خطبه 184 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

روى أن صاحبا لأمير المؤمنين عليه السلام- يقال له: همام- كان رجلا عابدا، فقال له: يا أمير المؤمنين، صف لى المتقين حتى كأنى أنظر إليهم فتثاقل عليه السلام عن جوابه، ثم قال: يا همّام اتّق اللّه و أحسن فإنّ اللّه مع الّذين اتّقوا و الّذين هم محسنون) فلم يقنع همام بهذا القول حتى عزم عليه، فحمد اللّه و أثنى عليه، و صلّى على النبي صلّى اللّه عليه و آله، ثم قال: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ- غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ- لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ- وَ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ‏ أَطَاعَهُ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ- وَ وَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ- فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ- مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَ مَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ وَ مَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ- غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ- وَ وَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ- نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ- كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ- وَ لَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ- لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ- شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَ خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ- عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ- فَهُمْ وَ الْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ- وَ هُمْ وَ النَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ- قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَ شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ- وَ أَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ وَ حَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَ أَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ- صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً- تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ- أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا- وَ أَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا- أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ- تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا- يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ- فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً- وَ تَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَ ظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ- وَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ- أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ- وَ ظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَ شَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ- فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ- مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَ أَكُفِّهِمْ وَ رُكَبِهِمْ وَ أَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ- يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ- وَ أَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ- قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ- يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى- وَ مَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَ يَقُولُ قَدْ خُولِطُوا- وَ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ- لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ- وَ لَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ- فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ- إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ- أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَ رَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي- اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ- وَ اجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ وَ اغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ- وَ حَزْماً فِي لِينٍ وَ إِيمَاناً فِي يَقِينٍ وَ حِرْصاً فِي عِلْمٍ- وَ عِلْماً فِي حِلْمٍ وَ قَصْداً فِي غِنًى وَ خُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ- وَ تَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ وَ صَبْراً فِي شِدَّةٍ وَ طَلَباً فِي حَلَالٍ- وَ نَشَاطاً فِي هُدًى وَ تَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ- يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَ هُوَ عَلَى وَجَلٍ- يُمْسِي وَ هَمُّهُ الشُّكْرُ وَ يُصْبِحُ وَ هَمُّهُ الذِّكْرُ- يَبِيتُ حَذِراً وَ يُصْبِحُ فَرِحاً- حَذِراً لِمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ- وَ فَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَ الرَّحْمَةِ- إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ- لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ- قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وَ زَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى- يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَ الْقَوْلَ بِالْعَمَلِ- تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلًا زَلَلُهُ خَاشِعاً قَلْبُهُ- قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلًا أَمْرُهُ- حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ- الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَ الشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ- إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ- وَ إِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ- يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَ يُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ- وَ يَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ بَعِيداً فُحْشُهُ- لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ- مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ- فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَ فِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ- وَ فِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ- وَ لَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ- يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ- لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَ لَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ- وَ لَا يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ وَ لَا يُضَارُّ بِالْجَارِ- وَ لَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ وَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ- وَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ- إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وَ إِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ- وَ إِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ- نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ- أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ وَ أَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ- بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَ نَزَاهَةٌ- وَ دُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَ رَحْمَةٌ- لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَ عَظَمَةٍ وَ لَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَ خَدِيعَةٍ- قَالَ فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا- فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع‏

أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ- ثُمَّ قَالَ أَ هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا- فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ- فَقَالَ ع وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ- وَ سَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا- فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ

