و من خطبة له عليه السّلام
أَلَا وَ إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ وَ آذَنَتْ بِانْقِضَاءٍ- وَ تَنَكَّرَ مَعْرُوفُهَا وَ أَدْبَرَتْ حَذَّاءَ- فَهِيَ تَحْفِزُ بِالْفَنَاءِ سُكَّانَهَا- وَ تَحْدُو بِالْمَوْتِ
جِيرَانَهَا- وَ قَدْ أَمَرَّ فِيهَا مَا كَانَ حُلْواً- وَ كَدِرَ مِنْهَا مَا كَانَ صَفْواً- فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا سَمَلَةٌ كَسَمَلَةِ الْإِدَاوَةِ- أَوْ جُرْعَةٌ كَجُرْعَةِ
الْمَقْلَةِ- لَوْ تَمَزَّزَهَا الصَّدْيَانُ لَمْ يَنْقَعْ- فَأَزْمِعُوا عِبَادَ اللَّهِ- الرَّحِيلَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ الْمَقْدُورِ عَلَى أَهْلِهَا الزَّوَالُ- وَ لَا يَغْلِبَنَّكُمْ
فِيهَا الْأَمَلُ- وَ لَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ فِيهَا الْأَمَدُ- فَوَاللَّهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِينَ الْوُلَّهِ الْعِجَالِ- وَ دَعَوْتُمْ بِهَدِيلِ الْحَمَامِ- وَ جَأَرْتُمْ جُؤَارَ
مُتَبَتِّلِي الرُّهْبَانِ- وَ خَرَجْتُمْ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ- الْتِمَاسَ الْقُرْبَةِ إِلَيْهِ فِي ارْتِفَاعِ دَرَجَةٍ عِنْدَهُ- أَوْ غُفْرَانِ سَيِّئَةٍ
أَحْصَتْهَا كُتُبُهُ- وَ حَفِظَتْهَا رُسُلُهُ لَكَانَ قَلِيلًا فِيمَا أَرْجُو لَكُمْ مِنْ ثَوَابِهِ- وَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِهِ- وَ اللَّهِ لَوِ انْمَاثَتْ قُلُوبُكُمُ
انْمِيَاثاً- وَ سَالَتْ عُيُونُكُمْ مِنْ رَغْبَةٍ إِلَيْهِ أَوْ رَهْبَةٍ مِنْهُ دَماً- ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِي الدُّنْيَا- مَا الدُّنْيَا بَاقِيَةٌ مَا جَزَتْ أَعْمَالُكُمْ عَنْكُمْ- وَ
لَوْ لَمْ تُبْقُوا شَيْئاً مِنْ جُهْدِكُمْ- أَنْعُمَهُ عَلَيْكُمُ الْعِظَامَ- وَ هُدَاهُ إِيَّاكُمْ لِلْإِيمَانِ
اللغة
أقول: آذنت: أعلمت.
و تنكّر معروفها: جهل.
و حذّاء: سريعة خفيفة،
و يروى بالجيم: أى مقطوعة الخبر و العلاقة.
و الحفز: السوق الحثيث.
و الحفز أيضا الطعن، و السملة بفتح الميم: البقيّة من الماء في الإناء.
و المقلة بفتح الميم و سكون القاف: حصاة يقسم بها الماء عند قلّته يعرف بها بها مقدار ما يسقى كلّ شخص.
و التمزّز: تمصّص الشراب قليلا قليلا.
و الصديان: العطشان.
و نقع ينقع: أى سكن عطشه.
و أزمعت الأمر و أزمعت عليه: أى ثبت عزمى على فعله.
و المقدور: المقدّر الّذي لا بدّ من كونه.
و الأمد: الغاية.
و الولّه العجال: جمع واله و عجول، و هما من الإبل النوق تفقد أولادها. و هديل الحمامة: نوحها.
و الجوار: الصوت المرتفع.
و التبتّل: الانقطاع إلى اللّه بإخلاص النيّة.
و انماث الشيء: تحلّل و ذاب.
و اعلم أنّ مدار هذا الفصل على امور ثلاثة:
أحدها: التنفير عن الدنيا و التحذير منها و النهى عن تأميلها و الأمر بالرحيل عنها.
الثاني: التنبيه على عظيم ثواب اللّه و ما ينبغي أن يرجى منه و يلتفت إليه و يقصد بالرحيل بالنسبة إلى ما الناس فيه ممّا يتوهّم خيرا في الدنيا ثمّ على عظيم عقابه و ما ينبغي أن يخاف منه.
الثالث: التنبيه على عظمة نعمة اللّه على الخلق، و أنّه لا يمكن جزاءها بأبلغ المساعى و أكثر الاجتهاد.
