و من خطبة له عليه السّلام (في تخويف أهل النهروان)
فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هَذَا النَّهَرِ- وَ بِأَهْضَامِ هَذَا الْغَائِطِ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ- وَ لَا سُلْطَانٍ
مُبِينٍ مَعَكُمْ- قَدْ طَوَّحَتْ بِكُمُ الدَّارُ وَ احْتَبَلَكُمُ الْمِقْدَارُ- وَ قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ هَذِهِ الْحُكُومَةِ- فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ
الْمُخَالِفِينَ- حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَى هَوَاكُمْ- وَ أَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ الْهَامِ- سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ وَ لَمْ آتِ لَا أَبَا لَكُمْ
بُجْراً- وَ لَا أَرَدْتُ لَكُمْ ضُرّاً
أقول: الخطاب للخوارج الّذين قتلهم عليه السّلام بالنهروان، و قد كان القضاءالالهىّ سبق فيهم بما كان منهم من الخروج. روي في صحيح الأخبار أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بينا هو يقسم قسما جاءه رجل من بنى تميم يقال له ذو الخويصرة فقال: اعدل يا محمّد فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: قد عدلت. فقال له ثانية: اعدل يا محمّد فإنّك لم تعدل. فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: ويلك من يعدل إذا لم أعدل. فقام عمر و قال: يا رسول اللّه ائذن لى في ضرب عنقه. فقال: دعه فسيخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يخرجون على خير فرقة من الناس تحتقر صلاتكم عند صلاتهم و صومكم عند صومهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم فيهم رجل أسود مخدج اليد إحدى يديه كأنّها ثدى امرأة أو بضعة يقتله أولى الفريقين بالحقّ. و في مسند أحمد عنه عن مسروق قال: قالت لى عايشة: إنّك من ولدى و أحبّهم إليّ فهل عندك علم من المخدج. فقلت: نعم قتله علىّ بن أبي طالب على نهر يقال لأعلاه تأمر و لأسفله النهروان بين لخاقيق و طرفاء. فقالت: ايتنى على ذلك بيّنة. فأقمت على ذلك رجالا شهدوا عندها بذلك ثمّ قلت لها: سألتك بصاحب القبر ما الّذي سمعت منه فيهم. فقالت: سمعته يقول: إنّهم شرّ الخلق و الخليقة يقتلهم خير الخلق و الخليقة، و أقربهم عند اللّه وسيلة. فأمّا سبب خروج هؤلاء القوم فهو أنّه عليه السّلام لمّا قهره أصحابه على التحكيم و أظهروا عنه الرضى به بعد أنّ حذّرهم و وعظهم فلم يلتفوا كتبوا كتاب التحكيم و أخذه الأشعث بن قيس فطاف به على أصحاب معاوية فرضوا به، و طاف به على أصحاب علىّ فرض را به حتّى مرّ برايات عنزه و كان مع عليّ عليه السّلام منهم بصفّين أربعة آلاف فارس فلمّا قرء الكتاب عليهم قال فتيان منهم: لا حكم إلّا للّه ثمّ حملا على أصحاب معاوية فقتلا فهما أوّل من حكم، ثمّ مرّ على مراد، ثمّ على رايات بنى راسب، ثمّ على بنى تميم فكلّ فرقة فرأه عليهم قالوا: لا حكم إلّا للّه لا نرضى و لا نحكّم الرجال في دين اللّه فرجع الأشعث فأخبر عليّا عليه السّلام بذلك فاستصغر أمرهم و ظنّ أنّهم قليلون، فلمّا بلغهم أمر الحكمين ما راعه إلّا و الناس يتنادون من كلّ جانب لا حكم إلّا للّه الحكم للّه يا عليّ لا لك و قد كنّا أخطأنا حين رضينا بالحكمين فرجعنا إلى اللّه و تبنا فارجع أنت و تب إلى اللّه كما تبنا و إلّا برئنا منك. فأبى عليه السّلام الرجوع، و قال: و يحكم أبعد العهد نرجع فما نصنع بقوله تعالى أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ«» الآية و أبت الخوارج إلّا تضليل التحكيم و الطعن فيه فبرئوا من علىّ و برىء منهم ثمّ كان اجتماعهم بحرور فسمّاهم عليه السّلام لذلك الحروريّة فناظرهم بها فرجع منهم ألفان ثمّ مضوا إلى النهروان و كان أميرهم يومئذ عبد اللّه بن الكوّا، و حين القتال عبد اللّه بن وهب الراسبى فسار إليهم فخطبهم و قال: نحن أهل بيت النبوّة و موضع الرسالة و مختلف الملائكة و عنصر الرحمة و معدن العلم و الحكمة أيّها القوم إنّي نذير لكم. الفصل، و روى أنّه عليه السّلام لمّا قتلهم طلب ذو الثدية فيهم طلبا شديدا فلم يجده فجعل يقول: و اللّه ما كذب و لا كذبت اطلبوا الرجل و إنّه لفي القوم.
