و من خطبة له عليه السّلام عند خروجه لقتال أهل البصرة
قال عبد اللّه بن العباس: دخلت على أمير المؤمنين عليه السّلام بذى قار و هو يخصف نعله فقال لى: ما قيمة هذه النعل فقلت: لا قيمة لها. فقال عليه السّلام:
و اللّه لهى أحب إلى من إمرتكم إلا أن أقيم حقا، أو أدفع باطلا، ثم خرج فحطب الناس فقال:- إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ
مُحَمَّداً ص- وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً وَ لَا يَدَّعِي نُبُوَّةً- فَسَاقَ النَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ- وَ بَلَّغَهُمْ
مَنْجَاتَهُمْ- فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ وَ اطْمَأَنَّتْ صَفَاتُهُمْ- أَمَا وَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَفِي سَاقَتِهَا- حَتَّى وَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا مَا
ضَعُفْتُ وَ لَا جَبُنْتُ- وَ إِنَّ مَسِيرِي هَذَا لِمِثْلِهَا- فَلَأَنْقُبَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ- مَا لِي وَ لِقُرَيْشٍ-
وَ اللَّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ- وَ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ- وَ إِنِّي لَصَاحِبُهُمْ بِالْأَمْسِ كَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ الْيَوْمَ
اللغة
أقول: ذوقار: موضع قريب من البصرة، و هو الموضع الّذي نصرت فيه العرب على الفرس قبل الإسلام. و يخصف نعله: أي يخرزها. و بوّأهم: أسكنهم. و المخلّة: المنزلة. و المنجاة: موضع النجاة. و القناة: الرمج، و عمود الظهر المنتظم للفقار.
و الصفاة: الحجر الأملس المنبسط. و الساقة: جمع سائق. و تولّت بحذافيرها: أي بأسرها. و البقر: الشقّ.
المعنى
و اعلم أنّه عليه السّلام قدّم لنفسه مقدّمة من الكلام أشار فيها إلى فضيلة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم في مبعثه و هو سوقه للخلق إلى الدين الحقّ ليبنى عليها فضيلة نفسه. و كانت غايته من ذلك توبيخ من خرج عليه من قريش و الاستعداد عليهم.
فقوله: إنّ اللّه بعث محمّدا. إلى قوله: صفاتهم. صدر الكلام. أشار فيه إلى فضيلة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم. و الواوان الداخلتان على حرفي النفى للحال. فإن قلت: كيف يجوز أن يقال إنّه لم يكن أحد من العرب في ذلك الوقت يقرأ كتابا و كانت اليهود يقرءون التوراة و النصارى الإنجيل. قلت: إنّ الكتاب الّذي تدعيّه اليهود و تسميّه في ذلك الوقت التوراة ليس هو الكتاب الّذي انزل على. موسى عليه السّلام فإنّهم كانوا حرّفوه و بدلوه فصار كتابا آخر بدليل قوله تعالى قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً«» و ظاهر أنّه من حيث هو مبدّل و محرّف ليس هو المنزّل على موسى عليه السّلام، و أمّا الكتاب الّذي تدّعى النصارى بقاءه في أيديهم فغير معتمد على نقلهم فيه لكونهم كفّارا بسبب القول بالتثليث، و أمّا النافون للتثليث فهم في غاية القلّة فلا يفيد قولهم: إنّ ما في أيديهم هو إنجيل عيسى. علم فإذن لا يكون المقرّ و لهم حال مبعث محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم كتابا هو من عند اللّه. سلّمناه لكن يحتمل أن يريد بالعرب جمهورهم فإنّ أكثرهم لم يكن له دين و لا كتاب و إنّما كان بعضهم يتمسّك بآثار من شريعة إسماعيل و بعضهم برسوم لهم.
و قوله: فساق الناس حتّى بوّأهم محلّتهم.
الإشارة بسوقه لهم إلى سوقه العقلىّ لأذهانهم بحسب المعجزات إلى تصديقه فيما جاء به بحسب ما جاءهم من القرآن الكريم و السنّة النبويّة و إلى معرفة سبيل اللّه، ثمّ بحسب الترغيب لبعضهم و الترهيب للبعض إلى سلوك تلك السبيل. فأصبحوا و قد تبوّؤوا محلّتهم: أى منزلتهم و مرتبتهم الّتي خلقوا لأجلها، و كانت هي مطلوب العناية الأزليّة بوجودهم في هذا الدار و هي لزوم القصد في سبيل اللّه المسمّى إسلاما و دينا و إيمانا و هو في الحقيقة المنجاة الّتي لا خوف على سالكها و لا سلامة للمنحرف عنها، و ذلك معنى قوله: و بلّغهم منجاتهم.
و قوله: و استقامت قناتهم.
و المراد بالقناة: القوّة و الغلبة و الدولة الّتي حصلت لهم مجازا و هو من باب إطلاق اسم السبب على المسبّب فإنّ الرمح أو الظهر سبب للقوّة و الشدّة، و معنى إسناد الاستقامة إليها انتظام قهرهم و دولتهم.
و قوله: و اطمأنّت صفاتهم.
استعارة للفظ الصفاة لحالهم الّتي كانوا عليها، و وجه المشابهة أنّهم كانوا قبل الإسلام في مواطنهم و على أحوالهم متزلزلين لا يقرّ بعضهم بعضا في موطن و لا على حال بل كانوا أبدا في الغارة و النهب و الجلاء. فكانوا كالواقف على حجر أملس متزلزل مضطرب. فاطمأنّت أحوالهم و سكنوا في مواطنهم. كلّ ذلك بسبب مقدم محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم.
