و من خطبة له عليه السّلام فى استنفار الناس إلى أهل الشام
أُفٍّ لَكُمْ لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ- أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ عِوَضاً- وَ بِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً- إِذَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى
جِهَادِ عَدُوِّكُمْ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ- كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَوْتِ فِي غَمْرَةٍ- وَ مِنَ الذُّهُولِ فِي سَكْرَةٍ- يُرْتَجُ عَلَيْكُمْ حَوَارِي
فَتَعْمَهُونَ- فَكَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَأْلُوسَةٌ فَأَنْتُمْ لَا تَعْقِلُونَ- مَا أَنْتُمْ لِي بِثِقَةٍ سَجِيسَ اللَّيَالِي- وَ مَا أَنْتُمْ بِرُكْنٍ يُمَالُ
بِكُمْ- وَ لَا زَوَافِرُ عِزٍّ يُفْتَقَرُ إِلَيْكُمْ- مَا أَنْتُمْ إِلَّا كَإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا- فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ انْتَشَرَتْ مِنْ آخَرَ-
لَبِئْسَ لَعَمْرُ اللَّهِ سُعْرُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ- تُكَادُونَ وَ لَا تَكِيدُونَ- وَ تُنْتَقَصُ أَطْرَافُكُمْ فَلَا تَمْتَعِضُونَ- لَا يُنَامُ عَنْكُمْ وَ
أَنْتُمْ فِي غَفْلَةٍ سَاهُونَ- غُلِبَ وَ اللَّهِ الْمُتَخَاذِلُونَ- وَ ايْمُ اللَّهِ- إِنِّي لَأَظُنُّ بِكُمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى- وَ اسْتَحَرَّ
الْمَوْتُ- قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ انْفِرَاجَ الرَّأْسِ- وَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ- يَعْرُقُ لَحْمَهُ وَ
يَهْشِمُ عَظْمَهُ- وَ يَفْرِي جِلْدَهُ لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ- ضَعِيفٌ مَا ضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ- أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ إِنْ شِئْتَ-
فَأَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ- تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ- وَ تَطِيحُ السَّوَاعِدُ وَ الْأَقْدَامُ- وَ
يَفْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا يَشاءُ أَيُّهَا النَّاسُ- إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً وَ لَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ- فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ
لَكُمْ- وَ تَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ- وَ تَعْلِيمُكُمْ كَيْلَا تَجْهَلُوا وَ تَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا- وَ أَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ
بِالْبَيْعَةِ- وَ النَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَ الْمَغِيبِ- وَ الْإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ وَ الطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ
أقول: روى أنّه عليه السّلام خطب بهذه الخطبة بعد فراغه من أمر الخوارج و قد كان قام بالنهروان فحمد اللّه و أثنى عليه و قال: أمّا بعد فإنّ اللّه تعالى قد أحسن بنا نصرتكم فتوجّهوا من فوركم هذا إلى عدوّكم من أهل الشام. فقالوا له: قد نفدت نبالنا و كلّت سيوفنا ارجع بنا إلى مصرنا لنصلح عدّتنا، و لعلّ أمير المؤمنين يزيد في عددنا مثل من هلك منّا لنستعين به. فأجابهم يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ«» الآية فتلكّؤوا عليه و قالوا: إنّ البرد شديد. فقال: إنّهم يجدون البرد كما تجدون افّ لكم ثمّ تلا قوله تعالى قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ«» الآية. فقام منهم ناس و اعتذروا بكثرة الجراح في الناس و طلبوا أن يرجع بهم إلى الكوفة أيّاما. ثمّ يخرج بهم. فرجع بهم غير راض و أنزلهم نخيلة. و أمرهم أن يزمّلوا معسكرهم و يوّطنوا على الجهاد أنفسهم و يقلّوا زيارة أهلهم. فلم يقبلوا و جعلوا يتسلّلون و يدخلون الكوفة حتّى لم يبق معه إلّا القليل منهم. فلمّا رأى ذلك دخل الكوفة فخطب الناس. فقال: أيّها الناس استعدّوا لقتال عدوّ في جهادهم القربة إلى اللّه و درك الوسيلة عنده قوم حيازى عن الحقّ لا ينصرونه، موزعين بالجور و الظلم لا يعدلون به.
