و من كلام له عليه السّلام عند عزمه على المسير إلى الشام
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ- وَ كَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَ سُوءِ الْمَنْظَرِ- فِي الْأَهْلِ وَ الْمَالِ وَ الْوَلَدِ- اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ- وَ أَنْتَ الْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ- وَ لَا يَجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ- لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لَا يَكُونُ مُسْتَصْحَباً- وَ الْمُسْتَصْحَبُ لَا يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً أقول: روى: أنّه عليه السّلام دعا هذا الدعاء عند وضعه رجله في الركاب متوجّها إلى حرب معاوية.
اللغة
و وعثاء السفر مشقّته، و أصله المكان المتعب لكثرة رمله، و غوص الأرجل فيه.
و الكابة: الحزن.
المعنى
يشتمل هذا الفصل على اللجأ إلى اللّه في خلاص طريقه المتوجّه فيها بدءا و عودا من الموانع الصارفة عن تمام المقصود، و في سلامة الأحوال المهمّة الّتي تتعلّق النفس بها عن المشتغلات البدنيّة المعوّقة عن عبادة اللّه. و أعظمها أحوال النفس، ثمّ ما يصحبها من أهل و مال و ولد. ثمّ عقّب ذلك بالإقرار بشمول عنايته و جميل رعايته و صحبته تقريرا لقوله تعالى وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ إذ شأن الصاحب العناية بامور صاحبه، و شأن الخليفة على الشيء العناية بذلك و حفظه ممّا يوجب له ضررا، و استلزم جمعه له بين هذين الحكمين و هما الخلافة و الاستصحاب بقوله: و لا يجمعهما غيرك. كونه تعالى بريئا عن الجهة و الجسميّة إذ كان اجتماعهما ممتنعا للأجسام. إذ لا يكون جسم مستصحبا مستخلفا في حال واحد، و أكّد ذلك و بيّنه بقوله: لأنّ المستخلف لا يكون مستصحبا، و المستصحب لا يكون مستخلفا فإن قلت: هذا الحصر إنّما يتمّ لو قلنا: إنّ كلّ ما ليس بذى جهة هو واجب الوجود. و هذا مذهب خاصّ. فما وجه صحّته مطلقا.
قلت: الحصر صادق على كلّ تقدير فإنّه على تقدير ثبوت امور مجرّدة عن الجسميّة و الجهة سوى الحقّ سبحانه فالمستحقّ للجمع بين هذين الأمرين بالذات و الأولى هو اللّه تعالى، و ما سواه فبالعرض. فيحمل الحصر على ذلك الاستحقاق. و لنبحث عن فايدة الدعاء و سبب إجابته فإنّه ربما تعرض لبعض الأذهان شبهة فيقول: إمّا أن يكون المطلوب بالدعاء معاوم الوقوع للّه أو معلوم اللاوقوع. و على التقديرين لا فايدة في الدعاء لأنّ ما علم اللّه وقوعه وجب و ما علم عدمه امتنع. فنقول في الجواب عن هذا الوهم: إنّ كلّ كاين فاسد موقوف في كونه و فساده على شرائط توجد و أسباب تعدّ لأحدهما لا يمكن بدونها كما علمت ذلك في مظانّه. و إذا جاز ذلك فلعلّ الدعاء من شرائط ما يطلب به. و هما و إن كانا معلومى الوقوع للّه و هو سببهما و علّتهما الاولى إلّا أنّه هو الّذي ربط أحدهما بالآخر فجعل سبب وجود ذلك الشيء الدعاء كما جعل سبب صحّة المريض شرب الدواء و ما لم يشرب الدواء لم يصحّ. و أمّا سبب إجابته فقال العلماء: هو توافي الأسباب. و هو أن يتوافى سبب دعاء رجل مثلا فيما يدعو فيه و ساير أسباب وجود ذلك الشيء معا عن البارى تعالى، لحكمة إلهيّة على ما قدّر و قضى. ثمّ الدعاء واجب، و توقّع الإجابة واجب. فإنّ انبعاثنا للدعاء سببه من هناك و يصير دعانا سببا للإجابة. و موافاة الدعاء لحدوث الأمر المدعوّ لأجله هما معلولا علّة واحدة، و قد يكون أحدهما بواسطة الآخر، و قد يتوهّم أنّ السماويّات تنفعل عن الأرضيّة، و ذلك أنّا ندعو فيستجاب لنا. و ذلك باطل لأنّ المعلول لا يفعل في علّته البتّة. و إذا لم يستجب الدعاء لداع و إن كان يرى أنّ العاية الّتي يدعو لأجابتها نافعة فالسبب في عدم الإجابة أنّ الغاية النافعة ربّما لا تكون نافعة بحسب مراده بل بحسب نظام الكلّ فلذلك تتأخّر إجابة دعائه أو لا يستجاب له، و بالجملة يكون عدم الإجابة لفوات شرط من شروط ذلك المطلوب حال الدعاء.
و أعلم أنّ النفس الزكيّة عند الدعاء قد يفيض عليها من الأوّل قوّة تصير بها مؤثّرة في العناصر فتطاوعها متصرّفة على إرادتها فيكون ذلك إجابة للدعاء فإنّ العناصر موضوعة لفعل. النفس فيها. و اعتبار ذلك في أبداننا فإنّا ربّما تخيّلنا شيئا فتتغيّر أبداننا بحسب ما يقتضيه أحوال نفوسنا و تخيّلاتها، و قد يمكن أن تؤثّر النفس في غير بدنها كما تؤثّر في بدنها، و قد تؤثّر في نفس غيرها، و قد أشرنا إلى ذلك في المقدّمات.
و قد يستجيب اللّه لتلك النفس إذا دعت فيما تدعو فيه إذا كانت الغاية الّتي تطلبها بالدعاء نافعه بحسب نظام الكلّ، و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 124