فلم يزل يطلبه حتّى وجده في و هدة من الأرض تحت القتلى و هو رجل مخدج اليد كأنّها ثدي في صدره و عليها شعرات كسبال الهرّة فكبّر عليّ عليه السّلام و كبّر الناس معه و سرّوا بذلك.
اللغة
الأهضام: جمع هضم و هو المطمئنّ من الوادي. وح الغائط: ما سفل من الأرض.
و طوّحت بكم: أي توّهتكم في اموركم و رمت بكم المرامى. و احتبلكم: أوقعكم في الحبالة. و النكر: المنكر، و يروى بحرا. و البحر: الأمر العظيم و الداهية، و يروى هجرا: و هو الساقط من القول، و يروى عرّا. و العرّ و المعرّة: الإثم، و العرّ أيضا: داء يأخذ الإبل في مشافرها و يستعار للداهية.
المعنى
و اعلم أنّ حاصل هذا الفصل تحذير للقوم من الهلاك و هم على غير بيّنة من ربّهم و لا حجّة واضحة يحتجّون بها على ما يدّعونه حقّا و يقاتلون عليه و ذلك ممّا يجب الحذر منه إذ فيه حرمان سعادة الدارين، و إنّما سمّيت الحجّة نفسها سلطانا لأنّ بها الغلبة و التسلّط و هو من باب الاستعارة.
و قوله: قد طوّحت بكم الدار.
كنّى بالدار عن الدنيا و إنّما نسب هلاكهم أو إبعادهم و رميهم إليها لأنّ المهلك لهم و الموجب لتيههم إنّما هو اتّباع أهوائهم الباطلة الّتي منشاؤها إنّما هو تحصيل أمر دنيويّ من مال أو جاه و نحوه فكانت الدنيا هي الّتي رمت بهم المرامى عن رحمة اللّه و أخرجتهم عن طاعته.
و قوله: و احتبلكم المقدار.
استعارة حسنة لإحاطة القدر النازل عن قضاء اللّه بهم فهو كحبالة الصايد الّتي لا يخرج للطائر منها إذا نزلت به.
و قوله: كنت نهيتكم عن هذه الحكومة. إلى قوله: إلى هواكم.
تقرير للحجّة عليهم و كأنّه يقول لهم: إن كان الحقّ هو عدم الحكومة فلم طلبتموها و أبيتم علىّ إباء المخالفين المنابذين لمّا نهيتكم عنها حتّى صرت إلى أهوائكم فيها، و إن كان الحقّ هو ايقاعها فلم شاققتمونى الآن لمّا أوقعتها و جعلت للّه علىّ بها عهدا. و على التقديرين يلزمهم الخطاء،
و قوله: و أنتم معاشر أخفّاء الهام سفهاء الأحلام.
الواو للحال و العامل صرفت، و الإضافة في أخفّاء و سفهاء غير محضة و لذلك صحّ كونهما و صفين لمعاشر، و خفّة الهامة كناية عن رذيلة الطيش المقابلة لفضيلة الثبات، و السفة رذيلة مقابلة للحلم، و الثبات و الحلم فضيلتان تحت ملكة الشجاعة، و لمّا كانت لهاتين الرذيلتين نسبة إلى الفضيلتين صحّ إضافتها إليهما.
و قوله: و لم آت- لا أبالكم- نكرا و لا أردت بكم ضرّا.
خرج مخرج الاعتذار إليهم و استدراجهم ببيان تحسين فعله و نفي المنكر عنه و عدم قصد الإساءه إليهم ليرجعوا عمّا شبّه إليهم، و قوله: لا أبا لكم كلمة اعتيدت في ألسنة العرب. قال الجوهرى: يراد بها المدح، و قال غيره: يراد بها الذمّ فإنّ عدم اللحوق بأب يستلزم العار و السبّة، و قيل: هي دعاء على المرء أن لا يكون له أب يعزّه و يشدًّ ظهره و نفي الأب يستلزم نفي العشيرة له فكأنّه دعاء بالذلّ و عدم الناصر.
و اللّه أعلم.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 90