جفاة عن الكتاب نكب عن الدين يعمهون في الطغيان، و يتسكّعون في غمرة الضلال وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ و تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا قال: فلم ينفروا. فتركهم أيّاما ثمّ خطبهم هذه الخطبة فقال: افّ لكم. الفصل.
اللغة
افّ: كلمة تضجّر من الشيء. و غمرات الموت: سكراته الّتي يغمر فيها العقل. و الذهول: النسيان و السهو. و يرتج عليكم: أى يفلق. و الحوار. المخاطبة. و تعمهون: تتحيّرون و تتردّدون. و المألوس: المجنون و المختلط العقل. و سجيس الليالى و سجيس الأوجس: أى أبدا مدى الليالي. و الزوافر: جمع زافرة، و زافرة الرجل أنصاره و عشيرته. و سعر: جمع ساعر، و إسعار النار تهييجها و إلهابها. و الامتعاض: الغضب. و حمس الوغى: اشتداد الحرب و جلبة الأصوات. و عرقت اللحم أعرقه: إذا لم أبق على العظم منه شيئا. و المشرّفية: سيوف منسوبة إلى مشارف: قرى من أرض العرب تدنوا من الريف. و فراش الهام: العظام الرقيقة تلى القحف.
المعنى
و اعلم أنّه عليه السّلام لمّا أراد استنفارهم إلى الحرب. و كانوا كثيرا ما يتثاقلون عن دعوته استقبلهم بالتأنيف و التضجّر بما لا يرتضيه من أفعالهم.
و قوله: لقد سئمت عتابكم. تفسير لبعض ما تأنف منه.
و قوله: أ رضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا، و بالذلّ من العزّ خلفا.
استفهام على سبيل الإنكار عليهم يستلزم الحثّ على الجهاد فإنّ الجهاد لمّا كان مستلزما لثواب الآخرة و لعزّة الجانب، و خوف الأعداء، و القعود عنه يستلزم في الأغلب السلامة في الدنيا و البقاء فيها لكن مع طمع العدوّ فيهم و ذلّتهم له كانوا بقعودهم عنه كمن اعتاض الدنيا من الآخرة، و استخلف الذلّ من العزّة. و ذلك ممّا لا يرضى به ذو عقل سليم. و عوضا و خلفا منصوبان على التمييز.
قوله إذا دعوتكم إلى جهاد عدوّكم. إلى قوله: لا تعقلون.
تبكيت لهم و توبيخ برذائل تعرض لهم عند دعائه لهم إلى الجهاد.
الاولى: بأنّه تدور أعينهم حيرة و تردّدا و خوفا من أحد أمرين: إمّا مخالفة دعوته، أو الإقدام على الموت. و في كلا الأمرين خطر. ثمّ شبّه حالتهم تلك في دوران أعينهم و حيرتهم بحال المغمور في سكرات الموت، الساهى فيها عن حاضر أحواله، المشغول بما يجده من الألم. و نحوه قوله تعالى يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ.
الثانية: أنّه يرتج عليهم حواره، و يرتج في موضع الحال و تعمهون عطف عليه أى يرتج عليكم فيتحيّرون. ثمّ شبّه حالهم عند دعائه إلى الجهاد تشبيها ثانيا بحال من اختلط عقله أى أنّهم في حيرتهم و تردّدهم في جوابه كمختلط العقل ما يفقه ما يقول.
الثالثة: أنّهم ليسوا له بثقة أبدا. و هو وصف لهم برذيلة الخلف و الكذب المستلزم لعدم ثقته بأقوالهم.
الرابعة: كونهم ليسوا بركن يميل به المستند إليه في خصمه. يقال: فلان ركن شديد. استعارة له من ركن الجبل و هو جانبه لما بينهما من المشاركة في الشدّة و امتناع المعتصم به. و نحوه قوله تعالى قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ«» أى قوىّ يمنعني منكم و هو وصف بالتخاذل و العجز.