المعنى

أقول: و من هاهنا اختلفت نسخ النهج فكثير منها تكون هذه الخطبة فيها أوّل المجلد الثاني منه بعد الخطبة المسمّاة بالقاصعة، و يكون عقيب كلامه للبرج بن مسهر الطائى قوله: و من خطبة له عليه السّلام الحمد للّه الّذى لا تدركه الشواهد و لا تحويه المشاهد، و كثير من النسخ تكون هذه الخطبة فيها متّصلة بكلامه عليه السّلام للبرج بن مسهر و يتأخّر تلك الخطبة فيكون بعد قوله: و من كلامه له عليه السّلام و هو يلي غسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يتّصل ذلك إلى تمام الخطبة المسمّاة بالقاصعة. ثمّ يليه قوله: باب المختار من كتب أمير المؤمنين و رسائله، و عليه جماعة الشارحين كالإمام قطب الدين أبى الحسن الكيدرىّ و الفاضل عبد الحميد بن أبى الحديد، و وافقتهم هذا الترتيب لغلبة الظنّ باعتمادهم على النسخ الصحيحة. فأمّا همام هذه فهو همام بن شريح بن يزيد بن مرّة بن عمرو بن جابر بن عوف الأصهب، و كان من شيعة على عليه السّلام، و أوليائه ناسكا عابدا، و تثاقله عليه السّلام عن جوابه لما رأى من استعداد نفسه لأثر الموعظة، و خوفه عليه أن يخرج به خوف اللّه إلى انزعاج نفسه و صعوقها. فأمره بتقوى اللّه: أى في نفسه أن يصيبها فادح بسبب سؤاله، و أحسن: أى أحسن إليها بترك تكليفها فوق طوقها، و لذلك قال عليه السّلام حين صعق همام: أما و اللّه لقد كنت أخافها عليه. فحيث لم يقنع همام إلّا بما سأل، و عزم عليه بذلك: أى ألحّ عليه في‏ السؤال و أقسم، أجابه.

فإن قلت: كيف جاز منه عليه السّلام أن يجيبه مع غلبة ظنّه بهلاكه و هو كالطبيب إنّما يعطى كلّا من المرضى بحسب احتمال طبيعته من الدواء.
قلت: إنّه لم يكن يغلب على ظنّه عليه السّلام إلّا الصعقة عن الوجد الشديد فأمّا أنّ تلك الصعقة فيها موته فلم يكن مظنونا له. و إنّما قدّم بيان كونه تعالى غنيّا عن الخلق في طاعتهم و آمنا منهم في معصيتهم لأنّه لمّا كانت أوامره تعالى بأسرها أو أكثرها يعود إلى الأمر بتقواه و طاعته و كان أشرف ما يتقرّب إليه البشر بالتقوى، و هو في معرض صفة المتّقين فرّبما خطر ببعض أوهام الجاهلين أنّ للّه تعالى في تقواه و طاعته منفعة، و له بمعصيته مضرّة فصدّره الخطبة بتنزيهه تعالى عن الانتفاع و التضرّر. و قد مرّ برهان ذلك غير مرّة. و قوله: فقسم. إلى قوله: مواضعهم. تقرير و تأكيد لكمال غناه عنهم لأنّه إذا كان وجوده هو مبدء خلقهم و قسمة معايشهم و وضعهم من الدنيا في مراتبهم و منازلهم من غنىّ و فقير و شريف و وضيع فهو الغنىّ المطلق عنهم، و إليه الإشارة بقوله تعالى «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ»«» ثمّ أخذ في غرض الخطبة، و هو وصف المتّقين فوصفهم بالوصف المجمل.

فقال: فالمتّقون فيها هم أهل الفضايل: أى الّذين استجمعوا الفضايل المتعلّقة بإصلاح قوّتى العلم و العمل،
ثمّ شرع في تفصيل تلك الفضايل و نسقها:

فالاولى: الصواب في القول
و هو فضيلة العدل المتعلّقة باللسان، و حاصله أن لا يسكت عمّا ينبغي أن يقال فيكون مفرّطا، و لا يقول ما ينبغي أن يسكت عنه فيكون مفرطا بل يضع كلّا من الكلام في موضعه اللايق به، و هو أخصّ من الصدق لجواز أن يصدق الإنسان فيما لا ينبغي من القول.

الثانية: و ملبسهم الاقتصاد
و هو فضيلة العدل في الملبوس فلا يلبس ما يلحقه‏ بدرجة المترفين، و لا ما يلحقه بأهل الخسّة و الدناءة ممّا يخرج به عن عرف الزاهدين في الدنيا.

الثالثة: مشى التواضع
و التواضع ملكة تحت العفّة تعود إلى العدل بين رذيلتى المهانة و الكبر، و مشى التواضع مستلزم للسكون و الوقار عن تواضع نفسهم.

الرابعة: غضّ الأبصار عمّا حرّم اللّه
و هو ثمرة العفّة.

الخامسة: و قوفهم أسماعهم على سماع العلم النافع
و هو فضيلة العدل في قوّة السمع، و العلوم النافعة ما هو كمال القوّة النظريّة من العلم الإلهى و ما يناسبه، و ما هو كمال للقوّة العمليّة و هى الحكمة العمليّة كما سبق بيانها.