أمّا الأوّل: التنفير عن الدنيا و التحذير منها
فأشار بقوله: الا و إنّ الدنيا قد تصرمّت. إلى قوله: فيها الأمد. و قد علمت أن تصرّمها هو تقضّى أحوالها الحاضرة شيئا فشيئا بالنسبة إلى من وجد فيها في كلّ حين، و أنّ إذنها بالانقضاء هو إعلامها بلسان حالها لأذهان المعتبرين أنّها لا تبقى لأحد، فأمّا تنكّر معروفها: فمعناه تغيّره و تبدّله، و مثاله أنّ الإنسان إذا أصاب لذّة من لذّات الدنيا كصحّة أو أمن أو جاه و نحوه أنس إليه و توهّم بقاءه له و كان ذلك معروفها الّذي أسدته إليه و عرفه و ألفه منها، ثمّ إنّه عن قليل يزول و يتبدّل بضدّه فيصير بعد أن كان معروفا مجهولا. و تكون الدنيا كصديق تنكّر في صداقته و مزّجها بعداوته.
و قوله: و أدبرت حذّاء. أى ولّت حال ما لا تعلّق لأحد بشىء منها مسرعة، و استعار لفظ الإدبار لانتقال خيراتها عمّن انتقلت عنه بموته أو غير ذلك من وجوه زوالها ملاحظة لشبهها بملك أعرض عن بعض رعيّته برفده و ماله و برّه.
قوله: فهى تحفز بالفناء سكّانها و تحدو بالموت جيرانها. استعار لها وصفى السائق و الحادى استعارة بالكناية. و وجه المشابهة كونهم قاطعين لمدّة العمر بالفناء و الموت فهى مصاحبته لهم بذلك كما يصحب السائق و الحادى للإبل بالسوق و الحداء، و إن اريد بالحفز الطعن فيكون قد تجوّز بنسبته إلى البلاء ملاحظة لشبه مصائب الدنيا بالرماح، و كذلك استعار لفظ الفناء و الموت لآلة السوق و الحداء و نزّلهما منزلة الحقيقة. و وجه المشابهة كون الموت هو السبب في انتقال الإنسان إلى دار الآخرة كما أنّ الصوت و السوط مثلا للذين هما آلتا الحداء و السوق هما اللذان بهما يحصل انتقال الإبل من موضع إلى موضع.
و قوله: و قد أمرّ منها ما كان حلوا، و كدر منها ما كان صفوا. كقوله: و تنكّر معروفها: أى إنّ الامور الّتي تقع لذيذة فيها و يجدها الإنسان في بعض أوقاته صافية حلوة خالية عن كدورات الأمراض و مرارة التنغيص بالعوارض الكريهة هى في معرض التغيّر و التبدّل بالمرارة و الكدر فما من شخص يخاطبه بما ذكر إلّا و يصدق عليه أنّه قد عرضت له من تلك اللذّات ما استعقب صفوها كدرا و حلاوتها مرارة إمّا من شباب يتبدّل بكبر، أو غنى بفقر، أو عزّ بذلّ، أو صحّة بسقم.
و قوله: فلم يبق منها إلا سملة. إلى قوله: لم ينقع. تقليل و تحقير لما بقى منها لكلّ شخص شخص من الناس فإنّ بقائها له على حسب بقائه فيها، و بقاء كلّ شخص فيها يسير و وقته قصير. و استعار لفظ السملة لبقيّتها، و شبّها ببقيّة الماء في الإداوة، و بجرعة المقلة، و وجه الشبه ما أشار بقوله: لو تمزّزها الصديان لم ينقع: أى كما أنّ العطشان الواجد لبقيّة الإداوة و الجرعة لو تمصّصها لم ينقع عطشه كذلك طالب الدنيا المتعطّش إليها الواجد لبقيّة عمره و لليسير من الاستمتاع فيه بلذّات الدنيا لا يشفى ذلك غليله و لا يسكن عطشه منها، فالأولى إذن تعويد النفس بالفطام عن شهواتها.
و قوله: فأزمعوا عباد اللّه الرحيل عن هذه الدار. أمر لهم بعد تحقيرها و التنفير عنها بالإزماع، و تصميم العزم على الرحيل عنها بالالتفات إلى اللّه و الإقبال على قطع عقبات الطريق إليه و هو الرحيل عن الدنيا.
و قوله: المقدور على أهلها الزوال. تذكير بما لا بدّ من مفارقتها لتحّف الرغبة فيها ثمّ أعقب ذلك بالنهى عن متابعة الأمل في لذّاتها فإنّه ينسى الآخرة كما سبقت الإشارة إليه، و ذكر لفظ المغالبة تذكير بالأنفة و استثارة للحميّة من نفوسهم ثمّ بالنهى عن توهّم طول مدّة الحياة و استبعاد الغاية الّتي هى الموت فإنّ ذلك يقسى القلب فيورث الغفلة عن ذكر اللّه كما قال تعالى فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ«».
و أمّا الثاني: فهو التنبيه على عظيم ثواب اللّه و عقابه.
