعلم.
و قوله: و إن تركتمونى إلى آخره.
أى كنت كأحدكم فى الطاعة لأميركم بل لعلّى أكون أطوعكم له: أى لقوّة علمه بوجوب طاعته الإمام، و إنّما قال لعلّى لأنّه على تقدير أن يولّوا أحدا يخالف أمر اللّه لا يكون أطوعهم له بل أعصاهم و احتمال توليتهم لمن هو كذلك قايم فاحتمال طاعته و عدم طاعته له قائم فحسن إيراد لعلّ، و الواو فى قوله: و أنا. للحال، و وزيرا و أميرا حالان، و العامل ما تعلّق بهما الجار و المجرور، و أراد الوزير اللغوىّ و هو المعين و الظهير الحامل لوزر من يظاهره و ثقله، و ظاهر أنّه عليه السّلام كان وزيرا للمسلمين و عضدا لهم، و الخيريّة هاهنا تعود إلى سهولة الحال عليهم فى أمر الدنيا فإنّه إذا كان أميرا لهم حملهم على ما تكره طباعهم من المصابرة فى الحروب و التسوية فى العطايا و منعهم ما يطلبون ممّا فيه للشريعة أدنى منع، و لا كذلك إذا كان وزيرا لهم فإنّ حظّ الوزير ليس إلّا الشور و الرأى الصالح و المعاضدة فى الحروب و قد يخالف فى رأيه حيث لا يتمكّن من إلزام العمل به و إنّما كان هذا لتمنّع دوين الأوّل لأنّ قوله: إن أجبتكم. فيه إطماع لهم بالاجابة.و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحهى 386