السادسة: نزول أنفسهم منهم في البلاء كنزولها في الرخاء
أى لا تقنط من بلاء ينزل بها و لا يبطر برخاء يصيبها بل مقامها في الحالين مقام الشكر. و الّذى صفة مصدر محذوف، و الضمير العايد إليه محذوف أيضا، و التقدير نزلت كالنزول الّذى نزلته في الرخاء، و يحتمل أن يكون المراد بالّذى الّذين محذف النون كما في قوله تعالى «كَالَّذِينَ مِنْ» و يكون المقصود تشبيههم حال نزول أنفسهم منهم في البلاء بالّذين نزلت أنفسهم منهم في الرخاء، و المعنى واحد.

السابعة: غلبة الشوق إلى ثواب اللّه و الخوف من عقابه على نفوسهم
إلى غاية أنّ أرواحهم لا تستقرّ في أجسادهم من ذلك لولا الآجال الّتي كتبت لهم، و هذا الشوق و الخوف إذا بلغ إلى حدّ الملكة فإنّه يستلزم دوام الجدّ في العمل و الإعراض عن الدنيا، و مبدءهما تصوّر عظمة الخالق، و بقدر ذلك يكون تصوّر عظمة وعده و وعيده، و بحسب قوّة ذلك التصوّر يكون قوّة الخوف و الرجاء، و هما بابان عظيمان للجنّة.

الثامنة: عظم الخالق في أنفسهم
و ذلك بحسب الجواذب الإلهيّة إلى الاستغراق في معرفته و محبّته، و بحسب تفاوت ذلك الاستغراق يكون تفاوت تصوّر العظمة، و بحسب تصوّر عظمته تعالى يكون تصوّرهم لأصغريّة ما دونه و نسبته إليه في أعين بصائرهم.

و قوله: فهم و الجنّة كمن رآها. إلى قوله: معذّبون. إشارة إلى أنّ العارف و إن كان في الدنيا بجسده فهو في مشاهدته بعين بصيرته لأحوال الجنّة و سعادتها و أحوال النار و شقاوتها كالّذين شاهدوا الجنّة بعين حسّهم و تنعّموا فيها، و كالّذين شاهدوا النار و عذّبوا فيها. و هى مرتبة عين اليقين. فحسب هذه المرتبة كانت شدّة شوقهم إلى الجنّة و شدّة خوفهم من النار.

التاسعة: حزن قلوبهم
و ذلك ثمرة خوف الغالب.

العاشرة: كونهم مأمونى الشرّ
و ذلك أنّ مبدء الشرور محبّة الدنيا و أباطيلها و العارفون بمعزل عن ذلك.

الحادية عشر: نحافة أجسادهم
و مبدء ذلك كثرة الصيام و السهر و جشوبة المطعم و خشونة الملبس و هجر الملاذّ الدنيويّة.

الثانية عشر: خفّة حاجتهم
و ذلك لاقتصارهم من حوائج الدنيا على القدر الضرورىّ من ملبس و مأكل، و لا أخفّ من هذه الحاجة.

الثالثة عشر: عفّة أنفسهم
و ملكة العفّة فضيلة القوّة الشهويّة، و هى الوسط بين رذيلتى خمود الشهوة و الفجور.

الرابعة عشر: الصبر على المكاره أيّام حياتهم من ترك الملاذّ الدنيويّه، و احتمال أذى الخلق، و قد عرفت أنّ الصبر مقاومة النفس الأمّارة بالسوء لئلّا ينقاد إلى قبائح اللذّات، و إنّما ذكر قصر مدّة الصبر و استعقابه للراحة الطويلة ترغيبا فيه، و تلك الراحة بالسعادة في الجنّة كما قال تعالى «وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً» الآية. و قوله: تجارة مربحة. استعار لفظ التجارة لأعمالهم الصالحة و امتثال أوامر اللّه، و وجه المشابهة كونهم متعوّضين بمتاع الدنيا و بحركاتهم في العبادة متاع الآخرة، و رشّح بلفظ الربح لأفضليّة متاع الآخرة و زيادته في النفاسة على ما تركوه، و ظاهر أنّ ذلك بتيسير اللّه لأسبابه و إعدادهم له بالجواذب الإلهيّة.