الخامسة: و لا زوافر عزّ يفتقر إليهم. و هو وصف لهم برذيلة الذلّ و الحقارة.
السادسة: تشبيههم بإبل ضلّ رعاتها، و الإيماء إلى وجه الشبه و هو أنّها كلّما جمعت من جانب انتشرت من جانب. إشارة إلى أنّهم ضعيفوا العزوم متشتّتوا الآراء لا يجتمعون على مصلحة بها يكون نظام أحوالهم في الدارين. و قد علمت أنّ ذلك من نقصان القوّة العلميّة فكانوا منها على رذيلة البله.
السابعة: كونهم ليسوا بسعر نار الحرب: أى ليسوا من رجالها. و ذلك أنّ مدار الحرب على الشجاعة و الرأى. و قد سبقت منه الإشارة إلى ذمّهم بالفشل و ضعف الرأى.
فإذن ليسوا من رجال الحرب، و لمّا استعار لهيجان الحرب لفظ النار لما يستلزمانه من الأذى الشديد رشّح تلك الاستعارة بذكر الإسعار و وصف رجالها به. الثامنة: كونهم يكادون و لا يكيدون: أى يخدعون و يمكر بهم عدوّهم في ايقاع الحيلة، و ليس لهم قوّة المكر و الحيلة به. و ذلك أيضا من رذيلة ضعف الرأى.
التاسعة: كونهم تنقص أطرافهم فلا يمتعضون: أى يغار العدوّ في كلّ وقت على بعض بلادهم فيحوزها فلا يشقّ ذلك عليكم و لا يدرككم منه أنفة و لا حميّة، و هو وصف لهم برذيلة المهانة.
العاشرة: كونهم في غفلة ساهون مع انتباه عدوّهم. و هو وصف لهم برذيلة الغفلة أيضا عمّا يراد بهم، و قلّة عقليّتهم لمصالح أنفسهم، و كلّ هذا التوبيخ تثقيف لهم و تنبيه لنفوسهم الراقدة في مراقد طبائعها على ما ينبغي لهم من المصالح الّتي يكون بها نظام أحوالهم على قانون الدين.
و قوله: غلب و اللّه المتخاذلون.
تنبيه على أنّهم بتخاذلهم سيغلبون. و أورد الغلب المطلق بعلّة التخاذل لأنّهم للحكم العامّ أشدّ قبولا منهم له على أنفسهم إذ لو خصّصهم به فقال غلبتم و اللّه أو تخاذلتم لم يكن وقعه في الذوق كوقعه عامّا.
و قوله: و أيم اللّه. إلى قوله: انفراج الرأس.
أقسم أنّه ليظنّ بهم أنّهم عند اشتداد الحرب و حرارة الموت ينفرجون عند انفراج الرأس: أى يتفرّقون أشدّ تفريق. و انفراج الرأس مثل. قيل: أوّل من تكلّم به أكثم بن صيفى في وصيّة له: يا بنىّ لا تنفرجوا عند الشدائد انفراج الرأس فإنّكم بعد ذلك لا تجتمعون على عزّ. و في معناه أقوال.
أحدها: قال ابن دريد: معناه أنّ الرأس إذا انفرج عن البدن لا يعود إليه و لا يكون بعده اتّصال و ذلك أشدّ انفراج.
الثاني: قال المفضّل، الرأس اسم رجل ينسب إليه قرية من قرى الشام يقال لها بيت الرأس و فيها يباع الخمر. قال حسّان: كان سببه من بيت رأس يكون مزاجها عسلا و ماء و هذا الرجل قد انفرج عن قومه و مكانه فلم يعد إليه فضرب به المثل في المباينة و المفارقة.
الثالث: قال بعضهم: معناه أنّ الرأس إذا انفرج بعض عظامه عن بعض كان ذلك بعيد الالتيام و العود إلى الصحّة.
الرابع: قال بعضهم: معناه انفرجتم عنّى رأسا أى بالكلّيّة.
الخامس: قيل معناه: انفراج من يريد أن ينجو برأسه.
