و من خطبة له عليه السّلام
إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ وَ لَا أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْهُ- وَ مَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ- وَ لَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ
اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً- وَ نَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلَى حُسْنِ الْحِيلَةِ- مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ- قَدْ يَرَى
الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَ دُونَهَا مَانِعٌ- مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَ نَهْيِهِ- فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا- وَ يَنْتَهِزُ
فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ
اللغة
أقول: الجنّة: ما استترت به من سلاح و نحوه. و القلّب الحوّل: الّذى يكثر تحوّله و تقلّبه في اختيار الامور، و تعرّف وجوهها. و الانتهاز: المبادرة إلى الأمر.
و الفرصة: وقت الإمكان. و الحريجة: التخرّج و هو التحرّز من الحرج و الإثم.
المعنى
و اعلم أنّ الوفاء ملكة نفسانيّة ينشأ من لزوم العهد كما ينبغي، و البقاء عليه، و الصدق ملكة تحصل من لزوم الأقوال المطابقة، و هما فضيلتان داخلتان تحت فضيلة العفّة متلازمتان، و لمّا كان التوأم هو الولد المقارن لولد آخر في بطن واحد اشبهه الوفاء لمقارنته الصدق تحت العفّة، فاستعار لفظه له. ثمّ لمّا كانت فضيلة الوفاء مقابلة برذيلة الغدر و فضيلة الصدق مقابلة برذيلة الكذب و رذيلتا الغدر و الكذب أيضا توأمين تحت رذيلة الفجور المقابلة لفضيلة العفّة.
قوله: و لا أعلم جنّة أوقى منه.
حكم ظاهر فإنّ الوفاء وقاية تامّة للمرء أمّا في آخرته فللاستتارة به من عذاب اللّه الّذي هو أعظم محذور، و أمّا في دنياه فللاستتارة به من السبّ و العار و ما يلزمه عدم الوفاء من الغدر و الكذب الملطخين لوجه النفس. و إذا علمت أنّه لا نسبة لشيء ممّا يجتنّ منه بالأسلحة و غيرها إلى ما يتوقّى بالوفاء علمت أنّه لا جنّة أوقى من الوفاء، و ممادح الوفاء و مذامّ الغدر كثيرة قال اللّه تعالى الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ«» وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا الآية و قال في تمدّحه بالوفاء إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ قال فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً«» و من الخبر في ذمّ الغدر: لكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة.
و قوله: و لا يغدر من علم كيف المرجع.
أقول: العلم بكيفيّة المرجع إلى اللّه تعالى و الاطّلاع على منازل السفر إليه و على أحوال الآخرة الّتي هى المستقرّ صارف قوىّ عن ارتكاب الرذائل الّتي من جملتها الغدر و إنّما خصّ الغدر بنسبة أهله إلى الجهل بأمر المعاد لكونه في معرض مدح الوفاء و الترغيب فيه.
قوله: و لقد أصبحنا في زمان. إلى قوله: الحيلة
أقول: إنّما اتّخذ أهل الزمان الغدر كيسا و نسبهم كثير إلى حسن الحيلة لجهل الفريقين بثمرة الغدر و لعدم تمييزهم بين الغدر و الكيس فإنّه لمّا كان الغدر كثيرا ما يستلزم الذكاء و الفطنة لوجه الحيله و ايقاعها بالمغدور به و كان الكيس أيضا عبارة عن الفطانة و الذكاء وجودة الرأى في استخراج وجوه المصالح الّتي تنبغى كانت بينهما مشاركة في استلزام مفهوميها للتفطّن و الذكاء في استخراج وجه الحيلة و ايقاع الآراء إلّا أنّ تفطّن الغادر يستعمله في استنباط الحيلة و إن خالفت القوانين الشرعيّة و فاتت المصالح الكليّة في جنب مصلحة جزئيّة تخصّه، و تفطّن الكيّس إنّما يستعمله في ايقاع رأى أو حيلة تنتظم مصلحة العالم و توافق القوانين الشرعيّة، و لدقّة الفرق بينهما استعمل الغادرون غدرهم في موضع الكيس، و نسبهم أيضا الجاهلون في غدرهم إلى حسن حيلتهم كما نسب ذلك إلى عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبه و نحوهما، و لم يعلموا أنّ حيلة الغادر تخرجه إلى رذيلة الفجور، و أنّه لا حسن في حيلة جرّت إلى رذيلة.
و قوله: ما لهم قاتلهم اللّه قد يرى. إلى آخره.
دعاء عليهم بقتال اللّه لهم بعد استفهامه عن خوضهم في أمره استفهاما على سبيل الإنكار، و قد علمت أن قتال اللّه كناية عن عداوته و البعد عن رحمته، و ظاهر أنّ أهل الغدر بعداء عن رحمة اللّه، ثمّ أردف ذلك الدعاء بالإشارة إلى أنّه لا فضيلة لهم فيما يفتحزون به من الذكاء في استنباط وجوه الحيلة إذ كانت غايتهم الغدر و الخيانة فإنّ الحوّل القلّب في الامور قد يرى وجه الحيلة عيانا إلّا أنّه يلاحظ في العمل بها مانع من اللّه و نهيه عن ارتكابها لما يؤدّى إليه من ارتكاب الرذائل الموبقة فيتركها رأى عينه: أى حال ما هى مرئيّة له و بعد القدرة عليها خوفا من اللّه تعالى. ثمّ يراها من لا يعتقد إثما في حزم قواعد الدين فيبادر إليها حال إمكانها و ليس ذلك لفضيلة بل الفضل في الحقيقة لتاركها عن وازع الدين، و الإشارة بالحوّل القلّب إلى نفسه فإنّ شيمه الكريمة كانت كذلك.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 105