و من خطبة له عليه السّلام
مُنِيتُ بِمَنْ لَا يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ- وَ لَا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ- لَا أَبَا لَكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ- أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَ
لَا حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ- أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً وَ أُنَادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً- فَلَا تَسْمَعُونَ لِي قَوْلًا وَ لَا تُطِيعُونَ لِي أَمْراً-
حَتَّى تَكَشَّفَ الْأُمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَسَاءَةِ- فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ وَ لَا يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ- دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ-
فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الْأَسَرِّ- وَ تَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ النِّضْوِ الْأَدْبَرِ- ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ- كَأَنَّما
يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ
أقول: يروى أنّ هذه الخطبة خطب بها عليه السّلام في غارة النعمان بن بشير بعين التمر. و السبب أنّ معاوية بعث النعمان بن بشير في ألفى فارس لإرهاب أهل العراق فأقبل حتّى دنا من عين التمر، و كان عاملها يومئذ من قبل علىّ عليه السّلام مالك بن كعب الأرجىّ و لم يكن معه إذ ذاك سوى مائة رجل و نحوها فكتب مالك إليه عليه السّلام يعلمه الخبر. فصعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: اخرجوا هداكم اللّه إلى مالك بن كعب أحنيكم فإنّ نعمان بن بشير قد نزل به في جمع من أهل الشام ليس بالكثير فانهضوا إلى إخوانكم لعلّ اللّه يقطع بكم طرفا من الكافرين. ثمّ نزل فتثاقلوا فأرسل إلى وجوههم فأمرهم بالنهوض فتثاقلوا و لم يجتمع منهم إلّا نفر يسير نحو ثلاث مائة رجل فقام عليه السّلام و قال: [ألا إنّى] منيت. الفصل، و يروى أنّ الدايرة كانت لمالك بمن معه على النعمان و جمعه.
اللغة
منيت: أى ابتليت. و يحمشكم: أى يغضبكم. و المستصرخ: المستجلب بصوته من ينصره. و الغوث: الصوت يستصرخ به، و قيل: هو قول الرجل: و اغوثاه. و الثار: الذحل.و الجرجرة: ترديد صوت البعير في ضجرته عند عسفه. و السرّ: داء يأخذ البعير في سرّته يقال منه جمل أسرّ. و النضو من الإبل: البالى من تعب السير. و الأدبر: الّذي به دبر و هى القروح في ظهره.
و في الفصل مطالب:
الأوّل: قوله: منيت بمن لا يطيع. إلى قوله: دعوت.
و هو إظهار لغدر نفسه على أصحابه لينسب إليهم التقصير دونه و يقع عليهم لائمة غيرهم.
الثاني: قوله: لا أبالكم. إلى قوله: مرام.
و هو استنهاض لهم إلى نصرة اللّه بسؤالهم عن سبب تثاقلهم عن نصرته و الذبّ عن دينه سؤالا على سبيل الإنكار للسبب، و تنبيه لهم على الأسباب الّتي توجب اجتماعهم لنصرة اللّه و الغضب له بسؤالهم عنها هل هى موجودة لهم أم لا سؤالا على سبيل الإنكار أيضا إذ هم يدّعون وجودها لهم و هى الدين الّذي امروا بلزومه و الاتّحاد فيه كما قال تعالى وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ«» الآية. ثمّ الحميّة و هى ملكة تحت الشجاعة، و كذلك قوله: أقوم فيكم. إلى قوله: أمرا. من الأسباب الباعثة لهم أيضا على الاجتماع فإنّ ذكر حاله من استصراخه لهم و استغاثته بهم مع ذكر حالهم في مقابلة ذلك من تثاقلهم عن ندائه و عدم طاعتهم له ممّا ينبّئهم على خطأهم و تقصيرهم. و قوله: حتّى تكشّف الامور عن عواقب المسائة. ذكر لغاية تثاقلهم عن دعوته و تنبيه بذكر استعقابه للمساءة على خطأهم فيه، و كذلك قوله: فما يدرك بكم ثار و لا يبلغ بكم مرام. عتاب و توبيخ يبعث طباع العرب على التآلف في النصرة إذ من شأنهم ثوران الطباع بمثل هذه الأقوال.
و قوله: دعوتكم. إلى قوله: الأدبر. استعار لفظ الجرجرة لكثرة تملّلهم و قوّة تضجّرهم من ثقل ما يدعوهم إليه، و لمّا كانت جرجرة الجمل الأسرّ أشدّ من جرجرة غيره لاحظ شبه ما نسبه إليهم من التضجّر بها. و كذلك تشبيهه تثاقلهم بتثاقل النضو الأدبر و ذكرهم ما دعاهم إليه من نصرة أخوانهم أعنى أصحاب مالك بن كعب المذكور و جوابهم له بالتبرّم من ذلك و التثاقل ثمّ أردف ذلك بتصغير من خرج منهم من الجند و وصفه بالاضطراب و الضعف. و تشبيههم بمن يساق إلى الموت و هو ينظر في تثاقله و اضطرابه و ضعفه عن الحركة إلى ما يساق إليه لشدّة خوفه. كلّ ذلك ذمّ و توبيخ يستثير به طباعهم عمّا هى عليه من التثاقل عن ندائه و التقصير في إجابة دعائه. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 100