الخامسة عشر: عدم إرادتهم للدنيا مع إرادتها لهم
و هو إشارة إلى الزهد الحقيقىّ، و هو ملكة تحت العفّة، و كنّى بإرادتها عن كونهم أهلا لأن يكونوا فيها رؤساءاً و أشرافا كقضاة و وزراء و نحو ذلك، و كونها بمعرض أن تصل إليهم لو أرادوها، و يحتمل أن يريد أرادهم أهل الدنيا فحذف المضاف.

السادسة عشر: افتداء من أسرته لنفسه منها
و هو إشارة إلى من تركها و زهد فيها بعد الانهماك فيها و الاستمتاع بها ففكّ بذلك الترك و الإعراض و التمرّن على طاعة اللّه أغلال الهيئات الرديئة المكتسبة منها من عنقه، و لفظ الأسر استعارة في تمكّن تلك الهيئات من نفوسهم، و لفظ الفدية استعارة لتبديل ذلك الاستمتاع بها بالإعراض عنها و المواظبة على طاعة اللّه، و إنّما عطف بالواو في قوله: و لم يريدوها، و بالفاء في قوله: ففدوا. لأنّ زهد الإنسان في الدنيا كما يكون متأخّرا عن إقبالها عليه كذلك قد يكون متقدّما عليه لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و من جعل الآخرة أكبر همّه جمع اللّه عليه همّه و أتته الدنيا و هى راغمة. فلم يحسن العطف هنا بالفاء، و أمّا الفدية فلمّا لم يكن إلّا بعد الأسر لا جرم عطفها بالفاء.

السابعة عشر: كونهم صافيّن أقدامهم بالليل يتلون القرآن و يرتّلونه.
إلى قوله: آذانهم. و ذلك إشارة إلى تطويع نفوسهم الأمّارة بالسوء بالعبادات، و شرح لكيفيّة استثارتهم للقرآن العزيز في تلاوته و غاية ترتيلهم له بفهم مقاصده و تحزينهم لأنفسهم به عند ذكر الوعيدات من جملة استثارتهم لإدواء دائهم، و لمّا كان داؤهم هو الجهل و سائر رذائل العمليّة كان دواء الجهل بالعلم، و دواء كلّ رذيلة الحصول على الفضيلة المضادّة. فهم بتلاوة القرآن يستثيرون بالتحزين الخوف من وعيد اللّه المضادّ للانهماك في الدنيا، و دوائه العلم الّذى هو دواء الجهل، و كذلك كلّ فضيلة حثّ القرآن عليها فهى دواء لما يضادّها من الرذائل، و باقى الكلام شرح لكيفيّة التحزين و التشويق. و قوله: فهم حانون على أوساطهم. ذكر لكيفيّة ركوعهم.

و قوله: مفترشون لجباههم. إلى قوله: أقدامهم. إشارة إلى كيفيّة سجودهم، و ذكر الأعضاء السبعة. و قوله: يطّلبون. إلى قوله: رقابهم. إشارة إلى غايتهم من عبادتهم تلك.

الثامنة عشر:- من صفات النهار- كونهم حكماء
و أراد الحكمة الشرعيّة و ما فيها من كمال القوّة العلميّة و العمليّة لكونها المتعارفة بين الصحابة و التابعين، و روى: حلماء. و الحلم فضيلة تحت ملكة الشجاعة هى الوسط بين رذيلتى المهانة و الإفراط في الغضب، و إنّما خصّ الليل بالصلاة لكونها أولى بها من النهار كما سبق.

التاسعة عشر: كونهم علماء
و أراد كمال القوّة النظريّة بالعلم النظرىّ و هو معرفة الصانع و صفاته.

العشرون: كونهم أبرار
و البرّ يعود إلى العفيف لمقابلته الفاجر.

