و من كلام له عليه السّلام
لما قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و خاطبه العباس و أبو سفيان ابن حرب فى أن يبايعا له بالخلافة
أَيُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ- وَ عَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُنَافَرَةِ- وَضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ- أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ- هَذَا مَاءٌ آجِنٌ وَ لُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا- وَ مُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا- كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ. فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ- وَ إِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ- هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَ الَّتِي- وَ اللَّهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ- مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ- بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمْ- اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ
أقول: سبب هذا الكلام ما روى أنّه لمّا تمّ في سقيفة بني ساعدة لأبي بكر أمر البيعة أراد أبو سفيان بن حرب أن يوقع الحرب بين المسلمين ليقتل بعضهم بعضا فيكون ذلك دمارا للدين فمضى إلى العبّاس، فقال له: يا أبا الفضل إنّ هؤلاء القوم قد ذهبوا بهذا الأمر من بني هاشم و جعلوه في بني تيم و أنّه ليحكم فيناغدا هذا الفظّ الغليظ من بني عدي فقم بنا حتّى ندخل على عليّ و نبايعه بالخلافة و أنت عمّ رسول اللّه و أنا رجل مقبول القول في قريش فإن دافعونا عن ذلك قاتلناهم و قتلناهم فأتيا أمير المؤمنين عليه السّلام فقال له أبو سفيان: يا أبا الحسن لا تغافل عن هذا الأمر متى كنّا تبعا لتيم الأرذال، و كان عليه السّلام يعلم من حاله أنه لا يقول ذلك غضبا للدين بل للفساد الّذي رآه في نفسه فأجابه عليه السّلام بهذا الكلام
اللغة
عرّجوا أي ميلوا و انحرفوا، و الفلاح الفوز و النجاة، و الأجون تغيّر الماء و فساده، و غصّ باللقمة يغصّ بفتح الغين إذا وقفت في حلقه فلم يسغها، و إيناع الثمرة إدراكها، و اندمجت على كذا انطويت عليه و سترته في باطني، و باح بالشيء أظهره، و الطوىّ البرء، و الرشا حبلها. قوله شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة.
المعنى
شبّه عليه السّلام الفتنة بالبحر المتلاطم فلذلك استعار له لفظ الأمواج و كنّى بها عن حركة الفتنة و قيامها، و وجه المشابهة ظاهر لاشتراك البحر و الفتنة عندهيا جهما في كونهما سببا لهلاك الخائضين فيهما، و استعار بسفن النجاة لكلّ ما يكون وسيلة إلى الخلاص من الفتنة من مهادنة أو حيلة مخلّصة أو صبر، و وجه المشابهة كون كلّ منهما وسيلة إلى السلامة إذ آحاد الطرق المذكورة طرق إلى السلامة من ثوران الفتنة و الهلاك فيها كما أنّ السفينة سبب للخلاص من أمواج البحر،
قوله و عرّجوا عن طريق المنافرة أمر لهم بالعدول عن طريق المنافرة إلى السكون و السلامة و ما يوجب سكون الفتنة، و كذلك قوله وضعوا تيجان المفاخرة أمر بطريق آخر من طرق النجاة و هي ترك المفاخرة، فإنّ المفاخرة ممّا يهيّج الأضغان و تثير الأحقاد و توجب قيام الفتنة، و لمّا كان أكبر ما ينتهي إليه أرباب الدنيا من المفاخرة هو لبس التيجان و كانت الاصول الشريفة و الأبوات الكريمة و القنيات السنة هي أسباب الافتخار الدنيويّ و منشاءه كانت المشابهة بينها و بين التيجان حاصلة فاستعار عليه السّلام لفظها لها و أمرهم بوضعها.
