و من كلام له عليه السّلام يجرى مجرى الخطبة
فَقُمْتُ بِالْأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا- وَ تَطَلَّعْتُ حِينَ تَقَبَّعُوا- وَ نَطَقْتُ حِينَ تَمْنَعُوا-وَ مَضَيْتُ بِنُورِ اللَّهِ حِينَ وَقَفُوا- وَ كُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً وَ أَعْلَاهُمْ فَوْتاً- فَطِرْتُ بِعِنَانِهَا وَ اسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانِهَا- كَالْجَبَلِ لَا تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ- وَ لَا تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ- لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيَّ مَهْمَزٌ وَ لَا لِقَائِلٍ فِيَّ مَغْمَزٌ- الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ- وَ الْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ- رَضِينَا عَنِ اللَّهِ قَضَاءَهُ وَ سَلَّمْنَا لِلَّهِ أَمْرَهُ- أَ تَرَانِي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص – وَ اللَّهِ لَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ- فَلَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ- فَنَظَرْتُ فِي أَمْرِي- فَإِذَا طَاعَتِي قَدْ سَبَقَتْ بَيْعَتِي- وَ إِذَا الْمِيثَاقُ فِي عُنُقِي لِغَيْرِي
اللغة
أقول: التعتعة: الاضطراب في الكلام عند الحصر. و تطلّع الأمر: اختباره و تعرّفه. و التقبّع: التقبّض. يقال: قبع القنفذ إذا قبض رأسه بين كتفيه. و الاستبداد: الانفراد. و الرهان: ما يرهن و يستبق عليه. و الهمز: الغيبة بالعيب، و كذلك الغمز.
قال بعض الشارحين: هذا الفصل فيه فصول أربعة التقطها الرضىّ رحمه اللّه من كلام طويل له عليه السّلام قاله بعد وقعة النهروان ذكر فيه حاله منذ توفّى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم إلى آخر وقته.
الفصل الأوّل:
فقمت بالأمر حين فشلوا. إلى قوله: برهانها.
هذا الكلام ورد في معرض افتخاره و إثبات فضيلته على سائر الصحابة لغاية قبول رأيه. فقيامه بالأمر حين فشلهم إشارة إلى فضيلة شجاعته: أى فقمت بأمر اللّه بين يدي رسوله و بعده في الحروب و المقامات الصعبة الّتي ضعفوا عنها و الأوقات الّتي فشلوا فيها و أمره في ذلك ظاهر.
و قوله: و نطقت حين تعتعوا [تمنّعوا خ]. إشارة إلى ملكة الفصاحة المستتبعة لملكة العلم: أى نطقت في القضايا المهمّة و الأحكام المشكلة و المقاول الّتي حصرت فيها بلغاؤهم، فكنّى بنطقه و تعتعتهم عن فضاحتهم و عيّهم.
و قوله تطلّعت حين تقبّعوا. إشارة إلى كبر الهمّة في تحصيل ما ينبغي للإنسان أن يحصّله من تعرّف الامور و اختبارها و النظر في مصادرها و مواردها، و هي ملكة تحت الشجاعة، و لمّا كان التطّلع على الأمر يحتاج الإنسان فيه إلى نحو من التطاول و مدّ العنق و تحديق العين و نحوه، و كان تعرّف الامور و اختبارها لابدّ فيه من بعث رائد الفكر الّذي هو عين النفس الّتي بها يبصر و تحديقه نحو الامور المعقولة و إرسال المتخيّلة لتفتيش خزائن المحسوسات أشبه ذلك التطلّع فاستعار له لفظ التطلّع و كنّى به عنه،
و قوله: حين تقبّعوا. أي كان تعرّفي للأمور حين قصورهم عن ذلك، و لمّا كان التقبّع يقابل مدّ العين و التطاول إلى رؤية الأشياء المسمّى تطلّعا، و كان قصور أفكارهم و عدم اعتبارهم للأشياء يقابل مدّ الفكر و تطاول الذهن إلى معرفة الامور و كان قصور الفكر أيضا و العجز عن المعرفة يشبه التقبّع استعار لفظ التقبّع و كنّى به عنه.