السادس: قيل معناه: انفراج المرأة عن رأس ولدها حالة الوضع فإنّه يكون في غاية من الشدّة و تفرّق الاتّصال و الانفراج. و نحوه قوله عليه السّلام في موضع آخر: انفراج المرأة عن قبلها، و على كلّ تقدير فمقصوده شدّة انفصالهم و تفرّقهم عنه لهم أحوج ما يكون إليهم، و استحرار الموت يحتمل أن يراد به شدّته الشبيهة بالحرارة مجازا كما سبق، و يحتمل أن يراد به خلوصه و حضوره فيكون اشتقاقه من الحريّة، و الجملة الشرطية خبر أن المخفّفه من المثقّلة. و اسمها الضمير الشأن و هى مع اسمها و خبرها قائمة مقام مفعولى ظنّ، و فيه توبيخ لهم على التقصير البالغ في حقّه إلى حدّ أن يظنّ بهم الظنّ المذكور.
و قوله: و اللّه إنّ امرأ. إلى قوله: إن شئت.
من لطيف الحيلة في الخطاب الموجب للانفعال عنه، و ذلك أنّه صوّر لهم أفعالهم من التخاذل على العدوّ و الضعف و سائر أفعالهم المذمومة الّتي الفوا التوبيخ و التعنيف بعبارة تريهم إيّاها في أقبح صورة و أشدّها كراهة إليهم و أبلغها نكاية فيهم و هو تمكينهم للعدوّ من أنفسهم فإنّ أفعالهم من التخاذل و نحوه. و هي بعينها تمكين للعدوّ فيما يريد بهم و إعداد له و تقوية لحاله، و لمّا كان من عادة ظفر العدوّ احتياج المال و القتل و تفريق الحال كنّى عن الأوّل بقوله: يعرق لحمه، و وجه استعارة عرق اللحم لسلب المال بكلّيّته ظاهر، و كذلك كنّى عن القتل و سائر أسباب الهلاك من فعل العدوّ بهشم العظم، و عن تمزيق الحال المنتظم بفرى الجلد. ثمّ لمّا كان من البيّن أنّ تخاذلهم تمكين لعدوّهم منهم و كان تمكين الإنسان لعدوّ من نفسه يفعل به الأفعال المنكرة لا يكون إلّا عن عجز عظيم و ضعف في القلب عن مقاومته لا جرم أثبت العجز و ضعف القلب لامرء مكّن عدوّه من نفسه و أكدّ ذلك بأنّ، و بالقسم البارّ، و كنّى بضعف القلب عن الجبن و أتى بذلك الإثبات على وجه عامّ لكلّ امرء فعل ذلك و لم يخصّهم بالخطاب و لا نسب تمكين العدوّ إليهم صريحا و إن كانوا هم المقصودين بذلك رجاء لنفارهم عن الدخول تحت هذا العموم بالانقياد لأمره و الجهاد. ثمّ أردفه بالأمر أن يكونوا ذلك المرء الّذي وصفه بما وصفه أمرا على سبيل التهديد و التنفير، و ذلك قوله: أنت فكن ذاك إن شئت. أى ذاك المرء الموصوف بالعجز و الضعف. خطاب للشخص المطلق الصادق على أىّ واحد منهم كان و أمر له أن يكون بصفة المرء الموصوف أوّلا تنفيرا له عمّا ذكره ممّا يلزم الإنسان من الأحوال الرديئة عند تمكينه عدوّه من نفسه.
و روى: أنّه خاطب بقوله: أنت فكن ذاك. الأشعث بن قيس. فإنّه روى: أنّه قال و هو يخطب و يلوم الناس عن تقاعدهم عن الحرب: هلّا فعلت فعل ابن عفان فقال عليه السّلام له: إنّ فعل ابن عفان مخزاة على من لا دين له و لا وثيقة معه، و إنّ امرء أمكن عدوّه من نفسه يهشم عظمه و يفرى جلده لضعيف رأيه ما فوق عقله أنت فكن ذاك إن شئت. الفصل.
و قوله. فأمّا أنا. إلى قوله: ما يشاء.
