و من كلام له عليه السّلام
وَ لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص- نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَ أَبْنَاءَنَا وَ إِخْوَانَنَا وَ أَعْمَامَنَا- مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إِيمَاناً وَ تَسْلِيماً- وَ مُضِيّاً عَلَى
اللَّقَمِ وَ صَبْراً عَلَى مَضَضِ الْأَلَمِ- وَ جِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ- وَ لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَ الْآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا- يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ
يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا- أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ- فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَ مَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا- فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ
بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ- وَ أَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ- حَتَّى اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ وَ مُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ- وَ لَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ- مَا
قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَ لَا اخْضَرَّ لِلْإِيمَانِ عُودٌ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً وَ لَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً
أقول: المنقول أنّ هذا الكلام صدر عنه يوم صفّين حين أقرّ الناس بالصلح. و أوّله: إنّ هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحقّ، و لا ليجيبوا إلى كلمة سواء حتّى يرموا بالمناشر تتبعها العساكر، و حتّى يرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب، و حتّى يجرّ ببلادهم الخميس يتلوه الخميس، و حتّى تدعق الخيول في نواحى أراضيهم و بأعناء مشاربهم و مسارحهم، حتّى تشنّ عليهم الغارات من كلّ فجّ عميق، و حتّى يلقاهم قوم صدق صبر لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم و موتاهم في سبيل اللّه إلّا جدّا في طاعة اللّه و حرصا على لقاء اللّه. و لقد كنّا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم الفصل.
اللغة
كلمة سواء: أى عادلة.
و المنشر: خيل من المأة إلى المأتين، و يقال بل الجيش ما يمرّ بشىء إلّا اقتلعه، و الخميس: الجيش.
و تدعق: تغار على أرضهم فتؤثّر فيها حوافرها.
و شنّ الغارة: آثارها.
و اللقم: منهج الطريق.
و المضض: حرقة الألم.
و يتصاولان: يتحاملان و يتطاولان.
و يتخالسان: ينتهز كلّ منهما فرصة صاحبه، و المنون: المنيّة.
و الكبت: الصرف و الإذلال.
و جر ان البعير: مقدّم عنقه من مذبحه إلى منخره.
و تبوّء وطنه: سكن فيه.
المعنى
و مقصوده في هذا الفصل توبيخ أصحابه على ترك الحرب و التقصير فيه.
فقوله: و لقد كنّا. إلى قوله: أوطانه.
بيان لفظه و كيفيّة صنيعه هو و ساير الصحابة في الجهاد بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لغرض قيام الإسلام و ظهور أمر اللّه ليتبيّن للسامعين تقصيرهم بالنسبة إلى ما كان اولئك عليه في جهادهم يومئذ. فبدء بذكر ما كانوا يكافحونه من الشدائد، و أنّ أحدهم كان يقتل أباه و ولده طلبا لرضا اللّه و ذبّا عن دينه ثمّ لا يزيده ذلك إلّا إيمانا و تسليما لقضائه، و مضيّا على واضح سبيله، و صبرا في طاعته على مضض الآلام المتواترة، و أنّ أحدهم كان يصاول عدوّه ليختطف كلّ روح صاحبه. و تجوّز بلفظ الكأس فيما يتجرّعه الإنسان من مضض الألم حال القتل، و نبّه بقوله: مرّة لنا و مرّة لعدوّنا. على أنّ إقدامهم على القتال يومئذ لم يكن عن قوّة منهم على العدوّ و يقين بغلبة بل مع غلب العدوّ لهم و قهره. و مرّة منصوب على الظرف و تقديره فمرّة الإدالة تكون لنا من عدوّنا و مرّة تكون له منّا.
و قوله: فلمّا رأى اللّه صدقنا. إلى قوله: النصر.
فيه تنبيه على أنّ الجود الإلهىّ لا بخل فيه و لا منع من جهته و إنّما هو عامّ الفيض على كلّ قابل استعدّ لرحمته، و أشار برؤية اللّه صدقهم إلى علمه باستحقاقهم و استعدادهم بالصبر الّذي أعدّهم به، و بإنزال النصر عليهم و الكبت لعدوّهم إلى إفاضته على كلّ منهم ما استعدّ له.
و قوله: حتّى استقرّ الإسلام. إلى قوله: أوطانه.
إشارة إلى حصول غايتهم الّتي قصدوها بجهاد العدوّ (اللّه خ) و هى استقرار الإسلام في قلوب عباد اللّه. و استعار لفظ الجران، و رشحّ تلك الاستعارة بالإلقاء ملاحظة لشبهه بالبعير الّذي أخذ مكانه، و كذلك استعار لفظ التبوّء و نسبه إلى الأوطان تشبيها له بمن كان من الناس خائفا متزلزلا لا مستقر له ثمّ اطمأنّ و استقرّ في وطنه. و استعار لفظ الأوطان لقلوب المؤمنين، و كنّى بتبوّء أوطانه عن استقراره فيها.
و قوله: و لعمرى لو كنّا نأتي. إلى قوله: عود.
رجوع إلى مقصوده الأصلىّ و هو تنبيه أصحابه على تقصيرهم. و المعنى لو قصّرنا يومئذ كتقصيركم الآن و تخاذلكم لما حصل ما حصل من استقامة الدين، و كنّى بالعمود للدين عن قوّته و معظمه كناية بالمستعار، و كذلك باخضرار العود للايمان عن نضارته في النفوس، و لاحظ في الاولى تشبيه الإسلام بالبيت ذى العمود، و في الثانية تشبيهه الايمان بالشجرة ذات الأغصان.
و قوله: و أيم اللّه لتحتلبنّها دما.
استعار لفظ حلب الدم لثمرة تقصيرهم و تخاذلهم عمّا يدعوهم إليه من الجهاد، و لاحظ في تلك الاستعارة تشبيههم لتقصيرهم في أفعالهم بالناقة الّتي اصيب ضرعها بآفة من تفريط صاحبها فيها، و الضمير المؤنّث مبهم يرجع في المعنى إلى أفعالهم، و كذلك الضمير في قوله: و لتتبعنّها ندما فإنّ ثمرة التفريط الندامة. و دما و ندما منصوبان على التميز. و قد اتّفق في هذا الفصل نوعان من السجع فاللقم و الألم سجع متوازى، و جرانه و أوطانه مطرّف، و كذلك عمود و عود و دما و ندما. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 147