قوله أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح. لمّا نهى عليه السّلام عن الفتنة و بيّن أنّ المفاخرة و المنافرة ليسا طريقين محمودين أردف ذلك بالإشارة إلى أنّه كيف ينبغي أن يكون حال المتصدّي لهذا الأمر، و كيف يكون طريق فوزه بمقاصده أو النجاة له، فحكم بالفوز لمن نهض بجناح، و استعار لفظ الجناح للأعوان و الأنصار، و وجه المشابهة ظاهر فإنّ الجناح لمّا كان محلّ القدرة على الطيران و التصرّف و كانت الأعوان و الأنصار بهم القوة على النهوض إلى الحرب و الطيران في ميدانها لا جرم حصلت المشابهة فاستعير لهم لفظ الجناح، و حكم بالنجاة للمستسلم عند عدم الجناح و كلاهما يشملهما اسم الفلاح، و في هذا الكلام تنبيه على قلّة ناصره في هذا الأمر. تقدير الكلام أنّه ليس الطريق ما ذكرتم بل الصواب فيما يفعل ذو الرأي في هذا الأمر أنّه إمّا أن يكون ذا جناح فينهض به فيفوز بمطلوبه أو لا يكون فيستسلم و ينقاد فينجو و يريح نفسه من تعب الطالب. قوله ماء آجن و لقمة يغصّ بها آكلها. تنبيه إلى أنّ المطالب الدنيويّة و إن عظمت فهي مشوبة بالكدر و التغيّر و النقص، و أشار إلى أمر الخلافة في ذلك الوقت، و تشبّهها بالماء و اللقمة ظاهر إذ عليهما مدار الحياة الدنيا، و أمر الخلافة أعظم أسباب الدنيا فتشابها فاستعار لفظهما لما يطلب منها و كنّى بهما عنه، و لمّا كان أجون الماء و الغصص باللقمة ينقضهما و يوجب نفار النفس عن قبولهما، و كانت المنافسة في أمر الخلافة و التجاذب و المنافرة بين المسلمين فيها و كونها في معرض الزوال ممّا يوجب التنفير عنها و تنقيصها و عدم الالتذاذ بها نبّه عليه السّلام بالأجون و الغصص باللقمة على تلك الامور، و كنّى بهما عنها ليسكن بذلك فورة من استنهضه في هذا الأمر من بني هاشم فكأنّه قال إنّها لقمة منغصّة و جرعة لا يسيغها شاربها.
قوله و مجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه. تنبيه على أنّ ذلك الوقت ليس وقت الطلب لهذا الأمر إما لعدم الناصر أو لغير ذلك، و كنّى لمجتني الثمرة عن طالبها فاستلزم ذلك تشبيهها بالثمرة أيضا لاشتراكهما في كونهما محلّا للالتذاذ أو نحوه، ثمّ شبّه مجتني الثمرة لغير وقتها بالزارع بغير أرضه و وجه الشبه عدم الانتفاع في الموضعين إذ كان الزارع بغير أرضه في محلّ أن يمنع من ذلك التصرّف فيبطل سعيه و لا ينتفع بزرعه فكذلك مجتني الثمرة لغير وقتها لا ينتفع بها فكذلك طلبه للخلافة في ذلك الوقت.
قوله فإن أقل يقولوا: حرص على الملك و إن أسكت يقولوا: جزع من الموت. شكاية من الألسنة و الأوهام الفاسدة في حقّه وردت في معرض الكلام، و إشارة إلى أنّه سواء طلب الأمر و سكت عنه فلا بدّ من أن يقال في حقّه و ينسب إلى أمر، ففي القيام و الطلب ينسب إلي الحرص و الاهتمام بأمر الدنيا، و في السكوت ينسب إلى الذلّة و العجز و خوف الموت.
و أوهام الخلق و ألسنتهم لا تزال مولعة بأمثال ذلك بعضهم في حقّ بعض في المنافسات. قوله هيهات بعد اللتيّا و الّتي و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه. ورد مورد التكذيب للأوهام الحاكمة في سكوته بجزعه أي بعد ما يقولون، و اللتيّا و الّتي كنايتان عن الشدائد و المصائب العظيمة و الحقيرة، و أصل المثل أنّ رجلا تزوّج امرأة قصيرة صغيرة سيّئة الخلق فقاسى منها شدائد فطلّقها و تزوّج طويلة فقاسى منها أضعاف ما قاسى من الصغيرة فطلّقها و قال بعد اللتيّا و الّتي لا أتزوّج أبدا، فصار ذلك مثلا للداهية الكبيرة و الصغيرة، و تقدير مراده بعد ملاقاة كبار الشدائد و صغارها انسب إلى الجزع من الموت.