لما خيّرهم أن يكونوا ذلك المرء على سبيل التهديد أردف ذلك بالتبرّء من حال المرء المذكور ليكون لهم به عليه السّلام اسوة في النفار عن تمكين العدوّ من أنفسهم إلّا بعد بذل النفس في الجهاد أى على تقدير اختيار المخاطب تلك الحال فإنّه هو لا يختار ذلك الحال بل دون أن يعطى عدوّه من نفسه ذلك التمكين ضرب بالمشرّفية يطير منه الهام و تطيح منه السواعد و الأقدام، و كلّ ذلك كناية عن أشدّ المجاهدة، و يفعل اللّه بعد ذلك الجهاد و المناجزة ما يشاء من تمكين العدوّ أو عدم تمكينه فإنّ إليه مصير الامور و عواقبها.
و قوله: أيّها الناس. إلى آخره.
ذكر ما لهم عليه من الحقّ و ما له عليهم منه ليعرفهم أنّه أدّى ما عليه من الواجب لهم فينبغى لهم أن يخرجوا إليه من واجب حقّه الّذي فرض اللّه عليهم فبدء ببيان حقّهم عليه أدبا و استدراجا لطباعهم فإنّ البداءة بحقّ الغير قبل حقّ النفس أليق بالأدب و هم لسماعه أقبل. فذكر منها أربعة امور بها يكون صلاح حالهم في الدارين.
أحدها: النصيحة لهم و هي حثّهم على مكارم الأخلاق و جذبهم إلى ما هو الأليق بهم في معاشهم و معادهم.
الثاني: توفير فيئهم عليهم بترك ظلمهم فيه و تفريقه في غير وجوهه ممّا ليس بمصلحة لهم كما نسبوه إلى من كان قبله.
الثالث: تعليمهم كيلا يجهلوا. و إنّما لم يقل كيما يعلموا لأنّ ظهور المنّة عليهم بذكر نفى الجهل عنهم أشدّ من ظهورها في ذكر عرض إيجاد العلم لهم و لذلك كان تأذّى الرجل و أنفته من أن يقال له: يا جاهل. أشدّ بكثير من نفار من يقال له: لست بعالم.
الرابع: تأديبهم كيما يعملوا. فهذه الامور الأربعة هي الواجبة على الإمام للرعيّة واحد منها يرجع إلى صلاح أبدانهم و قوامها: و هو توفير فيئهم عليهم بضبطه، و عدم التصرف فيه لغير وجوه مصالحهم. و إثنان يرجعان إلى صلاح حال نفوسهم إمّا من جهة إصلاح القوّة النظريّة: و هو التعليم لغرض العلم أو من جهة إصلاح القوّة العمليّة و هو التأديب لغرض العمل. و واحد مشترك بين مصلحتى البدن و النفس و نظام أحوالهما و هو النصيحة لهم. ثمّ أردف ذلك بيان حقّه عليه السّلام و ذكر أيضا أربعة.
الأوّل: الوفاء بالبيعة و هي أهمّ الامور إذ بها النظام الكلّىّ الجامع لهم معه.
الثاني: النصيحة له في غيبته و حضوره و الذبّ عنه إذ بذلك نظم شمل المصلحة بينهم و بينه أيضا.
الثالث: إجابته حين يدعوهم من غير تثاقل عن ندائه فإنّ للتثاقل عن دعوته ما علمت من قهر العدوّ. و غلبته عليهم و فوات مصالح عظيمة.
الرابع: طاعتهم له حين يأمرهم، و ظاهر أنّ شمل المصلحة لا ينتظم بدون ذلك. و أنت تعلم بأدنى تأمّل أنّ هذه الامور الأربعة و إن كانت حقوقا له عليهم إلّا أنّه إنّما يطلبها منهم لما يعود عليهم به من النفع في الدنيا و الآخرة فإنّ الوفاء ملكة تحت العفّة و النصيحة له سبب لانتظام امورهم به و إجابة دعوته إجابة لداعى اللّه الجاذب إلى الخير و المصلحة، و كذلك طاعة أمره طاعة لأمر اللّه إذ هو الناطق به، و قد علمت ما تستلزمه إطاعة اللّه من الكرامة عنده. و باللّه التوفيق و العصمة.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 77