و قوله: و مضيت بنور اللّه حين وقفوا. إشارة إلى فضيلة العلم أى كان سلوكى لسبيل الحقّ على وفق العلم و هو نور اللّه الّذي لا يضلّ من اهتدى به. و ذلك حين وقفوا حائرين متردّدين جاهلين بالقصد و كيفيّة سلوك الطريق. و إنّما أثبت لنفسه هذه الفضائل و قرن كلّ فضيلة له برذيلة فيهم يقابلها لتبيّن فضله بالنسبة إليهم إذ كان الغرض ذلك.
و قوله: و كنت أخفضهم صوتا و أعلاهم صوتا. كنّى بخفض الصوت عن ربط الجأش في الامور و الثبات فيها و التصميم على فعل ما ينبغي من غير التفات إلى الحوادث [الجواذب خ] و الموانع على فعل ما هو خير و مصلحة فإنّ كثرة الأصوات و علوّها في الأفعال الّتي هي مظنّة الخوف دليل الفشل، و لا شكّ أنّ من كان أشدّ في ذلك كان أعلى صوتا و أشدّ سبقا إلى مراتب الكمال و درجات السعادة ممّن كان أضعف فيه.
و قوله: فطرت بعنانها و استبددت برهانها. الضميران يعودان إلى الفضيلة و إن لم يجر لها ذكر لفظىّ فاستعار هاهنا لفظ الطيران للسبق العقلىّ لما يشتركان فيه من معنى السرعة، و استعار لفظى العنان و الرهان اللذين هما من متعلّقات الخيل للفضيلة الّتي استكملتها نفسه تشبيها لها مع فضائل نفوسهم بخيل الحلبة، و وجه المشابهة أنّ الصحابة- رضى اللّه عنهم- لمّا كانوا يقتنون الفضائل و يستبقون بها إلى رضوان اللّه و سعادات الآخرة كانت فضائلهم الّتي عليها يستبقون كخيل الرهان، و لمّا كانت فضيلته عليه السّلام أكمل فضايلهم و أتمّها كانت بالنسبة إلى فضائلهم كالفرس الّذي لا يشقّ غباره. فحسن منه أن يستعير لسبقه بها لفظ الطيران، و يجرى عليها لفظ العنان و الرهان.
الفصل الثاني:
قوله: لا تحرّكه القواصف. إلى قوله: آخذ الحقّ منه.
و هذا الفصل يحكى فيه قيامه بأعباء الخلافة حين انتهائها إليه و جريه فيها على القانون العدل و الأوامر الإلهيّة.
فقوله: كالجبل. تشبيه له في الثبات على الحقّ بالجبل فكما لا تحرّكها قواصف الرياح و عواصفها كذلك هو لا تحرّكه عن سواء السبيل مراعاة هوى لأحد أو اتّباع طبع يخالف ما يقتضيه سنّة اللّه و شرعه بل هو ثابت على القانون العدل و موافقة الأمر الإلهىّ.
و قوله: لم يكن لأحد فيّ مهمز و لا لقائل فيّ مغمز. أي لم يكن فيّ عيب اعاب به. و قد راعى في هذه القرائن الأربع مع الأربع الأخيرة من الفصل الأوّل السجع المتوازى.
و قوله: الذليل عندى عزيز حتّى آخذ الحقّ له. إعزازه للذليل اعتناؤه بحاله و اهتمامه بأمر ظلامته، و من اعتنى بحال إنسان فقد أعزّه ثمّ جعل لإعزازه غاية هى أخذ الحقّ له، و كذلك قوله: و القوىّ عندى ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه، فإنّ ضعف القوى هو قهره تحت حكمه إلى غايه يستوفى منه حقّ المظلوم.
فإن قلت: يفهم من هاتين الغايتين أنّ نظره إلى الذليل بعد استيفاء حقّه و إلى القوىّ بعد أخذ الحقّ منه لا يكون على السواء بل يكون التفاته إلى القوىّ أكثر و ذلك ليس من العدل.