الحادية و العشرون: كونهم أتقياء
و المراد بالتقوى هاهنا الخوف من اللّه. و قد مرّ ذكر العفّة و الخوف، و إنّما كرّرها هنا في إعداد صفاتهم بالنهار و ذكرها هناك في صفاتهم المطلقة.
قوله: و قد براهم الخوف. إلى قوله: عظيم. شرح لفعل الخوف الغالب بهم، و إنّما يفعل الخوف ذلك لاشتغال النفس المدبّرة للبدن به عن النظر في صلاح البدن، و وقوف القوّة الشهويّة و الغاذيّة عن إدّاء بدل ما يتحلّل، و شبّه برى الخوف لهم ببرى القداح و وجه التشبيه شدّة النحافة، و يتبع ذلك تغيّر السحنات و الضعف عن الانفعالات النفسانيّة من الخوف و الحزن حتّى يحسبهم الناظر مرضى و إن لم يكن بهم مرض، و يقول قد خولطوا إشارة إلى ما يعرض لبعض العارفين عند اتّصال نفسه بالملأ الأعلى و اشتغالها عن تدبير البدن و ضبط حركاته من أن يتكلّم بكلام خارج عن المتعارف مستبشع بين أهل الشريعة الظاهرة فينسب ذلك منه إلى الاختلاط و الجنون و تارة إلى الكفر و الخروج عن الدين كما نقل عن الحسين بن منصور الحلّاج و غيره.
و قوله: و لقد خالطهم أمر عظيم. و هو اشتغال أسرارهم بملاحظة جلال اللّه و مطالعة أنوار الملأ الأعلى.

الثانية و العشرون: كونهم لا يرضون القليل.
إلى قوله: الكثير، و ذلك لتصوّرهم شرف غايتهم المقصودة بأعمالهم. و قوله: فهم لأنفسهم متّهمون. إلى قوله: ما لا يعلمون. فتهمتهم لأنفسهم و خوفهم من أعمالهم يعود إلى شكّهم فيما يحكم به أوهامهم من حسن عبادتهم، و كونها مقبولة أو واقعة على الوجه المطلوب الموصل إلى اللّه تعالى فإنّ هذا الوهم يكون مبدءا للعجب بالعبادة و التقاصر عن الازدياد من العمل.
و التشكّك في ذلك و تهمة النفس بانقيادها في ذلك الحكم للنفس الأمّارة يستلزم خوفها أن تكون تلك الأعمال قاصرة عن الوجه المطلوب و غير واقعة عليه فيكون باعثا على العمل و كاسرا للعجب به، و قد عرفت أن العجب من المهلكات كما قال عليه السّلام: ثلاث مهلكات: شحّ مطاع و هوى متّبع و إعجاب المرء بنفسه. و كذلك خوفهم من تزكية الناس لهم هو الدواء لما ينشأ عن تلك التزكية من الكبر و العجب بما يزكّون به. فيكون جواب أحدهم عند تزكيته: إنّى أعلم بنفسى من غيرى. إلى آخره.

ثمّ شرع بعد ذلك في علاماتهم الّتي بجملتها يعرف أحدهم.
و الصفات السابقة و إن كان كثير منها مما يخصّ أحدهم و يعرف به إلّا أنّ بعضها قد يدخله الرياء فلا يدخل على التقوى الحقّة فجمعها هاهنا و نسقها:

فالأولى: القوّة في الدين
و ذلك أن يقاوم في دينه الوسواس الخنّاس و لا يدخل فيه خداع الناس، و هذا إنّما يكون في دين العالم.

الثانية: الحزم في الأمور
الدنيويّة و التثبّت فيها ممزوجا باللين للخلق و عدم الفظاظة عليهم كما في المثل: لا تكن حلوا فتسترط و لا مرّا فتلفظ. و هى فضيلة العدل في المعاملة مع الخلق، و قد علمت أنّ اللين قد يكون للتواضع المطلوب بقوله‏ «وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»«» و قد يكون عن مهانة و ضعف يقين، و الأوّل هو المطلوب و هو المقارن للحزم في الدين و مصالح النفس، و الثاني رذيلة و لا يمكن معه الحزم لانفعال المهين عن كلّ جاذب.

الثالثة: الإيمان في اليقين
و لمّا كان الإيمان عبارة عن التصديق بالصانع و بما وردت به الشريعة، و كان ذلك التصديق قابلا للشدّة و الضعف، فتارة يكون عن التقليد و هو الاعتقاد المطابق لا لموجب، و تارة يكون عن العلم و هو الاعتقاد المطابق لموجب هو الدليل، و تارة عن العلم به مع العلم بأنّه لا يكون إلّا كذلك، و هو علم اليقين- و محقّقوا الساكين لا يقفون عند هذه المرتبة بل يطلبون اليقين بالمشاهدة بعد طرح حجب الدنيا و الإعراض عنها- أراد أنّ علمهم علم يقين لا يتطرّق إليه احتمال.

الرابعة:
الحرص في العلم و الازدياد منه.

