و من كلام له عليه السّلام لأصحابه
أَمَّا إِنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ- مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ يَأْكُلُ مَا يَجِدُ وَ يَطْلُبُ مَا لَا يَجِدُ- فَاقْتُلُوهُ وَ لَنْ تَقْتُلُوهُ- أَلَا
وَ إِنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي وَ الْبَرَاءَةِ مِنِّي- فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي فَإِنَّهُ لِي زَكَاةٌ وَ لَكُمْ نَجَاةٌ- وَ أَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلَا تَتَبَرَّءُوا مِنِّي-
فَإِنِّي وُلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَ سَبَقْتُ إِلَى الْإِيمَانِ وَ الْهِجْرَةِ
اللغة
أقول: رحب البلعوم: واسع مجرى الحلق. و بطن مند حق ناتىء بارز.
المعنى
و في هذا الفصل إخبار بما سيكون لأصحابه من الابتلاء بسبّه. و الخطاب لأهل الكوفة.
فقوله: أمّا. يحتمل أن يكون المشدّدة. و التقدير أمّا بعد أنّه كذا، و يحتمل أن يكون مخفّفة و هى ما النافية دخلت عليها همزة الاستفهام، و التقدير أما أنّه سيظهر، و اختلف في مراده بالرجل. فقال أكثر الشارحون: المراد معاوية لأنّه كان بطينا كثير الأكل. روى أنّه كان يأكل فيمّل فيقول: ارفعوا فو اللّه ما شبعت و لكن مللت و تعبت، و كان ذلك داء أصابه بدعاء الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم. روى: أنّه بعث إليه مرّة فوجده يأكل فبعث إليه ثانية فوجده كذلك. فقال: اللهم لا تشبع بطنه. و لبعضهم في وصف آخر.
و صاحب لى بطنه كالهاوية كأنّ في أمعائه معاويةو قيل: هو زياد بن أبي سفيان، و هو زياد بن أبيه، و قيل: هو الحجّاج، و قيل: المغيرة بن شعبة. و و ظهوره عليهم بعده. استعلاؤه و تأمرّه عليهم. و أكله ما يجد مع طلبه لما لا يجد كناية عن كثرة أكله، و جعل ذلك علامة له.
و قوله: فاقتلوه. أى لما هو عليه من الفساد في الأرض، و لن تقتلوه. حكم لدنىّ اطلّع عليه. و قوله: ألا و إنّه سيأمركم بسبىّ. إلى آخره.
إشارة إلى ما سيأمرهم به في حقّه من السبّ و البراءة، و وصيّة لهم بما هو المصلحة إذن. و فرّق عليه السّلام بين سبّه و البراء منه بأن رخصّ في سبّه عند الإكراه عليه و لم يرخّص في التبرّى منه، و في الفرق بينهما لطف، و ذلك أنّ السبّ من صفات القول اللسانىّ و هو أمر يمكن إيقاعه من غير اعتقاده مع احتماله التعريض و مع ما يشتمل عليه
من حقن دماء المأمورين و نجاتهم بامتثال الأمر به. و أمّا التبرّء فليس بصفة قوليّة فقط بل يعود إلى المجانبة القلبيّة و المعاداة و البغض و هو المنهّى عنه هاهنا فإنّه أمر باطن يمكنهم الانتهاء عنه و لا يلحقهم بسبب تركه و عدم امتثال الأمر به ضرر. و كأنّه لحظ فيها قوله تعالى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ«» الآية و قوله في السبّ: فإنّه لى زكاة و لكم نجاة. إشارة إلى أسباب ترخيصه في سبّه أمّا نجاتهم بسبّه فظاهرة و أمّا كونه زكاة له فلوجهين: أحدهما: ما روى في الحديث أنّ ذكر المؤمن بسوء هو زكاة له، و ذمّه بما ليس فيه زيادة في جاهه و شرفه. الثاني: أنّ الطباع تحرص على ما تمنع منه و تلحّ فيه. فالناس لمّا منعوا من ذكر فضائله و الموالاة له و الزموا سبّه و بغضه ازدادوا بذلك محبّة له و إظهارا لشرفه، و لذلك إنّه عليه السّلام سبّه بنو اميّة ألف شهر على المنابر فما زاد ذكره على ذلك إلّا علوّا و لا ازداد الناس في محبّته إلّا غلوّا. و المنقول أنّ الّذي أمر بقطع سبّه عمر بن عبد العزيز، و وضع مكان سبّه من الخطبة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ الآية، و لذلك قال كثير بن عبد الرحمن يمدحه:
و ليت فلم تشتم عليّا و لم تخف برّيا و لم تقبل إساءة مجرم
و فيه يقول الرضىّ الموسوى:
يا ابن عبد العزيز لو بكت العين فتى من اميّة لبكيتك
أنت نزّهتنا عن الشتم و السبّ
و لو كنت مجزيا لجزيتك
غير أنّى أقول إنّك قد طبت و إن لم يطب و لم يزك بيتك
و قوله: فإنّى ولدت على الفطرة. إلى آخره.
تعليل لحسن الانتهاء عن البراءة منه و وجوبه. و أراد بالفطرة فطرة اللّه الّتي فطر الناس عليها و هى بعثهم إلى عالم الأجسام مأخوذا عليهم ميثاق العبوديّة و الاستقامة على سنن العدل في سلوك صراطه المستقيم، و أراد بسبقه إلى الإسلام و الهجرة سبقه إلى طاعة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فيما جاء به من الدين و صحبته له و مهاجرته معه مستقيما في كلّ ذلك على فطرة اللّه لم يدنّس نفسه بشيء من الملكات الرديئة مدّة وقته. أمّا زمان صغره فللخبر المشهور: كلّ مولود يولد على الفطرة، و أمّا بعده فلأنّ الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان هو المتولّى لتربيته و تزكية نفسه بالعلوم و الإخلاص من أوّل وقته إلى أن توفّى صلى اللّه عليه و آله و سلّم كما أشرنا إليه قبل، و كما سيذكر هو بعد كيفيّته، و كان قبوله و استعداده لأنوار اللّه أمرا فطرت عليه نفسه، و جبلّت عليه طبيعته حتّى لم يلحقه في ذلك أحد من الصحابة، و ظاهر أنّ من كان بهذه الصفة من خلفاء اللّه و أولياءه كان التبرّء منه تبرّء من اللّه و رسوله. فوجب الانتهاء عنه. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 149