بعد ما يقولون ثمّ أكّد تكذيبهم في دعوى جزعه من الموت بالقسم البارّ أنّه آنس بالموت من الطفل بثدي امّه و ذلك أمر بيّن من حاله عليه السّلام إذ كان سيّد العارفين بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و رئيس الأوليّاء، و قد عرفت أنّ محبّة الموت و الإنس به متمكّن من نفوس أولياء اللّه لكونه وسيلة لهم إلى لقاء أعظم محبوب و الوصول إلى أكمل مطلوب،و إنّما كان آنس به من الطفل بثدي امّه لأنّ محبّة الطفل للثدي و انسه به و ميله إليه طبيعيّ حيوانيّ في معرض الزوال، و ميله إلى لقاء ربّه و الوسيلة إليه ميل عقليّ باق فأين أحدهما من الآخر.
قوله بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوىّ البعيدة. إشارة إلى سبب جمليّ لتوقفه عن الطلب و القيام غير ما نسبوه إليه من الجزع و الخوف من الموت و هو العلم الّذي انطوى عليه فإنّ علمه بعواقب الامور و أدبارها و تطلّعه إلى نتائج الحركات بعين بصيرته الّتي هي كمرآة صافية حوذى بها صور الأشياء في المرآة العالية فارتسمت فيها كما هي. ممّا يوجب توقّفه عمّا يعلم أنّ فيه فسادا، و تسرّعه إلى ما يعلم فيه مصلحة بخلاف الجاهل الّذي يقدم على عظائم الامور بقصر الرأي لا عن بصيرة قادته إلى ذلك ثمّ نبّه على عظيم قدر العلم الّذي اندمج عليه بقوله لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوىّ البعيدة، و الجملة الشرطيّة في موضع الجرّ صفة لعلم، و أشار باضطرابهم على ذلك التقدير إلى تشتّت آرائهم عند أن يكشف لهم ما يكون من أمر الخلافة و إلى من ينتهي و إلى ما يؤول إليه حال الناس إذ كان ذلك ممّا وقّفه عليه الرسول صلى اللّه عليه و آله و أعدّه لفهمه فإنّ كثيرا منهم في ذلك الوقت كان نافرا عن عمر و آخرون عن عثمان فضلا عن معاوية، و منهم من كان يؤهّل نفسه للخلافة في ذلك الوقت و يطلبها لنفسه و بعد عقدها لأبي بكر كان يرجوا أن يؤول إليه بعده، و إذا كان الأمر كذلك فظاهر أنّه عليه السّلام لو باح لهم بما علمه من عاقبة هذا الأمر لم يكن لهم ذلك النظام الحاصل في ذلك الوقت ليأس بعضهم من وصول هذا الأمر إليه و خوف بعضهم من غلظة عمر و نفرتهم منه و نفار آخرين من بني اميّة و ما يكون منهم، و شبّه اضطراب آرائهم على ذلك التقدير باضطراب الأرشية في الطوىّ البعيدة مبالغة، و هو تشبيه للمعقول بالمحسوس، و ذلك أنّ الطوىّ كلّما كانت أعمق كان اضطراب الحبل فيها أشدّ لطوله فكذلك حالهم حينئذ أي يكون لكم اضطراب قوىّ و اختلاف شديد، و قيل: أراد أنّ الّذي يمنعني من المنافسة في هذا الأمر و القتال عليه شغلي بما انطويت عليه من العلم بأحوال الآخرة و ما شاهدته من نعيمها و بؤسها ممّا لو كشفته لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوىّ البعيدة خوفا من اللّه و وجلا من عتابه و شوقا إلى ثوابه و لذهلتم عمّا أنتم فيه من المنافسة في أمر الدنيا، و هذا الوجه محتمل الإرادة من هذا الكلام، و لعلّ في تمام هذا الكلام لو وجد ما يوضح المقصود منه و لم أقف عليه.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحهى 280-270