الخامسة: مزج العلم و هو فضيلة القوّة الملكيّة بالحلم
و هو من فضايل القوّة السبعيّة.

السادسة: القصد في الغنى
و هو فضيلة العدل في استعمال متاع الدنيا و حذف الفضول عن قدر الضرورة.

السابعة: الخشوع في العبادة
و هو من ثمرة الفكر في جلال المعبود و ملاحظة عظمته الّذي هو روح العبادة.

الثامنة: التحمّل في الفاقه
و ذلك بترك الشكوى إلى الخلق و الطلب منهم، و إظهار الغنى عنهم. و ذلك ينشأ عن القناعة و الرضا بالقضاء و علوّا الهمّة، و يعين على ذلك ملاحظة الوعد الأجلّ و ما اعدّ للمتّقين.

التاسعة:
و كذلك الصبر في الشدّة.

العاشرة:
الطلب في الحلال، و ينشأ عن العفّة.

الحادية عشر: النشاط في الهدى
و سلوك سبيل اللّه. و ينشأ عن قوّة الاعتقاد فيما وعد المتّقون و تصوّر شرف الغاية.

الثانية عشر: عمل الصالحات على وجل
أى من أن يكون على غير الوجه اللايق فلا يقبل كما روى عن زين العابدين عليه السّلام أنّه كان في التلبية و هو على راحلته فخرّ مغشيّاً عليه فلمّا أفاق قيل له ذلك. فقال: خشيت أن يقول لي ربّى: لا لبّيك و لا سعديك.

الثالثة عشر: أن يكون همّهم عند المساء الشكر
على ما رزقوا بالنهار و ما لم يرزقوا، و يصبحوا و همّهم الذكر للّه ليذكرهم فيرزقهم من الكمالات النفسانيّة و البدنيّة كما قال تعالى «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ».

الرابعة عشر: أن يبيت حذرا و يصبح فرحا. إلى قوله: الرحمة
تفسير لمحذور و ما به الفرح، و ليس مقصوده تخصيص البيات بالحذر و الصباح بالفرح كما يقول أحدنا يمسى فلان و يصبح حذرا فرحا، و كذلك تخصيصه الشكر بالمساء و الذكر بالصباح يحتمل أن لا يكون مقصودا.

الخامسة عشر: قوله إن استصعبت. إلى قوله: تحبّ.
إشارة إلى مقاومته لنفسه الأمّارة بالسوء عند استصعابها عليه، و قهره لها على ما تكره و عدم مطاوعته لها في ميولها الطبيعيّة و محابّها.

السادسة عشر: أن يرى قرّة عينه فيما لا يزول
من الكمالات النفسانيّة الباقية كالعلم و الحكمة و مكارم الأخلاق المستلزمة للذّات الباقية و السعادة الدائمة، و قرّه عينه كناية عن لذّته و ابتهاجه لاستلزامها لقرار العين و بردها برؤية المطلوب، و زهادته فيما لا يبقى من متاع الدنيا.

السابعة عشر: أن يمزج بالحلم العلم
فلا يجهل و يطيش، و القول بالعمل فلا يقول ما لا يفعل فلا يأمر بمعروف و يقف دونه و لا ينهى عن منكر ثمّ يفعله، و لا يعد فيخلف فيدخل في مقت اللّه كما قال تعالى «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ».

الثامنة عشر: قصر أمله و قربه
و ذلك لكثرة ذكر الموت و الوصول إلى اللّه.

التاسعة عشر: قلّة زلله
قد عرفت أنّ زلل العارفين يكون من باب ترك الأولى‏ لأنّ صدور الخيرات عنهم صادر ملكة و الجواذب فيهم إلى الزلل و الخطيئات نادرة تكون لضرورة منهم أو سهو، و لا شكّ في قلّته.

العشرون: خشوع قلبه
عن تصوّر عظمته المعبود و جلاله.

الحادية و العشرون: قناعة نفسه
و ينشأ عن ملاحظة حكمة اللّه في قدرته و قسمته الأرزاق، و يعين عليها تصوّر فوائدها الحاضرة و غايتها في الآخرة.

الثانية و العشرون: قلّة أكله
و ذلك لما يتصوّر في البطنة من ذهاب الفطنة و زوال الرقّة و حدوث القسوة و الكسل عن العمل.

الثالثة و العشرون: سهولة أمره
أى لا يتكلّف لأحد و لا يكلّف أحدا.

