و من كلام له عليه السّلام
لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيبانى إلى معاوية، و كان قد ابتاع سبى بنى ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السّلام و أعتقه، فلما طالبه بالمال خاس به و هرب إلى الشام: قَبَّحَ اللَّهُ مَصْقَلَةَ- فَعَلَ فِعْلَ السَّادَةِ وَ فَرَّ فِرَارَ الْعَبِيدِ- فَمَا أَنْطَقَ مَادِحَهُ حَتَّى أَسْكَتَهُ- وَ لَا صَدَّقَ وَاصِفَهُ حَتَّى بَكَّتَهُ- وَ لَوْ أَقَامَ لَأَخَذْنَا مَيْسُورَهُ- وَ انْتَظَرْنَا بِمَالِهِ وُفُورَهُ
أقول: مصقلة هذا كان عاملا لعلىّ عليه السّلام على أردشير خرّه. و بنو ناجية: قبيلة نسبوا أنفسهم إلى سامة بن لوىّ بن غالب فدفعتهم قريش عن هذا النسب و سمّتهم بنى ناجية و هى امّهم امرأة سامة، و أمّا سبب هربه إلى الشام فهو أنّ الحريث أحد بنى ناجية كان قد شهد مع علىّ عليه السّلام صفّين ثمّ استهواه الشيطان فصار من الخوارج بسبب التحكيم، و خرج هو و أصحابه إلى المداين مفارقا لعلىّ عليه السّلام فوجّه إليهم معقل بن قيس في ألفى فارس من أهل البصرة و لم يزل يتبعهم بالعسكر بعد العسكر حتّى ألحقوهم بساحل فارس، و كان به جماعة كثيرة من قوم الحريث و كان فيهم من أسلم عن النصرانيّة فلمّا رأوا ذلك الاختلاف ارتدّوا و اجتمعوا عليه فزحف إليهم معقل بمن معه فقتل الحريث و جماعة منهم و سبا من كان أدرك فيهم من الرجال و النساء، و نظر فيهم فمن كان مسلما أخذ بيعته و خلّى سبيله و احتمل الباقين من النصارى و عيالهم معه و كانوا خمسمائة نفر حتّى مرّوا بمصقلة فاستغاث إليه الرجال و النساء و مجّدوه و طلبوا منه أن يعتقهم فأقسم ليتصدّقن عليهم بذلك ثمّ بعث إلى معقل بن قيس فابتاعهم منه بخمسمائة ألف درهم ثمّ وعده أن يحمل المال في أوقات مخصوصة فلمّا قدم معقل على علىّ عليه السّلام و أخبره القصّة شكر سعيه و انتظر المال من يد مصقلة فابطأ به فكتب إليه باستعجاله أو بقدومه عليه فلمّا قرأ كتابه قدم عليه و هو بالكوفة فاقراه أيّاما ثمّ طالبه بالمال فأدّى منه مائتى ألف درهم و عجز عن الباقى و خاف فلحق بمعاوية فبلغ عليّا عليه السّلام فقال الفصل. و لنرجع إلى المتن.
اللغة
قبحّه اللّه: أى نحّاه عن الخير. و التبكيت: كالتقريع و اللائمة. و الوفور: مصدر وفر المال أى نما و زاد، و يروى موفورة.
المعنى
و مقصوده عليه السّلام بعد أن قدّم الدعاء على مصقلة بيان خطأه فإنّه أشار إلى جهة الخطأ و هى جمعه بين أمرين متنافيين في العرف: و هما فعل السادة و ذى المروّة و الحميّة حيث اشترى القوم و اعتقهم، مع الفرار الّذى هو شيمة العبيد. ثمّ أكّد عليه السّلام ذلك بمثلين.
أحدهما: ما أنطق مادحه حتّى أسكته، و يفهم منه معنيان.
أحدهما: أن يكون حتّى بمعنى اللام: أى إنّه لم ينطق مادحه حتّى يقصد إسكاته بهربه فإنّ إسكات المادح لا يتصوّر قصده لو قصد إلّا بعد إنطاقه و هو لم يتمّم فعله الّذي يطلب به إنطاق مادحه بمدحه من الكرم و الحميّة و الرقّة و نحوها، فكأنّه قصد إسكات مادحه بهروبه فأزوى عليه ذلك، و قال: إنّه لم ينطقه بمدحه فكيف يقصد إسكاته بهروبه، و إن كان العاقل لا يتصوّر منه قصد إسكات مادحه عن مدحه إلّا أنّه لاختياره الهروب المستلزم لإسكات المادح صار كالقاصد له فنسب إليه. الثاني: أن يكون المراد أنّه قد جمع بين غايتين متنافيتين: إنطاقه لمادحه بفداء للأسرى، مع إسكاته بهربه قبل تمام إنطاقه. و هو وصف له بسرعة إلحاقه لفضيلته برذيلته حتّى كأنّه قصد الجمع بينهما، و هذا كما تقول في وصف سرعة تفرّق الأحباب عن اجتماعهم: ما اجتمعوا حتّى افترقوا: أى لسرعة افتراقهم كأنّ الدهر قد جمع لهم بين الاجتماع و الافتراق. الثاني: قوله: و لا صدّق واصفه حتّى بكّته. و المفهوم منه كالمفهوم من الّذي قبله.
قوله: و لو أقام. إلى آخره.
لمّا أشار إلى خطأه أردفه بما يصلح جوابا لما عساه يكون عذرا له لو اعتذر و هو توهّمه التشديد عليه في أمر الباقى من المال حتّى كان ذلك الوهم سبب هزيمته، و في بعض الروايات: لو أقام لأخذنا منه ما قدر عليه فإن أعسر أنظرناه فإن عجز لم نأخذ بشيء. و الأوّل هو المشهور. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابنميثم)، ج 2 ، صفحهى 117