و قوله: أمّا و اللّه إن كنت لفى ساقتها.
إلى قوله: و لا جبنت. تقرير لفضيلته. فأثبت لنفسه أنّه كان من ساقتها إلى أن تولّت بأسرها من غير عجز اعتراه و لا جبن، و الضمير في ساقتها لكتائب الحرب و إن لم يجر لها ذكر صريح بل ما يحصل منه معنى الذكر و هو الناس فكأنّه قال: فساق الناس و هم يومئذ كتائب عليه فكنت في ساقتها حتّى تولّت تلك الكتائب بأسرها لم يبق منها من يغالبه، و قد علمت أنّ السوق قد يكون سوق طرد و هزيمة، و الأوّل هو غايته عليه السّلام من السوق الثاني إذ لم يكن مقصوده من حروبه إلّا السوق إلى الدين، و لمّا لم يمكن حصول الهداية للخلق إلّا بوجود النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و إيضاح سبيل الحقّ كان ذبّه و طرده الكتائب حتّى تولّت بحذافيرها حماية عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و عن حوزة الدين أمرا واجبا لا لذاته لكن لغرض تمام الهدى الّذي هو غاية وجود النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم.
و قوله: ما عجزت [ما ضعفت خ] و لا جبنت.
تمام لإثبات الفضيلة المذكورة له، و تقرير لما علم من شجاعته، و تأكيد لعدم العجز و الجبن الّذي هو طرف التفريط من فضيلة الشجاعة.
و قوله: و إنّ مسيرى هذا لمثلها.
. أى لمثل تلك الحال الّتي كنت عليها معهم زمان كفرهم من سوق كتائبهم و طردها من غير جبن و لا ضعف. و هو في معنى التهديد الّذي عساه أن يبلغ خصومه و تقوى به نفوس أوليائه، و كذلك قوله: و لأبقرنّ الباطل حتّى أخرج الحقّ من خاصرته. أيضا في معنى التهديد، و تنبيه على ما عليه خصومه من الباطل. و استعار هنا لفظ الخاصرة للباطل و البقر لتفريق الباطل و تمييز الحقّ منه تشبيها له في استتار الحقّ فيه و عدم تمييزه منه بحيوان ابتلع جوهرا ثمينا أعزّ منه قيمة و أتمّ فايدة فاحتيج إلى شقّ بطنه في استخلاص ما ابتلع.
و قوله: ما لى و لقريش.
استفهام على سبيل الإنكار لما بينه و بينهم ممّا يوجب الاختلاف و جحد فضيلته، و حسم لاعذار هم في حربه.
و قوله: و اللّه لقد قاتلتهم كافرين.
إظهار للمنّة عليهم بسوقه لهم إلى الدين أوّلا و تعيير لهم بما كانوا عليه من الكفر ليعترفوا بفضيلته و نعمة اللّه عليهم به و ليخجلوا من مقابلته بالباطل و هو إظهار الإنكار عليه إذ كانوا أولى باتيان المنكر منه و هو أولى بردّهم عنه آخرا كما كان أوّلا. و كذلك قوله: و قاتلتهم مفتونين. على أحد الروايتين، و أمّا على رواية و لاقاتلنّهم مفتونين فهو تهديد بأن يوقع بهم القتال على فتنتهم و ضلالتهم على الدين. و كافرين و مفتونين نصبا على الحال، و في ذكر هذين الحالين تنبيه على علّة قتاله لهم في الحالتين و هو طلبه لاستقامتهم على الدين و رجوعهم إلى الحقّ عن الضلال و إغراء السامعين بهم.
و قوله: و إنّي لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم.
إشارة إلى أنّه لم تتغيّر حالته الّتي بها قاتلهم كافرين، و فائدته تذكير الخصم الان بابتلاء الكفّار به في ذلك الوقت ليتقهقروا عن محاربته إذ في تذكّر وقايعه في بدو الإسلام و شدّة بأسه ما تطير منه القلوب و تقشعرّ منه الجلود. و قد نقلت في تمام هذه الخطبة في بعض النسخ: لتضجّ قريش ضجيجها إن تكن فينا النبوّة و الخلافة، و اللّه ما أتينا إليهم إلّا أنّا اجترأنا عليهم.
و ذلك إشارة إلى السبب الأصلىّ لخروج طلحة و الزبير و غيرهما من قريش عليه.
و هو الحسد و المنافسة إن تكن الخلافة و النبوّة في بني هاشم دونهم. و الضجيج: الصراح القوّى. و هو كناية عن أشدّ مخاصماتهم و منافراتهم معه على هذا الأمر.
و قوله: و اللّه ما آتينا. إلى آخره.
تأكيد لما نسبه إليهم من سبب الخروج بالقسم البارّ على أنّه لم يكن الباعث لهم على قتاله أو على حسده و البغى عليه أمرا من قبله سوى الاجتراء عليهم أى الشجاعة و الإقدام عليهم في منعهم عمّا يريدون من قول أو فعل لا تسوّغه الشريعة فإنّه لمّا لم يكن ذلك في الحقيقة إساءة في حقّهم يستحقّ بها المكافاة منهم بل إحسان و ردع عن سلوك طرق الضلال تعيّن أنّ السبب في الخروج عليه و نكث بيعته هو الحسد و المنافسة و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 72