الرابعة و العشرون: حرز دينه
فلا يهمل منه شيئا و لا يطرق إليه خللا.

الخامسة و العشرون: موت شهوته
و لفظ الموت مستعار لخمود شهوته عمّا حرّم عليه. و يعود إلى العفّة.

السادسة و العشرون: كظم غيظه
و هو من فضائل القوّة الغضبيّة.

السابعة و العشرون: كونه مأمول الخير
و ذلك لأكثريّة خيريّته، مأمون الشرور و ذلك لعلم الخلق بعدم قصده للشرور.

الثامنة و العشرون: قوله: إن كان في الغافلين.
إلى قوله: الغافلين: أى إن رآه الناس في عداد الغافلين عن ذكر اللّه لتركه الذكر باللسان كتب عند اللّه من الذاكرين لاشتغال قلبه بالذكر و إن تركه بلسانه، و إن كان من الذاكرين بلسانه بينهم فظاهر أنّه لا يكتب من الغافلين. و لذكر اللّه ممادح كثيرة و هو باب عظيم من أبواب الجنّة و الاتّصال لجناب اللّه، و قد أشرنا إلى فضيلته و أسراره.

التاسعة و العشرون: عفوه عمّن ظلمه
و العفو فضيلة تحت الشجاعة، و خصّ من ظلمه ليتحقّق عفوه مع قوّة الداعى إلى الانتقام.

الثلاثون: و يعطى من حرمه
و هى فضيلة تحت السخاء.

الحادية و الثلاثون: و يصل من قطعه
و المواصلة فضيلة تحت العفّة.

الثانية و الثلاثون: بعد فحشه
و أراد ببعد الفحش عنه أنّه قلّما يخرج في‏ أقواله إلى ما لا ينبغي.

الثالثة و الثلاثون: ليّنة في القول
عند محاورة الناس و وعظهم و معاملتهم، و هو من أجزاء التواضع.

الرابعة و الثلاثون: غيبة منكره
و حضور معروفه، و ذلك للزومه حدود اللّه.

الخامسة و الثلاثون: إقبال خيره و إدبار شرّه
و هو كقوله: الخير منه مأمول و الشرّ منه مأمون، و يحتمل باقبال خيره أخذه في الازدياد من الطاعة و تشميره فيها، و بقدر ذلك يكون إدباره عن الشرّ لأنّ من استقبل أمرا و سعى فيه بعد عمّا يضادّه و أدبر عنه.

السادسة و الثلاثون: وقاره في الزلازل
و كنّى بها عن الامور العظام و الفتن الكبار المستلزمة لاضطراب القلوب و أحوال الناس. و الوقار ملكة تحت الشجاعة.

السابعة و الثلاثون: كثرة صبره في المكاره
و ذلك عن ثباته و علوّ همّته عن أحوال الدنيا.

الثامنة و الثلاثون: كثرة شكره في الرخاء
و ذلك لمحبّة المنعم الأوّل- جلّت قدرته- فيزداد شكره في رخائه و إن قلّ.

التاسعة و الثلاثون: كونه لا يحيف على من يبغض
و هو سلب للحيف و الظلم مع قيام الداعى إليهما و هو البغض لمن يتمكّن من حيفه و ظلمه.

الأربعون: كونه لا يأثم فيمن يحبّ
و هو سلب لرذيلة الفجور عنه باتّباع الهوى فيمن يحبّ إمّا بإعطائه ما لا يستحقّ أو دفع ما يستحقّ عليه عنه كما يفعله قضاة السوء و امراء الجور. فالمتّقى لا يأثم بشي‏ء من ذلك مع قيام الداعى إليه و هو المحبّة لمن يحبّه بل يكون على فضيلة العدل في الكلّ على السواء.

الحادية و الأربعون: اعترافه بالحقّ قبل أن يشهدوا عليه
و ذلك لتحرّزه في دينه من الكذب. إذ الشهادة إنّما يحتاج إليها مع إنكار الحقّ، و ذلك كذب.

الثانية و الأربعون: كونه لا يضيع أماناته و لا يفرط فيما استحفظه
اللّه من دينه و كتابه، و ذلك لورعه و لزوم حدود اللّه.

الثالثة و الأربعون: و لا ينسى ما ذكر
من آيات اللّه و عبره و أمثاله و لا يترك‏ العمل بها، و ذلك لمداومته ملاحظتها و كثرة إخطارها بباله و العمل بها لغايته المطلوبة منه.