فاعلم أنّه لمّا حقّر الدنيا، و حذّر منها، و أمر بالارتحال عنها. أشار بعد ذلك إلى ما ينبغي أن يعظّم و يلتفت إليه و يرجى و يخشى، و هو ثواب اللّه و عقابه، فأشار إلى تعظيمها بتحقير الأسباب و الوسائل الّتي يعتمد عليها العباد و هى غايات جهدهم بالنسبة إلى ما ينبغي أن يرجى من ثوابه و يخشى من عقابه و تلك الأسباب من شدّة الحنين و الوله إلى اللّه و الدعاء المستمرّ و التضرّع المشبه بتبتّل الرهبان. هذا في طرف العبادة.
و إنّما خصّ التشبيه بمتبتّلى الرهبان لشهرتهم بشدّة التضرّع، و كذلك الخروج إلى اللّه من الأموال: و الأولاد و هو أشدّ الزهد، و رتّب ذلك في صورة متصّلة مقدّمها قوله: و لو حننتم إلى قوله: رسله، و تاليها قوله: لكان ذلك قليلا. إلى قوله: من عقابه. و التماس: مفعول له. و خلاصة هذا المقصود بوجيز الكلام إنّكم لو أتيتم بجميع أسباب التقرّب إلى اللّه الممكنة لكم من عبادة و زهد ملتمسين بذلك التقرّب إليه في أن يرفع لكم عنده درجة أو يغفر لكم سيّئة أحصتها كتبه و ألواحه المحفوظة لكان الّذي أرجوه من ثوابه للمتقرّب إليه في أن يرفع منزلته من حضرة قدسه أكثر ممّا يتصوّر المتقرّب أنّه يصل إليه بتقرّبه، و لكان الّذي أخافه من عقابه على المتقرّب في غفران سيّئة عنده أكثر من العقاب الّذي يتوهّم أنّه يدفعه عن نفسه بتقرّبه. فينبغى لطالب الزيادة في المنزلة عند اللّه أن يخلص بكلّيته في التقرّب إليه ليصل هو إلى ما هو أعظم ممّا يتوهّم أنّه يصل إليه من المنزلة عنده، و ينبغي للهارب من ذنبه إلى اللّه أن يخلص بكلّيّته في الفرار إليه ليخلص من هول ما هو أعظم ممّا يتوهّم أنّه يدفع عن نفسه بوسيلته إليه فإنّ الأمر في معرفة ما أعدّ اللّه لعباده الصالحين من الثواب العظيم، و ما أعدّه لأعدائه الظالمين من العقاب الأليم أجّل ممّا يتصوّره عقول البشر ما دامت في عالم الغربة و إن كان عقولهم في ذلك الإدراك متفاوتة، و لمّا كانت نفسه القدسيّة أشرف نفوس الخلق في ذلك الوقت لا جرم نسب الثواب المرجوّ لهم و العقاب المخوف عليهم إلى رجائه هو و خوفه. فقال: ما أرجو لكم من ثوابه و أخاف عليكم من عقابه. و ذلك لقوّة اطّلاعه من ذلك على ما لم يطّلعوا عليه.
و أمّا الثالث: و هو التنبيه على عظيم نعمة اللّه تعالى على العباد
فنبّه عليه أنّ كلّ ما أتوا به من الأعمال الّتي بذلوا جهدهم فيها في طاعة اللّه و ما عساه يمكنهم أن يأتوا به منها فهو قاصر عن مجازاته نعمه العظام. و قد سبق بيان ذلك. و رتّب المطلوب في صورة شرطيّة متّصلة أيضا مقدّمها مركّب من امور:
أحدها: قوله: لو انماثت قلوبكم. أى ذابت خوفا منه و وجدا منه، و كنّى بذلك عن أقصى حال الخائف الراجى لربّه في عبادته.
الثاني قوله: و سالت عيونكم دما، و هو كالأوّل. الثالث قوله: ثمّ عمّرتم في الدنيا ما الدنيا باقية أى مدّة بقاء الدنيا. و تاليها قوله: و ما جزت أعمالكم. إلى آخره. و أنعمه منصوب مفعول جزت. و هداه في محلّ النصب عطفا عليه، و إنّما أفرد الهدى بالذكر و إن كان من الأنعم لشرفه إذ هو الغاية المطلوبة من العبد بكلّ نعمة افيضت عليه فإنّه لم يخلق و لم يفض عليه أنواع النعم.
الإلهيّة إلّا لتأهّل [ليستأهل خ] قلبه، و يستعدّ نفسه لقبول صورة الهدى من واهبها فيمشى بها في ظلمات الجهل إلى ربّه و يجوز بها عقبات صراطه المستقيم، و أكّد ملازمة هذه المتّصلة بالقسم البازّ، و كذلك المتّصلة السابقة، و فايدة هذا التنبيه بعث الخلق على الشكر و توفير الدواعي على الاجتهاد في الإخلاص للّه حياء من مقابلة عظيم إنعامه بالتقصير في شكره و التشاغل بغيره. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 138