قلت: إنّه لمّا لم يكن الغرض من الأمر بمساواة النظر بين الخلق إلّا أخذ حقّ الضعيف من القوىّ و عدم التظالم بينهم لم تجب مساواة النظر بين الضعيف و القوىّ إلّا من تلك الجهة. و لم يكن إعزازه المقوىّ و إكرامه في غير وجه الظلم قبيحا لجواز انفراده بفضيلة يوجب إعزازه من جهة الدين أيضا.
الفصل الثالث:
قوله: رضينا عن اللّه قضاؤه و سلّمنا له أمره. إلى قوله: من كذب عليه.
قيل: ذكر ذلك عليه السّلام لما تفرّس في طائفة من قومه أنّهم يتّهمونه فيما يخبرهم به عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم من أخبار الملاحم في الامور المستقبلة، و قد كان منهم من يواجهه بذلك كما روى أنّه لمّا قال: سلونى قبل أن تفقدونى فو اللّه لا تسألونى عن فئة تضلّ مائة و تهدى مائة إلّا أنبأتكم بناعقها و سائقها. قام إليه أنس النخعىّ فقال: أخبرنى كم في رأسى و لحيتى طاقة شعر. فقال عليه السّلام: و اللّه لقد حدّثنى حبيبى أنّ على كلّ طاقة شعر من رأسك ملك يلعنك، و أنّ على كلّ طاقة شعر من لحيتك شيطانا يغويك، و أنّ في بيتك سخلا يقتل ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و كان ابنه سنان بن أنس قاتل الحسين عليه السّلام يومئذ طفلا يحبو، و سيأتى بعض تلك الأخبار.
فقوله: رضينا عن اللّه قضاءه و سلّمنا له أمره. قد عرفت أنّ الرضا بقضاء اللّه و التسليم لأمره باب من أبواب الجنّة يفتحه اللّه لخواصّ أوليائه، و لمّا كان عليه السّلام سيّد العارفين بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و كان قلم القضاء الإلهىّ قد جرى على قوم بالتكذيب له و التهمة فيما يقول لا جرم هو كان عليه السّلام أولى الناس بلزوم باب الرضا. و قوله: أ ترانى أكذب. إلى قوله: عليه. استنكار لما صدر منهم في حقّه من التكذيب، و إيراد حجّة لبطلان أوهامهم في حقّه بصورة قياس الضمير مع نتيجته، و تقديره و اللّه لأنا أوّل من صدّقه و كلّ من كان أوّل مصدّق له فلن يكون أوّل مكذّب له ينتج أنّي لا أكون أوّل مكذّب له
الفصل الرابع: قوله: فنظرت في أمرى إلى آخره.
فيه إحتمالان: أحدهما قال بعض الشارحين: إنّه مقطوع من كلام يذكر فيه حاله بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و أنّه كان معهودا إليه أن لا ينازع في أمر الخلافة بل إن حصل له بالرفق و إلّا فليمسك. فقوله: فنظرت فإذا طاعتى قد سبقت بيعتى: أى طاعتى لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فيما أمرنى به من ترك القتال قد سبقت بيعتى للقوم فلا سبيل إلى الامتناع منها.
و قوله: و إذا الميثاق في عنقى لغيرى. أى ميثاق رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و عهده إلىّ بعدم المشاقّة، و قيل: الميثاق ما لزمه من بيعة أبى بكر بعد ايقاعها: أى فإذا ميثاق القوم قد لزمنى فلم يمكنني المخالفة بعده. الاحتمال الثاني: أن يكون ذلك في تضجّره و تبرّئه من ثقل أعباء الخلافة، و تكلّف مداراة الناس على اختلاف أهوائهم. و يكون المعنى إنّى نظرت فإذا طاعة الخلق لى و اتّفاقهم علىّ قد سبقت بيعتهم لى، و إذا ميثاقهم قد صار في عنقى فلم أجد بدّا من القيام بأمرهم و لم يسعني عند اللّه إلّا النهوض بأمرهم و لو لم يكن كذلك لتركت كما قال من قبل: أما و اللّه لو لا حضور الحاضر و قيام الحجّة بوجود الناصر و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، و لسقيت آخرها بكأس أوّلها. و الأوّل أشهر بين الشارحين، و اللّه أعلم بالصواب.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 93