الرابعة و الأربعون: و لا ينابز بالألقاب
و ذلك لملاحظته النهى في الذكر الحكيم «وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ»«» و لسرّ ذلك النهى و هو كون ذلك مستلزما لإثارة الفتن و التباغض بين الناس، و الفرقة المضادّة لمطلوب الشارع.

الخامسة و الأربعون: و لا يضارّ بالجار
لملاحظة وصيّة اللّه تعالى «وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ»«» و وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في المرفوع إليه: أوصانى ربّى بالجار حتّى ظننت أنّه يورّثه، و لغاية ذلك و هى الالفة و الاتّحاد في الدين.

السادسة و الأربعون: و لا يشمت بالمصائب
و ذلك لعلمه بأسرار القدر، و ملاحظته لأسباب المصائب، و أنّه في معرض أن تصيبه فيتصوّر أمثالها في نفسه فلا يفرح بنزولها على غيره.

السابعة و الأربعون: أنّه لا يدخل الباطل و لا يخرج عن الحقّ
أى لا يدخل فيما يبعّد عن اللّه تعالى من باطل الدنيا و لا يخرج عمّا يقرّب إليه من مطالبه الحقّة، و ذلك لتصوّر شرف غايته.

الثامنة و الأربعون: كونه لا يغمّه صمته
لوضعه كلّا من الصمت و الكلام في موضعه، و إنّما يستلزم الغمّ الصمت عمّا ينبغي من القول و هو صمت في غير موضعه.

التاسعة و الأربعون: كونه لا يعلو ضحكه
و ذلك لغلبة ذكر الموت و ما بعده على قلبه، و ممّا نقل من صفات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم: كان أكثر ضحكه التبسّم، و قد يفتر أحيانا، و لم يكن من أهل القهقهة و الكركرة. و هما كيفيّتان للضحك.

الخمسون: صبره في البغى عليه إلى غاية انتقام اللّه له
و ذلك منه نظرا إلى ثمرة الصبر و إلى الوعد الكريم ذلك «ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ»«» الآية و قوله «وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ».

الحادية و الخمسون: كون نفسه منه في عناء
أى نفسه الأمّارة بالسوء لمقاومته‏ لها و قهرها و مراقبته إيّاها، و الناس من أذاه في راحة لذلك.

الثانية و الخمسون: كون بعده عمّن تباعد عنه لزهده
فيما في أيدى الناس و نزاهته عنه لا عن كبر و تعظيم عليهم، و كذلك دنوّه ممن دنا منه عن لين و رحمة منه لهم لا بمكر بهم و خديعة لهم عن بعض المطالب كما هو عادة الخبيث المكّار.

و هذه الصفات و العلامات قد يتداخل بعضها بعضا، و لكن تورد بعبارة أخرى أو يذكر مفردة ثمّ يذكر ثانيا مركّبة مع غيرها. و بالجملة فهذه الخطبة من جليل و بليغ وصفه و لذلك فعلت بهمّام ما فعلت. فأمّا جوابه عليه السّلام لمن سأله بقوله: ويحك إنّ لكلّ أجل وقتا لا يعدوه: أى ينتهى إليه و يكون غاية له لا يتجاوزها و لا يتأخّر عنها، و الضمير في يعدوه للأجل. و سببا لا يتجاوزه: أى و لذلك الأجل سبب: أى علّة فاعلة لا يتعدّاها إلى غيرها من الأسباب فمنها ما يكون موعظة بالغة كهذه. فهو جواب مقنع للسامع مع أنّه حقّ و صدق، و هو إشارة إلى السبب الأبعد لبقائه عليه السّلام عند سماع المواعظ البالغة و هو الأجل المحكوم به للقضاء الإلهىّ، و أمّا السبب القريب للفرق بينه و بين همّام و نحوه فقوّة نفسه القدسيّة على قبول الواردات الإلهيّة و تعوّده بها و بلوغ رياضته حدّ السكينة عند ورود أكثرها و ضعف نفس همّام عمّا ورد عليه من خوف اللّه و رجائه. و لم يجب عليه السّلام بمثل هذا الجواب لاستلزامه تفضيل نفسه، أو لقصور فهم السائل. و نهيه له عن مثل هذا السؤال و التنفير عنه كونه من نفثات الشيطان لوضعه في غير موضعه و هو من آثار الشيطان. و باللّه العصمة و التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 410

 

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.