ومن كلام له عليه السّلام
لما غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السّلام على شريعة الفرات بصفين و منعوهم الماء قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ-
فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَ تَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ- أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ- فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ- وَ الْحَيَاةُ فِي
مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ- أَلَا وَ إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ- وَ عَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ- حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ
اللغة
أقول: اللمة بالتخفيف: الجماعة القليلة.
و عمس بالتخفيف و التشديد: عمّى و ابهم، و منه عمس الليل أظلم.
و المحلّة: المنزلة.
و في الفصل لطائف.
الاولى: قوله: قد استطعموكم القتال.
استعار لفظ الاستطعام لتحرّشهم بالقتال في منعهم للماء. و وجه الاستعارة استسهالهم للقتال و طلبهم له بمنع الماء الّذي هو في الحقيقة أقوى جذبا للقتال من طلب المأكول بالأقوال.
و لأنّهم لمّا حازوا الماء أشبهوا في ذلك من طلب الطعام له، و لمّا استلزم ذلك المنع طلبهم للقتال تعيّن أن يشبه ما طلبوا إطعامه.
الثانية: قوله: فأقرّوا على مذلّة، و تأخير محلّة. إلى قوله: الماء.
أمر لهم بأحد لازمين عن منعهم الماء و استطعامهم القتال: إمّا ترك القتال، أو إيقاعه. و إنّما أورد الكلام بصورة التخيير بين هذين اللازمين و إن لم يكن مراده إلّا القتال لعلمه بأنّهم لا يختارون ترك القتال مع ما يلزم من الإقرار بالعجز و المذلّه و الاستسلام للعدوّ و تأخير المنزلة عن رتبة أهل الشرف و الشجاعة، و إنّما أورد الوصفين اللازمين لترك القتال. و هما الإقرار على المذلّة و على تأخير المحلّة لينفّر بهما عنه و يظهره لهم في صورة كريهة، و إنّما جعل الريّ من الماء الّذي هو مشتهى أصحابه في ذلك الوقت لازما لترويتهم السيوف من الدماء الّتي يلزمها القتال ليريهم القتال في صورة محبوبة تميل طباعهم إليها. و نسبة التروىّ إلى السيوف نسبة مجازيّة.
الثالثة: قوله: فالموت في حياتكم مقهورين، و الحياة في موتكم قاهرين.
من لطائف الكلام و محاسنه و هو جذب إلى القتال بأبلغ ما يكن من البلاغة فجذبهم إليه بتصويره لهم أنّ الغاية الّتي عساهم يفرّون من القتال خوفا منها و هى الموت موجودة في الغاية الّتي عساهم يطلبونها من ترك القتال و هى الحياة البدنيّة حال كونهم مقهورين. و تجوّز بلفظ الموت في الشدائد و الأهواء الّتي تلحقهم من عدوّهم لو قهرهم و هى عند العاقل أشدّ بكثير من موت البدن و أقوى مقاساة فإنّ المذلّة و سقوط المنزلة و الهضم و الاستنقاص عند ذى اللبّ موتات متعاقبة، و يحتمل أن يكون مجازا في ترك عبادة اللّه بالجهاد فإنّه موت للنفس و عدم لحياتها برضوان اللّه، و كذلك جذبه لهم أنّ الغاية الّتي تفرّون إليها بترك القتال و هى الحياة موجودة في الغاية الّتي تفرّون منها و هى الموت البدنىّ حال كونهم قاهرين أمّا في الدنيا فمن وجهين: أحدهما الذكر الباقى الجميل الّذي لا يموت و لا يفنى. الثاني أنّ طيب حياتهم الدنيا إنّما يكون بنظام أحوالهم بوجود الإمام العادل و بقاء الشريعة كما هى، و ذلك إنّما يكون بإلقاء أنفسهم في غمرات الحرب محافظة على الدين و موت بعضهم فيها. و لفظ الموت مهمل تصدق نسبته إلى الكلّ و إن وجد في البعض، و أمّا في الآخرة فالبقاء الأبدى بالمحافظة على وظائف اللّه و الحياة التامّة في جنّات عدن كما قال تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ«» و في القرينتين الاوليين السجع المتوازى و في اللتين بعدهما السجع المطرف، و في اللتين بعدهما المقابلة.
الرابعة: قوله: ألا و إنّ معاوية.
ذكر للعدوّ برذيلتين، و لأصحابه برذيلتين أمّا الأوليان فكونه قائد غواة، و كونه قد لبّس عليهم الحقّ بالباطل و أراهم الباطل في صورة الحقّ، و أمّا الاخريان لكونهم غواتا عن الحقّ، و كونهم قد انقادوا للباطل عن شبهة حتّى صار جهلهم مركّبة، و الغرض من ذلك التنفير عنهم، و قوله: حتّى جعلوا نحورهم أغراض المنيّة غاية لأصحاب معاوية من تلبيسه الحقّ عليهم. و كنّى بذلك عن تصديّهم للموت، و لفظ الغرض مستعار لنحورهم، و وجه المشابهة جعلهم لنحورهم بصدد أن تصيبها سهام المنيّة من الطعن و الضرب و الذبح و وجوه القتل فأشبهت ما ينصبه الرامى هدفا. و هى استعارة بالكناية كأنّه حاول أن يستعير للمنيّة لفظ الرامى. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 136